طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ

طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ

((طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ أَجَلُّ الْغَايَاتِ))

إِنَّ مَعْرِفَةَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ مِنْ أَجَلِّ الْغَايَاتِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَجَلَّهَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنْ يَعْبُدَ مَوْلَاهُ، وَأَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذَا مُؤَسَّسٌ عَلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِرَبِّهِمْ.

وَقَدْ فَطَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، فَهَذِهِ فِطْرَةٌ قَدْ فَطَرَ اللهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا؛ وَلِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَّا إِعْمَالَ نَظَرٍ مِنْ أَجْلِ إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ؛ وَلَكِنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ يُغَشِّيهَا مَا يُغَشِّيهَا مِمَّا يَرِينُ عَلَيْهَا، فَتَحْتَاجُ -حِينَئِذٍ- إِلَى إِعْمَالِ النَّظَرِ، وَإِلَى بَسْطِ أَسْبَابِ الْفِكْرِ فِي الْكَوْنِ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَعْمَى عَنْهَا إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللهُ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ.

((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْغَنِيُّ الْجَوَادُ))

((مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: صِفَةُ الْغِنَى؛ فَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ الَّذِي كَمُلَ فِي غِنَاهُ، فَلَهُ الْغِنَى الْمُطْلَقُ بِكُلِّ وَجْهٍ وَاعْتِبَارٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ} [يونس: 68].

هُوَ الْغَنِيُّ لِكَمَالِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا غَنِيًّا؛ فَإِنَّ غِنَاهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَكَمَا لَا يَكُونُ إِلَّا خَالِقًا رَازِقًا مُحْسِنًا جَوَادًا بَرًّا كَرِيمًا رَحِيمًا؛ فَلَا يَكُونُ إِلَّا غَنِيًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَكُلُّ مَا نَافَى غِنَاهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-:

وَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ؛ فَغِنَاهُ ذَاتِيٌّ لَهُ كَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ؟

فَمِنْ تَمَامِ غِنَاهُ أَنَّهُ كَامِلُ الْأَوْصَافِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَكَانَ فِيهِ نَوْعُ افْتِقَارٍ إِلَى ذَلِكَ الْكَمَالِ؛ بَلْ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَمِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ لَهُ كَمَالُهَا.

وَمِنْ سَعَةِ غِنَاهُ: أَنَّ خَزَائِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالرَّحْمَةَ بِيَدِهِ، وَأَنَّ جُودَهُ عَلَى خَلْقِهِ مُتَوَاصِلٌ فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، وَأَنَّ يَدَهُ  سَحَّاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَاتِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَأَنَّ خَيْرَهُ عَلَى الْخَلْقِ مِدْرَارٌ)).

((وَمِنْ صِفَاتِهِ -تَعَالَى-: الْجُودُ, وَهُوَ الْجَوَادُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جُودِهِ؛ فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ, كَمَا أَنَّهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ, الْعَلِيمُ لِذَاتِهِ, السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لِذَاتِهِ, فَجُودُهُ الْعَالِي مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ, فَهُوَ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ ذَاتِهِ الْكَمَالِيَّةِ, عَطَاؤُهُ غَيْرُ مَجْذُوذٍ, -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ, يُحِبُّ الْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ, الْجُودُ كُلُّهُ لَهُ, وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ, وَأَنْ يُوسِعَهُمْ فَضْلًا, وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا, وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ, وَيُضَاعِفَ لَهُمْ مِنَّتَهُ؛ فَجُودُهُ مَمْدُودٌ, وَفَضْلُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ, أَجْزَلَ لَنَا الْعَطَايَا الْفَاخِرَةَ, وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا النِّعَمَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ.

فَجُودُهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَاسِعٌ, لَا يَنْفَدُ عَطَاؤُهُ, وَجُودُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي جَنْبِ جُودِهِ أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ فِي جِبَالِ الدُّنْيَا وَرِمَالِهَا, وَلَوْ كَانَ جُودُ الْعِبَادِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ الْخَلَائِقِ عَلَى ذَلِكَ الْجُودِ؛ لَكَانَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى جُودِهِ دُونَ نِسْبَةِ قَطْرَةٍ إِلَى الْبَحْرِ؛ بَلْ كُلُّ جُودٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُودِهِ أَقَلُّ مِنْ قَطْرَةٍ فِي بِحَارِ الدُّنْيَا, وَهِيَ مِنْ جُودِهِ, وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ, وَجُودُهُ لَا يُنَاقِضُ حِكْمَتَهُ, وَيَضَعُ عَطَاءَهُ مَوَاضِعَهُ؛ وَإِنْ خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّ تِلْكَ مَوَاضِعُهُ, فَاللهُ يَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ فَضْلَهُ؛ فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ.

جُودُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْجُودُ الْحَقُّ، وَهُوَ -أَيْ: جُودُهُ تَعَالَى- الْجُودُ الْحَقُّ، مِنْهُ جُودُ كُلِّ جَوَادٍ؛ فَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ مِنْ جُودِهِ.

وَمَحَبَّتُهُ -تَعَالَى- لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ, أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ؛ فَلَا مُنْتَهَى لِجُودِهِ وَكَرَمِهِ, وَهُوَ يُحِبُّ الْجُودَ عَلَى عِبَادِهِ)).

((عَطَاءُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ عَطَاءَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا حَدَّ لَهُ وَلَا مُنْتَهَى؛ فَجَمِيعُ مَا فِيهِ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ مِنْ حُصُولِ الْمَنَافِعِ وَالْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ وَالْخَيْرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا أَنَّ مَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالنِّقَمِ وَالْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّهَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ.

لَقَدْ عَمَّتْ مَوَاهِبُهُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَسَّرَ لَهُمُ الْمَنَافِعَ وَالْمَعَايِشَ وَالْأَرْزَاقَ، وَرَبَطَهَا بِأَسْبَابٍ مُيَسَّرَةٍ وَطُرُقٍ مُسَهَّلَةٍ؛ فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.

وَعَلِمَ -تَعَالَى- مِنْ مَصَالِحِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَقَدَّرَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَا يُرِيدُونَ وَمَا لَا يَقْدِرُونَ، وَرُبَّمَا أَجْرَى عَلَيْهِمْ مَكَارِهَ تُوصِلُهُمْ إِلَى مَا يُحِبُّونَ.

بَلْ رَحِمَهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ، فَجَعَلَ الْآلَامَ كُلَّهَا خَيْرًا لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ؛ ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ))، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)).

لَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنَّ عَطَاءَهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصَى أَوْ يُسْتَقْصَى، وَأَخْبَرَ رَبُّنَا أَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْطَى الْأَنَاسِيَّ مِنْ كُلِّ مَا طَلَبُوهُ، وَإِنْ يَعُدُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِمْ لَا يُطِيقُوا عَدَّهَا وَلَا إِحْصَاءَهَا، وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32-34].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ عَلَى اتِّسَاعِهِمَا وَعِظَمِهِمَا، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وَهُوَ: الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ مِنَ السَّحَابِ، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ رِزْقًا لَكُمْ وَرِزْقًا لِأَنْعَامِكُمْ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} أَيِ: السُّفُنَ وَالْمَرَاكِبَ؛ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَسَّرَ لَكُمْ صَنْعَتَهَا، وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَحَفِظَهَا عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ لِتَحْمِلَكُمْ وَتَحْمِلَ تِجَارَاتِكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ إِلَى بَلَدٍ تَقْصِدُونَهُ.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} لِتَسْقِيَ حُرُوثَكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ، وَتَشْرَبُوا مِنْهَا، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} لَا يَفْتُرَانِ، وَلَا يَنِيَانِ، يَسْعَيَانِ لِمَصَالِحِكُمْ مِنْ حِسَابِ أَزْمِنَتِكُمْ، وَمَصَالِحِ أَبْدَانِكُمْ، وَحَيَوَانَاتِكُمْ، وَزُرُوعِكُمْ، وَثِمَارِكُمْ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ} لِتَسْكُنُوا فِيهِ {وَالنَّهَارَ} مُبْصِرًا لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أَيْ: أَعْطَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ أَمَانِيُّكُمْ وَحَاجَتُكُمْ مِمَّا تَسْأَلُونَهُ إِيَّاهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ؛ مِنْ أَنْعَامٍ، وَآلَاتٍ، وَصِنَاعَاتٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}؛ فَضْلًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِشُكْرِهَا {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أَيْ: هَذِهِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَالِمٌ مُتَجَرِّئٌ عَلَى الْمَعَاصِي، مُقَصِّرٌ فِي حُقُوقِ رَبِّهِ، كَفَّارٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، لَا يَشْكُرُهَا وَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا؛ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَشَكَرَ نَعِمَهُ، وَعَرَفَ حَقَّ رَبِّهِ، وَقَامَ بِهِ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَصْنَافِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ، يَدْعُو اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَمَا أَنَّ نِعَمَهُ تَتَكَرَّرُ عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60-64].

((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَبِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَأَشْجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ} أَيْ: لِأَجْلِكُمْ {مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أَيْ: بَسَاتِينَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ: حُسْنِ مَنْظَرٍ؛ مِنْ كَثْرَةِ أَشْجَارِهَا، وَتَنَوُّعِهَا، وَحُسْنِ ثِمَارِهَا، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} لَوْ لَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ.

{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ حَتَّى يُعْبَدَ مَعَهُ وَيُشْرَكَ بِهِ؟!!

{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بِهِ غَيْرَهُ، وَيُسَوُّونَ بِهِ سِوَاهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ وَحْدَهُ خَالِقُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمُنْزِلُ الرِّزْقِ.

هَلِ الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ النَّاقِصَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، الَّتِي لَا فِعْلَ مِنْهَا وَلَا رِزْقَ وَلَا نَفْعَ خَيْرٌ، أَمِ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا الْعِبَادُ، وَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ السُّكْنَى، وَالْحَرْثِ، وَالْبِنَاءِ، وَالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ، {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} أَيْ: جَعَلَ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ أَنْهَارًا يَنْتَفِعُ بِهَا الْعِبَادُ فِي زُرُوعِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ، وَشُرْبِهِمْ، وَشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أَيْ: جِبَالًا تُرْسِيهَا وَتُثَبِّتُهَا لِئَلَّا تَمِيدَ، وَتَكُونُ أَوْتَادًا لَهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبَ، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَالْبَحْرِ الْعَذْبِ {حَاجِزًا} يَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَاطِهِمَا فَتَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ جَعَلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنَ الْأَرْضِ، جَعَلَ مَجْرَى الْأَنْهَارِ فِي الْأَرْضِ مُبْعَدَةً عَنِ الْبِحَارِ، فَيَحْصُلُ مِنْهَا مَقَاصِدُهَا وَمَصَالِحُهَا؟!!

{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْدَلَ بِهِ اللَّهُ، وَيُشْرَكَ بِهِ مَعَهُ؟!!

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فَيُشْرِكُونَ بِاللَّهِ تَقْلِيدًا لِرُؤَسَائِهِمْ؛ وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمُوا حَقَّ الْعِلْمِ لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

هَلْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ الَّذِي أَقْلَقَتْهُ الْكُرُوبُ، وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ، وَاضْطُرَّ لِلْخَلَاصِ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؟!! وَمَنْ يَكْشِفُ السُّوءَ -أَيِ: الْبَلَاءَ وَالشَّرَّ وَالنِّقْمَةَ- إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؟!! وَمَنْ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ يُمَكِّنُكُمْ مِنْهَا، وَيَمُدُّ لَكُمْ بِالرِّزْقِ، وَيُوصِلُ إِلَيْكُمْ نِعَمَهُ، وَتَكُونُونَ خُلَفَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ، كَمَا أَنَّهُ سَيُمِيتُكُمْ وَيَأْتِي بِقَوْمٍ بَعْدَكُمْ؟!!

{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ؟!! لَا أَحَدَ يَفْعَلُ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ حَتَّى بِإِقْرَارِكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ؛ وَلِهَذَا كَانُوا إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُقْتَدِرُ عَلَى دَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ.

{قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} أَيْ: قَلِيلٌ تَذَكُّرُكُمْ وَتَدَبُّرُكُمْ لِلْأُمُورِ الَّتِي إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهَا ادَّكَرْتُمْ، وَرَجَعْتُمْ إِلَى الْهُدَى؛ وَلَكِنَّ الْغَفْلَةَ وَالْإِعْرَاضَ شَامِلٌ لَكُمْ؛ فَلِذَلِكَ مَا ارْعَوَيْتُمْ وَلَا اهْتَدَيْتُمْ.

مَنْ هُوَ الَّذِي يَهْدِيكُمْ حِينَ تَكُونُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ حَيْثُ لَا دَلِيلَ وَلَا مَعْلَمَ يُرَى، وَلَا وَسِيلَةَ إِلَى النَّجَاةِ إِلَّا هِدَايَتُهُ لَكُمْ، وَتَيْسِيرُهُ الطَّرِيقَ، وَجَعَلَ مَا جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَهْتَدُونَ بِهَا؟!!

{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ، فَيُرْسِلُهَا، فَتُثِيرُ السَّحَابَ، ثُمَّ تُؤَلِّفُهُ، ثُمَّ تَجْمَعُهُ، ثُمَّ تُلْقِحُهُ، ثُمَّ تُدِرُّهُ، فَيَسْتَبْشِرُ بِذَلِكَ الْعِبَادُ قَبْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ؟!!

{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فَعَلَ ذَلِكَ، أَمْ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ؟!! فَلِمَ أَشْرَكْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَعَبَدْتُمْ سِوَاهُ؟!!

{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}: تَعَاظَمَ وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ شِرْكِهِمْ وَتَسْوِيَتِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ.

مَنْ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ، وَيُنْشِئُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَبْتَدِئُ خَلْقَهَا، ثُمَّ يُعِيدُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ؟!!

وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ؟!!

{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ؟!!

{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أَيْ: حُجَّتَكُمْ وَدَلِيلَكُمْ عَلَى مَا قُلْتُمْ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؛ وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا مُشَارَكَةٌ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَذَلِكَ مُجَرَّدُ دَعْوَى صَدِّقُوهَا بِالْبُرْهَانِ؛ وَإِلَّا فَاعْرِفُوا أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ لَا حُجَّةَ لَكُمْ؛ فَارْجِعُوا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُصْرَفَ لَهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21].

((وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْعِبَادِ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ مِنْ جَمِيعِ الصُّنُوفِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9].

((أَمْ هُمْ يَمْلِكُونَ خَزَائِنَ فَضْلِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ فِي سُلْطَانِهِ، الْوَهَّابِ مَا يَشَاءُ مِنْ رِزْقِهِ وَفَضْلِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؟!!)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].

(({وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أَيْ: مَمْنُوعًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ جَمِيعُ الْخَلْقِ رَاتِعُونَ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ)).

وَإِذَا كَانَتْ هِبَاتُ اللهِ وَعَطَايَاهُ فِي الدُّنْيَا لَا نِهَايَةَ لَهَا؛ فَكَذَلِكَ مِنَنُهُ وَعَطَايَاهُ فِي الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].

(({وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} أَيْ: حَصَلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ؛ {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَيْ: مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَاللَّذَّةِ الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِوَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ -نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ-)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 31-36].

(({إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أَيِ: الَّذِينَ اتَّقَوْا سُخْطَ رَبِّهِمْ بِالتَّمَسُّكِ بِطَاعَتِهِ، وَالِانْكِفَافِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَلَهُمْ مَفَازٌ وَمَنْجًى، وَبُعْدٌ عَنِ النَّارِ، وَفِي ذَلِكَ الْمَفَازِ لَهُمْ حَدَائِقُ، وَهِيَ الْبَسَاتِينُ الْجَامِعَةُ لِأَصْنَافِ الْأَشْجَارِ الزَّاهِيَةِ فِي الثِّمَارِ الَّتِي تَتَفَجَّرُ بَيْنَ خِلَالِهَا الْأَنْهَارُ، وَخَصَّ الْعِنَبَ لِشَرَفِهَا وَكَثْرَتِهَا فِي تِلْكَ الْحَدَائِقِ.

وَلَهُمْ فِيهَا زَوْجَاتٌ عَلَى مَطَالِبِ النُّفُوسِ {كَوَاعِبَ} وَهِيَ: النَّوَاهِدُ اللَّاتِي لَمْ تَتَكَسَّرْ ثُدِيُّهُنَّ مِنْ شَبَابِهِنَّ، وَقُوَّتِهِنَّ وَنَضَارَتِهِنَّ، وَالْأَتْرَابُ: اللَّاتِي عَلَى سَنٍّ وَاحِدٍ مُتَقَارِبٍ، وَمِنْ عَادَةِ الْأَتْرَابِ أَنْ يَكُنَّ مُتَآلِفَاتٍ مُتَعَاشِرَاتٍ، وَذَلِكَ السِّنُّ الَّذِي هُنَّ فِيهِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً أَعْدَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّبَابِ.

{وَكَأْسًا دِهَاقًا} أَيْ: مَمْلُوءَةً مِنْ رَحِيقٍ لَذَّةً لِلشَّارِبِينَ، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أَيْ: كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ {وَلا كِذَّابًا} أَيْ: إِثْمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا}، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ {عَطَاءً حِسَابًا} أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لَهَا، وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى كَرَامَتِهِ)).

وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا الْأَدِلَّةَ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْ هِبَاتِ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ لَا نَكَادُ نُحْصِيهَا كَثْرَةً وَتَعَدُّدًا، وَتَنَوُّعًا وَاخْتِلَافًا؛ مِنْ كَثْرَتِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَاخْتِلَافِهَا، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ أُعْطِيَ رِزْقًا إِلَّا وَاللهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ وُهِبَ نِعْمَةً إِلَّا وَاللهُ هُوَ الَّذِي وَهَبَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- حِينَ سُئِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنِ اللهِ: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه: 50].

((أَجَابَ مُوسَى بِجَوَابٍ شَافٍ كَافٍ وَاضِحٍ، فَقَالَ: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أَيْ: رَبُّنَا الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَعْطَى كُلَّ مَخْلُوقٍ خَلْقَهُ اللَّائِقَ بِهِ، الدَّالَّ عَلَى حُسْنِ صَنْعَةِ مَنْ خَلَقَهُ؛ مِنْ كِبَرِ الْجِسْمِ، وَصِغَرِهِ، وَتَوَسُّطِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا خَلَقَهُ لَهُ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ الْمُشَاهَدَةُ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ تَجِدُهُ يَسْعَى لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُ؛ حَتَّى إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَعْطَى الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ مِنَ الْعَقْلِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}؛ فَالَّذِي خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَعْطَاهَا خَلْقَهَا الْحَسَنَ الَّذِي لَا تَقْتَرِحُ الْعُقُولُ فَوْقَ حُسْنِهِ، وَهَدَاهَا لِمَصَالِحِهَا هُوَ الرَّبُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنْكَارُهُ إِنْكَارٌ لِأَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وُجُودًا، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَمُجَاهَرَةٌ بِالْكَذِبِ؛ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَنْكَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ مَا أَنْكَرَ؛ كَانَ إِنْكَارُهُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ)).

وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ هِبَاتِهِ عَلَى أَفْضَلِ عِبَادِهِ؛ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، فَأَخْبَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ هِبَتِهِ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْوَلَدَ الصَّالِحَ، فَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 76].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].

وَالْأَهْلُ هِبَةٌ، قَالَ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} [ص: 32].

وَالْأَخُ الصَّالِحُ هِبَةٌ، قَالَ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَرْسَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].

وَالنُّبُوَّةُ هِبَةٌ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21].

وَأَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (سلم2) فَقَالَ: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هِبَاتِهِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50].

وَذَكَرَ رَبُّنَا الْوَهَّابُ مِنَّتَهُ، وَجَزِيلَ عَطَائِهِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1].

((يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَيِ: الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَالْفَضْلَ الْغَزِيرَ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ: مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ مِنَ النَّهْرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْكَوْثَرُ، وَمِنَ الْحَوْضِ طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي كَثْرَتِهَا وَاسْتِنَارَتِهَا، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} [الضحى: 5].

((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ -أَيُّهَا النَّبِيُّ- مِنْ أَنْوَاعِ الْإِنْعَامِ فِي الْآخِرَةِ، فَتَرْضَى بِذَلِكَ)).

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءَاتِ رَبِّنَا الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ؛ مِنْهَا: مَا ((أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ)).

((لَا يَغِيضُهَا)) أَيْ: لَا يُنْقِصُهَا.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)) أَيْ: دَائِمَةُ الصَّبِّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَسَحَّ الْمَاءُ سَحًّا، أَيْ: سَالَ مِنْ فَوْقَ.

فَنَبَّهَ ﷺ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقُ اللُّغَوِيُّ عَلَى مَعَانٍ دَقِيقَةٍ؛ فَمِنْهَا:

-أَنَّهُ وَصَفَ يَدَ اللهِ فِي الْإِعْطَاءِ  بِالتَّفَوُّقِ وَالِاسْتِعْلَاءِ؛ فَإِنَّ السَّحَّ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عَلٍ.

-ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْصَبَّ مِنْ فَوْقَ انْصَبَّ بِسُهُولَةٍ وَعَفْوٍ.

-ثُمَّ إِنَّهُ أَشَارَ إِلَى جَزَالَةِ عَطَايَاهُ -سُبْحَانَهُ- وَغَزَارَتِهَا؛ لِأَنَّ السَّحَّ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا ارْتَفَعَ عَنِ الْقَطْرِ وَبَلَغَ حَدَّ السَّيَلَانِ، يُقَالُ: مَطَرٌ سَحَّاحٌ، أَيْ: يَسُحُّ شَدِيدًا.

-وَأَشَارَ -أَيْضًا- إِلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِعَطَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذَ فِي الِانْصِبَابِ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ.

-ثُمَّ وَصَفَ السَّحَّ بِالدَّوَامِ تَشْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا انْقِطَاعَ لِمَادَّةِ عَطَائِهِ.

((إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا)) أَيْ: لَا يُنْقِصُهَا نَفَقَةٌ، ((سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)) أَيْ: دَائِمَةُ الصَّبِّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.

فَيَمِينُ اللهِ شَدِيدَةُ الِامْتِلَاءِ بِالْخَيْرِ لَا يُنْقِصُهَا نَفَقَةٌ، دَائِمَةُ الصَّبِّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهَذَا الْإِنْفَاقُ الْهَائِلُ الْكَثِيرُ الْمُسْتَمِرُّ الدَّائِمُ بِغَيْرِ تَوَقُّفٍ لَمْ يُنْقِصْ مَا فِي يَدِهِ -تَعَالَى-، وَلَا يُحْصِيهِ إِلَّا الَّذِي أَعْطَاهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ عِظَمَ افْتِرَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، وَقَدْ هَدَّدَهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].

وَمِنْ كَمَالِ غِنَاهُ -سُبْحَانَهُ-: أَنَّهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِإِجَابَةِ دَعْوَاتِهِمْ، وَإِسْعَافِهِمْ بِجَمِيعِ مُرَادَاتِهِمْ، وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا سَأَلُوهُ وَمَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ وَمَنَحَهُمْ مَا مَنَحَهُمْ بِمُجَرَّدِ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ وَكَرَمِهِ الْعَمِيمِ.

وَمِنْ كَمَالِ غِنَاهُ: أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَوَّلُ الْخَلْقِ وَآخِرُهُمْ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا سَأَلَهُ وَمَا بَلَغَتْ أَمَانِيُّهُ؛ مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرًّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)).

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَرَمِ الْفَيَّاضِ؛ فَعَطَاؤُهُ الْجَمُّ لَا يَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْعَطَايَا وَإِنْ بَلَغَتْ أَبْلَغَ الْمَبَالِغِ، وَوصَلَتْ إِلَى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ الْوَصْفُ، وَيَضِيقُ الذِّهْنُ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَتَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهِ؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يَنْقُصُ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

فَإِنَّ الْبَحْرَ إِذَا غُمِسَ فِيهِ إِبْرَةٌ ثُمَّ أُخْرِجَتْ؛ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْبَحْرِ بِذَلِكَ شَيْءٌ، ((مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))؛ فَإِنَّ الْبَحْرَ إِذَا غُمِسَ فِيهِ إِبْرَةٌ ثُمَّ أُخْرِجَتْ؛ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْبَحْرِ بِذَلِكَ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ عُصْفُورٌ -مَثَلًا- فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ الْبَتَّةَ.

فَنِسْبَةُ مَا يَسْأَلُونَهُ كُلُّهُمْ إِيَّاهُ فَيُعْطِيهِمْ إِلَى مَا عِنْدَهُ كَلَا نِسْبَةَ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثَالِ وَأَبْلَغِهَا وَأَعْظَمِهَا تَقْرِيبًا إِلَى الْأَفْهَامِ)).

((جُمْلَةٌ مِنْ أَعْظَمِ عَطَاءَاتِ الرَّبِّ الْمَنَّانِ))

((مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَةُ الرِّزْقِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الرَّزَّاقُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رِزْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

خَيْرُ مَنْ رَزَقَ وَأَعْطَى وَمَنَحَ، يَرْزُقُ وَخَزَائِنُهُ لَا تَفْنَى وَلَا تَنْتَهِي.

وَكَلِمَةُ (الرَّزَّاقِ) أَبْلَغُ مِنْ كَلِمَةِ (الرَّازِقِ)؛ لِأَنَّ الرَّزَّاقَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَعَلَى كَثْرَةِ الْمَرْزُوقِ؛ فَرِزْقُ اللهِ كَثِيرٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَرْزُوقِينَ، فَلَا تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَمْدَادُهُ وَفَوَاضِلُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ الَّذِي يُحْصِي الْمَرْزُوقِينَ عَدَدًا؟!!

لَا أَحَدَ يُحْصِيهُمْ أَبَدًا.

وَرِزْقُهُ كَثِيرٌ -سُبْحَانَهُ- بِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ؛ فَكَمْ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ رِزْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصَى!

فَرِزْقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ دَارٌّ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، رَزَقَ الْعَبْدَ عَقْلًا، وَصِحَّةً، وَمَالًا، وَوَلَدًا، وَأَمْنًا، وَأُمُورًا لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].

وَالنِّعْمَةُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ، وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}؛ فَإِنَّ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَلَى الْعِبَادِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ وَاللَّحْظَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ، مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا لَا يَعْرِفُونَهُ، وَالَّذِي يَدْفَعُهُ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى؛ وَلِهَذَا جَاءَ اسْمُ (الرَّزَّاقِ) بِالتَّشْدِيدِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ -عَلَى كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَكَثْرَةِ الْمَرْزُوقِ-)).

((مِنْ أَعْظَمِ مَا جَادَ بِهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ: تَعْرِيفُهُ لَهُمْ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا, هَذَا أَعْظَمُ جُودٍ جَادَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ أَنْ عَرَّفَهُمْ بِهِ, بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

إِنَّ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ رَبِّنَا عَلَيْنَا: أَنْ أَذِنَ لَنَا أَنْ نَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ, هَذَا جُودٌ مَا بَعْدَهُ جُودٌ؛ أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ الْقَلِيلُ الذَّلِيلُ الْوَضِيعُ الْمُذْنِبُ الْمُقَصِّرُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِيكِ الْعَظِيمِ الْحَلِيمِ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ الْعَظِيمِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ, هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجُودِ؛ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

فَأَعْظَمُ مَا جَادَ بِهِ عَلَيْهِمْ: تَعْرِيفُهُ لَهُمْ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا.

وَبِجُودِهِ عَمَّ جَمِيعَ الْأَنَامِ؛ مِنْ طَائِعٍ وَعَاصٍ, وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ, وَشَكُورٍ وَكَفُورٍ, وَأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ.

وَمِنْ جُودِهِ: أَنَّهُ لَا تَنْقُصُ خَزَائِنُهُ عَلَى كَثْرَةِ عَطَائِهِ وَبَذْلِهِ, وَلَا يَغِيضُ مَا فِي يَمِينِهِ سَعَةُ عَطَائِهِ, فَيَدُهُ مَبْسُوطَةٌ لَهُمْ بِالْعَطَاءِ وَالنَّوَالِ, يَمِينُهُ مَلْأَى لَا يَغِضُيهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, وَعَطَاؤُهُ وَخَيْرُهُ مَبْذُولٌ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِدْرَارًا, يُفَرِّجُ كَرْبًا, وَيُزِيلُ غَمًّا, وَيَرْفَعُ هَمًّا, وَيُغْنِي فَقِيرًا, وَيَفُكُّ أَسِيرًا, وَيَجْبُرُ كَسِيرًا, وَيُجِيبُ سَائِلًا, وَيُعْطِي فَقِيرًا عَائِلًا, وَيُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ, وَيَسْتَجِيبُ لِلسَّائِلِينَ, وَيُنْعِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ, وَيُعَافِي مَنْ طَلَبَ الْعَافِيَةَ, وَلَا يَحْرِمُ مِنْ خَيْرِهِ عَاصِيًا، بَلْ خَيْرُهُ يَرْتَعُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.

وَيَجُودُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِالتَّوْفِيقِ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ, ثُمَّ يَحْمَدُهُمْ عَلَيْهِ, وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ -يُضِيفُ إِلَيْهِمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ-، وَهُوَ الَّذِي أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا, وَوَفَّقَهُمْ إِلَيْهَا, وَهِيَ مِنْ جُودِهِ -تَعَالَى-, وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْوَصْفُ, وَلَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْعَبْدِ, وَيَلْطُفُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ, وَيُوصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ, وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ مَا لَا يَشْعُرُونَ بِكَثِيرٍ مِنْهُ؛ فَكَمْ مِنْ نِقْمَةٍ دَفَعَهَا فَلَمْ تَحِلَّ بِسَاحَةِ الْعَبْدِ، لَا يَعْلَمُ عَنْهَا الْعَبْدُ شَيْئًا, وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ تَمَنَّنَ عَلَيْهِ وَتَحلَّمَ, فَرَفَعَهَا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُ؟!!

يَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ مَا لَا يشْعُرُونَ بِكَثِيرٍ مِنْهُ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ كُلُّ النِّعَمِ الَّتِي بِالْعِبَادِ فَمِنْهُ, وَتَبَارَكَ مَنْ لَا يُحْصِي أَحَدٌ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ, وَتَعَالَى مَنْ لَا يَخْلُو الْعِبَادُ مِنْ كَرَمِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ, بَلْ لَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا بَقَاءَ إِلَّا بِجُودِهِ, وَكُلُّ مَوْهُوبٍ وَصَلَ إِلَى خَلْقِهِ فَمِنْ فَيْضِ بِحَارِ جُودِهِ وَفَضْلِهِ, وَنَعْمَائِهِ الزَّاخِرَةِ, وَأَفْضَالِهِ الْبَاهِرَةِ؛ فَهُوَ عَظِيمٌ وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ.

وَكَمَا أَنَّهُ الْجَوَادُ بِإِعْطَاءِ الْخَيْرَاتِ, وَنَيْلِ الْمَوَاهِبِ وَالْهِبَاتِ وَالْبَرَكَاتِ؛ فَإِنَّهُ الْجَوَادُ بِالْحِلْمِ عَنِ الْعَاصِينَ, وَالسَّتْرِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ, وَالصَّبْرِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ الْمُبَارِزِينَ, وَالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالْعِبَادُ يُبَارِزُونَهُ بِالْعَظَائِمِ وَبِمَا يُغْضِبُهُ وَهُوَ -تَعَالَى- يُسْدِي إِلَيْهِمُ النِّعَمَ, وَيَصْرِفُ عَنْهُمُ النِّقَمَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُوهُ, وَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَشْكُرُونَهُ؛ فَأَيُّ جُودٍ أَعْظَمُ مِنْ جُودِ مَنْ يُبَارِزُهُ الْعَبْدُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ يَمُدُّهُ بِنِعَمِهِ, وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ, وَيُسْدِلُ عَلَيْهِ سَتْرَهُ؟!!

وَمِنْ جُودِهِ: أَنَّهُ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ, وَيُعْطِي سَائِلَهُ وَمُؤَمِّلَهُ فَوْقَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْهُمُ الْآمَالُ, وَاللهُ أَوْسَعُ فَضْلًا, وَأَكْرَمُ وَأَجْزَلُ عَطَاءً, -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

وَمِنْ جُودِهِ: مَا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ النَّعِيمِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ, وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ اللَّذِيذَةِ, وَالْمَنَاظِرِ الْمُبْهِجَةِ الْعَجِيبَةِ, وَالْأَزْوَاجِ الْحَسَنَةِ, وَالْقُصُورِ وَالْغُرَفِ الْمُزَخْرَفَةِ, وَالْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ, وَالْفَوَاكِهِ الْمُسْتَغْرَبَةِ, وَالْأَصْوَاتِ الشَّدِيَّةِ, وَالنِّعَمِ السَّابِغَةِ, وَتَزَاوُرِ الْإِخْوَانِ, وَتَذَكُّرِهِمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي رِيَاضِ الْجَنَّاتِ.

وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ, وَتَمَتُّعُ الْأَرْوَاحِ بِقُرْبِهِ, وَالْعُيُونِ بِرُؤْيَتِهِ, وَالْأَسْمَاعِ بِخِطَابِهِ وَكَلَامِهِ الَّذِي يُنْسِيهِمْ كُلَّ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ, وَلَوْ لَا الثَّبَاتُ مِنَ اللهِ لَهُمْ لَطَارُوا وَمَاتُوا مِنَ الْفَرَحِ وَالْحُبُورِ؛ إِذْ يَتَجَلَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ حَتَّى يَنْظُرُوا فِي الْجَنَّةِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

فَللهِ! مَا أَحْلَى ذَلِكَ النَّعِيمَ، وَمَا أَعْلَى مَا آتَاهُمُ الرَّبُّ الْكَرِيمُ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَبَهْجَةٍ مِمَّا لَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ!

عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهُ ﷺ: ((سَأَلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ -تَعَالَى- مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟

قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ, فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ.

فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ, وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟

فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟

فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّي.

فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ.

فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّي.

يَقُولُ: لَكَ هَذَا وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ, وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ, فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّي, قَالَ: رَبِّي فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟!!)).

هَذَا الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ هُوَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً, وَلَيْسَ فِيهِمْ دَنِيٌّ.

أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ وَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ((لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا.

فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّي.

فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ.

فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّي.

يَقُولُ: لَكَ هَذَا وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ, وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ, فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّي)).

فَهَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً.

((قَالَ مُوسَى: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟

قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ, غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدي, وَخَتَمْتُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ, وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ, وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17])). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

((أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ- أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ, غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدي, وَخَتَمْتُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ, وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ, وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).

فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَ جُودُهُ وَكَرَمُهُ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ.

مِنْ جُودِهِ -تَعَالَى-: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُؤَمِّلُوهُ وَيَرْجُوهُ, وَيَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْجَوَادُ, أَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ, وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى, وَأَحَبُّ مَا إِلَى الْجَوَادِ أَنْ يُرْجَى, وَأَنْ يُؤَمَّلَ وَيُسْأَلَ, وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ, وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

السَّائِلُ رَاجٍ وَطَالِبٌ, فَمَنْ لَمْ يَرْجُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ.

اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ         =          وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

وَأَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ لَهُ سُؤَالًا, وَهُوَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ, وَكُلَّمَا أَلَحَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ أَحَبَّهُ, وَقَرَّبَهُ وَأَعْطَاهُ وَأَعْلَاهُ.

مِنْ جُودِهِ -تَعَالَى-: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَعَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَغْنَمَ, إِذَا دَعَوْتَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا بُدَّ أَنْ تَعُودَ بِالْفَائِدَةِ, وَلَا بُدَّ أَنْ تَغْنَمَ, إِمَّا بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ مَا سَأَلَ, وَإِمَّا بِأَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ رَبُّهُ مِنَ الضَّرَرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ, أَوْ بِأَنْ يَدَّخِرَ اللهُ لَهُ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِفَاءَ مَا سَأَلَ, مَعَ مَا فِي الدُّعَاءِ مِنَ الْأَجْرِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ عِبَادَةٌ.

فَإِذَا دَعَا الْعَبْدُ رَبَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَغْنَمَ؛ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يُعْطَ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- إِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ الدُّعَاءَ لَهُ, وَإِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا سَأَلَ, وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ الضَّرَرِ وَالنِّقْمَةِ عَلَى قَدْرِ مَا سَأَلَ.

فَالْإِنْسَانُ إِذَا سَأَلَ رَبَّهُ كَانَ غَانِمًا فِي كُلِّ حَالٍ.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ؛ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ, وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ, وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا)).

قَالُوا: ((إِذَنْ؛ نُكْثِرُ)).

قَالَ: ((اللهُ أَكْثَرُ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ؛ بَلْ وَصَحَّحَهُ, فَقَالَ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

قَالُوا: ((إِذَنْ؛ نُكْثِرُ)) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّنَا نَتَحَصَّلُ عَلَى الْمَغْنَمِ فِي كُلِّ حَالٍ.

قَالَ: ((اللهُ أَكْثَرُ)) أَيْ: فَضْلُ اللهِ أَكْثَرُ، أَيْ: مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ.

وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ, وَنِهَايَةٌ فِي اسْتِعْطَافِ قُلُوبِ الْخَلَائِقِ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ, وَإِدْرَارِ مَا فِي خَزَائِنِهِ.

فَسُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ ذِي الْكَرَمِ الْفَيَّاضِ, وَالْجُودِ الْمُتَتَابِعِ, وَتَعَالَى الْوَهَّابُ, فَاللهم لَكَ الْحَمْدُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ, وَلَكَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا شُكْرًا يَلِيقُ بِكَ, لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

مِنْ جُودِهِ -تَعَالَى-: أَنْ رَضِيَ مِنْ عِبَادِهِ بِدُونِ الْيَسِيرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ بِهِ, وَيَسْتَحِقَّ لِذَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَلَا نِسْبَةَ لِلْوَاقِعِ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ مَا تَبْلُغُ عِبَادَتُكَ فِيمَا هُوَ بِرَبِّكَ حَقِيقٌ؟!!

وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُنْذُ أَنْ يُولَدَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي جَنْبِ اللهِ, لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُنْذُ خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَنْ يَقْبِضَهُ وَإِنْ طَالَتْ بِهِ حَيَاةٌ؛ لَوْ ظَلَّ كَذَلِكَ طُولَ الْمُدَّةِ مَا شَكَرَ أَدْنَى وَأَقَلَّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَمَا فِيهَا قَلِيلٌ, فَقَلِيلُهُ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلٌ.

مِنْ جُودِهِ: أَنَّهُ يَقْبَلُ عُذْرَ الْعَبْدِ إِذَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.

وَمِنْ جُودِهِ: أَنَّهُ أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ؛ فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ, وَمِنْ إِثَابَتِهِ لِمُطِيعِهِمْ, وَتَوْبَتِهِ عَلَى تَائِبِهِمْ, وَإِجَابَتِهِ لِسَائِلِهِمْ, فَتِلْكَ حُقُوقٌ أَحَقَّهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى نَفْسِهِ بِحُكْمِ وَعْدِه وَإِحْسَانِهِ, لَا أَنَّهَا حُقُوقٌ أَحَقُّوهَا هُمْ عَلَيْهِ, فَالْحَقُّ فِي الْحَقِيقَةِ للهِ عَلَى عَبْدِهِ, وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ جُودُهُ وَبِرُّهُ وَإِحْسَانُه إِلَيْهِ بِمَحْضِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

فَهَذَا حَقٌّ وَجَبَ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ, وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ, لَا أَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى اللهِ شَيْئًا, كَمَا يَكُونُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ بِكُلِّ خَيْرٍ, وَحَقُّهُمُ الْوَاجِبُ بِوَعْدِهِ هُوَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ.

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبُ         =     كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا          =     فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

هَذَا جُودٌ عَظِيمٌ, وَفَضْلٌ بَاهِرٌ كَرِيمٌ, وَعَطَاءٌ وَسِيعٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ.

إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ وَكَانَ لَهُ عَمَلٌ قَطَعَهُ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ؛ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا.

وَعَلَيْهِ؛ فَمَا أَعْظَمَ ظُلْمَ الْعَبْدِ نَفْسَهُ إِذْ لَا يَكُونُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ كَانَ لَهُ قِيَامٌ بِاللَّيْلِ, وَوِرْدٌ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَعَمَلٌ صَالِحٌ يَعْمَلُهُ, ثُمَّ مَرِضَ فَقُطِعَ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ وَلَكِنَّ الْمَرْءَ إِذَا مَرِضَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَمَا الَّذِي يُكْتَبُ لَهُ؟!!

وَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ فَقَطَعَهُ السَّفَرُ؛ لِأَنَّ ((السَّفَرَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ, وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَتَغَيَّرُ عَادَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ فِي السَّفَرِ, وَيُصِيبُهُ مِنَ التَّعَبِ مَا يُصِيبُهُ, لَا كَمَا يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَفِي دَارِهِ, فَإِذَا قُطِعَ عَنْ عَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَكْتُبُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ مُقِيمٌ.

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: إِنِّي إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ؛ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا, وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ, وَأَجْرُوا لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (( إِنِّي إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ؛ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ -أَيْ: مِنْ فِرَاشِ مَرَضِهِ- كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا, وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ, وَأَجْرُوا لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ)).

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ الْجُودِ, وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ الَّذِي عَظُمَتْ نَعْمَاؤُهُ بِلَا انْقِطَاعٍ, وَمَا خَفِيَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ جُودِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ؛ بَلْ لَا نِسْبَةَ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ: هِبَتُهُ لَهُ الْحَيَاةَ؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ مِنْحَةٌ مِنَ اللهِ، وَهِبَةٌ يُعْطِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْأَحْيَاءِ مَتَى شَاءَ، وَيَسْتَرِدُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَقْتَمَا يَشَاءُ، وَفِي هِبَتِهِمْ وَاسْتِرْدَادِ الْهِبَةِ مِنْهُمْ.. فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحِكْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

وَالْحَيَاةُ فِي الْبَدْءِ وَفِي الْمُنْتَهَى بِيَدِ اللَّـهِ وَحْدَهُ، يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ، يَهَبُ الْحَيَاةَ لِلْأَحْيَاءِ وَيَسْلُبُهَا مَتَى يَشَاءُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

وَأَفْضَلُ مَا يُعْطَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَعْظَمَ النَّعِيمُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((رُؤْيَةُ اللَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَالدَّرَجَةُ الْعُلْيَا مِنْ عَطَايَا اللَّهِ الْفَاخِرَةِ، بَلَغَنَا اللَّهُ مِنْهَا مَا نَرْجُو)).

وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِرُؤْيَةِ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة}.

وَالْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ يَحْرِمُونَ مِنْ هَذَا النَّعِيمِ الْعَظِيمِ، وَالتَّكْرِمَةُ الْبَاهِرَةُ {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تَبْيَضْ وُجُوهُنَا؟ أَلَمْ تُدْخُلْنَا الْجَنَّةَ وَتَنْجْنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أَعْطُوا شَيْئًا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- )). زَادَ فِي رِوَايَةٍ: ((ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةً})).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا -وَفِي رِوَايَةٍ: ((طُولُهَا))- سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ، مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةِ آنِيَتِهِمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَى رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ)).

وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَزِيدِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهِ الْمُحْسِنِينَ {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.

{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.

وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ، وَالزِّيَادَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ.

وَرُؤْيَةُ اللَّهِ -تَعَالَى- رُؤْيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَا كَمَا تَزْعُمُ بَعْضُ الْفِرَقِ الَّتِي نَفَتْ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَقَايِيسَ عَقْلِيَّةٍ بَاطِلَةٍ، وَتَحْرِيفَاتٍ لَفْظِيَّةٍ جَائِرَةٌ.

وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقِيلَ: ((إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إِلَى ثَوَابِهِ؟)).

فَقَالَ مَالِكٌ: ((كَذِّبُوا، فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟!!)).

قَالَ مَالِكٌ: ((النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ)).

وَقَالَ: ((لَوْ لَمْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعِيرِ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ})).

مِنَ الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي الْجَنَّاتِ الطَّحَاوِيُّ فِي الْعَقِيدَةِ الْمَشْهُورَةِ بِاسْمِ ((الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ)) قَالَ: ((وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة}، وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِلْمَهُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ، لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلَّمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالَمِهِ)).

قَالَ شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ مُبَيِّنًا مَذَاهِبَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ: ((وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ الْمُخَالِفِ فِي الرُّؤْيَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْإِمَامِيَّةِ، وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ بِثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعُونَ، وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُونَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)).

((فَسُبْحَانَ مَنْ عَمَّ جُودُهُ جَمِيعَ الْبَرِيَّاتِ, وَرَزَقَ الطَّيِّبَاتِ, وَأَنْعَمَ بِمَا لَا يُحْصَى مِنَ النِّعَمِ وَالْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْمِنَحِ السَنِيَّاتِ!

فَللهِ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ عَطَاءٍ وَأَجَلُّهُ, وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى جُودِهِ وَكَرَمِهِ, وَتَبَارَكَ اللهُ الْكَرِيمُ الْجَوَادُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ!

وَهُوَ الْجَوَادُ فُجُودُهُ عَمَّ الْوُجُودَ    =    جَمِيعَهُ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ

وَهُوَ الْجَوَادُ فَلَا يَخَيِّبُ سَائِلًا    =       وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ الْكُفْرَانِ)).

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَقَلَّبُ فِي نَعْمَائِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ, وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَمَّ الْجَمِيعَ بِفَضْلِهِ, وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِيهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ كَمَا يَبْتَلِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُؤْمِنِينَ بِالنِّقَمِ.

((افْتِقَارُ جَمِيعِ الْعِبَادِ إِلَى عَطَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

عِبَادَ اللهِ! ((مِنْ كَمَالِ غِنَاهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الْخَلَائِقَ بِأَسْرِهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، فَهُمْ فُقَرَاءُ إِلَى اللهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي إِعْدَادِهِمْ بِالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ الَّتِي لَوْ لَا إِعْدَادُهُ إِيَّاهُمْ لَهَا لَمَا اسْتَعَدُّوا لِأَيِّ عَمَلٍ, قَالَ اللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

وَتَعْرِيفُ الْفُقَرَاءِ؛ لِلْمُبَالَغَةِ فِي فَقْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ افْتِقَارِهِمْ وَكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِمْ هُمُ الْفُقَرَاءُ: {أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ}، فَعَرَّفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهِمْ وَعَوَزِهِمْ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي فَقْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ افْتِقَارِهِمْ وَكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِمْ هُمُ الْفُقَرَاءُ، {أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} فَقْرًا كَامِلًا.

((فُقَرَاءُ فِي إِمْدَادِهِمْ بِالْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَلَوْلَا فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ وَتَيْسِيرُهُ الْأُمُورَ لَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالنِّعَمِ شَيْءٌ.

فُقَرَاءُ فِي صَرْفِ النِّقَمِ عَنْهُمْ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ وَإِزَالَةِ الْكُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ، فَلَوْلَا دَفْعُهُ عَنْهُمْ، وَتَفْرِيجُهُ لِكُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَتُهُ لِعُسْرِهِمْ؛ لَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَكَارِهُ وَالشَّدَائِدُ.

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ بِأَنْوَاعِ التَّرْبِيَةِ وَأَجْنَاسِ التَّدْبِيرِ.

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَعَمَلُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، فَلَوْلَا تَعْلِيمُهُ لَمْ يَتَعَلَّمُوا, وَلَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَمْ يَصْلُحُوا)).

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ عَفْوِهِ عَنْهُمْ وَمَغْفِرَتُهُ لَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُذْنِبُ دَائِمًا، فَهُوَ فَقِيرٌ مُذْنِبٌ، وَرَبُّهُ -تَعَالَى- يَرْحَمُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

فَلَوْلَا رَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ لَمَا وُجِدَ خَيْرٌ أَصْلًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْفُ عَنِ الْعَبْدِ وَيَغْفِرُ لَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى النَّجَاةِ, فَمَا نَجَا أَحَدٌ إِلَّا بِعَفْوِ اللهِ، وَلَا دَخَلَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ مَا هَنَأَ أَحَدًا عَيْشٌ الْبَتَّةَ، وَلَا عَرَفَ خَالِقَهُ، وَلَا ذَكَرَهُ، وَلَا آمَنَ بِهِ، وَلَا أَطَاعَهُ.

فَلَا يَسَعُ الْخَلَائِقَ إِلَّا رَحْمَتُهُ وَعَفْوُهُ, وَلَا يَبْلُغُ عَمَلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ بِهِ مِنَ النَّارِ أَوْ يَدْخُلَ بِهِ الْجَنَّةَ, كَمَا قَالَ أَطْوَعُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِ وَأَفْضَلُهُمْ عَمَلًا وَأَشَدُّهُمْ تَعْظِيمًا لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ ﷺ:  ((لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ)).

قَالُوا: ((وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدِنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فَإِذَا كَانَ عَمَلُ الْعَبْدِ لَا يَسْتَقِلُّ بِالنَّجَاةِ، فَلَوْ لَمْ يُنَجِّهِ اللهُ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَخَسَهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ وَلَا ظَلَمَهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي نَجَاتَهُ، وَعَمَلُهُ لَيْسَ وَافِيًا بِشُكْرِ الْقَلِيلِ مِنْ نِعَمِهِ فَهَلْ يَكُونُ ظَالِمًا لَوْ عَذَّبَهُ؟

وَهَلْ تَكُونُ رَحْمَتُهُ لَهُ جَزَاءً لِعَمَلِهِ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ ثَمَنًا لَهَا مَعَ تَقْصِيرِهِ فِيهِ وَعَدَمِ تَوْفِيَتِهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ بَذْلِ النَّصِيحَةِ فِيهِ وَكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُشُوعِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ فِي الْعَمَلِ لَهُ؟

فَهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ بِكُلِّ مَعْنًى وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ شَعَرُوا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْفَقْرِ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا.

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَكُلُّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ وَهُوَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا.

فَالْمَلَائِكَةُ تَسْأَلُهُ مَا لَا حَيَاةَ لَهَا إِلَّا بِهِ؛ مِنْ إِعَانَتِهِ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا جَعَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَتَسْأَلُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِبَنِي آدَمَ.

وَالرُّسُلُ تَسْأَلُهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَاتِهِ وَتَبْلِيغِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ.

وَبَنُو آدَمَ كُلُّهُمْ يَسْأَلُونَهُ مَصَالِحَهُمْ عَلَى تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلَافِهَا.

وَالْحَيَوَانُ كُلُّهُ يَسْأَلُهُ رِزْقَهُ وَغِذَاءَهُ وَقُوتَهُ وَمَا يُقِيمُهُ، وَيَسْأَلُهُ الدَّفْعَ عَنْهُ.

وَالشَّجَرُ وَالنَّبَاتُ يَسْأَلُهُ غِذَاءَهُ وَمَا يَكْمُلُ بِهِ.

وَالْكَوْنُ كُلُّهُ يَسْأَلُهُ إِمْدَادَهُ بِقَالِهِ وَحَالِهِ، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ: ((مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا، وَيَضَعَ آخَرِينَ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((ظِلَالِ الْجَنَّةِ)).

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْغَايَاتِ، فَإِنَّ مَا لَا يَكُونُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا يَكُونُ، وَمَا لَا يَكُونُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ (سلم2) وَهُمَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

الْخَلْقُ فُقَرَاءُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْعَمَلِ وَفِي قَبُولِ الْعَمَلِ زَالَ عَنْهُ الْإِعْجَابُ، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ الْإِعْجَابُ صَارَ حَرِيًّا بِأَنْ يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ، وَأَنْ يُثِيبَهُ؛ فَأَيُّ عَمَلٍ أَجَلُّ مِنْ عَمَلٍ يَقْبَلُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَأَيُّ سَعْيٍ أَكْرَمُ مِنْ سَعْيٍ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَأَيُّ طَاعَةٍ أَعَزُّ مِنْ طَاعَةٍ اخْتَارَهَا وَرَضِيَهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْأَضْرَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي اسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ: ((اللهم أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِيَ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدْيَتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أْكْسُكُمْ)).

فَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مَا أَبْلَغَ هَذَا الْكَلَامَ، وَأَعْلَى طَبَقَتَهَ، وَأَرْفَعَ مَنْزِلَتَهَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

فُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي أَعْظَمِ الْحَاجَاتِ وَأَشَدِّ الضَّرُورَاتِ، وَهِيَ تَأَلُّهُهُمْ لَهُ، وَحُبُّهُمْ لَهُ، وَتَعَبُّدُهُمْ وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ، فَلَوْ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ لِذَلِكَ لَهَلَكُوا، وَفَسَدَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَلَفَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اسْتَغَاثَ بِالْفَقِيرِ بِالذَّاتِ، الضَّعِيفِ بِالذَّاتِ، الْعَاجِزِ بِالذَّاتِ، الْمُحْتَاجِ بِالذَّاتِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ، وَتَرَكَ الِاسْتِغَاثَةَ بِالْغَنِيِّ بِالذَّاتِ، الْقَادِرِ بِالذَّاتِ، الَّذِي غِنَاهُ وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَجُودُهُ وَإِحْسَانُهُ وَعِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ وَكَمَالُهُ الْمُطْلَقُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ.

فَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ -تَعَالَى- فِي وُجُودِهَا، فَلَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا بِهِ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ فِي قِيَامِهَا، فَلَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِ، فَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ، وَلَا قِوَامَ لِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ، فَلِلْخَالِقِ مُطْلَقُ الْغِنَى لِكَمَالِهِ، وَلِلْمَخْلُوقِ مُطْلَقُ الْفَقْرِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- وَكَمَالِهِ.

وَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ    =   جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَعَالَى شَانُهُ

وَكُلُّ شَيْءٍ رِزْقُهُ عَلَيْهِ        =      وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ

فَسُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ خَلْقَهُ بِغِنَاهُ، وَافْتَقَرَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ.

مَتَى شَهِدَ الْعَبْدُ غِنَى اللهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَفَقْرَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ صَارَ فَقْرُهُ وَضَرُورَتُهُ إِلَى رَبِّهِ وَصْفًا لَازِمًا لَهُ، فَهُوَ لَا غِنَى لَهُ عَنْ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، بَلْ هُوَ مُضْطَّرٌ إِلَيْهِ عَلَى مَدَى الْأَنْفَاسِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

فَاقَتُهُ إِلَى رَبِّهِ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَبَّهُ وَخَالِقَهُ وَفَاطِرَهُ وَنَاصِرَهُ وَحَافِظَهُ وَمُعينَهُ وَرَازِقَهُ وَهَادِيَهُ وَمُعَافِيَهُ وَالْقَائِمَ بِجَمِيعِ مَصَالِحِهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ وَحَبِيبَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ وَأَشْوَقَ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللهِ وَلَا مَقَالًا كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا؛ فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَهُوَ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْخَالِصِ الْمَحْضِ.

الْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةُ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَالطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ، وَكُلُّ طَرِيقٍ سِوَى هَذَا الطَّرِيقِ فَمَسْدُودٌ، وَهُوَ لُبُّ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا، وَحُصُولُهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللهِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَعْظَمَ شُهُودًا لِفَقْرِهِ وَضَرُورَتِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ وَأَعَزَّ لَهُ وَأَعْظَمَ لِقَدْرِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ))، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللهم رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي حَاجَاتُهُ إِلَى اللهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَالْعَبْدُ لَهُ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَلَحْظَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ عِدَّةُ حَوَائِجَ إِلَى اللهِ لَا يَشْعُرُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا، فَأَفْقَرُ النَّاسِ إِلَى اللهِ مَنْ شَعَرَ بِهَذِهِ الْحَاجَاتِ، وَطَلَبَهَا مِنَ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ، فَيُغْنِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَيُعْطِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-:

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِّيَّاتِ   =    أَنَا الْمِسْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي

أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي   =  وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتِي

لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ   =   وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا   =  كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي

وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ     =  وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي

وَمَتَى شَهِدَ فَقْرَ النَّاسِ إِلَى اللهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى أَحَدٍ، وَلَمْ يُعَلِّقْ أَمَلَهُ وَرَجَاءَهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْحَقِيقِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَشْهَدُ فَقْرَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَتَضَرَّعُ لَهُ وَيَسْأَلُهُ أَلَّا يَكِلَهُ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنْ يُعِينَهُ عَلَى جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيَسْتَصْحِبُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ وَقْتٍ.

فَهَذَا حَرِيٌّ بِالْإِعَانَةِ التَّامَّةِ مِنْ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَمَا أَغْنَاهُ -حِينَئِذٍ- مِنْ فَقِيرٍ، وَمَا أَعَزَّهُ -حِينَئِذٍ- مِنْ ذَلِيلٍ، وَمَا أَقْوَاهُ مِنْ ضَعِيفٍ، وَمَا آنسَهُ مِنْ وَحِيدٍ، فَهُوَ الْغَنِيُّ بِلَا مَالٍ، الْقَوِيُّ بِلَا سُلْطَانٍ، الْعَزِيزُ بِلَا عَشِيرَةٍ، الْمَكْفِيُّ بِلَا عَتَادٍ.

افْتَقَرَ إِلَى اللهِ فَأَغْنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلَّ للهِ فَأَعَزَّهُ فِيهِمْ، وَتَوَاضَعَ للهِ فَرَفَعَهُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَغْنَى بِاللهِ فَأَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ، قَدْ تَمَّ لَهُ غِنَاهُ بِالْإِلَهِ الْحَقِّ، وَصَارَ مِنْ أَغْنَى الْعِبَادِ.

وَلِسَانُ حَالِ مِثْلِ هَذَا يَقُولُ:

غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمِ    =   وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِي عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ

فَيَا لَهُ مِنْ غَنِيٍّ مَا أَعْظَمَ خَطَرَهُ وَأَجَلَّ قَدْرَهُ!

وَيَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ عَظِيمِ الْمَنْفَعَةِ جَلِيلِ الْفَائِدَةِ، تَحْتَهُ مِنْ أَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ مَا لَا يَنَالُهُ الْوَصْفُ!)).

((قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُطْلَقَةُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ))

مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: الْقُدْرَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] أَيْ: مَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ.

وَالْقَدِيرُ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ بِالْقُدْرَةِ مِنَ الْقَادِرِ، وَ(مُقْتَدِرٌ) مِنْ (اقْتَدَرَ)، وَهُوَ أَبْلَغُ.

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].

وَوَرَدَ اسْمُ الْمُقْتَدِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ مَطْلُوبٌ، بِخِلَافِ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْعَجْزُ، وَلَا يَعْتَرِضُهُ فُتُورٌ، وَالْقَادِرُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ مَنْ يَتَيَسَّرُ لَهُ مَا يُرِيدُ عَلَى مَا يُرِيدُ لِظُهُورِ أَفْعَالِهِ، وَلَا يَظْهَرُ الْفِعْلُ اخْتِيَارًا إِلَّا مِنْ قَادِرٍ غَيْرِ عَاجِزٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20].

فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَالْقَدِيرُ هُوَ الْقَادِرُ، كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ هُوَ الْعَالِمُ، الْقَدِيرُ -سُبْحَانَهُ- كَامِلُ الْقُدْرَةِ؛ فَبِقُدْرَتِهِ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ، وَبِقُدْرَتِهِ دَبَّرَهَا، وَبِقُدْرَتِهِ سَوَّاهَا وَأَحْكَمَهَا، وَبِقُدْرَتِهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَبْعَثُ الْعِبَادَ لِلْجَزَاءِ، وَبِقُدْرَتِهِ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ عَلَى مَا يُرِيدُ وَيَشَاءُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21].

((جَمِيعُ الْأَرْزَاقِ وَأَصْنَافِ الْأَقْدَارِ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، فَخَزَائِنُهَا بِيَدِهِ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، {وَمَا نُنَزِّلُهُ} أَيِ: الْمُقَدَّرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ {إِلا بِقَدَرٍ} مَعْلُومٍ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ)).

الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ، وَالرَّفْعُ مِنَ اللهِ، وَالْوَضْعُ مِنَ اللهِ؛ فَـ((إِنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُضِلُّ وَيَهْدِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُوَلِّي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيَشْرَحُ صَدْرَ مَنْ يَشَاءُ لِلْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلُ صَدْرَ مَنْ يَشَاءُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ، مَا مِنْ قَلْبٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ؛ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، وَهُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إلَيْهِمًُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ؛ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمَ مُسْلِمًا، وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا، قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.

وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}.

وَقَالَ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}.

وَقَالَ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، وَقَالَ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}، وَالْفُلْكُ مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَهَا بِقَوْلِهِ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.

وَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} الْآيَاتِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} وَقَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}.

وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ؛ بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.

وَقَدْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.

وَقَالَ: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ})).

وَ((التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ: هُوَ أَنْ يَعْبُدَ الْمُوَحِّدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ الْحَقَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ شُهُودُ رُبُوبِيَّةِ الْحَقِّ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَهَذَا التَّوْحِيدُ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَادَ اعْتِرَافَهُ بِأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَشُهُودَهُ لِفَقْرِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَفَقْرِ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمَلِيكُهُ، لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا هُوَ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2].

{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].

{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْمَشْهَدَ؛ فَهَذَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ)).

وَ((الْمَخْلُوقُ لَيْسَ عِنْدَهُ لِلْعَبْدِ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، وَلَا عَطَاءٌ وَلَا مَنْعٌ، بَلْ رَبُّهُ -سُبْحَانَهُ- الَّذِى خَلَقَهُ، وَرَزَقَهُ، وَبَصَّرَهُ وَهَدَاهُ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِ بِهَا مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، وَمَعَ تَبَغُّضِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي مَعَ فَقْرِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا مَسَّهُ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِذَا أَصَابَهُ بِنِعْمَةٍ فَلَا رَادَّ لَهَا وَلَا مَانِعَ، كَما قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].

وَ {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2].

فَالْعَبْدُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ؛ فَالْأَمْرُ كُلُّهُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا، هُوَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ومُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، الْمُتَفَرِّدُ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)).

قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49-50].

((للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِنَاثًا لَا ذُكُورَ مَعَهُنَّ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ لَا إِنَاثَ مَعَهُمْ، وَيُعْطِي -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ؛ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَخْلُقُ، قَدِيرٌ عَلَى خَلْقِ مَا يَشَاءُ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَ خَلْقَهُ)).

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: ((لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

((فِي الْحَدِيثِ: نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى اللَّهِ، وَالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ، وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ)).

وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (ض2) قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ..)) ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ -كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((الْمَجْمُوعِ))-: ((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ)). أَخْرَجَ هَذَا بِنَحْوِهِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا. 

((حِكْمَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْبَالِغَةُ مِنَ الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ))

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ صَاحِبُ الْحِكْمَةِ.. صَاحِبُ الْحِكْمَةِ الْمُطْلَقَةِ, الْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ؛ فَهُوَ ذُو الْحِكْمَةِ، أَيْ: ذُو الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَ, وَكُلِّ مَا شَرَعَ, وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ, وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8].

وَالْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ حُكْمَهُ وَعِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ, فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا, وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا, وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا؛ فَهُوَ حَكِيمٌ فِي إِرَادَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ.

إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا, وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا, وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا.

هُوَ الْمَوْصُوفُ بِكَمَالِ الْحِكْمَةِ, وَبِكَمَالِ الْحُكْمِ بَيْنَ عِبَادِهِ.

فَالْحِكْمَةُ: هِيَ سَعَةُ الْعِلْمِ, وَالِاطِّلَاعُ عَلَى مَبَادِئِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا, وَعَلَى سَعَةِ الْحَمْدِ؛ حَيْثُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا, وَحَيْثُ يُنَزِّلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ, وَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ سُؤَالٌ, وَلَا يَقْدَحُ فِي حِكْمَتِهِ مَقَالٌ, {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].

فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي يَحْكُمُ اللهُ فِيهَا تُوجَدُ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ, لَا خَلَلَ فِيهَا وَلَا نَقْصٍ بِحَالٍ, بَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ وَالْحَمْدِ, فَلَا يَتَعَقَّبُهَا أَحَدٌ, وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَدْحِ فِيهَا، بِخِلَافِ حُكْمِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُوَافِقُ الصَّوَابَ, وَقَدْ لَا يُوَافِقُهُ)).

إِنَّ الْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكُونَانِ وَفْقَ حِكْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ-، قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

((هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فَرْضُ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مَأْمُورِينَ بِتَرْكِهِ؛ لِضَعْفِهِمْ، وَعَدَمِ احْتِمَالِهِمْ لِذَلِكَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَوُوا؛ أَمَرَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْقِتَالِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَحُصُولِ أَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمَتَالِفِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْعِقَابِ الْأَلِيمِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالظَّفَرِ بِالْغَنَائِمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُرْبٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ.

{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}: وَذَلِكَ مِثْلُ الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ؛ فَإِنَّهُ شَرٌّ؛ لِأَنَّهُ يُعْقِبُ الْخِذْلَانَ، وَتَسَلُّطَ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَحُصُولَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَفَوَاتَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَحُصُولَ الْعِقَابِ.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي أَنَّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ الَّتِي تَكْرَهُهَا النُّفُوسُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ.. أَنَّهَا خَيْرٌ بِلَا شَكٍّ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الشَّرِّ الَّتِي تُحِبُّ النُّفُوسُ لِمَا تَتَوَهَّمُهُ فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ.. فَهِيَ شَرٌّ بِلَا شَكٍّ.

وَأَمَّا أَحْوَالُ الدُّنْيَا؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ مُطَّرِدًا، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ إِذَا أَحَبَّ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ، فَالْأَوْفَقُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ، وَيَجْعَلَ الْخَيْرَ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَقْدَرُ عَلَى مَصْلَحَةِ عَبْدِهِ مِنْهُ، وَأَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}؛ فَاللَّائِقُ بِكُمْ أَنْ تَتَمَشَّوْا مَعَ أَقْدَارِهِ؛ سَوَاءٌ سَرَّتْكُمْ أَوْ سَاءَتْكُمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11].

((إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِأَشْنَعِ الْكَذِبِ -وَهُوَ اتِّهَامُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ (ض1) بِالْفَاحِشَةِ- جَمَاعَةٌ مُنْتَسِبُونَ إِلَيْكُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ-، لَا تَحْسَبُوا قَوْلَهُمْ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنْ تَبْرِئَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَزَاهَتِهَا، وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهَا، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَتَمْحِيصِ الْمُؤْمِنِينَ)).

وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ: الِابْتِلَاءَ وَالِاخْتِبَارَ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165].

(({وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} أَيْ: يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَاسْتَخْلَفَكُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَكُمْ جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَابْتَلَاكُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فِي الْقُوَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَالرِّزْقِ، وَالْخَلْقِ، وَالْخُلُقِ؛ {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، فَتَفَاوَتَتْ أَعْمَالُكُمْ.

{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لِمَنْ عَصَاهُ وَكَذَّبَ بِآيَاتِهِ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا، وَتَابَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ)).

وَيَقُولُ تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].

(({نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أَيْ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْحَالُ أَنَّ رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الدُّنْيَا.

فَمَعَايِشُ الْعِبَادِ وَأَرْزَاقُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ الَّذِي يُقَسِّمُهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، فَيَبْسُطُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ)).

فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ يُدْرِكُ تَمَامَ الْإِدْرَاكِ أَنَّ فِي الْعَطَاءِ كَمَا فِي الْمَنْعِ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا، قَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

((اللَّهُ -تَعَالَى- أَوْجَدَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَابْتَلَاهُمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ؛ فِتْنَةً مِنْهُ -تَعَالَى- لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَمَنْ يَفْتَتِنُ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْفِتَنِ وَمَنْ يَنْجُو، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}: فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)).

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

فَالْآيَةُ الْأُولَى فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ.

وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ.

فَالْعَبْدُ يَكْرَهُ مُوَاجَهَةَ عَدُوِّهِ بِقُوَّتِهِ الْغَضَبِيَّةِ؛ خَشْيَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَكْرُوهُ خَيْرٌ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَيُحِبُّ الْمُوَادَعَةَ وَالْمُتَارَكَةَ، وَهَذَا الْمَحْبُوبُ شَرٌّ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.

وَكَذَلِكَ يَكْرَهُ الْمَرْأَةَ لِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا، وَلَهُ فِي إِمْسَاكِهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ لَا يَعْرِفُهُ، وَيُحِبُّ الْمَرْأَةَ لِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا، وَلَهُ فِي إِمْسَاكِهَا شَرٌّ كَثِيرٌ لَا يَعْرِفُهُ؛ فَالْإِنْسَانُ كَمَا وَصَفَهُ بِهِ خَالِقُهُ؛ ظَلُومٌ جَهُولٌ.

فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْمِعْيَارَ عَلَى مَا يَضُرُّهُ وَيَنْفَعُهُ مَيْلَهُ وَحُبَّهُ، وَنُفْرَتَهُ وَبُغْضَهُ، بَلِ الْمِعْيَارُ عَلَى ذَلِكَ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَهُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَأَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ طَاعَةُ رَبِّهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَأَضَرُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعْصِيَتُهُ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

فَإِذَا قَامَ بِطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ مُخْلِصًا لَهُ؛ فَكُلُّ مَا يجْرِي عَلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ يَكُونُ خَيْرًا لَهُ، وَإِذَا تَخَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ؛ فَكُلُّ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ مَحْبُوبٍ هُوَ شَرٌّ لَهُ.

فَمَنْ صَحَّتْ لَهُ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَالْفِقْهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُ وَالْمِحَنَ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِ فِيهَا ضُرُوبٌ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا عِلْمُهُ وَلَا فِكْرَتُهُ، بَلْ مَصْلَحَةُ الْعَبْدِ فِيمَا يَكْرَهُ أَعْظَمُ مِنْهَا فِيمَا يُحِبُّ؛ فَعَامَّةُ مَصَالِحِ النُّفُوسِ فِي مَكْرُوهَاتِهَا، كَمَا أَنَّ عَامَّةَ مَضَارِّهَا وَأَسْبَابِ هَلَكَتِهَا فِي مَحْبُوبَاتِهَا.

فَانْظُرْ إِلَى غَارِسِ جَنَّةٍ مِنَ الْجَنَّاتِ خَبِيرٍ بِالْفِلَاحَةِ غَرَسَ جَنَّةً، وَتَعَاهَدَهَا بِالسَّقْيِ وَالْإِصْلَاحِ حَتَّى أَثْمَرَتْ أَشْجَارُهَا، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا يَفْصِلُ أَوْصَالَهَا، وَيَقْطَعُ أَغْصَانَهَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهَا لَوْ خُلِّيَتْ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَطِبْ ثَمَرَتُهَا، فَيُطَعِّمُهَا مِنْ شَجَرَةٍ طَيِّبَةِ الثَّمَرَةِ، حَتَّى إِذَا الْتَحَمَتْ بِهَا وَاتَّحَدَتْ، وَأَعْطَتْ ثَمَرَتَهَا؛ أَقْبَلَ يُقَلِّمُهَا، وَيَقْطَعُ أَغْصَانَهَا الضَّعِيفَةَ الَّتِي تُذْهِبُ قُوَّتَهَا، وَيُذِيقُهَا أَلَمَ الْقَطْعِ وَالْحَدِيدِ لِمَصْلَحَتِهَا وَكَمَالِهَا؛ لِتَصْلُحَ ثَمَرَتُهَا أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْمُلُوكِ، ثُمَّ لَا يَدَعُهَا وَدَوَاعِيَ طَبْعِهَا مِنَ الشُّرْبِ كُلَّ وَقْتٍ، بَلْ يُعَطِّشُهَا وَقْتًا وَيَسْقِيهَا وَقْتًا، وَلَا يَتْرُكُ الْمَاءَ عَلَيْهَا دَائِمًا؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْضَرَ لِوَرَقِهَا، وَأَسْرَعَ لِنَبَاتِهَا، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى تِلْكَ الزِّينَةِ الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا مِنَ الْأَوْرَاقِ فَيُلْقِي عَنْهَا كَثِيرًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّينَةَ تَحُولُ بَيْنَ ثَمَرَتِهَا وَبَيْنَ كَمَالِ نُضْجِهَا وَاسْتِوَائِهَا، كَمَا فِي شَجَرِ الْعِنَبِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ يَقْطَعُ أَعْضَاءَهَا بِالْحَدِيدِ، وَيُلْقِي عَنْهَا كَثِيرًا مِنْ زِينَتِهَا، وَذَلِكَ عَيْنُ مَصْلَحَتِهَا، فَلَوْ أَنَّهَا ذَاتُ تَمْيِيزٍ وَإِدْرَاكٍ كَالْحَيَوَانِ لَتَوَهَّمَتْ أَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ لَهَا، وَإِضْرَارٌ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنُ مَصْلَحَتِهَا.

وَكَذَلِكَ الْأَبُ الشَّفِيقُ عَلَى وَلَدِهِ، الْعَالِمُ بِمَصْلَحَتِهِ، إِذَا رَأَى مَصْلَحَتَهُ فِي إِخْرَاجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ عَنهُ؛ بَضَعَ جِلْدَهُ -أَيْ: شَقَّهُ-، وَقَطَعَ عُرُوقَهُ، وَأَذَاقَهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ، وَإِنْ رَأَى شِفَاهُ فِي قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَبَانَهُ -أَيْ: فَصَلَهُ وَقَطَعَهُ- مِنْهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ، وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى مَصْلَحَتَهُ فِي أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ الْعَطَاءَ؛ لَمْ يُعْطِهِ، وَلَمْ يُوَسِّعْ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْبَرُ الْأَسْبَابِ إِلَى فَسَادِهِ وَهَلَاكِهِ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَهَوَاتِهِ حِمْيَةً لَهُ وَمَصْلَحَةً، لَا بُخْلًا عَلَيْهِ.

فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.. إِذَا أَنْزَلَ بِهِمْ مَا يَكْرَهُونَ؛ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَلَّا يُنْزِلَهُ بِهِمْ؛ نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَلُطْفًا بِهِمْ، وَلَوْ مُكِّنُوا مِنَ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ لَعَجَزُوا عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ؛ عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا؛ لَكِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- تَوَلَّى تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا، فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمُوقِنُونَ بِأَسْمَاِئِه وَصِفَاتِهِ، فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْجُهَّالِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَازَعُوهُ تَدْبِيرَهُ، وَقَدَحُوا فِي حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِهِ، وَعَارَضُوا حُكْمَهُ بِعُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَآرَائِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَسِيَاسَاتِهِمُ الْجَائِرَةِ؛ فَلَا لِرَبِّهِمْ عَرَفُوا، وَلَا لِمَصَالِحِهِمْ حَصَّلُوا -وَاللهُ الْمُوَفِّقُ-.

وَمَتَى ظَفَرَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ سَكَنَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ فِي جَنَّةٍ لَا يُشْبِهُ نَعِيمَهَا إِلَّا نَعِيمُ جَنَّةِ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ، وَالرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ؛ فَإِنَّهُ طَيِّبُ النَّفْسِ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ اخْتِيَارِ اللهِ لَهُ، وَطُمَأْنِينَتُهَا إِلَى أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَمَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الرِّضَا هُوَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِعَدْلِ اللهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَحُسْنِ اخْتِيَارِهِ، فَكُلَّمَا كَانَ بِذَلِكَ أَعْرَفَ كَانَ بِهِ أَرْضَى؛ فَقَضَاءُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ- فِي عَبْدِهِ دَائِرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ)).

((إِنَّ الرَّاضِيَ وَاقِفٌ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ، مُعْرِضٌ عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مِنْ قُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ، فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ((قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَوَدِدْتُ أَنِّي مَيِّتٌ)).

فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: ((وَلِمَ؟)).

فَقَالَ: ((لِمَا أَتَخَوَّفُ مِنَ الْفِتْنَةِ)).

فَقَالَ يُوسُفُ: ((لَكِنِّي لَا أَكْرَهُ طُولَ الْبَقَاءِ)).

فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ((وَلِمَ تَكْرَهُ الْمَوْتَ؟)).

قَالَ: ((لَعَلِّي أُصَادِفُ يَوْمًا أَتُوبُ فِيهِ، وَأَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا)).

فَقِيلَ لِوُهَيْبٍ: ((أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أَنْتَ؟)).

فَقَالَ: ((أَنَا لَا أَخْتَارُ شَيْئًا، أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ)).

فَقَبَّلَ الثَّوْرِيُّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: ((رُوحَانِيَّةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ)).

فَهَذَا حَالُ عَبْدٍ قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ وَالْمَوْتِ، وَوَقَفَ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مِنْهُمَا.

أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَنْعَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ عَطَاءٌ، وَابْتِلَاءَهُ إِيَّاهُ عَافِيَةٌ.

فَالْعَاقِلُ الرَّاضِي: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا يَكْرَهُهُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُحِبُّهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: يَا ابْنَ آدَمَ! نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيمَا تَكْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ فِيمَا تُحِبُّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ارْضَ عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ بِكَ؛ فَإِنَّهُ مَا مَنَعَكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ، وَلَا ابْتَلَاكَ إِلَّا لِيُعَافِيَكَ، وَلَا أَمْرَضَكَ إِلَّا لِيَشْفِيَكَ، وَلَا أَمَاتَكَ إِلَّا لِيُحْيِيَكَ؛ فَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَ الرِّضَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَتَسْقُطَ مِنْ عَيْنِهِ.

أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُظْهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ اخْتِيَارٌ، وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا، وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي اخْتَارَ وُجُودَهُ، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ لَهُ وَقَضَاهُ؛ مِنْ عَافِيَةٍ وَبَلَاءٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَنَبَاهَةٍ وَخُمُولٍ، فَكَمَا تَفَرَّدَ -سُبْحَانَهُ- بِالْخَلْقِ تَفَرَّدَ بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.

فَإِذَا تَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَوَّلٌ -بَعْدَ ذَلِكَ- غَيْرَ الرِّضَا بِمَوَاقِعِ الْأَقْدَارِ، وَمَا يَجْرِي بِهِ مِنْ رَبِّهِ الِاخْتِيَارُ)).

((إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُوُّهُ إِبْلِيسُ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا؛ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شَقَاوَتِهِ، وَبُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ، وَطَرْدِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ، وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ؛ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ.

فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ لِسَائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرَامَةِ السَّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَقْضِيهَا لَهُ وَفِيهَا هَلَاكُهُ وَشِقْوَتُهُ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهَا لَهُ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَنْعُهُ مِنْهَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً وَحِفْظًا، لَا بُخْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرَامَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ-بِجَهْلِهِ- أَنَّ رَبَّهُ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُكْرِمُهُ، وَيَرَاهُ يَقْضِي حَوَائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا حَشْوُ قَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-.

فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ -تَعَالَى- فِيهِ الْخِيرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ، وَلَا تَكُنِ اسْتِخَارَةً بِاللِّسَانِ بِلَا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخَارَةُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَصَالِحِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لَهُ إِلَى تَفَاصِيلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، بَلْ إِنْ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الْهَلَاكِ، وَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ.

وَإِذَا أَعْطَاكَ مَا أَعْطَاكَ بِلَا سُؤَالٍ تَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَبَلَاغًا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ قَاطِعًا لَكَ عَنْهُ، وَلَا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضَاتِهِ)).

((حَالُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- عِنْدَ الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ))

لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَثَلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ -وَعَلَى رَأْسِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ- فِي مَسْأَلَةِ عَطَاءِ اللهِ وَمَنْعِهِ، وَكَيْفَ تَعَامَلُوا مَعَهَا؛ فَقَدْ أَعْطَى اللهُ نَبِيَّهُ سُلْيَمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْعَطَاءِ وَالْمُلْكِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ -تَعَالىَ- عَنْ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 35-39].

وَلَقَدْ فَطَنَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالْعَطَايَا، وَأَدْرَكَ وَاجِبَهُ نَحْوَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ فِي الشُّكْرِ زِيَادَتَهَا وَأَدَاءَ حَقِّهَا، لِذَلِكَ قَالَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَمَا أُحْضِرَ إِلَيْهِ عَرْشُ بِلْقِيسَ مَلَكَةِ سَبَأٍ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].

((قَالَ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} أَيْ: لِيَخْتَبِرَنِي بِذَلِكَ، فَلَمْ يَغْتَرَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ، بَلْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِبَارٌ مِنْ رَبِّهِ، فَخَافَ أَلَّا يَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الشُّكْرَ لَا يَنْتَفِعُ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}: غَنِيٌّ عَنْ أَعْمَالِهِ، كَرِيمٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ، يَعُمُّ بِهِ الشَّاكِرَ وَالْكَافِرَ، إِلَّا أَنَّ شُكْرَ نِعَمِهِ دَاعٍ لِلْمَزِيدِ مِنْهَا، وَكُفْرَهَا دَاعٍ لِزَوَالِهَا)).

وَكَذَلِكَ حَالُهُمْ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمَنْعِ وَالِابْتِلَاءِ، فَآتَاهُمُ اللهُ ثَمَرَةَ صَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ؛ ((فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.

وَلَوْلَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ، فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ.

وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.

وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ؛ فَقَالَ: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.

وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ -تَعَالَى-، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَه وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.

وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثَّرَهُ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.

فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضًا مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.

وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40].

فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ، ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ، حَتَّى كَلَّمَهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.

وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحتَمِلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدُهُ، بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.

وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ.. لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ مِنْ سِلْمٍ وَحَرْبٍ, وَغِنَى وَفَقْرٍ, وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ وَظَعْنٍ عَنْهُ وَتَرْكِهِ للهِ، وَقَتْلِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.

فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءَاتُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.

وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ.

يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ، وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ، وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ، لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ، هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.

وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولُهُ الْمُطَاعَ لَا سِوَاهُ.

فَلِلَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ، وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ.. إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!

كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا=فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ » .

((رُبَّمَا كَانَ الْمَنْعُ رَحْمَةً وَالْعَطَاءُ اسْتِدْرَاجًا!))

إِنَّ السَّبَبَ فِي الْعَطَاءِ أَوِ الْمَنْعِ هُوَ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]، وَلَيْسَتْ تَوْسِعَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ إِكْرَامًا مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ، وَلَا تَضْيِيقُهُ عَلَيْهِ إِهَانَةً لَهُ، بَلْ ذَلِكَ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15-17].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ إِكْرَامٌ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56].

وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ؛ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ إِهَانَةٌ لَهُ.

قَالَ اللهُ: {كَلَّا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زُعِمَ، لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا؛ فَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ؛ إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا بِأَنْ يَصْبِرَ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183].

((يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44-45].

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أَيْ: وَسَأُمْلِي لَهُمْ، أُطَوِّلُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ؛ {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ)).

 قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33-35].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تُسَاوِي عِنْدَهُ شَيْئًا، وَأَنَّهُ لَوْ لَا لُطْفُهُ وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ الَّتِي لَا يُقَدِّمُ عَلَيْهَا شَيْئًا؛ لَوَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا تَوْسِيعًا عَظِيمًا، وَلَجَعَلَ {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} أَيْ: سَلَالِيمَ وَدَرَجًا مِنْ فِضَّةٍ {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}: عَلَى سُطُوحِهِمْ.

{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} مِنْ فِضَّةٍ، وَلَجَعَلَ لَهُمْ زُخْرُفًا، أَيْ: وَلَزَخْرَفَ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِفِ؛ وَلَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ رَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّسَارُعِ فِي الْكُفْرِ وَكَثْرَةِ الْمَعَاصِي بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا.

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ- يَمْنَعُ الْعِبَادَ بَعْضَ أُمُورِ الدُّنْيَا وَعَطَاءَاتِهَا مَنْعًا عَامًّا أَوْ مَنْعًا خَاصًّا لِمَصَالِحِهِمْ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَاتِ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وهِيَ مُنَغَّصَةٌ مُكَدَّرَةٌ فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ لِرَبِّهِمْ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ -فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى؛ أَنْ تَمْتَثِلَ الْأَمْرَ، وَأَنْ تَجْتَنِبَ النَّهْيَ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ مِنَ الْمُتَّقِينَ-؛ لِأَنَّ نَعِيمَهَا تَامٌّ كَامِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ فَمَا أَشَدَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ -بَيْنَ دَارِ الدُّنْيَا وَدَارِ الْآخِرَةِ-!)).

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ فَوَائِدُ مُتَكَاثِرَاتٌ:

-أَنَّ مَا يُعْطِيهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْكُفَّارَ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا إِنَّمَا ذَلِكَ لِهَوَانِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ، وَحَقَارَتِهَا، وَابْتِلَاءً لَهُمْ وَفِتْنَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ بِهَا لِلهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا)).

لِهَذَا قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا صَعِدَ إِلَى مَشْرُبَةٍ -وَالْمَشْرُبَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا: الْغُرْفَةُ وَالْعُلِّيَّةُ- لَمَّا آلَى النَّبِيُّ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ، فَرَأَى النَّبِيَّ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَا عُمَرَ بِالْبُكَاءِ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ!!)).

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ لَمَّا سَمِعَ هَذَا مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَالَ: ((أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!!))، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا)).

وفِي رِوَايَةٍ: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟!!)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

-وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي يُعْطِيهَا اللهُ لِعَبْدِهِ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ -أَيِ: الْعَبْدُ- مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ اسْتِدْرَاجٌ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَالْحَدِيثُ مَخُوفٌ جِدًّا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَهُ مَلِيًّا، وَأَنْ نَخْشَعَ عِنْدَهُ.

((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ -أَيْ: مَا يُحِبُّ الْعَبْدُ- وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ -عَلَى مَعَاصِي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ-؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ)).

-وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَاتِ: أَنَّ فِيهَا التَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

-وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: بَيَانُ حَقَارَةِ الدُّنْيَا، وَهَوَانِهَا عَلَى اللهِ.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَتَأَمَّلْ فِي الْحَدِيثِ؛ ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا)) كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا بِمَجْمُوعِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ كُنُوزٍ وَزُخْرُفٍ، وَزِينَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَنَضَارَتِهَا وَحُسْنِهَا، وَمُلْكِهَا.. ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))، مُنْذُ خَلَقَهَا إِلَى أَنْ يَرِثَهَا لَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ!

تَأَمَّلْ فِي عُمُرِكَ أَنْتَ؛ مَا يَبْلُغُ مِنْ مَدَى مَا بَيْنَ خَلْقِ الدُّنْيَا إِلَى فَنَائِهَا؟!!

وَمْضَةُ بَرْقٍ، هَذَا عُمُرُكَ!

مِنْ فَوَائِدِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَمْنَعُ عَبْدَهُ بَعْضًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لِيَنَالَ مَنْزِلَةً عَالِيَةً عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَلَا تَأْسَ عَلَى فَائِتٍ!

إِيَّاكَ أَنْ تَأْسَى عَلَى فَائِتٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالْكُلُّ إِلَى زَوَالٍ، بَلْ إِنَّهُ يَمْنَعُكَ لِيُعْطِيَكَ، إِنَّمَا حَرَمَكَ لِيُعْطِيَكَ، كَمَا أَنَّهُ يُمِيتُكَ لِيُحْيِيَكَ، كَمَا أَنَّهُ يُفْقِرُكَ لِيُغْنِيَكَ.

((إِنَّ اللهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَخَافُونَ عَلَيْهِ)).

تَأَمَّلْ فِي هَذَا، وَأَصْغِ لَهُ بِأُذُنِ قَلْبِكَ!

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللهم لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ)): ((فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَهُوَ أَلَّا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللهُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُسْأَلُ إِلَّا هُوَ.

وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَنْفَعُ وَمَا لَا يَنْفَعُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ مَالًا أَوْ دُنْيَا أَوْ رِئَاسَةً كَانَ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللهِ، مُنْجِيًا لَهُ مِنْ عَذَابِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15-17].

يَقُولُ: مَا كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، بَلْ هَذَا ابْتِلَاءٌ؛ لِيَشْكُرَ الْعَبْدُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الضَّرَّاءِ؛ فَمَنْ رُزِقَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ كَانَ كُلُّ قَضَاءٍ يَقْضِيهِ اللهُ خَيْرًا لَهُ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)).

وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ: أَنْ يَعْبُدَ اللهَ، وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا؛ فَيُطِيعُهُ، وَيُطِيعُ رُسُلَهُ، وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

وَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فَيَدْخُلُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَأَوْجَبَهُ وَأَرْضَاهُ، وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْبُدَ اللهَ، وَيَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَسْتَعِينَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ تَوْحِيدٌ لَهُ، فَيَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5])).

((فَلَا تَظُنَّ أَنَّ عَطَاءَهُ كُلَّ مَا أَعْطَى لِكَرَامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْعَهُ كُلَّ مَا يَمْنَعُهُ لِهَوَانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ يَمْتَحِنُ بِهِمَا عِبَادَهُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 17] أَيْ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ وَخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَمَا ذَاكَ لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنِّي وَامْتِحَانٌ لَهُ؛ أَيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أَمْ يَكْفُرُنِي فَأَسْلُبَهُ إِيَّاهُ، وَأُخَوِّلَهُ غَيْرَهُ؟

وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ فَذَلِكَ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنِّي لَهُ؛ أَيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا فَاتَهُ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، أَمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟

فَرَدَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إِكْرَامٌ، وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ: لَمْ أَبْتَلِ عَبْدِي بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ.

فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا يَدُورَانِ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرِهِ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِإِهَانَتِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ مَنْ يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيُهِينُ مَنْ يُهِينُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)).

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَمُنُّ بِالْعَطَاءِ كَمَا يَمُنُّ بِالْمَنْعِ, وَيَمُنُّ بِالْمَرَضِ كَمَا يَمُنُّ بِالصِّحَّةِ, وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.

((طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّ جَلَالُهُ- هُوَ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، وَقُدْرَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مُطْلَقَةٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَحُدُّ قُدْرَتَهُ حَدٌّ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيروَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}.

يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

((وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ: {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} أَيْ: لَا نَبَاتَ فِيهَا، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} أَيِ: الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ، {وَرَبَتْ}: ثُمَّ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، فَيُحْيِي بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ.

{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُمُودِهَا {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِ بَعْثِهِمْ وَنُشُورِهِمْ؛ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فَكَمَا لَمْ تَعْجَزْ قُدْرَتُهُ عَنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا تَعْجَزُ عَنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى)).

وَمِنْ لُطْفِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِعِبَادِهِ، وَعَظِيمِ رَحْمَتِهِ بِهِمْ: أَنَّهُ يُفَرِّجُ بِقُدْرَتِهِ هُمُومَ عِبَادِهِ، وَيُزِيلُ كُرُبَاتِهِمْ، وَيَأْتِي -سُبْحَانَهُ- بِالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَبِالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 1-6].

«قَدْ فَتَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَوَسَّعْنَاهُ لِلْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلْنَاهُ مُنْبَسِطًا رَاضِيًا، وَمُتَحَمِّلًا لِأَعْبَاءِ حَمْلِ الرِّسَالَةِ، وَتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ، وَمُتَحَمِّلًا أَخْلَاقَهُمْ.

وَحَطَطْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ هُمُومٍ كُبْرَى لِإِصْلَاحِ قَوْمِكَ، وَإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَبَائِثِهَا وَظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا.

فَبَيَّنَ لَكَ وَسَائِلَ التَّبْلِيغِ، وَأَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ، فَأَلْقَى عَنْكَ كُلَّ هُمُومِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ تَعْلِيمَاتٍ وَأَوَامِرَ رَبَّانِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ مَنْهَجَ دَعْوَتِكَ.

وَأَعْلَيْنَا لَكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- ذِكْرَكَ الْحَسَنَ؛ إِذْ جَعَلْتُكَ رَسُولًا، وَاسْتَمَرَّ عَطَائِي لَكَ حَتَّى إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِنَّ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ يُسْرًا وَرَخَاءً عَاجِلًا، فَإِنْ يُظْهِرْكَ اللهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ؛ فَذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْ بَعْدِ التَّعْسِيرِ.

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا كَذَلِكَ؛ فَكُنْ عَلَى أَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَلَقَّ الْأَحْدَاثَ الْحَاضِرَةَ الْمُؤْلِمَةَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَبِنَفْسٍ مُنْشَرِحَةٍ مَشْحُونَةٍ بِالْأَمَلِ فِيمَا سَيَأْتِي، صَابِرَةٍ عَلَى الْعُسْرِ الْوَاقِعِ.

فَالنَّفْسُ الْمَشْحُونَةُ بِأَمَلِ الْيُسْرِ الْقَادِمِ يَضْمُرُ لَدَيْهَا أَلَمُ الْعُسْرِ الْقَائِمِ، وَمُنْتَظِرُ الْفَجْرِ الْقَرِيبِ لَا يَشْعُرُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْقَاتِمِ».

((قَوْلُهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ عُسْرٌ وَصُعُوبَةٌ فَإِنَّ الْيُسْرَ يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْعُسْرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ عَلَيْهِ الْيُسْرُ فَأَخْرَجَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَإِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

وَتَعْرِيفُ (الْعُسْرِ) فِي الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَتَنْكِيرُ (الْيُسْرِ) يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِهِ؛ فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ.

 

وَفِي تَعْرِيفِهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عُسْرٍ -وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الصُّعُوبَةِ مَا بَلَغَ- فَإِنَّهُ فِي آخِرِهِ التَّيْسِيرُ مُلَازِمٌ لَهُ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].

«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».

فَإِذَا أُغْلِقَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ الْأَبْوَابُ، وَضَاقَتْ بِهِ السُّبُلُ، وَبَلَغَتْ بِهِ الشِّدَّةُ مُنْتَهَاهَا؛ فَلْيَلْجَأْ إِلَى رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ لِيَفْتَحَ لَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ، وَيَرْزُقَهُ بِقُدْرَتِهِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3].

((وَمَنْ يَخَفِ اللهَ فَيَعْمَلْ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَيَجْتَنِبْ مَا نَهَاهُ عَنْهُ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ ضِيقٍ، وَيُيَسِّرْ لَهُ أَسْبَابَ الرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي حُسْبَانِهِ.

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ كَافِيهِ مَا أَهَمَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ؛ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعْجِزُهُ مَطْلُوبٌ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَتَقْدِيرًا لَا يُجَاوِزُهُ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36].

((ألَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَكَيْدَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالُوهُ بِسُوءٍ؟! بَلَى؛ إِنَّهُ سَيَكْفِيهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَيُخَوِّفُونَكَ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا سَتُؤْذِيكَ، وَمَنْ يَخْذُلْهُ اللهُ فَيُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ يَهْدِيهِ إِلَيْهِ)).

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ-: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].

فَمَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَى الْمَرْءِ الْمِحْنَةُ فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ «فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَالْإِيَاسُ يُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ، وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ».

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ، وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.

وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ؛ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ، وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.

وَالْيَقِينُ فِي طَلَاقَةِ قُدْرَةِ الْحَقِّ -جَلَّ وَعَلَا- سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَإِجَابَتُهُ -سُبْحَانَهُ- دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَتَفْرِيجُهُ بِقُدْرَتِهِ هُمُومَ الْمَهْمُومِينَ سُنَّةُ الْكَرِيمِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي خَلْقِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {أَمَّنْ يُحِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهُ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

((أَعِبَادَةُ مَا تُشْرِكُونَ بِاللهِ خَيْرٌ، أَمِ الَّذِي يُجِيبُ الْمَكْرُوبَ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ النَّازِلَ بِهِ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ لِمَنْ سَبَقَكُمْ فِي الْأَرْضِ؟!!

أَمَعْبُودٌ مَعَ اللهِ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ؟!!

قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ وَتَعْتَبِرُونَ؛ فَلِذَلِكَ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ)). الميسر

هَذَا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعَا رَبَّهُ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرُ} [القمر: 10].

((فَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ أَنِّي ضَعِيفٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ هَؤُلَاءِ؛ فَانْتَصِرْ لِي بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِكَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِكَ)).

لَقَدْ تَجَلَّتْ طَلَاقَةُ قُدْرِتِهِ -سُبْحَانَهُ- فِي الْفَرَجِ وَالْيُسْرِ، قَالَ تَعَالَى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 10-15].

((فَأَجَابَ اللَّهُ سُؤَالَهُ، فَانْتَصَرَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} أَيْ: كَثِيرٍ جِدًّا مُتَتَابِعٍ.

{وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} فَجَعَلَتِ السَّمَاءُ يَنْزِلُ مِنْهَا مِنَ الْمَاءِ شَيْءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَتَفَجَّرَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا؛ حَتَّى التَّنُّورُ الَّذِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِيهِ؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَنْبَعًا لِلْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ النَّارِ.

{فَالْتَقَى الْمَاءُ} أَيْ: مَاءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ {عَلَى أَمْرٍ} مِنَ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، {قَدْ قُدِرَ} أَيْ: قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ وَقَضَاهُ؛ عُقُوبَةً لِهَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ الطَّاغِينَ.

{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أَيْ: وَنَجَّيْنَا عَبْدَنَا نُوحًا عَلَى السَّفِينَةِ ذَاتِ الْأَلْوَاحِ وَالدُّسُرِ أَيِ: الْمَسَامِيرِ الَّتِي قَدْ سُمِرَتْ بِهَا أَلْوَاحُهَا، وَشُدَّ بِهَا أَسْرُهَا.

{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: تَجْرِي بِنُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ بِرِعَايَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَحِفْظٍ مِنْهُ لَهَا عَنِ الْغَرَقِ، وَنَظَرٍ وَكَلَاءَةٍ مِنْهُ -تَعَالَى-، وَهُوَ نِعْمَ الْحَافِظُ الْوَكِيلُ؛ {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أَيْ: فَعَلْنَا بِنُوحٍ مَا فَعَلْنَا مِنَ النَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ جَزَاءً لَهُ؛ حَيْثُ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَكَفَرُوا بِهِ، فَصَبَرَ عَلَى دَعْوَتِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَلَمْ يَرُدَّهُ عَنْهُ رَادٌّ، وَلَا صَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ صَادٌّ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} الْآيَةَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّا أَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ، وَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ؛ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْكَافِ.

{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَيْ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا قِصَّةَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ آيَةً يَتَذَكَّرُ بِهَا الْمُتَذَكِّرُونَ؛ عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى الرُّسُلَ وَعَانَدَهُمْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِعِقَابٍ عَامٍّ شَدِيدٍ، أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى السَّفِينَةِ وَجِنْسِهَا، وَأَنَّ أَصْلَ صَنْعَتِهَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ أَبْقَى اللَّهُ تَعَالَى صَنْعَتَهَا وَجِنْسَهَا بَيْنَ النَّاسِ؛ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى رَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، وَعِنَايَتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ؛ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَيْ: فَهَلْ مِنْ مُتَذَكِّرٍ لِلْآيَاتِ، مُلْقٍ ذِهْنَهُ وَفِكْرَتَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْيُسْرِ؟!!)).

ثُمَّ تَجَلَّتْ طَلَاقَةُ قُدْرَتِهِ -سُبْحَانَهُ- فِي إِعَادَةِ حَالَةِ السُّكُونِ وَالِاسْتِقْرَارِ، قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].

((لَمَّا أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ -يَعْنِي: الْكَافِرِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ--، وَنَجَّى نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الَّذِي خَرَجَ مِنْكِ، وَالَّذِي نَزَلَ إِلَيْكِ، أَيِ: ابْلَعِي الْمَاءَ الَّذِي عَلَى وَجْهِكِ، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} فَامْتَثَلَتَا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَابْتَلَعَتِ الْأَرْضُ مَاءَهَا، وَأَقْلَعَتِ السَّمَاءُ، فَنَضَبَ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، وَقُضِيَ الأَمْرُ بِهَلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ، وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَاسْتَوَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ، أَيْ: أَرْسَتْ عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ.

{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: أُتْبِعُوا بَعْدَ هَلَاكِهِمْ لَعْنَةً وَبُعْدًا، وَسُحْقًا لَا يَزَالُ مَعَهُمْ)).

وَهَذَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ فِي شِدَّتِهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَتَتَجَلَّى قُدْرَتُهُ -سُبْحَانَهُ- فِي إِزَالَةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.

وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.

فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ-، تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ، قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.

أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.

وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.

((التَّقْوَى وَحُسْنُ التَّوَكُّلِ سَبِيلُ تَحْصِيلِ عَطَاءِ وَرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ))

إِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُنَالُ بِمَعْصِيَتِهِ، إِنَّمَا يُنَالُ بِطَاعَتِهِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].

(({وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} أَيْ: طَيِّبُ التُّرْبَةِ وَالْمَادَّةِ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ مَطَرٌ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ الَّذِي هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ: بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ فَلَيْسَتِ الْأَسْبَابُ مُسْتَقِلَّةً بِوُجُودِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ بِذَلِكَ.

{وَالَّذِي خَبُثَ} مِنَ الْأَرَاضِي {لَا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} أَيْ: إِلَّا نَبَاتًا خَاسًّا لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا بَرَكَةَ.

{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أَيْ: نُنَوِّعُهَا، وَنُبَيِّنُهَا، وَنَضْرِبُ فِيهَا الْأَمْثَالَ وَنَسُوقُهَا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِهَا، وَصَرْفِهَا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ؛ فَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَصَّلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيَتَلَقُّونَهَا مُفْتَقِرِينَ إِلَيْهَا، فَرِحِينَ بِهَا، فَيَتَدَبَّرُونَهَا وَيَتَأَمَّلُونَهَا، فَيُبَيِّنُ لَهُمْ مِنْ مَعَانِيهَا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَهَذَا مِثَالٌ لِلْقُلُوبِ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الْوَحْيُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ، كَمَا أَنَّ الْغَيْثَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ الطَّيِّبَةَ حِينَ يَجِيئُهَا الْوَحْيُ تَقْبَلُهُ وَتَعْلَمُهُ، وَتَنْبُتُ بِحَسَبِ طِيبِ أَصْلِهَا وَحُسْنِ عُنْصُرِهَا.

وَأَمَّا الْقُلُوبُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا؛ فَإِذَا جَاءَهَا الْوَحْيُ لَمْ يَجِدْ مَحَلًّا قَابِلًا، بَلْ يَجِدُهَا غَافِلَةً مُعْرِضَةً أَوْ مُعَارِضَةً، فَيَكُونُ كَالْمَطَرِ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى السِّبَاخِ وَالرِّمَالِ وَالصُّخُورِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا شَيْئًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} الْآيَاتِ)).

 وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

((ذَكَرَ -تَعَالَى- أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى لَوْ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ إِيمَانًا صَادِقًا صَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، وَاسْتَعْمَلُوا تَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِتَرْكِ جَمِيعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ لَفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، وَأَنْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مَا بِهِ يَعِيشُونَ وَتَعِيشُ بَهَائِمُهُمْ فِي أَخْصَبِ عَيْشٍ، وَأَغْزَرِ رِزْقٍ مِنْ غَيْرِ عَنَاءٍ وَلَا تَعَبٍ، وَلَا كَدٍّ وَلَا نَصَبٍ)).

إِنَّ مَفَاتِيحَ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25].

(({أَلا} أَيْ: هَلَّا {يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ: يَعْلَمُ الْخَفِيَّ الْخَبِيءَ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَأَنْحَاءِ الْأَرْضِ؛ مِنْ صِغَارِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبُذُورِ النَّبَاتَاتِ، وَخَفَايَا الصُّدُورِ، وَيُخْرِجُ خَبْءَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتَاتِ، وَيُخْرِجُ خَبْءَ الْأَرْضِ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَإِخْرَاجِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ لِيُجَازِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ})).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

(({وَالْعَاقِبَةُ} أَيْ حَالَةُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَمِرُّ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ -تَعَالَى-، وَغَيْرُهُمْ -وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ بَعْضُ الظُّهُورِ وَالرَّاحَةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطُولُ وَقْتُهُ، وَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ)).

 

((الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ))

عِبَادَ اللهِ! الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ، وَالرَّفْعُ مِنَ اللهِ، وَالْوَضْعُ مِنَ اللهِ؛ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ مَقْطَعٍ بِعُنْوَان: ((الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ)).

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي الْإِنْسَانَ بِالسَّرَّاءِ وَيَبْتَلِيهِ بِالضَّرَّاءِ، فَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسَّيِّئَاتِ وَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالطَّاعَاتِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ خَيْرًا ابْتَلَاهُ؛ فَقَدْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيُّمَا هُوَ خَيْرٌ لِلْعَبْدِ؛ أَنْ يُبْتَلَى أَوْ أَنْ يُمَكَّنَ؟ قَالَ: لَا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَصْنَعُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى عَيْنِهِ)).

وَمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلِمَ هَذَا الْأَمْرَ, وَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِمْ.

لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى قَدَرِ رَبِّهِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا لَا يُعْتَرَضُ عَلَى قَدَرِهِ، وَمَنِ اعْتَرَضَ أَدَّبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ مِنْ خُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ، أَوْ عَذَّبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنْ كَانَ مِنْ أَعْدَائِهِ.

وَهَذَا يُونُسُ لَمَّا ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا وَصَفَ، فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوُتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، ثُمَّ ضَلَّ بِهِ وَهُوَ يُسَبِّحُ رَبَّهُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ فِي الظُّلُمَاتِ؛ فِي ظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 87], ثُمَّ أَخْرَجَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدُ وَأَكْرَمَهُ وَمَنَّ عَلَيْهِ.

اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، كَانَ قَدْ أَوْعَدَ قَوْمَهُ الْعَذَابَ، فَخَرَجُوا إِلَى الصَّعِيدِ تَائِبِينَ يَجْأَرُونَ بِالْمَتَابِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ إِيَّاهُ، ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَكَانَ مَا كَانَ، اللهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.

فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ؛ فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ، فَلِلرِّضَا مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَكَانَةٌ عَلِيَّةٌ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

وَقَالَ: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: جَزَاءَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ، بِأَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَرْضَاهُمْ فَرَضُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا بَعْدَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا.

عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ يُثْمِرُ رِضَا رَبِّهِ عَنْهُ.

وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَعْظَمَ رَاحَتِهِ وَسُرُورَهُ وَنَعِيمَهُ: فِي الرِّضَا عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ؛ فَإِنَّ الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا، فَجَدِيرٌ بِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ تَشْتَدَّ رَغْبَتُهُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَبْدِلُ بِغَيْرِهِ مِنْهُ.

إِنَّ السَّخَطَ بَابُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ، وَشَتَاتِ الْقَلْبِ، وَكَسْفِ الْبَالِ، وَسُوءِ الْحَالِ، وَالظَّنِّ بِاللَّهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالرِّضَا يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ جَنَّةِ الدُّنْيَا قَبْلَ جَنَّةِ الْآخِرَةِ.

الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وَبَرْدَ الْقَلْبِ، وَسُكُونَهُ وَقَرَارَهُ، وَالسَّخَطُ يُوجِبُ اضْطِرَابَ قَلْبِهِ، وَرَيْبَهُ وَانْزِعَاجَهُ، وَعَدَمَ قَرَارِهِ.

الرِّضَا يُنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ الَّتِي لَا أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا، وَمَتَى نَزَلَتْ عَلَيْهِ السِّكِّينَةُ؛ اسْتَقَامَ، وَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُ، وَصَلَحَ بَالُهُ، وَالسَّخَطُ يُبْعِدُهُ مِنْهَا بِحَسَبِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَإِذَا تَرَحَّلَتْ عَنْهُ السَّكِينَةُ تَرَحَّلَ عَنْهُ السُّرُورُ وَالْأَمْنُ وَالدَّعَةُ وَطِيبُ الْعَيْشِ، فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: الرِّضَا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ.

الرِّضَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ السَّلَامَةِ، فَيَجْعَلُ قَلْبَهُ سَلِيمًا نَقِيًّا مِنَ الْغِشِّ وَالدَّغَلِ وَالْغِلِّ، وَلَا يَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

كَذَلِكَ وَتَسْتَحِيلُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مَعَ السَّخَطِ وَعَدَمِ الرِّضَا، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ رِضًا كَانَ قَلْبُهُ أَسْلَمَ.

الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ، وَسَخَطُهُ مِنْ شَقَاوَتِهِ.

الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ أَلَّا يَأْسَى عَلَى مَا فَاتَهُ، وَلَا يَفْرَحَ بِمَا آتَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ.

مَنْ مَلَأَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ؛ مَلَأَ اللَّهُ صَدْرَهُ غِنًى وَأَمْنًا وَقَنَاعَةً، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَمَنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الرِّضَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَاشْتَغَلَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ.

فَالرِّضَا يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلَّهِ، وَالسَّخَطُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ مِنَ اللَّهِ.

فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْعَبْدُ الرِّضَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْحَظِّ الْوَافِرِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفَازَ بِالْقِدْحِ الْمُعَلَّى.

إِنَّ الرِّضَا يُثْمِرُ سُرُورَ الْقَلْبِ بِالْمَقْدُورِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَطِيبَ النَّفْسِ وَسُكُونَهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ مُفْزِعٍ مُهْلِعٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يُثْمِرُ بَرْدَ الْقَنَاعَةِ، وَاغْتِبَاطَ الْعَبْدِ بِقَسْمِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَفَرَحَهُ بِقِيَامِ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَاسْتِسْلَامَهُ لِمَوْلَاهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَرِضَاهُ مِنْهُ بِمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ، وَيُثْمِرُ تَسْلِيمَهُ لَهُ الْأَحْكَامَ وَالْقَضَايَا، وَاعْتِقَادَ حُسْنَ تَدْبِيرِهِ، وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَيُذْهِبُ عَنْهُ شَكْوَى رَبِّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَتَبَرُّمَهُ بِأَقْضِيَتِهِ.

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: ((الرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ)).

فَاخْتِيَارُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَ خَيْرٌ مِنَ اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ لَوْ كُنْتَ مُخْتَارًا، فَسَلِّمْ تَسْلَمْ؛ فَإِنَّ السَّلَامَةَ فِي التَّسْلِيمِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّمَا يَتَعَثَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، وَالسَّلَامَةُ كُلُّ السَّلَامَةِ فِي التَّسْلِيمِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

اللهم رَضِّنَا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَأَوْزِعْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا وَعَلَى وَالِدِينَا، وَأَوْزِعْنَا أَنْ نَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، إِنَّا تُبْنَا إِلَيْكَ وَإِنَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  «محمد أسد» وحقيقة الإسلام
  الْحَجُّ فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ
  عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ
  ضَوَابِطُ الْأَسْوَاقِ وَآدَابُهَا
  حُقُوقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَحُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
  مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ: بِنَاءُ الدَّوْلَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان