دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ

دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ

((دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ

وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْعُلَمَاءُ مَصَابِيحُ الدُّجَى وَمَنَارَاتُ الْهُدَى))

فَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.

فَالْعِلْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ؛ عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا قَامَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالْبُرْهَانُ.

وَالثَّانِي: الْقِتَالُ وَالسِّنَانُ.

فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ دِينُ اللهِ وَيَظْهَرَ إِلَّا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُغِيرُ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى تَبْلُغَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَكُونَ الْعِلْمُ قَدْ سَبَقَ الْقِتَالَ.

الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

وَلِهَذَا نَجِدُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مَحَلُّ الثَّنَاءِ، كُلَّمَا ذُكِرُوا أُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا رَفْعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَرْتَفِعُونَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا عَمِلُوا.

إِنَّ الْعَابِدَ حَقًّا هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ، وَهَذِهِ سَبِيلُ النَّبِيِّ ﷺ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

إِنَّ الْعُلَمَاءَ مَصَابِيحُ الدُّجَى وَمَنَارَاتُ الْهُدَى، وَدُعَاةُ الْحَقِّ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَالْعِلْمُ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ إِرْثِ الْأَنْبِيَاءِ.

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ: جَزَاءٌ عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.

وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنِحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا، وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.

وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ: أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ؛ بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9].

فَأَيُّ نُصْحٍ لِلْعِبَادِ مِثْلُ هَذَا إِلَّا نُصْحَ الْأَنْبِيَاءِ؟!!

فَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْعِلْمَ؛ فَقَدْ سَعَى فِي أَعْظَمِ مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ؛ فَلِذَلِكَ تُحِبُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُعَظِّمُهُ؛ حَتَّى تَضَعَ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ رِضًا، وَمَحَبَّةً، وَتَعْظِيمًا)).

 ((دُرُوسٌ مِنْ رِحْلَةِ الشَّافِعِيِّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ))

إِنَّ مِنَّةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّاسِ بِالْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَّةٌ مِنْ أَجَلِّ الْمِنَنِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-، الْإِمَامُ، عَالِمُ الْعَصْرِ، نَاصِرُ الْحَدِيثِ، فَقِيهُ الْمِلَّةِ؛ فَلْنَنْظُرْ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ؛ الْإِمَامُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ يَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَارَقْتُ مَكَّةَ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا نَبَاتَ بِعَارِضَيَّ -فَارَقَ مَكَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- طَلَبًا لِلْعِلْمِ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْمُبَكِّرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَبَتَ بِصُدْغَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَعْرٍ بَعْدُ- لَا نَبَاتَ بِعَارِضَيَّ -يَعْنِي: لَا نَبَاتَ بِجَانِبَيْ وَجْهِي- مِنَ الْأَبْطَحِ إِلَى ذِي طُوَى، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ يَمَانِيَّتَانِ -مَنْسُوبَتَانِ إِلَى الْيَمَنِ صُنْعًا وَاسْتِجْلَابًا-، فَرَأَيْتُ رَكْبًا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَرَدُّوا عَلَيَّ السَّلَامَ، وَوَثَبَ إِلَيَّ شَيْخٌ كَانَ فِيهِمْ، قَالَ: سَأَلْتُكَ بِاللهِ إِلَّا مَا حَضَرْتَ طَعَامَنَا -يُقْسِمُ عَلَى الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَا نَبَاتَ بِعَارِضَيْهِ-.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَمَا كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحْضَرُوا طَعَامًا، فَأَجَبْتُ مُسْرِعًا غَيْرَ مُحْتَشِمٍ، فَرَأَيْتُ الْقَوْمَ يَأْخُذُونَ الطَّعَامَ بِالْخَمْسِ، وَيَدْفَعُونَ بِالرَّاحَةِ، فَأَخَذْتُ كَأَخْذِهِمْ؛ كَيْ لَا يُسْتَبْشَعَ عَلَيْهِمْ مَأْكَلِي)).

فِي هَذِهِ السِّنِّ الْمُبَكِّرَةِ يُرَاعِي مِثْلَ هَذَا الْوَاقِعِ الَّذِي كَانَ يَعِيشُ فِيهِ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الدَّقِيقِ مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ.

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَرَأَيْتُ الْقَوْمَ يَأْخُذُونَ الطَّعَامَ بِالْخَمْسِ، وَيَدْفَعُونَ -يَعْنِي: فِي الْأَفْوَاهِ- بِالرَّاحَةِ، فَأَخَذْتُ كَأَخْذِهِمْ؛ كَيْ لَا يُسْتَبْشَعَ عَلَيْهِمْ مَأْكَلِي، وَالشَّيْخُ يَنْظُرُ إِلَيَّ، ثُمَّ أَخَذْتُ السِّقَاءَ فَشَرِبْتُ، وَحَمِدْتُ اللهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ-، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ الشَّيْخُ وَقَالَ: أَمَكِّيٌّ أَنْتَ؟!!

قُلْتُ: مَكِّيٌّ.

قَالَ: أَقُرَشِيٌّ أَنْتَ؟!!

قُلْتُ: قُرَشِيٌّ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: يَا عَمُّ! بِمَ اسْتَدْلَلْتَ عَلَيَّ -يَعْنِي: لِمَ سَأَلْتَ: أَمَكِّيٌّ أَنْتَ؟ أَقُرَشِيٌّ أَنْتَ؟!!

 قَالَ: أَمَّا فِي الْحَضَرِ؛ فَبِالزِّيِّ -يَعْنِي: لَسْتَ بَدَوِيًّا وَلَا أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ حَضَرِيٌّ، فَقَادِمٌ أَنْتَ مِنْ مَكَّةَ-، وَأَمَّا فِي النَّسَبِ؛ فَبِأَكْلِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ النَّاسِ أَحَبَّ أَنْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُ، وَذَلِكَ فِي قُرَيْشٍ خَاصَّةً))؛ فَهُمْ أَهْلُ كَرَمٍ، وَأَهْلُ بَذْلٍ، وَأَهْلُ جُودٍ، وَأَهْلُ عَطَاءٍ، وَهُمْ أَرُومَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَدَوْحَتُهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُلْتُ لِلشَّيْخِ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟

قَالَ: مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقُلْتُ: مَنِ الْعَالِمُ بِهَا وَالْمُتَكَلِّمُ فِي نَصِّ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْمُفْتِي بِأَخْبَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟

قَالَ: سَيِّدُ بَنِي أَصْبَحَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَقُلْتُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى مَالِكٍ.

فَقَالَ لِي: قَدْ بَلَّ اللهُ شَوْقَكَ -فَكَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِرًا يَلْتَهِبُ وَنَارًا تَتَلَظَّى-، انْظُرْ إِلَى هَذَا الْبَعِيرِ الْأَوْرَقِ؛ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ جِمَالِنَا وَنَحْنُ عَلَى رَحِيلٍ -يَعْنِي: وَنَحْنُ عَلَى نِيَّةِ السَّفَرِ الْآنَ-، وَلَكَ مِنَّا حُسْنُ الصُّحْبَةِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَالِكٍ.

فَمَا كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ حَتَّى قَطَرُوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ -وَالْقِطَارُ مِنَ الْإِبِلِ: هُوَ مَا كَانَ مِنْ جَمَلٍ قَدْ رُبِطَ إِلَى جَمَلٍ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَهُوَ قِطَارُ إِبِلٍ- وَأَرْكَبُونِي الْبَعِيرَ الْأَوْرَقَ، وَأَخَذَ الْقَوْمُ فِي السَّيْرِ، وَأَخَذْتُ أَنَا فِي الدَّرْسِ، فَخَتَمْتُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّ عَشْرَةَ خَتْمَةً، بِاللَّيْلِ خَتْمَةٌ وَبِالنَّهَارِ خَتْمَةٌ، وَدَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ -وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَا نَبَتَ بِعَارِضَيْهِ شَعْرٌ بَعْدُ-، فَصَلَّيْتُ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَدَنَوْتُ مِنَ الْقَبْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ -وَكَانَ هُنَالِكَ بِالرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ-، وَرَأَيْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مُئْتَزِرًا بِبُرْدَةٍ مُتَّشِحًا بِأُخْرَى -جَعَلَ بُرْدَةً إِزَارًا، وَجَعَلَ أُخْرَى وِشَاحًا كَالرِّدَاءِ عَلَى كَتِفَيْهِ-.

مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ الْمُفْتِي فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ فِيهَا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَيَأْتِي إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ وَمِنْ جِهَاتِهَا الْأَرْبَعِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ، جَالِسٌ هُوَ وَحَوْلَهُ تَلَامِذَتُهُ بِالرَّوْضَةِ، وَقَبْرُ النَّبِيِّ ﷺ ثَمَّةَ بِقُرْبٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ)).

فَكَانَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- جَالِسًا يُحَدِّثُ، وَيَتَحَدَّرُ مِنْ ثَنَايَاهُ الْعِلْمُ الَّذِي أَثَرَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَجَاءَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَدَخَلَ مَعَ الْعَصْرِ، فَوَجَدَ الْحَلْقَةَ قَائِمَةً، وَوَجَدَ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللهُ- يُحَدِّثُ.

قَالَ: ((قَالَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ هِبْتُهُ مَهَابَةً عَظِيمَةً -لِأَنَّهُ يَعْلُو بِسَنَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِإِسْنَادٍ عَالٍ جِدًّا-، وَجَلَسْتُ حَيْثُ انْتَهَى بِيَ الْمَجْلِسُ -مَالِكٌ يُحَدِّثُ، وَالطُّلَّابُ يَكْتُبُونَ، وَالشَّافِعِيُّ قَادِمٌ مِنْ سَفَرٍ، وَلَمْ يَكُ مُهَيَّأً بِدَفْتَرٍ وَقَلَمٍ وَدَوَاةٍ وَمِدَادٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكْتُبَ وَرَاءَ شَيْخِهِ -رَحِمَهُ اللهُ--، قَالَ: فَأَخَذْتُ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا أَمْلَى مَالِكٌ حَدِيثًا؛ كَتَبْتُهُ بِرِيقِي عَلَى يَدِي وَالْإِمَامُ مَالِكٌ يَنْظُرُ إِلَيَّ مِنْ حَيْثُ لَا أَعْلَمُ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ!

 وَانْتَظَرَنِي مَالِكٌ أَنْ أَنْصَرِفَ، فَلَمْ يَرَنِي أَنْصَرِفُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَحَرَمِيٌّ أَنْتَ؟

قُلْتُ: حَرَمِيٌّ.

قَالَ: أَمَكِّيٌّ أَنْتَ؟

قُلْتُ: مَكِّيٌّ.

قَالَ: أَقُرَشِيٌّ أَنْتَ؟

قُلْتُ: قُرَشِيٌّ -لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يَنْتَهِي نَسَبُهُ فِي جَدِّهِ السَّادِسِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ-.

قَالَ: كَمُلَتْ أَوْصَافُكَ؛ وَلَكِنَّ فِيكَ إِسَاءَةَ أَدَبٍ.

قُلْتُ: وَمَا الَّذِي رَأَيْتَ مِنْ سُوءِ أَدَبِي؟

قَالَ: رَأَيْتُكَ وَأَنَا أُمْلِي أَلْفَاظَ الرَّسُولِ ﷺ تَلْعَبُ بِرِيقِكَ عَلَى يَدِكَ -فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ-!!

فَقُلْتُ لَهُ: عَدِمْتُ الْبَيَاضَ -يَعْنِي: لَا قِرْطَاسَ لَدَيَّ، كَمَا تَقُولُ: وَمَا كَتَبَ مِنْ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ؛ يَعْنِي: مَا اسْتَخْدَمَ مِدَادًا لِيَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ-، فَكُنْتُ أَكْتُبُ مَا تَقُولُ.

فَجَذَبَ مَالِكٌ يَدِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى عَلَيْهَا شَيْئًا يَعْنِي: قَدْ كَتَبْتَ عَلَى رَاحَتِكَ؛ فَأَيْنَ؟!! لَا أَرَى عَلَيْهَا شَيْئًا-.

 فَقُلْتُ: إِنَّ الرِّيقَ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْيَدِ، وَلَكِنْ فَهِمْتُ جَمِيعَ مَا حَدَّثْتَ بِهِ مُنْذُ جَلَسْتُ، وَحَفِظْتُهُ إِلَى حِينَ قَطَعْتَ.

فَتَعَجَّبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ وَلَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا!

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَشَرْتُ بِيَدِي إِلَى الْقَبْرِ كَإِشَارَتِهِ، عَنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ؛ حَتَّى أَعَدْتُ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا حَدَّثَ بِهَا مِنْ حِينَ جَلَسَ إِلَى وَقْتِ قَطْعِ الْمَجْلِسِ، وَسَقَطَ الْقُرْصُ -يَعْنِي: وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ-، فَصَلَّى مَالِكٌ الْمَغْرِبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَقَالَ: خُذْ بِيَدِ سَيِّدِكَ إِلَيْكَ)).

((خُذْ بِيَدِ سَيِّدِكَ إِلَيْكَ)) فِي مُقَابِلِ: فِيكَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ، وَفِي مُقَابِلِ: رَأَيْتُكَ وَأَنَا أُمْلِي أَلْفَاظَ الرَّسُولِ ﷺ تَلْعَبُ بِرِيقِكَ عَلَى يَدِكَ، وَفِي مُقَابِلِ: إِنَّ الرِّيقَ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْيَدِ، يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَيَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ: أَعِدْ عَلَيَّ وَلَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا!! وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَا فِيهِ مِنْ نَبْرَةِ التَّحَدِّي، أَنْتَ تَعْبَثُ، وَلَا أَدَبَ عِنْدَكَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْتَ فِيكَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ.

ثُمَّ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: خُذْ بِيَدِ سَيِّدِكَ إِلَيْكَ -وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً-، وَسَأَلَنِي النُّهُوضَ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُمْتُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ إِلَى مَا دَعَا مِنْ كَرَمِهِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ الدَّارَ أَدْخَلَنِي الْغُلَامُ إِلَى خَلْوَةٍ فِي الدَّارِ، وَقَالَ لِي: الْقِبْلَةُ فِي الْبَيْتِ هَكَذَا، وَهَذَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهَذَا بَيْتُ الْخَلَاءِ)).

عُدَّةُ طَالِبِ الْعِلْمِ فِي أَيِّ بَيْتٍ؛ الْقِبْلَةُ هَاهُنَا، وَهَذَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهَذَا بَيْتُ الْخَلَاءِ، مَاذَا يُرِيدُ طَالِبُ الْعِلْمِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ سِوَى هَذَا؟!!

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَمَا لَبِثَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- حَتَّى أَقْبَلَ هُوَ وَالْغُلَامُ حَامِلًا طَبَقًا، فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ لِغُلَامِهِ: اغْسِلْ عَلَيْنَا، ثُمَّ وَثَبَ الْغُلَامُ لِلْإِنَاءِ وَأَرَادَ أَنْ يَغْسِلَ عَلَيَّ أَوَّلًا -أَخَذَ الْغُلَامُ الْإِنَاءَ وَأَرَادَ أَنْ يَصُبَّ عَلَى يَدَيِ الشَّافِعِيِّ أَوَّلًا لِيَغْسِلَ يَدَيْهِ-، فَصَاحَ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَقَالَ: الْغَسْلُ فِي أَوَّلِ الطَّعَامِ لِرَبِّ الْبَيْتِ، وَفِي آخِرِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ)).

وَهُوَ أَدَبٌ مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَالِي؛ فَلَا يَغْسِلُ الضَّيْفُ قَبْلَ رَبِّ الْبَيْتِ أَوَّلًا، وَيَظَلُّ مُنْتَظِرًا حَتَّى يَفْرُغَ رَبُّ الْبَيْتِ مِنْ غَسْلِهِ؛ لِكَيْ يُقْبِلَ بَعْدَهُ عَلَى الطَّعَامِ، وَإِنَّمَا يَغْسِلُ رَبُّ الْبَيْتِ وَيَنْتَظِرُ أَوْ يُعِدُّ ثُمَّ يَغْسِلُ الضَّيْفُ؛ لِكَيْ يَأْخُذَ مِنْ حِينَ يَنْتَهِي مِنْ غَسْلِ يَدَيْهِ فِي الطَّعَامِ مُبَاشَرَةً، وَعَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي آخِرِ الطَّعَامِ، فَإِذَا مَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ غَسَلَ الضَّيْفُ أَوَّلًا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَاسْتَحْسَنْتُ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَامِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَسَأَلْتُهُ عَنْ شَرْحِهِ.

فَقَالَ: إِنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ -أَيْ: رَبُّ الْبَيْتِ- إِلَى كَرَمِهِ، فَحُكْمُهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْغَسْلِ، وَفِي آخِرِ الطَّعَامِ يَنْتَظِرُ مَنْ يَدْخُلُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ.

وَهَذِهِ أُخْرَى..

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَكَشَفَ الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- الطَّبَقَ، فَكَانَ فِيهِ صَحْفَتَانِ، فِي إِحْدَاهُمَا لَبَنٌ وَالْأُخْرَى تَمْرٌ، فَسَمَّى اللهَ -تَعَالَى- وَسَمَّيْتُ، فَأَتَيْتُ أَنَا وَمَالِكٌ عَلَى جَمِيعِ الطَّعَامِ، وَعَلِمَ مَالِكٌ أَنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنَ الطَّعَامِ الْكِفَايَةَ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ -يَقُولُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.. لِتِلْمِيذِهِ وَلَهُ مِنْ الْعُمُرِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً!- هَذَا جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إِلَى فَقِيرٍ مُعْدِمٍ.

فَقُلْتُ: لَا عُذْرَ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ، إِنَّمَا الْعُذْرُ عَلَى مَنْ أَسَاءَ)).

مَا السِّنُّ هَاهُنَا؟!! مَا قِيمَتُهُ وَمَا شَأْنُهُ؟!! لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ مَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً: ((لَا عُذْرَ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ، إِنَّمَا الْعُذْرُ عَلَى مَنْ أَسَاءَ))، الَّذِي يُحْسِنُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ طَاعِنٌ فِي سِنِّ الْخِبْرَةِ، مُتَجَاوِزٌ لِحَدِّ الشَّبَابِ، وَالْكُهُولَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، وَالْهَرَمِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَقْبَلَ مَالِكٌ يَسْأَلُنِي عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى دَنَتِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، ثُمَّ قَامَ عَنِّي وَقَالَ: حُكْمُ الْمُسَافِرِ أَنْ يُقِلَّ تَعَبَهُ بِالِاضْطِجَاعِ، فَنِمْتُ لَيْلَتِي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ؛ قَرَعَ عَلَيَّ مَالِكٌ الْبَابَ فَقَالَ لِي: الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللهُ -يُغْرِيهِ بِالصَّلَاةِ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِهَا -رَحِمَهُ اللهُ--، فَرَأَيْتُهُ حَامِلًا إِنَاءً فِيهِ مَاءٌ، فَتَبَشَّعَ -يَعْنِي: صَارَ بَشِعًا- عَلَيَّ ذَلِكَ.

فَقَالَ لِي: لَا يَرُعْكَ -لَا يُفْزِعْكَ- مَا رَأَيْتَهُ؛ فَخِدْمَةُ الضَّيْفِ فَرْضٌ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَتَجَهَّزْتُ لِلصَّلَاةِ، وَصَلَّيْتُ الْفَجْرَ مَعَ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالنَّاسُ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ -الظُّلْمَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ مِيلَادِ الضِّيَاءِ-، وَجَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي مُصَلَّاهُ يُسَبِّحُ اللهَ -تَعَالَى- إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ، فَجَلَسَ مَالِكٌ فِي مَجْلِسِهِ بِالْأَمْسِ، وَنَاوَلَنِي ((الْمُوَطَّأَ)) أُمْلِيهِ وَأَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَكْتُبُونَهُ)).

فَكَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- الْقَارِئَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) يَسْرُدُ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ ﷺ بِإِسْنَادِ الْإِمَامِ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَارِئًا مَا هُنَالِكَ -أَيْضًا- مِنْ بَلَاغَاتِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَالنَّاسُ يَكْتُبُونَ.

وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ هَيْبَتِهِ لِشَيْخِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا-: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا حَتَّى لَا يَسْمَعَ وَقْعَهَا!!))؛ فِيهِ حِسٌّ وَفِيهِ إِحْسَاسٌ انْتَفَتْ عَنْهُ الْغِلْظَةُ، وَانْتَفَتْ عَنْهُ الْقَسْوَةُ، وَانْتَفَتْ عَنْهُ الْفَظَاظَةُ، وَكَانَ -كَمَا رَأَيْتَ- مِنْ بَدْءِ طَرِيقِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَخْلُوقًا لِهَذَا الشَّأْنِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((فَأَتَيْتُ عَلَى حِفْظِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَأَقَمْتُ ضَيْفَ مَالِكٍ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَمَا عَلِمَ أَحَدٌ مِنَ الْأُنْسِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا؛ أَيُّنَا الضَّيْفُ -الْأُنْسُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا أُنْسٌ بِالْعِلْمِ يَجْمَعُ الْقُلُوبَ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ السُّنُونُ، وَإِنْ عَلَتِ الْمَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةً مُتَبَايِنَةً!-، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى مَالِكٍ الْمِصْرِيُّونَ بَعْدَ قَضَاءِ حَجِّهِمْ؛ لِلزِّيَارَةِ -زِيَارَةِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ-، وَاسْتِمَاعِ الْمُوَطَّأِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَمْلَيْتُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا -حَفِظَ الْمُوَطَّأَ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَى النَّاسِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ -رَحِمَهُ اللهُ--، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لِزِيَارَةِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرَأَيْتُ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ فَتًى جَمِيلَ الْوَجْهِ، نَظِيفَ الثَّوْبِ، حَسَنَ الصَّلَاةِ، فَتَوَسَّمْتُ فِيهِ خَيْرًا، فَسَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ فَأَخْبَرَنِي، وَسَأَلْتُهُ عَنْ بَلَدِهِ.

فَقَالَ: الْعِرَاقُ.

فَقُلْتُ: أَيُّ الْعِرَاقِ؟

فَقَالَ: الْكُوفَةُ.

قُلْتُ: مَنِ الْعَالِمُ بِهَا وَالْمُتَكَلِّمُ فِي نَصِّ الْكِتَابِ وَالْمُفْتِي بِأَخْبَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقَالَ لِي: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُلْتُ: وَمَتَى عَزَمْتُمْ تَظْعَنُونَ -تَرْتَحِلُونَ-؟

فَقَالَ لِي: فِي غَدَاةِ غَدٍ وَقْتَ الْفَجْرِ، فَعُدْتُ إِلَى مَالِكٍ، فَقُلْتُ لَهُ: خَرَجْتُ مِنْ مَكَّةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْعَجُوزِ -يَعْنِي: أُمَّهُ-، أَفَأَعُودُ إِلَيْهَا أَوْ أَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟

فَقَالَ لِي: الْعِلْمُ فَائِدَةٌ يُرْجَعُ مِنْهَا إِلَى فَائِدَةٍ؛ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضَاءً بِمَا يَطْلُبُ؟!!

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَلَمَّا أَزْمَعْتُ عَلَى السَّفَرِ؛ زَوَّدَنِي الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ سَارَ مَعِي مُشَيِّعًا إِلَى الْبَقِيعِ، ثُمَّ صَاحَ بِعُلُوِّ صَوْتِهِ: مَنْ يَكْرِي -مَنْ يُؤَجِّرُ- رَاحِلَتَهُ إِلَى الْكُوفَةِ؟

فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: بِمَ تَكْتَرِي وَلَيْسَ مَعَكَ وَلَا مَعِي شَيْءٌ؟!!

فَقَالَ لِي: انْصَرْفَتُ الْبَارِحَةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ إِذْ قَرَعَ عَلَيَّ قَارِعٌ الْبَابَ -طَرَقَ عَلَيَّ الْبَابَ طَارِقٌ-، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَأَصَبْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ، فَسَأَلَنِي قَبُولَ هَدِيَّتِهِ، فَقَبِلْتُهَا، فَدَفَعَ إِلَيَّ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، وَقَدْ أَتَيْتُكَ بِنِصْفِهَا، وَجَعَلْتُ النِّصْفَ لِعِيَالِي، فَاكْتَرَى لِي بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَدَفَعَ إِلَيَّ بَاقِيَ الدَّنَانِيرِ، وَوَدَّعَنِي وَانْصَرَفَ!

وَسِرْتُ فِي جُمْلَةِ الْحَاجِّ -الْحَجِيجُ الْآيِبُونَ مِنْ حَجِّهِمْ- حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى الْكُوفَةِ يَوْمَ رَابِعَ عِشْرِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ -يَعْنِي: بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنَ الرَّحِيلِ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَصَلْنَا الْكُوفَةَ-، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَصَلَّيْتُ الْعَصْرَ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ رَأَيْتُ غُلَامًا قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ فَمَا أَحْسَنَ الصَّلَاةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ نَاصِحًا، فَقُلْتُ لَهُ: أَحْسِنْ صَلَاتَكَ؛ لِئَلَّا يُعَذِّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْوَجْهَ بِالنَّارِ.

فَقَالَ لِي: أَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ فِيكُمُ الْغِلْظَةَ وَالْجَفَاءَ، وَلَيْسَ فِيكُمْ رِقَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَنَا أُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بَيْنَ يَدَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي يُوسُفَ، فَمَا عَابَا عَلَيَّ صَلَاتِي قَطُّ، وَخَرَجَ مُعْجَبًا يَنْفُضُ رِدَاءَهُ فِي وَجْهِي)).

الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْقِلَّةِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي رُزِقَتِ الرَّسْمَ بِالْكَلِمَاتِ، وَكَانَ بَلِيغًا -للهِ أَبُوهُ-، وَكَانَ فَصِيحًا فَصَاحَةً لَا تُدَانَى، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالتِّلَاوَةِ جِدًّا، وَكَانَ إِذَا مَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ؛ جَلَسَ هُنَالِكَ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرَعَ فِي التِّلَاوَةِ، وَكَانَ صَيِّتًا- فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ مَنْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَسْمَعُونَ تِلَاوَتَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، وَكَانَ شَاعِرًا؛ بَلْ كَانَ مُفْلِقًا؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ:

وَلَوْ لَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي    =    لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ

 يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: ((فَلَقِيَ -الْغُلَامُ- لِلتَّوْفِيقِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَأَبَا يُوسُفَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَعَلِمْتُمَا فِي صَلَاتِي مِنْ عَيْبٍ؟

فَقَالَا: اللهم لَا.

قَالَ: فَفِي مَسْجِدِنَا هَذَا مَنْ عَابَ صَلَاتِي.

فَقَالَا: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: بِمَ تَدْخُلُ الصَّلَاةَ؟!

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَجَاءَ الْفَتَى فَقَالَ: يَا مَنْ عَابَ صَلَاتِيَ! بِمَ تَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقُلْتُ: بِفَرْضَيْنِ وَسُنَّةٍ.

فَعَادَ إِلَيْهِمَا وَأَعْلَمَهُمَا بِالْجَوَابِ، فَعَلِمَا أَنَّهُ جَوَابُ مَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَا: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ مَا الْفَرْضَانِ؟ وَمَا السُّنَّةُ؟

فَأَتَى إِلَيَّ فَقَالَ: مَا الْفَرْضَانِ؟ وَمَا السُّنَّةُ؟

فَقُلْتُ: أَمَّا الْفَرْضُ الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ، وَالثَّانِي تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَالسُّنَّةُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ.

فَعَادَ إِلَيْهِمَا فَأَعْلَمَهُمَا بِذَلِكَ، فَدَخَلَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيَّ؛ أَظُنُّهُمَا ازْدَرَيَانِي -احْتَقَرَانِي؛ لِأَنَّ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا نَبَاتَ بِعَارِضِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يُرِيدُ تَحْصِيلَ عِلْمِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ- وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَكَثَ هُنَالِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَظَلَّ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَبْلُغِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ بَعْدُ-.

 فَلَمَّا نَظَرَا إِلَيَّ؛ أَظُنُّهُمَا ازْدَرَيَانِي، فَجَلَسَا نَاحِيَةً، وَقَالَا لِذَلِكَ الْفَتَى: اذْهَبْ إِلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: أَجِبِ الشَّيْخَيْنِ.

فَلَمَّا أَتَانِي عَلِمْتُ أَنِّي مَسْؤُولٌ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَقُلْتُ: مِنْ حُكْمِ الْعِلْمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَا عَلِمْتُ لِي إِلَيْهِمَا حَاجَةً!!

وَهَذَا لَيْسَ بِكِبْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ تِلْكَ الْعَقْلِيَّةِ النَّاضِجَةِ وَالنَّفْسِيَّةِ الْفَذَّةِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَقَامَا مِنْ مَجْلِسِهِمَا إِلَيَّ، فَلَمَّا سَلَّمَا عَلَيَّ قُمْتُ إِلَيْهِمَا، وَأَظْهَرْتُ الْبَشَاشَةَ لَهُمَا، وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِمَا -الْأَدَبُ هُوَ هُوَ، لَمْ يَتَخَلَّفْ؛ حَتَّى وَهُوَ يَقُولُ: مِنْ حُكْمِ الْعِلْمِ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَا عَلِمْتُ لِي إِلَيْهِمَا حَاجَةً-، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ: أَحَرَمِيٌّ أَنْتَ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ.

فَقَالَ: أَعَرَبِيٌّ أَمْ مَوْلًى؟

فَقُلْتُ: عَرَبِيٌّ.

فَقَالَ: مِنْ أَيِّ الْعَرَبِ؟

قُلْتُ: مِنْ وَلَدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالَ: مِنْ وَلَدِ مَنْ؟

قُلْتُ: مِنْ وَلَدِ شَافِعٍ.

قَالَ: رَأَيْتَ مَالِكًا؟

قُلْتُ: مِنْ عِنْدَهُ أَتَيْتُ.

قَالَ لِي: نَظَرْتَ فِي الْمُوَطَّأِ؟

قُلْتُ: أَتَيْتُ عَلَى حِفْظِهِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِدَاوَةٍ وَبَيَاضٍ، وَكَتَبَ مَسْأَلَةً فِي الطَّهَارَةِ، وَمَسْأَلَةً فِي الزَّكَاةِ، وَمَسْأَلَةً فِي الْبُيُوعِ، وَالْفَرَائِضِ، وَالرَّهْنِ، وَالْحَجِّ، وَالْإِيلَاءِ، وَمِنْ كُلِّ بَابٍ فِي الْفِقْهِ مَسْأَلَةً، وَجَعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَسْأَلَتَيْنِ بَيَاضًا -يَضَعُ سُؤَالًا وَيَتْرُكُ فَرَاغًا، ثُمَّ يَضَعُ سُؤَالًا، ثُمَّ يَجْعَلُ فَرَاغًا، وَهَكَذَا- وَدَفَعَ إِلَيَّ الدَّرْجَ -يَعْنِي: الصَّحِيفَةَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا-، وَقَالَ: أَجِبْ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مِنَ الْمُوَطَّأِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَأَجَبْتُ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، ثُمَّ دَفَعْتُ إِلَيْهِ الدَّرْجَ، فَتَأَمَّلَهُ وَنَظَرَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِهِ: خُذْ بَيَدِ سَيِّدِكَ إِلَيْكَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ثُمَّ سَأَلَنِي النُّهُوضَ مَعَ الْعَبْدِ، فَنَهَضْتُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى الْبَابِ قَالَ لِي الْعَبْدُ: إِنَّ سَيِّدِي أَمَرَنِي أَلَّا تَصِيرَ إِلَى الْمَنْزِلِ إِلَّا رَاكِبًا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: قَدِّمْ، فَقَدَّمَ إِلَيَّ بَغْلَةً بِسَرْجٍ مُحَلَّى، فَلَمَّا عَلَوْتُ عَلَى ظَهْرِهَا رَأَيْتُ نَفْسِي بِأَطْمَارٍ رَثَّةٍ -يَعْنِي: بِثِيَابٍ مُهَلْهَلَةٍ عَلَى بَغْلَةٍ مُطَهَّمَةٍ مُسَرَّجَةٍ مُلَجَّمَةٍ، فَحَدَثَ هُنَالِكَ تَبَايُنٌ بَيْنَ الرَّاكِبِ وَالْمَرْكُوبِ-، فَطَافَ بِي الْغُلَامُ أَزِقَّةَ الْكُوفَةِ إِلَى مَنْزِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَرَأَيْتُ أَبْوَابًا وَدَهَالِيزَ مَنْقُوشَةً، فَذَكَرْتُ ضِيقَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَا هُمْ فِيهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مَالِكٌ مِنَ التَّقَشُّفِ، فَبَكَيْتُ وَقُلْتُ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَنْقُشُونَ سُقُوفَهُمْ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَأْكُلُونَ الْقَدِيدَ، وَيَمُصُّونَ النَّوَى، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَنَا فِي بُكَائِي فَقَالَ: لَا يَرُعْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا رَأَيْتَ؛ فَمَا هُوَ إِلَّا مِنْ حَقِيقَةِ حَلَالٍ -يَعْنِي: مِنْ صُلْبِ حَلَالٍ صِرْفٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ- وَمُكْتَسَبٍ، وَمَا يُطَالِبُنِي اللهُ فِيهَا بِفَرْضٍ، وَإِنِّي أُخْرِجُ زَكَاتَهَا فِي كُلِّ عَامٍ، فَأَسُرُّ بِهَا الصَّدِيقَ، وَأَكْبِتُ بِهَا الْعَدُوَّ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَمَا بِتُّ حَتَّى كَسَانِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ خِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ -وَكَانَ مُقْبِلًا مِنْ لَدُنْ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ- بِأَطْمَارٍ رَثَّةٍ وَثِيَابٍ مُهَلْهَلَةٍ-، ثُمَّ دَخَلَ خِزَانَتَهُ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ الْكِتَابَ الْأَوْسَطَ، تَأْلِيفَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَنَظَرْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأْتُ الْكِتَابَ فِي لَيْلَتِي أَتَحَفَّظُهُ -يَعْنِي: يُرِيدُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ حَافِظًا إِيَّاهُ-، فَمَا أَصْبَحْتُ إِلَّا وَقَدْ حَفِظْتُهُ!!

أَخْرَجَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ مِنَ الْخِزَانَةِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ فِي لَيْلَتِهِ مُتَسَلِّيًا؛ حَتَّى لَا يُحِسَّ الْوَحْشَةَ، وَلَا يَجِدَ مَسَّ الْوَحْدَةِ- وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَشْهُورَ بِالْكُوفَةِ بِالْفَتْوَى، وَالْمُجِيبَ فِي النَّوَازِلِ.

فَبَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ -وَكَانَ لَمْ يَعْلَمْ بَعْدُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ حَفِظَ الْكِتَابَ الَّذِي أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ مِنْ لَيْلَتِهِ-؛ إِذْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَجَابَ فِيهَا، وَقَالَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ وَهِمْتَ فِي الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْجَوَابُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ كَذَا وَكَذَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَهَا الْمَسْأَلَةُ الْفُلَانِيَّةُ، وَفَوْقَهَا الْمَسْأَلَةُ الْفُلَانِيَّةُ فِي الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ -الَّذِي أَعْطَيْتَنِي إِيَّاهُ لَيْلَةَ نَزَلْتُ عَلَيْكَ ضَيْفًا-، فَأَمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِالْكِتَابِ فَأُحْضِرَ، فَتَصَفَّحَهُ وَنَظَرَ فِيهِ، فَوَجَدَ الْقَوْلَ كَمَا قُلْتُ، فَرَجَعَ عَنْ جَوَابِهِ إِلَى مَا قُلْتُ، وَلَمْ يُخْرِجْ إِلَيَّ بَعْدَهَا كِتَابًا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الرَّحِيلِ.

قَالَ: مَا كُنْتُ لِآذَنَ لِضَيْفٍ بِالرَّحِيلِ عَنِّي، وَبَذَلَ لِي مُشَاطَرَةَ نِعْمَتِهِ.

فَقُلْتُ: مَا لِذَا قَصَدْتُ، وَلَا لِذَا أَرَدْتُ، وَلَا رَغْبَتِي إِلَّا فِي السَّفَرِ.

يَعْنِي: ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- يُرِيدُ أَنْ يَرْحَلَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مُشَاطَرَةَ النِّعْمَةِ، يَعْنِي: أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْلِكُ، كَمَا صَنَعَ مَالِكٌ فِيمَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ رَحِيلِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِعِيَالِي، النِّصْفُ لَكَ وَالنِّصْفُ لِعِيَالِي، فَأَكْرَى لَهُ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَأَعْطَاهُ الْبَاقِيَ، وَصَحِبَتْكَ السَّلَامَةُ أَبَا عَبْدِ اللهِ.

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ مَا فِي خَزَائِنِهِ مِنْ بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ -مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ-، فَدَفَعَ إِلَيَّ مَا كَانَ فِيهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَقْبَلْتُ أَطُوفُ الْعِرَاقَ، وَأَرْضَ فَارِسٍ، وَبِلَادَ الْأَعَاجِمِ، وَأَلْقَى الرِّجَالَ حَتَّى صِرْتُ ابْنَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً -طَالَتِ الْمُدَّةُ-.

ثُمَّ دَخَلْتُ الْعِرَاقَ فِي خِلَافَةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَعِنْدَ دُخُولِ الْبَابِ تَعَلَّقَ بِي غُلَامٌ فَلَاطَفَنِي وَقَالَ لِي: مَا اسْمُكَ؟

فَقُلْتُ: مُحَمَّدٌ.

قَالَ: ابْنُ مَنْ؟

قُلْتُ: ابْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ

فَقَالَ: مُطَّلَبِيٌّ؟

فَقُلْتُ: أَجَلْ.

فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي لَوْحٍ كَانَ فِي كُمِّهِ، وَخَلَّى سَبِيلِي -كَانَ وَاحِدًا مِنَ الْعَسَسِ-، فَأَوَيْتُ إِلَى بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أُفَكِّرُ فِي عَاقِبَةِ مَا فَعَلَ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ النِّصْفُ؛ كُبِسَ الْمَسْجِدُ -قَدِيمٌ يَا صَاحِبِي-، وَأَقْبَلُوا يَتَأَمَّلُونَ وَجْهَ كُلِّ رَجُلٍ حَتَّى أَتَوْا إِلَيَّ، فَقَالُوا لِلنَّاسِ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، هَذَا هُوَ الْحَاجَةُ وَالْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَيَّ وَقَالُوا: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُمْتُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، فَلَمَّا بَصُرْتُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ سَلَامًا بَيِّنًا، فَاسْتَحْسَنَ الْأَلْفَاظَ وَرَدَّ عَلَيَّ الْجَوَابَ، ثُمَّ قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟!!

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! كُلُّ زَعْمٍ فِي كِتَابِ اللهِ بَاطِلٌ -يَعْنِي: لَا أَزْعُمُ، وَإِنَّمَا أَنَا كَذَلِكَ حَقِيقَةً-.

فَقَالَ: أَبِنْ لِي عَنْ نَسَبِكَ.

فَانْتَسَبْتُ حَتَّى لَحِقْتُ بِالنَّسَبِ الْأَعْلَى.

فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: مَا تَكُونُ هَذِهِ الْفَصَاحَةُ وَلَا هَذِهِ الْبَلَاغَةُ إِلَّا فِي رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ الْمُطَّلِبِ، هَلْ لَكَ أَنْ أُوَلِّيَكَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَأُشَاطِرَكَ مَا أَنَا فِيهِ، وَتُنَفِّذَ فِيهِ حُكْمَكَ وَحُكْمِي عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ؟

قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ سَأَلْتَنِي أَنْ أَفْتَحَ بَابَ الْقَضَاءِ بِالْغَدَاةِ وَأُغْلِقَهُ بِالْعَشِيِّ بِنِعْمَتِكَ هَذِهِ -يَعْنِي: بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ شَأْنِ الْخِلَافَةِ-؛ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ أَبَدًا.

فَبَكَى الرَّشِيدُ وَقَالَ: تَقْبَلُ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا شَيْئًا؟

قُلْتُ: يَكُونُ مُعَجَّلًا، فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَمَا بَرِحْتُ مِنْ مَقَامِي حَتَّى قَبَضْتُهَا، ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَالْحَشَمِ أَنْ أَصِلَهُمْ مِنْ صِلَتِي، فَلَمْ تَسَعِ الْمُرُوءَةُ أَنْ كُنْتُ مَسْؤُولًا غَيْرَ الْمُقَاسَمَةِ فِيمَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ.

الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((وَاللهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ وَالْعَطَشِ يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْ مُرُوءَتِي مَا شَرِبْتُهُ!!)).

فَلَمَّا تَحَصَّلَ عَلَى الْمَالِ وَسُئِلَ قَالَ: فَلَمْ تَسَعِ الْمُرُوءَةُ أَنْ كُنْتُ مَسْؤُولًا غَيْرَ الْمُقَاسَمَةِ -لَيْسَتِ الْمُشَاطَرَةُ، وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ عَلَى الْعَدَدِ- فِيمَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيَّ، فَخَرَجَ لِي قِسْمٌ كَأَقْسَامِهِمْ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فِي لَيْلَتِي، فَتَقَدَّمَ يُصَلِّي بِنَا غُلَامٌ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ، فَأَجَادَ الْقِرَاءَةَ، وَلَحِقَهُ سَهْوٌ، وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ الدُّخُولُ وَلَا كَيْفَ الْخُرُوجُ، فَقُلْتُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ: أَفْسَدْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى نَفْسِكَ، أَعِدْ، فَأَعَادَ مُسْرِعًا وَأَعَدْنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَحْضِرْ بَيَاضًا أَعْمَلُ لَكَ بَابَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، فَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيَّ، فَأَلَّفْتُ لَهُ كِتَابًا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِهِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ جُزْءًا يُعْرَفُ بِكِتَابِ ((الزَّعْفَرَانِ))، وَهُوَ الَّذِي وَضَعْتُهُ بِالْعِرَاقِ حَتَّى تَكَامَلَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.

وَوَلَّانِي الرَّشِيدُ الصَّدَقَاتِ بِـ(نَجْرَانَ)، وَقَدِمَ الْحَاجُّ، فَخَرَجْتُ أَسْأَلُهُمْ عَنِ الْحِجَازِ، فَرَأَيْتُ فَتًى فِي قُبَّتِهِ، فَلَمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ أَمَرَ قَائِدُ الْقُبَّةِ أَنْ يَقِفَ، وَأَشَارَ إِلَيَّ بِالْكَلَامِ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَعَنِ الْحِجَازِ، فَأَجَابَ بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ مَالِكٍ.

فَقَالَ لِي: أَشْرَحُ لَكَ أَوْ أَخْتَصِرُ؟

قُلْتُ: فِي الِاخْتِصَارِ الْبَلَاغَةُ.

فَقَالَ: فِي صِحَّةِ جِسْمٍ، وَلَهُ ثَلَاثُ مِائَةِ جَارِيَةٍ، يَبِيتُ عِنْدَ الْجَارِيَةِ لَيْلَةً، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلَى سَنَةٍ، فَقَدِ اخْتَصَرْتُ لَكَ خَبَرَهُ!

وَقَدْ تَرَكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامَ مَالِكًا قَبْلَ الرَّحِيلِ فِي أَسْوَءِ حَالٍ؛ حَتَّى إِنَّهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ لَهُ بَعِيرًا فِي الرِّحْلَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْكُوفَةِ؛ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مُسْتَنْكِرًا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ تَكْرِي لِي وَمَا مَعَكَ وَلَا مَعِي مَالٌ؟! فَقَالَ: فَتَحَ اللهُ؛ فَقَدْ جَاءَنَا اللَّيْلَةَ -بِفَضْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَدِيَّةٌ، فَهِيَ قِسْمَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِيَالِي؛ فَأَنْتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ وَإِنْ كَانَ لَكَ الْقِدْحُ الْمُعَلَّى وَالنَّصِيبُ الْأَوْفَى، فَلَكَ النِّصْفُ وَلِعِيَالِي جَمِيعًا النِّصْفُ.

تَرَكَهُ فِي أَسْوَءِ حَالٍ، وَأَمَّا الْآنَ فَيَسْمَعُ: فِي صِحَّةِ جِسْمٍ، وَلَهُ ثَلَاثُ مِائَةِ جَارِيَةٍ، يَبِيتُ عِنْدَ الْجَارِيَةِ لَيْلَةً، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهَا إِلَى سَنَةٍ، فَقَدِ اخْتَصَرْتُ لَكَ خَبَرَهُ!

هَذَا بِلَا شَكٍّ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَمَا كَانَ مَالِكٌ مِمَّنْ يَتَوَسَّعُ فِي الدُّنْيَا هَذِهِ التَّوْسِعَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَقَدْ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْخَلَاءِ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً، ثُمَّ يَقُولُ: وَاخَجَلَاهُ مِنْ رَبِّي مِنْ كَثْرَةِ مَا أَذْهَبُ إِلَى الْخَلَاءِ!

مَالِكٌ كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَرَعِ؛ وَلَكِنْ -رَحِمَهُ اللهُ- الشَّأْنُ عِنْدَهُ كَالشَّأْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ مُتَقَشِّفًا، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَارَةٍ مِنْ نِعْمَةٍ حَائِلَةٍ بَاهِتَةٍ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ؟!! ثُمَّ ضُخِّمَتْ وَكُبِّرَتْ، وَإِذَا الْفَأْرُ جَمَلًا، وَإِذَا الصَّخْرَةُ جَبَلًا!! وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا هُنَالِكَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَاشْتَهَيْتُ أَنْ أَرَاهُ فِي حَالِ غِنَاهُ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي حَالِ فَقْرِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ مَا يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ؟

فَقَالَ: إِنَّكَ لَتُوحِشُنِي خَاصَّةً، وَأَهْلَ الْعِرَاقِ عَامَّةً، وَجَمِيعُ مَالِي فِيهِ -فِي الْعِرَاقِ-  لَكَ.

فَقُلْتُ لَهُ: فَبِمَ تَعِيشُ؟

قَالَ: بِالْجَاهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ وَحَكَّمَنِي فِي مَالِهِ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ الْكِفَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَسِرْتُ عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَأَتَيْتُ (حَرَّانَ) وَدَخَلْتُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرْتُ فَضْلَ الْغُسْلِ وَمَا جَاءَ فِيهِ، فَقَصَدْتُ الْحَمَّامَ، فَلَمَّا سَكَبْتُ الْمَاءَ رَأَيْتُ شَعْرَ رَأْسِي شَعِثًا، فَدَعَوْتُ الْمُزَيِّنَ، فَلَمَّا بَدَأَ بِرَأْسِي وَأَخَذَ الْقَلِيلَ مِنْ شَعْرِي؛ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خِدْمَتِهِمْ، فَسَارَعَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَنِي، فَلَمَّا قَضَوْا مَا أَرَادُوا مِنْهُ؛ عَادَ إِلَيَّ فَمَا أَرَدْتُهُ، وَخَرَجْتُ مِنَ الْحَمَّامِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مَا كَانَ مَعِي مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَقُلْتُ لَهُ: خُذْ هَذِهِ، وَإِذَا وَقَفَ بِكَ غَرِيبٌ فَلَا تَحْتَقِرْهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ مُتَعَجِّبًا، فَاجْتَمَعَ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا خَرَجْتُ عَاتَبَنِي النَّاسُ -يَعْنِي: عَلَى كَثْرَةِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَنَلْ مِنْهُ وَطَرًا، بَلْ إِنَّهُ شَوَّهَ رَأْسَهُ وَشَعْرَهُ-، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ خَرَجَ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي الْحَمَّامِ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَقُدِّمَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَسَمِعَ خِطَابِي لَهُمْ، فَانْحَدَرَ عَنِ الْبَغْلَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَوَى عَلَيْهَا، وَقَالَ لِي: أَنْتَ الشَّافِعِيُّ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَمَدَّ الرِّكَابَ مِمَّا يَلِينِي وَقَالَ: بِحَقِّ اللهِ ارْكَبْ، وَمَضَى بِي الْغُلَامُ مُطْرِقًا بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ الْفَتَى، ثُمَّ أَتَى وَقَدْ حَصُلْتُ فِي مَنْزِلِه -يَعْنِي: كُنْتُ هُنَالِكَ فِي مَنْزِلِهِ-، فَأَظْهَرَ الْبَشَاشَةَ، ثُمَّ دَعَا بِالْغَسْلِ فَغَسَلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ حَضَرْتُ الْمَائِدَةَ فَسَمَّى، وَحَبَسْتُ يَدِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟

فَقُلْتُ لَهُ: طَعَامُكَ عَلَيَّ مُمْتَنَعٌ حَتَّى أَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ!!

فَقَالَ: أَنَا مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكَ الْكِتَابَ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِبَغْدَادَ وَأَنْتَ لِي أُسْتَاذٌ!

وَالنُّهَى وَالْمَعْرِفَةُ بَيْنَ أَهْلِهَا رَحِمٌ..

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَقُلْتُ: الْعِلْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَقْلِ رَحِمٌ مُتَّصِلَةٌ، فَأَكَلْتُ بِفَرْحَةٍ؛ إِذْ لَمْ يُعَرِّفِ اللهُ -تَعَالَى- إِلَّا بَيْنِي وَبَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِي -مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ-، وَأَقَمْتُ ضَيْفَهُ ثَلَاثًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ قَالَ: إِنَّ لِي حَوْلَ (حَرَّانَ) أَرْبَعَ ضِيَاعٍ مَا بِـ(حَرَّانَ) أَحْسَنَ مِنْهَا، أُشْهِدُ اللهَ إِنِ اخْتَرْتَ الْمُقَامَ عِنْدِي؛ فَإِنَّهَا هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ.

فَقُلْتُ: فَبِمَ تَعِيشُ؟

قَالَ: بِمَا فِي صَنَادِيقِي تِلْكَ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: أَتَّجِرُ بِهَا.

فَقُلْتُ: لَيْسَ إِلَى هَذَا قَصَدْتُ، وَلَا خَرَجْتُ مِنْ بَلَدِي لِغَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ؛ يَعْنِي: لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ نِيَّتِي، أَنَا مَا أَرَدْتُ الْمُقَامَ بِبَلَدٍ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ، وَمَا ارْتَحَلْتُ عَنْ بَلَدٍ إِلَّا طَلَبًا لِلْعِلْمِ.

فَقَالَ لِي: فَالْمَالُ -إِذَنْ- مِنْ شَأْنِ الْمُسَافِرِ، فَقَبَضْتُ الْأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَوَدَّعْتُهُ، وَخَرَجْتُ مِنْ مَدِينَةِ حَرَّانَ وَبَيْنَ يَدَيَّ أَحْمَالٌ، ثُمَّ تَلَقَّانِي الرِّجَالُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، فَأَجَزْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا قُسِمَ لَهُ حَتَّى دَخَلْتُ مَدِينَةَ الرَّمْلَةِ وَلَيْسَ مَعِي إِلَّا عَشْرَةُ دَنَانِيرَ، فَاشْتَرَيْتُ بِهَا رَاحِلَةً، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى كُورِهَا، وَقَصَدْتُ الْحِجَازَ، فَمَا زِلْتُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَصَلَّيْتُ الْعَصْرَ، وَرَأَيْتُ كُرْسِيًّا مِنَ حَدِيدٍ عَلَيْهِ مَخِدَّةٌ مِنْ قَبَاطِيِّ مِصْرَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَحَوْلَهُ أَرْبَعُ مِائَةِ دِفْتَرٍ أَوْ تَزِيدُ: وَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ رَأَيْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ فَاحَ عِطْرُهُ فِي الْمَسْجِد -تَغَيَّرَتِ الْحَالُ-، وَحَوْلَهُ أَرْبَعُ مِائَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَلَمَّا وَصَلَ؛ أَوْسَعَ لَهُ مَنْ كَانَ قَاعِدًا، وَجَلَسَ عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَأَلْقَى مَسْأَلَةً فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْنِي الصَّبْرُ، فَقُمْتُ قَائِمًا فِي سُورِ الْحَلْقَةِ -بَعِيدًا وَالْعَمَائِمُ ظَاهِرَةٌ، وَالدَّفَاتِرُ مَنْشُورَةٌ، وَالْأَقْلَامُ كَالْأَسِنَّةِ.. كَالرِّمَاحِ مُشْرَعَةٌ، وَكُلٌّ يَنْتَظِرُ أَنْ تَتَحَدَّرَ لَفْظَةٌ مِنْ فَمِ مَالِكٍ حَتَّى تُقَيَّدَ، وَقَدْ أَلْقَى الْمَسْأَلَةَ، وَانْتَظَرَ الْجَوَابَ، وَالشَّافِعِيُّ هُنَالِكَ فِي سُورِ الْحَلْقَةِ-، فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ لَمْ يَسَعْنِي الصَّبْرُ، فَقُمْتُ قَائِمًا فِي سُورِ الْحَلْقَةِ، فَرَأَيْتُ إِنْسَانًا فَقُلْتُ لَهُ قُلْ: الْجَوَابُ كَذَا وَكَذَا، فَبَادَرَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ فَرَاغِ مَالِكٍ مِنَ السُّؤَالِ، فَأَضْرَبَ عَنْهُ مَالِكٌ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْجَوَابِ، فَخَالَفُوهُ -خَالَفُوا الرَّجُلَ الَّذِي أَسَرَّ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ بِالْجَوَابِ-.

فَقَالَ لَهُمْ: أَخْطَأْتُمْ وَأَصَابَ الرَّجُلُ، فَفَرِحَ الْجَاهِلُ بِإِصَابَتِهِ!!

وَهُوَ كَذَلِكَ دَائِمًا، كُلُّ جَاهِلٍ يُحِبُّ أَنْ يُوصَفَ بِالْعِلْمِ، فَلَوْ لَقِيتَ جَاهِلًا فَقُلْتَ لَهُ: يَا عَالِمُ؛ لَانْتَشَى مُنْتَفِخًا؛ حَتَّى لَرُبَّمَا تَفَتَّقَتْ أَزْرَارُهُ عَنِ انْتِفَاخِ صَدْرِهِ، وَرُبَّمَا تَفَتَّقَتْ ثِيَابُهُ مِنَ امْتِلَاءِ جِسْمِهِ غُرُورًا وَكِبْرًا!!

وَإِذَا لَقِيتَ جَاهِلًا فَوَصَفْتَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ لَأَوْسَعَكَ ضَرْبًا!!

قَالَ: فَفَرِحَ الْجَاهِلُ بِإِصَابَتِهِ، فَلَمَّا أَلْقَى السُّؤَالَ الثَّانِيَ أَقْبَلَ عَلَيَّ الْجَاهِلُ يَطْلُبُ مِنِّي الْجَوَابَ، فَقُلْتُ لَهُ: الْجَوَابُ كَذَا وَكَذَا، فَبَادَرَ بِالْجَوَابِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ مَالِكٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ الْجَوَابِ فَخَالَفُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَخْطَأْتُمْ وَأَصَابَ الرَّجُلُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَلَمَّا أَلْقَى السُّؤَالَ الثَّالِثَ قُلْتُ لَهُ: قُلْ: الْجَوَابُ كَذَا وَكَذَا، فَبَادَرَ بِالْجَوَابِ، فَأَعْرَضَ مَالِكٌ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَخَالَفُوهُ، فَقَالَ: أَخْطَأْتُمْ وَأَصَابَ الرَّجُلُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ادْخُلْ لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ بِمَوْضِعٍ -مَوْضِعُكَ بَيْنَ يَدَيَّ وَأَمَامَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا-، فَدَخَلَ الرَّجُلُ طَاعَةً مِنْهُ لِمَالِكٍ، وَبَقِيَ الشَّافِعِيُّ، وَجَلَسَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ فِرَاسَةً: قَرَأْتَ الْمُوَطَّأَ -لِأَنَّ شَكْلَهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ الْمُوَطَّأَ-؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَنَظَرْتَ ابْنَ جُرَيْجٍ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَلَقِيتَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: الْعِلْمُ هَذَا مِنْ أَيْنَ؟

قَالَ: إِلَى جَانِبِي غُلَامٌ شَابٌّ يَقُولُ لِي: قُلِ الْجَوَابَ كَذَا وَكَذَا، فَكُنْتُ أَقُولُ.

قَالَ: فَالْتَفَتَ مَالِكٌ، وَالْتَفَتَ النَّاسُ بِأَعْنَاقِهِمْ لِالْتِفَاتِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ لِلْجَاهِلِ: قُمْ فَمُرْ صَاحِبَكَ بِالدُّخُولِ إِلَيْنَا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا مِنْ مَالِكٍ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ الْجَاهِلُ فِيهِ جَالِسًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَأَمَّلَنِي سَاعَةً وَقَالَ: أَنْتَ الشَّافِعِيُّ؟!!

لَقَدْ طَالَ الْمَدَى، وَتَغَيَّرَتِ الْحَالُ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ شَعْرٍ فِي عَارِضَيْهِ، وَالْآنَ عَادَ يَتَفَتَّقُ رُجُولَةً وَشَبَابًا.

أَنْتَ الشَّافِعِيُّ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَنَزَلَ عَنْ كُرْسِيِّهِ، وَقَالَ: أَتْمِمْ هَذَا الْبَابَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ؛ حَتَّى نَنْصَرِفَ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ لَكَ، الْمَنْسُوبُ إِلَيَّ!!

نَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَنِ الْأَئِمَّةِ؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُ مِنْ جَوَابٍ؟! وَمَاذَا تَنْتَظِرُ مِنْ بَلَاغَةٍ؟! وَمَاذَا تَنْتَظِرُ مِنْ فَصَاحَةٍ؟!

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَأَلْقَيْتُ أَرْبَعَ مِائَةِ مَسْأَلَةٍ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ، فَمَا أَجَابَنِي أَحَدٌ بِجَوَابٍ، وَاحْتَجْتُ إِلَى أَنْ آتِيَ بِأَرْبَعِ مِائَةِ جَوَابٍ، فَقُلْتُ: الْأَوَّلُ كَذَا وَكَذَا، وَالثَّانِي كَذَا وَكَذَا، حَتَّى سَقَطَ الْقُرْصُ وَصَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ، فَضَرَبَ مَالِكٌ بِيَدِهِ إِلَيَّ، فَلَمَّا وَصَلْتُ الْمَنْزِلَ رَأَيْتُ بِنَاءً غَيْرَ الْأَوَّلِ فَبَكَيْتُ!

فَقَالَ: مِمَّ بُكَاؤُكَ؟!! كَأَنَّكَ خِفْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَنْ قَدْ بِعْتُ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا!!

قُلْتُ: هُوَ -وَاللهِ- ذَلِكَ.

قَالَ: طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا، هَذِهِ هَدَايَا خُرَاسَانَ، وَهَدَايَا مِصْرَ، وَالْهَدَايَا تَجِيءُ مِنْ أَقَاصِيِّ الدُّنْيَا.

كَانَ مَالِكٌ فِي عُسْرَتِهِ يَعِيشُ عَلَى صِلَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، الْفَقِيهِ إِمَامِ أَهْلِ مِصْرَ وَإِمَامِ الدُّنْيَا -أَيْضًا- مَعَ مَالِكٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-.

فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَلُ الْهَدَايَا، وَيَرُدُّ الصَّدَقَةَ، وَإِنَّ لِي ثَلَاثَ مِائَةِ خِلْعَةً مِنْ رَقِيقِ خُرَاسَانَ وَقَبَاطِيِّ مِصْرَ، وَعِنْدِي عَبِيدٌ بِمِثْلِهَا لَمْ تَسْتَكْمِلِ الْحُلُمَ، فَهُمْ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ، وَفِي صَنَادِيقِي تِلْكَ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ أُخْرِجُ زَكَاتَهَا عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ، فَلَكَ مِنِّي نِصْفُهَا.

قُلْتُ: إِنَّكَ مَوْرُوثٌ وَأَنَا مَوْرُوثٌ، فَلَا يَبِيتُ جَمِيعُ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ إِلَّا تَحْتَ خَاتَمِي؛ لِيَجْرِيَ مُلْكِي عَلَيْهِ، فَإِنْ حَضَرَنِي أَجَلِي كَانَ لِوَرَثَتِي دُونَ وَرَثَتِكَ، وَإِنْ حَضَرَكَ أَجَلُكَ كَانَ لِي دُونَ وَرَثَتِكَ -فَأَبَى إِلَّا الْعِلْمَ-.

فَتَبَسَّمَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَبَيْتَ إِلَّا الْعِلْمَ.

فَقُلْتُ: لَا يُسْتَعْمَلُ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَمَا بِتُّ إِلَّا وَجَمِيعُ مَا وَعَدَنِي بِهِ تَحْتَ خَتْمِي، فَلَمَّا كَانَ فِي غَدَاةِ غَدٍ؛ صَلَّيْتُ الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَانْصَرَفْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ أَنَا وَهُوَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَدُهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ إِذْ رَأَيْتُ كُرَاعًا عَلَى بَابِهِ مِنْ جِيَادِ خُرَاسَانَ، وَبِغَالًا مِنْ مِصْرَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا رَأَيْتُ كُرَاعًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا.

فَقَالَ: هُوَ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ!

فَقُلْتُ لَهُ: دَعْ لَكَ مِنْهَا دَابَّةً.

فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِيي مِنَ اللهِ أَنْ أَطَأَ تُرَابَ قَرْيَةٍ فِيهَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ بِحَافِرِ دَابَّةٍ!!

فَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّتَهُ فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَقَدْ عَلَتْ بِهِ السِّنُّ!!

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَعَلِمْتُ أَنَّ وَرَعَ الْإِمَامِ مَالِكٍ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ ارْتَحَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَأَنَا أَسُوقُ خَيْرَ اللهِ وَنِعْمَتَهُ، ثُمَّ أَنْفَذْتُ مَنْ يُعْلِمُ بِخَبَرِي، فَلَمَّا وَصَلْتُ الْحَرَمَ خَرَجَتِ الْعَجُوزُ وَنِسْوَةٌ مَعَهَا، فَضَمَّتْنِي إِلَى صَدْرِهَا.

فَلَمَّا هَمَمْتُ بِالدُّخُولِ قَالَتْ لِيَ الْعَجُوزُ -يَعْنِي: أُمَّهُ-: إِلَى أَيْنَ عَزَمْتَ؟

فَقُلْتُ: إِلَى الْمَنْزِلِ.

فَقَالَتْ: هَيْهَاتَ! تَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ بِالْأَمْسِ فَقِيرًا، وَتَعُودُ إِلَيْهَا مُتْرَفًا تَفْخَرُ عَلَى بَنِي عَمِّكَ بِذَلِكَ!

فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ؟

فَقَالَتْ: نَادِ بِالْأَبْطَحِ فِي الْعَرَبِ بِإِشْبَاعِ الْجَائِعِ، وَحَمْلِ الْمُنْقَطِعِ، وَكِسْوَةِ الْعُرَاةِ؛ فَتَرْبَحَ ثَنَاءَ الدُّنْيَا وَثَوَابَ الْآخِرَةِ.

فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَتْ بِهِ، وَسَارَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الرِّجَالُ عَلَى آبَاطِ الْإِبِلِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكًا، فَبَعَثَ إِلَيَّ يَسْتَحِثُّنِي عَلَى الْفِعْلِ -يَعْنِي: عَلَى الْكَرَمِ-، وَيَعِدُنِي أَنَّهُ يَحْمِلُ إِلَيَّ فِي كُلِّ عَامٍ مِثْلَ مَا صَارَ إِلَيَّ مِنْهُ، وَمَا دَخَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَأَنَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ مَعِي إِلَّا عَلَى بَغْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا -بِأَمْرِ أُمِّهِ.. بِأَمْرِ الْعَجُوزِ، وَحُقَّ لَهَا؛ فَمِثْلُ هَذِهِ تَلِدُ الْأَئِمَّةَ، وَتَعْلَمُ أَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى تَرْبِيَتِهِ؛ إِذْ تَرَبَّى يَتِيمًا -رَحِمَهُ اللهُ--.

فَوَقَعَتِ الْمَقْرَعَةُ -الَّتِي يَقْرَعُ بِهَا الْبَغْلَةَ-، فَنَاوَلَتْنِي إِيَّاهَا أَمَةٌ عَلَى كَتِفِهَا قِرْبَةٌ، فَأَخْرَجْتُ لَهَا خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، فَقَالَتْ لِيَ الْعَجُوزُ: مَا أَنْتَ صَانِعٌ؟!!

فَقُلْتُ: أُجِيزُهَا عَلَى فِعْلِهَا.

فَقَالَتِ: ادْفَعْ إِلَيْهَا جَمِيعَ مَا تَأَخَّرَ مَعَكَ.

قَالَ: فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا، وَدَخَلْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا بِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَّا مَدْيُونًا، وَأَقَامَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- يَحْمِلُ إِلَيَّ فِي كُلِّ عَامٍ مِثْلَ مَا كَانَ دَفَعَ إِلَيَّ أَوَّلًا إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ ضَاقَ بِي الْحِجَازُ، وَخَرَجْتُ إِلَى مِصْرَ، فَعَوَّضَنِي اللهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الْحَكِيمِ، فَقَامَ بِالْكُلْفَةِ، فَهَذَا جَمِيعُ مَا لَقِيتُهُ فِي سَفَرِي؛ فَافْهَمْ ذَلِكَ يَا رَبِيعُ)).

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «النَّاسُ إِلَى العِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي اليَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَحَاجَتُهُ إِلَى العِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ».

وَرُوِّينَا عَنِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ قَالَ: «طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ»، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((خَرَجْتُ مَعَ الشَّافِعِيِّ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ هُوَ سَاكِنًا فِي الْعُلْوِ، وَنَحْنُ فِي الْأَوْسَاطِ -يَعْنِي: فِي النُّزُلِ الَّذِي نَزَلُوهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ-، فَكَانَ الشَّافِعِيُّ سَاكِنًا فِي الْعُلْوِ وَنَحْنُ فِي الْأَوْسَاطِ، فَرُبَّمَا خَرَجْتُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَأَرَى الْمِصْبَاحَ، فَأَصِيحُ بِالْغُلَامِ فَيَسْمَعُ صَوْتِي، فَيَقُولُ: ارْقَ، فَأَرْقَى، فَإِذَا قِرْطَاسٌ وَدَوَاةٌ.

فَأَقُولُ: مَهْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟!

فَقَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي مَعْنَى حَدِيثٍ أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ، فَخِفْتُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيَّ، فَأَمَرْتُ بِالْمِصْبَاحِ وَكَتَبْتُهُ)).

 ((طَرَفٌ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

عِبَادَ اللهِ! مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ يَدْعُونَ إِلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَسُلُوكِ طَرِيقِهِمْ، وَاتِّبَاعِ آثَارِهِمْ.

قَالَ الْآجُرِّيُّ: فِي ((الشَّرِيعَةِ)) (1/301): ((عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ؛ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وسُنَنِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنِ اتَّبَعَهُم بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ أَئمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ، إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ مِثْلَ: الْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفيَانَ الثَّورِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، ومَنْ كَانَ عَلَى مِثلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةِ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ)).

وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِمَامِ الْعَلَمِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَهَذِهِ عَقِيدَتُهُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْإِيمَانِ، قَالَ السَّفَّارِينِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي عَقِيدَتِهِ:

إِيمَانُنَا قَوْلٌ وَقَصْدٌ وَعَمَلْ

تَزِيدُهُ التَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالزَّلَلْ

  وَنَقَلَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: «وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَنِيَّةٌ، لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَّا بِالْآخَرِ».

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «الْأُمِّ» فِي كِتَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ: «وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَنْ أَدْرَكْنَاهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَنِيَّةٌ، لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَّا بِالْآخَرِ».

فَهَذَا إِجْمَاعُ أَصْحَابِ نَبِيِّكَ ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَنِيَّةٌ، فَالْعَمَلُ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَمِنْ حَقِيقَتِهِ، وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

وَهَذَا اعْتِقَادُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ أَثْنَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ، وَهَنَّاهُمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، هُمْ أَدَّوْا إِلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامًّا وَخَاصًّا، وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا، وَعَرَفُوا مِنْ سُنَّتِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهِلْنَا، وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ، وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يُرْضَى أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهِ سُنَّةً إِلَى قَوْلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِنِ اجْتَمَعُوا، أَوْ إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنْ تَفَرَّقُوا».

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: «هَكَذَا نَقُولُ، وَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ».

 

 ((الشَّافِعِيُّ حَامِلُ لِوَاءِ الدِّفَاعِ عَنِ السُّنَّةِ فِي عَصْرِهِ))

((إِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ؛ فَقَدْ حَفِظَهَا اللهُ -تَعَالَى- كَمَا حَفِظَ كِتَابَهُ، وَقَيَّضَ اللهُ لَهَا عُلَمَاءَ نُقَّادًا يَنْفُونَ عَنْهَا تَحْرِيفَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَيَذُبُّونَ عَنْهَا كُلَّ مَا أَلْصَقَهُ بِهَا الْجَاهِلُونَ، وَالْكَذَّابُونَ، وَالْمُلْحِدُونَ)).

وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ الْمُدَافِعِينَ عَنْ سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ: الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الرِّسَالَةِ»، وَنَقَلَهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَدْخَل»: «قَدْ وَضَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوضِعَ الَّذِي أَبَانَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ؛ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ وَحَرَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِه, وَأَبَانَ مِنْ فَضِيلَتِهِ؛ بِمَا قَرَنَ بَينَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171].

وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62].

فَجَعَلَ كَمَالَ ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ، وَاتِّبَاعَ سُنَنِ رَسُولِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، مَعَ آيٍ سِوَاهَا ذَكَرَ فِيهِنَّ الْكِتَابَ وَالْحِكمَةَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ».

{يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: وَهُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْيًا أَوَّلًا, وَيُعَلِّمُهُمُ {الحِكْمَةَ} وَهِيَ السُّنَّةُ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ ﷺ.

«قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

فَقَالَ بَعضُ أَهلِ الْعِلْم: أُولُوا الْأَمْرِ: أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُم}: أَيْ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُم فِي شَيْءٍ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: هُمْ وَأُمَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِمْ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُولُ.

ثمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَاعَتُهُ، فَقَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وَاحْتَجَّ -أَيْضًا- فِي فَرْضِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ بِقَولِهِ تَعالَى: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَبِقَولِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7], إِلَى غَيرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتَ عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ, فَلَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّ أَمرِهِ؛ لِفَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ ».

* لَقَد أَمَرَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ  وَطَاعَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«وَالآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعنَى كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ، وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ, وَهِيَ كَالأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ.

وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، مَنْ جَحَدَ وَاحِدًا مِنهُمَا فَقَد جَحَدَ الآخَرَ وَكَذَّبَ بِهِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ دَائرَةِ الْإِسلَامِ بإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلمِ وَالْإِيمَانِ» .

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ)).

فَلَا يُقَدَّمُ قَوْلُ أَحَدٍ وَلَا رَأْيُهُ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وَلَكِنْ لَمَّا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ وَفَشَا دَاءُ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ؛ بَلْ وَلِلْمَذَاهِبِ الْعَقَدِيَّةِ الَّتِي أُسِّسَتْ عَلَى غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.. لَمَّا فَشَا وَانْتَشَرَ هَذَا الدَّاءُ فِي الْأُمَّةِ؛ صَارُوا يَتَعَصَّبُونَ لِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ مُصَادِمَةً لِلنَّاسِ صَرَاحَةً، وَيَقُولُونَ: لَعَلَّ الْإِمَامَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ سِوَى هَذَا الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا فَقَالَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ فَهِمَ مِنْهُ هَذَا الَّذِي قَالَ بِهِ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَدَرَّعُونَ بِهِ فِي الْأَخْذِ بِالْآرَاءِ وَمُصَادَمَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ.

الشَّافِعِيُّ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ، وَيُوصِيهِمْ بِتَرْكِ قَوْلِهِ إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ، قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ وَأَصَّلْتُ مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ خِلَافُ مَا قُلْتُ؛ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ قَوْلِي)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُلُّ مَسْأَلَةٍ صَحَّ فِيهَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْتُ؛ فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي)).

((إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي)).

الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا رَوَى حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ عُرْضِ الْمَجْلِسِ: أَتَقُولُ بِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي: أَتَأْخُذُ بِهِ-؟!!

غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: ((وَيْحَكَ! أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا مِنْ كَنِيسَةٍ؟! أَرَأَيْتَ فِي عُنُقِي صَلِيبًا؟! أَرَأَيْتَ عَلَى وَسَطِي زُنَّارًا؟! أَأَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَا أَعْمَلُ بِهِ؟!!)).

وَالْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا عَلِمَ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنِ الرَّسُولِ أَلَّا يَعْمَلَ بِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَالِفَهُ.

 ((الشَّافِعِيُّ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَفِرْسَانِهَا))

الشَّافِعِيُّ مِمَّنْ تُؤْخَذُ عَنْهُمُ اللُّغَةُ، فَهُوَ إِمَامٌ -رَحِمَهُ اللهُ-، كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ أَفْصَحِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ دَارَ فِي الْبَوَادِي يَطْلُبُ لُغَةَ الْعَرَبِ، فَبَقِيَ مَا بَقِيَ هُنَالِكَ عَشْرَ سِنِينَ بَيْنَ أَبْنَاءِ قَبِيلَةٍ مِنْ أَفْصَحِ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ قَبِيلَةُ «هُذَيْلٍ»؛ حَتَّى قَالَ الْأَصْمَعِيُّ رَاوِيَةُ الْعَرَبِ الْأَكْبَرُ: «صَحَّحْتُ شِعْرَ الْهُذَلِيِّينَ عَلَى فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ».

وَكَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَبَابِهِ يَكُونُ فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ شُيُوخِهِ يُحَدِّثُونَ، وَقَدْ بَلَغُوا الثُّرَيَّا فِي عِلْمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، فَإِذَا مَرَّتِ اللَّفْظَةُ الْغَرِيبَةُ فِي الْحَدِيثِ؛ يَقُولُ لَهُ شَيْخُهُ: مَا عِنْدَكَ فِيهَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ يُرِيدُ الْمَعْنَى -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَالشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مِمَّنْ تُؤْخَذُ عَنْهُمُ اللُّغَةُ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ وَنَصَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر فِي حَاشِيَةِ تَحْقِيقِهِ عَلَى «الرِّسَالَةِ».

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الرِّسَالَة)) (ص: 48): ((فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ مَا بَلَغَهُ جَهْدُهُ؛ حَتَّى يَشْهَدَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افتُرِضَ عَلَيهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيرِ ذَلِكَ.

وَمَا ازْدَادَ مِنَ العِلْمِ بِاللِّسَانِ الذِي جَعَلَهُ اللهُ لِسَانَ مَنْ خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ آخِرَ كُتُبِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ، كَمَا عَلَيهِ يَتَعَلَّمُ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ فِيهَا، وَيَأتِي البَيتَ وَمَا أُمِرَ بِإتْيَانهِ، وَيَتَوَجَّهُ لِمَا وُجِّهَ لَهُ، وَيَكُونُ تَبَعًا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ، وَنُدِبَ إلَيْهِ، لَا مَتْبُوعًا)).

لَقَدْ شَوَّهَ أقْوَامٌ مِنْ بَنِي جِلدَتِنَا تُرَاثَنَا، وتَارِيخَنَا، وَلُغَتَنَا، وَلَو كَانَ القَائِمُ عَلَى تَوجِيهِ العَقْلِ العَرَبيِّ يَهُودًا؛ مَا وَصَلُوا بِهِ إلَى أبْشَعَ مِنْ ذَلِكَ!!

وَإذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَكَيفَ نَحْمِي كِيَانًا كَرِهْنَاهُ، وَتَارِيخًا دنَّسنَاهُ، وتُرَاثًا ازْدَرَينَاهُ، وَأُمَّةً صَوَّرَتْهَا لَنَا الدِّرَاسَاتُ الضَّارَّةُ فِي صُورَةِ شَرِّ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَجْهَلِ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَجْفَى أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟!!

لَقَدْ صَوَّرُوا أدَبَ الأمَّةِ فِي صُورَةِ أدَبٍ سَطْحِيٍّ سَاذَجٍ، وَعِلْمَهَا كَعِلْمِ حَلَّاقِ القَريةِ، وَنَحْوَهَا مَبْنِيًّا عَلَى شَوَاهدِ زُورٍ، وَشِعْرَهَا مَزَامِيرَ فِي زَفَّةِ نِفَاقٍ...

وَهَذِهِ دُرَرٌ نَفِيسَةٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ فَضْلِ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَفَضْلِ النَّاطِقِينَ بِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لِسَانُ العَرَبِ أَوْسَعُ الأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيءٌ عَلَى عَامَّتِهَا؛ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ.

وَالعِلْمُ بِهِ -أَيْ: بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ- عِنْدَ العَرَبِ كَالعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الفِقْهِ: لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيءٌ.

فَإِذَا جُمِعَ عِلْمُ عَامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ بِهَا؛ أَتَى عَلَى السُّنَنِ، وَإِذَا فُرِّقَ عِلْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُمْ فِي العِلْمِ طَبَقَاتٌ: مِنْهُمُ الجَامِعُ لِأَكْثَرِهِ وَإِنْ ذَهَبَ عَلَيهِ بَعْضُهُ، وَمِنْهُمُ الجَامِعُ لِأقَلَّ مِمَّا جَمَعَ غَيْرُهُ.

وَلَيْسَ قَلِيلُ مَا ذَهَبَ مِنَ السُّنَنِ عَلَى مَنْ جَمَعَ أَكْثَرَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنْ يُطْلَبَ عِلْمُهُ عِنْدَ غَيْرِ طَبَقَتِهِ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، بَلْ يُطْلَبُ عِنْدَ نُظَرَائِهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤْتَى عَلَى جَمِيعِ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي-، فَيَتَفَرَّدُ جُمْلَةُ العُلَمَاءِ بِجَمْعِهَا، وَهُوَ دَرَجَاتٌ فِيمَا وَعَوْا مِنْهَا.

وَهَكَذَا لِسَانُ العَرَبِ عِنْدَ خَاصَّتِهَا وَعَامَّتِهَا: لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيءٌ عَلَيْهَا، وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ قَبِلَهُ عَنْهَا، وَلَا يَشْرَكُهَا فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهَا فِي تَعَلُّمِهِ مِنْهَا، وَمَنْ قَبِلَهُ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ لِسَانِهَا.

وَإِنَّمَا صَارَ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ بِتَرْكِهِ، فَإِذَا صَارَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ، وَعِلْمُ أَكْثَرِ اللِّسَانِ فِي أَكْثَرِ العَرَبِ أَعَمُّ مِنْ عِلْمِ أَكْثَرِ السُّنَنِ فِي العُلَمَاءِ)).

فَهَذَا هُوَ الشَّافِعِيُّ: يَذْكُرُ اتِّسَاعَ لِسَانِ العَرَبِ؛ حَتَّى لَيَسْتَحِيلَ أَنْ يُحِيطَ بِهِ غَيْرُ النَّبِيِّ؛ وَلَكِنَّهُ كَالسُّنَنِ تَتَفَرَّقُ عِنْدَ العُلَمَاءِ بِهَا، وَلَكِنَّهَا بِمَجْمُوعِهَا عِنْدَ مَجْمُوعِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ؛ فَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْهَا فِي مَظَانِّهَا؛ عِنْدَ العُلَمَاءِ بِهَا، وَلَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ العَرَبِيُّ إِذَا عَزَبَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ؛ وُجِدَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُخْطِئُ مَجْمُوعَهُمْ.

وَاللِّسَانُ العَرَبِيُّ مُتَّبَعٌ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالفَضْلِ فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ  ﷺ.

قَالَ أَحْمَد شَاكِر مُعَلِّقًا عَلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: ((فِي هَذَا مَعْنًى سِيَاسِيٌّ وَقَوْمِيٌّ [كَذَا] جَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الأُمَّةَ الَّتِي نَزَلَ بِلِسَانِهَا الكِتَابُ الكَرِيمُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْمَلَ عَلَى نَشْرِ دِينِهَا، وَنَشْرِ لِسَانِهَا، وَنَشْرِ عَادَاتِهَا وَآدَابِهَا بَيْنَ الأُمَمِ الأُخْرَى، وَهِيَ تَدْعُوهَا إِلَى مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهَا مِنَ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ؛ لِتَجْعَلَ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ الإِسْلَامِيَّةِ أُمَّةً وَاحِدَةً، دِينُهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَلُغَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَمُقَوِّمَاتُ شَخْصِيَّتِهَا وَاحِدَةٌ، وَلِتَكُونَ أُمَّةً وَسَطًا، وَيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.

فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذِهِ العُصْبَةِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ فَعَلَيهِ أَنْ يَعْتَقِدَ دِينَهَا، وَيَتَّبِعَ شَرِيعَتَهَا، وَيَهْتَدِيَ بِهَدْيِهَا، وَيَتَعَلَّمَ لُغَتَهَا، وَيَكُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَبَعًا، لَا مَتْبُوعًا)).

قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللهُ بِكِتَابِهِ العَرَبَ بِلِسَانِهَا عَلَى مَا تَعْرِفُ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَانَ مِمَّا تَعْرِفُ مِنْ مَعَانِيهَا: اتِّسَاعُ لسَانِهَا، وَأنَّ فِطْرَتَهُ أنْ يُخَاطِبَ بِالشَّيءِ مِنْهُ عَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ العَامُّ الظَّاهِرُ، وَيُستَغْنَى بِأوَّلِ هَذَا مِنْهُ عَنْ آخِرِهِ، وعَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ العَامُّ، وَيَدخُلُهُ الخَاصُّ.

فَيُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِبَعْضِ مَا خُوطِبَ بِه فِيهِ، وَعَامَّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الخَاصُّ، وَظَاهِرًا يُعْرَفُ فِي سِيَاقِهِ أنَّهُ يُرَادُ بِهِ غَيرُ ظَاهِرِهِ.

فَكُلُّ هَذَا مَوجُودٌ عِلمُهُ فِي أوَّلِ الكَلَامِ أوْ وَسَطِهِ أوْ آخِرِهِ.

وَتَبْتَدِئُ الشَّيءَ مِنْ كَلَامِهَا يُبِينُ أوَّلُ لَفْظِهَا فِيهِ عَنْ آخِرِهِ، وَتَبتَدِئُ الشَّيءَ يُبِينُ آخِرُ لَفْظِهَا مِنْهُ عَنْ أوَّلِهِ.

وَتَكَلَّمُ بِالشَّيء تُعَرِّفُهُ بِالمَعْنَى دُونَ الإيضَاحِ بِاللَّفْظِ كَمَا تُعَرِّفُ الإشَارَةُ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا عِنْدَهَا مِنْ أعَلَى كَلَامِهَا؛ لِانْفِرَادِ أهْلِ عِلْمِهَا بِهِ دُونَ أهْلِ جَهَالَتِهَا.

وَتُسَمِّي الشَّيءَ الوَاحِدَ بِالأسْمَاءِ الكَثِيرَةِ، وَتُسمِّي بِالاسْمِ الوَاحِدِ المَعَانِيَ الكَثِيرَةَ.

وَكَانَتْ هَذِهِ الوجُوهُ التِي وَصَفْتُ اجْتِمَاعَهَا فِي مَعْرِفَةِ أهْلِ العِلْمِ مِنْهَا -وإنِ اختَلَفَت أسبَابُ مَعرِفَتِهَا- مَعرفَةً [أَيْ: مَعْرُوفةً] وَاضِحَةً عِنْدَهَا، وَمُستَنكَرًا عِنْدَ غَيرِهَا مِمَّنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا، وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الكِتَابُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ، فَتكلَّفَ القولَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يجهَلُ بعضَهُ.

ومَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ تُثْبِتْهُ مَعْرِفَتُهُ؛ كَانَتْ مُوَافقتُهُ لِلصَّوَابِ -إنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيثُ لَا يَعْرِفُهُ- غَيْرَ مَحْمُودَةٍ -واللهُ أَعْلَمُ-، وَكَانَ بِخَطَئِهِ غَيرَ مَعْذُورٍ إذَا مَا نَطَقَ فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَينَ الخَطَأِ وَالصَّوَابِ فِيهِ)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ((اللِّسَانُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِسَانُ العَرَبِ، فَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ العَزِيزَ، وَجَعَلَهُ لِسَانَ خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ: يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا اللِّسَانُ الأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَرْغُوبًا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ بِأَعْجَمِيَّةٍ)).

لَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الأُمَّةِ فِي صَدْرِهَا الأَوَّلِ عَلَى وَعْيٍ كَامِلٍ بِأَثَرِ اللُّغَةِ فِي تَكْوِينِ الأُمَّةِ، وَخَطَرِهَا فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّةِ المُسْلِمِ؛ وَلِذَلِكَ حَرَصُوا حِرْصًا شَدِيدًا عَلَى لُغَةِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَشَدَّدُوا النَّكِيرَ عَلَى مَنْ حَادَ عنْهَا إلَى غَيرِهَا، وَاستَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذي هُوَ خَيرٌ.

وَخُلَاصَةُ القَوْلِ: أَنَّ العَرَبيَّةَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهَا لِفَهْمِ مَقَاصِدِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قُرْبَةٌ مِن أَجَلِّ القُرُبَاتِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يُقِيمُ بِهِ المُسْلِمُ فَرْضَهُ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ)).

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((كَانَ الشَّافِعِيُّ مِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ اللُّغَةُ)).

 ((أَخْلَاقُ وَمُرُوءَةُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

الشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- كَانَ رَجُلًا لَا كَمِثْلِهِ الرِّجَالُ، كَانَ صَادِقًا، وَكَانَ شَهْمًا، وَكَانَ عَفِيفًا، وَكَانَ فَصِيحًا، وَكَانَ بَلِيغًا، وَكَانَ كَرِيمًا.

كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مُتَوَاضِعًا، وَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي هَضْمِ النَّفْسِ، وَبَذْلِ النُّصْحِ، قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ، وَمَا فِي قَلْبِي مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ)).

وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: ((سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَذَكَرَ مَا وَضَعَ مِنْ كُتُبِهِ، فَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَبَدًا)).

وَعَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: ((وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمَهُ النَّاسُ؛ أُوجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي)).

وَلَا يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِإِلْقَاءِ السَّمْعِ مَعَ التَّوَاضُعِ.

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَظِّمُونَ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةٌ عَلَى آدَابِهِمْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَعَلَى تَوْقِيرِهِمْ لِمُعَلِّمِيهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ.

وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عُوتِبَ عَلَى تَوَاضُعِهِ لِلْعُلَمَاءِ، فَقَالَ:

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي فَهُمْ يُكْرِمُونَهَا=وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا؛ هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ وَقْعَهَا)).

وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ -وَكَانَ الشَّافِعِيُّ مِمْرَاضًا، وَكَانَتِ الْبَوَاسِيرُ النَّازِفَةُ سَبَبَ مَوْتِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فَيَمْتَلِئُ خُفُّهُ مِنَ الدَّمِ النَّازِفِ مِنَ الْبَوَاسِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ لَهُ مُحِبًّا؛ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ فِيهِ لَمَّا مَرِضَ:

مَرِضَ الْحَبِيبُ فَعُدْتُهُ=فَمَرِضْتُ مِنْ حُزْنِي عَلَيْهِ

شُفِيَ الْحَبِيبُ فَعَادَنِي=فَبَرِئْتُ مِنْ نَظَرِي إِلَيْهِ

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ دَعَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ((قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَامُ)).

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ.. وَالشَّافِعِيُّ مِمَّنْ تُؤْخَذُ عَنْهُمُ اللُّغَةُ كَمَا قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ حَتَّى إِنَّ الْجَاحِظَ -وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي مَسَائِلِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ صَاحِبُ فِرْقَةٍ، كَانَتْ لَهُ جَمَاعَةٌ كَالْجَمَاعَاتِ الْحَاضِرَةِ، كَانَتْ لَهُ فِرْقَةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا: «الْجَاحِظِيَّةُ»، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ-، الْجَاحِظُ يَقُولُ: نَظَرْتُ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ، فَلَمْ أَرَ أَبْلَغَ وَلَا أَفْصَحَ مِنَ الْمُطَّلِبِيِّ -يَعْنِي: الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ-؛ كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُرُ الدُّرَّ -يَقُولُ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، الْجَاحِظُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ-، يَقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْإِمَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُرُ الدُّرَّ)).

الْآنَ عِنْدَنَا أَقْوَامٌ يَتَمَدَّحُونَ بِالْعِيِّ وَالْفَهَاهَةِ، وَيُعَيِّرُونَ مَنْ آتَاهُ اللهُ فَصَاحَةً، فَيَقُولُونَ: هَذَا مُتَكَلِّفٌ، هَذَا مُتَقَعِّرٌ، هَذَا كَذَا، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ!! حَمْقَى!

يَقُولُ الْجَاحِظُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: ((كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُر الدُّرَّ))، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ فَقَالَ: ((قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَامُ))؛ ابْتَسَمَ وَقَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي!!)).

قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((تَقُولُ: قَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ، وَأَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ))، أَمَّا أَنْ تَقُولَ: قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ سَيَقْتُلُنِي بِضَعْفِي.

قَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي)).

قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((تَقُولُ: أَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ، وَقَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ)).

قَالَ: ((وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْخَيْرَ)).

فَقَالَ: ((يَا رَبِيعُ! وَاللهِ لَوْ شَتَمْتَنِي لَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ)).

مِنْ عَظِيمِ ثِقَتِهِ بِهِ، وَمِنْ جَلِيلِ مَحَبَّتِهِ لَهُ.

هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَنْ تَقُولَ هَذَا لِأَحَدٍ؟!! تَقُولُ: لَوْ شَتَمْتَنِي؛ لَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ؟!!

وَكَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- جَوَادًا كَرِيمًا؛ فَقَدْ قَالَ الرَّبِيعُ: ((أَخَذَ رَجُلٌ بِرِكَابِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ لِي: أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَاعْذِرْنِي عِنْدَهُ -يَعْنِي: لِمَا يَرَاهُ مِنْ قِلَّتِهَا-!!)).

قَالَ الْمُزَنِيُّ: ((كُنْتُ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَوْمًا، فَخَرَجْنَا الأَكْوَامَ، فَمَرَّ بِهَدَفٍ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَرْمِي بِقَوسٍ عَرَبِيَّةٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ -وَكَانَ حَسَنَ الرَّمْيِ-، فَأَصَابَ بِأَسْهُمٍ.

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحْسَنْتَ، وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِهِ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، وَاعذِرْنِي عِنْدَهُ)).

وَقَالَ الرَّبِيعُ: ((كَانَ الشَّافِعِيُّ مَارًّا بِالحَذَّائِينَ، فَسَقَطَ سَوْطُهُ، فَوَثَبَ غُلَامٌ وَمَسَحَهُ بِكُمِّهِ وَنَاوَلَهُ، فَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ دَنَانِيرَ)).

قَالَ الرَّبِيعُ: تَزَوَّجْتُ، فَسَأَلَنِي الشَّافِعِيُّ: كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟

قُلْتُ: ثَلَاثِينَ دِينَارًا، عَجَّلْتُ مِنْهَا سِتَّةً، فَأَعْطَانِي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا)).

((مَفْهُومُ التَّجْدِيدِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الضَّلَالِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ لِلتَّجْدِيدِ إِجْمَالًا- هُوَ: إِعَادَةُ الدِّينِ إِلَى النَّحْوِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا تَفْصِيلًا؛ فَهُوَ: إِحْيَاءُ وَبَعْثُ مَا انْدَرَسَ مِنَ الدِّينِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ، وَتَنْزِيلُهُ عَلَى وَاقِعِ وَمُسْتَجَدَّاتِ الْحَيَاةِ؛ تَنْزِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا جَدَّ وَيَجِدُّ مِنْ وَقَائِعَ وَأَحْدَاثٍ، وَمُعَالَجَتُهُ مُعَالَجَةً نَابِعَةً مِنْ هَدْيِ الْوَحْيِ.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَاتِ الْمُجَدِّدِ؛ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي مَعْرِضِ حَدِيثِهِ عَنْ صِفَاتِ الْمُجَدِّدِ: ((أَنَّهُ يَكُونُ قَائِمًا بِالْحُجَّةِ، نَاصِرًا لِلسُّنَّةِ، لَهُ مَلَكَةُ رَدِّ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَى الْمُحْكَمَاتِ، وَقُوَّةُ اسْتِنْبَاطِ الْحَقَائِقِ وَالدَّقَائِقِ النَّظَرِيَّاتِ مِنْ نُصُوصِ الْفُرْقَانِ، وَإِشَارَاتِهِ، وَدَلَالَاتِهِ، وَاقْتِضَاءَاتِهِ مِنْ قَلْبٍ حَاضِرٍ وَفُؤَادٍ يَقْظَانَ)).

وَقَالَ الْعَظِيمُ آبَادِيُّ: ((إِذِ الْمُجَدِّدُ لِلدِّينِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، نَاصِرًا لِلسُّنَّةِ، قَامِعًا لِلْبِدْعَةِ، وَأَنْ يَعُمَّ عِلْمُهُ أَهْلَ زَمَانِهِ)).

وَقَالَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: ((فَظَهَرَ أَنَّ الْمُجَدِّدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ عَزْمُهُ وَهِمَّتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِحْيَاءَ السُّنَنِ وَنَشْرَهَا، وَنَصْرَ صَاحِبِهَا، وَإِمَاتَةَ الْبِدَعِ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَمَحْوَهَا، وَكَسْرَ أَهْلِهَا بِاللِّسَانِ، أَوْ تَصْنِيفَ الْكُتُبِ وَالتَّدْرِيسَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُجَدِّدًا الْبَتَّةَ؛ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ، مَشْهُورًا بَيْنَ النَّاسِ، مَرْجِعًا لَهُمْ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعَالِمُ بِكِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؛ فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي أَحْكَامِ النَّوَازِلِ، فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمُ الْإِفْتَاءُ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ، وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)) .

لَقَدْ دَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَدَلِ حَوْلَ مَسْأَلَةِ التَّجْدِيدِ، وَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ طَرَفَانِ لَا وَسَطَ بَيْنَهُمَا، وَالطَّرَفَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى فَهْمٍ وَاحِدٍ لِلْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّ التَّجْدِيدَ يَعْنِي هَدْمَ الثَّوَابِتِ، وَتَغْيِيرَ قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ.

فَاللِّيبْرَالِيُّونَ وَأَنْصَارُ حُرِّيَّةِ الْمَرْأَةِ وَالْإِعْلَامِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ يُرِيدُونَ الِانْعِتَاقَ مِنَ التُّرَاثِ وَالْمَوْرُوثِ، وَمَحْوَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ؛ لِإِنْشَاءِ تَصَوُّرٍ جَدِيدٍ يُنَاسِبُ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرِهِمْ طَبِيعَةَ الْعَصْرِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالْمُصَادَمَةِ مَعَ ثَوَابِتِ الدِّينِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَعْتَقِدُ أَصْحَابُ هَذَا التَّصَوُّرِ أَنَّ هَذَا هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فِي سَمَاحَتِهِ وَيُسْرِهِ.

وَالْعُلَمَاءُ وَالْمَشَايِخُ وَالْإِسْلَامِيُّونَ يَفْهَمُونَ التَّجْدِيدَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَيَعْتَبِرُونَ هَذَا خُرُوجًا عَلَى الدِّينِ، وَإِنْشَاءً لِدِينٍ جَدِيدٍ، وَهَدْمًا لِتُرَاثِ الْأُمَّةِ، وَمَحْوًا لِاجْتِهَادَاتِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ.

وَهَذَا التَّضَادُّ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يَنْتُجْ عَنْهُ تَوَافُقٌ صَحِيحٌ بَيْنَهُمَا؛ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْفَضِيلَةُ وَسَطًا بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ؛ كَالشَّجَاعَةِ: وَسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَكَالْكَرَمِ: وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ؛ فَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ فِي مَسْأَلَةِ تَجْدِيدِ الْخِطَابِ الدِّينِيِّ: وَسَطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَوَسُّطٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.

وَلَعَلَّ سَبَبَ الْخَلَلِ وَعَدَمِ التَّوَافُقِ هُوَ عَدَمُ تَحْدِيدِ الْمُصْطَلَحِ، وَعَدَمُ فَهْمِ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَ مَاذَا نَقِيسُ قَبْلَ أَنْ نَعْرِفَ كَمْ نَقِيسُ.

وَالسُّؤَالُ: هَلْ فِي الدِّينِ -أَصْلًا- مَا يُعْرَفُ بِتَجْدِيدِ الْخِطَابِ الدِّينِيِّ؟!!

وَالْجَوَابُ: بَلْ فِي الدِّينِ مَا يُعْرَفُ بِتَجْدِيدِ الدِّينِ، لَا تَجْدِيدِ الْخِطَابِ الدِّينِيِّ فَقَطْ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)).

وَيَبْقَى السُّؤَالُ: مَا مَعْنَى تَجْدِيدِ الدِّينِ؟!!

وَقَدْ أَجَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُقَيِّضُ لِلنَّاسِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِئَةٍ مَنْ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَنْفِي عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ  الْكَذِبَ، قَالَ: فَنَظَرْنَا؛ فَإِذَا فِي رَأْسِ الْمِئَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي رَأْسِ الْمِئَتَيْنِ الشَّافِعِيُّ)).

إِذَنْ؛ تَجْدِيدُ الدِّينِ -لَا الْخِطَابُ الدِّينِيُّ فَقَطْ- يَكُونُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَنَفْيُ مَا عَلَقَ بِهِ مِنَ الْأَفْكَارِ الشَّاذَّةِ، وَالْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَالْمَرْوِيَّاتِ الْمَكْذُوبَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْآرَاءِ عَلَى صَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ.

إِذَا تَمَّ تَجْدِيدُ الدِّينِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ جَاءَ تَجْدِيدُ الْخِطَابِ الدِّينِيِّ حَتْمًا؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَاسْتِعْصَاؤُهُ أَيِ: الْخِطَابُ الدِّينِيُّ- عَلَى التَّجْدِيدِ الْآنَ؛ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ تَوَجَّهَ إِلَى الْفَرْعِ مَعَ إِهْمَالِ الْأَصْلِ.

نَفْيُ الدَّخِيلِ عَنِ الْأَصِيلِ، وَتَنْقِيَةُ الْإِسْلَامِ بِأَصْلِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا عَلَقَ بِهِ مِنَ التَّفْسِيرَاتِ الشَّاذَّةِ، وَالْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْأَوْهَامِ الْمُسَيْطِرَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَكْذُوبَةِ: هُوَ التَّجْدِيدُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي يُرِيحُ النَّاسَ، وَيُثَبِّتُ أَرْكَانَ الْمُجْتَمَعِ عَلَى التَّوَافُقِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يُكَلِّفِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فِي الدِّينِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا طُلَّابَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((وَفِي هَذَا إِيجَابُ التَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ -أَيْضًا- قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ لَا يَعْلَمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَنَ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((نَدَبَ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ تَعَلُّمُهُ، وَإِنْذَارُ قَوْمِهِمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَهُوَ التَّعْلِيمُ)).

وَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنِيٌّ، وَمِنْهُ مَا هُوَ كِفَائِيٌّ.

وَالْفَرْضُ الْعَيْنِيُّ: هُوَ مَا يَخُصُّ كُلَّ مُسْلِمٍ بِعَيْنِهِ، وَيَشْمَلُ أَصْلَ الِاعْتِقَادِ، وَأُصُولَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ.

وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ تَحْمِي الْمُجْتَمَعَ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالْخُرَافَةِ، وَالْوُقُوعِ فِي بَرَاثِنِ جَمَاعَاتِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّشَيُّعِ وَالْخُرَافَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَالْفَرْضُ الْكِفَائِيُّ: هُوَ مَا يَلْزَمُ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ، وَيَسْقُطُ بِقِيَامِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِهِ.

وَمَعْرِفَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَخَصِّصِينَ بِذَلِكَ يَمْنَعُ الْعَوَامَّ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُخَالَفَاتِ فِي أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً بِلَا تَضَارُبٍ وَلَا تَصَادُمٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.

 ((الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ))

إِنَّ مِنْ فَضْلِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَى أُمَّتِنَا أَنْ جَعَلَ مِنْهَا عُلَمَاءَ مُجَدِّدِينَ، فَقِهُوا مُرَادَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمُرَادَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبَيَّنُوهُ لِلنَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْعُلَمَاءِ الْمُجَدِّدِينَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ يُقَيِّضُ لِلنَّاسِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِئَةٍ مَنْ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَنْفِي عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ  الْكَذِبَ، قَالَ: فَنَظَرْنَا؛ فَإِذَا فِي رَأْسِ الْمِئَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي رَأْسِ الْمِئَتَيْنِ الشَّافِعِيُّ)).

وَقَدْ بَنَى الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مَذْهَبَهُ عَلَى فَهْمِ مَقَاصِدِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَفَهْمِ الْوَاقِعِ، قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((آمَنْتُ بِاللهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَآمَنْتُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وبِما جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى مُرَادِ رَسُول اللهِ ﷺ )).

كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- نَافِذَ الْبَصَرِ، دَقِيقَ الِاسْتِنْبَاطِ، قَوِيَّ الْحُجَّةِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ، نَاصِعَ الْبَيَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَوَّلَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ.. عَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ: قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا -وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ فَاسْتَبْعَدَ الدَّلَالَةَ مِنْهَا عَلَى ذَلِكَ-، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}؛ أَيْ: إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ نُحَسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ، وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44].

لَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَظِيمَ الْعَقْلِ جِدًّا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ هُوَ كَالْمُطَّلَبِيِّ الَّذِي مَلَأَ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُمَيِّزُهُ: وُفُورُ عَقْلِهِ.

 كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَقْلًا، وَلَوْ أَنَّكَ تَتَبَّعْتَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ((مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ))، وَكَذَا مَا كُتِبَ فِي مَنَاقِبِهِ؛ لَعَلِمْتَ وُفُورَ عَقْلِ هَذَا الرَّجُلِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

وَ((الرِّسَالَةُ)) لِلشَّافِعِيِّ عَظِيمَةٌ جِدًّا؛ حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ((لَمَّا نَظَرْتُ فِي ((الرِّسَالَةِ)) لِلشَّافِعِيِّ أَذْهَلَتْنِي، ثُمَّ مَدَحَهُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي اسْتِدْلَالِهِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَدْعُو اللهَ لَهُ)) .

 وَهَذَا كَلَامُ إِمَامٍ ثَبْتٍ جَبَلٍ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَمَّا نَظَرَ فِي رِسَالَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ شَاكِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا أَعْلَمُ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَثْقَبُ ذِهْنًا مِنْهُ، وَلَا أَنْسَبُ رَأْيًا)).

وَهُوَ كَذَلِكَ..

لَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَالِمًا مُتَثَبِّتًا فَقِيهًا؛ حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- يَقُولُ: ((إِنَّهُ مَا قَامَتْ رُؤُوسُنَا -نَحْنُ أَهْلَ السُّنَّةِ- إِلَّا عِنْدَمَا جَاءَ الشَّافِعِيُّ))؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابَ الْجَدَلِ كَانُوا يَعْتَدُونَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَذِيءِ الْكَلَامِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ السُّنَّةِ قَبْلَ دُخُولِ الشَّافِعِيِّ بَغْدَادَ، وَلُقْيَاهُ مَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنْ عُلَمَائِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى أُولَئِكَ الْمُجَادِلِينَ مِمَّنْ أُوتُوا جَدَلًا حَتَّى دَخَلَ الشَّافِعِيُّ، فَأَدْخَلَهُمْ فِي أَقْمَاعِ السِّمْسِمِ، مَا زَالَ يَكْبِتُهُمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ فِي جُحُورِهِمْ، وَقَامَتْ قَائِمَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-، وَالشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- كَانَ قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَكَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ أَفْتَى فِي أَهْلِ الْكَلَامِ لِقَاءَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَلَامِ، مُعْرِضِينَ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ بِالْفَتْوَى الْمَعْرُوفَةِ، قَالَ: ((حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ: أَنْ يُحْمَلُوا عَلَى الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَنْ يُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَأَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذَا جَزَاءُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ)).

فَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ، وَمَزَايَاهُ عَدِيدَةٌ، وَمَنَاقِبُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ وَمَشْهُورَةٌ، أُلِّفَتْ فِيهِ الْكُتُبُ، أَلَّفَهَا الْأَئِمَّةُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، الشَّافِعِيُّ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- تَلْحَظُ شَيْئًا فِي كَلَامِهِ، وَتَلْحَظُ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ الْمُتَبَدِّي فِي ثَنَايَا قَوْلِهِ، وَفِي تَضَاعِيفِ فِعْلِهِ، وَفِي كُلِّ حَيَاتِهِ لِلْعِلْمِ، ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ لِلْعِلْمِ، وَتِلْكَ الْحَرَكَةُ مِنْ أَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَتِلْكَ الْوَفْرَةُ الْمَوْفُورَةُ مِنْ صَرْفِ النِّعْمَةِ كُلِّ النِّعْمَةِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ، وَلِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ، وَلِإِكْرَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلِلْقِيَامِ عَلَى شَأْنِ الْعِلْمِ مَعَ الْإِخْلَاصِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَعَ الْعِبَادَةِ الْمَوْفُورَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَعَ كَرَمِ النَّفْسِ، وَمَعَ كُلِّ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي وَقْتِهِ، كَانَ أَحْمَدُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- لِشِدَّةِ فَقْرِهِ يَقِفُ فِي الْعِرَاقِ فِي بَغْدَادَ مُسْتَقْبِلًا مِصْرَ بَعْدَ أَنْ رَحَلَ إِلَيْهَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: ((لَوْ مَلَكْتُ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا؛ لَرَحَلْتُ إِلَى الشَّافِعِيِّ بِمِصْرَ!!)).

وَكَانَ كَمَا يَقُولُ وَلَدُهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ عَبْدُ اللهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.. يَقُولُ لِأَبِيهِ: ((يَا أَبَتِ! إِنِّي لَأَرَاكَ تَدْعُو لِلشَّافِعِيِّ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ لِنَفْسِكَ فِي الصَّلَاةِ؛ فَمَا ذَاكَ؟!!)) يَعْنِي: مَا هُوَ الشَّافِعِيُّ؟!! مَنْ كَانَ يَكُونُ هَذَا الشَّافِعِيُّ؟!!

فَقَالَ لَهُ: ((يَا وَلَدِي! لَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ كَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا وَالْعَافِيَةِ لِلْبَدَنِ)).

كَانَ الشَّافِعِيُّ كَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا وَالْعَافِيَةِ لِلْأَبْدَانِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنَ الْجَلَالَةِ -جَلَالَةِ الْعِلْمِ-، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ؛ حَتَّى إِنَّ الْأَصْمَعِيَّ -وَهُوَ رَاوِيَةُ الْعَرَبِ- يَقُولُ: ((صَحَّحْتُ شِعْرَ الْهُذَلِيِّينَ عَلَى فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-))، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ الْبَادِيَةَ يَجْمَعُ شِعْرَ الْهُذَلِيِّينَ، وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ الشِّعْرِ، وَمِنْ أَمْتَنِهِ، وَمِنْ أَصْعَبِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ غَرَابَةِ اللَّفْظِ وَحُوشِيِّ الْكَلَامِ..

الشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَلَالَةِ؛ إِذْ يَجْلِسُ فِي الْجَامِعِ الْعَتِيقِ بِمِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ بِحِرَاسَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ فَمَا يَزَالُ مَعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي حَدِيثِهِمْ، وَمَعَ أَهْلِ الْفِقْهِ فِي فِقْهِهِمْ، وَمَعَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي لُغَتِهِمْ، وَمَعَ أَهْلِ الْعَرُوضِ فِي عَرُوضِهِمْ حَتَّى يَمْتُعَ النَّهَارُ، وَحَتَّى تَأْتِيَ الظَّهِيرَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، وَمَعَ ذَلِكَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِ ضَرْبًا، وَكَانَ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ مُتَعَصِّبَةِ الْفُقَهَاءِ يُحَاوِلُونَ إِيذَاءَهُ، وَقَدْ آذَوْهُ فِعْلًا وَكَانَ مُمَرَّضًا؛ حَتَّى إِنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَصِلْ بَعْدُ بَعْدَ الْكُهُولَةِ إِلَى حَدِّ الْغُلُوِّ فِي الشَّيْخُوخَةِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- مَاتَ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسِينَ عَامًا.

الشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- ضُرِبَ بِمِصْرَ مَرَّاتٍ؛ مِنْ أَجْلِ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ؛ حَتَّى إِنَّ وَاحِدًا مِنْ أُولَئِكَ -وَالشَّافِعِيُّ فِيهِ رَهَافَةُ حِسٍّ، فَكَانَ يَأْتِي بِالْغَالِية -وَهُوَ طِيبٌ مُخَلَّطٌ مِنْ أَجْوَدِ الطِّيبِ-، وَيَجْلِسُ عِنْدَ أُسْطُوَانَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَجْعَلُ بِالدَّرَاهِمِ الْغَالِيَةِ الْغَالِيَةَ مَطْلِيًّا بِهَا الْأُسْطُوَانَةُ؛ حَتَّى يَتَضَوَّعَ فِي الْمَسْجِدِ رِيحُهَا بِشَذَاهَا، وَيَجْلِسُ هُوَ فِي هَذَا الْجَوِّ الْمُعَبَّقِ بِالطِّيبِ؛ لِيُعَطَّرَ الْجَوُّ بِطِيبِ أَنْفَاسِ الشَّافِعِيِّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ وَعِلْمِهِ.

وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ شَمَّ فِي الْمَسْجِدِ رَائِحَةً خَبِيثَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!

قَالُوا: لَا نَدْرِي يَا إِمَامُ.

قَالَ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ فِي نَعْلِهِ، فَفَتَّشُوا النِّعَالَ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا بَأْسًا، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا.

قَالَ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ فِي ثِيَابِهِ.

فَأَقْبَلُوا عَلَى ثِيَابِهِمْ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَأَخَذُوا يُفَتِّشُونَ، وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمَجَانِينِ مِنَ الْمُتَعَصِّبَةِ قَدْ أَتَى بِالْعَذُرَةِ.. بِالْغَائِطِ فَطَلَى نِصْفَ شَارِبِهِ، وَتَضَوَّعَ الْمَجْلِسُ بِتِلْكَ الرَّائِحَةِ الْخَبِيثَةِ، قَالَ: مَا هَذَا؟!!

فَقَالَ: رَأَيْتُ كِبْرَكَ؛ إِذْ تَطْلِي الْأُسْطُوَانَةَ بِالْغَالِيَةِ بِالطِّيبِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ بِهَذَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!

فَقَالَ: خُذُوهُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ فَلْيُعَذِّرْهُ، وَقُولُوا لَهُ: يَقُولُ لَكَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ هَذَا قَدْ دَنَّسَ الْمَسْجِدَ بِالْأَنْجَاسِ)).

الشَّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- الْإِمَامُ الْفَحْلُ الْكَبِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَخْلَصَ لِلْعِلْمِ؛ فَآتَاهُ اللهُ..

 ((مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ مِنَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

قَالَ الْمُزَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ وَفَاتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟

قَالَ: ((أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلًا، وَلِلْإِخْوَانِ مُفَارِقًا، وَعَلَى اللهِ وَارِدًا، وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا، وَلِسُوءِ أَعْمَالِي مُلَاقِيًا، فَلَا أَدْرِي نَفْسِي إِلَى الْجَنَّةِ تَصِيرُ فَأُهَنِّيَهَا، أَوْ إِلَى النَّارِ فَأُعَزِّيَهَا)).

فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! رَحِمَكَ اللهُ عِظْنِي!

فَقَالَ لِي: ((اتَّقِ اللهَ، وَمَثِّلِ الْآخِرَةَ فِي قَلْبِكَ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ، وَلَا تَنْسَ مَوْقِفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكُنْ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى وَجَلٍ، وَاجْتَنِبْ مَحَارِمَهُ، وَأَدِّ فَرَائِضَهُ، وَكُنْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ.

وَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ وَإِنْ قَلَّتْ، وَقَابِلْهَا بِالشُّكْرِ، وَلْيَكُنْ صَمْتُكَ تَفَكُّرًا، وَكَلامُكَ ذِكْرًا، وَنَظَرُكَ عِبْرَةً.

اعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَصِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ عَلَى النَّائِبَاتِ، وَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ النَّارِ بِالتَّقْوَى)).

فَقُلْتُ: زِدْنِي -رَحِمَكَ اللهُ- يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ!

فَقَالَ: ((لِيَكُنِ الصِّدْقُ لِسَانَكَ، وَالْوَفَاءُ عِمَادَكَ، وَالرَّحْمَةُ ثَمَرَتَكَ، وَالشُّكْرُ طَهَارَتَكَ، وَالْحَقُّ تِجَارَتَكَ، وَالتَّوَدُّدُ زِينَتَكَ، وَالْكِتَابُ فِطْنَتَكَ، وَالطَّاعَةُ مَعِيشَتَكَ، وَالرِّضَا أَمَانَتَكَ، وَالْفَهْمُ بَصِيرَتَكَ، وَالرَّجَاءُ اصْطِبَارَكَ، وَالْخَوْفُ جِلْبَابَكَ، وَالصَّدَقَةُ حِرْزَكَ، وَالزَّكَاةُ حِصْنَكَ، وَالْحَيَاءُ أَمِيرَكَ، وَالْحِلْمُ وَزِيرَكَ، وَالتَّوَكُّلُ دِرْعَكَ، وَتَكُونُ الدُّنْيَا سِجْنَكَ، وَالْفَقْرُ ضَجِيعَكَ، وَالْحَقُّ قَائِدَكَ، وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ بُغْيَتَكَ، وَالْقُرْآنُ مُحَدِّثَكَ، وَاللهُ مُؤْنِسَكَ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ؛ كَانَتِ الْجَنَّةُ مَنْزِلَتَهُ)).

رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى- مَا أَبْلَغَهُ! كَلَامُهُ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ -أَعْنِي الشَّافِعِيَّ الْإِمَامَ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

إِنَّ لِلْفَصَاحَةِ هَيْبَةً، وَإِنَّ لِلْبَلَاغَةِ قَدْرًا..

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْحَمَ عُلَمَاءَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَجْمَعِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَهُ، وَأَنْ يَرْحَمَ عُلَمَاءَنَا أَجْمَعِينَ رَحْمَةً غَامِرَةً وَاسِعَةً لَا تَدَعُ لَنَا ذَنْبًا إِلَّا اجْتَاحَتْهُ، وَلَا تَدَعُ لَنَا مَعْصِيَةً إِلَّا اسْتَأْصَلَتْهَا.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَرْحَمَهُ وَالْإِمَامَ مَالِكًا وَجَمِيعَ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- رَحْمَةً وَاسِعَةً غَامِرَةً، وَأَنْ يَجْمَعَنَا مَعَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ. 

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: 

دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ

وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَفْهُومُ الْعِرْضِ وَالشَّرَفِ
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
  السير إلى الله والدار الآخرة
  إنَّهم قَتَلَةُ الحُسين - رضي الله عنه -
  أَكْلُ الْحَلَالِ
  حُرْمَةُ التَّكْفِيرِ وَالدِّمَاءِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَخُطُورَةُ الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ
  لو صدق لكان خيرًا له
  الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  بيان للمصريين عامة وللدعاة خاصة
  رمضان .. وأنين التائبين
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان