النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا

النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا

((النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:


النَّبِيُّ ﷺ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ

فَإِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْعَظِيمَةِ: أَنْ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْبَشَرِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لِكَيْ لَا يَدَعَ النَّاسَ هَمَلًا، وَلِكَيْ يَدُلَّ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ النَّاسَ عَلَى سَبِيلِ رَبِّ النَّاسِ، وَلِكَيْ يُعَرِّفَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ النَّاسَ بِخَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ، وَيُعَلِّمُوهُمْ كَيْفَ يُوَحِّدُونَهُ، وَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُ، وَكَيْفَ يَسْلُكُونَ السَّبِيلَ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَيَبْتَعِدُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

ثُمَّ تَبَدَّتِ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ فَوْقَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ بِإِرْسَالِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا ﷺ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ رَبُّهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُرْسِلُ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَجْمَعِينَ قَاطِبَةً، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْأَنَاسِيِّ، وَرَحْمَةً لِلْجِنِّ، وَرَحْمَةً لِلْبَهَائِمِ؛ بَلْ وَرَحْمَةً لِلْجَمَادَاتِ، وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا يَأْتُونَ قَوْمَهُمْ بِالْبَشَارَةِ وَالنَّذَارَةِ، فَإِذَا مَا أَطَاعُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْجَاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا مَا تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا، وَرَدُّوا الْأَمْرَ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَرَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ؛ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ، إِلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَمَنْ أَطَاعَ النَّبِيَّ أَحْيَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى الْحَيَاةِ الْأَطْيَبِ فِي الْآخِرَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَنِعْمَ دَارُ الْقَرَارِ.

وَمَنْ عَصَى النَّبِيَّ ﷺ؛ لَمْ يُصِبْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخَسْفِ، وَلَمْ يُصِبْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمَسْخِ، وَلَمْ يُنْزِلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ طُوفَانًا مُتَفَجِّرًا مِنْ أَطْوَاءِ الْأَرْضِ، وَمُنْهَمِرًا مِنْ طَيَّاتِ السَّمَاءِ، وَلَمْ يُسَلِّطِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ، بَلْ يُنْذِرُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُنْظِرُهُمْ حَتَّى يَقْدُمُوا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوَفِّيَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِمَا قَدَّمَ؛ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَالْإِحْسَانُ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَالسُّوأَى.

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، رَحْمَةً شَامِلَةً عَامَّةً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ-.


النَّبِيُّ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ وَالْقُدْوَةُ السَّامِيَةُ

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ خَلْقَهُ وَخُلُقَهُ ﷺ، فَجَاءَ ﷺ زِينَةَ الْأَبْصَارِ وَبَهْجَةَ الْقُلُوبِ، وَجَاءَ ﷺ مِلْءَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، حَبِيبًا قَرِيبًا لِلْأَفْئِدَةِ الْمُطِيعَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي تَسْلُكُ نَهْجَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تَسِيرُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، ثُمَّ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَجًى فِي حُلُوقِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَذًى فِي أَعْيُنِ الَّذِينَ لَا يُسْلِمُونَ، ثُمَّ مَرَدُّهُمْ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُنَاكَ يَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ!!

أَكْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَأَمَّا الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّكَ إِذَا مَا نَظَرْتَ فِي وَجْهِهِ ﷺ؛ دَلَّكَ مَظْهَرُهُ عَلَى مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مَخْبَرُهُ ﷺ.

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ=لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ

ﷺ.

وَأَمَّا بَاطِنُهُ.. وَأَمَّا مَخْبَرُهُ؛ فَخُذْ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِهِ ﷺ مِنْ تِلْكَ الشَّمَائِلِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَزِيزَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَالَّتِي يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِلْيَةً وَزِينَةً؛ بَلْ يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ: ((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ)).

النَّبِيُّ ﷺ قِيلَ فِي وَصْفِهِ: ((أَشَدُّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ)).

أَمَّا خِصَالُ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي حَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا خُلُقَهُ؛ فَأَمْرٌ فَوْقَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي فِيهِ الْعَجَبُ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُكُمْ -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَنْ تَجْعَلُوا النَّبِيَّ أُسْوَةً لَكُمْ ﷺ، {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

النَّبِيُّ ﷺ مَاذَا يَقُولُ فِيهِ القَائِلُونَ؟!!

وَبِمَاذَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ؟!! وَقَدْ وَصَفَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَدَحَهُ بِخَيْرِ مِدْحَةٍ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].

بَشَرٌ مِنَ الْبَشَرِ، اصْطَفَاهُ اللهُ وَأَكْرَمُهُ! وَجَعَلَهُ خَلِيلَهُ، وَخَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ، وَصَفْوَةَ رُسُلِهِ، وَأَحَبَّ الخَلْقِ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ!!

بَشَرٌ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، لَمْ يَعْتَمِلْ فِي صَدْرِهِ خَاطِرُ سُوءٍ أَبَدًا!!

وَالْوَاحِدُ مِنَّا يُحَاوِلُ مَا يُحَاوِلُ فِي سَبِيلِ تَحْصِيلِ بَعْضِ كَمَالَاتِ نَفْسِهِ، وَتَعْزِيزِ فُؤَادِهِ بِبَعْضِ الْقِيَمِ الثَّابِتَةِ وَالْأُصُولِ الرَّاسِخَةِ مِنَ المَكَارِمِ المُنِيفَةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، يُحَاوِلُ مَا يُحَاوِلُ جَاهِدًا، وَيَفْشَلُ فِي كُلِّ حِينٍ!!

يَا لَلَّه!

مَا أَعْظَمَهُ!

وَمَا أَكْرَمَهُ!

وَمَا أَجَلَّهُ!

وَمَا أَحْلَمَهُ ﷺ!

نَبِيٌّ مِنَ الْبَشَرِ، هُوَ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ، لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ عَوْرَاءَ قَطُّ، لَمْ يَجُلْ فِي ضَمِيرِهِ خَاطِرُ سُوءٍ قَطُّ، وَلَا جَالَ بِخَيَالِهِ خَاطِرُ شَرٍّ قَطُّ، مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْجَادَّةِ، لَا تُحْصَى لَهُ هَفْوَةٌ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا.

وَقَدْ أُحْصِيَتْ حَيَاتُهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ مِيلَادِهِ إِلَى وَفَاتِهِ، فَمَا عُرِفَتْ لَهُ هَفْوَةٌ، وَلَا أُحْصِيَتْ عَلَيْهِ زَلَّةٌ ﷺ، هُوَ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، وَالأُسْوَةُ الشَّرِيفَةُ، وَالْقُدْوَةُ المُنِيفَةُ؛ فَانْهَلْ مِنْ أَخْلَاقِهِ، عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ اللهُ!!

فَلْتَجْعَلُوا النَّبِيَّ أُسْوَتَكُمْ فِي خِصَالِهِ، وَفِي خِلَالِهِ، وَفِي سَجَايَاهُ الَّتِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ.

النَّبِيُّ ﷺ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا

لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- النَّبِيَّ ﷺ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَحَبَاهُ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْآدَابِ السَّامِيَةِ وَجَوَامِعِ الْمُثُلِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَكَانَ ﷺ نِعْمَ الْقُدْوَةُ لِأُمَّتِهِ وَلِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

{وَكَذَلِكَ} حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى الرُّسُلِ قَبْلَكَ {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، سَمَّاهُ رُوحًا؛ لِأَنَّ الرُّوحَ يَحْيَا بِهَا الْجَسَدُ، وَالْقُرْآنُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ، وَتَحْيَا بِهِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْعِلْمِ الْغَزِيرِ.

وَهُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي}؛ أَيْ: قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَيْكَ {مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}؛ أَيْ: لَيْسَ عِنْدَكَ عِلْمٌ بِأَخْبَارِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَا إِيمَانٌ وَعَمَلٌ بِالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ كُنْتَ أُمِّيًّا لَا تَخُطُّ وَلَا تَقْرَأُ، فَجَاءَكَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَسْتَضِيئُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ، وَيَعْرِفُونَ بِهِ الْحَقَائِقَ، وَيَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أَيْ: تُبَيِّنُهُ لَهُمْ، وَتُوَضِّحُهُ وَتُنِيرُهُ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ، وَتُرَهِّبُهُمْ مِنْهُ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].

الْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ: الَّذِينَ لَا كِتَابَ عِنْدَهُمْ وَلَا أَثَرَ رِسَالَةٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَامْتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ مِنَّةً عَظِيمَةً أَعْظَمَ مِنْ مِنَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَادِمُونَ لِلْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، يَتَعَبَّدُونَ لِلْأَشْجَارِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَحْجَارِ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِأَخْلَاقِ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، يَأْكُلُ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ، فَبَعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَأَوْصَافَهُ الْجَمِيلَةَ وَصِدْقَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الْقَاطِعَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، {وَيُزَكِّيهِمْ} بِأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَيُفَصِّلَهَا لَهُمْ، وَيَزْجُرَهُمْ عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.

{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ أَيْ: عِلْمَ الْقُرْآنِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَكَانُوا بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيمِ وَالتَّزْكِيَةِ مِنْهُ أَعْلَمَ الْخَلْقِ؛ بَلْ كَانُوا أَئِمَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَأَكْمَلَ الْخَلْقِ أَخْلَاقًا، وَأَحْسَنَهُمْ هَدْيًا وَسَمْتًا، اهْتَدَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهَدَوْا غَيْرَهُمْ؛ فَصَارُوا أَئِمَّةَ الْمُهْتَدِينَ وَقَادَةَ الْمُتَّقِينَ، فَلِلَّهِ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ هَذَا الرَّسُولِ ﷺ أَكْمَلُ نِعْمَةٍ وَأَجَلُّ مِنْحَةٍ.


أَعْظَمُ أُصُولِ تَرْبِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ الصَّحَابَةَ وَالْأُمَّةَ

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِدُرُوسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.. اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرَبِّي جِيلَ الصَّحَابَةِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ تَرْبِيَةً فَذَّةً حَقًّا، عَجِيبَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الْجِيلَ الْأَوَّلَ الَّذِي شَهِدَ الْحَيَاةَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْوَحْيُ يَتَنَزَّلُ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ ﷺ.. هَذَا الْجِيلُ عَاشَ فَتْرَةً فِي الْحَيَاةِ عَجِيبَةً غَرِيبَةً بِحَقٍّ وَصِدْقٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَبِيتُ وَيُصْبِحُ وَفِي ضَمِيرِهِ وَفِي يَقِينِهِ وَفِي خَلَدِهِ لَا يَغِيبُ عَنْ عَيْنَيْ قَلْبِهِ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَامِعُهُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُبْصِرُهُ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيَكْشِفُ خَبِيئَةَ نَفْسِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ، يُخْرِجُ مَكْنُونَ صَدْرِهِ، وَالْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يُخْرِجُ الْخَبِيءَ مِنْ أَمْرِهِ.

فَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَمَا مِنْ هَاجِسٍ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ وَلَا خَاطِرٍ يَلُوحُ فِي أُفُقِ الْعَقْلِ إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.. إِلَّا وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَبِيرٌ بِهِ، عَلِيمٌ بِأَمْرِهِ.

فَكَانَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعِيشُونَ فَتْرَةً حِينَ كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ.. فَتْرَةً عَجِيبَةً بِحَقٍّ، وَرَبَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْأَحْدَاثِ الْمَرِيرَةِ، وَآتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، فَكَانُوا حَقًّا بَاقَةَ الْوَرْدِ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بُسْتَانِ الصَّبْرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُصِيبُهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَكْتَفِي بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَدَعُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِكِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُخْرِجَ مَكْنُونَاتِ صُدُورِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْرِضُهُمْ عَلَى كِيرِ الْمِحْنَةِ، وَيُدْخِلُهُمْ أَتُّونَ الْفِتْنَةِ؛ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ؛ خَرَجُوا ذَهَبًا صُرَاحًا خَالِصًا لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَلَا كُدُورَةَ تَعْتَرِيهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُودُ الْمَسِيرَةَ -مَسِيرَةَ الْبَشَرِيَّةِ- بَعْدَ إِذْ أَعْلَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ رَجَعَ إِلَى نِصَابِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَزْيِيفٍ لِمُزَيِّفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لِمُحَرِّفٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا شَائِبَةٍ تَعْلَقُ بِذَاكِرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانَ رَبُّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِسُنَّتِهِ الَّتِي مَضَتْ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يُمَحِّصُ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ وَعْيُهُمْ فَائِقًا، وَكَانَ حِسُّهُمْ ثَاقِبًا، وَكَانَ بَصَرُهُمْ نَافِذًا، وَكَانُوا بِحَقٍّ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُلْقَاةً عَلَى أَعْتَاقِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُبَلِّغُونَهَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِتَصِلَ إِلَيْهِمْ نَقِيَّةً مِنْ كُلِّ زَيْفٍ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَانُوا سَابِقِينَ بِحَقٍّ كَمَا أَرَادَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْجِيلِ الَّذِي اصْطَفَاهُ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ مُصَاحِبًا لِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

كَانُوا يُحِسُّونَ أَنَّ الْوَحْيَ عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَهِيَ النِّعْمَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمِنَّةُ الْعُظْمَى.

كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، كَانَ الْقُرْآنُ يَتَنَزَّلُ لِكَيْ يَقُولَ: يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ كَذَا، وَأَعْلَنْتَ كَذَا، وَعَمِلْتَ فِي الْخَفَاءِ كَذَا وَفِي الْعَلَنِ كَذَا، وَيَا فُلَانُ! وَيَا فُلَانُ! بِذَاتِهِ يُخَاطِبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُكَلِّمُهُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يُكَلِّمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ كَاشِفًا، وَعِنْدَمَا تَتَعَرَّى النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ؛ فَإِذَا هِيَ مُتَجَرِّدَةٌ مِنْ كُلِّ رِدَاءٍ وَكِسَاءٍ، وَإِذَا هِيَ وَاقِفَةٌ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ التَّجَرُّدِ الْفَذِّ، يَعْتَرِيهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ، وَمِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ؛ يَا فُلَانُ! أَسْرَرْتَ كَذَا، مِنْهُ إِلَيْهِ!!

عِنْدَمَا يَتَنَزَّلُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالْمَرْءُ فِي خَلْوَتِهِ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَامِعٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ.

فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِدُرُوسِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ وَلَكِنَّ الْأَصْحَابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَثْبُتُونَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي مَهَبِّ الْأَعَاصِيرِ، تَأْتِي إِلَيْهِمْ.. يَنْثَنُونَ مَعَهَا حِينًا، وَيَسْتَقِيمُونَ حِينًا، وَفِي كُلِّ الْحَالَاتِ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا.

صِفَاتُ النَّبِيِّ ﷺ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا

إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ سِيرَةَ النَّبِيِّ ﷺ يَجِدُ أَنَّهُ ﷺ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ مُعَلِّمًا رَفِيقًا، يَحْنُو عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَّقَكَ اللهُ لِلرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ بِأَصْحَابِكَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِكَ دَاعِيَةَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ فَسَهُلَتْ لَهُمْ أَخْلَاقُكَ، وَلِنْتَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتَ جَافِيًا مُتَجَهِّمَ الْوَجْهِ، سَيِّءَ الْخُلُقِ، قَلِيلَ الِاحْتِمَالِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ، خَالِيًا مِنْ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ؛ لَنَفَرُوا عَنْكَ، وَتَفَرَّقُوا حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَكَ.

فَتَجَاوَزْ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، وَاسْأَلِ اللهَ السَّتْرَ لِذُنُوبِهِمْ، وَاسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ، وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِرَادَتُكَ إِلَى مُسْتَوَى الْعَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ الشُّورَى وَاسْتِعْرَاضِ مُخْتَلَفِ الْآرَاءِ، وَتَرْجِيحِ الرَّأْيِ الْأَكْثَرِ نَفْعًا وَسَدَادًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاعْمَلْ عَلَى تَنْفِيذِ مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَاللهُ سَيَمُدُّكَ بِمَعُونَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْكَ الْأَعْرَاضَ وَالْمَوَانِعَ، وَيُحَقِّقُ لَكَ النَّتَائِجَ الَّتِي تَرْجُوهَا؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، مَعَ قِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا تَقْتَضِيهِ حَاجَاتُ التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابٍ رَبَطَ اللهُ بِهَا النَّتَائِجَ فِي نِظَامِ كَوْنِهِ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَوْ تَعَامَلَ مَعَهُمْ بِالْغِلْظَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ انْفِضَاضِ أَصْحَابِهِ؛ فَكَيْفَ لَوْ تَعَامَلَ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ؟!!

وَأَنْتَ تَرَى -حَفِظَكَ اللهُ- بُعْدَ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ!

وَاللِّينَ اللِّينَ! إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، فَيَتَوَجَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشِّدَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ.. وَاللِّينَ اللِّينَ؛ حَتَّى تُبَلِّغَ دِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْمَلَ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ -يَعْنِي: وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ-.

قَالَ: فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ! قَالَ: فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟!.

كُلُّ هَذَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ..

فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ.

فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي-؛ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللهِ مَا قَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا أُرِيتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ))..

فِيهِ: بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ عَظِيمِ الْخُلُقِ الَّذِي شَهِدَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بِهِ، وَرِفْقِهِ بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ.

وَفِيهِ: التَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ ﷺ فِي الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ، وَاللُّطْفِ بِهِ، وَتَقْرِيبِ الصَّوَابِ إِلَى فَهْمِهِ)).

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمُسْنَدِ)): ((أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَى!

فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ».

قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». الْحَدِيثَ.

وَلَمَّا بَالَ الْأَعْرَابِيُّ الْجَاهِلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَانْتَهَرَهُ النَّاسُ؛ زَجَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتَرَكَهُ حَتَّى قَضَى بَوْلَهُ، ثُمَّ دَعَاهُ وَعَلَّمَهُ بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ وَحُنُوٍّ، وَقَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالْعِبَادَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَمَّا أَغْلَظَ لَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ الْجَافِينَ بِالْقَوْلِ، وَهَمَّ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِهِ؛ قَالَ ﷺ: ((دَعُوهُ))، ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، وَبَذَلَ لَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَانْقَادَ إِلَى الْحَقِّ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمًا رَحِيمًا، وَمُرَبِّيًا حَكِيمًا؛ فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.. رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ-عَزَّ وَجَلَّ-. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.


مَجَالَاتُ التَّرْبِيَةِ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ

إِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يَعْرِفْ مُعَلِّمًا قَطُّ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَرْبِيَةً وَأَرْقَى خُلُقًا مِنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُفِيدَ مِنْ وَسَائِلِ وَأَسَالِيبِ تَعْلِيمِهِ لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَتَعْلِيمِهِ لِأُمَّتِهِ، وَأُسْلُوبِ تَعْلِيمِهِ لِلنَّشْءِ وَالشَّبَابِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ، فَسُنَّتُهُ ﷺ مُفْعَمَةٌ بِالنَّمَاذِجِ التَّطْبِيقِيَّةِ فِي ذَلِكَ؛ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْإِمَامُ فِي مَسْجِدِهِ، وَالْمُعَلِّمُ فِي جَامِعَتِهِ أَوْ مَدْرَسَتِهِ، وَالْوَالِدَانِ مَعَ أَبْنَائِهِمَا، وَسَائِرُ الْمَعْنِيِّينَ بِالْجَوَانِبِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ وَالتَّوْعَوِيَّةِ وَالتَّثْقِيفِيَّةِ.

قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا أُرِيتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ)).


التَّرْبِيَةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْعَقَدِيَّةُ

إِنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَرَبَّى الْأُمَّةَ عَلَيْهِ: التَّوْحِيدُ، وَغَرْسُ أُصُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ؛ فَكُلُّ رَسُولٍ أُرْسِلَ وَكُلُّ نَبِيٍّ نُبِّئَ قَالَ لِقَوْمِهِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مَجَامِعِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ وَفِي الْأَسْوَاقِ يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا))، فَالْفَلَاحُ كُلُّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلُ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

إِنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ مُتَشَتِّتِينَ، عِنْدَهُمْ ثَارَاتٌ وَغَارَاتٌ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ اسْتَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ، تَوَحَّدُوا، وَصَارُوا قُوَّةً هَائِلَةً فِي الْأَرْضِ سَادَتِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ قَبْلَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ أُمُورُهُمْ بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَانُوا مَطْمَعًا لِشُعُوبِ الْأَرْضِ، كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَرَبِ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَكُلُّ دَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الْكُفْرِ كَانَ لَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَصِيبٌ.

فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، فَصَارَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ رَسَّخَ فِي النُّفُوسِ أُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحِ))  عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.

فَقَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

قَالَ: صَدَقْتَ.

قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ، يَسْأَلُهُ ثُمَّ يُصَدِّقُهُ!

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ.

قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).

قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ.

فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ.

قَالَ: ((مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)).

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا.

قَالَ: ((أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).

قَالَ: ثُمَّ مَضَى، فَلَبِثْنا مَلِيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَعْلَمُونَ مَنْ كَانَ يُكَلِّمُنَا؟)).

فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَقَالَ: ((ذَلِكُمْ جِبْرِيلُ، جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)).

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ جَمَعَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ -بِالْإِجَابَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي سَأَلَهُ إِيَّاهَا جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- أَمْرَ الْإِسْلَامِ كُلِّهِ.

أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ، وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سِتَّةٌ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَإِذَا نَظَرْتَ فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَفِي أَرْكَانِ الْإِيمَانِ؛ وَجَدْتَ أَنَّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ ظَاهِرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ ظَاهِرًا.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).

وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ السِّتَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَلْبِ.. مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَاطِنِ.

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَيَبُثُّ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُصْلِحُهَا، وَيُهَذِّبُهَا، وَيُقَوِّي صِلَتَهَا بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّحَابَةَ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ

إِنَّ مِنْ أُصُولِ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: تَرْبِيَتَهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْإِسْلَامِ: الْبُلُوغُ مَعَ الرُّشْدِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ وَلَكِنْ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يُرَاعُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي صِغَرِهِمْ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَنْشَئُوا عَلَى حُبِّهَا، وَيُدَاوِمُوا عَلَيْهَا.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ».

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُومُونَ بِتَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ عَلَى الْأَدَبِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.. رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ-، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ؛ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ -تَعْنِي: اللُّعْبَةَ- حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).

فَهَكَذَا تَرْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ رَبَّى الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَبْنَاءَهُمْ، فَخَرَجَتْ أَجْيَالٌ مُسْلِمَةٌ تَنْشُرُ الْخَيْرَ فِي رُبُوعِ الْأَرْضِ، وَعَاشَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.

النَّبِيُّ ﷺ يُرَبِّي الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي النَّوَافِلِ، قَالَ ﷺ: قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ -وَهَذَا فِي تَحْصِيلِ الْمَحْبُوبِ-، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ -وَهَذَا فِي الْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ-)).

وَمَعَ حَثِّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَافِلِ؛ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ يُعَلِّمُنَا التَّوَازُنَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، نَبِيُّكُمْ ﷺ يُوَضِّحُ لَكُمْ أَنَّ حَيَاتَكُمْ وَآخِرَتَكُمْ رَهْنٌ بِاسْتِقَامَتِكُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَثَلَاثَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْخِصَاءَ لِكَيْ يَخْرُجُوا مِنْ حَدِّ الشَّهَوَاتِ بِاسْتِعَارِهَا فِي الدِّمَاءِ.. هُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَبَتَّلُوا، فَفَكَّرُوا فِي الْخِصَاءِ؛ لِكَيْ تَنْقَطِعَ الْمَادَّةُ بِشَهْوَتِهَا، وَلِكَيْ يَصِيرُوا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهَا.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ أَنَّ: ((ثَلَاثَةَ رَهْطٍ جَاءُوا إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا.. فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ؛ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)). فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ؛ إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.


تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الْأَخْلَاقِيَّةُ لِلْأُمَّةِ

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْأُمَّةَ: التَّرْبِيَةَ الْأَخْلَاقِيَّةَ؛ فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ-.

قَالَ هِرَقْلُ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ -يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ-؟

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: قُلْتُ: يَقُولُ ﷺ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَوَّلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُنْذُ بِدَايَةِ الْبِعْثَةِ بِالصِّدْقِ.

وَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ كَانَ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

رَبَّى النَّبِيُّ ﷺ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الصِّدْقِ، وَالْوَفَاءِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفُرُوجِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْغَدْرِ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالْفُجُورِ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)).

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ؛ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ؛ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

إِنَّ الْأَخْلَاقَ الْكَامِلَةَ وَالْآدَابَ السَّامِيَةَ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مُسْتَقِيمَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ، مُكْتَمِلَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ نَقِيَّهُ مِنْ كُلِّ دَرَنٍ وَآفَةٍ وَنَقْصٍ، قَوِيَّ الْقَلْبِ، مُتَوَجِّهًا قَلْبُهُ إِلَى أَعْلَى الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا، قَائِمًا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، قَدْ حَازَ الشَّرَفَ وَالِاعْتِبَارَ الْحَقِيقِيَّ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ وَآفَةٍ، قَدْ تَوَاطَأَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْفَلَاحِ.


تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الْأُمَّةَ اجْتِمَاعِيًّا

إِنَّ مِنْ أَبْرَزِ مَعَالِمِ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْأُمَّةَ: التَّرْبِيَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَفْهُومِهَا الصَّحِيحِ، وَالَّتِي لَهَا دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ النَّفْسِيِّ، وَالِاسْتِقْرَارِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْعِزَّةِ لِلْفَرْدِ وَلِلْمُجْتَمَعِ، كَمَا أَنَّ قِيَمَ الْمُسَاوَاةِ وَالْأُخُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهَمِّ الدَّعَائِمِ فِي إِقَامَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ الْآمِنِ السَّعِيدِ، وَكَذَلِكَ مَبْدَأُ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي رَسَّخَتْهُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، فَقَدْ أَدَّى إِلَى تَحْقِيقِ التَّرَابُطِ، وَقَضَى عَلَى الْحِقْدِ وَالْفُرْقَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

النَّبِيُّ ﷺ مِنْ دَعَائِمِ تَرْبِيَتِهِ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ: الْمُؤَاخَاةُ، وَذَلِكَ مُنْذُ بِعْثَتِهِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ شَرَعَ فِي تَنْظِيمِ أُمُورِ الْمُجْتَمَعِ، وَبِنَاءِ مُؤَسَّسَاتِهِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَضْمَنُ لَهُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا.

وَشَرَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنْذُ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي تَثْبِيتِ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مَتِينَةٍ وَأُسُسٍ رَاسِخَةٍ؛ فَكَانَتْ أُولَى خُطُوَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ: الِاهْتِمَامَ بِبِنَاءِ دَعَائِمِ الْأُمَّةِ؛ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْحُبِّ فِي اللهِ، وَإِصْدَارِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي يُنَظِّمُ بِهَا الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَمُشْرِكِي الْمَدِينَةِ، وَإِعْدَادِ جَيْشٍ؛ لِحِمَايَةِ الدَّوْلَةِ، وَالسَّعْيِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ كَافَّةً.

فَقَدِ اسْتَمَرَّ الْبِنَاءُ التَّرْبَوِيُّ وَالتَّعْلِيمِيُّ، وَاسْتَمَرَّ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ يَتَحَدَّثُ فِي الْمَدِينَةِ عَنْ عَظَمَةِ اللهِ، وَحَقِيقَةِ الْكَوْنِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْجَنَّةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنَ النَّارِ، وَيُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ، وَدَعْمِ مُقَوِّمَاتِ الدَّوْلَةِ الَّتِي سَتَحْمِلُ نَشْرَ دَعْوَةِ اللهِ -تَعَالَى- بَيْنَ النَّاسِ قَاطِبَةً، وَتُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَكَانَتْ مَسِيرَةُ الْأُمَّةِ الْعِلْمِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ تَتَطَوَّرُ مَعَ تَطَوُّرِ مَرَاحِلِ الدَّعْوَةِ، وَبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، وَتَأْسِيسِ الدَّوْلَةِ، وَعَالَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْأَزْمَةَ الِاقْتِصَادِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خِلَالِ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، وَاسْتَمَرَّ الْبِنَاءُ التَّرْبَوِيُّ، فَفُرِضَ الصِّيَامُ، وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ، وَأَخَذَ الْمُجْتَمَعُ يَزْدَهِرُ وَالدَّوْلَةُ تَتَقَوَّى عَلَى أُسُسٍ ثَابِتَةٍ وَقَوِيَّةٍ.

((إِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَيْسَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ هَمُّهَا أَنْ تَعِيشَ بِأَيِّ أُسْلُوبٍ، أَوْ تَخُطَّ طَرِيقَهَا فِي الْحَيَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ، وَمَا دَامَتْ تَجِدُ الْقُوتَ وَاللَّذَّةَ فَقَدْ أَرَاحَتْ وَاسْتَرَاحَتْ!!

كَلَّا؛ فَالْمُسْلِمُونَ أَصْحَابُ عَقِيدَةٍ تُحَدِّدُ صِلَتَهُمْ بِاللهِ، وَتُوَضِّحُ نَظْرَتَهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ، وَتُنَظِّمُ شُئُونَهُمْ فِي الدَّاخِلِ عَلَى أَسَالِيبَ خَاصَّةٍ، وَتَسُوقُ صِلَاتِهِمْ بِالْخَارِجِ إِلَى غَايَاتٍ مُعَيَّنَةٍ.

وَفَرْقٌ بَيْنَ امْرِئٍ يَقُولُ لَكَ: هَمِّي فِي الدُّنْيَا أَنْ أَحْيَا فَحَسْبُ، وَآخَرَ يَقُولُ لَكَ: إِذَا لَمْ أَحْرُسِ الشَّرَفَ، وَأَصُنِ الْحُقُوقَ، وَأُرْضِ اللهَ، وَأَغْضَبْ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَلَا سَعَتْ بِي قَدَمٌ، وَلَا طَرَفَتْ لِي عَيْنٌ.

وَالْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ بَلَدِهِمُ ابْتِغَاءَ ثَرَاءٍ أَوِ اسْتِعْلَاءٍ، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اسْتَقْبَلُوهُمْ، وَنَاصَبُوا قَوْمَهُمُ الْعَدَاءَ، وَأَهْدَفُوا أَعْنَاقَهُمْ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي.. لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِيَعِيشُوا كَيْفَمَا اتَّفَقَ!

إِنَّهُمْ جَمِيعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَضِيئُوا بِالْوَحْيِ، وَأَنْ يَحْصُلُوا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَأَنْ يُحَقِّقُوا الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خُلِقَ النَّاسُ وَقَامَتِ الْحَيَاةُ.

مِنْ هُنَا شُغِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوَّلَ مُسْتَقَرِّهِ بِالْمَدِينَةِ بِوَضْعِ الدَّعَائِمِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ رِسَالَتِهِ، وَتَبْيِينِ مَعَالِمِهَا، كَمَا اتَّضَحَ ذَلِكَ فِي صِلَةِ الْأُمَّةِ بِاللهِ، وَصِلَةِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَصِلَةِ الْأُمَّةِ بِالْأَجَانِبِ عَنْهَا مِمَّنْ لَا يَدِينُونَ دِينَهَا.

فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَادَرَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ؛ لِتَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا حُورِبَتْ، وَلِتُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تَرْبِطُ الْمَرْءَ بِرَبِّهِ، وَتُنَقِّي الْقَلْبَ مِنْ أَدْرَانِ الْأَرْضِ وَدَسَائِسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».

أَمَّا عَنِ الْأَمْرِ الثَّانِي: فَهُوَ صِلَةُ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضِهَا الْآخَرِ؛ فَقَدْ أَقَامَهَا الرَّسُولُ ﷺ عَلَى الْإِخَاءِ الْكَامِلِ.. الْإِخَاءِ الَّذِي تُمْحَى فِيهِ كَلِمَةُ (أَنَا)، وَيَتَحَرَّكُ الْفَرْدُ فِيهِ بِرُوحِ الْجَمَاعَةِ وَمَصْلَحَتِهَا وَآمَالِهَا، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ كِيَانًا دُونَهَا، وَلَا امْتِدَادًا إِلَّا فِيهَا.

وَمَعْنَى هَذَا الْإِخَاءِ: أَنْ تَذُوبَ عَصَبِيَّاتُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا حَمِيَّةَ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْ تَسْقُطَ فَوَارِقُ النَّسَبِ وَاللَّوْنِ وَالْوَطَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ أَوْ يَتَقَدَّمُ إِلَّا بِمُرُوءَتِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَقَدْ جَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ عَقْدًا نَافِذًا، لَا لَفْظًا فَارِغًا، وَعَمَلًا يَرْتَبِطُ بِالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، لَا تَحِيَّةً تُثَرْثِرُ بِهَا الْأَلْسِنَةُ وَلَا يَقُومُ لَهَا أَثَرٌ.

وَكَانَتْ عَوَاطِفُ الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُؤَانَسَةِ تَمْتَزِجُ فِي هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، وَتَمْلَأُ الْمُجْتَمَعَ الْجَدِيدَ بِأَرْوَعِ الْأَمْثَالِ!!)) .

إِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-؛ فَحَقُّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَخُذْ أَوْ فَدَعْ)).

يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ.

وَرَبَّى النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

وَالرَّحِمُ عَلَاقَةُ جَذْبٍ تُقَرِّبُ الْعَلَاقَةَ الْبَعِيدَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْقَرِيبُ يَكُونُ بَعِيدًا -إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ-، وَالْبَعِيدُ تُقَرِّبُهُ الرَّحِمُ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا.

بِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ، وَالْأَصْحَابُ.

فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ، وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ؛ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.

وَرَسَّخَ النَّبِيُّ ﷺ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ وَأَحَقَّ حُقُوقَ الْجِيرَانَ؛ فَإِنَّ الْجَارَ لَهُ حَقٌّ بِإِطْلَاقٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ كَانَ طَائِعًا أَمْ كَانَ عَاصِيًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ كَانَ جَاهِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُصَالِحًا أَمْ كَانَ مُخَاصِمًا.

الْجَارُ.. مُطْلَقُ الْجَارِ لَهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَقُولُ قَوْلًا مُرْسَلًا عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ!)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

إِنَّ حَقَّ الْجَارِ حَقٌّ لَازِمٌ أَحَقَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَمَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَقَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ والْحُمَّى)).

إِذَنْ؛ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((وَاللهِ! لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَرَبَّى النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ وَعَلَّمَهَا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتِّبِعْهُ)).

حُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ؛ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)).

النَّبِيُّ ﷺ شَرَعَ مَبَادِئَ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ السَّامِيَةَ، وَمُثُلَهُ الْعَالِيَةَ، وَرَبَّى الصَّحَابَةَ عَلَيْهَا، وَكَانَ قُدْوَةً وَأُسْوَةً فِي ذَلِكَ ﷺ؛ فَعِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))؛ قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).

قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ! لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

الرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّان مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ -فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ- فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ».


الْجَانِبُ النَّفْسِيُّ فِي تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ أُمَّتَهُ

إِنَّ أَمْرَاضَنَا النَّفْسِيَّةَ فِي جُمْلَتِهَا سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

يَقُولُ النَّفْسِيُّونَ الْمُحْدَثُون: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ)).

يَعْنِي: الْإِنسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَابَ بِالْمَرَضِ النَّفْسِيِّ فِي كِبَرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أُصُولُ هَذَا الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ.

وَحَدَّدَهَا زَعِيمُ هَؤُلَاءِ (سِيجْمُونْدُ فُرُويِد) بِسِتِّ سَنَوَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السِّتَّ سَنَوَاتٍ الْأُولَى خَطِيرَةٌ جِدًّا فِي حَيَاةِ أَيِّ طِفْلٍ.

عِنْدَمَا تَأْتِي القَسْوَةُ، وَيَأْتِي الضَّرْبُ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْبَاكِرَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ ﷺ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».

لَمْ يَأْتِ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ -وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ فِي دِينِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ-.

وَتَرْكُ الصَّلَاةِ هُوَ أَكْبَرُ كَبِيرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ هِيَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ يُقِرُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ.

وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجَسَدِ، لَيْسَ هُنَاكَ خَطَأٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الطِّفْلُ وَهُوَ دُونَ العَاشِرَةِ أَكْبَرَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرِ الرَّسُولُ ﷺ بِالضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ إِلَّا عِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ.

يَقُولُ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ)): مُجَرَّدُ أَمْرٍ، مَعَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ التَّرْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ.

وَلَكِنَّ الضَّرْبَ هَاهُنَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ بِنَصِّ حَدِيثِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ))، ثُمْ: ((وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)).

يَأْتِي هَذَا الرَّجُلُ -وَهُوَ ضَالٌّ مُنْحَرِفٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ (سِيجْمُونْدُ فُرُويِد)- يَقُولُ: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ))، وَيُحَدِّدُ السِّتَّ سَنَواتٍ الأُولَى.

نَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ قَدِ اهْتَدَيْتَ لِهَذَا، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْفِطْرَةِ، أَوْ بِوَسَائِلِ الْعِلْمِ الحَدِيثِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِئَةِ سَنَةٍ ﷺ.

إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا يُحَدِّدُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ إِنَّمَا يَحْمِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْبَوَادِرِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذِهِ الْقَسْوَةُ الْمُفْرَطُ فِيهَا، وَهَذِهِ السُّلُوكِيَّاتُ الْخَاطِئَةُ تُؤَثِّرُ عَلَى النَّفْسِيَّاتِ الْغَضَّةِ الطَّرِيَّةِ، ثُمَّ يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَرَضُ النَّفْسِيُّ.

وَإِذَنْ؛ فَأَمْرَاضُنَا النَّفْسِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

انْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ كَانَ إِذَا كَانَ مُحَدِّثًا قَوْمًا؛ يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ فِي مَجْلِسِهِ أَنَّهُ يُحَدِّثُهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يُوَزِّعُ ﷺ إِقْبَالَهُ وَنَظَرَاتِهِ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى قَدْرٍ مُسْتَقِيمٍ مُتَسَاوٍ ﷺ، فَلَا يَحْسَبُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَالِسِينَ وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، بَلْ كُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأَخَصِّينَ.

وَإِذَا صَافَحَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ ﷺ؛ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ مُصَافِحِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلِّمُ -يَكُونَ الْمُصَافِحُ الْآخَرُ- هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمَا سُئِلَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ.

هَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْأَحَاسِيسِ؛ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتِ الْأَحَاسِيسَ الْمُهَوِّمَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَحَاسِيسُ الْمُنْضَبِطَةُ، هَذَا الدِّينُ دِينُ الْأَحَاسِيسِ الْمُنْضَبِطَةِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ النَّاسِ حَسَاسِيَةً فِي مَسْأَلَةِ -قَضِيَّةِ- الْمُعَامَلَةِ، لَمْ يَكُنْ يُحِدُّ الْبَصَرَ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، يَعْنِي: لَا يَجْعَلُ نَظَرَهُ شَاخِصًا فِي نَظَرِ مُكَلِّمِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَخْفِضُ بَصَرَهُ كَاسِرًا لَهُ أَمَامَ بَصَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَلْطَفَ النَّاسِ عِشْرَةً؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ الْأَعْرَابِيُّ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ، فَلَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ؛ هَابَهُ حَتَّى ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ -وَهِيَ تِلْكَ الْعَضَلَاتُ الدِّقَاقُ الَّتِي تَكُونُ فِي أَصْلِ الْكَتِفِ هُنَالِكَ بَيْنَ الْعُنُقِ وَبَيْنَ أَصْلِهِ مِنْ خَارِجٍ-، فَأَخَذَتْ فَرَائِصُهُ تَرْتَعِدُ؛ فَمَاذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ؟

قَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ». .

وَالْقَدِيدُ: اللَّحْمُ يُؤْخَذُ، يُقَدَّدُ، يُشَرَّحُ، يُشَرَّقُ.

لَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ: تَقْدِيمُ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ، وَهُمْ أَهْلُ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَانَ يُقَدِّمُهُمْ وَيَخُصُّهُمْ بِإِذْنِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ ذُو الْحَاجَةِ، وَذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِطَلَبَاتِهِمْ، وَيَشْغَلُهُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِهَا، بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ وَلِبَاقِي الْأُمَّةِ، وَيُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْهُمُ الْغَائِبَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَمَانَةَ التَّبْلِيغِ، فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ مَنُوطًا بِأَعْنَاقِ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَلَّغَ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يُبَلِّغُوا الْأُمَّةَ مَا حَمَلُوهُ مِنْهُ مِنَ الْعِلْمِ.

وَهَذَا هُوَ هَدْيُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي اسْتِقْبَالِهِ لِأَشْرَافِ النَّاسِ، لَمْ يَكُنِ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَالْجِدِّ لِصَالِحِ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا اللَّغْوُ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ النَّاسَ؛ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ سُنَّتِهِ ﷺ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّكَ تَجِدُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَدْخُلُونَ رُوَّادًا طُلَّابًا لِلْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، يَبْتَغُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِهِ أَدِلَّةً هُدَاةً لِلنَّاسِ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ وَالرَّشَادِ.

هَذَا عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَمَّا مَخْرَجُهُ ﷺ -يَعْنِي: حَالُهُ بَيْنَ النَّاسِ خَارِجَ بَيْتِهِ-؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَهُمُّ وَيَنْفَعُ، فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا خَيْرًا، وَكَانَ مِنْ طَبْعِهِ ﷺ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ النُّفُورَ خِلَافٌ، وَكُرْهٌ، وَنِزَاعٌ، وَفَسَادٌ، وَأَمَّا الْوَحْدَةُ وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، فَفِيهَا الْخَيْرُ، وَالتَّقَدُّمُ، وَالْفَلَاحُ لِلْأُمَّةِ.

وَكَانَ ﷺ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ؛ اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ -رُبَّمَا-، كَمَا فَعَلَ مَعَ بَعْضِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَكَانَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَا يُقَبِّحُ الْحَسَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إِسْرَافِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ، غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَفْعَلُ، وَكَانَ مُنْتَبِهًا لِكُلِّ أَمْرٍ فِيهِمْ، فَكَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ؛ تَخَوَّلَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.

وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ مَجْلِسًا خِيَارَ النَّاسِ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ عِنْدَهُ أَحْسَنُهُمْ مُعَاوَنَةً وَمُؤَازَرَةً فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْمَوَاقِفِ، وَكَانَ ﷺ إِذَا دَخَلَ مَجْلِسَهُ أَوْ قَامَ مِنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا جَالِسِينَ؛ جَلَسَ فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ يَجِدُهُ خَالِيًا، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِهِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ أَنْ يَفْعَلُوا؛ إِعْرَاضًا عَنْ رُعُونَةِ النَّفْسِ، وَعَنْ تَرَفُّعِهَا الْكَاذِبِ.

وَكَانَ ﷺ لَا يَخُصُّ أَحَدًا بِالْكَلَامِ دُونَ أَحَدٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ لَهُ حَظٌّ عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ وَالِاسْتِمَاعِ؛ حَتَّى لَا يَظُنَّ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.

وَمَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْجَرُ مِنْهُ، وَلَا يُهْمِلُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْهُ الْمُتَحَدِّثُ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً؛ لَا يَرُدُّهُ إِلَّا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَطْلَبَهُ؛ صَرَفَهُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَتَطْيِيبِ الْخَاطِرِ، فَكَرَمُهُ وَجُودُهُ شَمِلَ النَّاسَ جَمِيعًا، تَمَامًا كَمَا يَفْعَلُ الْأَبُ الْعَادِلُ تِجَاهَ أَوْلَادِهِ جَمِيعًا، غَيْرَ مُفَرِّقٍ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالْكُلُّ عِنْدَهُ ﷺ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ أَوْ أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَأَمَّا عَنِ الْمَجْلِسِ؛ فَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمٍ، وَحِلْمٍ، وَحَيَاءٍ، وَصَبْرٍ، وَأَمَانَةٍ، لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، كَمَا لَا تُعَابُ وَلَا تُغْتَابُ فِيهِ حُرُمَاتُ النَّاسِ، فَهُوَ مَجْلِسٌ شَرِيفٌ نَظِيفٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ شُرَفَاءُ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَإِنْ صَدَرَتْ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ سَقْطَةٌ أَوْ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ؛ فَلَا يُسْمَعُ لَهَا خَبَرٌ خَارِجَ الْمَجْلِسِ؛ لِهَيْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَلَالِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى إِغْضَابِهِ، أَوْ قُلْ: لِحُسْنِ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِخُلُقِ النُّبُوَّةِ مِنْ مَنْبَعِهَا الْأَصِيلِ، فَهُمْ عِنْدَهُ جَمِيعًا مُتَسَاوُونَ، فَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَتَجِدُ الْكَبِيرَ فِيهِمْ مُتَوَاضِعًا، يَحْتَرِمُونَ الْكَبِيرَ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ، وَيُرَاعُونَ الْغَرِيبَ وَيُكْرِمُونَهُ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ مَشَاعِرَ.. دِينُ ذَوْقٍ.. دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ؛ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ آيَةً تُتْلَى، وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى.

هَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِحْسَاسِ..


مِنْ مَعَالِمِ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ الدُّعَاةَ إِلَى اللهِ

لَقَدْ رَسَّخَ النَّبِيُّ ﷺ أُصُولًا عَظِيمَةً لِلدُّعَاةِ إِلَى اللهِ يَلْتَزِمُونَ بِهَا فِي سَيْرِهِمْ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَمِنْهَا: التَّيْسِيرُ وَالتَّبْشِيرُ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ؛ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ؛ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي رَبَّى عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ الدُّعَاةَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَفْسِهِ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؛ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

وَلَا يَعْجَبَنَّ أَحَدٌ مِنْ تَأْسِيسِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ ضِمْنَ أُصُولٍ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُ بِالْبَدْءِ بِالتَّوْحِيدِ تَحْقِيقًا وَدَعْوَةً؛ فَإِنْ أَجَابُوا فَمَظْهَرُ التَّوْحِيدِ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْمَجِيدِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا فَرَضَ بِأَنْ يَأْتُوا بِالصَّلَوَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنْ يُخْرِجُوا حَقَّ الْمَالِ، ثُمَّ أَخْرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أَخْرَجَ مِنْ أَصْلٍ عَظِيمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ: ((وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقْبَلُ وَيَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.

فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ ﷺ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُؤَسِّسُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي الْيَمَنِ، أَرْشَدَهُ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَحَذَّرَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مِنَ الظُّلْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَإِنَّ الَّذِي يَنْخَرُ فِي جَمِيعِ بِنَايَاتِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا وَفِي جَمِيعِ مُدَدِهَا إِنَّمَا هُوَ الظُّلْمُ..

أَمَّا إِذَا أُسِّسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَدْلِ فَأَبْشِرْ بِأُمَّةٍ قَائِمَةٍ عَزِيزَةٍ مُسْتَبْشِرَةٍ بِنَصْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُؤَيِّدُ ظَالِمًا، وَلَا يَنْصُرُهُ، وَإِنَّمَا يَخْذُلُهُ وَيَقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ دُنْيَا وَآخِرَةً.

تَرْبِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ الصَّحَابَةَ عَلَى التَّضْحِيَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ

لَقَدْ رَبَّى النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى مَحَبَّةِ الْبَذْلِ، وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- أَنَّهُ قَالَ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ؛ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ)).

فَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ إِيمَانٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْجِهَادِ، وَكُلُّ أَحَدٍ فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَسْتَطِيعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَهَذِهِ ثَمَرَاتُ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَهَذَا عُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالنَّاسُ يُعْرَضُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُجِيزَ الْمُطِيقَ لِلْقِتَالِ لِيَتَقَدَّمَ، وَيَرُدَّ الصِّغَارَ وَالضَّعَفَةَ.

فَأَمَّا عُمَيْرٌ فَيَقُولُ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -أَخُوهُ-: ((رَأَيْتُ عُمَيْرًا أَخِي يَوْمَ بَدْرٍ يَتَوَارَى، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟!!)).

فَقَالَ: ((إِنَّ النَّاسَ سَيُعْرَضُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخْشَى أَنْ يَرُدَّنِي فَلَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ قِتَالًا، وَإِنِّي وَاللهِ لَأُحِبُّ أَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلَ وَأَذْهَبَ شَهِيدًا، فَأَلْقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ)).

وَعُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَصْغَرَهُ وَرَدَّهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يُلْقِي بِأَصْحَابِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، هُوَ أَحَنُّ عَلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، بَلْ أَحْنَى وَأَحَنُّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُفُوسِهِمُ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ ﷺ.

وَلَكِنَّمَا الصَّحَابَةُ يُرِيدُونَ الشَّهَادَةَ، يَتَدَافَعُونَ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا.

رَدَّهُ فَبَكَى؛ فَرَحِمَ شَوْقَهُ، وَحَنَى عَلَى لَهْفَتِهِ، وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ فَقَدَّمَهُ، يَقُولُ سَعْدٌ: ((وَوَاللهِ إِنِّي لَأَشُدُّ عَلَيْهِ حَمَائِلَ سَيْفِهِ لِصِغَرِهِ، حَتَّى دَخَلَ الْمَعْرَكَةَ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).

بَلْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ سِنًّا لَا مَقَامًا؛ فَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَيَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ أَبُوهُ؛ فَأَمَّا أَبُوهُ فَمُطِيقٌ لِلْقِتَالِ، وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَمَا يَبْلُغُ ابْنُ التَّاسِعَةِ أَنْ يَكُونَ؟!!

وَكَيْفَ يَلْقَى ابْنُ التَّاسِعَةِ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ -وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي بَدْرٍ-؟! كَيْفَ يَلْقَى أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الصَّنَادِيدِ فِي مَعَارِكَ يَشِيبُ مِنْ هَوْلِهَا الْوِلْدَانُ؟!!

إِلَّا أَنَّهُ الشَّوْقُ الدَّفِينُ يَتَبَدَّى عِنْدَمَا تَسْنَحُ الْفُرْصَةُ، وَعِنْدَمَا يُضِيءُ الْأُفُقُ بِنُورِ الشَّهَادَةِ الْأَحْمَرِ؛ لِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ نُورًا أَحْمَرَ، كَمَا أَنَّ لِلْحُرِّيَّةِ بَابًا بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ؛ فَكَذَلِكَ لِلشَّهَادَةِ نُورٌ سَاطِعٌ، غَيْرَ أَنَّهُ نُورٌ عَجِيبٌ أَحْمَرُ!! فَإِذَا مَا بَدَا، هَفَتْ إِلَيْهِ الْأَنْفُسُ كَمَا تَهْفُو الْفَرَاشَاتُ إِلَى النُّورِ!!

فَيَأْتِي أَبُو سَعِيدٍ -وَلَهُ تِسْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ- لِيُجِيزَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَمَا يَبْلُغُ ابْنُ التَّاسِعَةِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِتَالِ، وَهُوَ يَشِبُّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ؛ لِيُبْدِيَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ صَارَ رَجُلًا مُطِيقًا!!

وَأَبُوهُ.. وَهُوَ أَبٌ عَجِيبٌ جِدًّا، قَدْ لَا تَجِدُ لَهُ مِثَالًا الْيَوْمَ، بَلْ لَا تَجِدُ، لَا أَقُولُ عَلَى الشَّكِّ قَدْ لَا تَجِدُ أَوِ التَّرَدُّدِ أَوِ التَّقْلِيلِ، وَإِنَّمَا أَقُولُهَا عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ: لَا تَجِدُ مِثْلَ هَذَا الْأَبِ الْيَوْمَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

أَبُوهُ بِجَانِبِهِ، وَابْنُهُ فِي التَّاسِعَةِ يُعْرَضُ عَلَى الرَّسُولِ لِيُجِيزَهُ فِي الْقِتَالِ، فَيَشِبُّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ؛ لِيُرِيَ النَّبِيَّ أَنَّهُ قَدْ صَارَ رَجُلًا، وَأَبُوهُ يُزَكِّيهِ، يَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَجِزْهُ وَأَدْخِلْهُ الْمَعْرَكَةَ؛ لِيَحْظَى بِالشَّهَادَةِ؛ فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ عَبْلُ الْعِظَامِ -يَعْنِي هُوَ وَلَدٌ مَتِينٌ مُكْتَمِلٌ-، فَأَجِزْهُ يَا رَسُولَ اللهِ!!)).

أَيُّ أَبٍّ هَذَا -بِاللهِ عَلَيْكُمْ-؟!!

لَا تَجِدُ مِثْلَهُ الْيَوْمَ وَأَقْطَعُ بِذَلِكَ، يُقَدِّمُ وَلَدَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَظْفَرَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ إِلَى النَّفْسِ حَبِيبَةٌ، بَلْ كَانُوا يَتَدَافَعُونَهَا، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ؛ عَلَى قَدْرِ مَا تَعْمَلُ هَاهُنَا تَجِدْهُ هُنَاكَ، وَهُنَاكَ هَذِهِ تَبْدَأُ مِنْ عِنْدِ الْمَوْتِ؛ فَأَمَّا الثَّبَاتُ عِنْدَ الْمَمَاتِ فَأَمْرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْإِنْسَانُ كَيْفَ كَانَ عَلَيْهِ السَّالِفُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ لَمَّا أَنْ جَاءَهُ جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكَلْبِيُّ، فَطَعَنَهُ فِي ظَهْرِهِ فَأَنْفَذَهُ -يَعْنِي ضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ فِي ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَخَرَجَ الرُّمْحُ مِنْ صَدْرِهِ، مِنْ حَبَّةِ قَلْبِهِ وَمِنْ سُوَيْدَاءِ فُؤَادِهِ-، وَالدَّمُ يَنْبَجِسُ مُنْفَجِرًا كَأَنَّمَا يَتَصَاعَدُ إِلَى السَّمَاءِ مَوَّارًا فَوَّارًا بِالطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ كُلِّهِ، وَأَمَّا عَامِرٌ فَيَتَلَقَّى الدَّمَ بِيَدِهِ وَيَقْذِفُ بِهِ جِهَةَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!)).

أَيُّ أُنَاسٍ هَؤُلَاءِ؟!!

كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقَعَ بِهِ مِثْلُ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ مِنْ أَلَمٍ يَحُطُّ عَلَى الْبَدَنِ؛ مِنَ انْتِظَامٍ لِرُمْحٍ فِي حَبَّةِ الْقَلْبِ كَمَا يَدْخُلُ سِلْكُ السُّبْحَةِ فِيهَا فَيَخْرُجُ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ حَبَّاتِهَا، وَهُوَ يَتَوَجَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ -وَقَدْ أَخَذَ الدَّمَ الْمُنْبَجِسَ مِنْ قَلْبِهِ الطَّاهِرِ بِيَدَيْهِ، يُلْقِي بِهِ جِهَةَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ-: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!)).

وَأَمَّا الْمَوْقِفُ الصَّعْبُ الشَّدِيدُ الَّذِي وَقَفَهُ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَسَامَى فَوْقَهُ، وَتَصَاعَدَ فَوْقَهُ سُمُوًّا صَاعِدًا إِلَى عُلْيَا السَّمَاوَاتِ؛ فَيُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ مَنْ ضَرَبَهُ.. فِي قَلْبِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ.. الَّذِي انْتَظَمَ حَبَّةَ قَلْبِهِ بِرُمْحِهِ فَأَنْفَذَهَا، ثُمَّ أَمَاتَهُ شَهِيدًا، مُقَرِّبًا إِيَّاهُ قُرْبَانًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَفْعَلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بَعْدَ حِينٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَأَمَّا جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكَلْبِيُّ لَمَّا وَجَدَ الْأَمْرَ قَالَ: وَمَا فُزْتُ هَذِهِ الَّتِي يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ؟!!

يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! بِأَيِّ شَيْءٍ فَازَ؟!!

قَالُوا: إِنَّمَا فَازَ بِالْجَنَّةِ.

فَلَمَّا أَنْ رَأَى ذَلِكَ قَالَ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

أَيُّ مَحَبَّةٍ هَذِهِ طَغَتْ فَعَمَّتْ وَطَمَّتْ عَلَى أَرْجَاءِ الدُّنْيَا، فَأَحَالَتِ الْحَيَاةَ لَا شَيْءَ.. هَبَاءً مَنْثُورًا، كَالْهَبَاءَةِ عِنْدَمَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي بَصِيصٍ مِنْ شُعَاعٍ يَتَسَلَّلُ فِي يَوْمٍ شَاتٍ عَقِيمٍ، تَتَسَلَّلُ بِهِ الشَّمْسُ مِنْ بَيْنِ الْغَمَامِ، فَتُرْسِلُ ضَوْءًا وَاحِدًا فَيَتَسَلَّلُ مِنْ خَصَاصِ بَابٍ أَوْ نَافِذَةٍ، فَتَنْظُرُ الْهَبَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْهَبَاءِ، تَصِيرُ الْحَيَاةُ كَذَلِكَ أَرْضًا وَسَمَاءً، وَأَمَّا الْبَاقِيَةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

جُمْلَةٌ مِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ يَرَى كَثْرَةَ الْوَسَائِلِ وَالْأَسَالِيبِ الَّتِي انْتَهَجَهَا ﷺ فِي تَعْلِيمِهِ لِلْأُمَّةِ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهَا؛ وَمِنْهَا:

* التَّعْلِيمُ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ وَالْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَلَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا وَهُوَ قُدْوَةٌ سُلُوكِيَّةٌ يُجَسِّدُ لِلْمَدْعُوِّينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَحَمِيدِ الْخِصَالِ، وَكَرِيمِ الْخِلَالِ، وَحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاجْتِنَابًا لِنَهْيِهِ، وَقَدْ كَانَ ﷺ يُجَسِّدُ الدِّينَ تَجْسِيدًا، فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلَّا وَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ إِتْيَانًا لَهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ النَّاسِ انْتِهَاءً عَنْهُ وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، فَصَلَّى اللهُ -تَعَالَى- وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

وَالنَّاسُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: فِعْلُ رَجُلٍ أَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ؛ فَالدَّلِيلُ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ.

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ عَمِلَ مَعَهُمْ ﷺ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِيَدِهِ، حَفَرَ مَعَهُمْ، وَحَمَلَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ مَعَهُمْ، وَشَارَكَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ فِي سَفْرَةٍ، فَاقْتَسَمُوا الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ.

وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكْفُوهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ شَارَكَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، هَذَا مِنْ سُنَّتِهِ، وَأَمَّا التَّرَفُّعُ وَالتَّكَبُّرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَفِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا)). قَالَ: فَوَاللهِ! مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ!!

فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يا نَبِيَّ اللهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ.

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينَ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

* وَمِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّعْلِيمِ: الطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)). وَمِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْبَيَانِ لِكَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ؛ كَانَ أَحْيَانًا يُصَلِّي عَلَى الْمِنْبَرِ، فَيُصَلِّي عَلَى الْمِنْبَرِ؛ لِيَرَاهُ مَنْ هُوَ قَاصٍ كَمَا يَرَاهُ مَنْ هُوَ دَانٍ، وَلِيَكُونَ عَمَلُهُ فِي الصَّلَاةِ ﷺ مَنْظُورًا مَرْئِيًّا لِجَمِيعِ مَنْ حَضَرَ؛ حَتَّى يَتَأَسُّوا بِهِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ.

فَكَانَ ﷺ -أَحْيَانًا- يُصَلِّي عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ؛ رَجَعَ الْقَهْقَرَى؛ حَتَّى لَا يَخْرُجَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، فَيَسْجُدُ فِي أَصْلِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ؛ قَامَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَصَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ ﷺ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِيِّ لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا أَبَدًا)). وَقَدْ كَانَ، قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

أَخَذُوا مَنَاسِكَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

* وَمِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّعْلِيمِ: التَّدَرُّجُ؛ فَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: «حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يَتَجَاوَزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، ويَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالعَمَلَ جَمِيعًا».

وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؛ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

* وَمِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ: الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ؛ فَإِنَّ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ طَرِيقٌ عَظِيمٌ مِنْ طُرُقِ التَّعْلِيمِ الَّذِي تَتَبَيَّنُ وَتَتَوَضَّحُ بِهِ الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ، وَالْعَقَائِدُ الصَّحِيحَةُ وَالْفَاسِدَةُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْقَصَصِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: ((حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ نَفَرٍ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ..)).

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى أَنَّ الأعْمَالَ لَيْسَتْ بِكَثْرَتِهَا، وَإنَّمَا بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَمِمَّا يُحْبِطُهَا.

فَمَهْمَا حَاوَلَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَصْدُقْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ للهِ مُخْلِصًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحْبِطُ عَمَلَهُ وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فِيهِ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى تَعْلِيمِ النَّبِيِّ ﷺ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؟! فَإِنْ يَتَرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَفِي الْحَدِيثِ: تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَالتَّعْذِيبُ الْمَذْكُورُ إِذَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ، أَوْ يَرْفَعُ اللهُ لَهُ بِهِ دَرَجَتَهُ.

وَهَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَهَا مَغْزًى عَظِيمٌ، وَمَعْنًى عَالٍ، فَالنَّاسُ فِي دِينِ اللهِ كَالَّذِينَ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ النَّهْرِ، فَهُمْ تَتَقَاذَفُهُمُ الْأَمْوَاجُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ -إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ- فِي الْأَسْفَلِ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى؛ حَتَّى تَتَوَازَنَ حُمُولَةُ السَّفِينَةِ، وَحَتَّى لَا يُضَيِّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَفِيهِ: أَنَّ هَذِهِ السَّفِينَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؛ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُخَرِّبَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ لِيَنْجُوا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا هَلَكُوا جَمِيعًا.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ.

وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا.

وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)).

عِبَادَ الله! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُصَنِّفَ نَفْسَهُ الْآنَ -كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ- عَلَى طَائِفَةٍ مِمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، كُلٌّ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى حَسَبِ مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَبُولِ الْأَرْضِ لِلْغَيْثِ.

فَمِنَ الْأَرْضِ مَا يَقْبَلُ الْغَيْثَ -غَيْثَ السَّمَاءِ- لِيُنْبِتَ الزَّرْعَ وَالْكَلَأَ، وَمِنَ الْأَرْضِ مَا يُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا يُسَرِّبُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا كَلَأً، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَمْسَكَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْأَرْضِ.

وَمِنَ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ لَا تُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا تُمْسِكُ مَاءً.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَائِفَ الْأَرْضِ هَذِهِ -فِي اسْتِقْبَالِهَا لِمَاءِ الْغَيْثِ- مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ.

* وَمِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّعْلِيمِ: الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ: عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً)).

وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَوَاعِظُ بَلِيغَةً فِي أُسْلُوبِهَا، فَصِيحَةً فِي أَدَائِهَا؛ حَتَّى تَسْلُكَ إِلَى الْقُلُوبِ أَقْصَرَ طَرِيقٍ، وَحَتَّى تَسْتَقِرَّ فِي الْأَفْئِدَةِ، وَحَتَّى تُؤَثِّرَ فِي الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ ﷺ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ الْقَلَائِلِ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَشْرَحُوا تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لَاحْتَاجُوا إِلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).

فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أَبْلَغَ النَّبِيُّ ﷺ مَا لَمْ يُبْلِغْ فِي غَيْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَشِيكِ الِانْتِقَالِ؛ لِذَا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))، وَطَلَبُوا الْوَصِيَّةَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.

((وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ -أَيْ: سَالَتْ مَدَامِعُهَا-، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ -أَيْ: ضَاقَتْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ-)).

فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))؛ لِأَنَّ الْمُوَدِّعَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ اسْتِقْرَارًا فِي النُّفُوسِ، وَحَتَّى يَكُونَ دَاعِيَةً إِلَى التَّنْفِيذِ.

((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا))؛ وَكَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي تَحَرِّيهِمْ لِلْخَيْرِ، وَفِي بَحْثِهِمْ عَنِ الْعِلْمِ، لَا يَدَعُونَ مَجَالًا إِلَّا وَأَلْقَوْا أَسْمَاعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَفَتَحُوا أَعْيُنَ بَصَائِرِهِمْ؛ لَيَتَلَقَّوُا الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ وَالْحَقِّ.

وَالْهُدَى -عِبَادَ اللهِ- هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَهَذَا الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

((أَوْصِنَا)).

فَقَالَ ﷺ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ)).

وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].

فَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ النَّجَاةُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَالتَّقْوَى كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، مَنْ حَصَّلَهَا جَعَلَ لِنَفْسِهِ وِقَايَةً مِنَ النَّارِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ))، وَعَلَيْكُمْ: اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، الْزَمُوا تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَخُذُوا بِتَقْوَاهُ، وَلَا تَنْحَرِفُوا عَنْ سَبِيلِ تُقَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ، وَصَارَ عَبْدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

فضَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا عَلَاقَةٌ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ، دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)).

فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)).

قَالَ ﷺ: ((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ))، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَمَا زَالَ وَاقِعًا فِي الْأُمَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): السُّنَّةُ هِيَ الْعَاصِمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، السُّنَّةُ كَمَا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، لَا كَمَا يَقُولُ بِهَا الْمُرْشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ، وَيَقُولُ بِهَا الدَّرَاوِيشُ!!

وَإِنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ عَنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.

((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).

كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ تَخَوَّلَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.

* مِنْ أَسَالِيبِ وَطُرُقِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّعْلِيمِ: طَرِيقَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الصَّوَابِ وَالْمُرَادِ.. طَرِيقَةُ السُّؤَالِ؛ لِيَسْتَيْقِظَ الطَّالِبُ وَيَنْتَبِهَ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْجَوَابِ الَّذِي يَتَّضِحُ الْأَمْرُ بِهِ وَلَا يَشْتَبِهُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟)).

قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.

قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الصَّحِيحِ)): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا، فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)).

قَالُوا: الْمُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

قَالَ: ((الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَصَدَقَةٍ, وَلَكِنَّهُ يَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا, وَقَذَفَ هَذَا, وَضَرَبَ هَذَا, وَسَفَكَ دَمَ هَذَا)).

* وَمِنْ أَسَالِيبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي التَّعْلِيمِ: الْمُسَاءَلَةُ وَالِامْتِحَانُ، وَهُوَ أُسْلُوبٌ يُثِيرُ انْتِبَاهَ السَّامِعِينَ، وَيُشَوِّقُ النُّفُوسَ لِلْحُصُولِ عَلَى الْجَوَابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا)).

فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا، قَالَ النَّبِيُ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ.

قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا لَمْ أَرَكَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.

الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ سِوَى مَا ذَكَرَ الْإِمَام الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

قَوْلُهُ: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا))؛ أَيْ: تُعْطِي ثَمَرَهَا.

قَوْلُهُ: ((لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا))؛ أَيْ: لَا تُسْقِطُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ)): ((أَسْنَانُ)): جَمْعُ سِنٍّ بِمَعْنَى عُمُرٍ؛ يَعْنِي: كِبَارَ الْقَوْمِ وَشُيُوخَهُمْ حَاضِرُونَ، أَفَأَتَكَلَّمُ أَنَا؟!

فَمَا أَعْظَمَ أَدَبَهُ!

وَمَا أَقَلَّ أَدَبَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ!

وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَأَلَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «يَا أَبَا المُنْذِرِ! أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ مَعَكَ أعْظَمُ؟».

قَالَ: قُلتُ: «{اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]».

قَالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وَقَالَ: «واللهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ».

* وَمِنَ الْأَسَالِيبِ التَّعْلِيمِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: تَصْحِيحُ الْخَطَأ لِلْمُخْطِئِ دُونَ أَنْ يُجَبِّهَهُ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي مُنَفِّذًا لِتَعَالِيمِ الدِّينِ الْأَغَرِّ، الرَّسُولُ ﷺ لَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِسُوءٍ أَبَدًا، يَجِدُ مَا يَسُوءُ فِي بَعْضِ إِخْوَانِهِ وَلَا يُجَبِّهُهُ بِالسُّوءِ، وَأَنَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ سُوءٌ!! وَإِنَّمَا يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، فَيَقُولُ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا!!)).

لِسَانٌ إِنَّمَا يُغْمَسُ فِي دَوَاةِ قَلْبٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ حُلْوٍ، فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِلَّا كُلُّ طَيِّبٍ طَاهِرٍ حُلْوٍ.

وَأَمَّا اللِّسَانُ الْمُنْفَلِتُ، وَأَمَّا الذَّوْقُ النَّشَازُ، وَأَمَّا هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ السُّلُوكِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ، وَأَمَّا التَّهْرِيجُ وَالتَّهْوِيشُ، وَأَمَّا الزِّيَاطُ وَالْهِيَاطُ وَالْمِيَاطُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْإِتْبَاعِ وَالْمُزَاوَجَةِ إِلَى مَا شِيتَ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا دَارَ فِي فَلَكِهِ فَهُوَ بِمَبْعَدَةٍ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.


ثَمَرَاتُ التَّأَسِّي وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ ﷺ

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا أُسْوَةً وَقُدْوَةً، وَعَلَيْنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَفِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَفِي كُلِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَأْخُذُ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ أَنْ يَتَأَسَّى بِنَبِيِّهِ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ.

وَالنُّفُوسُ مَفْطُورَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، وَعَلَى ذَمِّ وَبُغْضِ مَنْ كَانَ سَيِّءَ الْخُلُقِ: ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ وَدَعَهُ -أَيْ: تَرَكَهُ- النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ))، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَّقُونَهُ، وَيَصْدِفُونَ عَنْهُ، وَيَمُرُّونَ بِهِ ضَارِبِينَ الصَّفْحَ عَنْهُ حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُ مَا يَسُوءُهُمْ.

فَقَدْ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْبَشَرَ مَفْطُورِينَ عَلَى مَحَبَّةِ حَسَنِي الْأَخْلَاقِ، وَعَلَى بُغْضِ وَذَمِّ مَنْ كَانَ سَيِّءَ الْخُلُقِ، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحَسِّنَ أَخْلَاقَنَا، وَنَسْأَلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ سَيِّءِ الْأَخْلَاقِ لَا يُعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا إِلَّا هُوَ، وَأَنْ يُخَلِّقَنَا بِأَخْلَاقِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ تَكُونُ الْعِزَّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، كَمَا أَنَّهُ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى وَالْأَمْنُ، وَالْفَلَاحُ وَالْعِزَّةُ، وَالْكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَالْوَلَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِمُخَالِفِيهِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ، وَالْخَوْفُ وَالضَّلَالُ، وَالْخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَدْ أَقْسَمَ ﷺ ((أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْحَقُّ أَنَّنَا لَا نُوَفِّيهِ قَدْرَهُ، وَلَوْ بَلَغْنَا فِي السَّعْيِ لِذَلِكَ الْمَبَالِغَ؛ لِأَنَّنَا فِي الْحَقِّ لَا نُعْطِيهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى مِنَ الْمَحَبَّةِ ﷺ.

وَالْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ تَوَفَّرُوا عَلَى شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، مَا يَتَعَلَّقُ بِشَمَائِلِهِ، مَا يَتَعَلَّقُ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ، هَؤُلَاءِ تَجِدُ حُبَّهُمْ طَافِحًا عَلَى سُطُورِ مُصَنَّفَاتِهِمْ؛ يُحِبُّونَ رَسُولَ اللهِ مَحَبَّةً حَقِيقِيَّةً.

((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).

وَأَقْسَمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يُحَكِّمُهُ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِحُكْمِهِ، وَأَلَّا يَجِدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ، وَيُسَلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]».

وَمَا شَقِيَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ رِجَالًا وَنِسَاءً، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، مَعَ تَوَافُرِ النِّعَمِ، وَسَعَةِ الْأَرْزَاقِ إِلَّا بِسَبَبِ انْحِرَافِهِمْ عَنْ نَهْجِهِ، وَتَنَكُّبِهِمْ عَنْ طَرِيقِهِ، فَلَنْ يُصْلِحَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا مِنَ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَمِنْ هَاهُنَا تَعْلَمُ اضْطِرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ)).

وَهَذَا الِاضْطِرَارُ لَا يَجِدُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَعْنِي: هُوَ لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضَرُورَةً مُلِحَّةً فَوْقَ ضَرُورَتِهِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ فَوْقَ ضَرُورَتِهِ إِلَى النَّفَسِ، لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضَرُورَةً كَهَذِهِ بِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ ﷺ، جَهِلُوهُ!!

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ=مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا

((مِنْ هَاهُنَا تَعْلَمُ اضْطِّرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ عَلَى التَّفْصِيلِ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَلَا يُنَالُ رِضَا اللَّهِ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَالطَّيِّبُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ لَيْسَ إِلَّا هَدْيَهُمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ، فَهُمُ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، وَبِمُتَابَعَتِهِمْ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَدَنِ إِلَى رُوحِهِ، وَالْعَيْنِ إِلَى نُورِهَا، وَالرُّوحِ إِلَى حَيَاتِهَا.

وَإِذَا كَانَتْ سَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ مُعَلَّقَةً بِهَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَحَبَّ نَجَاتَهَا وَسَعَادَتَهَا أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ ﷺ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ عِدَادِ الْجَاهِلِينَ بِهِ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي عِدَادِ أَتْبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَحِزْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).


وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ تِجَاهَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ فِي وَقْتِنَا هَذَا!!

عِبَادَ اللهِ! مَا الَّذِي يَجِبُ فِي وَقْتِنَا هَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِجَاهَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ؟!

الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مُجْمَلٌ، ومُفَصَّلٌ.

فَأَمَّا الْمُجْمَل فَهُوَ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدِّفَاعُ عَنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ؛ عَنْ ذَاتِهِ، وَعِرْضِهِ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَصَحَابَتِهِ، وَرِسَالَتِهِ، وَسُنَّتِهِ، وَسِيرَتِهِ.

وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَدِّمَ حَقَّ نَبِيِّهِ عَلَى حَقِّهِ، وَعِرْضَهُ عَلَى عِرْضِهِ، وَشَرَفَهُ عَلَى شَرَفِهِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ نَحْرَهُ دُونَ نَحْرِ نَبِيِّهِ، وَحَيَاتَهُ دُونَ كَرَامَتِهِ وَمَجْدِهِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إِلَّا إِذَا أَتَى بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ، وَحَقَّقَهُ بِحَقِيقَتِهِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفَصَّلُ؛ فَمِنْ وُجُوهٍ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْهَجْمَةُ الشَّرِسَةُ الْقَذِرَةُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِالْإِسَاءَةِ إلَيْهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ ﷺ صَارَتْ هَجْمَةً رَسْمِيَّةً، يَتَوَلَّى كِبْرَهَا رَئِيسُ دَوْلَةِ فَرَنْسَا بِنَفْسِه، وَحُكُومَتُهُ وَمُؤَسَّسَاتُ دَوْلَتِهِ، وَجَيْشُهَا وَشُرْطَتُهَا وَأَغْلَبُ مُوَاطِنِيهَا!!

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالِاسْتِهَانَةِ وَالتَّطَاوُلِ وَالْبَذَاءَةِ عَلَى الْمُسْتَوَى الدَّوْلِيِّ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ (الْجَامِعَةِ الْعَرَبِيَّةِ) لِانْعِقَادِ مُؤْتَمَرِ قِمَّةٍ عَرَبِيَّةٍ طَارِئٍ عَلَى مُسْتَوَى الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ -لَا عَلَى مُسْتَوَى وُزَرَاءِ الْخَارِجِيَّةِ-؛ لِاتِّخَاذِ قَرَارَاتٍ حَاسِمَةٍ تِجَاهَ دَوْلَةٍ تَجَاوَزَتْ كُلَّ الْحُدُودِ، وَتَخَطَّتْ كُلَّ الْخُطُوطِ بِاعْتِدَائِهَا عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ السَّلَامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَزْكَى السَّلَامِ-.

وَهَذَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَكْبَرُ مِنَ اعْتِدَائِهَا عَلَى الْأَوْطَانِ، وَنَهْبِ الثَّرْوَاتِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَتَدْمِيرِ الْمُنْشَآتِ، وَاسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ، وَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَسَارَعَتِ (الجَامِعَةُ العَرَبِيَّةُ) لِاتِّخَاذِ خُطُوَاتٍ حَاسِمَةٍ تِجَاهَهُ، وَهَذَا الَّذِي تَقُومُ بِهِ فَرَنْسَا؛ -رَئِيسًا، وَحُكُومَةً، وَجَيْشًا، وَشُرْطَةً، وَشَعْبًا- أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.

يَا قَوْمُ! أَفِيقُوا؛ فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ!!

إنَّ الصَّمْتَ وَالتَّغَاضِيَ عَمَّا يَجْرِي الْآنَ كَالرِّضَا عَمَّا هُوَ كَائِنٌ وَعَمَّا كَانَ، وَوَاللهِ! مَا اسْتَهْزَأَتْ دَوْلَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا تَطَاوَلَتْ عَلَى جَنَابِهِ الشَّرِيفِ إلَّا سُلِبُ مُلْكُهَا، وَذَهَبَتْ رِيحُهَا، وَفِي التَّارِيخِ عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ، وَعَادَةُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي إِذْلَالِ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِرَسُولِهِ ﷺ، وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ مَاضِيَةٌ لَا تَتَخَلَّفَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57].

وَمَا تَظَاهَرَ أَحَدٌ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إلَّا أَهْلَكَهُ اللَّهُ، وَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ.

وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إلَى (كِسْرَى) وَ(قَيْصَرَ)، وَكِلَاهُمَا لَمْ يُسْلِمْ؛ لَكِنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَكْرَم رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَثَبَتَ مُلْكُهُ، فَيُقَالُ: إنَّ الْمُلْكَ بَاقٍ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَ(كِسْرَى) مَزَّقَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَاسْتَهْزَأَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَمَزَّقَ مُلْكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْأَكَاسِرَةِ مُلْكٌ، وَهَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- تَحْقِيقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]؛ فَكُلُّ مَنْ شَنَأَهُ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْطَعُ دَابِرَهُ، وَيَمْحَقُ عَيْنَهُ وَأَثَرَهُ.

وَمِنَ الْكَلَامِ السَّائِرِ: ((لُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ))؛ فَكَيْفَ بِلُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؟!!

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ))  عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»؛ فَكَيْفَ بِمَنْ عَادَى الْأَنْبِيَاءَ؟!!

وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ أَحَدًا آذَى نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ إِلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ.

وَإِذَا لَمْ تَنْتَصِرِ الْجَامِعَةُ الْعَرَبِيَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَلِمَنْ تَنْتَصِرُ؟!!

وَإِذَا لَمْ تُدَافِعْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَعَمَّنْ تُدَافِعُ؟!!

إِنَّ اعْتِدَاءَ دَوْلَةٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَكْبَرُ مِنَ اعْتِدَائِهَا عَلَى جَمِيعِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ؛ أَرْضًا وَعِرْضًا؛ فَهَلْ أَنْتُمْ مُدْرِكُونَ؟!!

الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَى (مُنَظَّمَةِ الْمُؤْتَمَرِ الْإِسْلَامِيِّ) الدَّعْوَةُ لِعَقْدِ مُؤْتَمَرٍ اسْتِثْنَائِيٍّ طَارِئٍ؛ لِاتِّخَاذِ قَرَارَاتٍ حَاسِمَةٍ سَرِيعَةٍ إِزَاءَ الرَّئِيسِ الْفَرَنْسِيِّ وَدَوْلَتِهِ؛ انْتِصَارًا لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَدِفَاعًا عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَالذَّوْدِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَتِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ الدُّوَلَ الْعَرَبِيَّةَ وَالْإِسْلَامِيَّةَ تَمْلِكُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَوَسَائِلِهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَخْدَمَتْ بَعْضَهَا لَرَدَعَتِ الْمُتَطَاوِلِينَ الْعُنْصُرِيِّينَ الْحَمْقَى، الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِإِيذَاءِ مَا يَقْرُبُ مِنْ مِلْيَارَيْ مُسْلِمٍ فِي أَعَزِّ مَخْلُوقٍ لَدَيْهِمْ، وَأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ ﷺ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّ مَا تَقُومُ بِهِ فَرَنْسَا -رِئَاسَةً، وَحُكُومَةً، وَجَيْشًا، وَشُرْطَةً- هُوَ أَكْبَرُ مِنْ إِعْلَانِ الْحَرْبِ عَلَى الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ، وَعَدَمُ رِدِّةِ الْفِعْلِ الدَّوْلِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ وَالْمُكَافِئَةِ عَلَى هَذَا الِاعْتِدَاءِ مَدْعَاةٌ إِلَى الْإِغْرَاقِ فِي مُحَارَبَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِقَامَةِ مَحَاكِمِ تَفْتِيشٍ غَرْبِيَّةٍ جَدِيدَةٍ؛ لِإِبَادَةِ الْجَالِيَاتِ الْمُسْلِمَةِ فِي دُوَلِ الْغَرْبِ، وَهُوَ مَدْعَاةٌ لِتَتَابُعِ دُوَلٍ حَاقِدَةٍ وَمُؤَسَّسَاتٍ مَوْتُورَةٍ نَاقِمَةٍ عَلَى مِثْلِهِ، وَقِسْطٌ عَظِيمٌ مِنْ وِزْرِ هَذَا يَقَعُ عَلَى عَاتِقِ مَنْ يَمْلِكُ إِيقَافَهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ، وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ حِرْصٌ عَلَى دُنْيَا، وَلَا اسْتِمْسَاكٌ بِمُلْكٍ؛ فَالْمُلْكُ لِلَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

خامسًا: عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ مَا يَقَعُ بِاخْتِلَافَاتِهِمْ، وَعَدَاوَاتِهِمْ، وَأَطْمَاعِهِمْ، وَتَشَرْذُمِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِدِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ وَسِيرَة نَبِيِّهِمْ، وَانْخِرَاطِهِمْ فِي مُوَاضَعَاتِ أَعْدَائِهِمْ، وَتَخَلُّقِهِمْ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَالْمُغَالَاةِ فِي تَقْدِيرِ كُلِّ مَا تَنْضَحُ بِهِ آنِيَتُهُمُ النَّجِسَةُ وَنُفُوسُهُمُ الدَّنِسَةُ!!

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَا أَنْتُمْ تُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ لَا تَتُوبُونَ وَلَا أَنْتُمْ تَسْتَغْفِرُونَ؛ فَحَتَّى مَتَى؟!!

لَقَدْ هُنْتُمْ عَلَى أَذَلِّ وَأَحْقَرِ الْخَلْقِ لَمَّا هَانَ عَلَيْكُمْ دِينُكُمْ، وَلَا يَضُرُّ نَبِيَّكُمْ تَطَاوُلُ الْمُتَطَاوِلِينَ، وَلَا سَفَالَةُ السَّافِلِينَ؛ وَلَكِنَّهُ يَضُرُّكُمْ!!

إِنَّ الطُّوفَانَ قَادِمٌ، أَكَادُ أَسْمَعُ هَدِيرَ أَمْوَاجِهِ، وَصَخَبَ عُبَابِهِ؛ فَهَلْ أَنْتُمْ سَامِعُونَ؟!!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  الرد على الملحدين:دلالة الآيات الكونية على خالقها ومبدعها
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ
  اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْوَفَاءِ بِالْحُقُوقِ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ
  رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَمُجْتَمَعِيٌّ
  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  جُملة مِن أحكامِ العيديْن
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان