مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ

مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ

((مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:


مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ حِفْظُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ

فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

عِبَادَ اللهِ! الْمَصْلَحَةُ فِيمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ بِمَا يَلِي: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ- طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا)).

وَالْمَصَالِحُ الْمُعْتَبَرَةُ: هِيَ الْمَصَالِحُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ:

* حِفْظُ الدِّينِ.

* وَحِفْظُ النَّفْسِ.

* وَحِفْظُ الْعَقْلِ.

* وَحِفْظُ النَّسْلِ.

* وَحِفْظُ الْمَالِ.

لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ بِهَا قِوَامُ الدُّنْيَا الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَلِيقُ بِهِ إِلَّا بِهَا.

الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْلِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بِحَيْثُ يَنْشَأُ قَوِيًّا فِي خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ، وَمَشَاعِرِهِ، وَمَوَاهِبِهِ، وَدِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ الْأُسَرِيَّةِ؛ لِيَتَرَبَّى الْأَوْلَادُ فِيهَا، وَيَنْعَمُوا بِالْحَيَاةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِالْأُمُومَةِ الَّتِي تَتَغَذَّى مِنْهَا الْعَوَاطِفُ، وَتَكْتَمِلُ بِهَا الْمَدَارِجُ؛ فَيَنْشَأُ الْمُسْلِمُ سَوِيًّا لَا عِوَجَ فِيهِ.

وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْلِ، وَحِيَاطَتِهِ.

وَحِفْظُ الْعِرْضِ شُرِعَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَحَدُّ الزِّنَا.

وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هِيَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ.


مَعْنَى الْعِرْضِ

الْعِرْضُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ:

الْعِرْضُ بِالْكَسْرِ: الْجَسَدَ وَالنَّفْسَ، وَجَمْعُهُ الْأَعْرَاضُ.

وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ: مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي سَلَفِهِ، أَوْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ, وَقِيلَ: هُوَ جَانِبُهُ الَذِي يَصُونُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَحَسَبِهِ، وَيُحَامِي عَنْهُ أَنْ يُنْتَقَصَ وَيُثْلَبَ, وَبِهِ فُسِّرَ قَولُ النَّابِغَةِ:

يُنْبِيكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُمْ=وَلَيْسَ جَاهِلُ أَمْرٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا

الْعِرْضُ لَيْسَ كَمَا يَتَصَوَّرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، النَّاسُ يَظُنُّونَ الْعِرْضَ: الْفَرْجَ، أَوْ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْهُ.

الْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ.

تَأَمَّلْتَهُ؟!!

الْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ.


سُبُلُ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا حَفِظَتْ لِلْإِنْسَانِ كَرَامَتَهُ وَإِنْسَانِيَّتَهُ، وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ؛ فَهِيَ شَرِيعَةُ الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ صِيَانَةَ الْأَعْرَاضِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا، وَالنَّيْلَ مِنْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: وَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ؛ كَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ كُلُّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْبَغْيِ كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ.

فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ تَرْجِعُ إِلَيْهَا سَائِرُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى عَدْلٍ، أَوْ إِحْسَانٍ، أَوْ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى؛ فَهِيَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.

وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فَحْشَاءٍ، أَوْ مُنْكَرٍ، أَوْ بَغْيٍ؛ فَهِيَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَا يُعْلَمُ حُسْنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَقُبْحُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِهَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْوَالِ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ فِي كَلَامِهِ الْهُدَى، وَالشِّفَاءَ، وَالنُّورَ، وَالْفُرْقَانَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ.. بِأَمْرِكُمْ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِكُمْ، وَنَهْيِكُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مَا يَعِظُكُمْ بِهِ فَتَفْهَمُونَهُ وَتَعْقِلُونَهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهُ وَعَقِلْتُمُوهُ؛ عَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَسَعِدْتُمْ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا.

وَقَدْ بَشَّرَ نَبِيُّنَا ﷺ مَنْ يَحْمِي عِرْضَهُ بِرُفْقَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، يَقُولُ ﷺ: ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.


مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

مُحَارَبَةُ الْفَوَاحِشِ وَسَدُّ الْمَسَالِكِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا

لَقَدْ جَاءَتِ التَّشْرِيعَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ حَامِيَةً لِلْأَعْرَاضِ، وَحَافِظَةً لَهَا مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا وَيَشِينُهَا؛ فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا، وَيَسُدُّ كُلَّ الْمَسَالِكِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا؛ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ، وَحِفَاظًا عَلَى الشَّرَفِ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَهُوَ دِينُ الْعِفَّةِ وَدِينُ الْعَفَافِ، يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا، وَيَسُدُّ الْمَسَالِكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا.

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِهِ فِي خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ: «أَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ».

الْمُجْتَمَعُ إِذَا مَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا مَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهُ فِي الْحَمْأَةِ الْوَبِيلَةِ، الْمُجْتَمَعُ إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْفَاحِشَةُ؛ انْهَارَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي دَاخِلٍ وَخَارِجٍ أَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا بِالْمُوَاجَهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ذَا بَالٍ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيزُ كُلُّهُ عَلَى بَثِّ الشُّبُهَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى إِثَارَةِ نَوَازِعِ الْعَصَبِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبِإِثَارَةِ الشَّهَوَاتِ وَبَعْثِ النَّزَوَاتِ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَإِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ؛ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ لَا مَحَالَةَ.

* مُعَامَلَةُ أَطْهَرِ الرِّجَالِ مَعَ أَطْهَرِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: ضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الْأَمْثَالَ بِأَطْهَرِ الْقُلُوبِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].

وَالضَّمِيرُ هَاهُنَا يَعُودُ إِلَى الْأَصْحَابِ.. أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَإِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا سَأَلْتُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} أَيْ: سَأَلْتُمْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ {مَتَاعًا} فِيمَا يَكُونُ مِنْ أَوَانِي الدُّنْيَا الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي حَاجَاتِهَا.

{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}: مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ هَكَذَا عَلَى صَوْتٍ يُسْمَعُ، وَإِجَابَةٍ تَأْتِي بِلَا مَزِيدٍ، {ذَلِكُمْ} يَعْنِي: ذَلِكُمُ السُّؤَالُ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الْمَذْكُورِ؛ بِالسُّؤَالِ صَوْتًا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا دُخُولٍ {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ {وَقُلُوبِهِنَّ} يَا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ.

فَهَذِهِ أَطْهَرُ الْقُلُوبِ طُرًّا، وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ السُّؤَالِ بِهَذَا الِاحْتِرَازِ الْمَتِينِ؛ لِأَنَّهُنَّ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ لِسَائِرِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ لِسَائِرِ الرِّجَالِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

أَمْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ النِّسَاءَ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ: يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].

فَأَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نِسَاءَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ أَنَّهُنَّ لَسْنَ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْنَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: بِاللِّينِ فِيهِ، وَتَرْقِيقِ النَّبْرَةِ، فَنَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ؛ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.

كَيْفَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا؟

فَإِنْ وَجَدَ عِنْدَ سَمَاعِ النَّغْمَةِ الَّتِي تَلِينُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَتُرَقِّقُهَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ يَتَحَرَّكُ فِي قَلْبِهِ؛ فَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ؛ فَالْفِرَارَ الْفِرَارَ؛ وَإِلَّا تَوَرَّطَ تَوَرُّطًا.

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ مِنَ النِّسَاءِ؛ فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَلَّا تُرَقِّقَ صَوْتَهَا، وَأَلَّا تَلِينَ بِقَوْلِهَا، وَأَلَّا تَخْضَعَ بِالْقَوْلِ مَعَ غَيْرِ مَحَارِمِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ أَشْرَفَ النِّسَاءِ طُرًّا، وَهُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، مَعَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِمَا يَسُوءُ، وَلَا إِغْلَاظٍ وَلَا فُحْشٍ فِيهِ.

وَأَمَّا الْآنَ؛ فَإِنَّكَ تَرَى النِّسَاءَ يَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ مَعَ غَيْرِ الْمَحَارِمِ مَا لَا يَفْعَلْنَ مَعَ الْمَحَارِمِ، مَا لَا يَفْعَلْنَ مَعَ زَوْجٍ -مَعَ زَوْجٍ لَهُ حَقٌّ!!-، فَيَأْتِي الْخُضُوعُ بِالْقَوْلِ فِي هَاتِفٍ يُهَاتَفُ بِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ وَلَوْ كَانَ اسْتِفْتَاءً فِي دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَيَا لَلَّهِ! كَمْ سُفِحَتْ أَعْرَاضٌ وَكَمِ انْتُهِكَتْ، وَكَمْ كُشِفَتْ سَوْآتٌ وَكَمْ عُرِّيَتْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَحَارِمِ!!

* التَّحْذِيرُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَمِنَ الِاخْتِلَاطِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ».

قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)).

قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».

وَالْحَمْوُ: أَقَارِبُ الزَّوْجِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لِلزَّوْجَةِ؛ فَإِنَّ أُصُولَ الزَّوْجِ -وَإِنْ عَلَتْ- هُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَكَذَلِكَ فُرُوعُهُ -وَإِنْ سَفُلُوا- هُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَأَمَّا الْحَوَاشِي؛ فَمِنَ الْأَجَانِبِ عَنِ الْمَرْأَةِ؛ كَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ.

((أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)).

فَقَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» أَيْ: كَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفِرَّ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ إِذَا مَا رَأَيْتَهَا نَازِلَةً عَلَيْكَ؛ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفِرَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ نِسَائِكَ وَأَقَارِبِكَ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمُ الْمَحْرَمِيَّةُ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السِّتْرَ مَضْرُوبًا لِعَفَافٍ وَعِفَّةٍ، وَطُهْرٍ وَطَهَارَةٍ، فَأَمَّا إِذَا مَا رُفِعَ؛ فَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى الْفُحْشُ وَالْفَاحِشَةُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ كَائِنًا مَا كَانَ أَمْرُهُ؛ فَإِنَّ أَسْبَابَ الْغِوَايَةِ لَا تَنْضَبِطُ، وَإِنَّ الْمَخْذُولَ لَمَنْ خَذَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالْمَرْءُ إِذَا تَلَوَّثَتْ صَفْحَتُهُ بِالْوُقُوعِ فِي الزِّنَا، وَالتَّوَرُّطِ فِي الْفَاحِشَةِ؛ فَقَدْ تَلَوَّثَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَاطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَتَسَاهَلُونَ؛ فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ.

* أَمْرُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَضِّ الْبَصَرِ: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} يَعْنِي: إِذَا أَتَتْ نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَاصْرِفْ بَصَرَكَ، وَهَذَا وَاجِبٌ وَفَرْضٌ.

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قَوْلًا وَاحِدًا؛ فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَبْعِيضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كُلٌّ يٌؤْتَى بِهِ كُلًّا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ.

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}، ثُمَّ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.

* تَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَاتِ الْمَكْشُوفَةِ فِي الشَّوَارِعِ، أَوِ التِّلْفَازِ، أَوِ الْمَجَلَّاتِ: النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَيْنَيْنِ تَزْنِيَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ».

تَحْسَبُ أَنَّ النَّظَرَ إِذَا مَا سُرِّحَ فِي مَحَارِمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَظَرًا فِي صُورَةٍ صَامِتَةٍ مَطْبُوعَةٍ، أَوْ صُورَةٍ نَاطِقَةٍ مُشَاهَدَةٍ مُبْصَرَةٍ؛ تَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا كَنَزْتَهُ لِنَفْسِكَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا حَصَّلْتَهُ لَكَ ذُخْرًا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ حُزْتَهُ لَدَيْكَ كَنْزًا مَكْنُوزًا؟!!

وَاهِمٌ أَنْتَ يَا صَاحِبِي!!

وَأَمَرَ الْمُؤْمِنَاتِ بِذَلِكَ؛ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.

* نَهْيُ النَّبِيِّ الشَّدِيدُ وَوَعِيدُهُ الْأَكِيدُ أَنْ تَخْرُجَ النِّسَاءُ مُتَعَطِّرَاتٍ: ذَكَرَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ أَيْ: مَسَّتْ عِطْرًا-، وَخَرَجَتْ؛ فَكُلُّ عَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيْهَا زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَسَّتْ طِيبًا؛ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَهِيَ زَانِيَةٌ، وكُلُّ عَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيْهَا زَانِيَةٌ».

* لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ: عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَنَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ».

فَلَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُخَنَّثَ الَّذِي يَتَكَسَّرُ فِي كَلَامِهِ، أَوْ لِبَاسِهِ، أَوْ فِي مِشْيَتِهِ، يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ؛ فَهَذَا مَلْعُونٌ بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَلَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَرْأَةَ الْمُتَرَجِّلَةَ، فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ مَلْعُونَةً، وَاللَّعْنُ: هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَدُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ مُسْتَجَابٌ؛ فَالْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ فِي كَلَامِهَا، أَوْ فِي حَرَكَاتِهَا، أَوْ فِي ثِيَابِهَا، أَوْ فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهَا، أَوْ فِي مُزَاحَمَتِهَا لِلرِّجَالِ بِكُلِّ سَبِيلٍ؛ هَذِهِ مَلْعُونَةٌ بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَظِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ لَبِسَ لِبْسَةَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، وَمَنْ لَبِسَتْ لِبْسَةَ الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» فِي مَعْنَى مَا قَالَ ﷺ.

قَالَ ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

* الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ: يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنْ وُجُودٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذَكَرَ: «وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا».

«وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ»؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ قَدْ جَعَلَتِ السِّدَالَ قَائِمًا، فَلَا يُبْصَرُ مِنْهَا شَيْءٌ.. كَاسِيَةٌ، عَارِيَةٌ مِنَ التَّقْوَى بَاطِنًا؛ فَهِيَ دَاخِلَةٌ.

أَوْ هِيَ كَاسِيَةٌ بِشُفُوفٍ تَشِفُّ، وَثِيَابٍ تَصِفُ، ثُمَّ هِيَ كَاسِيَةٌ عَارِيَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ.

قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ»: تُمِيلُ بِالْخَنَا، فَهِيَ مَائِلَةٌ عَنِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا «مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» وَالبُخْتُ: إِبِلٌ لَهَا سَنَامٌ يَمِيلُ بِقِمَّةِ الشَّعْرِ فِيهِ نَاحِيَةً، وَكَذَلِكَ تَجِدُ الْمَرْأَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَاسِيَةً عَارِيَةً، تَخْرُجُ بِثِيَابٍ إِلَى الْأَجَانِبِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا قَطُّ.

وَعَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي آمَنَتْ بِرَبِّهَا وَسَتَرَتْ جَسَدَهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَلَا تَتَبَرَّجَ بِحِجَابِهَا؛ فَهَذَا شَيْءٌ شَائِنٌ لَا يَلِيقُ، وَالْحِجَابُ الْآنَ قَدْ تَبَرَّجَ، نَعَمْ، صَارَ الْحِجَابُ يَحْتَاجُ حِجَابًا؛ فَقَدْ تَبَرَّجَ الْحِجَابُ!!

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا، وَعَلَى الْمُسْلِمِ -وَعَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا- أَنْ يَعْرِفَ طَرِيقَهُ إِلَى رَبِّهِ؛ فَالْحَيَاةُ مُنْقَضِيَةٌ أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، مُنْقَضِيَةٌ، ثُمَّ هِيَ لَيْسَتْ عَلَى الشَّبَابِ تَدُومُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَوَرَّطَ فِي تِلْكَ الشَّهَوَاتِ؛ عُوقِبَ دُنْيَا وَآخِرَةً إِنْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ، وَيَعُدْ إِلَى اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَاقَبَ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ:

مَنْ يَزْنِ فِي امْرَأَةٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ=فِي بَيْتِهِ يُـزْنَى بِغَيْرِ الدِّرْهَمِ

إِنَّ الزِّنَا دَيْنٌ فَإِنْ أَسْلَفْتَهُ=كَانَ الْوَفَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ

وَالْمَرْأَةُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- هِيَ أَشَدُّ فِتْنَةٍ تُرِكَتْ قَطُّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الرِّجَالِ: «مَا تَرَكْتُ فِتْنَةً هِيَ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ».

وَالْمَرْأَةُ مُكَرَّمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ دِينِ الطَّهَارَةِ، دِينِ الْعِفَّةِ، وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ -وَاللهِ- مُعَجِّلٌ بِالسُّقُوطِ فِي الْهَاوِيَةِ.

فَحُدُودُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُعْتَدَى، وَمَحَارِمُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُنْتَهَكَ؛ وَإِلَّا فَهُوَ الدَّمَارُ وَهُوَ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ «إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ؛ فَقَدْ أَحَلُّوا -أَيْ: أَنْزَلُوا- بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنْ نَفْزَعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ نَتْرُكَ الْمَعَاصِيَ جَانِبًا، وَأَنْ نُغَادِرَ هَذَا الْفُحْشَ الْفَاحِشَ الَّذِي تَعُجُّ بِهِ الدُّنْيَا.


مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

فَرْضُ الْحُدُودِ عَلَى مُنْتَهِكِ الْأَعْرَاضِ

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْحِفَاظِ عَلَى الشَّرَفِ، وَصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ: الْحُدُودَ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عُقُوبَةً لِلْمُتَعَدِّي عَلَى الْأَعْرَاضِ؛ فَـ((إِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الْحُدُودِ، وَتَنَوُّعِهَا بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ.

وَهَذَا لِأَنَّ الْجَرَائِمَ وَالتَّعَدِّيَ عَلَى حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ الَّذِي يُخِلُّ بِالنِّظَامِ، وَيَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا.

فَوَضَعَ الشَّارِعُ لِلْجَرَائِمِ وَالتَّجَرُّءاتِ حُدُودًا تَرْدَعُ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَتُخَفِّفُ مِنْ وَطْأَتِهَا: مِنَ الْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَالْجَلْدِ، وَأَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ.

وَكُلُّهَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْعَاقِلُ حُسْنَ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّ الشُّرُورَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاوَمَ وَتُدْفَعَ دَفْعًا كَامِلًا إِلَّا بِالْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَشِدَّةً وَضَعْفًا)).

وَالْحَدُّ بِإِقَامَتِهِ هَلْ هُوَ حَقُّ اللهِ، أَوْ حَقُّ الْعَبِيدِ؟

فَأَمَّا مَنْ قَالَ: هُوَ حَدُّ الْإِسْلَامِ فِيمَنِ ارْتَكَبَ أَمْرًا قَرَّرَ الْإِسْلَامُ فِيهِ حَدًّا؛ فَهُوَ حَقُّ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْحَاكِمَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلَوْ تَنَازَلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ، كَمَا فِي الْقَذْفِ -مَثَلًا-، فَإِنَّ الْمَقْذُوفَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَدَّ هُوَ حَقُّ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. لَوْ تَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ -وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ-: إِنَّهُ -أَيِ: الْحَدُّ بِإِقَامَتِهِ- حَقُّ الْعَبْدِ؛ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْهُ، وَهُوَ يُوَرَّثُ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يُطَالِبُوا بِهِ، وَأَنْ يَتَنَازَلُوا عَنْهُ، كَمَا فِي الْقَذْفِ -مَثَلًا-.

وَهُوَ أَمْرٌ يَسْتَهِينُ بِهِ النَّاسُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَحَدِّثْ عَنِ الْفَسَادِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا حَرَجَ!!

نَهَانَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ تَأْخُذَنَا رَأْفَةٌ بِالزُّنَاةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَمْنَعُنَا مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَرَحْمَتُهُ حَقِيقَةٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَرَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْضُرَ عَذَابَ الزَّانِيَيْنِ طَائِفَةٌ -أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ-؛ لِيَشْتَهِرَ، وَيَحْصُلَ بِذَلِكَ الْخِزْيُ وَالِارْتِدَاعُ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي -وَهُمَا: الْمَرْأَةُ الْمُكَلَّفَةُ وَالرَّجُلُ الْمُكَلَّفُ الْعَالِمَانِ بِتَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ بِالزِّنَا، وَأَقْدَمَا عَلَى ارْتِكَابِهِ حَقِيقَةً بِاخْتِيَارِهِمَا-؛ فَاضْرِبُوا -أَيُّهَا الْحُكَّامُ- كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ بِالسَّوْطِ تُبَاشِرُ أَجْسَادَهُمْ.

وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ فِي شَرْعِ اللهِ وَحُكْمِهِ؛ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا، أَوْ تُخَفِّفُوا الضَّرْبَ، بَلْ أَوْجِعُوهُمَا ضَرْبًا إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَقِيقَةً، لَا ادِّعَاءً.

وَلْيَحْضُرْ مَشْهَدَ التَّعْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ لِأُولَئِكَ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، رِجَالًا وَنِسَاءً؛ تَشْهِيرًا بِهِمَا، وَزِيَادَةً فِي افْتِضَاحِهِمَا؛ لِيَكُونَ الْخِزْيُ وَالْعَارُ أَبْلَغَ فِي حَقِّهِمَا.

وَهَذَا فِي حَدِّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ.

وَأَمَّا الْمُحْصَنُ -وَهُوَ مَنْ وَطِئَ فِي زَوَاجٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ-؛ فَحَدُّهُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا ثَبَتَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.

الَّذِي يَزْنِي وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَتُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ يُقِرُّ -وَلَا مَوَانِعَ هُنَالِكَ-؛ يُرْجَمُ..

الَّذِي يَزْنِي وَهُوْ عَزَبٌ، وَهُوَ بِكْرٌ لَمْ يَتَزَوَّجْ بَعْدُ، ثُمَّ تُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ يُقِرُّ وَيَعْتَرِفُ، وَلَا مَانِعَ هُنَالِكَ -يَعْنِي: مِنْ عَدَمِ عِلْمٍ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ مِنْ جُنُونٍ مَانِعٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُفَصَّلٌ- وَلَا مَانِعَ؛ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِأَنْ يُجْلَدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ هَذَا الْجَلْدَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَتَّى يَسْتَطْرِقَ هَذَا الْأَمْرُ بَيْنَ النَّاسِ.

ثُمَّ -كَمَا هُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ- إِنْ كَانَ ذَكَرًا؛ فَإِنَّهُ يُغَرَّبُ -أَيْ: يُبْعَدُ عَنْ وَطَنِهِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْجَرِيمَةُ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ- يُغَرَّبُ عَامًا؛ حَتَّى تُنْسَى الْجَرِيمَةُ، فَإِذَا مَا عَادَ؛ لَمْ يَلْمَحْ شَيْئًا وَلَا لَمْحًا خَاطِفًا كَلَمْحِ الْبَرْقِ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ فِي عَيْنِ شَامِتٍ وَلَا مُنَافِقٍ وَلَا فَاجِرٍ، فَيُغَرَّبُ عَامًا، وَيُنْسَى ذَلِكَ، وَيُطْوَى وَلَا يُرْوَى، فَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ؛ فَرَبُّكَ التَّوَّابُ يَقْبَلُ مِنْ عِبَادِهِ الْمَتَابَ، وَيَغْفِرُ وَيُثِيبُ مَنِ اعْتَدَلَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَابْتَعَدَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْخَطِيئَةِ وَالْخَطَأِ.

هَذَا هُوَ الْحَدُّ فِي الزِّنَا الَّذِي يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا الزِّنَا الَّذِي لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِالنَّظَرِ، وَبِتَمَنِّي الْقَلْبِ وَاشْتِهَائِهِ، وَبِبَطْشِ الْيَدِ، وَسَعْيِ الرِّجْلِ، وَاسْتِمَاعِ الْخَنَا، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظرُ، وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَتَشَهَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)).

فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالزِّنَا الْمُسْتَوْجِبِ لِلْحَدِّ، وَهُوَ أَعْنِي: الزِّنَا الْمُسْتَوْجِبَ لِلْحَدِّ-: تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ أَوْ مَقْطُوعِهَا مِنْ رَأْسِ الذَّكَرِ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى بِالطَّبْعِ؛ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ، فَإِذَا غُيِّبَ هَذَا الْقَدْرُ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى بِالطَّبْعِ مُجَرَّدَ تَغْيِيبِهِ، ثُمَّ نُزِعَ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ، إِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَالرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ -وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ- يَرَوْنَ أَنَّ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، ثُمَّ يُقَامُ بَعْدَ ذَلِكَ حَدُّ الرَّجْمِ، فَيُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، ثُمَّ يُرْجَمُ حَتَّى يَمُوتَ.

تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ أَوْ مَقْطُوعِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى بِالطَّبْعِ؛ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِتْمَامٍ، إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْأَبْعَدُ حَدًّا، إِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَالرَّجْمُ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا فَيَسْتَوْجِبُ الْجَلْدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ عَذَابَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ سَتَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَسَتَرَ نَفْسَهُ؛ فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ وَغَفَرَ لَهُ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَجْعَلُ هَذَا الْحَدَّ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ وَلَكِنْ يَجْعَلُ الْمُقَدِّمَاتِ -وَهَذِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ- مُحَرَّمَةً أَيْضًا، ((الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ))، فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ النَّظَرَ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى مَا لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ، وَحَرَّمَ الِاسْتِمَاعَ، وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ، حَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ؛ بَلْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَخْلُوَ الدَّاعِرُ الْفَاجِرُ بِمَنْ هِيَ لَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَعَلَيْهِ، بِمَنْ هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لَوْ كَانَ خَبِيثًا يَقَعُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِأُخْتِهِ إِذَا كَانَ دَاعِرًا خَبِيثًا فَاجِرًا، أَوْ بِأُمِّهِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَقَعُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَزِنَا الْمَحَارِمِ يَسْتَشْرِي بَيْنَ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ وَسَتْرِهِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.


مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

الْأَمْرُ بِحِفْظِ اللِّسَانِ

لَقَدْ وَضَعَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ كُلَّ الضَّمَانَاتِ الَّتِي تَحْفَظُ لِلْإِنْسَانِ عِرْضَهُ وَشَرَفَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَمْرُ بِحِفْظِ اللِّسَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ الْإِنْسَانُ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ.

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِفْظَ اللِّسَانِ مَعَ حِفْظِ الْفَرْجِ جَوَازًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَمَنْ ضَمِنَ اللِّسَانَ وَالْفَرْجَ؛ ضَمِنَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ الْجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((الضَّمَانُ بِمَعْنَى الْوَفَاءِ بِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَطْلَقَ الضَّمَانَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ؛ فَالْمَعْنَى: مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ النُّطْقِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوِ الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَأَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى فَرْجِهِ مِنْ وَضْعِهِ فِي الْحَلَالِ، وَكَفِّهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَقَوْلُهُ: ((لَحْيَيْهِ)): هُمَا الْعَظْمَانِ فِي جَانِبَيِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: اللِّسَانُ وَمَا يَتَأَتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ: الْفَرْجُ)).

وَفِي بَيَانِ أَنَّ اللِّسَانَ قَائِدُ الْأَعْضَاءِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ؛ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَتَكْفِيرُ الْأَعْضَاءِ لِلِّسَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الْأَعْضَاءِ اللِّسَانَ مَنْزِلَةَ الْكَافِرِ بِالنِّعَمِ.

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ اللِّسَانَ أَخْوَفَ مَا يَخَافُ عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ)).

قَالَ: ((قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟)).

فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَوَّلُ مَذْكُورٍ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ النَّجَاةِ هُوَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ))؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا النَّجَاةُ؟)).

قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ كَفَّ اللِّسَانِ عَمَّا يَسُوءُ وَلَا يُرْضِي الرَّبَّ مِلَاكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ.

عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ)).

قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-17])).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟)).

فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!!)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((بِمِلَاكِ)) أَيْ: بِمَا يَمْلِكُ بِهِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ.

وَقَوْلُهُ: ((يَكُبُّ)): مِنْ كَبَّهُ إِذَا صَرَعَهُ، وَ((حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) بِمَعْنَى: مَحْصُودَاتِهِمْ، عَلَى تَشْبِيهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ؛ فَكَذَلِكَ لِسَانُ الْمِكْثَارِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ وَمَا يَقْبُحُ.

وَفِي إِعْرَاضِ الْمَرْءِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ سَمْتٌ حَسَنٌ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ رَأْسُ مَالِهِ؛ لَمْ يُنْفِقْهُ إِلَّا فِي فَائِدَةٍ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ حَبْسَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللهِ -تَعَالَى-، وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ؛ كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ جَوْهَرَةٍ فَأَخَذَ عِوَضَهَا مَدَرَةً أَوْ بَعْرَةً، وَهَذَا مِنْ خُسْرَانِ الْعُمُرِ.

وَآفَاتُ اللِّسَانِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَلَهَا فِي الْقُلُوبِ حَلَاوَةٌ، وَلَهَا بَوَاعِثُ مِنَ الطَّبْعِ، وَلَا نَجَاةَ مِنْ خَطَرِهَا إِلَّا بِالصَّمْتِ، وَالصَّمْتُ يَجْمَعُ الْهِمَّةَ، وَيُفَرِّغُ الْفِكْرَ.

وَفِى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)).

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)).

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ)).

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنْصِفْ أُذُنَيْكَ مِنْ فِيكَ؛ فَإِنَّمَا جُعِلَتْ لَكَ أُذُنَانِ وَفَمٌ وَاحِدٌ؛ لِتَسْمَعَ أَكْثَرَ مِمَّا تَتَكَلَّمُ بِهِ)).

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَخْلَدٍ: ((مَا تَكَلَّمْتُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً بِكَلِمَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَعْتَذِرَ عَنْهَا)).


مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

تَحْرِيمُ الْقَذْفِ

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! العِرْضُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي صَانَهَا الْإِسْلَامُ، وَمَنَحَهَا الْحِمَايَةَ، وَوَضَعَهَا فِي مَكَانِ الصِّيَانَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ حِمَايَتِهِ: تَحْرِيمُ الْقَذْفِ؛ فَمِنْ أَشْنَعِ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ الَّتِي رَتَّبَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهَا الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا: قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ.

وَالْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ.

((وَفِي الشَّرْعِ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا فِي مَعْرِضِ الشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ)).

وَالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْحَرَائِرُ الْعَفِيفَاتُ الْمُسْلِمَاتُ.

وَيَلْحَقُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَذْفُ الرَّجُلِ فِي الْحُكْمِ كَقَذْفِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُنَّ أَبْشَعُ، وَالنَّيْلَ مِنْهُنَّ أَشْنَعُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ وَالتَّصَوُّنِ.

((وَالْقَذْفُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، وَحَرَامٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ وَلَا لِمُسْلِمَةٍ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفَاحِشَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ صَادِقًا عِنْدَ نَفْسِهِ فِي اتِّهَامِهِ أَمْ كَانَ كَاذِبًا.

أَمَّا فِي حَالَةِ الْكَذِبِ: فَلِأَنَّهُ بُهْتَانٌ وَظُلْمٌ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَأَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِهِ صَادِقًا عِنْدَ نَفْسِهِ: فَلِأَنَّهُ كَشْفٌ لِلْأَسْتَارِ، وَهَتْكٌ لِلْأَعْرَاضِ، وَفَضْحٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَنَشْرٌ لِمَقَالَةِ السُّوءِ فِي الْمُجْتَمَعِ)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

وَأَمَّا أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ؛ فَكَثِيرَةٌ:

(({إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيِ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ، فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ؛ وَذَلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ، وَلِاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ؟!!

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْفَاحِشَةُ صَادِرَةً أَوْ غَيْرَ صَادِرَةٍ.. وَكُلُّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَصِيَانَةِ أَعْرَاضِهِمْ كَمَا صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي الْمُصَافَاةَ، وَأَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ فَلِذَلِكَ عَلَّمَكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَجْهَلُونَهُ.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: قَدْ أَحَاطَ بِكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ {وَرَحْمَتُهُ} عَلَيْكُمْ {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ لَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْمَوَاعِظَ وَالْحِكَمَ الْجَلِيلَةَ، وَلَمَا أَمْهَلَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ.

وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ اللَّازِمُ أَثَّرَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مَا لَنْ تُحْصُوهُ أَوْ تَعُدُّوهُ)).

((وَلَمَّا عَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمْرَ الزَّانِي بِوُجُوبِ جَلْدِهِ، وَكَذَا بِرَجْمِهِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُقَارَنَتُهُ وَلَا مُخَالَطَتُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْلَمُ فِيهِ الْعَبْدُ مِنَ الشَّرِّ؛ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- تَعْظِيمَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالرَّمْيِ بِالزِّنَا، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 4-5].

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ، وَكَذَلِكَ الرِّجَالُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، بِدَلِيلِ السِّيَاقِ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} عَلَى مَا رَمَوْا بِهِ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: بِرِجَالٍ عُدُولٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ صَرِيحًا.

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} بِسَوْطٍ مُتَوَسِّطٍ يُؤْلِمُ فِيهِ، وَلَا يُبَالِغُ بِذَلِكَ حَتَّى يُتْلِفَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ: التَّأْدِيبُ، لَا الْإِتْلَافُ.

وَفِي هَذَا تَقْرِيرُ حَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ -كَمَا قَالَ تَعَالَى- مُحْصَنًا مُؤْمِنًا، وَأَمَّا قَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ.

{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أَيْ: لَهُمْ عُقُوبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ حُدَّ عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَتُوبَ.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، الَّذِينَ قَدْ كَثُرَ شَرُّهُمْ؛ وَذَلِكَ لِانْتِهَاكِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَانْتِهَاكِ عِرْضِ أَخِيهِ، وَتَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَى الْكَلَامِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَإِزَالَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي عَقَدَهَا اللهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ)).

((وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: الْعَفَائِفَ عَنِ الْفُجُورِ {الْغَافِلَاتِ} اللَّاتِي لَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِنَّ {الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: وَاللَّعْنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَأَكَّدَ اللَّعْنَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارَيْنِ.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى اللَّعْنَةِ، أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ شَدِيدَ نِقْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ كَثِيرَةٌ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟)).

قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ: ((وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا؛ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ قَذْفَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ مِنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ السَّبِّ وَالشَّتِيمَةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ أَلَّا يَتَنَاوَلَ الْمُسْلِمِينَ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِأَيِّ لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْأَذَى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِكَوْنِ الْقَذْفِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَاتِ؛ رَتَّبَ الدِّينُ عَلَيْهِ حَدًّا مُوجِعًا، وَرَدًّا لِلشَّهَادَةِ يُسْقِطُ عَدَالَةَ هَذَا الْقَاذِفِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ عِدَادِ الْعُدُولِ الْمَرْضِيِّينَ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 4-5].

وَهَذِهِ التَّوْبَةُ إِنْ رَفَعَتْ عَنِ الْقَاذِفِ الْفِسْقَ، وَرَدَّتْ إِلَيْهِ شَهَادَتَهُ؛ فَإِنَّهَا لَا تَرْفَعُ الْحَدَّ إِذَا أَصَرَّ الْمَقْذُوفُ عَلَى إِجْرَائِهِ عَلَيْهِ.

فَالْقَاذِفُ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ لِمَا يَقُولُ -وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ-، وَإِمَّا أَنْ يَتَلَقَّى حَدًّا مُوجِعًا فِي ظَهْرِهِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا اقْتَرَفَهُ لِسَانُهُ الَّذِي أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْمُشِينَةِ الْفَاضِحَةِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ -أَوْ قَالَ-: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!!)).

لَكِنَّ الدِّينَ اسْتَثْنَى الزَّوْجَ مِنْ هَذَا الْعِقَابِ فِيمَا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا شَرِيطَةَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6-7].

((وَالْحِكْمَةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الِاسْتِثْنَائِيَّ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ: هِيَ أَنَّ الزَّوْجَ قَلَّمَا يَتَّهِمُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا أَمَامَ الْمَحَاكِمِ إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَفِي تَكْلِيفِهِ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ عَلَى زِنَاهَا إِحْرَاجٌ لَهُ، وَجَرْحٌ لِكَرَامَتِهِ، وَمُنَافَاةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عِرْضِهِ، وَبَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ التَّعَايُشِ مَا لَا يَسْمَحُ بِتَغَاضِيهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ)).

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَرَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ -اتَّهَمَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ-؛ فَمَاذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ؟!!

قَالَ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)).

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ مَا كَذَبْتُ)).

قَالَ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَجِدُ الرَّجُلُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَيَذْهَبُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ؟!!)).

قَالَ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)).

قَالَ: ((وَاللهِ! إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ بَرَاءَتِي)).

فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آيَاتِ اللِّعَانِ، وَجِيءَ بِهِ وَبِهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَشَهِدَ، ثُمَّ قَدِمَتْ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ تَلَكَّأَتْ، فَذَكَّرُوهَا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَذَكَّرُوهَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْآخِرَةِ، فَتَلَكَّأَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: ((لَا أَفْضَحُ أَهْلِي، وَاللهِ! مَا فَعَلْتُ)).

فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ وَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((انْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ؛ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَهِلَالٌ صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَى)).

فَلَمَّا وَضَعَتْهُ؛ جَاءَ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ لَا أَنَّ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَضَى -أَيْ: قَدْ سَبَقَ فِي الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةِ اللِّعَانِ، وَأَنَّهَا مَتَى شَهِدَتْ فَإِنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا- لَكَانَ لِي مَعَهَا شَأْنٌ)) ﷺ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)).

وَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَبْلَ آيَاتِ اللِّعَانِ نُزُولًا؛ لِأَنَّ الْعَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ وَالِاتِّهَامَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ بِالزِّنَا فِعْلًا وَفُحْشًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيهِ مَا يَتَوَفَّرُ فِي بَقِيَّةِ الْحَالَاتِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْفَاحِشَةُ، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآيَاتِ مُوَضِّحَةً كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ عِنْدَمَا يَرْمِي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا؛ هُوَ اللِّعَانُ، ثُمَّ التَّفْرِيقُ، وَاللهُ يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.

 ((وَأَلْفَاظُ الْقَذْفِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا هَذَا الْجُرْمُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ لِلرَّجُلِ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانِيَ، أَوْ يَا لُوطِيًّا، أَوْ يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنْ زَوْجِكِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهِيَ مُتَفَشِّيَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ وَعَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْخَوَاصِّ، فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْأَمْثِلَةِ؛ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ ظَاهِرَةٌ)).

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.

إِنَّ الْإِسْلَامَ مُحَافَظَةً مِنْهُ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْأَنْسَابِ، وَالشَّرَفِ، وَسَلَامَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ مِنَ انْتِشَارِ قَالَاتِ السُّوءِ؛ حَرَّمَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ النَّكْرَاءَ، وَجَرَّمَ تِلْكَ الْقَوْلَةَ الشَّنْعَاءَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وُلِدَ لِي غُلَامٌ أَسْوَدُ)).

فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((مَا أَلْوَانُهَا؟)).

قَالَ: ((حُمْرٌ)).

قَالَ: ((هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقٍ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَأَنَّى ذَلِكَ؟)).

قَالَ: ((لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ)).

قَالَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ)) أَيْ: نَزَعَهُ عِرْقٌ.

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ الله ﷺ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ الله ﷺ، فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللهُ، ثُمَّ قَضَى بِالوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلَاعِنَيْنِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: ((يَا عَاصِمُ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ)).

فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا؛ حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ؛ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: ((يَا عَاصِمُ! مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).

فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: ((لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا)).

فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: ((وَاللهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا)).

فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ؛ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا)).

قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا؛ قَالَ عُوَيْمِرٌ: ((كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا)).

فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ((فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ)) يَعْنِي: التَّفْرِيقَ الْمُؤَبَّدَ.

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ((سُئِلْتُ عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فِي إِمْرَةِ مُصْعَبٍ؛ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟)).

قَالَ: ((فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمَضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ: اسْتَأْذِنْ لِي)).

قَالَ: ((إِنَّهُ قَائِلٌ-مِنَ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ فِي وَسَطِ النَّهَارِ-، قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ)).

فَسَمِعَ صَوْتِي -يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ-، قَالَ: ((ابْنُ جُبَيْرٍ؟)).

قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((ادْخُلْ؛ فَوَاللَّهِ مَا جَاءَ بِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ)).

فَدَخَلْتُ، فَإِذَا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً، مُتَوَسِّدٌ وِسَادةً حَشْوُهَا لِيفٌ.

قُلْتُ: ((أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! الْمُتَلَاعِنَانِ؛ أَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟)).

قَالَ: ((سُبْحَانَ اللهِ! نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ؛ كَيْفَ يَصْنَعُ؟

إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؟!!)).

قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يُجِبْهُ.

فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ})).

فَتَلَاهُنَّ علَيْهِ، وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.

قَالَ: ((لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا)).

ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

قَالَتْ: ((لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ)).

فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4].

قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -وَهُوَ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ-: ((أَهَكَذَا نَزَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟!)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ الله! لَا تَلُمْهُ؛ فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بِكْرًا، وَمَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ)).

فَقَالَ سَعْدٌ: ((وَاللهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلَكِنِّي قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنِّي لَوْ وَجَدْتُ لُكَاعًا قد تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ؛ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهَيِّجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ!! فَوَاللَّهِ لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ!))

قَالُوا: فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يُهَيِّجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا، فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي)).

فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا جَاءَ بِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْه.

وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا: ((قَدِ ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، الْآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ)).

فَقَالَ هِلَالٌ: ((وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي مِنْهَا مَخْرَجًا)).

فَقَالَ هِلَالٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ أَرَى مَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُ بِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ)).

وَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ؛ إِذْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْوَحْيَ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؛ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ جِلْدِهِ -يَعْنِي: فَأَمْسَكُوا عَنْهُ- حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْي، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] الْآيَةَ، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

فَقَالَ: ((أَبْشِرْ يَا هِلَالُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)).

فَقَالَ هِلَالٌ: ((قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَاكَ مِنْ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَرْسِلُوا إِلَيْهَا)).

فَأَرْسَلُوا إِلَيْهَا، فَجَاءَتْ.

فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمَا -يَعْنِي: الْآيَةَ-، وَذَكَّرَهُمَا، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.

فَقَالَ هِلَالٌ: ((وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا)).

فَقَالَتْ: ((كَذَبَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا)).

فَقِيلَ لِهِلَالٍ: ((اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)).

فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ؛ قِيلَ: ((يَا هِلَالُ! اتَّقِ اللهَ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعَذَابَ)).

فَقَالَ: ((لا، وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا، فَشَهِدَ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِين)).

فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ؛ قِيلَ لَهَا: ((اتَّقِي اللَّهَ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكِ الْعَذَابَ)).

فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: ((وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)).

فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنَّهُ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا تُرْمَى هِيَ بِهِ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أَلَّا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلَا قُوتَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا.

وَقَالَ: ((إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ، أُرَيْسِحَ، حَمْشَ السَّاقَيْنِ؛ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا، جُمَالِيًّا، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ؛ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ)).

فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ، جَعْدًا، جُمَالِيًّا، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، سَابِغَ الْإِلْيَتَيْنِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَوْ لَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأنٌ)).

قَالَ عِكْرِمَةُ: ((فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ يُدْعَى لِأُمِّهِ، وَمَا يُدْعَى لِأَبِيهِ)). هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْوَلَدِ الَّذِي تَفَرَّقَا عَنْهُ مُتَلَاعِنَيْنِ.. تَأَمَّلْ؛ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ يُدْعَى لِأُمِّهِ، وَمَا يُدْعَى لِأَبِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ -لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ- مِنْ أَنْ يَتَبَوَّأَ مِثْلَ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا تَنْزِلُ الْعُقُوبَةُ عَلَى مَنْ أَسَاءَ، وَأَمَّا الْبُرَآءُ الَّذِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبَرِّأُهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً.

عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -رَحِمَهَا اللهُ- قَالَتْ: ((إِنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاللهِ مَا أَبِي بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ.

فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.

فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ.

وَآخَرُ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا.

فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ))؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَرِّضًا، فَلَمَّا مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِعَدَمِ الزِّنَا وَهُوَ يُوَجِّهُ الْكَلَامَ إِلَى مَنْ يَسُبُّهُ؛ دَلَّ هَذَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ عَلَى أَنَّهُ يَرْمِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِالْفَاحِشَةِ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ -هُوَ الَّذِي لَا أَبَ لَهُ-: ((تَرِثُهُ أُمُّهُ، وَإِخْوَتُهُ مِنْ أُمِّهِ، وَعُصْبَةُ أُمِّهِ، فَإِنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ؛ جُلِدَ قَاذِفُهُ)).

قَالَ أَبُو الزِّنَادِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ)).

قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَسَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَدْرَكْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَالْخُلَفَاءَ.. هَلُمَّ جَرَّا، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ)). أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23]: ((هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)).

وَقَالَ أَيْضًا: ((وَهِيَ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ قَذْفِ كُلِّ مُحْصَنَةٍ، وَلَعْنَةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

فَهَذَا الْأَمْرُ تَسْمَعُهُ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، النَّاسُ يَتَوَرَّطُونَ فِي هَذَا الْحَدِّ الْفَظِيعِ وَالْجُرْمِ الشَّنِيعِ، وَهُمْ لَا يُبَالُونَ؛ بَلْ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَذْفِ أُمَّةٍ بِأَسْرِهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي قَذْفِ قَرْيَةٍ بِرَأْسِهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي قَذْفِ قُطْرٍ بِكَامِلِهِ، وَيَسْتَهِينُ بِذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ظَهْرِهِ، وَيُسَمَّى بِذَلِكَ فَاسِقًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ضَبْطِ لِسَانِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَعَالَى- رَبَّهُ، وَاللهُ -تَعَالَى- الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.


مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

تَحْرِيمُ الْغِيبَةِ وَتَغْلِيظُ عُقُوبَتِهَا

إِنَّ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ مُجْتَمَعَاتٌ يُحْفَظُ فِيهَا الْعِرْضُ، وَيُصَانُ فِيهَا الشَّرَفُ، وَمِنَ الْآفَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ تَحْرِيمًا أَكِيدًا، وَرَتَّبَ عَلَى التَّوَرُّطِ فِيهَا وَعِيدًا شَدِيدًا: الْغِيبَةُ؛ فَإِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْغِيبَةَ، وَهِيَ ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ، قَالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قِيلَ: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَمَّا الْغِيبَةُ؛ فَهِيَ ذِكْرُكَ الْإِنْسَانَ بِمَا فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ دُنْيَاهُ، أَوْ نَفْسِهِ، أَوْ خَلْقِهِ، أَوْ خُلُقِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ وَالِدِهِ، أَوْ زَوْجِهِ، أَوْ خَادِمِهِ، أَوْ مَمْلُوكِهِ، أَوْ عِمَامَتِهِ، أَوْ ثَوْبِهِ، أَوْ مِشْيَتِهِ وَحَرَكَتِهِ، وَبَشَاشَتِهِ وَخَلَاعَتِهِ، وَعُبُوسِهِ وَطَلَاقَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ؛ سَوَاءٌ ذَكَرْتَهُ بِلَفْظِكَ، أَوْ كِتَابِكَ، أَوْ رَمَزْتَهُ، أَوْ أَشَرْتَ إِلَيْهِ بِعَيْنِكَ، أَوْ يَدِكَ، أَوْ رَأْسِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

أَمَّا الْبَدَنُ؛ فَكَقَوْلِكَ: أَعْمَى، أَعْرَجُ، أَعْمَشُ، أَقْرَعُ، قَصِيرٌ، طَوِيلٌ، أَسْوَدُ، أَصْفَرُ.

وَأَمَّا الدِّينُ؛ فَكَقَوْلِكَ: فَاسِقٌ، سَارِقٌ، خَائِنٌ، ظَالِمٌ، مُتَهَاوِنٌ بِالصَّلَاةِ، مُتَسَاهِلٌ فِي النَّجَاسَاتِ، لَيْسَ بَارًّا بِوَالِدِهِ، لَا يَضَعُ الزَّكَاةَ مَوَاضِعَهَا، لَا يَجْتَنِبُ الْغِيبَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الدُّنْيَا؛ فَكَقَوْلِكَ: قَلِيلُ الْأَدَبِ، يَتَهَاوَنُ بِالنَّاسِ، لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، كَثِيرُ الْكَلَامِ، كَثِيرُ الْأَكْلِ أَوِ النَّوْمِ، يَنَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، يَجْلِسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِوَالِدِهِ؛ فَكَقَوْلِكَ: أَبُوهُ فَاسِقٌ، أَوْ هِنْدِيٌّ، أَوْ نَبَطِيٌّ، أَوْ زَنْجِيٌّ، أَوْ إِسْكَافٌ، أَوْ بَزَّازٌ، أَوْ نَخَّاسٌ، أَوْ نَجَّارٌ، أَوْ حَدَّادٌ، أَوْ حَائِكٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْخُلُقُ؛ فَكَقَوْلِكَ: سَيِّئُ الْخُلُقِ، مُتَكَبِّرٌ، مُرَاءٍ، عَجُولٌ، جَبَّارٌ، عَاجِزٌ، ضَعِيفُ الْقَلْبِ، مُتَهَوِّرٌ، عَبُوسٌ، خَلِيعٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الثَّوْبُ؛ فَكَقَوْلِكَ: وَاسِعُ الْكُمِّ، طَوِيلُ الذَّيْلِ، وَسِخُ الثَّوْبِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُقَاسُ الْبَاقِي عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَضَابِطُهُ: ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ)).

هَذِهِ هِيَ الْغِيبَةُ؛ ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ -مِمَّا هُوَ فِيهِ-، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)).

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] أَيْ: وَلَا يَقُلْ بَعْضُكُمْ فِي بَعْضٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا يَكْرَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ؟!!

لَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَتَعَافُهُ نُفُوسُكُمْ، وَتَتَقَزَّزُ مِنْهُ؛ فَاكْرَهُوا -أَيْضًا- اغْتِيَابَهُ وَذِكْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ.

احْذَرِ الْغِيبَةَ فَهْيَ الْفِسْقُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ=إِنَّمَا الْمُغْتَابُ كَالْآكِلِ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ

قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: ((الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ)).

وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: ((لَا يَذْكُرُ النَّاسَ بِمَا يَكْرَهُونَ إِلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ)).

وَالْغِيبَةُ ذَاتُ أَسْمَاءٍ ثَلَاثَةٍ: الْغِيبَةُ، وَالْإِفْكُ، وَالْبُهْتَانُ، فَإِذَا كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَهُوَ الْغِيبَةُ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ مَا بَلَغَكَ عَنْهُ فَهُوَ الْإِفْكُ، وَإِنْ قُلْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ.

هَكَذَا بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْغِيبَةَ؛ فَهِيَ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَقْصُودُ الذَّمِّ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ بِكَلَامٍ، أَمْ بِغَمْزَةٍ، أَمْ بِإِشَارَةٍ، أَمْ بِكِتَابَةٍ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ:

قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ)).

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ لِلْأَنْصَارِيَّيْنِ: ((كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ))، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اغْتَابَا الْأَسْلَمِيَّ الَّذِي جَاءَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِيَتَطَهَّرَ مِنْ زِنَاهُ بِرَجْمِهِ.

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا؛ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ)).

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا، وَعَظَّمَ شَأْنَهُ، وَقَالَ: ((إِنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً -يَزْنِيهَا الرَّجُلُ-، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ((ذَمِّ الْغِيبَةِ))، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ -أَحَدُهُمَا قَوِيٌّ-، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَفِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ: اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ: السُّبَّتَانِ بِالسُّبَّةِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَطْوَلَ مِنْهُ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا -أَيْ: إِثْمًا-، أَيْسَرُهَا كَنِكَاحِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ)). وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

تَصَوَّرْتَ.. تَصَوَّرْتَهُ الْآنَ؟! تَصَوَّرْتَ هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ؟! تَأَمَّلْ مَلِيًّا، وَقِفْ خَاشِعًا أَمَامَ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعْظَمُ دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا، فِي زِنَا الْمَحَارِمِ!! فِي الزِّنَا بِالْأُمِّ خَاصَّةً!! فَأَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا أَكْبَرُ دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا، وَهِيَ الزِّنَا بِالْأُمِّ خَاصَّةً!!

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: تَعْنِي: قَصِيرَةً-)).

فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)).

قَالَتْ: ((وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا)) أَيْ: مَثَّلْتُ لَهُ هَيْئَتَهُ، أَوْ حَرَكَتَهُ، أَوْ كَلَامَهُ، أَوْ فَعَالَهُ.

فَقَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَإِنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -أَيْضًا-: ((أَنَّهُ اعْتَلَّ -أَيْ: مَرِضَ- بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ -أَيْ: فَضْلُ مَرْكُوبٍ-، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِزَيْنَبَ: ((أَعْطِيهَا بَعِيرًا)).

فَقَالَتْ: ((أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ؟!!)).

فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ، وَبَعْضَ صَفَرٍ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلًا، فَقَالُوا: ((لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ، وَلَا يَرْحَلُ حَتَّى يُرَحَّلَ لَهُ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اغْتَبْتُمُوهُ)).

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّمَا حَدَّثْنَا بِمَا فِيهِ)).

قَالَ: ((حَسْبُكَ إِذَا ذَكَرْتَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ)). رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَوَقَعَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِهِ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِنْ بَعْدِهِ: ((تَخَلَّلْ)) أَيْ: خُذْ عُودَ خُلَّةٍ وَاجْعَلْهُ بَيْنَ أَسْنَانِكَ؛ لِيُزِيلَ مَا بَقِيَ مِنَ اللَّحْمِ.

فَقَالَ: ((وَمِمَّا أَتَخَلَّلُ؟!)) يَعْنِي: وَمَا أَكَلْتُ لَحْمًا.. وَمِمَّا أَتَخَلَّلُ وَمَا أَكَلْتُ لَحْمًا؟!!

قَالَ: ((إِنَّكَ أَكَلْتَ لَحْمَ أَخِيكَ)). رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: ((لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ، وَغَيْرُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَمْرٍو بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا عُرِجَ بِي؛ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟)).

قَالَ: ((هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي، وَرَجُلٌ عَنْ يَسَارِهِ؛ فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَبَلَى؛ فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ؟)).

فَاسْتَبَقْنَا، فَسَبَقْتُهُ، فَأَتَيْتُهُ بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ، فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، وَقَالَ: ((إِنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، كَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ السَّيَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ عَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَتَى عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ))، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ، فَوَضَعَهَا عَلَى قَبْرِهِ، وَقَالَ: ((لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (ض3)، وَفِي أَكْثَرِهَا أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي النَّمِيمَةِ وَالْبَوْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتَّفَقَ مُرُورُهُ مَرَّةً بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا فِي النَّمِيمَةِ، وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ، وَمَرَّةً أُخْرَى بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا فِي الْغِيبَةِ، وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)).

قَالُوا: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قَالَ: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَ((رَدْغَةُ الْخَبَالِ)): عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا: ((مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ ذَبَّ -أَيْ: دَفَعَ- عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبَةِ -وَالْغَيْبَةُ ضِدُّ الْحُضُورِ-؛ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ؛ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَلَفْظُهُ: قَالَ: ((مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ؛ رَدَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِالْغَيْبِ؛ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مَوْقُوفًا، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قَلْبِه! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ -يُرِيدُ مَاعِزًا الَّذِي وَقَعَ فِي جَرِيمَةِ الزِّنَا، ثُمَّ تَابَ إِلَى اللهِ-، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، يَقُولُ: أَتَيْتُ امْرَأَةً حَرَامًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ((فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟)).

قَالَ: ((أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي)).

فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُرْجَمَ، فَرُجِمَ.

فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ((انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ!!)).

قَالَ: ((فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَمَرَّ بِجيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ انْتَفَخَتْ وَحَبِطَتْ بَطْنُهُ، فَارْتَفَعَتْ وَشَالَتْ رِجْلُهُ-، فَقَالَ: ((أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟)).

قَالُوا: ((نَحْنُ ذَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ لَهُمَا: ((كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ)).

فَقَالَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! غَفَرَ اللهُ لَكَ، مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟!!)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا)).

مَضَى لِطِيَّتِهِ، وَذَهَبَ لِحَالِ سَبِيلِهِ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ وُقُوعِ الْحَدِّ تَطْهِيرًا لَهُ.

وَهَذَا وَجْهٌ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- تَرْكَ النَّبِيِّ ﷺ الْمُنَافِقِينَ، وَتَرْكَ شَيْخِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حَدَّ الْقَذْفِ لَمَّا أَنْ وَقَعُوا وُلُوغًا فِي عِرْضِ الْمُبَرَّأَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في حَادِثَةِ الْإِفْكِ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُرِدِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا، وَتَرَكَهُمْ لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ.

وَأَمَّا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ؛ فَلَهُ بِعَائِشَةَ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَأَمَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ شَاعِرُ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَهِيَ أُخْتُ زَيْنَبَ زَوْجِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ؛ فَقَدْ تَكَلَّمُوا، فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتَرَكَ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ وَلَغَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَرَكَهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُعَاقِبُهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا وَقَعَ وَقَعَ تَطْهِيرًا لِلْمَحْدُودِ، وَهَؤُلَاءِ أَنْجَاسٌ قَدْ تَلَطَّخُوا؛ فَلْيَظَلُّوا مُتَلَطِّخِينَ، فَتَرَكَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْآخِرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ مِمَّنْ تَوَرَّطَ؛ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، حَدَّهُمُ النَّبِيُّ ﷺ.

فَهَذَا قَوْلٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَكُونُونَ أَمْكَرَ مَكْرًا مِنْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِي الْكَلَامِ الصَّرِيحِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ، فَلَمَّا أَنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ؛ كَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هُوَ الَّذِي تَوَرَّطَ مُبَاشَرَةً، وَهَيَّجَ الْفِتْنَةَ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ؛ فَكَانُوا يَحُومُونَ حَوْلَ الْحِمَى، وَلَا يُوَاقِعُونَهُ، وَلَكِنْ كَانُوا يَحُومُونَ حَوْلَ الْحِمَى، شَارِدِينَ مَعَ أَهْوَائِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَلَمْ يُقِمِ النَّبِيُّ ﷺ الْحَدَّ.

تَعَجَّبَ الْأَنْصَارِيَّانِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا دَعَاهُمَا لِلْأَكْلِ مِنْ جِيفَةِ الْحِمَارِ، وَقَالَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! غَفَرَ اللهُ لَكَ، مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟!!)).

هَذِهِ دَعْوَةٌ لَيْسَتْ بِالدَّعْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، دَعْوَةٌ لِأَكْلٍ مِنْ جِيفَةِ حِمَارٍ، لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لِأَكْلِ جِيفَةِ غَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ؛ لَكَانَتْ مَرْفُوضَةً؛ فَكَيْفَ -إِذَنْ- وَالدَّعْوَةُ لِجِيفَةِ حِمَارٍ؟!!

أَلَا إِنَّ النَّيْلَ مِنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، إِنَّ الْآكِلَ مِنْ جِيفَةِ الْحِمَارِ لَمْ يُؤْذِ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَنْتَهِكْ عِرْضًا، وَلَا يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، إِنَّهُ شَخْصٌ مُنْحَرِفُ الذَّوْقِ، فَاسِدُ الْمِزَاجِ؛ وَلَكِنَّهُ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْبَشَرِ بِالِاغْتِيَابِ، وَفِي كُلٍّ شَرٌّ.

وَالْمُسْتَمِعُ لِلْغِيبَةِ وَالْمُغْتَابُ سَوَاءٌ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ؛ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتِ الْعَرَبُ يَخْدُمُ بَعْضُهُا بَعْضًا فِي الْأَسْفَارِ، وَكَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَجُلٌ يَخْدُمُهُمَا -أَيْ: فِي سَفْرَةٍ-، فاسْتَيْقَظَا وَلَمْ يُهَيِّئْ لَهُمَا طَعَامًا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنَّ هَذَا لَيُوَائِمُ نَوْمَ بَيْتِكُمْ، فَأَيْقَظَاهُ، فَقَالَا: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُقْرِآنِكَ السَّلَامَ، وَهُمَا يَسْتَأْدِمَانِكَ -يَطْلُبَانِ مِنْكَ إِدَامًا؛ أَيْ: لَحْمًا-.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَدِ ائْتَدَمَا)).

فَنَقَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ إِلَى الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ، فَفَزِعَا، فَجَاءَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! بَعَثْنَا إِلَيْكَ نَسْتَأْدِمُكَ، فَقُلْتَ: ائْتَدَمْتُمَا؛ فَبِأَيِّ شَيْءٍ ائْتَدَمْنَا؟!)).

قَالَ: ((بِلَحْمَ أَخِيكُمَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى لَحْمَهُ مِنْ أَنْيَابِكُمَا)).

قَالَا: ((فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)).

قَالَ: ((هُوَ يَسْتَغْفِرُ لَكُمَا)).

تَأَمَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ! وَكَذَا تَأَمَّلْ حَدِيثَ الْأَسْلَمِيِّ: فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ -الْقَائِلُ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي مُسْتَمِعٌ-: ((انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ)).

فَالْقَائِلُ وَاحِدٌ، وَالْآخَرُ مُسْتَمِعٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَائِلًا؛ فَمَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْقَائِلِ لِلْغِيبَةِ وَالْمُسْتَمِعِ: ((كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ))، ثُمَّ قَالَ: ((مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ)).

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَلْسِنَتِنَا، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، يَعْنِي: لَنْ تَتُوبَ مِنْهَا إِلَّا إِذَا أَحَلَّكَ مَنِ اغْتَبْتَهُ، تَوَرَّطْتَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا تُبْتَ إِلَى اللهِ، فَكَفَفْتَ عَنِ الْغِيبَةِ، وَعَزَمْتَ عَلَى أَلَّا تَعُودَ، وَنَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؛ لَا تَصِحُّ تَوْبَتُكَ إِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا.

هَلْ تَذْهَبُ إِلَى مَنِ اغْتَبْتَهُ لِتَقُولَ: اغْتَبْتُكَ؛ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؟!!

سَيَقُولُ لَكَ: مَاذَا قُلْتَ؟

فَإِنْ قُلْتَ؛ دَارَتِ الْمَعْرَكَةُ، وَرُبَّمَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَإِنْ لَمْ تَقُلْ؛ قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُسَامِحُكَ حَتَّى نَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

لِمَاذَا تُوَرِّطُ نَفْسَكَ؟!!

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَوْ كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا؛ لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ، هُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي)).

مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الْحَسَنَاتِ!!

مَنِ الْمُفْلِسُ؟!!

مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الْحَسَنَاتِ؛ فَأَبَوَاكَ أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ.

وَمِنَ السَّفَهِ الْعَقْلِيِّ، وَالْفَسَادِ الْفِكْرِيِّ، وَالْخَلَلِ النَّفْسِيِّ: أَنْ يَقَعَ الْمَرْءُ فِي الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يُبْغِضُهُ، لَنْ يَغْتَابَ إِلَّا مَنْ يَكْرَهُهُ؛ فَأَنْتَ تُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِكَ، تَجْعَلُ رَقَبَتَكَ فِي يَدِهِ وَهُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ لَكَ مُبْغِضٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَذَلِكَ؛ هَلْ هَذَا مِنَ الْعَقْلِ فِي شَيْءٍ؟!!

اتَّقُوا اللهَ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ!

مِنْ سُبُلِ صِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ:

النَّهْيُ عَنِ الْغَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالسُّخْرِيَةِ

لَقَدْ بَالَغَ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فِي النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَا يَنَالُ مِنَ الْأَعْرَاضِ أَوْ يُسِيءُ إِلَيْهَا، فَحَرَّمَ الْغَمْزَ، وَاللَّمْزَ، وَالسِّبَابَ، وَالْفُسُوقَ، وَالسُّخْرِيَةَ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزُ بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.. حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ؛ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونَ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ فِي ذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ؛ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِاسْتِحْلَالِهِ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهُ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

التَّرْغِيبُ فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ

لَقَدْ جَاءَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السَّمْحَةُ لِتَحْفَظَ لِلْمُسْلِمِ الضَّرُورَاتِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ: حِفْظُ الْعِرْضِ، وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الَّتِي يَحْفَظُ اللهُ بِهَا الْأَعْرَاضَ: الْأَمْرُ بِسَتْرِ الْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَغَّبَ فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ، وَرَهَّبَ مِنْ هَتْكِهِ، وَتَتَبُّعِ عَوْرَتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ رَمْيِهِ فِي عِرْضِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَرَّطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ: ((أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ.

وَقَالَ لِهَزَّالٍ: ((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((وَنُعَيْمٌ هُوَ ابْنُ هَزَّالٍ، وَقِيلَ: لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا الصُّحْبَةُ لِأَبِيهِ هَزَّالِ بْنِ يَزِيدَ الْأَسْلَمِيِّ)).

وَسَبَبُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِهَزَّالٍ: ((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكُ)): مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: ((أَنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ ﷺ)).

وَرَوى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي، فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنَ الْحَيِّ.

فَقَالَ لَهُ أَبِي: ((ائْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ؛ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ)). وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ رَجْمِهِ)).

عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ -أَيْ: لِهَزَّالٍ-: ((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ هَذِهِ لِهَزَّالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ نُعَيْمٍ قَالَ: ((كَانَ مَاعِزٌ يَتِيمًا فِي حِجْرِ هَزَّالٍ -يَعْنِي: فِي حِجْرِ أَبِيهِ-، فَأَصَابَ جَارِيَةً فِي الْحَيِّ؛ فَقَالَ لَهُ هَزَّالٌ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ، فَجَاءَ مَاعِزٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْحَرَامَ، وَوَقَعَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّكَ قَدْ شَهِدْتَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ))، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.

سِيقَ إِلَى الْحَرَّةِ وَرُجِمَ، فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّ الْحِجَارَةِ؛ وَلَّى هَارِبًا، فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَنِيسٍ بِوَظِيفٍ لِبَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ خَبَرَهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ فَيَتَوُبُ؛ فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ!!)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَوْ أَنَّكَ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ!)).

((لَوْ أَنَّكَ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ!))، وَذَلِكَ أَنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ فِي الْحَيِّ لِهَزَّالٍ، وَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَتَى الْفَاحِشَةَ كَامِلَةً، لَمَّا اسْتَنْطَقَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ أَقَرَّ بِهِ، فَأَتَى مِنْهَا فِي حَرَامٍ -فَهُوَ يَعْرِفُ الزِّنَا إِذَنْ-، فَأَتَى مِنْهَا مِنْ حَرَامٍ مَا يَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي حَلَالٍ، اسْتَنْطَقَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَسَأَلَ عَنْ عَقْلِهِ وَمَدَى عِلْمِهِ: ((أَمَجْنُونٌ هُوَ؟!!)).

قَالُوا: ((لَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَعَلَّكَ قَبَّلْتَهَا، لَعَلَّكَ بَاشَرْتَهَا، لَعَلَّكَ جَامَعْتَهَا، أَتَعْرِفُ الزِّنَا؟)).

فَأَقَرَّ بِمَعْرِفَتِهِ، وَأَقَرُّوا بِصِحَّةِ عَقْلِهِ وَجَوْدَةِ نَظَرِهِ، وَإِذَنْ؛ فِلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ.

بَيْنَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْنَ لَكَ بِالشُّهُودِ إِنْ رَمَيْتَ؛ حَتَّى إِنْ كُنْتَ رَأَيْتَ؟!! فَإِنَّ هَزَّالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِنَّمَا أَرَادَ الْخَيْرَ، قَالَ: ((اعْرِضْ أَمْرَكَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ عَسَى أَنْ يَجِدَ لَكَ مَخْرَجًا، عَسَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ)).

وَمَاعِزٌ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يُرِيدُ التَّطْهِيرَ، قَالَ: ((فَمَا أَرَدْتَ بِمَا قُلْتَ؟)).

قَالَ: ((أَرَدْتُ أَنْ تُطَهِّرَنِي يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ)).

فَأَمَرَ بِهِ، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ رَجْمًا؛ إِذْ كَانَ مُحْصَنًا، وَالْمُحْصَنُ الَّذِي سَبَقَ لَهُ زَوَاجٌ؛ وَإِنْ كَانَ أَيِّمًا -يَعْنِي: لَا زَوْجَ لَهُ؛ سَوَاءٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، أَمْ مَاتَتْ عَنْهُ، أَمْ رَحَلَ عَنْهَا، أَمْ خَلَعَتْهُ، أَمْ كَانَ مَا كَانَ، الْمُهِمُّ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَهُ زَوَاجٌ.. زَوَاجٌ صَحِيحٌ-؛ فَهَذَا مُحْصَنٌ، فَمَتَى وَقَعَتِ الْفَاحِشَةُ فَحَدُّهُ الرَّجْمُ: أَنْ يُنْصَبَ هُنَالِكَ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْحِجَارَةِ، وَتَأْتِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْذِفُونَهُ.. يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ.. يَرْجُمُونَهُ حَتَّى يَمُوتَ.

وَعَنْ مَكْحُولٍ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أَتَى مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَوَّابِ شَيْءٌ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَذِنَ لَهُ.

فَقَالَ لَهُ: ((إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا، جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ؛ أَتَذْكُرُ يَوْمَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ عَلِمَ مِنْ أَخِيهِ سَيِّئَةً فَسَتَرَهَا؛ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؟

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((لِهَذَا جِئْتُ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ،وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((بَيْنَا أَنَا عَلَى مِصْرَ -أَيْ: أَمِيرًا-، فَأَتَى الْبَوَّابُ، فَقَالَ: إِنَّ أَعْرَابِيًّا عَلَى الْبَابِ يَسْتَأْذِنُ.

فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: أَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.

قَالَ مَسْلَمَةُ: فَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ -يَعْنِي: أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ-، فَقُلْتُ: أَنْزِلُ إِلَيْكَ أَوْ تَصْعَدُ؟

قَالَ: ((لَا تَنْزِلُ وَلَا أَصْعَدُ، حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ جِئْتُ أَسْمَعُهُ)).

قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً؛ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَوْءُودَةً)).

فَضَرَبَ جَابِرٌ بَعِيرَهُ رَاجِعًا -مَا لَهُ حَاجَةٌ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ-)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ؛ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ؛ كَشَفَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).

وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: ((مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَثَرَاتِهِمْ... الْحَدِيثَ)). وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَنِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ؛ أَفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ تُفْسِدُهُمْ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

مِنْ سُبُلِ حِمَايَةِ الْأَعْرَاضِ:

تَحْرِيمُ الْإِيذَاءِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ

إِنَّ النَّاظِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ يَرَى قَدْرَ الِاهْتِمَامِ الَّذِي مَنَحَهُ الْإِسْلَامُ لِلْعِرْضِ، وَسُبُلَ الْحِفَاظِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَحْرِيمُ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِيذَاءِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِيذَاءِ.

((وَالْإِيذَاءُ يَشْمَلُ الْإِيذَاءَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالْفِعْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالتَّرْكِ.

أَمَّا الْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ: فَأَنْ يُسْمِعَ أَخَاهُ كَلَامًا يَتَأَذَّى بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ، فَإِنْ ضَرَّهُ كَانَ أَشَدَّ إِثْمًا.

وَالْإِيذَاءُ بِالْفِعْلِ: أَنْ يُضَايِقَهُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْإِيذَاءُ بِالتَّرْكِ: أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا يَتَأَذَّى مِنْهُ أَخُوهُ.

كُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَعَلَيْهِ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

{احْتَمَلُوا} يَعْنِي: تَحَمَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

والْبُهْتَانُ: وَهُوَ الْكَذِبُ.

وَالْإِثْمُ الْمُبِينُ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ آذَى الْإِنْسَانَ لِارْتِكَابِهِ عَمَلًا يَحِقُّ أَنْ يُؤْذَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16]، وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ أَنَّ اللُّوطِيَّةَ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يُؤْذَى صَاحِبُهَا حَتَّى يَتُوبَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ؛ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ فَاحِشَةَ اللُّوَاطِ يُقْتَلُ فِيهَا الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ بِهِ؛ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: كَيْفَ يُقْتَلُ؟

فَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُرْجَمُ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُلْقَى مِنْ أَعْلَى شَاهِقٍ فِي الْبَلَدِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يُحَرَّقُ بِالنَّارِ)).

فَالْمُهِمُّ أَنَّ الْإِيذَاءَ بِحَقٍّ لَا بَأْسَ بِهِ)).

مِنَ الْكَبَائِرِ: أَذِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَشَتِيمَتُهُمْ، حَرَّمَ الدِّينُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَالْإِضْرَارِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْيَدِ، أَمْ بِاللِّسَانِ، أَمْ بِالتَّسَبُّبِ، أَمْ بِالْمُبَاشَرَةِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

وَقَالَ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ -أَيْ: كَافِيهِ- أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).

قَالَ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)). أَخْرَجَاهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)).

وَقَالَ ﷺ: ((لَمَّا عُرِجَ بِي؛ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟)).

قَالَ: ((هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً؛ فَإِنَّ اللهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؛ فَإِنَّ اللهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُبَارَكَةُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ تَخْرُجُ بِهَدْيِهَا، وَخَيْرِهَا، وَنُورِهَا، وَتَوْجِيهِهَا مِنْ مِشْكَاةِ كَلَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَدُورُ حَوْلَ أَغْرَاضِهِ النَّبِيلَةِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهُمَزَة: 1].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 11-13].

فَهَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْأَذَى؛ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَتَعْيِيرِهِمْ، وَمُنَادَاتِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ، وَغِيبَتِهِمْ؛ كُلُّهَا حَرَامٌ وَإِجْرَامٌ، وَمَعَاصٍ شَنِيعَةٌ حَرَّمَهَا الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَشِرَ بَيْنَهُمْ.

هَذِهِ الشُّرُورُ وَالْآثَامُ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ إِذَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى عُمُومِ النَّاسِ؛ فَكَيْفَ بِهَا إِذَا كَانَتْ تَسْتَهْدِفُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ، وَالْجِيرَانَ، وَالْأَصْحَابَ؟!!

فَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَشَدُّ إِثْمًا، وَأَعْظَمُ جُرْمًا.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُبَيِّنًا أَنَّ الدِّينَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَحْرِيمِ أَذِيَّةِ الْأَحْيَاءِ وَشَتِيمَتِهِمْ؛ بَلْ حَرَّمَ -أَيْضًا- أَذَى الْأَمْوَاتِ وَسَبَّهُمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

إِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَفْقِدُ اعْتِبَارَهَا وَتَنْمَحِي آثَارُهَا إِنْ هِيَ لَمْ تَنْهَ أَصْحَابَهَا عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَصُنُوفِ الْأَذَى.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَصَّدَّقُ، وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا)).

فَقَالَ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ ﷺ: ((أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟))

قَالُوا: ((الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ)).

فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا هُوَ الْمُفْلِسُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُنْقِذُ مُهْجَتَهُ مِنَ النَّارِ، رَغْمَ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ.

فَاحْذَرْ أَنْ تُفْسِدَ وَتَنْقُضَ مَا أَبْرَمْتَ!

وَحَاذِرْ أَنْ تُضَيِّعَ مَا قَدَّمْتَ؛ فَإِنَّهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ!

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَهَّبَ مِنَ السِّبَابِ وَاللَّعْنِ؛ سِيَّمَا لِمُعَيِّنٍ آدَمِيًّا كَانَ، أَوْ دَابَّةً، أَوْ غَيْرَهَا:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِي مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَدَّى الْمَظْلُومُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)). أَخْرَجَاهُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ- قَالَ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ كَالْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَكَةِ)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! الرَّجُلُ يَشْتُمُنِي وَهُوَ دُونِي؛ أَعَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهُ؟)).

قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ)).

قُلْتُ: ((مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: ((رَسُولُ اللهِ ﷺ)).

قُلْتُ: ((عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ (عَلَيْكَ السَّلَامُ) تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((أَنْتَ رَسُولُ اللهِ؟)).

قَالَ: ((أَنَا رَسُولُ اللهِ؛ اللهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ؛ كَشَفَ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ؛ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضِ قَفْرٍ أَوْ فَلَاةٍ، فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ، فَدَعَوْتَهُ؛ رَدَّهَا عَلَيْكَ)).

وَالسَّنَةُ: الْعَامُ الْمُقْحِطُ الَّذِي لَمْ تُنْبِتِ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا؛ سَوَاءٌ نَزَلَ الْغَيْثُ أَمْ لَمْ يَنْزِلْ.

قَالَ: قُلْتُ: ((اعْهَدْ إِلَيَّ))؛ أَوْصِنِي.

قَالَ: ((لَا تَسُبَنَّ أَحَدًا)).

قَالَ: ((فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهَا حُرًّا وَلَا عَبْدًا، وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً)).

قَالَ: ((وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ؛ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ -أَيْ: مِنَ الِاخْتِيَالِ، وَهُوَ الْكِبْرُ وَاسْتِحْقَارُ النَّاسِ-، وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ؛ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ؛ فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ حِبَّانَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: ((وَإِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ؛ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ فِيهِ، وَدَعْهُ يَكُونُ وَبَالُهُ عَلَيْهِ وَأَجْرُهُ لَكَ، وَلَا تَسُبَنَّ شَيْئًا)).

قَالَ: ((فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَ ذَلِكَ دَابَّةً وَلَا إِنْسَانًا)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُرْشِدُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ، ((إِنْ سَبَّكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا هُوَ فِيكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ فِيكَ؛ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُهُ فِيهِ؛ فَلْيَكُنْ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) أَيْ: فِي الْإِثْمِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)).

قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟!)).

قَالَ: ((يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَلَفْظُهُ: ((لَا يَجْتَمِعُ أَنْ تَكُونُوا لَعَّانِينَ صِدِّيقِينَ)).

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَلْعَنُ بَعْضَ رَقِيقِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: ((لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ!! كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ))، فَعَتَقَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ)).

قَالَتْ: ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((لَا أَعُودُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ جُرْمُوذٍ الْجُهَنِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي)).

قَالَ: ((أُوصِيكَ لَا تَكُونُ لَعَّانًا)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللهِ، وَلَا بِغَضَبِهِ، وَلَا بِالنَّارِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ))، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ؛ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) أَيْ: فِي الْإِثْمِ وَالْوِزْرِ وَالذَّنْبِ.

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ؛ رَأَيْنَا أَنْ قَدْ أَتَى بَابًا مِنَ الْكَبَائِرِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ -كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا؛ صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللَّعْنَةَ إِذَا وُجِّهَتْ إِلَى مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ؛ فَإِنْ أَصَابَتْ عَلَيْهِ سَبِيلًا، أَوْ وَجَدَتْ فِيهِ مَسْلَكًا؛ وَإِلَّا قَالَتْ: يَا رَبِّ! وُجِّهْتُ إِلَى فُلَانٍ، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَسْلَكًا، وَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ سَبِيلًا.

فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ)) يَعْنِي: إِلَى اللَّاعِنِ.

أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

فَرَسُولُ اللهِ ﷺ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ.. يُرْسِي قَوَاعِدَهَا، وَيُرْسِي أُصُولَهَا، وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا بُنْيَانًا تَبَدَّى فِي الْجِيلِ الْمِثَالِيِّ الْأَوَّلِ.. فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ.. فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُفَضَّلِ، ثُمَّ مَا زَالَتِ الْأُمُورُ تَنْقُصُ بَعْدُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ)).

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَنْطِقِهِ، وَأَنْ يُرَاقِبَ مُرَاقَبَةً تَامَّةً كَمَا لَوْ كَانَ يُرَاقِبُ عَدُوًّا لَدُودًا يَسْعَى فِي هَلَاكِهِ.. أَنْ يُرَاقِبَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِسَانَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَلِمَةٌ خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَوْرَدَتْهُ الْمَهَالِكَ؛ ((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).

((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ؛ يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).

مِنْ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ:

الْبُعْدُ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالرِّيَبِ

إِنَّ مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْأَعْرَاضِ: الْبُعْدَ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالرِّيَبِ؛ فَـ((مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: اتِّقَاءُ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالرِّيَبِ؛ كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ.

وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعًا، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ».

فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا!!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا -أَوْ: قَالَ: شَرًّا-».

فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، أَبْعَدَ التُّهْمَةَ وَالشَّكَّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَمِ؛ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ)).

فَالْإِسْلَامُ مِنْ مَحَاسِنِهِ: الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالشُّبُهَاتِ؛ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهَا، خَالِيًا بِهَا، أَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَهَا؟!!

أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبُ مَعَ مَنْ لَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الطَّبِيبِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّيِّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَقَلَّ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الَّذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ مِنَ التَّفَكُّكِ، وَالتَّخَاذُلِ، وَالْمُصَانَعَاتِ، فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ)).


عُقُوبَةُ هَاتِكِ الْأَعْرَاضِ وَالْمُتَعَدِّي عَلَى الْحُرُمَاتِ

عِبَادَ اللهِ! أَكْثَرُ الْوَالِغِينَ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ سَيَفْضَحُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).

هُوَ؛ أَيِ: الْمُنَافِقُ الْفَاجِرُ الَّذِي أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ))، وَذَكَرَ نَحْوَهُ.

((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ)) كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ..)). هَذَا نِفَاقٌ!

الْمُنَافِقُ الَّذِي يَتَتَبَّعُ الْعَوْرَاتِ؛ مَاذَا يَصْنَعُ؟!! وَإِنْ بَلَغَ فِي التِّقْنِيَةِ فِي التَّلَصُّصِ وَالتَّجَسُّسِ مَا بَلَغَ؛ مَاذَا يَصْنَعُ إِنْ أَرَادَ فَضْحَ وَكَشْفَ سَتْرٍ عَنْ مُسْلِمٍ؟!! وَلَنْ يَفْعَلَ إِلَّا إِذَا أَذِنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ رَبُّكَ؛ فَسِتْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سِتْرُهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتُرَ؛ فَلَنْ يُكْشَفَ سِتْرُهُ؛ وَإِنِ اجْتَمَعَ مَنْ بِأَقْطَارِهَا لِرَفْعِهِ وَهَتْكِهِ، هُوَ السِّتِّيرُ الْحَلِيمُ.

فَهَذَا الْهَاتِكُ لِلسِّتْرِ، وَهَذَا الْمُتَتَبِّعُ لِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْوَالِغُ كَالْكَلْبِ.. كَالْخِنْزِيرِ فِي الدِّمَاءِ بِلِسَانِهِ يَتَتَبَّعُ الْأَعْرَاضَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ! يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ.. وَلَمْ يُفْضِ الْإِسْلَامُ إِلَى قَلْبِهِ))؛ فَهَذَا مُنَافِقٌ.

مَاذَا يَصْنَعُ هَذَا؛ وَإِنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَقَالَ مَا قَالَ؟!!

لَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا، وَانْظُرْ إِلَى الْمَرْدُودِ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ: ((فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ)).

أَهُنَالِكَ قُدْرَةٌ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ؟!!

أَهُنَالِكَ إِرَادَةٌ نَافِذَةٌ -إِذَا قَالَ: كُنْ؛ كَانَ- أَهُنَالِكَ إِرَادَةٌ نَافِذَةٌ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ إِرَادَةِ اللهِ؟!!

وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ فَضَحَهُ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ)): فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، هَتَكَ سِتْرَهُ، وَجَعَلَهُ فُرْجَةً -وَهِيَ فَصِيحَةٌ فَلَا تَفْزَعَنَّ- وَجَعَلَهُ فُرْجَةً، وَجَرَّسَهُ -وَالتَّجْرِيسُ: مَأْخُوذٌ مِمَّا كَانُوا يَصْنَعُونَ قَدِيمًا؛ إِذْ كَانَ مَنْ وَقَعَ فِي أَمْرٍ؛ يُؤْتَى بِهِ مَحْمُولًا عَلَى دَابَّةٍ، يُطَافُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ، وَرَجُلٌ يَسِيرُ خَلْفَهُ يَحْمِلُ جَرَسًا يَدُقُّهُ؛ فَهَذَا هُوَ التَّجْرِيسُ، ثُمَّ يَقُولُ: فُلَانٌ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا، وَوُقِّعَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ كَذَا وَكَذَا؛ حَتَّى يَعْلَمَ النَّاسُ، فَهَذَا هُوَ التَّجْرِيسُ، فَبَقِيَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ لِلْإِشْهَارِ بِالْفَضِيحَةِ-، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِذَا تَتَبَّعَ عَوْرَةَ عَبْدٍ؛ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ؛ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).

((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ!))؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، وَكَانَ صَيِّنًا، وَوَقَعَ هَذَا الَّذِي وَقَعَ غَلَبَةَ غَرِيزَةٍ، شَهْوَةَ نَفْسٍ، تَسَلُّطَ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، تَوَرَّطَ فِي الْخَطَأِ، وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ؛ فَوَقَعَ الْهَتْكُ، وَرُفِعَ السِّتْرُ، إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَحْمُودًا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.

وَحُبُّ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى صُورَتَيْنِ:

فِي الَّذِينَ آمَنُوا مُجْتَمَعًا؛ وَذَلِكَ بِنَشْرِ الْأَفْلَامِ الْخَبِيثَةِ، وَالْمَجَلَّاتِ الدَّاعِرَةِ، وَالْأُسْطُوَانَاتِ الْمَاجِنَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّاعِرَةِ، وَالنِّكَاتِ الْخَبِيثَةِ الْفَاجِرَةِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي يُرَوِّجُ لِذَلِكَ وَيُهَوِّنُهُ عِنْدَمَا تَعْتَادُ الْأُذُنُ وَتُدْمِنُ سَمَاعَهُ؛ فَإِنَّهَا إِذَا مَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً.

فَهَذِهِ صُورَةٌ.

وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْأَقْرَبُ -وَهَذِهِ قَرِيبَةٌ وَأَقْرَبُ أَيْضًا-: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا}: فِي فُلَانٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ بِإِغْوَائِهِ، وَبَذْلِ مَا يُشْتَهَى أَمَامَهُ، وَبِتَوْرِيطِهِ فِيمَا لَا يَحِلُّ، وَعَدَمِ الْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ إِذَا كَانَ يَأْخُذُ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ، فَذَلِكَ -أَيْضًا- مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَذَابَ وَاقِعًا عَلَيْهِمْ حَدًّا، أَوْ أَنْ يُعَامِلَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا عَامَلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَيَفْضَحَهُمْ وَلَوْ فِي أَجْوَافِ بُيُوتِهِمْ، وَهِيَ -وَاللهِ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ، وَبَسَطَ الْأَرْضَ فَمَا يُدْرَكُ مِنْ مُنْتَهَاهَا أَمَدٌ- سُنَّةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُطَّرِدَةٌ، مَا مِنْ وَالِغٍ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَفَضَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، سُنَّةٌ لِرَبِّكَ مُطَّرِدَةٌ فِي خَلْقِهِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ السِّيَاجَ قَائِمًا، فَمَنَعَ مُصَافَحَةَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ، وَمَنَعَ مُصَافَحَةَ الَّتِي تَحِلُّ إِذَا كَانَ دَاعِرًا وَخَبِيثًا وَمَاجِنًا وَفَاجِرًا.

الْمُجْتَمَعُ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنْ غَضٍّ لِلْبَصَرِ، وَكَفٍّ لِلْأُذُنِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخَنَا، وَتَسْيِيرٍ لِلْأَرْجُلِ فِي السَّعْيِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَبَسْطِ الْأَيْدِي بِالْمَكْرُمَاتِ، وَتَحْرِيكِ الْقَلْبِ دَائِمًا وَأَبَدًا بِذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَفِّ اللِّسَانِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ؛ وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً؛ كَالْغِيبَةِ.

الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مُجْتَمَعٌ نَظِيفٌ.. نَظِيفٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، نَظِيفٌ فِي بَاطِنِهِ، وَنَظِيفٌ فِي ظَاهِرِهِ.

وَعَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمِيَ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْمَحَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَمَامَهُ فِي عِرْضِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِلَّا كَانَ مُشَارِكًا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ، كَمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ، وَفِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَيْضًا -أَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--.

الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ وَحِفْظِ الْأَعْرَاضِ

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَهْوَاءِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ، إِنْ شِئْتَ أَنْ يَكْفُرَ الْأَبْعَدُ فَلْيَكْفُرْ؛ فَاللهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّا إِذَا مَا دَخَلْتَ الدِّينَ؛ فَإِمَّا أَنْ تَلْتَزِمَ، وَإِمَّا أَنْ تُخْضِعَكَ أَحْكَامُ الدِّينِ، عَدْلٌ مَحْضٌ: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

الْمَرْءُ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِهِ، أَمَّا أَنْ يَعْبَثَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَشَيْءٌ مَرْفُوضٌ، وَهَذَا تَعْمَلُ بِهِ جَمِيعُ قَوَانِينِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَضْعًا، وَجَمِيعُ الدَّسَاتِيرِ مِنْ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ، مِنْ صَحِيحَةٍ وَزَائِفَةٍ، مِنْ قَائِمَةٍ وَقَاعِدَةٍ وَرَاقِدَةٍ، إِذَا أَخَذَ الْمَرْءُ جِنْسِيَّةَ دَوْلَةٍ مَا، ثُمَّ لَمْ يَحْتَرِمِ انْتِمَاءَهُ؛ حُوكِمَ بِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ -مَا دَامَ مُنْتَمِيًا إِلَى تِلْكَ الدَّوْلَةِ- أَنْ يَكُونَ مُرَاعِيًا لِانْتِمَائِهِ لَهَا، هَذَا فِي دَسَاتِيرِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَكَيْفَ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

أَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَصِيرُ لُعْبَةً بَيْنَ أَيْدِي الْخَلْقِ يَعْبَثُونَ بِهِ كَيْفَ يَشَاؤُونَ؟!!

قَالَ: ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)).

تَدْرِي مَا الْحَدُّ؟!!

إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالشُّهَدَاءِ.. أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، يَأْتِي بِالسَّاقِطِينَ؟! يَأْتِي بِالْهَلْكَى الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ، الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَأْتُونَ الْخَبَائِثَ وَيَفْسُقُونَ؟! هَؤُلَاءِ لَيْسُوا عُدُولًا حَتَّى يَشْهَدُوا.. يَأْتِي بِالشُّهُودِ الْعُدُولِ، يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَيَأْخُذُ الْقَاضِي كُلًّا عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا كَمَا يَكُونُ الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَمَا حَدُّ الْقَذْفِ؟

أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَأَنْ يُشْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ: هَذَا فَاسِقٌ، وَأَنْ يُسَمَّى فَاسِقًا، وَأَلَّا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ إِذَا تَابَ وَأَنَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ؛ تُقْبَلُ أَوْ لَا تُقْبَلُ؟ مَحْدُودٌ هُوَ فِي حَدٍّ، قَدْ أُصِيبَ فِي جُرْمٍ، قَدْ وَقَعَ فِي أَمْرٍ كَبِيرٍ عَظَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِتَعْظِيمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهُ: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

قَالَ: ((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ))؛ يُرِيدُ هَزَّالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ قَالَ لَهُ وَمَا أَرَادَ إِلَّا الْخَيْرَ: ((ائْتِ النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبِرْهُ بِالَّذِي كَانَ))، وَذَهَبَ فَأْخَبَرَهُ، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَلَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ -يَعْنِي: لَوْ كَانَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، فَرَأَيْتَهُ، فَسَتَرْتَهُ مِمَّنْ يَهْتِكُ عِرْضَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُشِيعُ عَنْهُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا- لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ -مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ-)).

السَّتْرُ مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ.. السَّتْرُ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ كَمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: وَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ عَادَتِهِ، وَلَا هُوَ بِدَيْدَنِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

فَإِذَا وَقَعَ فِي الْخَطَأِ وَالْخَطِيئَةِ مُتَعَمِّدًا كَانَ ظَالِمًا، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْخَطَأِ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ كَانَ جَاهِلًا، وَالْمَرْءُ فِي جُمْلَتِهِ لَا يَخْلُ مِنْ هَذَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَامَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَقَعُونَ؛ إِمَّا أَنْ يَقَعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُتَعَمِّدًا، فَهَذَا ظَالِمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ، فَهَذَا جَاهِلٌ، وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَمَعْلُومٌ -كَمَا قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ- كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِ الْمَأْمُونِ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يُبْصِرَ الرَّجُلُ الْقَذَاةَ -وَهِيَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ يَقَعُ كَالذَّرَّةِ الَّتِي لَا تُرَى إِلَّا بِالْمِجْهَرِ فِي الشَّرَابِ أَوِ الطَّعَامِ- إِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يُبْصِرَ الرَّجُلُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَلَا يُبْصِرَ الْجِذْلَ -أَيِ: الْجِذْعَ- فِي عَيْنِ نَفْسِهِ)).

وَقَدِيمًا لَمَّا مَرَّ الْمَسِيحُ (سلم) بِقَوْمٍ يَرْجُمُونَ امْرَأَةً، وَقَدْ تَحَلَّقُوا حَلْقَةً حَوْلَهَا، فَقَالَ: ((مَا شَأْنُهَا وَمَا شَأْنُكُمْ؟)).

قَالُوا: ((زَانِيَةٌ يَا كَلِمَةَ اللهِ)).

فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيئَةٍ؛ فَلْيَرْمِهَا بِحَجَرٍ))، فَوَلَّوْا جَمِيعًا مُدْبِرِينَ.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَطِيلُونَ فِي الْأَعْرَاضِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ وُلُوغًا فِي الْأَعْرَاضِ، هَؤُلَاءِ -يَا أَخِي- مِمَّنِ انْطَوَتْ بَوَاطِنُهُمْ عَلَى الْفُحْشِ وَالْفَوَاحِشِ يُرِيدُونَ الدُّنْيَا جَمِيعًا عَلَى الْفَاحِشَةِ؛ لِكَيْ يَقُومَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمُ الْمُبَرِّرُ فِي وُجُودِهِ؛ وَإِلَّا فَمَا مُبَرِّرُ وُجُودِهِ إِذَنْ؟!!

جُمْلَةُ هَؤُلَاءِ مُقْبِلُونَ عَلَى الْحَيَاةِ بِلَا مُبَرِّرٍ؛ لِمَاذَا يُقْبِلُونَ عَلَى الْحَيَاةِ؟!!

لَا مُبَرِّرَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ فِي الْحَقِيقَةِ، هِيَ أَدْنَى مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَحَطُّ، نَعَم، الْحَيَوَانُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ مِنْ ذَكَرِهِ وِقَاعٌ لِأُنْثَاهُ إِلَّا عِنْدَ الطَّلَبِ بِالْغَرِيزَةِ؛ إِبْقَاءً لِلنَّسْلِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَا يَقْرَبُهَا؛ أَلَا تَعْلَمُونَ؟!!

((لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ.. لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ)) كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِهَزَّالٍ؛ فَكَيْفَ إِذَا كُنْتَ لَمْ تَرَ شَيْئًا؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ أَصْلًا؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَحْضَ اخْتِلَاقٍ وَافْتِرَاءٍ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَعْثِ الْمُنَافِقِينَ الْمُحَارِبِينَ لِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْهَامِ وَاهِمٍ، وَحِقْدِ حَاقِدٍ، وَحَسَدِ حَاسِدٍ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟!!

الْإِثْمُ عَظِيمٌ.

وَلَمَّا قَالَ الصَّحَابِيُّ لِأَخِيهِ مَا قَالَ: ((انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ فَفَضَحَ نَفْسَهُ، فَرُجِمَ كَمَا يُرْجَمُ الْكَلْبُ)).

مَاذَا قَالَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؟

قَالَ وَاحِدٌ، وَاسْتَمَعَ الْآخَرُ فَلَمْ يُنْكِرْ، فَعُدَّ مُشَارِكًا وَعُدَّ قَائِلًا، وَكَذَلِكَ الْغِيبَةُ، كَذَلِكَ هِيَ، تَكَلَّمَ رَجُلٌ فِي عِرْضِ مُسْلِمٍ فِي وَسَطِ جَمْعٍ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحِمَى هَذَا الْحِمَى، وَبِالدِّفَاعِ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، وَسَكَتُوا جَمِيعًا وَهُمْ عَلَى الدَّفْعِ قَادِرُونَ؛ جَمِيعًا قَدْ قَالُوا، وَجَمِيعًا قَدِ اغْتَابُوا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَلَّذِي قُلْتُمَا وَنِلْتُمَا آنِفًا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِكُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِيفَةِ))؛ مِنْ حِمَارٍ قَدْ جَيَّفَ وَهُوَ شَائِلٌ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ وَاحِدٌ، وَاسْتَمَعَ الْآخَرُ فَلَمْ يُنْكِرْ، فَعُدَّ قَائِلًا وَعُدَّ مُشَارِكًا، وَهُوَ مَأْثُومٌ بِذَاتِ الْإِثْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقَائِلُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ، هَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، حَدٌّ يَلْزَمُكَ أَنْ تَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ؛ بِالْجَلْدِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَيُسَمَّى فَاسِقًا -وَيُسَمَّى الْقَاذِفُ الَّذِي تَكَلَّمَ فَاسِقًا-، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا، حَدٌّ فِي ظَهْرِهِ، ((الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ))؛ فَأَيْنَ الْبَيِّنَةُ؟!!

لَا بَيِّنَةَ هُنَالِكَ، وَلَا تَقُومُ، وَلَمْ يُقَمْ حَدُّ الزِّنَا فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَبَدًا، وَإِنَّمَا بِالْإِقْرَار، كَانَ الَّذِي يَتَوَرَّطُ يَأْتِي فَيُقِرُّ وَيَعْتَرِفُ، وَيَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فَعَلَ مَاعِزٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَمَا فَعَلَتِ الْغَامِدِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَتَشْهَدُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَتَحَرَّى النَّبِيُّ ﷺ مَا يُقَامُ الْحَدُّ إِذَا تَوَفَّرَ مِنْ شُرُوطٍ، فَإِذَا مَا وُجِدَ؛ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَإِلَّا فَلَا، فَلَمْ يُقَمِ الْحَدُّ -قَطُّ- فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ.

فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُسْلِمُ فِي عِرْضِ أَخِيهِ؛ وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا، وَرَآهُ بِعَيْنِيْ رَأْسِهِ، وَحَدَّثَ بِهِ وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؛ فَاسِقٌ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ، رَأَى بِعَيْنَيْهِ!! وَلَوْ رَأَى بِعَيْنَيْهِ، هَذَا بَابٌ مُغْلَقٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَحَ؛ وَإِلَّا فَكَيْفَ تُمَيِّزُ صَادِقًا مِنْ كَاذِبٍ؟!!

إِذَا كُنْتَ أَنْتَ عِنْدَ نَفْسِكَ صَادِقًا؛ فَقَدْ تَكُونُ عِنْدَ غَيْرِكَ غَيْرَ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا مَنْ لِلْبَشَرِ بِتَمْيِيزِ الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ وَهُمْ عُدُولٌ، وَالْعَدَالَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَزِيزَةٌ جِدًّا كَالْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، كَعَنْقَاءِ مَغْرِبٍ، الْعَدَالَةُ عَزِيزَةٌ جِدًّا، وَخَوَارِمُ الْمُرُوءَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَمَنْ يَشْهَدُ حَتَّى يَكُونُوا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ شَهَادَةً وَاحِدَةً، وَكُلٌّ عَلَى حِدَةٍ، بِالتَّفَاصِيلِ الدَّقِيقَةِ، وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَكِنَّةِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ؛ فَهُمْ -حِينَئِذٍ- مِمَّنْ تَوَرَّطَ فِي اسْتِيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ يُسَمَّى فَاسِقًا، وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ النَّاسُ، هَذَا فَاسِقٌ مَحْدُودٌ، وَلَا تُقَامُ لَهُ شَهَادَةٌ بِوَزْنٍ أَبَدًا، وَلَا يَشْهَدُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ حَمَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَهَذِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحِمَايَةِ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الْوِقَايَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِمَايَةً لِلْأَعْرَاضِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

هَذَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ.. مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ، وَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَضْحِ وَالْهَتْكِ، وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِنَا، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا، وَأَنْ يَهْدِينَا جَمِيعًا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

 

اللَّهُمَّ اسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ الْجَمِيلِ، وَاجْعَلْ تَحْتَ السِّتْرِ مَا يُرْضِيكَ؛ فَيَا طَالَمَا سَتَرْتَ عَلَى مَا لَا يُرْضِيكَ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَنَا مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ كُلِّهَا، وَأَنْ يُقِيمَ أَلْسِنَتَنَا عَلَى الْجَادَّةِ مُسْتَقِيمَةً بِغَيْرِ اعْوِجَاجٍ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَدِّدَ أَلْسِنَتَنَا، وَأَنْ يُطَهِّرَهَا مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُ، وَمِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

المصدر: مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  رمضان .. كيف نحياه؟
  الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ
  حُسْنُ الْخَاتِمَةِ
  بيان للمصريين عامة وللدعاة خاصة
  الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ
  الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ
  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  الاحتفال بالمولد النبوي
  حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
  الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان