مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ

مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ

«مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنَّةُ اللهِ عَلَى النَّاسِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ))

فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164 ].

هَذِهِ الْمِنَّةُ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَكْبَرُ الْمِنَنِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُهَا، وَهِيَ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ الَّذِي جَمَعَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ الْمَحَاسِنِ الْمَوْجُودَةِ فِي الرُّسُلِ.

وَمِنْ كَمَالِهِ الْعَظِيمِ: هَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ نَتِيجَةَ رِسَالَتِهِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا، وَبِهَا زَالَ عَنْهُمْ كُلُّ شَرٍّ وَضَرَرٍ، فَبَعَثَهُ اللهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْفَسِهِمْ وَقَبِيلَتِهِمْ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ أَشْرَفَ الْأَنْسَابِ، وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَكَمَالَهُ الَّذِي فَاقَ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، نَاصِحًا لَهُمْ مُشْفِقًا، حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ.

{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}؛ فَيُعَلِّمُهُمْ أَلْفَاظَهَا، وَيَشْرَحُ لَهُمْ مَعَانِيَهَا، {وَيُزَكِّيهِمْأَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي، وَالرَّذَائِلِ، وَسَائِرِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ، وَيُزَكِّيهِمْ -أَيْضًا- أَيْ: يُنَمِّيهِمْ، فَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ؛ فَإِنَّ التَّزْكِيَةَ تَتَضَمَّنُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: التَّطْهِيرَ مِنَ الْمَسَاوِئِ، وَالتَّنْمِيَةَ بِالْمَحَاسِنِ.

{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: وَهُوَ الْقُرْآنُ، {وَالْحِكْمَةَ}: وَهِيَ السُّنَّةُ؛ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِهِمَا أَكْمَلَ اللهُ لِلرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَبِهِمَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَبِهِمَا حَصَلَتْ جَمِيعُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَزَوَالِ الشُّرُورِ، وَبِهِمَا حَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِجَمِيعِ الْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ، وَبِهِمَا الْهِدَايَةُ وَالصَّلَاحُ لِلْبَشَرِ.

فَمُحَمَّدٌ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، الْمُعَلِّمُ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنَابِيعُ الْعُلُومِ كُلُّهَا تَتَفَجَّرُ مِنْ مَعِينِهِمَا، فَعَلَّمَ أُمَّتَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَأَوْقَفَهُمْ عَلَى حِكَمِ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارِهَا، فَكَانَتْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا -أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَتَقْرِيرَاتُهُ وَهَدْيُهُ، وَأَخْلَاقُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَسِيرَتُهُ الْكَامِلَةُ الْمُتَنَوِّعَةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ- تَعْلِيمًا مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَشَرْحًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ أَيْ: وَالْحِكْمَةِ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ تَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ، وَمَا بِهِ تُدْرَكُ وَتُنَالُ، وَالطُّرُقِ الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا عَقْلًا وَنَقْلًا وَتَفْكِيرًا وَتَدَبُّرًا، وَاسْتِخْرَاجًا لِلْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْ مَظَانِّهَا وَيَنَابِيعِهَا، وَبَيَّنَ لَهُمْ فَوَائِدَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَثَمَرَاتِهِ، وَشَرَحَ لَهُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَخْلَاقَهُ وَأَعْمَالَهُ، وَمَا لِسَالِكِهِ عِنْدَ اللهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَمَا عَلَى الْمُنْحَرِفِ عَنْهُ مِنَ الْعِقَابِ وَالضَّرَرِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.

فَكَانَ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا التَّعْلِيمِ الصَّادِرِ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُبَاشَرَةً، وَتَبْلِيغًا مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَمِنَ الْهُدَاةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَمِنْ أَكَابِرِ الصِّدِّيقِينَ، وَحَصَلَ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيمِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ عَلَى حَسَبِ طَبَقَاتِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فَخَرَجُوا بِهَذَا التَّعْلِيمِ مِنْ جَمِيعِ الضَّلَالَاتِ، وَانْجَالَتْ عَنْهُمُ الشُّرُورُ الْمُتَنَوِّعَةُ وَالْجَهَالَاتُ، وَتَمَّ لَهُمُ النُّورُ الْكَامِلُ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُمُ الظُّلُمَاتُ؛ فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَلَا يُحْصِي الْمُؤْمِنُونَ كُنْهَ شُكْرِهَا!

 ((الرَّسُولُ ﷺ أَشْرَفُ النَّاسِ خِصَالًا وَأَنْبَلُهُمْ أَخْلَاقًا))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عَالِيًا مُسْتَعْلِيًا بِخُلُقِهِ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، عَلَا بِخُلُقِهِ الْعَظِيمِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَفَاقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْعَظِيمُ -كَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- هَذَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ؛ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَثُّ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، فَكَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ امْتِثَالًا لَهَا، وَسَبْقًا إِلَيْهَا وَإِلَى تَكْمِيلِهَا، فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا وَأَعْلَاهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا، فَكَانَ سَهْلًا لَيِّنًا قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَمْرًا؛ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ؛ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ.

وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةٍ وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ.

لَقَدْ كَانَ ﷺ أَهْدَى النَّاسِ وَأَكْمَلَهُمْ، وَأَنْفَعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَاعِي النَّاسَ مُرَاعَاةً تَامَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْجِيهِ وَالْإِرْشَادِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِرْمَانِ وَالْعَطَاءِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

يَأْتِي هَذَا الشَّرْعُ الْخَاتَمُ بِهَذَا الْبِنَاءِ الْمُتَكَامِلِ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي؛ بِنَاءٍ أَخْلَاقِيٍّ لا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَيْهِ مُسْتَدْرِكٌ قَطُّ، وَبِنَاءٍ لِتَنْظِيمِ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَلَا أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ، وَبِنَاءٍ مُحْكَمٍ فِي سِيَاسَةِ الْمَالِ وَإِدَارَتِهِ بِنَفْيِ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَاحِقًا لَهُ، مُذْهِبًا لَهُ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِمَا فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالنَّمَاءُ.

ثُمَّ هَذَا الْبِنَاءُ فِي الْإِدَارَةِ.. فِي السِّيَاسَةِ.. فِي تَصْرِيفِ الْأُمُورِ، ثُمَّ هَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي الْحُرُوبِ، وَفِي إِدَارَتِهَا، وَفِي الْأَزْمَاتِ وَالتَّعَامُلِ مَعَهَا؛ كُلُّ ذَلِكَ يَأْتِي بِهِ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يُخَالِطْ عَالِمًا، وَلَمْ يَلْقَ حَبْرًا وَلَا كَاهِنًا، وَلَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمٍ، وَكَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، ثُمَّ يَرْتَابُ مُرْتَابٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا، بَلْ هُوَ مُعَلَّمٌ مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُوحًى إِلَيْهِ بِهَذَا الْوَحْيِ الشَّرِيفِ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ شَرَفِ خِصَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُبْلِ أَخْلَاقِهِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْبَشَرِيَّةَ كُلَّهَا مَا عَرَفَتْ أَنْبَلَ وَلَا أَشْرَفَ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، الَّذِي جَاءَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ ضِيقِ الْجَهْلِ وَالْعَنَتِ وَالْهَمَجِيَّةِ إِلَى سَعَةِ الْعِلْمِ وَالْيُسْرِ وَالتَّحَضُّرِ.

قَالَ جَعْفَرٌ مُخَاطِبًا النَّجَاشِيَّ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ.

فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ صِدْقَهُ وَنَسَبَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ؛ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ.

وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ.

وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قال: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.

النَّبِيُّ ﷺ تَبْكِي فِيهِ الْبَاكِيَةُ الْقِيَمَ.. الْمُثُلَ.. الْأَخْلَاقَ.. تَبْكِي فِيهِ الْبَاكِيَةُ قِيَمًا وَمُثُلًا وَأَخْلَاقًا، أَخْلَاقُهُ حِمًى مَصُونٌ لَا يَسْتَطِيعُ لِسَانٌ أَنْ يَلَغَ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَبَدًا مَهْمَا بَلَغَ بِهِ الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ أَنْ يَقُولَ فِي النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا يَمَسُّ الْأَخْلَاقَ بِحَالٍ.

هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، هَذَا مُهَيَّأٌ مُنْذُ وِلَادَتِهِ ﷺ، هَذَا مُهَيَّأٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلَابِ يَنْحَدِرُ مِنْ صُلْبٍ طَاهِرٍ إِلَى رَحِمٍ مِنَ الرِّجْسِ مُبَرَّأٌ، حَتَّى ظَهَرَ لِلْوُجُودِ نَبِيًّا وَرَسُولًا ﷺ، نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ بُعِثَ فِي أَشْرَفِ بَيْتٍ فِي قُرَيْشٍ وَأَعَزِّهِ.

وَهُوَ ﷺ صَاحِبُ الْخُلُقِ السَّجِيحِ، هُوَ ﷺ الرِّفْقُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ يَحْسُنُ فِيهِ الرِّفْقُ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ لَا يَحْسُنُ فِيهِ إِلَّا الْإِقْدَامُ، هُوَ ﷺ يَلْبَسُ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا، وَيَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَقَالِهِ، وَهُوَ ﷺ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

النَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ الْهَمَّ شَرِيفًا، يَبْسُطُ الْكَفَّ نَظِيفًا، يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الطَّاهِرَ هُوَ هَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَبَادِئِ الْعَظِيمَةِ الطَّاهِرَةِ.

لَا غَرْوَ؛ لَقَدْ أَدَّبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَرَبَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَكْمَلَ تَرْبِيَتَهُ، وَأَعْطَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ.

الرَّسُولُ ﷺ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.. النَّبِيُّ ﷺ يُحْصَى عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ تُصَادَمُ الدُّنْيَا كُلُّ الدُّنْيَا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْ ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ: سِيرَتُهُ، وَبَاطِنُ أَحْوَالِهِ، وَدَقَائِقُ أَفْعَالِهِ، وَخَفِيُّ أَقْوَالِهِ، تُصَادَمُ الدُّنْيَا بِهَذَا كُلِّهِ مُتَحَدًّى بِمَا جَاءَ بِهِ، وَفِي ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ مُتَحَدًّى بِهِ: سِيرَتُهُ وَحَرَكَةُ حَيَاتِهِ، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى نَقْصٍ يَعْتَوِرُ الصُّورَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الظِّلَالِ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ؟!!

حَاشَا وَكَلَّا.

لَقَدْ بَلَغَ النَّبِيُّ ﷺ فِي شَرَفِ النَّفْسِ وَنُبْلِ الْخُلُقِ وَالطَّبْعِ الْغَايَةَ وَالْمُنْتَهَى؛ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ، وَخَائِنَةُ الْأَعْيُنِ: مَا يُسَارَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ يَنْظُرَ نَظْرَةً بِرِيبَةٍ.

قَالَ ﷺ: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ))؛ أَيْ: يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُهُ، فَإِذَا كَفَّ لِسَانَهُ وَأَوْمَأ بِعَيْنِهِ فَقَدْ خَانَ.

 ((رَسُولُ اللهِ ﷺ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَصْلٍ لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ))، كَمَا قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

((وَلَكِنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ إِلَّا كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ)).

تَقُولُ لَهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَا وَاللهِ! لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ شَرَفِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُبْلِهِ: صِدْقُهُ وَأَمَانَتُهُ))

إِنَّ مِنْ أَبْرَزِ مَعَالِمِ شَرَفِ نَفْسِ نَبِيِّنَا ﷺ وَنُبْلِهِ: صِدْقَهُ أَمَانَتَهُ؛ فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ صَادِقًا أَمِينًا بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهِ قَبْلَ أَوْلِيَائِهِ.. أَعْدَاءُ النَّبِيِّ ﷺ هُمْ أَوَائِلُ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي كَلَامِهِ؛ وَإِنْ جَحَدُوا وَكَذَّبُوا مَنْهَجَهُ.

وَهَذَا إِمَامُهُمُ الْأَكْبَرُ وَرَئِيسُهُمُ الْأَعْظَمُ أَبُو جَهْلٍ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ؛ وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ! {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

أَنْتَ عِنْدَنَا صَادِقٌ؛ وَلَكِنَّنَا نَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!!  

قَدِيمًا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِزَالَتُهَا    =    إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ

وَعَدَاوَةُ هَؤُلَاءِ كَانَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ عَنْ حَسَدٍ، فَلَا تُرْجَى إِزَالَتُهَا بِحَالٍ أَبَدًا؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لِلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ -وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ-: يَا خَالُ -يَقُولُ لِأَبِي جَهْلٍ-؛ مُحَمَّدٌ أَكُنْتُمْ تَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟!! فَقَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذَا رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِمَا جَاءَ بِهِ يَعْنِي: مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْحَقِّ، وَالْخَيْرِ، وَالنُّورِ، وَالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ-؛ كُنَّا نَدْعُوهُ -نُلَقِّبُهُ- بِالصِّادِقِ الْأَمِينِ.

((وَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ!!)) .

لَا يَسْتَقِيمُ!!

إِذَنْ؛ هُوَ عِنْدَكَ صَادِقٌ، هُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ، أَنْتَ عِنْدِي صَادِقٌ؛ وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَبِّهِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَاتٍ فِي مَوَاضِعَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَقِفُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ بَدْءِ السَّعْيِ فِي شَوْطِهِ الْأَوَّلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ، دَاعِيًا، مُتَأَمِّلًا، مُسْتَرْجِعًا لِلْآمَالِ الْقَدِيمَةِ الْبَعِيدَةِ لِلْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الشَّامِخِ الْعَظِيمِ الَّذِي وُلِدَ جَبَلًا، وَوُلِدَ رَمْزًا، وَلَمْ يُولَدْ قِزْمًا، لَمْ يُولَدْ قِزْمًا وَلَا قَزْمًا، وَلَمْ يُولَدْ ضَئِيلًا وَلَا صَغِيرًا، يَكْبُرُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا وُلِدَ شَامِخًا.

هُوَ يَقِفُ عَلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ: ((وَاصَبَاحَاهُ!)).

فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا؛ مَاذَا هُنَالِكَ؟!!

يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ؛ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!)). أَمْ تُرِيدُونَ بُرْهَانًا؟!! أَمْ تُرِيدُونَ دَلَائِلَ وَيَقِينًا؟!!

أَنْتَ أَنْتَ!! هُوَ الْيَقِينُ، وَكَلَامُكَ هُوَ الصِّدْقُ وَلَا مَزِيدَ؛ وَلِذَلِكَ رَدُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا)).

لَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ نُصَدِّقُكَ! وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّكَ عِنْدَنَا صَادِقٌ! لَا؛ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِدَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ، وَبِبَيِّنَةٍ قَاهِرَةٍ دَاحِضَةٍ فِي آنٍ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْطِقَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ؛ فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!!)).

أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ؛ بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ.

قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.. بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

فَمَاذَا قَالُوا؟!!

أُبْلِسُوا، وَأَمَّا النَّاطِقُ الرَّسْمِيُّ أَشْقَاهَا؛ يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِكَيْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.. عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ النَّاطِقَ الرَّسْمِيَّ بِاسْمِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ يَقُولُ: ((تَبًّا لَكَ -يَعْنِي: هَلَاكًا لَكَ مِنْ بَعْدِ هَلَاكٍ-، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!!)).

وَيَنْزِلُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؛ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ، الْأُولَى دُعَاءٌ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ عَنْهُ؛ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ.

وَأَمَّا الْأَمَانَةُ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).

وَقَالَ ﷺ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» .

اؤْتُمِنَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا دَامَ قَدِ الْتَفَتَ، «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»  -لَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ!!- أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

الْأَمَانَةُ وَصْفُ الْمُرْسَلِينَ، هِيَ أَبْرَزُ أَخْلَاقِ الرُّسُلِ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ يُخْبِرُنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [ الشعراء: 107].

وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ فِي قَوْمِهِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ، كَانَ النَّاسُ يَخْتَارُونَهُ لِحِفْظِ وَدَائِعِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَمَّا هَاجَرَ وَكَّلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى أَصْحَابِهَا.

يَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِهِ وَإِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْهِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَيُكَذِّبُونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَيَأْتَمِنُونَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَمِينُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمِينُ الْوَحْيِ وَصَفَهُ اللهُ بِذَلِكَ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٢-194].

 ((مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: تَوَاضُعُهُ))

إِنَّ مِنَ الْمَعَالِمِ الظَّاهِرَةِ لِنُبْلِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ: تَوَاضُعَهُ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا رَجُلٌ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: ((نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ)).

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ؛ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)).

((يَفْلِي ثَوْبَهُ))؛ أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ قَذًى.

((قِيلَ لَهَا)) وَالْقَائِلُ لَهَا لَمْ يُعَيَّنْ: ((مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟)) قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ))، وَمَهَّدَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي: ((يَفْلِي ثَوْبَهُ)) يَعْنِي: يُفَتِّشُهُ؛ لِيَلْتَقِطَ مَا فِيهِ مِمَّا عَلَقَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ شَوْكٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ لِيُرَقِّعَ مَا فِيهِ مِنْ نَحْوِ خِرْقٍ، ((وَيَحْلُبُ شَاتَهُ)) (بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا) (وَيَحْلِبُ شَاتَهُ).

((يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((يَعْمَلُ عَمَلَ الْبَيْتِ))، وَأَكْثَرُ مَا يَعْمَلُ: الْخِيَاطَةُ، يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ خِدْمَةُ نَفْسِهِ، وَخِدْمَةُ أَهْلِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَدَمِ تَرَفُّعِهِ وَتَكَبُّرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ.

وَمِنْ نُبْلِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَوَاضُعِهِ: مُشَارَكَتُهُ ﷺ أَصْحَابَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ((مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: التَّوَاضُعُ، وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ، وَامْتِهَانُ النَّفْسِ؛ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يُخْلِدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ عَمِلَ مَعَهُمْ ﷺ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِيَدِهِ، حَفَرَ مَعَهُمْ، وَحَمَلَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ مَعَهُمْ، وَشَارَكَهُمْ؛ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ فِي سَفْرَةٍ، فَاقْتَسَمُوا الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ.

وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكْفُوهُ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ ﷺ شَارَكَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، هَذَا مِنْ سُنَّتِهِ، وَأَمَّا التَّرَفُّعُ وَالتَّكَبُّرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَلَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: جُودُهُ وَكَرَمُهُ))

مِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: جُودُهُ، وَبَذْلُهُ، وَعَطَاؤُهُ، وَكَرَمُهُ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

وَفِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.

تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

قِيلَ: الشَّمْلَةُ.

وَقِيلَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا.

فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْسُنِيهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ»، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.

ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ أَيْ: أَصْحَابُ الرَّجُلِ-؛ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَائِمِينَ.

وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ ﷺ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا.. قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا؛ أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-!!

وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا ﷺ عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.. فَكَانَتْ!

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، كَمَا فِي «الصَّحِيحِ»: ((أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ.

فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.

فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَهُ.

إِذَنْ؛ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَكْرَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْمَلَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ﷺ.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، يَقُولُ النَّبِيُّ : «يَمِينُهُ مَلْأَى، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» .

نَعَمْ! لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ هُوَ الْجَوَادُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».

فَاللهُ هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.

 ((مِنْ دَلَائِلِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: شَجَاعَتُهُ))

لَقَدْ كَانَ خُلُقُ الشَّجَاعَةِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ لِنَبِيِّنَا ﷺ؛ فَشَجَاعَتُهُ دُونَهَا شَجَاعَةُ اللُّيُوثِ وَالسِّبَاعِ، كَانَ ﷺ إِذَا كَانَ فِي مَعْرَكَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ أَوْ أَنْ يُشَقَّ لَهُ غُبَارٌ؛ بَلْ كَانُوا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَاتَّسَعَتِ الْحَدَقُ؛ يَتَّقُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، ((فَلَا يَكُونُ أَحَدُنَا أَقْرَبَ مِنَ الْعَدُوِّ مِنْهُ)).

وَهَذَا لِشَجَاعَتِهِ ﷺ، وَإِقْدَامِهِ، وَلِبَذْلِ نَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ شَجَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ :مَا كَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكَدْ يَقْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَّةَ -يَعْنِي: بَعْدَ الْفَتْحِ- حَتَّى عَلِمَ بِاسْتِعْدَادِ (ثَقِيفٍ) وَ(هَوَازِنَ) لِمُحَارَبَتِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُوَافِيًا حُنَيْنًا -وَهُوَ وَادٍ حَدُورٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ-، وَأَمَّا هَوَازِنُ؛ فَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالرَّمْيِ، وَلَا يُخْطِئُ لَهُمْ سَهْمٌ، وَرَئِيسُهُمْ هُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ الَّذِي كَمَنَ بِالرِّجَالِ فِي حُنَيْنٍ؛ لِيَبْغَتَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ فَعَلَهَا فِي ظُلْمَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ انْبِلَاجِ النُّورِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مُخْتَصَرِ سِيرَتِهِ)): ((فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ!!

وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَلَمْ يَفِرَّ، وَمَعَهُ الصَّحَابَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَابْنَاهُ -الْفَضْلُ، وَقُثَمٌ-، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، وَآخَرُونَ.

وَهُوَ ﷺ يَوْمَئِذٍ رَاكِبٌ بَغْلَتَهُ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجِذَامِيُّ، وَهُوَ يُرْكِضُهَا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَتِهَا يَكُفُّهَا عَنِ التَّقَدُّمِ، وَهُوَ يُنَوِّهُ وَيَقُولُ:

((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ = أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ))

ثُمَّ أَمَرَ الْعَبَّاسَ -وَكَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ- أَنْ يُنَادِيَ: ((يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السَّمُرَةِ..))، فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ فَارُّونَ؛ كَرُّوا وَأَجَابُوهُ: ((لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ!)).

وَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَثْنِيَ بَعِيرَهُ.. لِكَثْرَةِ الْمُنْهَزِمِينَ؛ نَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَأَخَذَ دِرْعَهُ فَلَبِسَهَا، وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ، وَرَجَعَ رَاجِلًا -أَيْ: عَلَى رِجْلَيْهِ- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ حَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ نَحْوُ الْمِئَةِ؛ اسْتَقْبَلُوا هَوَازِنَ، فَاجْتَلَدُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَأَلْقَى اللهُ فِي قُلُوبِ هَوَازِنَ الرُّعْبَ حِينَ رَجَعُوا، فَلَمْ يَمْلِكُوا أَنْفُسَهُمْ، وَرَمَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا نَالَهُ مِنْهَا!

((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ)) أَيْ: أَنَا النَّبِيُّ حَقًّا، لَا كَذِبَ فِيمَا أَقُولُهُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِي بِالنَّصْرِ، فَلَا أَفِرُّ وَلَا أَنْهَزِمُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ شَجَاعَتِهِ ﷺ؛ حَيْثُ فَرَّ مَنْ فَرَّ مِنْ صَحْبِهِ، وَبَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَيْنَ أَعْدَائِهِ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: مُرُوءَتُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَوَفَاؤُهُ لَهُمْ))

مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: مُرُوءَتُهُ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ وَخَدَمِهِ، وَوَفَاؤُهُ لِأَصْحَابِهِ (ض3)؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ؛ إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.

((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ)) لِفَهْمِ أَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، ((إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)) أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ؛ حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.

وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ ((أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ))، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

((وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً))؛ أَيْ: مَعَ وُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِمَا، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمَا غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا، فَالتَّنَزُّهُ عَنْ ضَرْبِ الْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ -حَيْثُ أَمْكَنَ- أَفْضَلُ؛ لَاسِيَّمَا لِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَمَالِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ أَنَسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا هَكَذَا؟!! وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا هَكَذَا؟!!

فَالْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِنِسَائِهِ وَخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.

لَقَدْ حَبَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّنَا ﷺ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ، فَكَانَ ﷺ أَوْفَى النَّاسِ، وَأَعْرَفَ النَّاسِ بِالْفَضْلِ وَالْجَمِيلِ؛ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؛ قَالَ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ)) أَيْ: فَقَدْ رَكِبَ الْمَخَاطِرَ، أَوْ دَخَلَ أَمْرًا عَسِيرًا صَعْبًا؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: فَأَغْلَظْتُ لَهُ الْقَوْلَ، وَأَخَذْتُهُ بِشَدِيدِهِ-، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا-)).

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: ((أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟))

فَقَالُوا: لَا.

فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ يَعْنِي: مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ عَلَى مَا وَجَدَ الصِّدِّيقُ مِنَ الْفَارُوقِ-.

فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ؛ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ-)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا قَالَ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ وَفَعَلَ-: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟!! مَرَّتَيْنِ)).

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ﷺ: ((فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَقَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا؛ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ))، وَفِي لَفْظٍ: ((وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ، وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ؛ قَالَ  الْأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا؟

وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصَّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: ((مَاذَا قُلْتُمْ؟))

قَالُوا: ((لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَعَاذَ اللهِ! الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).

وَلَقَدِ امْتَدَّ وَفَاؤُهُ ﷺ لِيَنَالَ أَعْدَاءَهُ؛ فَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ -أَيْ: لَا أَنْقُضُهُ-، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ -أَيِ: الرُّسُلَ-، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي بِنَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ)).

قَالَ: ((فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلُ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا.

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ.

فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلَ مَعَهُ.

فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: ((انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَمْ يُؤْثَرْ أَبَدًا -وَلَا يَكُونُ.. وَحَاشَاهُ!- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ غَدْرٌ وَلَا خِيَانَةٌ، لَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَلَا بَعْدَهَا، شَهِدَ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.

وَقَدْ عَاهَدَ النَّبِيُّ ﷺ يَهُودَ الْمَدِينَةِ حِينَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَوَفَّى لَهُمْ، وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا، وَعَاهَدَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَوَفَّى لَهُمْ؛ حَتَّى كَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا.

النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الوَفَاءَ..

فَوَفَاؤُهُ وَفَاؤُهُ ﷺ.

وَإِذَا صُحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمَا   فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ  =  فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ ﷺ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ شَرَفِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُبْلِهِ: عَفْوُهُ عَنِ الْمُسِيءِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ شَرَفِ خِصَالِ النَّبِيِّ وَنُبْلِ أَخْلَاقِهِ: حِلْمَهُ، وَعَفْوَهُ وَصَفْحَهُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَعَدَمَ الِانْتِقَامِ لِلنَّفْسِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَجَسَّدَ فِيهَا شَرَفُ خُلُقِهِ، وَنُبْلُ طِبَاعِهِ ﷺ، وَعَفْوُهُ وَصَفْحُهُ: مَا رَوَاهُ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ-، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.

قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).

فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.

ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».

فِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ وَعِزِّهَا، وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.

((مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: مُسَاعَدَتُهُ لِلْمُحْتَاجِينَ))

مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ الْعَظِيمَةِ: قَضَاؤُهُ حَوَائِجَ الضُّعَفَاءِ، وَمُسَاعَدَتُهُمْ، وَجَبْرُ قُلُوبِهِمْ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ.

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ.. بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ لَهُ: ((إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً)).

فَقَالَ: ((اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.. بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً)).

فَقَالَ: ((يَا أُمَّ فُلَانٍ! انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ)).

فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنِّسَاءِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَوْ بِكِبَارِ السِّنِّ، أَوْ بِضِعَافِ الْعُقُولِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الضَّعْفُ الْعَقْلِيُّ نَتيِجَةً لِلشَّيْخُوخَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ نَقْصٍ فِي الْخِلْقَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((اجْلِسِي فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ))؛ فَهَذَا لَا يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شَفَقَةِ قَلْبِهِ ﷺ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَجْنَبِيُّ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، بَلْ إِذَا عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ يَجْلِسُ مَعَهَا بِمَوْضِعٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْمَارَّةِ؛ لِذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ((انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ))، فَيَجْلِسُ مَعَهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَارَّةُ يَمُرُّونَ وَإِنْ كَانُوا بِغَيْرِ مَقْرَبَةٍ؛ وَلَكِنْ هَذَا أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ، فَيُعَلِّمُنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا خَرَجَ فِي غَزْوَةِ الْأَعَاجِيبِ، ثُمَّ قَفَلَ مِنَ الْغَزْوَةِ رَاجِعًا ﷺ؛ كَانَ مَعَ جَابِرٍ -وَالنَّبِيُّ ﷺ مِنَ الشَّأْنِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظُرَ فِيهِ-، يَقُولُ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((لَمَّا غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْغَزَاةَ -يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ.. غَزْوَةُ الْأَعَاجِيبِ-، قَالَ: ثُمَّ عُدْنَا مِنَ الْغَزْوَةِ؛ كُنْتُ عَلَى جَمَلٍ قَدْ أَعْيَا، لَا يَكَادُ يَسِيرُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ جَابِرٌ: ((فَهَمَمْتُ أَنْ أُسَيِّبَهُ)) يَعْنِي: أَنْ أَجْعَلَهُ سَائِبًا بِغَيْرِ زِمَامٍ وَلَا خِطَامٍ وَلَا رَقِيبٍ وَلَا حَسِيبٍ يَذْهَبُ فِي الصَّحَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَعْيَا بِهِ، فَيَشُقُّ عَلَى جَابِرٍ أَنْ يَكُونَ عَنِ الرَّكْبِ مُتَخَلِّفًا، وَعَلَى بَعِيرِهِ قَائِمًا.

قَالَ: ((فَهَمَمْتُ أَنْ أُسَيِّبَهُ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((عَلَى نَاضِحٍ لَنَا)) وَالنَّاضِحُ: جَمَلٌ يُسْتَقَى عَلَيْهِ مِنَ الْآبَارِ الْمَاءُ.

فَكَانَ جَابِرٌ قَدْ أَخَذَ النَّاضِحَ عِنْدَمَا خَرَجَ فِي الْغَزْوَةِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ، فَلَمَّا عَادُوا وَمَضَى الْقَوْمُ مَعَ نَبِيِّهِمْ ﷺ؛ أَعْيَا جَمَلُ جَابِرٍ، فَأَصَابَهُ الْإِعْيَاءُ وَالْهُزَالُ وَالتَّعَبُ، لَا يَكَادُ يَسِيرُ، ((حَتَّى هَمَمْتُ بِأَنْ أُسَيِّبَهُ))، قَالَ: ((فَتَلَاحَقَ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

وَكَانَ ﷺ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَفِي كُلِّ غَزْوَةٍ.. بَلْ فِي كُلِّ مَسِيرٍ يَسِيرُ تَارَةً وَرَاءَهُمْ، وَتَارَةً بَيْنَهُمْ، وَتَارَةً أَمَامَهُمْ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهُمْ، وَيَحْنُو عَلَى الضَّعِيفِ وَالْكَسِيرِ.

قَالَ: ((فَتَلَاحَقَ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ )) يَعْنِي: وَهُوَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّكْبِ وَمَعَهُ جَمَلُهُ لَا يَكَادُ يَسِيرُ.

فَقَالَ: ((مَا لَكَ يَا جَابِرُ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا جَمَلِي قَدْ أَصَابَهُ التَّعَبُ، وَلَحِقَهُ الْإِعْيَاءُ، فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ)).

نَزَلَ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ ﷺ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: ((الْتَمِسْ لِي بَعْضَ الْمَاءِ)).

قَالَ: ((فَأَتَيْتُهُ)).

فَأَخَذَ الْمَاءَ، فَنَفَثَ فِيهِ، ثُمَّ دَعَا، فَنَضَحَ الْجَمَلَ مِنْ أَمَامَ وَمِنْ خَلْفٍ، ثُمَّ قَالَ: ((ارْكَبْ بِسْمِ اللهِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: ((الْتَمِسْ لِي عَصًا)).

قَالَ: ((فَأَتَيْتُهُ بِعَصًا))، قَالَ: ((فَأَخَذَهَا، ثُمَّ نَخَسَ الْجَمَلَ نَخْسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ((ارْكَبْ عَلَى اسْمِ اللهِ)).

قَالَ: ((فَرَكِبْتُ، فَإِذَا بِهِ يَكَادُ يَطِيرُ، وَكَانَ قَبْلُ لَا يَكَادُ يَسِيرُ))، قَالَ: ((حَتَّى إِنِّي لَأَكُفُّهُ عَنْ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ أَدَبًا))؛ حَتَّى لَا يَكُونَ مُتَقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسِيرِ.

قَالَ: ((وَأَنَا أَكُفُّهُ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَدِّثُنِي، فَقَالَ: ((يَا جَابِرُ!)) فِي هَدْأَةِ اللَّيْلِ، وَفِي سُكُونِ الظُّلْمَةِ بِتَكَاثُفِ طَبَقَاتِهَا، وَالرَّكْبُ يَخُبُّ شَيْئًا وَيَضَعُ، وَالرَّكْبُ يَسِيرُ فِي الضُّحَى وَقَدِ ارْتَفَعَ، وَفِي وَقْدَةِ الْحَرِّ يُغِذُّونَ الْمَسِيرُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَعْدَمَا انْطَلَقَ الْجَمَلُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِجَابِرٍ مُؤْنِسًا مُتَحَدِّثًا: ((يَا جَابِرُ!)).

قَالَ: ((لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((مَا فَعَلَ جَمَلُكَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((بِعْنِيهِ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((لَا)).

قَالَ: ((بِعْنِيهِ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((لَا)).

قَالَ: ((بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ)).

قَالَ: ((قَدْ بِعْتُكَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَلَكِنْ أَشْتَرِطُ حُمْلَانَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ)).

قَالَ: ((لَكَ فَقَارُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ يَا جَابِرُ)).

فَبَاعَ وَاشْتَرَطَ؛ اشْتَرَطَ جَابِرٌ مَعَ بَيْعِ الْجَمَلِ أَنْ يَظَلَّ لَهُ الْحُمْلَانُ.. الرُّكُوبُ.. الْفَقَارُ.. يَظَلُّ عَلَيْهِ رَاكِبًا، وَلَهُ مُمْتَلِكًا لَا يُؤَدِّيهِ حَتَّى يَصِلَ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ.

قَالَ: ((لَكَ حُمْلَانُهُ.. لَكَ فَقَارُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ يَا جَابِرُ)).

قَالَ: ((ثُمَّ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَقِيتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَأَنَا عَلَى جَمَلِي، فَنَزَلْتُ)).

فَقَالَ: ((الْآنَ جِئْتَ يَا جَابِرُ؟)).

قَال: قُلْتُ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((دَعِ الْجَمَلَ جَانِبًا، وَادْخُلْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ))، ادْخُلْ فَتَطَهَّرْ.. ادْخُلْ فِي حَمَّامِ النُّورِ؛ لِكَيْ تُعِيدَ الْقَلْبَ نَقِيًّا وَالرُّوحَ طَاهِرَةً فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ؛ بَلْ فِي رَوْضَتِهِ.. فِي رَوْضَتِهِ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ: ((ارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ يَا جَابِرُ)).

لَمْ يَسْتَوْفِ حَظَّهُ مِنَ الثَّمَنِ بَعْدُ وَقَدْ جَاءَ بِالْمَبِيعِ، قَالَ: دَعْ هَذَا جَانِبًا، وَاخْلُصْ مِنَ الدُّنْيَا نَاحِيَةً، وَارْتَقِ فَوْقَ الْأَعْرَاضِ شَيْئًا مَا، وَخُذْ أَخْذَ عَزِيزٍ بِالْحَتْمِ وَالتَّجْرِيدِ: ((ادْخُلْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ)).

قَالَ: ((فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ)).

فَقَالَ: ((يَا جَابِرُ! اذْهَبْ إِلَى بِلَالٍ فَاسْتَوْفِ الثَّمَنَ)).

((فَذَهَبْتُ إِلَى بِلَالٍ، فَقَالَ: ((أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ؟))؛ يَعْنِي ابْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَكَانَ لَهُ صَاحِبًا، وَلَهُ مُحِبًّا، وَعَلَيْهِ مُقْبِلًا.

فَقَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

فَقَالَ: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَوْصَانِي بِكَ خَيْرًا)).

قَالَ: ((فَنَقَدَنِي الثَّمَنَ وَزِيَادَةً، وَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً وَنَوَاةً أَوْ نَوَاتَيْنِ وَقِيرَاطًا أَوْ قِيرَاطَيْنِ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ ))، فَقَالَ: ((تَحَصَّلْتَ عَلَى الثَّمَنِ يَا جَابِرُ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((الثَّمَنُ لَكَ وَالْبَعِيرُ لَكَ يَا جَابِرُ!! أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ عَنْ بَعِيرِكَ حَتَّى آخُذَهُ مِنْكَ؟!! ضُمَّ إِلَيْكَ بَعِيرَكَ مَعَ الثَّمَنِ يَا جَابِرُ!!)).

قَالَ: ((فَعُدْتُ بِالْبَعِيرِ وَالثَّمَنِ مَعًا، وَظَلَّتِ الزِّيَادَةُ -زِيَادَةُ رَسُولِ اللهِ- الَّتِي كَانَتْ فَوْقَ الْأُوقِيَّةِ ظَلَّتْ فِي كِيسِي، أَقُولُ: أَحْرِصُ عَلَى زِيَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهَا، قَالَ: فَظَلَّتِ الزِّيَادَةُ فِي كِيسِي حَتَّى أَخَذَهُ الْجُنْدُ يَوْمَ الْحَرَّةِ يَوْمَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ )).

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا رَأَى فِيهِ جِدًّا وَتَرَفُّعًا؛ عَامَلَهُ بِمَا يُقَوِّي فِيهِ جِدَّهُ، وَيَرْفَعُ فِيهِ تَرَفُّعَهُ!

وَمِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَسُمُوِّ أَخْلَاقِهِ: عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ، وَقَضَاءُ حَاجَةِ الْعَبِيدِ؛ فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ عِيَادَةُ مَنْ مَرِضَ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَرِضْتُ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ،  فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ)).

وَعَادَ النَّبِيُّ ﷺ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدُمُهُ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَعَادَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا يَعْنِي: عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَعَلَى أَبِي طَالِبٍ- عَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ، وَلَمْ يُسْلِمْ عَمُّهُ.

وَكَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْمَرِيضِ، وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ؛ أَذْهِبِ الْبَأسَ، واشْفِهِ أَنْتَ الشَّافي، لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَمًا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ مَدْفَنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مَخْصَرَةٌ -وَهِيَ عَصَا لَطِيفَةٌ، أَوْ عُكَّازٌ-، فَنَكَسَ -أَيْ: فَخَفَضَ رَأْسَهُ وَطَأْطَأَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةِ الْمَهْمُومِ-، وَجَعَلَ يَنْكُتُ -أَيْ: يَخُطُّ خَطًّا يَسِيرًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِمَخْصَرَتِهِ-، ثُمَّ قَالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ)).

وَمِنْ تَوَاضُعِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعَبِيدِ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَالإِهَالَةِ السَّنِخَةِ، فَيُجِيبُ)). وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((مُخْتَصَرِ الشَّمَائِلِ)).

الْإِهَالَةُ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ): الدُّهْنُ يُؤْتَدَمُ بِهِ.

وَالسَّنِخَةُ (بِكَسْرِ النُّونِ) أَيْ: مُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ لِطُولِ الْمُكْثِ.

فَكَانَ إِذَا دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ أَجَابَ ﷺ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلتُ، وَلوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لأَجَبْتُ)).

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الْجَامِعِ))، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ((لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)).

الْكُرَاعُ (بِضَمِّ أَوَّلِهِ) مِنَ الْإِنْسَانِ: مَا دُونَ الرُّكْبَةِ إِلَى الْكَعْبِ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ: مُسْتَدَقُّ السَّاقِ الْعَارِي مِنَ اللَّحْمِ. فَهَذَا هُوَ الْكُرَاعُ.

قَالَ الْمُبَارَكْفُورِيُّ فِي ((التُّحْفَةِ)): ((وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ ﷺ، وَتَوَاضُعِهِ، وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ؛ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ -أَيْ: عَلَى الْكُرَاعِ- لَأَجَبْتُ)).

إِذَا أَدْمَنْتَ الْبَحْثَ فِي أَحْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَشَمَائِلِهِ، وَأَدْمَنْتَ النَّظَرَ فِي سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ؛ وَجَدْتَ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، قَدْ كَمَّلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ خَلْقَهُ، وَكَمَّلَ لَهُ خُلُقَهُ ﷺ.

 ((مِنْ مَعَالِمِ نُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ: شَرَفُ الْخُصُومَةِ))

مِنْ مَعَالِمِ شَرَفِ خِلَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُبْلِهِ: شَرَفُ الْخُصُومَةِ؛ فَهَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى سَبْعَةٍ سِوَاهُ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ كُتُبًا يَدْعُوهُمْ فِيهَا بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَمَزَّقَ كِتَابَ النَّبِيِّ، وَأَطَالَ اللِّسَانَ فِي النَّبِيِّ وَبَسَطَهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَهْدَأْ لَهُ بَالٌ حَتَّى قَتَلَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَعَدَّ الْعُدَّةَ لِاغْتِيَالِ النَّبِيِّ ﷺ لَوْ لَا أَنْ كَفَّهُ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ عَمُّهُ، فَحَجَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ نَبِيِّهِ شَرًّا مُسْتَطِيرًا وَبَلَاءً كَبِيرًا.

ثُمَامَةُ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ سَرِيَّةً تَجُوبُ الْأَرْضَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؛ حَتَّى لَا تُدَاهَمَ بِلَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثُمَامَةَ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ، فَمَا رَاعَ النَّبِيَّ ﷺ -إِذْ خَرَجَ مِنْ حُجْرَتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ- إِلَّا ثُمَامَةُ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ.

قَالَ: ((أَعَلِمْتُمْ مَنْ أَسَرْتُمْ؟)).

قَالُوا: ((لَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، لَنَا عِنْدَهُ دَمٌ، وَلَنَا عِنْدَهُ ثَأْرٌ؛ بَلْ ثَارَاتٌ لَا يُطْفِئُهَا مَسِيلُ الدِّمَاءِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ قَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).

وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمَأْمُونُ ﷺ بِأَنْ يُسَاقَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ طَعَامًا وَشَرَابًا، قَالَ: ((أَحْسِنُوا إِلَيْهِ)).

وَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((يَا ثُمَامَةُ! مَا عِنْدَكَ؟)).

قَالَ: ((خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ -يَعْنِي: ذَا ثَأْرٍ لَدَيْكَ، قَتَلَ مِنْكُمْ وَأَرَاقَ دِمَاءً-، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ تُعْطَهُ)).

فَتَرَكَهُ الرَّسُولُ ﷺ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ غَدٍ، فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

قَالَ: ((إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ)).

فَتَرَكَهُ إِلَى بَعْدَ غَدٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)).

فَقَالَ: ((مَا قُلْتُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ)).

مَا تَظُنُّ النَّبِيَّ فَاعِلًا؟!! الشَّرِيفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، الشَّرِيفُ مَنْطِقًا وَجَنَانًا.. مَا تَظُنُّ النَّبِيَّ فَاعِلًا؟!!

قَالَ: ((انْصَرِفْ رَاشِدًا)).

وَثُمَامَةُ كَانَ شَرِيفَ الْخُصُومَةِ بِمِقْدَارِهِ وَعَلَى حَسَبِهِ، خَرَجَ إِلَى نَخْلٍ بِجِوَارِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَاغْتَسَلَ غُسْلَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ، فَقَالَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ)).

لِمَاذَا أَخَّرَهَا؟!!

لِأَنَّهُ رَجُلٌ شَرِيفُ خُصُومَةٍ، لَا يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ لِلدَّنِيَّةِ فِي تَارِيخِهِ وَلَا فِي صَفْحَةِ حَيَاتِهِ مَدْخَلًا، لَا يُعْطِي الذِّلَّةَ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ مُنْطَوِيًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ حَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ وَقَدْ سُئِلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟)).

قَالَ: ((لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ)).

((أَطْلِقُوهُ)): حُلُّوا وَثَاقَهُ، وَفُكُّوا قُيُودَهُ ((أَطْلِقُوهُ)): اذْهَبْ رَاشِدًا، وَيَذْهَبُ الرَّجُلُ بِطَوْعِ إِرَادَتِهِ وَمَحْضِ قَرَارِهِ.. يَذْهَبُ يَغْتَسِلُ غُسْلَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَعُودُ ثَابِتَ الْخَطْوِ، مَوْفُورَ الشَّبَابِ، يَسِيرُ عَلَى جَنَاحَيِ الشَّوْقِ وَالرَّجَاءِ حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَقُولُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ))، قُلْتُهَا طَوَاعِيَةً وَرَغْبَةً، وَلَمْ أَقُلْهَا قَسْرًا وَرَهْبَةً، وَإِنَّمَا قُلْتُهَا حُبًّا لَا خَوْفَ فِيهِ، وَنُزُوعًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا يُدْنِينِي إِلَى مَا يُرْضِيهِ.

يَنْفِي عَنْ حَرَكَةِ حَيَاتِهِ وَعَنْ صَفْحَةِ تَارِيخِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ شَائِبَةً يُمْكِنُ أَنْ تَعْلَقَ بِتَارِيخِهِ، وَأَنْ تَلْزَقَ بِصَفْحَةِ حَيَاتِهِ، كَمَا تَجِدُ أَثَرَ الطَّعَامِ تَشُمُّهُ فِي إِنَاءٍ لَمْ يُحْسَنْ غَسْلُهُ، وَأَمَّا هُوَ؛ فَيَأْتِي لِلرَّسُولِ ﷺ يَقُولُ مُتَشَهِّدًا: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

ثُمَّ قَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ جُنْدَكَ قَدْ أَخَذُونِي وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى الْعُمْرَةِ؛ فَمَا تَرَى؟)) يَعْنِي: هَلْ أَذْهَبُ إِلَى الْعُمْرَةِ، أَمْ أَعُودُ إِلَى بَنِي حَنِيفَةَ إِلَى الْيَمَامَةِ -وَكَانَ سَيِّدَهَا-؟!!

فَقَالَ: ((بَلِ اذْهَبْ فَاعْتَمِرْ؛ وَلَكِنْ عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فَعَلَّمَهُ.

وَذَهَبَ الرَّجُلُ فَدَخَلَ مَكَّةَ مُلَبِّيًا، وَهُوَ أَوَّلُ مُسْلِمٍ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَذْهَبُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَكَّةَ عِنْدَ عُمْرَةٍ أَوْ حَجٍّ.

ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَخَلَ مَكَّةَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ يَقُولُ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).

وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ شَابٌّ قَدْ شَهَرَ سَيْفَهُ يُرِيدُ أَنْ يُذَفِّفَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، سَيِّدُ بَنِي حَنِيفَةَ، هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، وَاللهِ! لَوْ أَنَّكَ أَجْهَزْتَ عَلَيْهِ أَوْ أَصَبْتَهُ بِمَكْرُوهٍ؛ لَا يَأْتِينَا شَيْءٌ قَطُّ مِنْ خَيْرَاتِ الْيَمَامَةِ؛ لَا مِنْ بُرِّهَا وَلَا مِنْ طَعَامِهَا حَتَّى نَهْلِكَ جُوعًا؛ فَدَعْهُ.

ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا ثُمَامَةُ! صَبَوْتَ؟!!

وَصَبَأَ الرَّجُلُ؛ أَيْ: غَيَّرَ دِينَهُ، وَانْتَقَلَ عَنْهُ -اللهم ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَكَ الْكَرِيمَ-.

قَالُوا: صَبَوْتَ؟!!

فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ.

الصَّابِئُ يَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ دِينٍ، فَإِذَنْ؛ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لُغَةً أَنِّي قَدِ انْتَقَلْتُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ؛ بِمَعْنَى أَنِّي صَبَوْتُ، لَمْ تَكُونُوا عَلَى دِينٍ، وَلَسْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَنْ؛ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ.

وَهُوَ أُسْلُوبُ الْحَكِيمِ كَمَا يَعْرِفُهُ الْبُلَغَاءُ وَالْمُشْتَغِلُونَ بِهَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ مِنْ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، لُغَةِ مُحَمَّدٍ الشَّرِيفِ وَالْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ الشَّرِيفُ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا الْكَرِيمِ اللَّطِيفِ.

قَالَ ثُمَامَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ، وَوَاللهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَا تَأْتِيكُمْ حَبَّةُ حِنْطَةٍ مِنَ الْيَمَامَةِ حَتَّى يَأْذَنَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

شَرَفُ الْخُصُومَةِ.. شَرَفُ الْخُصُومَةِ لَا تَأْتِي بِهِ إِلَّا نَفْسٌ شَرِيفَةٌ، وَأَمَّا الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَهُوَ شِيمَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَشِيمَةُ هَؤُلَاءِ الْعُلُوجِ الْمَفَالِيكِ الصَّعَالِيكِ الَّذِينَ أَفْلَسُوا.. أَفْلَسُوا مِنْ كُلِّ رَصِيدٍ حَيٍّ مِنْ خُلُقٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسٌ حَيَّةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ قَدْ أَنْتَنَتْ بَيْنَ جَوَانِبِ حَامِلِهَا يَرُوحُ وَيَجِيءُ بِهَا، لَا يَأْتِي مِنْهَا إِلَّا شَرٌّ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهَا إِلَّا مَا يَسُوءُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

شَرَفُ الْخُصُومَةِ -عِبَادَ اللهِ- كَانَ يَأْتِي بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَيَأْتِي بِهِ مَنْ سَارَ عَلَى قَدَمَيْهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

 ((مَعَالِمُ شَرَفِ وَنُبْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحُرُوبِ))

لَقَدْ عَلَّمَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كُلَّ مَعَانِي النُّبْلِ، وَالسُّمُوِّ، وَالشَّرَفِ، وَالشَّهَامَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»، وَكَانَ ﷺ مُلْتَزِمًا بِهَذِهِ الْمَكَارِمِ حَتَّى فِي أَصْعَبِ الْأَوْقَاتِ وَأَشَدِّهَا؛ فَقَدْ نَهَى ﷺ فِي الحُرُوبِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَعَنْ قَتْلِ الأُجَرَاءِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَبْرِيَاءِ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ بِالمُسْلِمِينَ؟!

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ﷺ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَليهِ.

وَعَنْ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ المُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ!»، فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ: «لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا عَسِيفًا»، وَالْعَسِيفُ: هُوَ الأَجِيرُ.

هَذَا دِينُ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا ﷺ.

دِينُ الرَّحْمَةِ هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ، رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.

مَا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِظُلْمٍ، وَلَا عَسْفٍ، وَلَا جَوْرٍ... حَاشَاهُ ﷺ.

وَنَهَى الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْجُثَثِ، فَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِجُثَثِ القَتْلَى؛ فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً؛ يَقُولُ لَهُمْ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».

أَخْرَجَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَيَشْهَدُ لَهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».

وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ»: «اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».

وَالتَّمْثِيلُ: قَطْعُ الأَطْرَافِ أَوِ الآذَانِ وَالأَنْفِ، هُوَ تَشْوِيهُ جُثَّةِ القَتِيلِ.

دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.

((شَرَفُ وَنُبْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي انْتِصَارَاتِهِ))

مِنْ مَعَالِمِ شَرَفِ خِصَالِ وَنُبْلِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ: حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ حَالَ انْتِصَارِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَ مَنْ عَادَوْهُ؛ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَاللهِ مَا خَلُصَ إِلَيَّ أَحَدٌ بِأَذًى أَوْ بِشَيْءٍ أَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ)).

وَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَةَ بِمَرْكَزِهَا -مَرْكَزِ الثِّقَلِ فِي الدَّعْوَةِ- إِلَى الطَّائِفِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ اسْتَعْصَتْ -صَارَتْ حَالَتُهَا مُسْتَعْصِيَةً- يَعْنِي: كَمَا يَقُولُونَ: أَتَت بِآخِرِ مَا عِنْدَهَا.

الدَّعْوَةُ هَكَذَا وَصَلَتْ إِلَى  الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ فِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَرْكَزَ الدَّعْوَةِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ، فَذَهَبَ إِلَى ثَقِيفٍ، وَحَدَثَ عِنْدَهُمْ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِيذَاءِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَغْرَوْا بِهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ وَالضُّعَفَاءَ يَقْذِفُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَبْتَعِدُ عَنْ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي مَرْمَى أَحْجَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فِي عَقِبِهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ التَّعَبُ مَبْلَغَهُ؛ حَتَّى مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا كَانَ.

مَعَ هَذَا الْأَسَى كُلِّهِ، وَمَعَ هَذَا الْعَنَتِ، وَمَعَ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَالْمَوْجِدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وَهُوَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَمَا أَتَى مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَالَ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -أَيِ: الجَبَلَيْنِ-؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ)).

قَالَ: ((لَا؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)) .

فَصَدَقَ مَنْ سَمَّاهُ الرَّؤُوفَ الرَّحِيمَ ﷺ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَأْخُذْهُمْ إِلَّا بِالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الرَّسُولُ ﷺ لَا يَسْتَفِزُّهُ خَطْبٌ أَبَدًا، يَعْنِي: أَخْرَجُوهُ، وَآذَوْهُ، وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ؛ حَتَّى خَرَجَ ﷺ مُهَاجِرًا يَنْظُرُ إِلَى مَكَّةَ يَقُولُ: ((إِنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْ لَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)).

((لَوْ لَا أَنَّ أَهْلَكِ لَوْ لَا أَنَّ قَوْمِي قُرَيْشًا- أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)).

وَيَخْرُجُ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَلْبِهِ هَذِهِ اللَّوْعَةُ، وَيَتْرُكُ دَارَهُ وَدَارَ أَبِيهِ، وَأَرْضَهُ وَأَرْضَ أَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحَرَمِ، وَيَخْرُجُ مُتَغَرِّبًا ﷺ مَعَ التَّشْرِيدِ وَالِاضْطِهَادِ وَالتَّعْذِيبِ ﷺ، ثُمَّ يَعُودُ يَوْمَ الْفَتْحِ مُخْبِتًا لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَدْخُلُ مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَسْتَفِزَّهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ خَطْبٌ يُخْرِجُهُ -وَلَوْ قِيدَ أُنْمُلَةٍ- عَنْ إِطَارِ الْعُبُودِيَّةِ، فِي مَقَامِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَفِي مَقَامِ الْمِنْحَةِ الْجُلَّى، وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَفَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْفَتْحَ الْأَكْبَرَ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ فِي الْكَتِيبَةِ الْخَضْرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْحَدِيدُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَفَارِقِ الرُّؤُوسِ إِلَى أَخْمَصِ الْأَقْدَامِ.

دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ذَلِيلًا لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُنِيبًا وَخَاشِعًا وَمُسْتَكِينًا، وَقَدْ أَحْنَى رَأْسَهُ بِصَدْرِهِ؛ حَتَّى كَانَتْ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ مَعْرَفَةَ  بَغْلَتِهِ؛ تَوَاضُعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِخْبَاتًا .

وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَمَّا قَالَ: «يَا أَبَا سُفْيَانَ! اليَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِرَسُول اللَّهِ ﷺ: ((أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟! قَالَ: «مَا قَالَ؟»

قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ». الحديث.

لَا يَسْتَفِزُّهُ حَالٌ بِحَالٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا أَمْرُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمٌ بِهِ، لَا يَقُومُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يَقُومُ مُحَمَّدٌ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ ﷺ، كَمَا أَنَّهُ يَقُومُ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.

نَبِيُّ الرَّحْمَةِ.. فَلَمَّا صَارُوا فِي قَبْضَتِهِ، وَوَقَفَ هُنَالِكَ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اجْتَمَعُوا لِكَيْ يَرَوْا مَاذَا سَيَصْنَعُ بِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ.

لَيْسَ عِنْدَهُ ذَرَّةٌ مِنَ الِانْتِقَامِ لِلنَّفْسِ، وَكُلُّ مَا يَمَسُّ ذَاتَهُ ﷺ فَهُوَ مُهْدَرٌ.

لَمْ يَنْتَقِمْ لِنَفْسِهِ قَطُّ، فَإِذَا مَا أُهِينَتْ وَتُعُدِّيَتْ حُدُودُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، يَغْضَبُ لِلَّهِ، لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ﷺ.

 ((شَرَفُ وَنُبْلُ مَجَالِسِ الرَّسُولِ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مَجْلِسَ النَّبِيِّ ﷺ يَعْكِسُ شَرَفَ نَفْسِهِ، وَنُبْلَ طَبْعِهِ، وَكَذَلِكَ سُمُّوَ أَخْلَاقِ أَصْحَابِهِ (ض3)؛ فَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمٍ، وَحِلْمٍ، وَحَيَاءٍ، وَصَبْرٍ، وَأَمَانَةٍ، لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، كَمَا لَا تُعَابُ وَلَا تُغْتَابُ فِيهِ حُرُمَاتُ النَّاسِ، فَهُوَ مَجْلِسٌ شَرِيفٌ نَظِيفٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ شُرَفَاءُ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَإِنْ صَدَرَتْ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ سَقْطَةٌ أَوْ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ؛ فَلَا يُسْمَعُ لَهَا خَبَرٌ خَارِجَ الْمَجْلِسِ؛ لِهَيْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَلَالِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى إِغْضَابِهِ، أَوْ قُلْ: لِحُسْنِ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِخُلُقِ النُّبُوَّةِ مِنْ مَنْبَعِهَا الْأَصِيلِ، فَهُمْ عِنْدَهُ جَمِيعًا مُتَسَاوُونَ، فَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَتَجِدُ الْكَبِيرَ فِيهِمْ مُتَوَاضِعًا، يَحْتَرِمُونَ الْكَبِيرَ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ، وَيُرَاعُونَ الْغَرِيبَ وَيُكْرِمُونَهُ.

 ((مِنْ ثَمَرَاتِ شَرَفِ النَّفْسِ وَالْمُرُوءَةِ وَنُبْلِ الْأَخْلَاقِ))

إِنَّ نُبْلَ الْأَخْلَاقِ وَشَرَفَ النَّفْسِ لَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ، مِنْهَا: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَخْذُلُ الْمُتَّصِفِينَ بِالنُّبْلِ وَالْمُرُوءَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ رَجَعَ يَقُولُ:  ((زَمِّلُونِي.. زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:

*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

وَالتَّعْبِيرُ بِـ (عَلَى)، وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ؛ فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ في بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.

*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ.

فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ)).

إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.

وَلِنُبْلِ أَخْلَاقِ وَشَرَفِ نُفُوسِ الدُّعَاةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَثَرٌ طَيِّبٌ فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ؛ فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ.

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِفَضْلِ اللهِ، ثُمَّ بِمُرُوءَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْقُدْوَةِ وَالْقِمَّةِ السَّامِقَةِ فِي الْمُرُوءَةِ، ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُمُوِّ الْخُلُقِ، وَنُبْلِ الطِّبَاعِ: مُرَافَقَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ النَّظِيرَ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّظِيرِ، وَعَلَى أَنَّ الشَّبِيهَ يَلْتَصِقُ مَعَ الشَّبِيهِ، وَأَنَّ الطُّيُورَ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُلْحِقُ الْمُمَاثِلَ بِالْمُمَاثِلِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَجْمَعُ الْمُنَاظِرَ مَعَ الْمُنَاظِرِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْمَلْحَظِ الَّذِي يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ أَعْدَاءُ الدِّينِ يَغْفُلُونَ عَنْ هَذَا الْمَلْحَظِ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، فَيَقُولُ: ((إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) .

لِأَنَّ النَّظِيرَ يَجْتَمِعُ إِلَى النَّظِيرِ، وَلِأَنَّ الْمُمَاثِلَ يُضَمُّ إِلَى الْمُمَاثِلِ، وَحَقِيقٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لَا مُمَاثِلَ لَهُ؛ وَلَكِنَّهُ هُوَ الْأُسْوَةُ، فَهُنَاكَ وَجْهُ شَبَهٍ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ ضَعِيفًا.. مَهْمَا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ ضَعِيفًا، فَهُنَاكَ وَجْهُ شَبَهٍ وَلَوْ كَانَ آثَارًا لَا تَرَاهَا الْأَعْيُنُ وَلَا تُدْرِكُهَا الْحَوَاسُّ.

وَإِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، وَفِي عَظِيمِ رَكَائِزِ رِسَالَتِهِ، يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْسِينِ أَخْلَاقِهِمْ؛ حَتَّى لَا يَبْعُدُوا عَنْهُ ﷺ عَلَى قَدْرِ بُعْدِهِمْ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَكَرِيمِ الْأَفْعَالِ، وَعَظِيمِ الشِّيَاتِ؛ وَلَكِنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مُسْتَوَى الْخُلُقِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ؛ حَتَّى يَكُونُوا قَرِيبِينَ مِنْهُ ﷺ.

((وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ)).

الْمُتَفَيْهِقُونَ يَمْلَأُ الْوَاحِدُ بِاللَّفْظِ.. بِالْحَرْفِ مَا بَيْنَ شِدْقَيْهِ كَالطَّبْلِ الْأَجْوَفِ، ثُمَّ لَا رَصِيدَ هُنَالِكَ لِلْعُمْلَةِ الزَّائِفَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا، وَهِيَ لَا تُسَاوِي الْحِبْرَ الَّذِي كُتِبَتْ بِهِ، وَلَا تُسَاوِي الْوَرَقَ الَّذِي قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ، لَا تُسَاوِي شَيْئًا، بَلْ إِنَّهَا سُبَّةٌ لِمَنْ يَحُوزُهَا، وَتُهْمَةٌ لِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي آنٍ؛ لِأَنَّهَا لَا رَصِيدَ لَهَا هُنَالِكَ، وَكَذَلِكَ الْأَخْلَاقُ الزَّائِفَةُ لَا رَصِيدَ لَهَا هُنَالِكَ فِي الْخُلُقِ الْحَسَنِ.

 ((اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ))

لَقَدْ أَسَّسَ النَّبِيُّ ﷺ لِكُلِّ مَعَانِي السُّمُوِّ، لَا يَعْرِفُ الشَّطَطَ وَلَا الْغُلُوَّ، وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، النَّبِيُّ ﷺ لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ.

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى التَّأَسِّي بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ النَّبِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَالْمَوَاقِفِ الْمُشَرَّفَةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِنَكُونَ بِحَقٍّ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى وَصْفِ هَيْئَتِهِ ﷺ؛ فَجَمَالٌ مَا بَعْدَهُ جَمَالٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى أَخْلَاقِهِ وَخِلَالِهِ؛ فَكَمَالٌ مَا بَعْدَهُ كَمَالٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا -وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ خُصُوصًا-؛ فَوَفَاءٌ مَا بَعْدَهُ وَفَاءٌ.

وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- :

وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي   =   وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ الْقُدْوَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الَّذِينَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْمُنْصِفِينَ يَتَّخِذُونَهُ قُدْوَةً لَهُمْ، وَيُعْجَبُونَ بِشَخْصِيَّتِهِ؛ فَقَدْ وَضَعَ الْأَمْرِيكِيُّ (مَايْكِل هَارْت) فِي كِتَابِهِ ((الْعُظَمَاءُ الْمِائَةُ فِي التَّارِيخِ)) مُحَمَّدًا ﷺ الْأَوَّلَ فِي أَهَمِّ وَأَعْظَمِ رِجَالِ التَّارِيخِ.

إِنَّ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ مُقْتَضَى الشَّهَادَةِ بِأَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ))، وَلَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا؛ إِذْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا: ((طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَأَلَّا يُعْبَدُ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ)) .

وَهَذَا تَمَامُ الْمَحَبَّةِ، وَكَمَالُ التَّعْظِيمِ، وَغَايَةُ التَّوْقِيرِ، وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَوْ مَحَبَّةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَدَى مَنْ شَكَّ فِي خَبَرِهِ، أَوِ اسْتَنْكَفَ عَنْ طَاعَتِهِ، أَوِ ارْتَكَبَ مُخَالَفَتَهُ، أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِهِ، وَعَبَدَ اللهَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ؟!!

وَلِذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى مَنْ سَلَكُوا فِي الْعِبَادَةِ سَبِيلًا لَمْ يَشْرَعْهَا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21].

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

((رَدٌّ)) أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.

فَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ عِبَادَةً؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَاللِّسَانُ، وَالْجَوَارِحُ.

وَيَتَحَقَّقُ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقَلْبِ: بِتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْوَالِدِ، وَالْوَلَدِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تَوْقِيرَ وَلَا تَعْظِيمَ بِلَا مَحَبَّةٍ، وَإِنَّمَا تَزْرَعُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، وَالْإِحَاطَةُ بِشَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهِ ﷺ.

وَإِذَا اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ فِي الْقَلْبِ؛ كَانَ لَهَا لَوَازِمُ هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا مَظَاهِرُ لِلتَّعْظِيمِ، وَدَلَائِلُ عَلَيْهِ تَظْهَرُ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.

وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآيَةَ الَّتِي قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((إِنَّهَا آيَةُ الْمِحْنَةِ، أَوْ آيَةُ الِاخْتِبَارِ))؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا؛ مِنْ أَجْلِ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ آل عمران: 31] .

اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ.. أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا؛ أَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّمْثِيلِ وَلَا التَّعْطِيلِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّجْسِيمِ وَلَا بِالتَّشْبِيهِ، أَلَّا يَأْتِيَ بِالْغُلُوِّ، وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالْجَفَاءِ، أَلَّا يَكُونَ خَارِجِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُرْجِئِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُئَوِّلًا وَلَا مُشَبِّهًا وَلَا مُجَسِّمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ آتِيًا بِالْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

يَعْرِفُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيُطِيعُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، آخِذًا بِأَسْبَابِهِ، فَلَا يَكُونُ جَبْرِيًّا يَتَوَاكَلُ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا قُدِّرَ! وَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي!!

وَلَا يَكُونُ قَدَرِيًّا، فَيَجْعَلُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ نَافِذَةً، وَلَا مَشِيئَةَ لِرَبِّهِ!! وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرُ أَهْلُ السُّنَّةِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ، فِيمَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَسْمَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْقَوْلِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُتَابِعًا، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.. يَنْبَغِي أَنْ تُتَابِعَ النَّبِيَّ ﷺ بَدْءًا فِي عَقِيدَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ أُرْسِلَ بِهَذَا الْأَمْرِ كَمَا أُرْسِلَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ لِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَوْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي فِعْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ، وَفِي سُلُوكِهِ ﷺ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.

((لَوْ عَرَفْتُمُوهُ لَأَحْبَبْتُمُوهُ!!))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدِ اصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْهُمْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؛ فَهُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ، لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ قَطُّ، مَا زَالَ يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَصْلَابِ النَّقِيَّةِ الطَّاهِرَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ النَّقِيَّةِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى وَضَعَتْهُ آمِنَةُ.

 

إِنَّ الْعَيْبَ عَلَى أَتْبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ لَمْ يُعَرِّفُوا الدُّنْيَا بِهِ؛ بِأَفْعَالِهِمْ، بِالْتِزَامِهِمْ، بِإِقَامَتِهِمْ لِسُنَّتِهِ، وَتَطْبِيقِهِمْ لِشَرِيعَتِهِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِنَهْجِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَدَلَالَةِ النَّاسِ عَلَى شِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَعْلِيمِ الْخَلْقِ جَمِيلَ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ.

لِأَنَّ الصُّورَةَ عِنْدَ الْغَرْبِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَعَنِ الرَّسُولِ الرَّشِيدِ، وَعَمَّنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ صُورَةٌ سَلْبِيَّةٌ جِدًّا!!

أَضَلَّهُمْ مُفَكِّرُوهُمْ، وَقُسُوسُهُمْ، وَرُهْبَانُهُمْ، وَأَحْبَارُهُمْ، وَقَادَتُهُمْ، وَسَاسَتُهُمْ، وَمُتَعَصِّبُوهُمْ، وَصَدَّقَ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وَبِمُمَارَسَاتِهِمْ.

وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ.

إِنَّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ!!

وَاللهِ! لَوْ عَرَفَهُ الْقَوْمُ لَأَحَبُّوهُ حُبًّا دُونَهُ حُبُّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ!!

 وَاللهِ -أُقْسِمُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ وَلَا حَانِثٍ- مَا عَرَفَ مُحَمَّدًا مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً أَحَدٌ إِلَّا سَلَّمَ لَهُ الْأَمْرَ، وَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ زِمَامَ الْقَلْبِ، مَا عَرَفَ مُحَمَّدًا إِلَّا وَسَارَ خَلْفَهُ، وَاتَّبَعَ نَهْجَهُ ﷺ؛ وَلَكِنْ يُؤْتَى الْقَوْمُ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا مِنْ جَهَالَتِهِمُ الْجَهْلَاءِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَالْجَهْلُ دَاءٌ دَوِّيٌّ يَا صَاحِبِي، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَوَاءٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شِفَاءٍ، وَدَوَاؤُهُ وَشِفَاؤُهُ الْعِلْمُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي؛ فَهُوَ مِنْ تَقْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَعْلِيمِ الْخَلْقِ الدِّينَ، لَمْ يُعَرِّفُوا النَّاسَ بِالنَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَشَاعَتْ مَقُولَاتٌ، وَانْتَظَمَتْ فِي الْقَوْمِ إِشَاعَاتٌ، وَجَاءَ الشَّيْطَانُ بِحِيَلِهِ، فَشَعْبَذَ عَلَيْهِمْ، وَشَعْوَذَ لَدَيْهِمْ، ثُمَّ حَرَفَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ.. عَنِ الْمَسَارِ، وَلَوْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ بِتَعْرِيفِهِ لِلْخَلْقِ مُتَّبِعُوهُ، وَمُحِبُّوهُ، وَالسَّائِرُونَ خَلْفَهُ، وَالْمُتَّبِعُونَ نَهْجَهُ؛ لَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا؛ وَلَكِنَّهُ التَّقْصِيرُ يَا صَاحِبِي، وَهُوَ شَرٌّ وبِيلٌ!!

يَأْتِي الِاسْتِعْلَاءُ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَخْلَاقِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] يَقُولُهَا الْعَظِيمُ الْأَعْظَمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

الْكَرِيمُ إِذَا أَعْطَى؛ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ كَرَمِهِ؛ فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ، فَكَيْفَ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَيْفَ بِمَنْ عِنْدَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، أَرَأَيْتُمْ مَاذَا أَعْطَى مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟!!

عَطَاؤُهُ كَلَامٌ، وَنَعِيمُهُ كَلَامٌ، يَعْنِي: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ، يَخْلُقُ مِنْ عَدَمٍ، وَيُوجِدُ مِنْ عُدْمٍ، وَيُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ.

إِذَا قَالَ صَاحِبُ الْعَظَمَةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُتَفَرِّدَةِ فِي مَقَامِ الْعَظَمَةِ الْمُطْلَقِ الْمُتَفَرِّدِ، إِذَا قَالَ مَنِ الْعِزُّ رِدَاؤُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ  إِزَارُهُ، إِذَا قَالَ الْعَظِيمُ الْأَعْظَمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍفَلَا بُدَّ أَنَّ خُلُقَ مُحَمَّدٍ ﷺ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ جَنَابُ عَظَمَتِهِ أَبَدًا لِبَشَرٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي نَعَتَهُ بِالْعَظَمَةِ هُوَ الْعَظِيمُ الْأَعْظَمُ، صَاحِبُ الْعَظَمَةِ وَالسُّؤْدُدِ، وَالْعِزِّ وَالْكِبْرِيَاءِ.. اللهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

لِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) إِلَى أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! خَبِّرِينِي مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

فَقَالَتْ: ((أَلَمْ تَقْرَأِ الْقُرْآنَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).

الْحِكَمُ الْجَمِيلَةُ تَمْلَأُ الدُّنْيَا، وَالْمَوَاعِظُ الْبَدِيعَةُ تَمْلَأُ الْأَطْبَاقَ وَالثَّرَى، وَالْكَلَامُ الْحُلْوُ كَثِيرٌ فِي الْوُجُودِ؛ وَلَكِنِ الَّذِي جَعَلَ الْكَلَامَ عَمَلًا، وَحَوَّلَ الْقُرْآنَ إِلَى وَاقِعٍ يُعَاشُ هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَالْعَظَمَةُ كُلُّ الْعَظَمَةِ لَيْسَتْ فِي أَنْ تَقُولَ، وَإِنَّمَا أَنْ تُطَابِقَ بَيْنَ مَا تَفْعَلُ وَمَا تَقُولُ، هَذِهِ هِيَ الْعَظَمَةُ، وَهِيَ مُتَوَفِّرَةٌ لَدَى نَبِيِّنَا وَحْدَهُ ﷺ.

كَيْفَ؟

جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَدَ لَنَا عَنْهُمْ سُلُوكٌ نَظَرِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُتَأَسَّى بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي سُلُوكٍ عَمَلِيٍّ مُحْصًى عَلَيْهِ سِوَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأُبِيحَتْ سِيرَتُهُ وَأَسْرَارُ حَيَاتِهِ فِي أَدَقِّ دَقَائِقِهَا، ظَهْرًا لِبَطْنٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْفِيَ عَنِ النَّاسِ شَيْئًا، كُلُّ ذَلِكَ أُبِيحَ لِأَعْدَائِهِ قَبْلَ أَوْلِيَائِهِ؛ فَهَلْ وَجَدُوا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يُعَابُ؟!!

حَاشَا وَكَلَّا، بَلْ هُوَ الْكَمَالُ كُلُّهُ ﷺ.

مَا مِنْ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ مِنْ إِنْسِيٍّ يَدُبُّ عَلَى قَدَمَيْنِ أُحْصِيَتْ حَالَاتُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ أُرْسِلَ لَهُ مِنْ أَعْدَاءٍ كَثُرُوا مِثْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ وَلَكِنْ لَا نَخْشَى عَلَى الطُّهْرِ مِنَ الدَّنَسِ أَبَدًا.

وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ إِذَا بَلَغ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ؛ فَكَيْفَ يَا صَاحِبِي بِالْمُحِيطِ الْعُبَابِ الَّذِي لَا سَاحِلَ لَهُ؟!!

كَيْفَ بِأَخْلَاقِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ؟!!

فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ نَخَافُ؟!! ﷺ.

وَهَذِهِ سِيرَتُهُ بِدَقَائِقِ أَحْوَالِ حَيَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، نَوْمُهُ وَيَقَظَتُهُ، سُكُونُهُ وَحَرَكَتُهُ، ضَحِكُهُ وَبُكَاؤُهُ، سِلْمُهُ وَحَرْبُهُ، شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ، ذَهَابُهُ وَإِيَابُهُ، إِعْطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ، إِقْبَالُهُ وَإِدْبَارُهُ، مَشْيُهُ وَسَعْيُهُ، حَرْبُهُ وَسِلْمُهُ ﷺ؛ هَذَا كُلُّهُ قَدْ أُحْصِيَ عَلَيْهِ كَأَنَّمَا هُوَ مُصَوَّرٌ تَحْتَ عَيْنَيْكَ، فَإِذَا نَظَرْتَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ الصَّحِيحَةِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَنَظَرْتَ أَحْوَالَ النَّبِيِّ ﷺ؛ صَحَّ قَوْلُ الْقَائِلِ: ((النَّبِيُّ ﷺ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).

وَلَكِنِ الْجُهَّالُ وَالْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُسْتَهْزِئَاتِ، وَالْكَافِرِينَ وَالْكَافِرَاتِ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمُوا جَلَالَ الْعَظَمَةِ فِي النَّبِيِّ ﷺ كَمَا نَفْهَمُهَا نَحْنُ حَتَّى نُوَصِّلَهُمْ إِلَى  الْمَعْرِفَةِ بِهِ كَمَا عَرَفْنَاهُ نَحْنُ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -اللَّهُمَّ زِدْنَا فَضْلًا وَعِلْمًا وَبَرَكَةً، وَأَنْتَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ-.

وَمَا رَدَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّبِيِّ الْكَرِيمِ رَدًّا هُوَ أَقْوَى وَلَا أَصْلَبَ وَلَا أَمْتَعَ مِنْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؛ حِينَئِذٍ يَنْتَشِرُ الْعَدْلُ، وَيَذْهَبُ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ، فَنَقُولُ: هَذَا دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ، حِينَئِذٍ تَذْهَبُ الْخُرَافَةُ، وَيَعْلُو شَأْنُ الْعَقْلِ بِالْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ الشَّرِيفِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ.

يَتِمُّ الْبِنَاءُ الْأَخْلَاقِيُّ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ﷺ )).

وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ تَمَامُ الْأَخْلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ، نَقُولُ: هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ.

تَأْتِي الْوَفْرَةُ بِبَرَكَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي إِخْرَاجِ النَّبْتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَتَحْصِيلِ الثِّمَارِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخَيْرَاتِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ، وَيَعْلُو فِي الْجَوِّ، وَيَتَرَنَّمُ النَّاسُ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمَسُّكًا، وَيُرَتِّلُونَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي بَدَلَ ذَلِكَ الْخَنَا الْمَائِعِ، وَالسُّخْفِ السَّخِيفِ؛ يُرَتِّلُونَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ كَلَامَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَاللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَى الدِّينِ رَدًّا جَمِيلًا.

 ((رَسُولُ اللهِ ﷺ أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَنْبَلُهُمْ))

لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْخَلْقِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ، وَأَعْلَاهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. كَانَ ﷺ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، يَرْقَعُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَحْلِبُ الشَّاةَ، وَيَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ ﷺ.

لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُنْقِصُ الْمُرُوءَةَ، وَلَا يَسْتَعْلِي عَلَى أَمْرٍ لَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، بَلْ يَكُونُ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا ﷺ، وَهُوَ يُرَاعِي نَفْسِيَّةَ مَنْ أَمَامَهُ.

اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّنَا ﷺ كَمَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ، وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى تُدْخِلَنَا مُدْخَلَهُ، وَأَحْيِنَا عَلَى سُنَّتِهِ، وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ وَتَحْتَ رَايَتِهِ، وَأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ
  الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ وَدُرُوسٌ فِي المِنْحَةِ بَعْدَ المِحْنَةِ
  اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْوَفَاءِ بِالْحُقُوقِ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ
  مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  الْخُلُقُ الْكَرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ
  التَّكَافُلُ الْمُجْتَمَعِيُّ وَاجِبُ الْوَقْتِ
  لقد صاروا جميعًا من أهل السياسة !!
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان