حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة

حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة

((حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمِيلَادِ إِلَى الْبِعْثَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ َّ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((سِيرَةُ النَّبِيِّ ﷺ مُحِيطَةٌ شَامِلَةٌ))

((فَمَا مِنْ حَيَاةِ أَحَدٍ -مَهْمَا بَلَغَتْ صِحَّةُ التَّارِيخِ وَثُبُوتُ الرِّوَايَةِ- يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِلنَّاسِ أُسْوَةٌ تُتَّبَعُ وَمِثَالٌ يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِالْكَمَالِ، وَ ((لَا تَكُونُ حَيَاةُ أَحَدٍ كَامِلَةً وَمُنَزَّهَةً عَنِ الْعُيُوبِ وَالْمَثَالِبِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلنَّاسِ بِجَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَمُتَجَلِّيَةً لَهُمْ دَخَائِلُهَا مِنْ كُلِّ مَنَاحِيهَا.

وَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ مِيلَادِهِ إِلَى سَاعَةِ وَفَاتِهِ مَعْلُومَةٌ لِلَّذِينَ عَاصَرُوهُ، وَشَهِدُوا عَهْدَهُ، وَقَدْ حَفِظَهَا التَّارِيخُ عَنْهُمْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَحْتَجِبْ عَنْ عُيُونِ قَوْمِهِ إِلَّا مُدَّةً يَسِيرَةً؛ لِيُعِدَّ عُدَّتَهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَلِيُهَيِّئَ الْأسْبَابَ لِحَيَاتِهِ الْمُقْبِلَةِ.

إِنَّ جَمِيعَ شُؤُونِهِ وَأَطْوَارِ حَيَاتِهِ، مِنْ وِلَادَتِهِ، وَرَضَاعِهِ، وَطُفُولَتِهِ، إِلَى أَنْ صَارَ يَافِعًا وَشَابًّا.. كُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ أَمْرُهُ، مَعْلُومَةٌ تَفَاصِيلُهُ)).

((أَهَمِّيَّةُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ))

مَا أَكْثَرَ خِصَالَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ فِي مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنَّا يَشْرُفُ بِوَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كُلُّ هَذِهِ الْخِصَالِ؟!

وَ((لَا يَخْفَى عَلَى أَيِّ مُسْلِمٍ مَا لِسِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ كُبْرَى فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهَا الْيُنْبُوعُ الصَّافِي لِطَالِبِ الْفِقْهِ، وَالدَّلِيلُ الْهَادِي لِبَاغِي الصَّلَاحِ، وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى لِلْأُسْلُوبِ الْبَلِيغِ، وَالدُّسْتُورُ الشَّامِلُ لِكُلِّ شُعَبِ الْخَيْرِ.

وَلَقَدْ كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُدْرِكُونَ مَا لِسِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ آثَارٍ حَسَنَةٍ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْأِ، وَتَنْشِئَةِ جِيلٍ صَالِحٍ لِحَمْلِ رِسَالَةِ الْإِسْلَامِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ وَمَغَازِيَهُ ﷺ.

وَمَنْ دَرَسَ سِيرَتَهُ ﷺ، وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا مِنَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَالتَّحْقِيقِ؛ رَأَى نَسَقًا مِنَ التَّارِيخِ عَجِيبًا، اسْتَعْلَى بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْفِئَةُ الْمُؤْمِنَةُ مَعَهُ عَلَى عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ وَعَوَامِلِ الْجَذْبِ الْأَرْضِيِّ، وَارْتَقَوْا بِالْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى دَرَجَاتٍ لَمْ تَشْهَدْهَا عَلَى امْتِدَادِ عُصُورِهَا وَأَزْمِنَتِهَا)).

((وَالسِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَعَزِّهَا، وَأَسْنَاهَا هَدَفًا وَأَعْلَاهَا مَطْلَبًا، بِهَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُ أَحْوَالَ دِينِهِ وَنَبِيِّهِ، وَمَا شَرَّفَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ مِنْ أَرُومَةِ الْأَصْلِ وَكَرَمِ الْمَحْتِدِ، ثُمَّ مَا أَكْرَمَهُ بِهِ مِنَ اخْتِيَارِهِ لِلْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَحَمْلِ عِبْءِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَا قَامَ بِهِ ﷺ مِنْ بَذْلِ الْجُهُودِ الْمُتَوَاصِلَةِ، وَمَا عَانَاهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ فِي هَذَا السَّبِيلِ، وَمَا حَظِيَ بِهِ بِجَنْبِ ذَلِكَ مِنْ نُصْرَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ بِجُنُودِ غَيْبِهِ الْمَكْنُونِ، وَمَلَائِكَتِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ، وَبِتَوْجِيهِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْزَالِ الْبَرَكَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ)).

((وَالسِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ الصُّورَةُ السُّلُوكِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ لِلرَّسُولِ ﷺ، مِنْ خِلَالِهَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَتَعَرَّفَ حَيَاتَهُ ﷺ، وَيَتَمَثَّلَ هَذِهِ الْحَيَاةَ فِكْرًا فِي عَقْلِهِ، وَشُعُورًا فِي وِجْدَانِهِ، وَعَمَلًا مُطَابِقًا يَظْهَرُ عَلَى جَوَارِحِهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21])).

((قَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-: ((كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَسَرَايَاهُ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي عِلْمِ الْمَغَازِي عِلْمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-: ((كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ! هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا)).

وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَتَعَلَّقُ بِمَغَازِي رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، فَيَجِبُ كَتْبُهَا وَالْحِفْظُ لَهَا)).

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَصْلُ الْأُصُولِ الْعِلْمُ، وَأَنْفَعُ الْعُلُومِ النَّظَرُ فِي سِيَرِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90])).

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَهْبَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ خَيْرَ مَا يَتَدَارَسُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ وَلَاسِيَّمَا النَّاشِئُونَ وَالْمُتَعَلِّمُونَ، وَيُعْنَى بِهِ الْبَاحِثُونَ وَالْكَاتِبُونَ: دِرَاسَةُ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ؛ إِذْ هِيَ خَيْرُ مُعَلِّمٍ وَمُثَقِّفٍ، وَمُهَذِّبٍ وَمُؤَدِّبٍ، وَآصَلُ مَدْرَسَةٍ تَخَرَّجَ فِيهَا الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الَّذِينَ قَلَّمَا تَجُودُ الدُّنْيَا بِأَمْثَالِهِمْ، فَفِيهَا مَا يَنْشُدُهُ الْمُسْلِمُ وَطَالِبُ الْكَمَالِ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَإِيمَانٍ وَاعْتِقَادٍ، وَعِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَآدَابٍ وَأَخْلَاقٍ، وَسِيَاسَةٍ وَكِيَاسَةٍ، وَإِمَامَةٍ وَقِيَادَةٍ، وَعَدْلٍ وَرَحْمَةٍ، وَبُطُولَةٍ وَكِفَاحٍ، وَجِهَادٍ وَاسْتِشْهَادٍ فِي سَبِيلِ الْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالْمُثُلِ الْإِنْسَانِيَّةِ الرَّفِيعَةِ، وَالْقِيَمِ الْخُلُقِيَّةِ الْفَاضِلَةِ.

وَلَقَدْ كَانَتِ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ مَدْرَسَةً تَخَرَّجَ فِيهَا أَمْثَلُ النَّمَاذِجِ الْبَشَرِيَّةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-)))).

((السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ وَسِيَرُ الصَّحَابَةِ وَتَارِيخُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْ أَقْوَى مَصَادِرِ الْقُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْعَاطِفَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالدَّعَوَاتُ الدِّينِيَّةُ تَقْتَبِسُ مِنْهَا شُعْلَةَ الْإِيمَانِ، وَتَشْتَعِلُ بِهَا مَجَامِرُ الْقُلُوبِ الَّتِي يَسْرُعُ انْطِفَاؤُهَا وَخُمُودُهَا فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَالْعَوَاصِفِ الْمَادِّيَّةِ وَالَّتِي إِذَا انْطَفَأَتْ فَقَدَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ قُوَّتَهَا وَمِيزَتَهَا وَتَأْثِيرَهَا، وَأَصْبَحَتْ جُثَّةً هَامِدَةً تَحْمِلُهَا الْحَيَاةُ عَلَى أَكْتَافِهَا)).

((حِكْمَةُ بَعْثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ))

((لَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ -تَعَالَى- أَنْ تَطْلُعَ هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي تُبَدِّدُ الظَّلَامَ، وَتَمْلَأُ الدُّنْيَا نُورًا وَهِدَايَةً مِنْ أُفُقِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ ظَلَامًا، وَكَانَ أَشَدَّ حَاجَةً إِلَى هَذَا النُّورِ السَّاطِعِ.

وَاخْتَارَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَرَبَ لِيَتَلَقَّوْا هَذِهِ الدَّعْوَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُبَلِّغُوهَا إِلَى أَبْعَدِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ؛ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ، مِنْهَا:

أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، كَانُوا أَصْحَابَ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، إِذَا الْتَوَى عَلَيْهِمْ فَهْمُ الْحَقِّ حَارَبُوهُ، وَإِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ عَنْ عُيُونِهِمْ أَحَبُّوهُ وَاحْتَضَنُوهُ، وَاسْتَمَاتُوا فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَنَّ أَلْوَاحَ قُلُوبِ الْعَرَبِ كَانَتْ صَافِيَةً، لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهَا كِتَابَاتٌ دَقِيقَةٌ عَمِيقَةٌ يَصْعُبُ مَحْوُهَا وَإِزَالَتُهَا؛ شَأْنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ الَّذِينَ كَانُوا يَتِيهُونَ وَيَزْهَوْنَ بِعُلُومِهِمْ وَآدَابِهِمُ الرَّاقِيَةِ، وَمَدَنِيَّاتِهِمُ الزَّاهِيَةِ، وَبِفَلْسَفَاتِهِمُ الْوَاسِعَةِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا وَاقِعِيِّينَ جَادِّينَ، أَصْحَابَ صَرَاحَةٍ وَصَرَامَةٍ، لَا يَخْدَعُونَ غَيْرَهُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ، اعْتَادُوا الْقَوْلَ السَّدِيدَ وَالْعَزْمَ الْأَكِيدَ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ أَدْوَاءِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّرَفِ الَّتِي يَصْعُبُ عِلَاجُهَا، وَالَّتِي تَحُولُ دُونَ الْحَمَاسَةِ لِلْعَقِيدَةِ وَالتَّفَانِي فِي سَبِيلِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَصْحَابَ صِدْقٍ وَأَمَانَةٍ وَشَجَاعَةٍ، لَيْسَ النِّفَاقُ وَالْمُؤَامَرَةُ مِنْ طَبِيعَتِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ؛ فَقَدْ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وَبَذَلُوا الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَغَاوِيرَ حَرْبٍ وَأَحْلَاسَ خَيْلٍ -أَيْ: مُلَازِمِينَ لِرُكُوبِ الْخَيْلِ-، وَأَصْحَابَ جَلَادَةٍ وَتَقَشُّفٍ فِي الْحَيَاةِ، وَكَانَتِ الْفُرُوسِيَّةُ الْخُلُقَ الْبَارِزَ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أُمَّةٌ تَضْطَلِعُ بِعَمَلٍ جَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ كَانَ عَصْرَ حُرُوبٍ وَمُغَامَرَاتٍ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أُمَّةً نَشَأَتْ عَلَى الْحُبِّ الشَّدِيدِ لِلْحُرِّيَّةِ، وَالْمُسَاوَاةِ، وَحُبِّ الطَّبِيعَةِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ، وَبَعْضِ الْآدَابِ الَّتِي أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَنَّ قُوَاهُمُ الْعَمَلِيَّةَ وَالْفِكْرِيَّةَ وَمَوَاهِبَهُمُ الْفِطْرِيَّةَ مَفْطُورَةٌ فِيهِمْ لَمْ تُسْتَهْلَكْ، فَكَانَتْ أُمَّةً بِكْرًا، دَافِقَةً بِالْحَيَاةِ وَالنَّشَاطِ، وَالْعَزْمِ وَالْحَمَاسَةِ)).

((كَانَتْ هَذِهِ الْفَتْرَةُ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ الْفَتَرَاتِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ ظُلْمَةً وَانْحِطَاطًا، وَكَانَتْ أَبْعَدَ مِنْ كُلِّ أَمَلٍ فِي الْإِصْلَاحِ، كَانَتْ أَصْعَبَ مَرْحَلَةٍ وَاجَهَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَدَقَّهَا)).

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((وَاللهِ! لَقَدْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا وَقَدْ فَتَحَ اللهُ قُفْلَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرَّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، وَإِنَّهَا لَلَّتِي قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74])).

يَقُولُ -تَعَالَى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164])).

((ثُمَّ إِنَّ مَوْقِعَ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْجُغْرَافِيَّ يَجْعَلُهَا جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ مَرْكَزًا لِدَعْوَةٍ تَعُمُّ الْعَالَمَ، وَتُخَاطِبُ الْأُمَمَ.

تَقَعُ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ بَيْنَ قُوَّتَيْنِ مُتَنَافِسَتَيْنِ: قُوَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقُوَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَقُوَّةِ الْغَرْبِ، وَقُوَّةِ الشَّرْقِ، وَقَدْ ظَلَّتْ رَغْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُحْتَفِظَةً بِحُرِّيَّتِهَا وَشَخْصِيَّتِهَا، لَمْ تَخْضَعْ لِإِحْدَى الدَّوْلَتَيْنِ إِلَّا فِي بَعْضِ أَطْرَافِهَا، وَفِي قَلِيلٍ مِنْ قَبَائِلِهَا، وَكَانَتْ فِي خَيْرِ مَوْقِفٍ لِتَكُونَ مَرْكَزًا لِدَعْوَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ عَالَمِيَّةٍ تَقُومُ عَلَى الصَّعِيدِ الْعَالَمِيِّ، وَتَتَحَدَّثُ مِنْ مِسْتُوًى عَالٍ بَعِيدَةً عَنْ كُلِّ نُفُوذٍ سِيَاسِيٍّ وَتَأْثِيرٍ أَجْنَبِيٍّ.

لِذَلِكَ كُلِّهِ اخْتَارَ اللهُ الْجَزِيرَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ لِتَكُونَ مَبْعَثَ الرَّسُولِ، وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ، وَنُقْطَةَ انْطِلَاقَةٍ بِالْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ))، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.

((أَحْوَالُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ))

لَقَدْ بَعَثَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّبِيَّ الْخَاتَمَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ((وَقَدْ تَغَلَّبَتِ الصَّحْرَاوِيَّةُ عَلَى شِبْهِ الْجَزِيرَةِ، وَظَهَرَ الْجَفَافُ عَلَى شِبْهِ الْجَزِيرَةِ لِعَوَامِلَ طَبِيعِيَّةٍ وَحَوَادِثَ جِيُولُوجِيَّةٍ، وَبِسَبَبِ الْمَوْقِعِ الْجُغْرَافِيِّ، فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَبَبًا فِي قِلَّةِ نُفُوسِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْحَاضِرِ، وَفِي سَبَبِ عَدَمِ نُشُوءِ مُجْتَمَعَاتٍ حَضَرِيَّةٍ وَحُكُومَاتٍ مَرْكَزِيَّةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا، وَفِي سَبَبِ تَفَشِّي الْبَدَاوَةِ، وَغَلَبَةِ الطَّبِيعَةِ الْأَعْرَابِيَّةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَبُرُوزِ رُوحِ الْفَرْدِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَتَقَاتُلِ الْقَبَائِلِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ)).

((لَقَدْ سَاءَتْ أَخْلَاقُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَوْغَلُوا بِالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ، وَبَلَغَتْ بِهِمُ الْقَسَاوَةُ وَالْحَمِيَّةُ الْمَزْعُومَةُ إِلَى وَأْدِ الْبَنَاتِ، وَشَاعَتْ فِيهِمُ الْغَارَاتُ، وَقَطْعُ الطُّرُقِ عَلَى الْقَوَافِلِ، وَسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ الْمَرْأَةِ فَكَانَتْ تُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ أَوِ الدَّابَّةُ، وَمِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَ الْمُجْتَمَعُ يُسَوِّغُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا يَشَاءُ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.

وَكَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ الْقَبَلِيَّةُ وَالدَّمَوِيَّةُ شَدِيدَةً جَامِحَةً، وَأُغْرِمُوا بِالْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ مَسْلَاةً لَهُمْ وَمَلْهًى وَهِوَايَةً، يَنْتَهِزُونَ لِلتَّسْلِيَةِ وَقَضَاءِ هَوَى النَّفْسِ نُشُوبَ حَرْبٍ لَهَا مُسَوِّغٌ أَوْ لَا مُسَوِّغَ لَهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِمْ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، فَتُثِيرُهَا حَادِثَةٌ تَافِهَةٌ، وَتَدُومُ الْحَرْبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُقْتَلُ فِيهَا أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ.

أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَخْلَاقِ فَكَانَتْ فِيهِمْ أَدْوَاءٌ وَأَمْرَاضٌ مُتَأَصِّلَةٌ، وَأَسْبَابُهَا فَاشِيَةٌ: شُرْبُ الْخَمْرِ؛ كَانَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَاسِعَ الشُّيُوعِ، شَدِيدَ الرُّسُوخِ فِيهِمْ!

وَكَانَ الْقِمَارُ مِنْ مَفَاخِرِ الْحَيَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي مَجَالِسِ الْقِمَارِ عَارًا.

قَالَ قَتَادَةُ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَيَقْعُدُ حَرِيبًا سَلِيبًا يَنْظُرُ إِلَى مَالِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَكَانَتْ تُورِثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)).

وَكَذَلِكَ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَى.. وَكَانَ أَهْلُ الْحِجَازِ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَى، وَكَانَ الرِّبَى فَاشِيًا فِيهِمْ، وَكَانُوا يُجْحِفُونَ فِيهِ، وَيَبْلُغُونَ إِلَى حَدِّ الْغُلُوِّ وَالْقَسْوَةِ، وَقَدْ رَسَخَ الرِّبَى فِيهِمْ، وَجَرَى مِنْهُمْ مَجْرَى الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي صَارُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّجَارَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَقَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَى}.

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَى مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ يَقُولُ الْغَرِيمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ, فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًى لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالُوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحِلِّ الْمَالِ)).

وَأَمَّا الزِّنَى؛ فَلَمْ يَكُنْ نَادِرًا، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَنْكَرٍ، فَكَانَ مِنَ الْعَادَاتِ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ خَلِيلَاتٍ، وَتَتَّخِذَ النِّسَاءُ أَخِلَّاءَ بِدُونِ عَقْدٍ، وَقَدْ كَانُوا يُكْرِهُونَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى الزِّنَى، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25].

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ..، ثُمَّ قَالَتْ: ((وَالنِّكَاحُ الرَّابِعُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا -أَيْ: عَلَامَةً- فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ)).

قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].

وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيِّ عُرْضَةَ غَبْنٍ وَحَيْفٍ، تُؤْكَلُ حُقُوقُهَا، وَتُبْتَزُّ أَمْوَالُهَا، وَتُحْرَمُ إِرْثَهَا، وَتُعْضَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوْ وَفَاةِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا تَرْضَاهُ، وَتُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ أَوِ الدَّابَّةُ.

وَأَمَّا وَأْدُ الْبَنَاتِ؛ فَقَدْ بَلَغَتْ كَرَاهَةُ الْبَنَاتِ إِلَى حَدِّ الْوَأْدِ.

كَذَلِكَ كَانَ هُنَالِكَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْتُلُ أَوْلَادَهُ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَخَوْفَ الْفَقْرِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ مِنْ بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَكَانَ يَشْتَرِيهِمْ بَعْضُ سَرَاةِ الْعَرَبِ وَأَشْرَافِهِمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْذِرُ إِذَا بَلَغَ بَنُوهُ عَشْرَةً نَحَرَ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ، فَحَذَّرَهُمْ -تَعَالَى- مِنْ هَذَا الْفِعْلِ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)).

قَالَ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)).

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-، فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتِ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنْهُمْ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57].

((قُصَارَى الْقَوْلِ أَنَّ الْقَرْنَ السَّادِسَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْبِعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ كَانَ مِنْ أَحَطِّ أَدْوَارِ التَّارِيخِ، وَمِنْ أَشَدِّهَا ظَلَامًا وَيَأْسًا مِنْ مُسْتَقْبَلِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَصَلَاحِيَتِهَا لِلْبَقَاءِ وَالِازْدِهَارِ)))).

((لَقَدْ قَصَدَ خَلِيلُ اللهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَكَّةَ، وَهِيَ فِي وَادٍ مَحْصُورٍ بَيْنَ جِبَالٍ جَرْدَاءَ، لَيْسَ فِيهِ مَا يَعِيشُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ مَاءٍ وَزَرْعٍ وَمِيَرٍ، وَمَعَهُ زَوْجُهُ هَاجَرُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ؛ فِرَارًا مِنَ الْوَثَنِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي الْعَالَمِ، وَرَغْبَةً فِي تَأْسِيسِ مَرْكَزٍ يُعْبَدُ فِيهِ اللهُ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَيَكُونُ مَنَارًا لِلْهُدَى، وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ، وَنُقْطَةَ انْطِلَاقٍ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالدِّينِ الْخَالِصِ.

تَقَبَّلَ اللهُ هَذَا الْعَمَلَ الْخَالِصَ، وَبَارَكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَأَجْرَى اللهُ الْمَاءَ لِهَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُبَارَكَةِ الصَّغِيرَةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ أُمٍّ وَابْنٍ وَقَدْ تَرَكَهُمَا إِبْرَاهِيمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقَاحِلِ الْمُنْعَزِلِ عَنِ الْعَالَمِ، ثُمَّ كَانَ بِئْرُ زَمْزَمَ وَبَارَكَ اللهُ فِي هَذَا الْمَاءِ.

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ وَدَعْوَةٍ، وَانْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللهِ، وَيَعُودُ إِلَى مَكَّةَ فَيَقْضِي فِيهَا أَيَّامًا ثُمَّ يُغَادِرُهَا، وَنَشَأَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ غُلَامٌ يَسْعَى؛ إِيثَارًا لِحُبِّ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى حُبِّهِ، وَتَحْقِيقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ، وَاسْتَسْلَمَ إِسْمَاعِيلُ لِهَذَا الْأَمْرِ وَرَضِيَ بِهِ، وَفَدَاهُ اللهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَسَلَّمَهُ لِيَكُونَ عَوْنَ أَبِيهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَلِيَكُونَ جَدَّ آخِرِ نَبِيٍّ وَأَفْضَلِ الرُّسُلِ، وَجَدَّ أُمَّةٍ تَضْطَلِعُ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ.

وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَظَلَّ هَذَا الْبَيْتُ آمِنًا دَائِمًا، وَأَنْ يُسَلِّمَ اللهُ أَوْلَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ هُوَ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِشَيْءٍ وَلَا أَكْثَرَ تَقَزُّزًا، وَلَا أَخْوَفَ لِشَيْءٍ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْهَا، فَقَدْ رَأَى مَصِيرَ الْأُمَمِ وَمَصِيرَ الْأُسَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهَا، وَبَعْدَ الْجُهُودِ الْجَبَّارَةِ وَالدَّعَوَاتِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي قَامُوا بِهَا، وَكَيْفَ أَصْبَحَتْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلدُّنْيَا فَرِيسَةً لِلشَّيَاطِينِ الْمُفْسِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الْمُضَلِّلِينَ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَدُعَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ)).

لَقَدْ بَارَكَ اللهُ فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَتَنَامَوْا وَصَارُوا قَبَائِلَ، وَانْتَشَرُوا فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى دِينِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ بَدَأَ النَّقْصُ عِنْدَهُمْ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْبِدَعُ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الشِّرْكَ إِلَى الْعَرَبِ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ((الْبَحِيرَةُ أَنْ يُمْنَعَ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، وَلَا يَحْلِبَهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ)).

قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ -أَيْ: أَمْعَاءَهُ- فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ)).

فِي ((الْمُسْنَدِ)) -أَيْضًا- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أَبُو خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ)).

تَرَكَ الْعَرَبُ دِينَ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ، وَابْتَعَدُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَانْتَشَرَتْ بَيْنَهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَعَدَّدُوا فِيهَا إِلَى حَدٍّ يُثِيرُ السُّخْرِيَةَ، حَيْثُ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي سَفَرِهِ يَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ ثَلَاثَةً لِقِدْرِهِ وَوَاحِدًا يَعْبُدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَلَبَ الشَّاةَ عَلَى كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ عَبَدَهُ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: ((كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةَ، فَلَا نَدَعَ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ)).

وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: ((كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ)).

لَقَدْ عَبَدَ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْكَوَاكِبَ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أَضْرِحَةَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمُ الصَّلَاحُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ} [النجم: 19]، قَالَ: ((كَانَ رَجُلًا صَالِحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ، فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ)).

((لَقَدْ بَقِيَتْ قُرَيْشٌ مُتَمَسِّكَةً بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَبِدِينِ جَدِّهَا إِسْمَاعِيلَ، مُتَمَسِّكَةً بِالتَّوْحِيدِ وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ حَتَّى كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيُّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَأَحْدَثَ فِي الْحَيَوَانَاتِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْيِيبِ وَالتَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَى أَهْلَهَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَفُتِنَ بِهَا، وَجَلَبَ بَعْضَهَا إِلَى مَكَّةَ فَنَصَبَهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا)) .

لَقَدْ بَقِيَتْ فِي الْعَرَبِ بَقَايَا مِنْ سُنَنِ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَتِهِ، مِنْ ذَلِكَ خِصَالُ الْفِطْرَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ كَالِاسْتِنْجَاءِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانِ، وَكَانُوا يَغْتَسِلُونَ لِلْجَنَابَةِ، وَيُغَسِّلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ، وَكَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيَمْسَحُونَ الْحَجَرَ، وَيُلَبُّونَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ))، وَيَقِفُونَ الْمَوَاقِفَ كُلَّهَا، وَيُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَعَمِلُوا بِالْقَسَامَةِ، وَاجْتَنَبَ بَعْضُهُمُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يُغَلِّظُونَ عَلَى النِّسَاءِ أَشَدَّ التَّغْلِيظِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهُمْ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِاللهِ وَبِعَظَمَتِهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِلْأُمُورِ، وَأَنَّهُ الرَّزَّاقُ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَسَائِطَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى، قَالَ -تَعَالَى-: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

كَانَتِ الْحَيَاةُ الْجَاهِلِيَّةُ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَفِي جَمِيعِ أَمَاكِنِهَا وَبِقَاعِهَا قَدْ صَوَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَيْثُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: ((أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعْلِمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فَالْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى انْحِرَافِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَيُشِيرُ إِلَى نَبْذِهَا وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيًّا، وَاخْتِرَاعِ أَنْظِمَةٍ وَقَوَانِينَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، فَحَرَّمُوا الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا الْحَرَامَ.

كَمَا يُوَضِّحُ الْحَدِيثُ الِانْحِرَافَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَالرِّدَّةَ الْكَامِلَةَ عَنِ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.

كَمَا يُشِيرُ الْحَدِيثُ إِلَى الْفَسَادِ الْعَظِيمِ الَّذِي غَطَّى وَجْهَ الْأَرْضِ مِمَّا اسْتَحَقَّ النَّاسُ مَقْتَ اللهِ لَهُمْ جَمِيعًا، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَصْبَحَتِ الْبَشَرِيَّةُ فِي حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى مُنْقِذٍ لَهَا مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمِنَ الْغَيِّ إِلَى الرُّشْدِ، وَمِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَأَرْسَلَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَصَفْوَةَ أَنْبِيَائِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-.

((أُسْرَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَنَسَبُهُ وَأَسْمَاؤُهُ))

لَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ اصْطِفَاءَ النُّبُوَّةِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالنَّاسِ، فَأَمَّا اصْطِفَاءُ النُّبُوَّةِ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ النَّسَبِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ أَعْظَمِ الْبُيُوتِ وَأَشْرَفِهَا وَأَعْرَقِهَا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ الْمَكَانِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ أَحَبِّ بِلَادِ اللهِ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ: ((وَاللهِ! إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ الزَّمَانِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ النَّاسِ؛ فَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)) أَيْ: خَيْرُ النَّاسِ أَهْلُ قَرْنِي، ثُمَّ أَهْلُ الْقَرْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ أَهْلُ الْقَرْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، الْأَوَّلُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أَتْبَاعُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَاعُ أَتْبَاعِهِمْ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ، وَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفًا.

فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهُمْ أَفْضَلُ مَنْ مَشَى عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رُسُلِهِ-، وَ-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

قَبِيلَةُ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالشَّرَفِ، وَرِفْعَةِ الشَّأْنِ، وَالْمَجْدِ الْأَصِيلِ، وَقَدَاسَةِ الْمَكَانِ بَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ.

وَقُرَيْشٌ لَقَبُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَوِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكُلٌّ مِنْ رِجَالَاتِ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ كَانُوا سَادَاتٍ وَأَشْرَافًا فِي زَمَانِهِمْ.

وَقَدِ امْتَازَ مِنْهُمْ قُصَيٌّ بِعِدَّةِ مِيزَاتٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَوَلَّى الْكَعْبَةَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَكَانَتْ إِلَيْهِ حِجَابَتُهَا وَسَدَانَتُهَا -أَيْ: كَانَ بِيَدِهِ مِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ يَفْتَحُهَا لِمَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ-، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ قُرَيْشًا بِبَطْنِ مَكَّةَ، وَأَسْكَنَهُمْ دَاخِلَهَا، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي ضَوَاحِيهَا وَأَطْرَافِهَا مُتَفَرِّقِينَ بَيْنَ قَبَائِلَ أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ -وَالسِّقَايَةُ: مَاءٌ عَذْبٌ مِنْ مَنْقُوعِ التَّمْرِ أَوِ الْعَسَلِ أَوِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِهِ كَانَ يُعِدُّهُ فِي حِيَاضٍ مِنَ الْأَدِيمِ -أَيِ: الْجِلْدِ- لِيَشْرَبَهُ الْحُجَّاجُ، وَالرِّفَادَةُ: طَعَامٌ كَانَ يُصْنَعُ لَهُمْ فِي الْمَوْسِمِ-.

وَقَدْ بَنَى قُصَيٌّ بَيْتًا بِشَمَالَيِ الْكَعْبَةِ عُرِفَ بِـ(دَارِ النَّدْوَةِ)، وَهِيَ دَارُ شُورَى قُرَيْشٍ، وَمَرْكَزُ تَحَرُّكَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَكَانَ لَا يُعْقَدُ نِكَاحٌ وَلَا يَتِمُّ أَمْرٌ إِلَّا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَكَانَ بِيَدِهِ اللِّوَاءُ وَالْقِيَادَةُ، فَلَا تُعْقَدُ رَايَةُ حَرْبٍ إِلَّا بِيَدِهِ، وَكَانَ كَرِيمًا وَافِرَ الْعَقْلِ، صَاحِبَ كَلِمَةٍ نَافِذَةٍ فِي قَوْمِهِ.

أَمَّا ((أُسْرَتُهُ ﷺ؛ فَتُعْرَفُ بِالْأُسْرَةِ الْهَاشِمِيَّةِ، نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ الثَّانِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ وَرِثَ هَاشِمٌ مِنْ مَنَاصِبِ قُصَيٍّ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، ثُمَّ وَرِثَهُمَا أَخُوهُ الْمُطَّلِبُ، ثُمَّ أَوْلَادُ هَاشِمٍ، إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هَاشِمٌ أَعْظَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ، كَامَ يَهْشِمُ الْخُبْزَ -أَيْ: يُفَتِّتُهُ- فِي اللَّحْمِ، فَيَجْعَلُهُ ثَرِيدًا ثُمَّ يَتْرُكُهُ يَأْكُلُهُ النَّاسُ، فَلُقِّبَ بِهَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَهُوَ -أَيْ: هَاشِمٌ- الَّذِي سَنَّ الرِّحْلَتَيْنِ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِسَيِّدِ الْبَطْحَاءِ)).

وَمِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ مَرَّ بِيَثْرِبَ وَهُوَ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ، فَتَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَقَامَ عِنْدَهَا مُدَّةً، ثُمَّ مَضَى إِلَى الشَّامِ وَهِيَ حَامِلٌ فَمَاتَ بِغَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَوَلَدَتْ سَلْمَى ابْنًا بِالْمَدِينَةِ سَمَّتْهُ شَيْبَةَ لِشَيْبٍ فِي رَأْسِهِ، وَنَشَأَ هَذَا الطِّفْلُ بَيْنَ أَخْوَالِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَعْمَامُهُ بِمَكَّةَ، حَتَّى بَلَغَ نَحْوَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ رَاكِبًا خَلْفَهُ ظَنُّوهُ عَبْدَهُ فَقَالُوا: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَاشْتُهِرَ بِذَلِكَ.

وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ، وَأَجْمَلَهُمْ، وَأَعْظَمَهُمْ قَدْرًا، وَقَدْ شَرُفَ فِي زَمَانِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبَ عِيرِ مَكَّةَ، شَرِيفًا مُطَاعًا جَوَادًا، يُسَمَّى بِالْفَيَّاضِ لِسَخَائِهِ، كَانَ يَرْفَعُ مِنْ مَائِدَتِهِ لِلْمَسَاكِينِ وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ، فَكَانَ يُلَقَّبُ بِـ((مُطْعِمِ النَّاسِ فِي السَّهْلِ، وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ)).

وَقَدْ تَشَرَّفَ بِحَفْرِ بِئْرِ زَمْزَمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ دَرَسَهَا جُرْهُمٌ عِنْدَ جَلَائِهِمْ عَنْ مَكَّةَ، وَكَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَفْرِهَا فِي الْمَنَامِ، وَوُصِفَ لَهَ مَوْضِعَهَا فِيهِ.

وَفِي عَهْدِهِ وَقَعَتْ حَادِثَةُ الْفِيلِ، جَاءَ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ مِنَ الْيَمَنِ بِسِتِّينَ أَلْفَ جُنْدِيٍّ مِنَ الْأَحْبَاشِ، وَمَعَهُ بَعْضُ الْفِيَلَةِ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى (وَادِي مُحَسِّرٍ) بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَتَهَيَّأَ لِلْهُجُومِ عَلَى مَكَّةَ، أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ فَقَطْ.

((وَحَادِثُ الْفِيلِ حَادِثٌ عَظِيمٌ، لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ فِي تَارِيخِ الْعَرَبِ، وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى ظُهُورِ حَادِثٍ أَكْبَرَ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُرِيدُ بِالْعَرَبِ خَيْرًا، وَأَنَّ لِلْكَعْبَةِ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنْ بُيُوتِ الدُّنْيَا وَمَرَاكِزِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ نِيطَتْ بِهَا رِسَالَةٌ وَدَوْرٌ فِي تَارِيخِ الدِّيَانَاتِ وَمَصِيرِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَدِّيَهُ وَأَنْ تَقُومَ بِهِ.

وَأَظْهَرَ حَادِثُ الْفِيلِ إِيمَانَ قُرَيْشٍ بِمَكَانَةِ الْبَيْتِ عِنْدَ اللهِ، وَيَتَجَلَّى هَذَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ مَكَانَةً عِنْدَ اللهِ، وَأَنَّهُ حَامِيهِ وَمَانِعُهُ فِي حَدِيثٍ دَارَ بَيْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -جَدِّ الرَّسُولِ وَسَيِّدِ قُرَيْشٍ- وَأَبْرَهَةَ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَاسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَعْظَمَهُ أَبْرَهَةُ، وَنَزَلَ لَهُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: ((حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي)).

فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ زَهِدَ فِيهِ أَبْرَهَةُ، وَتَفَادَتْهُ عَيْنُهُ وَقَالَ: ((أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ لَا تُكَلِّمْنِي فِيهِ؟!!)).

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: ((إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ)).

فَقَالَ أَبْرَهَةُ: ((مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي)).

فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: ((أَنْتَ وَذَاكَ)))).

فَأَمَرَ أَبْرَهَةُ أَنْ يُرَدَّ إِبِلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَلَّدَهَا -وَتَقْلِيدُ الْبُدْنِ: أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهَا شِعَارٌ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهَا هَدْيٌ-، فَقَلَّدَهَا النِّعَالَ وَأَشْعَرَهَا -أَيْ: أَعْلَمَهَا، وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ جِلْدَهَا، أَوْ أَنْ يَطْعَنَهَا فِي أَسْنِمَتِهَا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّمُ، وَحَتَّى يُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ-، فَجَعَلَهَا هَدْيًا، وَبَثَّهَا فِي الْحَرَمِ، كَيْ يُصَابَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَغْضَبَ رَبُّ الْحَرَمِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللهَ وَيَسْتَنْصِرُهُ، وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ.

وَأَشَارَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى قَوْمِهِ بِالتَّفَرُّقِ فِي الشِّعَابِ، وَالتَّحَرُّزِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ أَيْ مِنْ أَذَاهُ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِأَبْرَهَةَ وَجُنُودِهِ، وَأَنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَحْمِيهِ.

((إِذَنْ؛ فَلَا سُلْطَانَ عَلَيْهِ لِزَاحِفٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِمُهَاجِمٍ، وَأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ فِي بَيْتِهِ وَدِينِهِ، وَكَانَ مِنْ خَبَرِ هَذَا الْحَادِثِ أَنَّ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَامِلَ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْيَمَنِ بَنَى بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً عَظِيمَةً سَمَّاهَا (الْقُلَّيْسَ)، وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ، وَغَارَ عَلَى الْكَعْبَةِ أَنْ تَكُونَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَشُدُّونَ إِلَيْهَا الرِّحَالَ، وَيَأْتُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَكَانُ وَتِلْكَ الْمَكَانَةُ لِكَنِيسَتِهِ.

وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ رَضَعُوا بِلِبَانِ حُبِّ الْكَعْبَةِ وَتَعْظِيمِهَا، لَا يَعْدِلُونَ بِهَا بَيْتًا، وَلَا يَرَوْنَ عَنْهَا بَدِيلًا، وَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ، وَتَحَدَّثُوا بِهِ.

أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ مُتَهَيِّئًا لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَبَرَكَ الْفِيلُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، وَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَهُنَاكَ أَرْسَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا أَحْجَارٌ يَحْمِلُهَا، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْحَبَشَةِ هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي مِنْهُ جَاءُوا، وَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ تَسْقُطُ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ، فَلَمْ يَصِلْهَا إِلَّا مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، وَانْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، قَالَ -تَعَالَى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].

فَلَمَّا رَدَّ اللهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، وَأَصَابَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ نِقْمَةٍ أَعْظَمَتِ الْعَرَبُ قُرَيْشًا وَقَالُوا: هُمْ أَهْلُ اللهِ، قَاتَلَ اللهُ عَنْهُمْ، وَكَفَاهُمُ الْعَدُوَّ، وَازْدَادُوا تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ، وَإِيمَانًا بِمَكَانِهِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى-.

وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً مِنَ اللهِ، وَمُقَدِّمَةً لِبِعْثَةِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ فِي مَكَّةَ، وَيُطَهِّرُ الْكَعْبَةَ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا مِنْ رِفْعَةٍ وَشَانٍ، وَتَكُونُ لِدِينِهِ صِلَةٌ عَمِيقَةٌ دَائِمَةٌ بِهَذَا الْبَيْتِ.

وَدَلَّ هَذَا الْحَادِثُ عَلَى قُرْبِ ظُهُورِ هَذَا النَّبِيِّ وَبِعْثَتِهِ، وَاسْتَعْظَمَ الْعَرَبُ هَذَا الْحَادِثَ، وَكَانَ جَدِيرًا بِالتَّعْظِيمِ فَأَرَّخُوا بِهِ، وَقَالُوا: وَقَعَ هَذَا فِي عَامِ الْفِيلِ، وَوُلِدَ فُلَانٌ فِي عَامِ الْفِيلِ، وَوَقَعَ هَذَا بَعْدَ عَامِ الْفِيلِ بِكَذَا مِنَ السِّنِينَ، وَعَامُ الْفِيلِ يُوَافِقُ سَنَةَ سَبْعِينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ مِنَ الْمِيلَادِ (570م).

وَمَا مَضَى عَلَى وَقْعَةِ الْفِيلِ خَمْسُ سَنَوَاتٍ حَتَّى انْتَقَمَ اللهُ مِنَ الْأَحْبَاشِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أَزَالَ حُكْمَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، فَخَلَتِ الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ آثَارِ النُّفُوذِ النَّصْرَانِيِّ، وَاسْتِعْمَارِ الْأَحْبَاشِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ)).

((أَمَّا وَالِدُهُ ﷺ؛ فَعَبْدُ اللهِ وَكَانَ أَحْسَنَ أَوْلَادِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَعَفَّهُمْ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الذَّبِيحُ؛ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَ، وَبَدَتْ آثَارُهَا نَازَعَتْهُ قُرَيْشٌ، فَنَذَرَ لَئِنْ آتَاهُ اللهُ عَشْرَةَ أَبْنَاءٍ وَبَلَغُوا أَنْ يَمْنَعُوهُ لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَهُمْ، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللهِ، فَذَهَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِهِ لِيَذْبَحَهُ، فَمَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ لَا سِيَّمَا إِخْوَانُهُ وَأَخْوَالُهُ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَبْدِ اللهِ، وَابْنُ الْمَفْدِيَّيْنِ؛ فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَفُدِيَ عَبْدُ اللهِ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ.

وَاخْتَارَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، وَكَانَتْ أَفْضَلَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شَرَفًا وَمَوْضِعًا، وَكَانَ أَبُوهَا وَهْبٌ سَيِّدَ (بَنِي زُهْرَةَ) نَسَبًا وَشَرَفًا.

فَتَمَّتِ الْخِطْبَةُ وَالزَّوَاجُ، وَبَنَى بِهَا عَبْدُ اللهِ بِمَكَّةَ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ أَرْسَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوِ الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ رَاجِعًا مِنَ الشَّامِ، وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ ﷺ عَلَى الْأَصَحِّ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ)).

لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ وَالِدُ الرَّسُولِ ﷺ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ابْنَ شَهْرَيْنِ، رَوَى الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ -أَيْ: حَامِلٌ بِهِ-)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُمَّهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ ﷺ تُوُفِّيَ أَبُوهُ عَبْدُ اللهِ وَهُوَ حَمْلٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاخْتُلِفَ فِي وَفَاةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ هَلْ تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ حَمْلٌ أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ حَمْلٌ)).

يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ ﷺ وُلِدَ يَتِيمًا قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الضُّحَى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ} [الضحى: 6].

وَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ وَالِدُ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ((هَذَا هُوَ أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ)) )).

 وَجَمِيعُ مَا خَلَّفَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -يَعْنِي: مَا تَرَكَهُ مِيرَاثًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ- هُوَ خَمْسَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَقِطْعَةُ غَنَمٍ، وَجَارِيَةٌ حَبَشِيَّةٌ اسْمُهَا بَرَكَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَيْمَنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

أُمُّ أَيْمَنَ الْحَبَشِيَّةُ حَاضِنَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا، وَهَاجَرَتْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ، زَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَرُزِقَتْ مِنْهُ ابْنَهَا أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَتُوُفِّيَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ((وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً -أَيْ: أَمَةً- لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ كَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضِنُهُ، فَهِيَ حَاضِنَتُهُ ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَعْتَقَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- )).

((النَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أَبُو سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، فَأَشْرَفُ الْقَوْمِ قَوْمُهُ، وَأَشْرَفُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ، وَأَشْرَفُ الْأَفْخَاذِ فَخِذُهُ ﷺ.

فَهُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.

هَذَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ نَسَبِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا النَّسَبُ الَّذِي سُقْنَاهُ إِلَى عَدْنَانَ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا نِزَاعَ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ)).

وَأَمَّا أَصَالَةُ نَسَبِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدِ اخْتَارَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ، وَأَزْكَى الْقَبَائِلِ، وَأَفْضَلِ الْبُطُونِ، فَكَانَ ﷺ أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ وَكَرَمُ بَلَدِهِ، وَمَنْشَؤُهُ فَمِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَلَا بَيَانِ مُشْكِلٍ، وَلَا خَفِيٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وَسُلَالَةُ قُرَيْشٍ وَصَمِيمُهَا، وَأَشْرَفُ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَكْرَمِ بِلَادِ اللهِ عَلَى اللهِ وَعَلَى عِبَادِهِ)).

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ)).

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَأَلَهُ: ((كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)).

وَلَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ ﷺ يَتَنَقَّلُ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ الطَّاهِرَاتِ، لَمْ يَمَسَّ نَسَبَهُ الشَّرِيفَ شَيْءٌ مِنْ سِفَاحِ وَأَدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ هُوَ ﷺ مِنْ سُلَالَةٍ كُلُّهُمْ سَادَةٌ أَشْرَافٌ أَطْهَارٌ.

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي، لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ)) )).

فَهُوَ ﷺ أَكْرَمُ خَلْقِ اللهِ، وَأَفْضَلُ رُسُلِهِ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَدْنَانُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالضَّبْطِ عَدَدُ وَلَا أَسْمَاءُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

أَمَّا أُمُّهُ ﷺ فَهِيَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ، وَكِلَابٌ هُوَ الْجَدُّ الْخَامِسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَأَبُوهُ وَأُمُّهُ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي كِلَابٍ، وَاسْمُهُ حَكِيمٌ، وَقِيلَ عُرْوَةُ، لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّيْدِ لِلْكِلَابِ فَعُرِفَ بِهَا، وَكَانَ أَبُوهَا وَهْبٌ سَيِّدَ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وَشَرَفًا.

أَسْمَاءُ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرَةٌ، وَكَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ فِي مَعْهُودِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى، وَالْعَرَبُ مِنْ عَادَاتِهَا إِطْلَاقُ الْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ ذَا شَأْنٍ عَظِيمٍ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ.

وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْعَدِيدَةُ وَالصِّفَاتُ الْحَمِيدَةُ ذَاتُ الْمَعَانِي الْفَرِيدَةِ، فَكَانَتْ أَسْمَاؤُهُ ﷺ دَالَّةً كُلَّ الدِّلَالَةِ عَلَى مَعَانِيهَا، وَمُتَجَسِّدَةً حَقِيقَةً فِي سُلُوكِهِ وَشُؤُونِهِ.

وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ   =       إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

فَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَلَهَمُهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ سَمَّوْهُ مُحَمَّدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لِيَلْتَقِيَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ، وَلِيَتَطَابَقَ الِاسْمُ وَالْمُسَمَّى فِي السُّورَةِ وَالْمَعْنَى، كَمَا قَالَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَيُرْوَى لِحَسَّانٍ:

وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ    =       فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: أَحْمَدُ.

يَا أَحْمَدَ الدُّنْيَا وَقَدْ يَغْنَى بِهَا    =     عَنْ كُنْيَةٍ وَاسْمُ الْعَظِيمِ عَظِيمُ

وَهُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ الْمَسِيحُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6].

لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا    =     فَأَكْرَمُ خَلْقِ اللهِ فِي النَّاسِ أَحْمَدُ

مُحَمَّدٌ: هُوَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا بَعْدَ حَمْدٍ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى كَثْرَةِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ لَهُ.

وَأَحْمَدُ: هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ لِرَبِّهِ أَفْضَلُ مِنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ غَيْرِهِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: الْحَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيَحْشُرَ النَّاسَ.

وَمِنْهَا: الْمَاحِي، وَهُوَ الَّذِي مَحَا اللهُ بِهِ الْكُفْرَ.

وَمِنْهَا: الْعَاقِبُ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي الْخَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَقَبَ الْأَنْبِيَاءَ، وَكَانَ آخِرَهُمْ ﷺ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَوْلُهُ ﷺ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: الْمُتَوَكِّلُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالِهِ.

قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: ((لَقِيتُ عَبْدَ اللهَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ)).

فَقَالَ: ((أَجَلْ وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللهُ بِهِ بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ الرَّحْمَةِ.

وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ       =        هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ

فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَرَحِمَ بِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي -وَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبِ، وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلْأَنْبِيَاءِ-، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ هُوَ الَّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَأَنَا الْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الشَّمَائِلِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ الْمُلَّا عَلِيٌّ الْقَارِي -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَوْنِهِ رَسُولَ الرَّحْمَةِ وَكَوْنِهِ رَسُولَ الْمَلْحَمَةِ؛ إِذْ هُوَ سِلْمٌ لِأَوْلِيَائِهِ حَرْبٌ لِأَعْدَائِهِ ﷺ )).

وَمِنْهَا: الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

قَالَ جُبَيْرٌ: ((وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا كُنْيَتُهُ ﷺ؛ فَقَدْ كُنِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا أَبَا الْقَاسِمِ!)).

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ الرَّجُلُ: ((إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَتِلْكَ هِيَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ الطَّيِّبَّةِ الْحَسَنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا الْعَظِيمَةِ الرَّائِعَةِ، فَهُوَ ﷺ عَظِيمٌ مُكَرَّمٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَخُلُقِهِ وَكُلِّ شَمَائِلِهِ.

((بِشَارَاتُ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ))

((بِشَارَاتُ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ))

لَقَدْ بَشَّرَ النَّبِيُّونَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمُحَمَّدٍ ﷺ أَقْوَامَهُمْ، وَأَمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ فِيمَا دَعَا بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].

وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6].

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟)).

قَالَ: ((دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ الْجَعْدِ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ أَرَادَ بَدْءَ أَمْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاشْتِهَارَ ذِكْرِهِ وَانْتِشَارَهُ، فَذَكَرَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْعَرَبُ، ثُمَّ بُشْرَى عِيسَى الَّذِي هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا بِهِ -أَيْضًا-.

أَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَأَمْرُهُ مَشْهُورٌ مَذْكُورٌ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَمَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ -أَيْ: مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ فِي مَرْحَلَةِ الطِّينِ-، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ-)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْبَزَّارُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ صِفَةُ النَّبِيِّ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُهْبَانُ النَّصَارَى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: ((أَجَلْ، وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ -أَيْ: حَافِظًا لَهُمْ-، وَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ -أَيْ: لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْخِصَامِ فِي الْأَسْوَاقِ-، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ -يَعْنِي: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي غَيَّرَتْهَا الْعَرَبُ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ-، وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا)).

((وِلَادَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ ))

((وُلِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ فِي مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ  أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ مَوْلِدُهُ ﷺ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السِّيرَةِ، وَقِيلَ: ثَامِنُهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ عَامَ الْفِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَدْ ظَهَرَتْ بَعْضُ الْعَلَامَاتِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ ﷺ؛ مِنْ ذَلِكَ: ظُهُورُ نُورٍ مِنْ أُمِّهِ ﷺ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنِّي عِنْدَ اللهِ مَكْتُوبٌ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.. وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ)).

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُمْ قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ)).

فَقَالَ ﷺ: ((دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ بُصْرَى -وَبُصْرَى: مِنْ أَرْضِ الشَّامِ-)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَتَخْصِيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نُورِهِ  ﷺ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِقْرَارِ دِينِهِ وَثُبُوتِهِ بِبِلَادِ الشَّامِ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا نَزَلَ بِدِمَشْقَ بِالْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ مِنْهَا كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)).

وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ مُعَاذٌ: ((وَهُمْ بِالشَّامِ)) )) .

وَمِمَّا وَقَعَ أَيْضًا عِنْدَ مَوْلِدِهِ ﷺ: طُلُوعُ نَجْمِهِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ ﷺ؛ فَعَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَاللهِ إِنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ -وَالْيَفَعَةُ: هُوَ الَّذِي شَارَفَ الِاحْتِلَامَ مِنَ الْغِلْمَانِ وَلَمْ يَحْتَلِمْ- ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَعْقِلُ كُلَّ مَا سَمِعْتُ، إِذْ سَمِعْتُ يَهُودِيًّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ بِيَثْرِبَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟

قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ((السِّيرَةِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: ((قَالَ لِي حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ: قَدْ خَرَجَ فِي بَلَدِكَ نَبِيٌّ أَوْ هُوَ خَارِجٌ، قَدْ خَرَجَ نَجْمُهُ فَارْجِعْ فَصَدِّقْهُ وَاتَّبِعْهُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَمَّا خِتَانُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَدَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَتَنَهُ يَوْمَ سَابِعِهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((الِاسْتِيعَابِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً)).

((رَضَاعُ النَّبِيِّ ﷺ ))

وُلِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ فِي مَكَّةَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، الثَّامِنِ -وَيُقَالُ: الثَّانِيَ عَشَرَ- مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَامَ الْفِيلِ، وَهُوَ يُوَافِقُ الْيَوْمَ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ أَبْرِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ ((22/4/571م)، وَكَانَتْ قَابِلَتُهُ  -أَيْ: مُوَلِّدَتُهُ- (الشَّفَّاءَ بِنْتَ عَوْفٍ) أو (الشِّفَاءَ بِنْتَ عَوْفٍ) -وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ-.

وَلَمَّا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَأَرْسَلَتْ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُبَشِّرُهُ بِوَالِدَتِهِ ﷺ، فَجَاءَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مُسْتَبْشِرًا مَسْرُورًا، وَحَمَلَهُ فَأَدْخَلَهُ الْكَعْبَةَ، وَشَكَرَ اللهَ وَدَعَاهُ، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا رَجَاءَ أَنْ يُحْمَدَ، وَعَقَّ عَنْهُ وَخَتَنَهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَأَطْعَمَ النَّاسَ كَمَا كَانَ الْعَرَبُ يَفْعَلُونَ.

وَكَانَتْ حَاضِنَتَهُ (أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ) -وَهِيَ عَرَبِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ حَبَشِيَّةً- أَمَّا بَرَكَةُ الْحَبَشِيَّةُ، فَهِيَ جَارِيَةُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، جَاءَتْ مَعَهَا مِنَ الْحَبَشَةِ، فَكَانَتْ حَاضِنَتَهُ أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ مَوْلَاةُ وَالِدِهِ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ بَقِيَتْ حَتَّى أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ أَوْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَأَوَّلُ مَنْ أَرْضَعَتْهُ ﷺ بَعْدَ أُمِّهِ (ثُوَيْبَةُ) مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ بِلَبَنِ ابْنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: مَسْرُوحٌ، وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ قَدْ أَرْضَعَتْ قَبْلَهُ ﷺ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَعْدَهُ ﷺ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ؛ فَهُمْ إِخْوَتُهُ ﷺ مِنَ الرَّضَاعَةِ.

وَقَدْ أَعْتَقَ أَبُو لَهَبٍ أَمَتَهُ ثُوَيْبَةَ فَرَحًا بِوِلَادَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ وَلَكِنَّهُ صَارَ مِنْ أَلَدِّ أَعْدَائِهِ حِينَمَا قَامَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

كَانَتْ ((أَوَّلَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ ﷺ أُمُّهُ آمِنَةُ، قِيلَ: أَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعًا، وَقِيلَ: تِسْعًا، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ ثُوَيْبَةُ لَبَنَ ابْنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: مَسْرُوحٌ، أَرْضَعَتْهُ أَيَّامًا قَبْلَ أَنْ تَقْدُمَ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ)).

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ)).

قَالَ: ((بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟!)) -وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِثْبَاتٍ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ، أَوِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ فَيَكُونُ تَحْرِيمُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا رَبِيبَتُهُ ﷺ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ-.

قَالَ: ((بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟))

قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي -وَالرَّبِيبَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ- لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ؛ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).

ثُمَّ الْتَمَسَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَرَاضِعَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ أَنْ يَلْتَمِسُوا لَهُ مُرْضِعَةً مِنَ الْبَادِيَةِ.

وَسَبَبُ الْتِمَاسِ الْمَرَاضِعِ لِأَوْلَادِهِمْ أُمُورٌ ذَكَرَهَا السُّهَيْلِيُّ؛ فَمِنْهَا: لِيَنْشَأَ الطِّفْلُ فِي الْأَعْرَابِ فَيَكُونَ أَفْصَحَ لِلِسَانِهِ، وَلِيَكُونَ أَجْلَدَ لِجِسْمِهِ، وَأَجْدَرَ أَلَّا يُفَارِقَ الْهَيْئَةَ الْمَعِدِّيَّةَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اخْشَوْشِنُوا وَاخْشَوْشِبُوا وَاخْلَوْلِقُوا، وَتَمَعْدَدُوا، فَكَأَنَّكُمْ مَعَدٌّ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ)). أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي ((الْمُشْكِلِ)) عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَحَتَّى يَكُونَ أَنْجَبَ لِلْوَلَدِ وَأَصْفَى لِلذِّهْنِ.

فَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْمَرَاضِعَ لِمَوَالِيدِهِمْ فِي الْبَوَادِي؛ إِبْعَادًا لَهُمْ عَنْ أَمْرَاضِ الْحَوَاضِرِ؛ حَتَّى تَشْتَدَّ أَعْصَابُهُمْ، وَلِيُتْقِنُوا اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ فِي مَهْدِهِمْ.

وَقَدَّرَ اللهُ أَنْ جَاءَتْ نِسْوَةٌ مِنْ (بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ) يَطْلُبْنَ الرُّضَعَاءَ، فَعُرِضَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يُرْضِعْنَهُ لِأَجْلِ يُتْمِهِ، وَلَمْ تَجِدْ إِحْدَى النِّسْوَةِ -وَهِيَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ- رَضِيعًا، فَأَخَذَتْهُ ﷺ، وَحَظِيَتْ بِهِ حُظْوَةً اغْتَبَطَ لَهَا الْآخَرُونَ.

وَاسْمُ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَالِدِ حَلِيمَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَاسْمُ زَوْجِهَا: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكِلَاهُمَا مِنْ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَأَوْلَادُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى إِخْوَةُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ، وَأُنَيْسَةُ، وَجُذَامَةُ، وَضُبِطَ -أَيْضًا- جِذَامَةُ، وَهِيَ الشَّيْمَاءُ، لَقَبٌ عَلَى اسْمِهَا، وَكَانَتْ تَحْضِنُ رَسُولَ اللهِ ﷺ.

وَقَدْ دُرَّتِ الْبَرَكَاتُ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ مُدَّةَ وُجُودِهِ ﷺ بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَرَكَاتِ: أَنَّ حَلِيمَةَ لَمَّا جَاءَتْ إِلَى مَكَّةَ كَانَتِ الْأَيَّامُ أَيَّامَ جَدْبٍ وَقَحْطٍ، وَكَانَتْ مَعَهَا أَتَانٌ كَانَتْ أَبْطَأَ دَابَّةٍ فِي الرَّكْبِ مَشْيًا؛ لِأَجْلِ الضَّعْفِ وَالْهُزَالِ، وَكَانَتْ مَعَهَا نَاقَةٌ لَا تُدِرُّ بِقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ، وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ يَبْكِي وَيَصْرُخُ اللَّيْلَ بِطُولِهِ لِأَجْلِ الْجُوعِ لَا يَنَامُ، وَلَا يَتْرُكُ أَبَوَيْهِ يَنَامَانِ، فَلَمَّا جَاءَتْ حَلِيمَةُ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى رَحْلِهَا وَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا؛ أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَاهَا بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رُوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ ابْنُهَا الصَّغِيرُ حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ نَامَا، وَقَامَ زَوْجُهَا إِلَى النَّاقَةِ فَوَجَدَهَا حَافِلًا بِاللَّبَنِ، فَحَلَبَ مِنْهَا مَا انْتَهَيَا بِشُرْبِهِ رِيًّا وَشِبَعًا، ثُمَّ بَاتَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ.

وَلَمَّا خَرَجَا رَاجِعَيْنِ إِلَى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ رَكِبَتْ حَلِيمَةُ تِلْكَ الْأَتَانَ، وَحَمَلَتْ مَعَهَا النَّبِيَّ ﷺ، فَأَسْرَعَتِ الْأَتَانُ حَتَّى قَطَعَتْ بِالرَّكْبِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ لُحُوقَهَا شَيْءٌ مِنَ الْحُمُرِ، وَلَمَّا قَدِمَا دِيَارَهُمَا -دِيَارَ بَنِي سَعْدٍ- وَكَانَتْ أَجْدَبَ أَرْضِ اللهِ؛ كَانَتْ غَنَمُهُمَا تَرُوحُ عَلَيْهِمَا شِبَاعًا، مُمْتَلِئَةَ الْخَوَاصِرِ بِالْعَلَفِ، وَمُمْتَلِئَةَ الضُّرُوعِ بِاللَّبَنِ، فَكَانَا يَحْلُبَانِ وَيَشْرَبَانِ، وَمَا يَحْلُبُ إِنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، فَلَمْ يَزَالَا يَعْرِفَانِ مِنَ اللهِ الزِّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتَّى اكْتَمَلَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعَةِ، وَمَضَتْ سَنَتَانِ فَفَطَمَتْهُ حَلِيمَةُ، وَقَدِ اشْتَدَّ وَقَوِيَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.

وَكَانَتْ حَلِيمَةُ تَأْتِي بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى أُمِّهِ وَأُسْرَتِهِ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَرْجِعُ بِهِ إِلَى بَادِيَتِهَا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَلَمَّا اكْتَمَلَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعَةِ، وَفَطَمَتْهُ، وَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهِ؛ حَرَصَتْ عَلَى بَقَائِهِ ﷺ عِنْدَهَا؛ لِمَا رَأَتْ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ، فَطَلَبَتْ مِنْ أُمِّ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ تَتْرُكَهُ عِنْدَهَا حَتَّى يَغْلُظَ؛ فَإِنَّهَا تَخَافُ عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ، فَرَضِيَتْ أُمُّهُ ﷺ بِذَلِكَ، وَرَجَعَتْ بِهِ حَلِيمَةُ إِلَى بَيْتِهَا مُسْتَبْشِرَةً مَسْرُورَةً، وَبَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَهَا بِعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ سَنَتَيْنِ.

ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ غَرِيبَةٌ أَحْدَثَتْ خَوْفًا وَذُعْرًا فِي حَلِيمَةَ وَزَوْجِهَا، حَتَّى رَدَّا النَّبِيَّ ﷺ إِلَى أُمِّهِ، وَتِلْكَ الْحَادِثَةُ هِيَ شَقُّ صَدْرِهِ ﷺ.

لَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ ﷺ عِنْدَ حَلِيمَةَ حَتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ ﷺ وَفَطَمَتْهُ، وَكَانَ ﷺ يَشِبُّ شَبَابًا لَا يُشْبِهُ الْغِلْمَانَ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا كَأَنَّهُ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ.

قَالَتْ حَلِيمَةُ: ((فَلَمْ يَزَلِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يُرِينَا الْبَرَكَةَ وَنَتَعَرَّفُهَا حَتَّى بَلَغَ ﷺ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لَا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ.

قَالَتْ: فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرَيْنِ لَهَا، وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا؛ لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ، وَقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حَتَّى يَغْلُظَ؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ.          

قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ))، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَهَكَذَا عَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ.

((حَادِثَةُ شَقِّ صَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَوَفَاةُ أُمِّهِ وَجَدِّهِ))

أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَنِي سَعْدٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَشُقَّ عَنْ فُؤَادِهِ هُنَاكَ، فَرَدَّتْهُ حَلِيمَةُ إِلَى أُمِّهِ وَعُمْرُهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا -وَالْبَهْمُ: جَمْعُ بَهْمَةٍ، وَهِيَ وَلَدُ الضَّأْنِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى- فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا، وَلَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يَا أَخِي، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا.

فَانْطَلَقَ أَخِي وَمَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَائِرَانِ أَبْيَضَانِ كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟!

قَالَ: نَعَمْ.

فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي لِلْقَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ، فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلْقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّاهَا -أَيْ: نَثَرَاهَا- فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ -الْحَوْصُ: الْخِيَاطُةُ- فَحَاصَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ، وَاجْعَلْ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِهِ فِي كِفَّةٍ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَإِذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْأَلْفِ فَوْقِي أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ -أَيْ: يَسْقُطَ- عَلَيَّ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمَالَ بِهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَا وَتَرَكَانِي وَفَرِقْتُ -أَيْ: خِفْتُ- فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي -يَعْنِي: إِلَى حَلِيمَةَ- فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَأَشْفَقَتْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُلْبِسَ بِي، فَقَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللهِ! فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَهَا، فَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، وَرَكِبَتْ خَلْفِي، حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي، فَقَالَتْ: أَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثَتْهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا -أَيْ: لَمْ يَرُعْ آمِنَةَ وَلَمْ يُفْزِعْهَا ذَلِكَ- فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي -يَعْنِي: نُورًا- أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلْقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ -أَيْ: جَمَعَهُ- وَضَمَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ؛ يَعْنِي: ظِئْرَهُ -وَالظِّئْرُ: الْمُرْضِعَةُ لِغَيْرِ وَلَدِهَا- فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ -أَيْ: مُتَغَيِّرُهُ-)).

قَالَ أَنَسٌ: ((وَقَدْ كُنْتُ أَرَى ذَلِكَ الْمَخِيطَ فِي صَدْرِهِ ﷺ )).

بَعْدَ حَادِثِ شَقِّ الصَّدْرِ رَدَّتِ السَّعْدِيَّةُ رَسُولَ اللهِ ﷺ إِلَى أُمِّهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهَا فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ تَزُورُ أَخْوَالَهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: ((قَدِمَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ أُمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى أَخْوَالِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ ﷺ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتُّ سِنِينَ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ)).

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ ﷺ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتُّ سِنِينَ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَا خِلَافَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِالْأَبْوَاءِ مُنْصَرَفَهَا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ، وَلَمْ يَسْتَكْمِلْ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ سِنِينَ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ -بَعْدُ- يَزُورُ قَبْرَ أُمِّهِ؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((زَارَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي)).

كَانَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ أُمُّ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ خَرَجَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهَا أُمُّ أَيْمَنَ، وَهِيَ حَاضِنَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ آمِنَةُ وَدُفِنَتْ بِالْأَبْوَاءِ؛ أَرْجَعَتْ أُمُّ أَيْمَنَ النَّبِيَّ ﷺ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ مَوْلَاتُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ، وَاسْمُهَا بَرَكَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَتْ حَاضِنَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَعْتَقَهَا، وَزَوَّجَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).

لَمَّا تُوُفِّيَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ أَمُّ النَّبِيِّ ﷺ رَجَعَتْ أُمُّ أَيْمَنَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى مَكَّةَ، فَضَمَّهُ وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَرَقَّ عَلَيْهِ رِقَّةً لَمْ يَرِقَّهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ يُقَرِّبُهُ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا خَلَا وَإِذَا نَامَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا قَالَ: عَلَيَّ بِابْنِي، فَيُؤْتَى بِهِ ﷺ إِلَيْهِ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ كِنْدِيرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((حَجَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:

رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدًا    =       رُدَّهُ إِلَيَّ وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا

فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟

فَقَالُوا: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ بَعَثَ بِابْنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ فِي حَاجَةٍ إِلَّا أَنْجَحَ فِيهَا -أَيْ: إِلَّا إِذَا قَضَاهَا لَهُ- وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ وَالْإِبِلُ فَاعْتَنَقَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ جَزِعْتُ عَلَيْكَ جَزَعًا لَمْ أَجْزَعْهُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ، وَاللهِ! لَا أَبْعَثُكَ فِي حَاجَةٍ أَبَدًا، وَلَا تُفَارِقُنِي بَعْدَ هَذَا أَبَدًا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي ((الطَّبَقَاتِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى الْفِرَاشِ، فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّروهُ عَنْهُ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: ((دَعُوا ابْنِي يَجْلِسُ؛ فَوَاللهِ إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ)).

وَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ ﷺ ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ تُوُفِّيَ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ثُمَّ كَانَ ﷺ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ﷺ ثَمَانِي سِنِينَ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَتُوُفِّيَ وَلِرَسُولِ ﷺ نَحْوُ ثَمَانِي سِنِينَ)).

انْتَقَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى كَفَالَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عُمُرُهُ -حِينَئِذٍ- ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ، وَقَدْ أَحَاطَهُ أَبُو طَالِبٍ أَتَمَّ حِيَاطَةٍ، وَنَصَرَهُ حِينَ بَعَثَهُ اللهُ -تَعَالَى- أَعَزَّ نَصْرٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَمِرًّا عَلَى شِرْكِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَخَفَّفَ اللهُ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِهِ؛ فَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالضَّحْضَاحُ: مَا رَقَّ مِنَ الْمَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى نَحْوِ الْكَعْبَيْنِ، وَالْكَعْبُ: الْعَظْمُ الْبَارِزُ فِي جَانِبِ الرِّجْلِ، وَفِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الضَّحْضَاحُ لِلنَّارِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي نَارٍ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَقَطْ تَخْفِيفًا لِعَذَابِهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((سَفَرُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ عَمِّهِ إِلَى الشَّامِ، وَرَعْيُهُ لِلْغَنَمِ))

عِنْدَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً خَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِهِ ﷺ؛ لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِهِ إِذَا تَرَكَهُ بِمَكَّةَ، فَرَأَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْآيَاتِ فِيهِ ﷺ مَا زَادَ عَمَّهُ فِي الْوَصَاةِ بِهِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفَهُ (الرَّاهِبُ بَحِيرَا)، وَحَرَصَ عَلَى رَدِّهِ خَوْفًا عَلَيْهِ.

وَبَحِيرَا رَاهِبٌ نَسْطُورِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ أَرْيُوسَ، وَأَرْيُوسُ قَسٌّ نَصْرَانِيٌّ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْمِيلَادِيِّ، ثَبَتَ عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، وَرَفَضَ وَأَتْبَاعُهُ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ، وَعَدُّوا التَّثْلِيثَ شِرْكًا وَتَحْرِيفًا لِدِينِ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ، فَكَانُوا يُنْكِرُونَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَقَدِ اضْطَهَدَهُمُ الرُّومَانُ وَنَكَّلُوا بِهِمْ، وَشَنُّوا عَلَيْهِمْ حَرْبًا أَبَادُوهُمْ مِنْ خِلَالِهَا، وَأَخْفَوْا هَذِهِ الْحِقْبَةَ مِنَ التَّارِيخِ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الدَّلَائِلِ))، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ))، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ سِوَى ذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فِيهِ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا شَارَفُوا -وَشَارَفَ الشَّيْءَ أَيْ: دَنَا مِنْهُ وَقَارَبَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ- فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ -يَعْنِي: بَحِيرَا- هَبَطُوا -أَيْ: نَزَلُوا- فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟

قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ -وَالْعَقَبَةُ: الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ- لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ -وَغُضْرُوفُ الْكَتِفِ: هُوَ رَأْسُ لَوْحِهِ-.

ثُمَّ رَجَعَ الرَّاهِبُ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ -أَيِ: الرَّسُولُ ﷺ- فِي رِعْيَةِ الْإِبِلَ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ -أَيْ: إِلَى الرَّسُولِ ﷺ-، فَأَقْبَلَ ﷺ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ -أَيْ: إِلَى ظِلِّهَا- فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَحِيرَا: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.

قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَلَّا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ عَرَفُوهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟

قَالُوا: جِئْنَا، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا.

فَقَالَ: هَلْ خَلَفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟

قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا.

قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟

قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ.

قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ بَحِيرَا: أَنْشُدُكُمُ اللهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟

قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ.

فَلَمْ يَزَلْ -أَيِ: الرَّاهِبُ- يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ)).

ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ هُوَ مَا أُنْكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ -كَمَا مَرَّ-.

كَانَ أَبُو طَالِبٍ مُقِلًّا فِي الرِّزْقِ، فَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، فَرَعَاهَا لِأَهْلِهِ بِـ(أَجْيَادٍ) -وَأَجْيَادُ: مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ هِيَ لِلصَّفَا- رَعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ -وَالْقَرَارِيطُ: جَمْعُ قِيرَاطٍ وَهُوَ الْجُزْءُ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ-.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ)).

فَقَالَ أَصْحَابُهُ: ((وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَكَانَ ﷺ وَهُوَ يَرْعَى الْغَنَمَ يَجْنِي الْكَبَاثَ، وَيَتَحَرَّى الْأَسْوَدَ مِنْهُ -وَالْكَبَاثُ: النَّضِيجُ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ-، وَشَجَرَةُ الْأَرَاكِ دَائِمَةُ الْخُضْرَةِ، يُسْتَخْرَجُ السِّوَاكُ مِنْ جُذُورِهَا؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَجْتَنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ)).

قَالَ: قُلْنَا: ((وَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ رَعَاهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((حِفْظُ اللهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ مِنْ أَدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ))

لَقَدْ كَانَتْ حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ الْبِعْثَةِ حَيَاةً فَاضِلَةً شَرِيفَةً، لَمْ تُعْرَفْ فِيهَا هَفْوَةٌ، وَلَمْ تُحْصَ عَلَيْهِ فِيهَا زَلَّةٌ، فَقَدْ حَفِظَهُ اللهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِمَا يُرِيدُهُ لَهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى صَارَ أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَعْظَمَهُمْ جِوَارًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، حَتَّى عُرِفَ بَيْنَ قَوْمِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ.

فَنَشَأَ ﷺ سَلِيمَ الْعَقِيدَةِ، صَادِقَ الْإِيمَانِ، طَاهِرَ الْفِطْرَةِ، عَمِيقَ التَّفَكُّرِ، غَيْرَ خَاضِعٍ لِتُرُّهَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ لِصَنَمٍ قَطُّ، أَوْ تَمَسَّحَ بِهِ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى عَرَّافٍ أَوْ كَاهِنٍ، بَلْ بُغِّضَ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَسُّحُ بِهَا.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ لِخَدِيجَةَ: ((أَيْ خَدِيجَةُ! وَاللهِ لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ، وَاللهِ لَا أَعْبُدُ الْعُزَّى أَبَدًا)).

قَالَ: فَتَقُولُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((خَلِّ اللَّاتَ، خَلِّ الْعُزَّى)).

وَلَمَّا لَقِيَ بَحِيرَا الرَّاهِبَ قَالَ لَهُ بَحِيرَا: ((أَسْأَلُكَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ))، وَكَانَ بَحِيرَا سَمِعَ قَوْمَهُ -أَيْ: قَوْمَ النَّبِيِّ ﷺ- يَحْلِفُونَ بِهِمَا -أَيْ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَسْأَلُنِي بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّى شَيْئًا، فَوَاللهِ! مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضِي لَهُمَا)).

وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى)) بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ صَنَمَانِ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ، يَتَمَسَّحُ بِهِمَا الْمُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا -أَيْ: بِالْبَيْتِ- فَطَافَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَطُفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ مَسَحْتُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَمَسَّهُ)).

قَالَ زَيْدٌ: ((فَطُفْنَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَمَسَّهُ! أَلَمْ تُنْهَ؟!!)).

قَالَ زَيْدٌ: ((فَوَالَّذِي أَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ! مَا اسْتَلَمَ صَنَمًا قَطُّ حَتَّى أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالَّذِي أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ))، وَلَمْ يَشْرَبْ ﷺ خَمْرًا قَطُّ، وَلَا اقْتَرَفَ فَاحِشَةً، وَلَا انْغَمَسَ فِيمَا كَانَ يَنْغَمِسُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ -حِينَئِذٍ- مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْمَيْسِرِ، وَمُصَاحَبَةِ الْأَشْرَارِ، وَمُعَاشَرَةِ الْقِيَانِ -وَالْقِيَانُ: الْإِمَاءُ الْمُغَنِّيَاتُ- عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ مِنْ فُتُوَّةٍ وَشَبَابٍ، وَشَرَفٍ وَنَسَبٍ، وَعِزَّةِ قَبِيلَةٍ وَكَمَالٍ وَجَمَالٍ وَغَيْرِهَا مِنْ وَسَائِلِ الْإِغْرَاءِ)).

وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَهُوَ كَبِيرٌ وَيَعُدُّهُ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِ، وَعِصْمَتِهِ لَهُ؛ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا.

قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ كَمَا يَسْمَرُ الْفِتْيَانُ -وَالسَّمَرُ: هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَسْمَرُونَ بِاللَّيْلِ أَيْ يَتَحَدَّثُونَ-.

قَالَ: ((نَعَمْ)).

فَخَرَجْتُ فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً وَصَوْتَ دُفُوفٍ وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟

قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ -لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ-.

فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ وَبِذَلِكَ الصَّوْتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟

فَأَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجْتُ فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي مِثْلَمَا قِيلَ لِي، فَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي.

فَقَالَ لِي: ((مَا فَعَلْتَ؟)).

فَقُلْتُ: ((مَا فَعَلْتُ شَيْئًا)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَوَاللهِ! مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، يَقِيكَ مِنَ الْحِجَارَةِ))، فَفَعَلَ، فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: ((إِزَارِي إِزَارِي))، فَشُدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ ﷺ لَا يَقِفُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، بَلْ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ حَتَّى يَدْفَعَ؛ تَوْفِيقًا مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ، وَمُخَالَفَةً لِقَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَةِ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا مِلَّةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتْ قُرَيْشٌ إِنَّمَا تَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْحُمْسُ -وَالْحُمْسُ: أَهْلُ الْحَرَمِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَتْهَا قُرَيْشٌ عَامَ الْفِيلِ، حَيْثُ رَأَوْا أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ عَنْ بَقِيَّةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ، فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا، وَلِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ يَقِفُوا عَلَيْهَا وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا- كَانَتْ قُرَيْشٌ إِنَّمَا تَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْحُمْسُ، فَلَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، وَقَدْ تَرَكُوا الْمَوْقِفَ عَلَى عَرَفَةَ.

قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مَعَ قَوْمِهِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَقِفُ مَعَهُمْ يَدْفَعُ إِذَا دَفَعُوا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَكَانَ ﷺ لَا يَأْكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَلَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسَفَلِ (بَلْدَحٍ) -وَبَلْدَحٌ: وَادٍ قِبَلَ مَكَّةَ، أَوْ جَبَلٌ بِطَرِيقِ جُدَّةَ-، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْوَحْيُ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ: ((إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مَحَلَّ ثِقَةِ النَّاسِ وَأَمَانَاتِهِمْ، لَا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى وَدِيعَةٍ مِنَ الْوَدَائِعِ إِلَّا أَدَّاهَا لَهُ، وَلَا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى سِرٍّ أَوْ كَلَامٍ إِلَّا وَجَدَهُ عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ، فَلَا عَجَبَ أَنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي قُرَيْشٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِالْأَمِينِ.

وَكَانَ الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِهِ ﷺ الْبَارِزَةِ، شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ، وَلَمَّا بَعَثَهُ اللهُ -تَعَالَى- إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ، صَارَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا حَضَرُوا قَالَ لَهُمْ: ((أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَمَّا قَالَ هِرَقْلُ مَلِكَ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ -وَكَانَ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا-: ((هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

فَقَالَ هِرَقْلُ: ((فَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بِسِوَى الْأَمَانَةِ فِي الصِّبَى وَالصِّدْقِ لَمْ   =    يَعْرِفْهُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْأُمَنَاءِ

يَا مَنْ لَهُ الْأَخْلَاقُ مَا تَهْوَى الْعُلَى      =     مِنْهَا وَمَا يَتَعَشَّقُ الْكُبَرَاءُ

لَوْ لَمْ تُقِمْ دِينًا لَقَامَتْ وَحْدَهَا         =       دِينًا تُضِيءُ بِنُورِهِ الْآنَاءُ

زَانَتْكَ فِي الْخُلُقِ الْعَظِيمِ شَمَائِلٌ      =      يُغْرَى بِهِنَّ وَيُولَعُ الْكُرَمَاءُ

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، عَطُوفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَذَوِي الْحَاجَةِ، يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَيَمْسَحُ بِيَدَيْهِ بُؤْسَ الْبَائِسِينَ، وَيُفَرِّجُ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، وَقَدْ وَصَفَتْهُ بِهَذَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي بَدْءِ الْوَحْيِ فَقَالَتْ: ((كَلَّا وَاللهِ! لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَحَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ الْبِعْثَةِ كَانَتْ أَمْثَلَ حَيَاةٍ وَأَكْرَمَهَا، وَأَحْفَلَهَا بِمَعَانِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَعَظَمَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ نَبَّأَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَبَعَثَهُ، فَنَمَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ وَتَرَعْرَعَتْ، وَمَا زَالَتْ تَسْمُو فُرُوعُهَا وَتَرْسَخُ أُصُولُهَا، وَتَتَّسِعُ أَفْيَاؤُهَا حَتَّى أَضْحَتْ فَرِيدَةً فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.

إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الْفَاضِلَةَ الْمُثْلَى لَمِنْ أَكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، فَمَا سُمِعَ فِي تَارِيخِ الدُّنْيَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا أَنَّ حَيَاةً كُلُّهَا فَضْلٌ وَكَمَالٌ، وَهُدًى وَنُورٌ، وَحَقٌّ وَخَيْرٌ كَحَيَاةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَمْ يُعْهَدْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ إِنْسَانًا يَسْمُو عَلَى كُلِّ مُجْتَمَعِهِ وَهُوَ يَعِيشُ فِيهِ، وَيَنْشَأُ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ نَقَائِصِ مُجْتَمَعِهِ وَمَثَالِبِهِ وَهُوَ نَابِعٌ مِنْهُ، وَلَا أَنَّ نُورًا يَنْبَعِثُ مِنْ وَسَطِ ظُلُمَاتٍ، وَلَا طَهَارَةً تَنْبُعُ مِنْ وَسَطِ أَدْنَاسٍ وَأَرْجَاسٍ، وَلَا أَنَّ عِلْمًا يَكُونُ مِنْ بَيْنِ جَهَالَاتٍ وَخُرَافَاتٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ، وَأَمْرًا جَرَى عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ وَالْمَأْلُوفِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِعْدَادِ النَّبِيِّ ﷺ للِنُّبُوَّةِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((فَشَبَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاللهُ -تَعَالَى- يَكْلَؤُهُ ويَحَفْظَهُ،ُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إِلَّا الْأَمِينُ؛ لِمَا جَمَعَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ)).

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ((وَكَانَ ﷺ مَجْبُولًا عَلَيْهَا -أَيْ: عَلَى الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ- فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، لَمْ تَحْصُلْ لَهُ بِاكْتِسَابٍ وَلَا رِيَاضَةٍ إِلَّا بِجُودٍ إِلَهِيٍّ، وَخُصُوصِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ)).

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: ((وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَ التَّشْرِيعِ كَانَ مَعْصُومًا مِنَ الزِّنَى قَطْعًا، وَمِنَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، وَالسُّكْرِ وَالسُّجُودِ لِوَثَنٍ، وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَمَعْصُومًا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالسَّفَهِ وَبَذَاءِ اللِّسَانِ، وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَطُوفُ عُرْيَانًا، وَلَا كَانَ يَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةَ، بَلْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، وَبِكُلِّ حَالٍ لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ، وَلَكِنْ رُتْبَةُ الْكَمَالِ تَأْبَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ ﷺ )).

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَهْبَةَ: ((لَقَدْ قَرَأْنَا سِيَرَ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَالْعَبَاقِرَةِ وَالْمُصْلِحِينَ، وَأَصْحَابِ النِّحَلِ وَالْمَذَاهِبِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمَا وَجَدْنَا حَيَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَخْلُو مِنَ الشُّذُوذِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، وَالْخُلُقِ الرَّضِيِّ إِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّفْكِيرِ، وَإِمَّا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ، وَغَايَةُ مَا يُقَالُ فِي أَسْمَاهُمْ وَأَزْكَاهُمْ: كَفَى الْمَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ، حَاشَا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَقَدْ نَشَّأَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ، وَعَظِيمِ الْخِلَالِ، وَقَدْ بَلَغَ الذِّرْوَةَ فِي الْكَمَالِ خَاتَمُهُمْ سَيِّدُ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ )).

فَحَاطَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، حَتَّى أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ-.

((شُهُودُ النَّبِيِّ ﷺ حَرْبَ الْفِجَارِ وَحِلْفَ الْفُضُولِ))

لَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ ﷺ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَقِيلَ عِشْرُونَ هَاجَتْ (حَرْبُ الْفِجَارِ) -وَالْفِجَارُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحَرَمِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا الْقِتَالَ-، وَكَانَتْ (حَرْبُ الْفِجَارِ) بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ، وَبَيْنَ قَيْسٍ وَأَحْلَافِهَا، وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبَ بْنَ أُمَيَّةَ.

وَكَانَ الظَّفَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِقُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ.

وَلَمْ يَأْتِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ بِاشْتِرَاكِ النَّبِيِّ ﷺ فِي (حَرْبِ الْفِجَارِ).

سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ بِحَرْبِ الْفِجَارِ؛ لِأَنَّهُمُ انْتَهَكُوا فِيهَا حُرْمَةَ حَرَمِ مَكَّةَ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْفِجَارُ أَرْبَعَةٌ كُلٌّ فِي سَنَةٍ، وَهَذِهِ آخِرُهَا، وَانْتَهَتِ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى بَعْدَ خِصَامٍ وَاشْتِجَارٍ طَفِيفٍ، وَلَمْ يَقَعِ الْقِتَالُ إِلَّا فِي الرَّابِعِ فَقَطْ.

فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى إِثْرِ هَذِهِ الْحَرْبِ تَمَّ (حِلْفُ الْفُضُولِ) بَيْنَ خَمْسَةِ بُطُونٍ مِنْ قَبِيلَةِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وَبَنُو تَيْمٍ، وَسَبَبُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ (زُبَيْدٍ) جَاءَ بِسِلْعَةِ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَحُبِسَ عَنْ حَقِّهِ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الزُّبَيْدِيُّ بِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَبَنِي مَخْزُومٍ وَبَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ، فَلَمْ يَكْتَرِثُوا لَهُ، فَعَلَا جَبَلَ أَبِي قُبَيْسٍ، وَذَكَرَ ظُلَمَاتِهِ فِي أَبْيَاتٍ، وَنَادَى مَنْ يُعِينُهُ عَلَى حَقِّهِ، فَمَشَى فِي ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى اجْتَمَعَ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُمْ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ رَئِيسِ بَنِي تَيْمٍ، وَتَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فَانْتَزَعُوا مِنْهُ حَقَّ الزُّبَيْدِيِّ وَدَفَعُوهُ إِلَيْهِ.

وَقَدْ حَضَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِلْفَ الْفُضُولِ مَعَ أَعْمَامِهِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ شَرَّفَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالرِّسَالَةِ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: ((كَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ، وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ)).

وَقِيلَ: ((سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ؛ لِأَنَّ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ اسْمُهُ الْفَضْلُ؛ وَهُمُ: الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْحَارِثِ)).

((زَوَاجُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ))

مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وُلِدَ يَتِيمًا، وَنَشَأَ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ ثُمَّ عَمِّهِ، وَلَمْ يَرِثْ عَنْ أَبِيهِ شَيْئًا يُغْنِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ سِنًّا يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ عَادَةً رَعَى الْغَنَمَ مَعَ إِخْوَتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ فِي بَنِي سَعْدٍ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ رَعَاهَا لِأَهْلِهَا عَلَى قَرَارِيطَ -وَالْقِيرَاطُ: جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنَ الدِّينَارِ، نِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ ثُلُثُ الثُّمُنِ مِنْهُ-، وَرَعَى الْغَنَمَ ﷺ، وَرَعْيُ الْغَنَمِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَوَائِلِ حَيَاتِهِمْ، فَقَدْ قَالَ ﷺ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ بِالنُّبُوَّةِ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا؟)) يَعْنِي: الْغَنَمَ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَلَمَّا شَبَّ النَّبِيُّ ﷺ وَبَلَغَ الْفُتُوَّةَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ؛ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَّجِرُ مَعَ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ، فَكَانَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَهُ، لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي، -وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ طَالَ بِهِ الْعُمُرُ حَتَّى أَدْرَكَ النُّبُوَّةَ وَأَسْلَمَ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، تُوُفِّيَ بَعْدَ السَّبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ-.

وَعُرِفَ ﷺ فِي مُعَامَلَاتِهِ بِغَايَةِ الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، وَكَانَ هَذَا هَدْيَهُ ﷺ فِي جَمِيعِ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ، حَتَّى لُقِّبَ بِالْأَمِينِ.

وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شَرَفًا وَمَالًا، وَكَانَتْ تُعْطِي مَالَهَا لِلتُّجَّارِ يَتَّجِرُونَ فِيهِ عَلَى أُجْرَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَالَهَا، لِيَخْرُجَ فِيهِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا أَعْطَتْ غَيْرَهُ.

وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ إِلَى الشَّامِ، فَبَاعَ وَابْتَاعَ، وَرَبِحَ رِبْحًا عَظِيمًا، وَحَصَلَ فِي مَالِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ.

وَرَأَتْ خَدِيجَةُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالْبَرَكَةِ مَا يُبْهِرُ الْقُلُوبَ، وَقَصَّ عَلَيْهَا مَيْسَرَةُ مَا رَأَى فِي النَّبِيِّ ﷺ مِنْ كَرَمِ الشَّمَائِلِ، وَعُذُوبَةِ الْخِلَالِ، يُقَالُ: وَقَصَّ عَلَيْهَا بَعْضَ الْخَوَارِقِ كَتَظْلِيلِ الْمَلَكَيْنِ لَهُ فِي الْحَرِّ.

فَشَعَرَتْ خَدِيجَةُ بِنَيْلِ بُغْيَتِهَا فِيهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى صَدِيقَاتِهَا تُبْدِي رَغْبَتَهَا فِي الزَّوَاجِ بِهِ، وَرَضِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، وَكَلَّمَ أَعْمَامَهُ، فَخَطَبُوهَا لَهُ إِلَى عَمِّهَا عَمْرِو بْنِ أَسَدٍ، فَزَوَّجَهَا عَمُّهَا بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي مَحْضَرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى صَدَاقٍ قَدْرُهُ عِشْرُونَ بَكْرَةً، وَقِيلَ سِتُّ بَكْرَاتٍ -الْبَكْرُ بِالْفَتْحِ: هُوَ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ-.

وَكَانَ الَّذِي أَلْقَى خُطْبَةَ النِّكَاحِ هُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَرَفَ النَّسَبِ وَفَضْلَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةَ الْعَقْدِ، وَبَيَّنَ الصَّدَاقَ، تَمَّ هَذَا الزَّوَاجُ بَعْدَ رُجُوعِهِ ﷺ مِنَ الشَّامِ بِشَهْرَيْنِ وَأَيَّامٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَمَّا خَدِيجَةُ فَالْأَشْهَرُ أَنَّ سِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِي وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَيْ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْهُ ﷺ بِقَلِيلٍ، كَانَتْ أَوَّلًا مُتَزَوِّجَةً بِعَتِيقِ بْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيِّ فَمَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو هَالَةَ التَّمِيمِيُّ فَمَاتَ عَنْهَا -أَيْضًا- بَعْدَ أَنْ تَرَكَ لَهَا مِنْهُ وَلَدًا، ثُمَّ حَرَصَ عَلَى زَوَاجِهَا كِبَارُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ فَأَبَتْ، حَتَّى رَغِبَتْ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَزَوَّجَتْ بِهِ، فَسَعِدَتْ بِهِ سَعَادَةً يَغْبِطُهَا عَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ.

وَهِيَ أَوَّلُ أَزْوَاجِهِ ﷺ، لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَكُلُّ أَوْلَادِهِ ﷺ مِنْهَا إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَأَوْلَادُهُ ﷺ مِنْ خَدِيجَةَ هُمُ: الْقَاسِمُ، ثُمَّ زَيْنَبُ، ثُمَّ رُقَيَّةُ، ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ عَبْدُ اللهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي عَدَدِهِمْ وَتَرْتِيبِهِمْ.

وَقَدْ مَاتَ الْبَنُونَ كُلُّهُمْ صِغَارًا، أَمَّا الْبَنَاتُ فَقَدْ أَدْرَكْنَ كُلُّهُنَّ زَمَنَ النُّبُوَّةِ، فَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ، ثُمَّ تَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَإِنَّهَا عَاشَتْ بَعْدَهُ ﷺ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

لَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ ﷺ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ مِنْ سَيِّدَاتِ قُرَيْشٍ وَفُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ رَجَاحَةَ عَقْلٍ، وَكَرَمَ أَخْلَاقٍ، وَسَعَةَ مَالٍ، وَكَانَتْ أَرْمَلَةً تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَبُو هَالَةَ، وَكَانَتْ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِقَلِيلٍ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ.

وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً تَاجِرَةً، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجَّارًا، وَقَدْ كَانَتِ اخْتَبَرَتْ صِدْقَ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَكَرَمَ أَخْلَاقِهِ، وَنَصِيحَتَهُ حِينَ خَرَجَ فِي مَالٍ لَهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَبَلَغَهَا مِنْ كِبَرِ شَأْنِهِ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ مَا بَلَغَهَا، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، أَيْ لِلزَّوَاجِ، وَكَانَتْ قَدْ رَفَضَتْ طَلَبَ كَثِيرٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَخَطَبَهَا إِلَيْهِ عَمُّهُ حَمْزَةُ، وَخَطَبَ أَبُو طَالِبٍ الْخُطْبَةَ فَكَانَ الزَّوَاجُ.

كَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَهُ كُلَّهُمْ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا، كُلُّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَوَالِدُهَا هُوَ خُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي قُصَيٍّ، وَهِيَ مِنْ أَقْرَبِ نِسَائِهِ إِلَيْهِ فِي النَّسَبِ، لَمْ يَتَزَوَّجْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قُصَيٍّ غَيْرَهَا إِلَّا أُمَّ حَبِيبَةَ)).

مَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي رَمَضَانَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَدُفِنَتْ بِـ(الْحَجُونِ)، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَبْرِهَا، وَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الْمِحَنُ بَعْدَ مَوْتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَيُظْهِرُ حُبَّهَا، وَيَتَأَثَّرُ لِذِكْرَاهَا، وَيَنْبَسِطُ لِمَنْ يُذَكِّرُهُ بِهَا، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعَهُنَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَالَةَ!!)).

قَالَتْ: ((فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، وَقَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((بَشَّرَ النَّبِيُّ ﷺ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ ﷺ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَفَاءً لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَدْ نَصَرَتْهُ بِمَالِهَا وَرَأْيِهَا، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا الْوَلَدُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: ((إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا))؛ لِذَلِكَ فَهِيَ خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَزَقَهُ اللهُ مِنْهَا الْوَلَدَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَوَلَدَتْ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ الْقَاسِمَ، وَبِهِ كَانَ يُكْنَى ﷺ، وَعَبْدُ اللهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالطَّاهِرِ وَالطَّيِّبِ، وَمِنَ الْإِنَاثِ زَيْنَبَ، وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-.

((قِصَّةُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَدَوْرُهُ ﷺ فِي دَرْءِ فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ))

بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا- لِلْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ تَعَرَّضَتْ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ قُرُونٌ مِنْ بِنَائِهَا لِلْعَوَادِي الَّتِي أَوْهَتْ بِنَاءَهَا، وَصَدَّعَتْ جُدْرَانَهَا، وَكَانَ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْعَوَادِي سَيْلٌ عَرِمٌ جَرَفَ مَكَّةَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِسَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَزَادَ ذَلِكَ مِنْ تَصَدُّعِ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، وَضَعْفِ بُنْيَانِهَا، فَلَمْ تَجِدْ قُرَيْشٌ بُدًّا مِنْ إِعَادَةِ تَشْيِيدِ الْكَعْبَةِ؛ حِرْصًا عَلَى مَا كَانَ لِهَذَا الْبِنَاءِ مِنْ حُرْمَةٍ وَقَدَاسَةٍ خَالِدَةٍ، وَلَقَدْ ظَلَّ احْتِرَامُ الْكَعْبَةِ وَتَعْظِيمُهَا بَقِيَّةً مِمَّا ظَلَّ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ شَارَكَ ﷺ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ.

مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَالْعَبَّاسُ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ بِالْأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: ((أَرِنِي إِزَارِي))، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَذَكَرَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: ((فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ -وَهِيَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ-، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ! خَمِّرْ عَوْرَتَكَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا تَكْشِفْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ ﷺ )). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا انْهَدَمَ الْبَيْتُ بَعْدَ جُرْهُمٍ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الْحَجَرِ تَشَاجَرُوا مَنْ يَضَعُهُ، فَاتَّفَقُوا أَنْ يَضَعَهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِثَوْبٍ فَوَضَعَ الْحَجَرَ فِي وَسَطِهِ، وَأَمَرَ كُلَّ فَخِذٍ أَنْ يَأْخُذُوا بِطَائِفَةٍ مِنَ الثَّوْبِ فَرَفَعُوهُ، وَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَوَضَعَهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مَوْلَاهُ -وَهُوَ السَّائِبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: ((فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ وَلَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطُ أَحْجَارِنَا كَرَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ، فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ.

فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلُ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ ﷺ )). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَهَكَذَا دَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْحَرْبَ عَنْ قُرَيْشٍ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ فَوْقَهَا حِكْمَةٌ، كَانَتْ مُقَدِّمَةَ دَرْئِهِ لِلْحُرُوبِ وَالشُّرُورِ عَنِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِحِكْمَتِهِ وَتَعَالِيمِهِ، وَرِفْقِهِ وَحِلْمِهِ، وَتَلَطُّفِهِ فِي الْأُمُورِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، لِيَكُونَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْمُتَخَاصِمِينَ وَالْمُتَحَارِبِينَ فِي قَوْمٍ بُسَطَاءَ أُمِّيِّينَ.

((إِرْهَاصَاتُ الْبِعْثَةِ))

مِنَ الْبِشَارَاتِ بِبِعْثَةِ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ: إِخْبَارُ الْكُهَّانِ وَالْجَانِّ بِبِعْثَتِهِ ﷺ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ أَنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَيَّ الرَّجُلَ، فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ.

قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي.

قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

قَالَ: فَمَا أَعْجَبَ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟

قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا، وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا؟

قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيح! أَمْرٌ نَجِيح رَجُلٌ فَصِيح، يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ هَذَا.

ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيح أَمْرٌ نَجِيح، رَجُلٌ فَصِيح، يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا -أَيْ: فَمَا لَبِثْنَا- أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ.

وَكَانَ مِنْ عَلَامَةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنْ مُنِعَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، وَمِنْ هَوَاتِفِ الْجِنِّ -أَيْضًا- مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ أَوَّلَ خَبَرٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ، فَجَاءَ فِي صُورَةِ طَائِرٍ أَبْيَضَ، فَوَقَعَ عَلَى حَائِطٍ لَهُمْ فَقَالَتْ لَهُ: أَلَا تَنْزِلُ إِلَيْنَا وَتُحَدِّثْنَا وَنُحَدِّثُكَ وَتُخْبِرُنَا وَنُخْبِرُكَ.

فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ بِمَكَّةَ حَرَّمَ الزِّنَى، وَوَضَعَ مِنَّا الْقَرَارَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الدَّلَائِلِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَمِنْ ((إِرْهَاصَاتِ الْبِعْثَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا: حَجْبُ الشَّيَاطِينِ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ عِنْدَ قُرْبِ مَبْعَثِهِ ﷺ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((فَلَمَّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ حُجِبَتِ الشَّيَاطِينُ عَنِ السَّمْعِ، وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِيهَا، فَرُمُوْا بِالنُّجُومِ، فَعَرَفَتِ الْجِنُّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللهِ فِي الْعِبَادِ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ حِينَ بَعَثَهُ وَهُوَ يَقُصُّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنِّ إِذْ حُجِبُوا عَنِ السَّمْعِ فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَأَوْا مَا رَأَوْا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 1-10])).

فَلَمَّا سَمِعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنَّهَا إِنَّمَا مُنِعَتْ مِنَ السَّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يُشْكَلَ الْوَحْيُ بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَيَلْتَبِسَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- فِيهِ لِوُقُوعِ الْحُجَّةِ، وَقَطْعِ الشُّبْهَةِ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ الْجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَيَسْتَمِعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ فِيهَا عَشْرًا، فَيَكُونُ مَا سَمِعُوا حَقًّا وَمَا زَادُوهُ بَاطِلًا، وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إِلَّا رُمِيَ بِشَهَابٍ يُحْرِقُ مَا أَصَابَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ، فَبَثَّ جُنُودَهُ فَإِذَا هُمْ بِالنَّبِيِّ ﷺ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ، فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ)))).

((مُقَدِّمَاتُ النُّبُوَّةِ))

لَقَدْ نَشَأَ النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ صِبَاهُ صَحِيحَ الْعَقْلِ، وَافِرَ الْقُوَى، نَزِيهَ الْجَانِبِ، فَتَرَعْرَعَ وَشَبَّ وَنَضَجَ وَهُوَ جَامِعٌ لِلصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ النَّبِيلَةِ، فَكَانَ طِرَازًا رَفِيعًا مِنَ الْفِكْرِ الصَّائِبِ وَالنَّظَرِ السَّدِيدِ، وَمِثَالًا نِهَائِيًّا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْخِصَالِ، امْتَازَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعِفَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالْحَيَاءِ وَالْوَفَاءِ، وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَاصُحِ، وَكَانَ عَلَى أَعْلَى قِمَّةٍ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.

وَكَانَ ﷺ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، حَمُولًا لِمَا يُثْقِلُ كَوَاهِلَ النَّاسِ، يُسَاعِدُ مَنْ أَعْدَمَ الْعَيْشَ حَتَّى يُصِيبَ الْكَسْبَ، وَكَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ مَنْ نَزَلَتْ بِهِ النَّوَازِلُ، وَقَدْ حَاطَهُ اللهُ بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، وَبَغَّضَ إِلَيْهِ مَا كَانَ فِي قَوْمِهِ مِنْ خُرَافَةٍ وَسُوءٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ أَعْيَادَ الْأَوْثَانِ، وَاحْتِفَالَاتِ الشِّرْكِ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، أَوْ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَكَانَ لَا يَصْبِرُ عَلَى سَمَاعِ الْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَضْلًا عَنْ مَسِّ الْأَصْنَامِ أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهَا، وَكَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَشُهُودِ الْمَلَاهِي، حَتَّى لَمْ يَحْضُرْ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالسَّمَرِ وَنَوَادِيَهَا الَّتِي كَانَتْ مُتَنَزَّهَ الشَّبَابِ، وَمُلْتَقَى الْأَحِبَّةِ فِي مَكَّةَ.

بِهَذَا اتَّسَعَتِ الشُّقَّةُ الْفِكْرِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَطَفِقَ يَقْلَقُ مِمَّا يَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالْفَسَادِ، وَيَرْغَبُ فِي الِاعْتِزَالِ عَنْهُمْ وَالْخَلْوَةِ بِنَفْسِهِ مَعَ تَفْكِيرِهِ فِي سَبِيلٍ يُنْجِيهِمْ مِنَ التَّعَاسَةِ وَالْبَوَارِ، وَاشْتَدَّ بِهِ ذَلِكَ، وَقَوِيَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ مَعَ تَقَدُّمِ السِّنِّ حَتَّى كَأَنَّ حَادِيًا يَحْدُوهُ إِلَى الْخَلْوَةِ وَالِانْقِطَاعِ، فَكَانَ يَخْلُو بِـ(غَارِ حِرَاءٍ) -وَحِرَاءُ: اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِجَبَلِ النُّورِ، وَهُوَ عَلَى بُعْدِ نَحْوِ مِيلَيْنِ مِنْ أَصْلِ مَكَّةَ، أَمَّا الْغَارُ فَيَقَعُ فِيهِ بِجَنْبِ قِمَّتِهِ الشَّامِخَةِ أَسْفَلَ مِنْهَا عَلَى يَسَارِ الصَّاعِدِ إِلَيْهَا، يَصِلُ الرَّجُلُ إِلَى الْغَارِ بَعْدَمَا يَنْزِلُ مِنَ الْقِمَّةِ، وَهُوَ غَارٌ لَطِيفٌ طُولُهُ يَنْقُصُ قَلِيلًا عَنْ أَرْبَعَةِ أَمْتَارٍ، وَعَرْضُهُ يَزِيدُ قَلِيلًا عَلَى مِتْرٍ وَنِصْفِ مِتْرٍ-.

فَأَخَذَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ اللهَ فِيهِ عَلَى بَقَايَا دِينِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ بِتَمَامِ هَذَا الشَّهْرِ انْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ صَبَاحًا فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ ﷺ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، فَلَمَّا تَكَامَلَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهِيَ سِنُّ الْكَمَالِ وَلَهَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ غَالِبًا بَدَأَتْ طَلَائِعُ النُّبُوَّةِ، وَتَبَاشِيرُ السَّعَادَةِ فِي الظُّهُورِ، فَكَانَ يَرَى رُؤْيَا صَالِحَةً، فَتَقَعُ كَمَا يَرَى، وَكَانَ يَرَى الضَّوْءَ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَقَالَ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ)). كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).

وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ؛ فَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ -أَيْ: كَضِيَائِهِ-، حَتَّى مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بُدِئَ بِالْوَحْيِ ﷺ.

رَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)).

وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ: حُبُّهُ ﷺ لِلْخَلْوَةِ، لَمَّا تَقَارَبَ سِنُّ النَّبِيِّ ﷺ الْأَرْبَعِينَ حَبَّبَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ، فَكَانَ ﷺ يَهْجُرُ مَكَّةَ كُلَّ عَامٍ لِيَقْضِيَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ -فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ))-: ((الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِهِ ﷺ بِالتَّخَلِّي فِي غَارِ حِرَاءٍ أَنَّ الْمُقِيمَ فِي الْغَارِ كَانَ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ الْكَعْبَةِ، فَيَجْتَمِعُ لِمَنْ يَخْلُو فِيهِ ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ: الْخَلْوَةُ، وَالتَّعَبُّدُ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْبَيْتِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَزَوَّدُ لِخَلْوَتِهِ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ، فَإِذَا نَفِدَ ذَلِكَ الزَّادُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَزَوَّدُ قَدْرَ ذَلِكَ، فَيُقِيمُ فِي حِرَاءٍ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَقْضِي وَقْتَهُ فِي التَّفْكِيرِ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ، وَفِيمَا وَرَاءَهَا مِنْ قُدْرَةٍ مُبْدِعَةٍ، حَتَّى وَصَلَ مِنَ الصَّفَاءِ وَالْإِشْرَاقِ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ انْعَكَسَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الْغُيُومِ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ الْمَجْلُوَّةِ، فَأَصْبَحَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ))، قَالَتْ: ((ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَضَى جِوَارَهُ -أَيِ: اعْتِكَافَهُ- مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، ظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي إِحْدَى خَلَوَاتِهِ تِلْكَ.

وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ: تَسْلِيمُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ)).

وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ: سَمَاعُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّوْتَ وَرُؤْيَتُهُ الضَّوْءَ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانِيَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ)).

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِخَدِيجَةَ: ((إِنِّي أَرَى ضَوْءًا، وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُونٌ)).

فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللهِ)).

ثُمَّ أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ((إِنْ يَكُ صَادِقًا فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلَ نَامُوسِ مُوسَى -وَالنَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ أَرَادَ بِهِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَصَّهُ بِالْوَحْيِ وَالْغَيْبِ اللَّذَيْنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُ-، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيٌّ فَسَأُعَزِّرُهُ -وَالتَّعْزِيزُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْإِعَانَةُ وَالتَّوْقِيرُ وَالنَّصْرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ- فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيٌّ فَسَأُعَزِّرُهُ وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ)).

ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ الْخَاتَمِ -صَلَّى اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ-.

((بِدَايَةُ النُّبُوَّةِ وَنُزُولُ الْوَحْيِ))

((أَتَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ الشَّرِيفِ وَالدُّنْيَا وَاقِفَةٌ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَالْإِنْسَانِيَّةُ تَخْطُو بِخُطًى سَرِيعَةٍ إِلَى الِانْتِحَارِ، هُنَالِكَ ظَهَرَتْ تَبَاشِيرُ الصُّبْحِ وَطَلَائِعُ السَّعَادَةِ، وَآنَ أَوَانُ الْبِعْثَةِ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ إِذَا اشْتَدَّ الظَّلَامُ وَطَالَتِ الشِّقْوَةُ، وَبَلَغَ نُفُورُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِمَّا كَانَ يَرَاهُ مِنْ جَهْلٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، وَخُرَافَةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، وَتَطَلُّعُهُ إِلَى الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ مِنْ فَاطِرِ الْكَوْنِ وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَلَغَ ذِرْوَتَهُ كَأَنَّ حَادِيًا يَحْدُوهُ، فَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَيُبْعِدُ حَتَّى تَحَسَّرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَبُطُونِهَا وَأَوْدِيَتِهَا فَلَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَوْلَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَيَلْتَفِتُ خَلْفَهُ فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) قَوْلُهُ ﷺ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ)).

فَلَمَّا كَانَ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ كَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ بِغَارِ حِرَاءٍ، يَذْكُرُ اللهَ وَيَعْبُدُهُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، وَلْنَسْتَمِعْ إِلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَرْوِي لَنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ بِتَفَاصِيلِهَا قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: ((اقْرَأْ)).

قَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)).

قَالَ: ((فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ -أَيْ: عَصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا حَتَّى وَجَدْتُ مِنْهُ الْمَشَقَّةَ- ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ((اقْرَأْ)).

قُلْتُ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ((اقْرَأْ)).

فَقُلْتُ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5])).

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) -أَيْ: غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا- فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ -أَيِ: الْفَزَعُ-، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)).

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: ((كَلَّا، وَاللهِ! مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)).

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ-، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: ((يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ)).

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟)).

فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا -أَيْ: قَوِيًّا جَلْدًا- لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

تِلْكَ هِيَ قِصَّةُ بِدَايَةِ النُّبُوَّةِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].

وَقَدْ أَفَادَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَ نُزُولُ الْوَحْيِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا بِمَكَّةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَشْرَ سِنِينَ فِي الْمَدِينَةِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا مَرَاتِبُ الْوَحْيِ؛ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ كَمَّلَ لِنَبِيِّهِ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَحْيِ مَرَاتِبَ عَدِيدَةً:

إِحْدَاهَا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي رُوعِهِ وَقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفْثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَحْيِ: أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُخَاطِبُهُ حَتَّى يَعِيَ عَنْهُ مَا يَقُولُ لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَانَ الصَّحَابَةُ يَرَوْنَهُ أَحْيَانًا، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ.

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَكَانَ أَشَدَّهُ عَلَيْهِ، فَيَتَلَبَّسُ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّى إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، وَحَتَّى إِنَّ رَاحِلَتَهُ لَتَبْرُكُ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ إِنْ كَانَ رَاكِبَهَا كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَحْيِ: أَنَّهُ يَرَى الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَيُوحِيَ إِلَيْهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُوحِيَهُ، وَهَذَا وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي سُورَةِ النَّجْمِ.

الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: مَا أَوْحَاهُ اللهُ وَهُوَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَحْيِ: كَلَامُ اللهِ لَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ، كَمَا كَلَّمَ اللهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وَثُبُوتُهَا لِنَبِيِّنَا ﷺ هُوَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ الَّذِي فِيهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ)).

وَأَمَّا مَرَاتِبُ الدَّعْوَةِ فَقَدْ ذَكَرَ لَهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ خَمْسَ مَرَاتِبَ: ((الْأُولَى: النُّبُوَّةُ.

الثَّانِيَةُ: إِنْذَارُ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْذَارُ قَوْمِهِ.

الرَّابِعَةُ: إِنْذَارُ قَوْمٍ مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِهِ وَهُمُ الْعَرَبُ قَاطِبَةً.

وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: إِنْذَارُ جَمِيعِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ)).

وَأَمَّا مَرَاحِلُ الدَّعْوَةِ خِلَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ ﷺ:

فَالْمَرْحَلَةُ الْأُولَى: الدَّعْوَةُ سِرًّا، وَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَ سِنِينَ.

وَالْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ جَهْرًا وَالْكَفُّ عَنِ الْقِتَالِ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى الْهِجْرَةِ.

وَالْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ جَهْرًا مَعَ قِتَالِ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْقِتَالِ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى صُلْحِ الْحُدَيْبِيَّةِ.

وَالْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ: الدَّعْوَةُ جَهْرًا مَعَ قِتَالِ كُلِّ مَنْ يَقِفُ فِي سَبِيلِ سَيْرِ الدَّعْوَةِ.

فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَعْدَ أَوَّلِ مَرَّةٍ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيهَا، فَتَرَ مُدَّةً يَسِيرَةً، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((حُبِسَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَجَعَلَ يَخْلُو فِي حِرَاءٍ)).

قَالَ الْحَافِظُ: ((وَكَانَ ذَلِكَ -يَعْنِي: فُتُورَ الْوَحْيِ- لِيَذْهَبَ مَا كَانَ ﷺ وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ -أَيِ: الْفَزَعِ- وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ)).

وَأَمَّا مُدَّةُ فُتُورِ الْوَحْيِ فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّهَا كَانَتْ أَيَّامًا))، وَهَذَا الَّذِي يَتَرَجَّحُ بَلْ يَتَعَيَّنُ، وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ مِنْ أَنَّهَا دَامَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ بَعْدَ إِدَارَةِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَهْبَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالَّذِي أُرَجِّحُهُ وَأَمِيلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ أَيَّامًا، وَأَنَّ أَقْصَاهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، أَمَّا أَنْ يَقْضِيَ النَّبِيُّ ﷺ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا مِنْ عُمْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ وَدَعْوَةٍ فَهَذَا مَا لَا تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ)).

لَمَّا عَرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعْرِفَةَ الْيَقِينِ أَنَّهُ أَضْحَى نَبِيًّا لِلَّهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَهُ هُوَ الْوَحْيُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصَارَ تَشَوُّقُهُ وَارْتِقَابُهُ لِمَجِيءِ الْوَحْيِ سَبَبًا فِي ثَبَاتِهِ، وَاحْتِمَالِهِ عِنْدَمَا يَعُودُ؛ جَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَثْنَاءَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ يَذْهَبُ إِلَى غَارِ حِرَاءٍ فَيَخْلُو فِيهِ، وَبَيْنَا هُوَ نَازِلٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ، فَرُعِبَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَ ﷺ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1-5].

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ ﷺ: ((فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ -أَيْ: فَزِعْتُ وَرُعِبْتُ- حَتَّى هَوِيتُ إِلَى الْأَرْضِ -أَيْ: حَتَّى سَقَطْتُ إِلَى الْأَرْضِ- فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ)).

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: (({وَالرُّجْزَ} الْأَوْثَانَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ ﷺ: ((فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ: فَدَثَّرُونِي، وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3])).

قَالَ الْحَافِظُ: ((كَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الصَّبِّ -أَيْ: فِي صَبِّ الْمَاءِ الْبَارِدِ بَعْدَ التَّدَثُّرِ- كَأَنَّ الْحِكْمَةَ طَلَبُ حُصُولِ السُّكُونِ لِمَا وَقَعَ فِي الْبَاطِنِ مِنَ الِانْزِعَاجِ، أَوْ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرِّعْدَةَ تَعْقُبُهَا الْحُمَّى، وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الطِّبِّ النَّبَوَيِّ مُعَالَجَتُهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ)).

فَتَرَ الْوَحْيُ وَانْقَطَعَ بَعْدَ أَوَّلِ نُزُولِهِ فِي غَارِ حِرَاءَ، وَدَامَ هَذَا الِانْقِطَاعُ أَيَّامًا، وَقَدْ أَعْقَبَ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ ﷺ شِدَّةَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ، وَلَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ فِي هَذَا الِانْقِطَاعِ، فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، وَتَثَبَّتَ مِنْ أَمْرِهِ، وَتَهَيَّأَ لِاحْتِمَالِ مِثْلِ مَا سَبَقَ حِينَ يَعُودُ، وَحَصَلَ لَهُ التَّشَوُّفُ وَالِانْتِظَارُ، وَأَخَذَ يَرْتَقِبُ مَجِيءَ الْوَحْيِ مَرَّةً أُخْرَى.

وَكَانَ ﷺ قَدْ عَادَ مِنْ عِنْدِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ إِلَى حِرَاءٍ لِيُوَاصِلَ جِوَارَهُ فِي غَارِهِ، وَيُكْمِلَ مَا تَبَقَّى مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا انْتَهَى شَهْرُ رَمَضَانَ وَتَمَّ جِوَارُهُ نَزَلَ مِنْ حِرَاءٍ صَبِيحَةَ غُرَّةِ شَوَّالٍ لِيَعُودَ إِلَى مَكَّةَ حَسْبَ عَادَتِهِ.

قَالَ ﷺ: ((فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ -أَيْ: دَخَلْتُ فِي بَطْنِهِ- فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَنُودِيتُ أَيْضًا، فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِهِ -أَيِ: الْمَلَكِ- قَاعِدٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ -أَيْ: ذُعِرْتُ وَخِفْتُ- فَأَتَيْتُ مَنْزِلَ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فَنَزَلَتْ عَلَيَّ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1-5]، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ)).

وَهَذِهِ الْآيَاتُ -يَعْنِي: مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ- هِيَ بَدْءُ رِسَالَتِهِ ﷺ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ النُّبُوَّةِ بِمِقْدَارِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، فَقَدْ نُبِّئَ ﷺ بِـ{اقْرَأْ}، وَأُرْسِلَ ﷺ بِالْمُدَّثِّرِ.

وَتَشْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ التَّكْلِيفِ مَعَ بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ تَكْلِيفُهُ ﷺ بِالْبَلَاغِ وَالتَّحْذِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {قُمْ فَأَنذِرْ}؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: حَذِّرِ النَّاسَ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَالْإِشْرَاكِ بِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْحُقُوقِ وَالْأَفْعَالِ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَتَكْلِيفُهُ ﷺ بِتَطْبِيقِ أَوَامِرِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالِالْتِزَامِ بِهَا فِي نَفْسِهِ لِيُحْرِزَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ اللهِ، وَيَصِيرَ أُسْوَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ، فَقَوْلُهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، مَعْنَاهُ خُصَّهُ بِالتَّعْظِيمِ، وَلَا تُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ أَحَدًا غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الْمَقْصُودُ الظَّاهِرُ مِنْهُ تَطْهِيرُ الثِّيَابِ وَالْجَسَدِ؛ إِذْ لَيْسَ لِمَنْ يُكَبِّرُ اللهَ وَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا.

وَقَوْلُهُ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} مَعْنَاهُ: ابْتَعِدْ عَنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ، وَذَلِكَ بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أَيْ: لَا تُحْسِنْ إِحْسَانًا تُرِيدُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.

أَمَّا الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ فَأَشَارَ فِيهَا إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِ حِينَ يُفَارِقُهُمْ فِي الدِّينِ، وَيَقُومُ بِدَعْوَتِهِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَقَالَ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخَافُ مِنْ نِسْيَانِ الْوَحْيِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً -وَالْمُعَالَجَةُ: هِيَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْءِ بِمَشَقَّةٍ-، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17] قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَقْرَأَهُ)).

وَمُنْذُ أَنْ تَلَقَّى النَّبِيُّ ﷺ أَمْرَ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} قَامَ مِنْ فَوْرِهِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْأَخْذَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ.

وَقَدْ مَرَّتِ الدَّعْوَةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ مُنْذُ بِعْثَتِهِ إِلَى وَفَاتِهِ بِفَتْرَتَيْنِ، تَمْتَازُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى تَمَامَ الِامْتِيَازِ وَهُمَا: الْفَتْرَةُ الْمَكِّيَّةُ، اسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تَقْرِيبًا، وَالْفَتْرَةُ الْمَدَنِيَّةُ اسْتَمَرَّتْ عَشْرَ سَنَوَاتٍ كَامِلَةً، وَتَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنَ الْفَتْرَتَيْنِ عَلَى مَرَاحِلَ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا خَصَائِصُ تَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الظُّرُوفِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا الدَّعْوَةُ خِلَالَ الدَّوْرَيْنِ.

فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْفَتْرَةِ الْمَكِّيَّةِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ:

الْأُولَى: الدَّعْوَةُ السِّرِّيَّةُ، وَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ.

وَالْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ جَهْرًا وَبِاللِّسَانِ فَقَطْ دُونَ قِتَالٍ مِنْ بِدَايَةِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْبِعْثَةِ حَتَّى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

أَمَّا الْفَتْرَةُ الْمَدَنِيَّةُ فَيُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ:

الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى: مَرْحَلَةٌ أُثِيرَتْ فِيهَا الْقَلَاقِلُ وَالْفِتَنُ، وَأُقِيمَتْ فِيهَا الْعَرَاقِيلُ مِنَ الدَّاخِلِ، وَزَحَفَ فِيهَا الْأَعْدَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِاسْتِئْصَالِ خَضْرَائِهَا مِنَ الْخَارِجِ، وَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ إِلَى عَامِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ.

الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ الْهُدْنَةِ مَعَ الزَّعَامَةِ الْوَثَنِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّتْ حَتَّى فَتْحِ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ دَعْوَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَرْحَلَةُ دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَهِيَ مَرْحَلَةُ تَوَافُدِ الْقَبَائِلِ وَالْأَقْوَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى انْتِهَاءِ حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ.

((قِيَامُ النَّبِيِّ ﷺ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى إِثْرِ نُزُولِ آيَاتِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَحَيْثُ إِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا جُفَاةً لَا دِينَ لَهُمْ سِوَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَخْلَاقَ لَهُمْ إِلَّا الْأَخْذُ بِالْعِزَّةِ وَالْأَنَفَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ فِي حَلِّ الْمَشَاكِلِ إِلَّا السَّيْفُ، حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَارَ اللهُ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِالدَّعْوَةِ سِرًّا، وَلَا يُوَاجِهَ بِهَا إِلَّا مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْخَيْرِ وَحُبِّ الْحَقِّ، وَيَثِقُ بِهِ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُقَدِّمَ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ وَنُدَمَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ -يَعْنِي: فِي الدَّعْوَةِ-.

فَلَمَّا بَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ دَعْوَتَهُ بَادَرَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ عَدَدٌ مِمَّنْ كَتَبَ اللهُ لَهُ السَّبْقَ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَتْ أَوَّلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَكَانَتْ قَدْ عَلِمَتِ الْبِشَارَاتِ، وَسَمِعَتْ عَنِ الْإِرْهَاصَاتِ، وَأَبْصَرَتْ مَلَامِحَ النُّبُوَّةِ، وَشَاهَدَتْ تَبَاشِيرَ الرِّسَالَةِ، وَتَأَكَّدَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ هُوَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ لَهَا مِنْ حَدِيثِ وَرَقَةَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي حِرَاءٍ هُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ وَحْيُ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ شَاهَدَتْ بِنَفْسِهَا مَا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ نُزُولِ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ فَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَكُونَ هِيَ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَبَادَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى صَدِيقِهِ الْحَمِيمِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِيُخْبِرَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَآمَنَ بِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا تَلَعْثُمٍ، وَأَسْرَعَ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوْ مِنَ الرِّجَالِ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ ﷺ بِسَنَتَيْنِ، وَصَدِيقًا لَهُ مُنْذُ عَهْدٍ قَدِيمٍ عَارِفًا بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَكَانَ إِيمَانُهُ أَعْدَلَ شَاهِدٍ عَلَى صِدْقِهِ ﷺ.

وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ تَحْتَ كَفَالَتِهِ ﷺ مُقِيمًا عِنْدَهُ، يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ مُقِلًّا كَثِيرَ الْأَوْلَادِ، فَكَفَلَ الْعَبَّاسُ ابْنَهُ جَعْفَرًا، وَكَفَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا، فَكَانَ كَأَحَدِ أَوْلَادِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَتِ النُّبُوَّةُ فَقَدْ نَاهَزَ الْبُلُوغَ، يُقَالُ كَانَ عُمُرُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَكَانَ يَتْبَعُهُ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ، فَلَمَّا دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَجَابَ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ.

وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْكَلْبِيُّ، كَانَ قَدْ أُسِرَ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِيعَ، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَلِمَ بِهِ أَبُوهُ وَعُمُومَتُهُ، فَجَاءَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَكَلَّمَاهُ لِيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا فِي فِدَائِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَيْدًا وَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ مَعَ أَبِيهِ وَعَمِّهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى عِنْدَهُ، فَاخْتَارَهُ عَلَيْهِمَا، وَعِنْدَئِذٍ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا ابْنِي، وَارِثًا وَمَوْرُوثًا، وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَبْطَلَ التَّبَنِّيَ، فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ.

هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهُمْ أَسْلَمُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَوْمَ أُمِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْإِنْذَارِ، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَقَدْ قِيلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.

ثُمَّ نَشِطَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَصَارَ السَّاعِدَ الْأَيْمَنَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مُهِمَّةِ رِسَالَتِهِ، وَكَانَ رَجُلًا عَفِيفًا، مَأْلَفًا مُحَبَّبًا، سَهْلًا كَرِيمًا، جَوَادًا مُعَظَّمًا، أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَخْبَارِهَا، يَقْصِدُهُ رِجَالُ قَوْمِهِ لِخُلُقِهِ وَمَعْرُوفِهِ، وَعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، وَتِجَارَتِهِ وَجُودِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ وَمُجَالَسَتِهِ.

فَدَعَا إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ تَوَسَّمَ فِيهِ الْخَيْرَ وَوَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَجَابَهُ جَمْعٌ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ؛ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْأُمَوِيُّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ التَّيْمِيُّ، بَيَّنَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهُمُ- الْإِسْلَامَ، وَأَتَى بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا.

أَمَّا الْوَحْيُ فَقَدْ تَتَابَعَ نُزُولُهُ بَعْدَ أَوَائِلِ الْمُدَّثِّرِ، وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بَعْدَهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَهِيَ سُورَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالدُّعَاءِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ أَوَّلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ، رَكْعَتَانِ بِالْغَدَاةِ، وَرَكْعَتَانِ بِالْعَشِيِّ، نَزَلَ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، فَكَانَتِ الطَّهَارَةُ الْكَامِلَةُ سِمَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوُضُوءُ كَانَ شَرْطَ الصَّلَاةِ، وَالْفَاتِحَةُ أَصْلَ الصَّلَاةِ، وَالْحَمْدُ وَالتَّسْبِيحُ مِنْ أَوْرَادِ الصَّلَاةِ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ عِبَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ يُقِيمُونَهَا، وَيَقُومُونَ بِهَا فِي أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ عَنِ الْأَنْظَارِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا الْأَوْدِيَةَ وَالشِّعَابَ.

وَلَا تُعْرَفُ لَهُمْ عِبَادَاتٌ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ أُخْرَى فِي أَوَائِلِ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْوَحْيُ يُبَيِّنُ لَهُمْ جَوَانِبَ شَتَّى مِنَ التَّوْحِيدِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيَصِفُ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَيَعِظُهُمْ مَوَاعِظَ بَلِيغَةً تَشْرَحُ الصُّدُورَ، وَتُغَذِّي الْأَرْوَاحَ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَحْدُو بِهِمْ إِلَى مَنَازِلِ نَقَاءِ الْقُلُوبِ، وَنَظَافَةِ الْأَخْلَاقِ، وَعِفَّةِ النُّفُوسِ، وَصِدْقِ الْمُعَامَلَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ، وَالثَّبَاتِ فِي أَمْرِ اللهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ.

وَهَكَذَا مَرَّتْ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ وَالدَّعْوَةُ لَمْ تَزَلْ مَقْصُورَةً عَلَى الْأَفْرَادِ، لَمْ يَجْهَرْ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمَجَامِعِ وَالنَّوَادِي إِلَّا أَنَّهَا صَارَتْ مَعْرُوفَةً لَدَى قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَنَكَّرَ لَهَا بَعْضُهُمْ أَحْيَانًا، وَاعْتَدَوْا عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ؛ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِدِينِهِمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي آلِهَتِهِمْ.

وَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ)).

فَقَالَ ﷺ: ((يَا بُنَيَّةُ! ائْتِينِي بِوَضُوءٍ)) فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ)).

قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((وَهَذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، لَا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ حِينَئِذٍ)).

أَمَّا أَمْرُ الصَّلَاةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]: ((كَانَتِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَسَخَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] قَالَ: ((هِيَ صَلَاةٌ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، وَرَكْعَتَانِ عَشِيَّةً، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا نُسِخَ وَاللهُ أَعْلَمُ)).

وَقَالَ الْحَافِظُ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ يُصَلِّي قَطْعًا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، لَكِنِ اخْتُلِفَ هَلِ افْتُرِضَ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ أَوْ لَا، فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْفَرْضَ أَوَّلًا كَانَ صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَالْحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا})).

كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْتِزَامِ الْحَيْطَةِ وَالْحَذَرِ، وَالتَّخَفِّي وَعَدَمِ الْإِعْلَانِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ أَمْرَهُ، فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا الصَّلَاةَ خَرَجُوا إِلَى الشِّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا فِيهَا بِصَلَاتِهِمْ عَنْ أَنْظَارِ قُرَيْشٍ.

وَقَدْ بَقَوْا عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ، وَبَيْنَمَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ إِذَا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَاسْتَنْكَرُوا عَمَلَهُمْ، وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمْ يَتْرُكْهُمُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، وَاضْطُرَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجَّهُ -وَلَحْيُ الْبَعِيرِ: الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فِيهِمَا الْأَسْنَانُ مِنْ دَاخِلِ الْفَمِ، وَيَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ-، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ((إِنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوَّلُ مَنْ أَهْرَاقَ دَمًا فِي سَبِيلِ اللهِ)).

هَذَا الْحَادِثُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خِلَالَ صَلَاتِهِمْ فِي الشِّعَابِ حَمَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى نُصْحِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّخَفِّي، وَالْتِزَامِ الْبُيُوتِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ حَتَّى تَسْتَقِرَّ الْأَحْوَالُ، خَاصَّةً أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ قُرَيْشًا، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- دَارَ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ عَلَى الصَّفَا، وَكَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ وَمَجَالِسِهِمْ، فَاتَّخَذَهَا مَرْكَزًا لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَلِاجْتِمَاعِهِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَيَتَعَاهَدُهُمْ بِالتَّرْبِيَةِ حَتَّى كَوَّنَ ﷺ مِنْهُمْ أُنَاسًا يَسْتَهِينُونَ بِكُلِّ الْآلَامِ وَالْبَلَاءِ فِي سَبِيلِ دِينِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ، وَكَانَ مَنْ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ يَأْتِي إِلَى تِلْكَ الدَّارِ -دَارِ الْأَرْقَمِ- مُسْتَخْفِيًا خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَهُ أَذًى مِنْ قُرَيْشٍ.

وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ إِلَى أَنْ صَدَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالدَّعْوَةِ، مَرَّتْ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ وَالدَّعْوَةُ لَمْ تَزَلْ سِرِّيَّةً فَرْدِيَّةً.

وَخِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ تَكَوَّنَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَقُومُ عَلَى الْأُخُوَّةِ وَالتَّعَاوُنِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَتَمْكِينِهَا مِنْ مَقَامِهَا، ثُمَّ تَنَزَّلَ الْوَحْيُ يُكَلِّفُ الرَّسُولَ ﷺ بِمُعَالَنَتِهِ قَوْمَهُ، وَمُجَابَهَةِ بَاطِلِهِمْ، وَمُهَاجَمَةِ أَصْنَامِهِمْ جَهَارًا.

اتَّخَذَ الرَّسُولُ ﷺ دَارَ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ -وَهُوَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَائِلِ- مَرْكَزًا لِدَعْوَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِ عَدَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ اتِّخَاذَ هَذِهِ الدَّارِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتَهَا، وَصَبَّتْ غَضَبَهَا عَلَى بَعْضِ مَنْ أَسْلَمَ.

وَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الدَّارُ دَارُ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ فِي أَدَاءِ دَوْرِهَا الْفَعَّالِ حَتَّى إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيهَا فِي ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْمَبْعَثِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَا، لَمْ يُسْمَعْ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا ذِكْرٌ فِي حَوَادِثِ السِّيرَةِ، فَقَدْ عَزَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ إِسْلَامِ حَمْزَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.

((سِيرَةُ النَّبِيِّ ﷺ سِيرَةٌ كَامِلَةٌ))

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ مُحَمَّدًا ﷺ لَمْ يُحَاوِلْ أَنْ يُخْفِيَ عَنِ النَّاسِ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَلَا أَنْ يَكْتُمَهُمْ حَالَةً مِنْ حَالَاتِهِ؛ لِذَلِكَ عَرَفُوهُ كَمَا كَانَ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ الْآنَ فِي أَذْهَانِ عَارِفِيهِ كَمَا كَانَ فِي أَعْيُنِ مُشَاهِدِيهِ.

تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَقَدْ عَاشَرَتْهُ زَوْجَةً مُدَّةَ تِسْعِ سِنِينَ-: ((لَا تُصَدِّقُوا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ قَدْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ فَلَمْ يُبْدِهِ لِلنَّاسِ وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67])).

إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ وَأَجَلَّهُمْ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ فِيهِ رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ، وَوَاحِدًا كَآحَادِ النَّاسِ، وَلَقَدْ صَدَقَ (فُولْتِير) فِي كَلِمَتِهِ الشَّهِيرَةِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا فِي دَاخِلِ بَيْتِهِ، وَلَا بَطَلًا فِي أُسْرَتِهِ»؛ يُرِيدُ أَنَّ عَظَمَةَ الْمَرْءِ لَا يَعْتَرِفُ بِهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى دَخِيلَتِهِ فِي مَبَاذِلِهِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ يَشِذُّ عَنْهُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِنَّ مَا قِيلَ عَنِ الْعُظَمَاءِ فِي مَبَاذِلِهِمْ لَا يَصِحُّ فِي مُحَمَّدٍ رَسُولِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَشْهَدَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ (جِيبُّون): «لَمْ يَمْتَحِنْ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَصْحَابَهُ كَمَا امْتَحَنَ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ، إِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا تَقَدَّمَ إِلَى الَّذِينَ عَرَفُوهُ إِنْسَانًا الْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ، فَطَلَبَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَغُلَامِهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَأَقْرَبِ أَصْدِقَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ خِلَّانِهِ لَدَيْهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَكُلٌّ مِنْهُمْ صَدَّقَ دَعْوَاهُ، وَآمَنَ بِنُبُوَّتِهِ.

وَإِنَّ حَلِيلَةَ الْمَرْءِ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِبَاطِنِ أَمْرِهِ وَدَخِيلَةِ نَفْسِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ، فَلَا يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنَ الزَّوْجَةِ بِهَنَاتِ وَنَقَائِصِ الزَّوْجِ، أَلَيْسَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ زَوْجُهُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي عَاشَرَتْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، وَاطَّلَعَتْ عَلَى دَخَائِلِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَأَحَاطَتْ بِهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَلَمَّا صَرَّحَ بِالنُّبُوَّةِ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَتْ بِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَعَظِيمِ أَخْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَنْ يُخْزِيَهُ أَبَدًا.

إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ لَا يَأْذَنُ لِزَوْجِهِ -وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ- بِأَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَاهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ تُعْلِنَ كُلَّ مَا شَاهَدَتْهُ مِنْ أَحْوَالِهِ؛ لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَتْ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تِسْعُ زَوْجَاتٍ، وَكَانَتْ كُلٌّ مِنْهُنَّ فِي إِذْنٍ مِنَ الرَّسُولِ بِأَنْ تَقُولَ عَنْهُ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا تَرَاهُ مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَهُنَّ فِي حِلٍّ مِنْ أَنْ يُخْبِرْنَ النَّاسَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ كُلَّ مَا رَأَيْنَ مِنْهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَتَحَدَّثْنَ فِي السَّاحَاتِ وَالْمَجَامِعِ بِمَا يُشَاهِدْنَ مِنْهُ فِي الْحُجُرَاتِ؛ فَهَلْ عَرَفَتِ الدُّنْيَا رَجُلًا كَهَذَا الرَّجُلِ يَثِقُ بِنَفْسِهِ كُلَّ هَذِهِ الثِّقَةِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَبِّهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَا يَخَافُ قَالَةَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ أَحَدٍ؟!! لِأَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ السُّوءِ.

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا مَا تَحَلَّتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دَمَاثَةِ الْخُلُقِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَحَصَافَةِ الرَّأْيِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَرَحَابَةِ الصَّدْرِ؛ فَإِنَّ كُتُبَ الْحَدِيثِ مَلْأَى بِتَفَاصِيلِهِ، وَأَحْسَنُ كِتَابٍ: ((الشِّفَا))، لِلْقَاضِي عِيَاضٍ الْأَنْدَلُسِيِّ.

وَقَدْ قَالَ مُسْتَشْرِقٌ اسْمُهُ (مَاسِنْيُو): ((يَكْفِي لِتَعْرِفَ أُورُبَّا مَحَاسِنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَحَامِدَهُ أَنْ يُنْقَلَ كِتَابُ ((الشِّفَا)) لِلْقَاضِي عِيَاضٍ إِلَى إِحْدَى اللُّغَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ وَلِمَنْ يَحْضُرُ مَجَالِسَهُ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَهَذَا الْإِذْنُ عَامٌّ لِمَا يَكُونُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، أَوْ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ فِي حَلْقَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، أَوْ مَا يَقِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عِنْدَ تَعَبُّدِهِ فِي مَسْجِدِهِ، أَوْ قِيَامِهِ عَلَى مِنْبَرِهِ خَطِيبًا، أَوْ جِهَادِهِ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ تِجَاهَ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ يُسَوِّي صُفُوفَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ إِذَا خَلَا إِلَى رَبِّهِ فِي حُجْرَةٍ مُنْعَزِلَةٍ فِي بَيْتِهِ يَعْبُدُ اللهَ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، فَكَانَ أَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ جَمِيعًا بِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ آخِرُ مَسْجِدِهِ صُفَّةً يَأْوِي إِلَيْهَا فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بُيُوتٌ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، فَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْخُرُوجَ إِلَى مَا بَعْدَ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ يَحْتَطِبُونَ مِنْ أَشْجَارِ الصَّحَرَاءِ وَالْجَبَلِ، وَيَبِيعُونَ مَا يَأْتُونَ بِهِ لِيَقْتَاتُوا جَمِيعًا بِثَمَنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَائِرِهِمْ عَمَلٌ سِوَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَلُزُومِ مَجَالِسِهِ؛ لِيَحْفَظُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ وَمَا يَعْمَلُ، ثُمَّ يَرْوُونَهُ لِلنَّاسِ بِعِنَايَةٍ وَأَمَانَةٍ.

وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ أَهْلِ الصُّفَّةِ هَؤُلَاءِ -فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ- أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، كَانَ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ صَحَابِيٌّ أَكْثَرَ مِنْهُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا كَأَنَّهُمْ عُيُونٌ فِي نَشَاطِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ؛ لِمَا يَسَّرَهُمُ اللهُ لَهُ مِنْ حِفْظِ كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُونَ حِفْظَهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَوْضُوعِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، لَا يَفْتُرُونَ عَنْ ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَالُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمِيًّا مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ فِي غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ كَانُوا مَعَهُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى لَمْ تَخْفَ عَنْهُمْ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي رِسَالَتِهِ.

وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَلَمَّا سَارَ إِلَى تَبُوكَ كَانَ فِي مُعَسْكَرِهِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَلَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ حَجَّ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُسْلِمٍ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ عُنْوَانُ الصَّحَابَةِ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ يَحْرِصُ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ, ثُمَّ يَتَحَدَّثُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ أَوْ يَرَوْنَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ هَلْ يَخْفَى عَنِ التَّارِيخِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ حَيَاتِهِ، أَوْ نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِيهَا؟!!

هَذَا مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ.

وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُ؛ فَإِنَّهُمْ أَفْرَغُوا جُهْدَهُمْ، وَاسْتَنْفَذُوا سَعْيَهُمْ؛ لِيَقِفُوا عَلَى دَخِيلَةٍ مِنْ دَخَائِلِهِ، وَلِيُؤَاخِذُوهُ بِحَقِيقَةٍ يَعْلَمُونَهَا عَنْهُ؛ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجِدَ لَهُ نَاحِيَةَ ضَعْفٍ، وَلَا مَا يُنَدَّدُ بِهِ.

وَأَقْصَى مَا اسْتَطَاعَ أَعْدَاؤُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَنْ يَقُولُوهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَلَّ سَيْفَهُ لِلْقِتَالِ، وَأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَيَاتَهُ الطَّاهِرَةَ هِيَ حَيَاةُ الْعِصْمَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ؛ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَيَاةٍ لَا نَعْلَمُ عَنْهَا شَيْئًا، وَلَا تَزَالُ نَوَاحِيهَا وَجَوْهَرُهَا سِرًّا فِي ضَمِيرِ الزَّمَنِ؟!!

وَالرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَقْضِ حَيَاتَهُ كُلَّهَا بَيْنَ أَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، بَلْ قَضَى أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَكَانَ بَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَتَعَاطَى فِيهِمُ التِّجَارَةَ، وَيُعَامِلُهُمْ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ لَيْلَ نَهَارَ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْيَوْمِيَّةُ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكْشِفَ عَنْ أَخْلَاقِ الْمَرْءِ، فَيَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهَا وَصَلَاحُهَا، وَهِيَ عِيشَةٌ طَوِيلٌ طَرِيقُهَا، كَثِيرَةٌ مُنْعَطَفَاتُهَا، وَعْرَةٌ مَسَالِكُهَا، تَعْتَرِضُهَا وَهْدَاتٌ مِمَّا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْمَرْءِ مِنْ خِيَانَةٍ وَإِخْفَارِ عَهْدٍ، وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَعَقَبَاتٍ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَتَطْفِيفِ الْكَيْلِ، وَبَخْسِ الْحُقُوقِ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ اجْتَازَ هَذِهِ السُّبُلَ الشَّائِكَةَ الْوَعْرَةَ، وَخَلُصَ مِنْهَا سَالِمًا نَقِيًّا، لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِمَّا يُصِيبُ عَامَّةَ النَّاسِ؛ حَتَّى لَقَدْ دَعَوْهُ «الْأَمِينَ».

وَقُرَيْشٌ بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَتَصْرِيحِهِ بِالنُّبُوَّةِ كَانُوا يُودِعُونَ عِنْدَهُ وَدَائِعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ لِعَظِيمِ ثِقَتِهِمْ بِهِ، وَهُوَ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ خَلَّفَ فِيهَا عَلِيًّا لِيَرُدَّ مَا كَانَ لَدَيْهِ مِنَ الْوَدَائِعِ إِلَى أَهْلِهَا.

فَقُرَيْشٌ خَالَفُوهُ أَشَدَّ الْخِلَافِ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا سَبِيلًا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا سَلَكُوهُ، فَقَاطَعُوهُ، وَعَانَدُوهُ، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ سَلَا جَزُورٍ وَهُوَ يُصَلِّي، وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، وَكَادُوا لَهُ كَيْدَهُمْ، وَسَمَّوْهُ سَاحِرًا، وَدَعَوْهُ شَاعِرًا، وَفَنَّدُوا آرَاءَهُ، وَسَخَّفُوا حِلْمَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِي أَخْلَاقِهِ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَرْمِيَهُ بِالْخِيَانَةِ، أَوْ يَنْسُبَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ، أَوْ إِخْلَافَ الْوَعْدِ، أَوْ إِخْفَارَ الذِّمَّةِ، أَوْ نَقْضَ الْعَهْدِ)).

فَمَعَ عَدَاوَتِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْهُ: إِنَّهُ هُوَ ((الصَّادِقُ الْأَمِينُ)) ﷺ، وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ.

يَا مَنْ لَهُ الْأَخْلَاقُ مَا تَهْوَى الْعُلَا=مِنْهَا وَمَا يَتَعَشَّقُ الْكُبَراءُ

فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالْجُودِ الْمَدَى=وَفَعَلْتَ مَا لَا تَفْعَلُ الْبُذَلَاءُ

وَإِذَا عَفَوْتَ فَقادِرًا وَمُقَدَّرًا=لَا يَستَهِينُ بِعَفْوِكَ الْجُهَلَاءُ

وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ=هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَماءُ

وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّما هِيَ غَضْبَةٌ=فِي الْحَقِّ لَا ضِغْنٌ وَلَا بَغْضَاءُ

وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ=وَرِضَا الْكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ

وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِزَّةٌ=تَعْرُو الْنَّدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ

وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا=جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ

وَإِذَا حَمَيْتَ الْمَاءَ لَمْ يُورَدْ وَلَوْ=أَنَّ الْقَيَاصِرَ وَالْمُلُوكَ ظِمَاءُ

وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللهِ لَمْ=يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرَ عِدَاءُ

وَإِذَا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ بِبِرِّهَا=وَلَوَ انَّ مَا مَلَكَتْ يَدَاكَ الشَّاءُ

وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيرُ زَوْجٍ عِشْرَةً=وَإِذَا ابْتَنَيْتَ فَدُونَكَ الْآبَاءُ

وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّدًا=فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ=فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

وَإِذَا مَشَيْتَ إِلَى الْعِدَا فَغَضَنْفَرٌ=وَإِذَا جَرَيْتَ فَإِنَّكَ النَّكْبَاءُ

وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِيًا=حَتَّى يَضِيقَ بِعَرضِكَ السُّفَهَاءُ

صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَنَفْسِي، صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ، وَعَلَى آلِكَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمِيلَادِ إِلَى الْبِعْثَةِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْهُوِيَّةِ
  مع سيد قطب رحمه الله
  ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ
  لقد صاروا جميعًا من أهل السياسة !!
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ وَدُرُوسٌ مِنْ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ
  الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 3
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان