كُنْ جَمِيلًا تَرَ الْوُجُودَ جَمِيلًا!

كُنْ جَمِيلًا تَرَ الْوُجُودَ جَمِيلًا!

((كُنْ جَمِيلًا تَرَ الْوُجُودَ جَمِيلًا!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((كُنْ جَمِيلًا تَرَ الْوُجُودَ جَمِيلًا!))

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنْ صِفَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الْجَمَالُ))

فَمِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: صِفَةُ الْجَمَالِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْجَمِيلُ الَّذِي كَمُلَ فِي جَمَالِهِ، وَجَمَالُهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، جَمَالُهُ فَوْقَ كُلِّ جَمِيلٍ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ جَمَالُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أُعْطِيَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَمَالِ؛ لَكَانَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُونَ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.

وَالْأَمْرُ أَجَلُّ وَأَعَزُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، أَوْ يُعَبِّرُ عَنْهُ الْمَقَالُ.

وَهُوَ الْجَمِيلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَيْفَ لَا       =          وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الْأَكْوَانِ

مِنْ بَعْضِ آثَارِ الْجَمِيلِ فَرَبُّهَا              =          أَوْلَى وَأَجْدَرُ عِنْدَ ذِي الْعِرْفَانِ

فَجَمَالُهُ بِالذَّاتِ وَالْأَوْصَافِ وَالْـ         =          أَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ بِالْبُرْهَانِ

لَا شَيْءَ يُشْبِهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ                =          سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي الْبُهْتَانِ

وَيَكْفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّهُ لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ!

((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

يَكْفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّ كُلَّ جَمَالٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ صَنْعَتِهِ؛ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ هَذَا الْجَمَالُ؟!

وَيَكْفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّ لَهُ الْعِزَّةَ وَالْقُوَّةَ جَمِيعًا، وَالْجُودُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْإِحْسَانُ كُلُّهُ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْفَضْلُ كُلُّهُ مِنْهُ.

وَجَمَالُهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:

* جَمَالُ الذَّاتِ.

* وَجَمَالُ الصِّفَاتِ.

* وَجَمَالُ الْأَفْعَالِ.

* وَجَمَالُ الْأَسْمَاءِ.

أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ؛ فَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ.

وَذَاتُهُ -تَعَالَى- أَكْمَلُ الذَّوَاتِ، وَأَجْمَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ كُنْهِ جَمَالِهِ بِحَالٍ، كَمَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ كُنْهِ جَلَالِهِ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي لَا يُوصَفُ، وَالسُّرُورِ مَعَ الْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا.. أَهْلُ الْجَنَّةِ مَعَ ذَلِكَ إِذَا رَأَوْا رَبَّهُمْ، وَتَمَتَّعُوا بِجَمَالِهِ؛ نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَتَلَاشَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَفْرَاحِ، وَوَدُّوا أَنْ لَوْ تَدُومُ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى نَعِيمٍ وَلَذَّةٍ، وَاكْتَسَبُوا مِنْ جَمَالِهِ جَمَالًا إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَمَالِ، وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ دَائِمًا فِي شَوْقٍ عَظِيمٍ وَنُزُوعٍ شَدِيدٍ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ بِيَوْمِ الْمَزِيدِ فَرَحًا تَكَادُ تَطِيرُ لَهُ الْقُلُوبُ.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟

فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ أَلَمْ تُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟

فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26])).

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُمَتِّعَنَا بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَهُوَ -تَعَالَى- كَمَا أَنَّهُ جَمِيلٌ فِي ذَاتِهِ.. لَهُ جَمَالُ الذَّاتِ؛ لَهُ -أَيْضًا- جَمَالُ الصِّفَاتِ، فَصِفَاتُهُ -تَعَالَى- صِفَاتُ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَمَدْحٍ، فَصِفَاتُ الْجَمَالِ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّهَا، وَأَكْثَرُهَا تَعَلُّقًا؛ خُصُوصًا مَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِ الرَّحْمَةِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْجُودِ، وَالْكَرَمِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ آثَارِ جَمَالِهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا جَمِيلَةً؛ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهَا، وَيُشْكَرُ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ أَفْعَالِ الْعَبْدِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا؛ لِمُوَافَقَتِهَا الْحِكْمَةَ وَالْحَمْدَ، فَلَيْسَ فِي أَفْعَالِهِ عَبَثٌ، وَلَا سَفَهٌ، وَلَا جَوْرٌ، وَلَا ظُلْمٌ، لَا جَوْرَ وَلَا ظُلْمَ فِي أَفْعَالِهِ، بَلْ كُلُّهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَعَدْلٌ وَرُشْدٌ {إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].

أَفْعَالُهُ كُلُّهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَشَرْعُهُ كُلُّهُ رَحْمَةٌ وَنُورٌ وَهُدًى وَجَمَالٌ، وَكُلُّ جَمَالٍ فِي الْعَالَمِ وَفِي دَارِ النَّعِيمِ فَإِنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ جَمَالِهِ، وَهُوَ -تَعَالَى- لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى!

فَمُعْطِي الْجَمَالِ أَحَقُّ بِالْجَمَالِ، وَكَيْفَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ جَمَالِهِ وَقَدْ قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ ﷺ: ((لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))؛ اعْتِرَافًا بِأَنَّ شَأْنَهُ وَعَظَمَتَهُ وَنُعُوتَ كَمَالِهِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، أَوْ بَلَغَ حَقِيقَةَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

((لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))، يَقُولُ ذَلِكَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ، وَأَعْبَدُ الْخَلْقِ لَهُ ﷺ.

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَوْقَ مَا يُثْنِي عَلَيْهِ الْمُثْنُونَ، وَفَوْقَ مَا يَحْمَدُهُ الْحَامِدُونَ وَإِنِ اسْتَوْعَبُوا جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الثَّنَاءِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ ثَنَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ.

مَهْمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَكَ مِدْحَةً      =       وَإِنْ أَطْنَبُوا إِنَّ الَّذِي فِيكَ أَعْظَمُ

لَكَ الْحَمْدُ كُلُّ الْحَمْدِ لَا مَبْدَى لَهُ      =      وَلَا مُنْتَهَى وَاللهُ بِالْحَمْدِ أَعْلَمُ

((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْأَمْرَ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً)).

فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُفَسِّرًا وَمُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) يَعْنِي: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ إِلَّا إِنْ قُصِدَ بِهِ أَنْ يَعْلُوَ النَّاسُ بِهِ النَّاسَ، فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اسْتَكْبَرَ بِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ مَا إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَلَا عُجْبٍ؛ فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

(( ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) يَتَنَاوَلُ جَمَالَ الثِّيَابِ الْمَسْؤُولَ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْجَمَالُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)).

وَفِي ((السُّنَنِ)): ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ)).

وَفِيهَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ قَالَ: ((رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ وَعَلَيَّ أَطْمَارٌ فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟)).

قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟)).

قُلْتُ: ((مِنْ كُلِّ مَا آتَى اللهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالشَّاهِ)).

قَالَ: ((فَلْتُرَ نِعْمَتُهُ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْكَ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ ظُهُورَ أَثَرِ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ))؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَذَلِكَ مِنْ شُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَهُوَ جَمَالُ بَاطِنٍ، فَيُحِبُّ أَنْ يَرَى عَلَى عَبْدِهِ الْجَمَالَ الظَّاهِرَ بِالنِّعْمَةِ، وَالْجَمَالَ الْبَاطِنَ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا.

وَلِمَحَبَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- لِلْجَمَالِ أَنْزَلَ عَلَى عِبَادِهِ لِبَاسًا وَزِينَةً تُجَمِّلُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَتَقْوَى تُجَمِّلُ بَوَاطِنَهُمْ فَقَالَ: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].

وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 11-12].

فَجَمَّلَ وُجُوهَهُمْ بِالنَّضْرَةِ، وَبَوَاطِنَهُمْ بِالسُّرُورِ، وَأَبْدَانَهُمْ بِالْحَرِيرِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَمَا يُحِبُّ الْجَمَالَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَاللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ يُبْغِضُ الْقَبِيحَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، فَيُبْغِضُ الْقَبِيحَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجَمَالَ وَأَهْلَهُ.

 وَلَكِنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَرِيقَانِ:

فَرِيقٌ قَالُوا: كُلُّ مَا خَلَقَهُ جَمِيلٌ، فَهُوَ يُحِبُّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ، وَنَحْنُ نُحِبُّ جَمِيعَ مَا خَلَقَهُ، فَلَا نُبْغِضُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالُوا: وَمَنْ رَأَى الْكَائِنَاتِ مِنْهُ رَآهَا كُلَّهَا جَمِيلَةً، وَأَنْشَدَ مُنْشِدُهُمْ:

وَإِذَا رَأَيْتَ الْكَائِنَاتِ بِعَيْنِهِمْ       =          فَجَمِيعُ مَا يَحْوِي الْوُجُودُ مَلِيحُ

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].

وَقَوْلِهِ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَقَوْلِهِ: {مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

وَالْعَارِفُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يُصَرِّحُ بِإِطْلَاقِ الْجَمَالِ، وَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ قَبِيحًا.

وَهَؤُلَاءِ قَدْ عُدِمَتِ الْغَيْرَةُ لِلَّهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَإِقَامَةُ حُدُودِهِ.

وَيَرَى جَمَالَ الصُّوَرِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَيَتَعَبَّدُونَ بِفِسْقِهِمْ!

وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ حَتَّى يَزْعُمَ أَنَّ مَعْبُودَهُ يَظْهَرُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَيَحِلُّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ اتِّحَادِيًّا قَالَ: هِيَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَقِّ، وَيُسَمِّيهَا: الْمَظَاهِرَ الْجَمَالِيَّةَ!

وَقَابَلَهُمْ فِي الْفَرِيقِ الثَّانِي فَقَالُوا: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- جَمَالَ الصُّوَرِ، وَتَمَامَ الْقَامَةِ وَالْخِلْقَةِ، فَقَالَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4].

وَقَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] أَيْ: أَمْوَالًا وَمَنَاظِرَ، قَالَ الْحَسَنُ: ((هُوَ الصُّوَرُ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ نَظَرَ الْإِدْرَاكِ، وَإِنَّمَا نَفَى نَظَرَ الْمَحَبَّةِ.

قَالُوا: وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا لِبَاسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَآنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ جَمَالِ الدُّنْيَا، وَقَالَ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131].

وَفِي الْحَدِيثِ: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ».

وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُسْرِفِينَ، وَالسَّرَفُ كَمَا يَكُونُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَكُونُ فِي اللِّبَاسِ.

وَفَصْلُ النِّزَاعِ أَنْ يُقَالَ: الْجَمَالُ فِي الصُّورَةِ وَاللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مِنْهُ مَا يُحْمَدُ، وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ، وَمِنْهُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ.

* فَالْمَحْمُودُ مِنْهُ: مَا كَانَ لِلَّهِ، وَأَعَانَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ، وَهُوَ نَظِيرُ لِبَاسِ آلَةِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ وَالْخُيَلَاءِ فِيهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُودٌ إِذَا تَضَمَّنَ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَصْرَ دِينِهِ، وَغَيْظَ عَدُوِّهِ.

* وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ: مَا كَانَ لِلدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ غَايَةَ الْعَبْدِ وَأَقْصَى مَطْلَبِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النُّفُوسِ لَيْسَ لَهَا هِمَّةٌ فِي سِوَى ذَلِكَ.

* وَأَمَّا مَا لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ: فَهُوَ مَا خَلَا عَنْ هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ، وَتَجَرَّدَ عَنِ الْوَصْفَيْنِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الشَّرِيفَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ، فَأَوَّلُهُ مَعْرِفَةٌ، وَآخِرُهُ سُلُوكٌ، فَيُعْرَفُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بِالْجَمَالِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُعْبَدُ بِالْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ؛ فَيُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يُجَمِّلَ لِسَانَهُ بِالصِّدْقِ، وَقَلْبَهُ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَجَوَارِحَهُ بِالطَّاعَةِ، وَبَدَنَهُ بِإِظْهَارِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي لِبَاسِهِ، وَتَطْهِيرِهِ لَهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ، وَالْأَحْدَاثِ، وَالْأَوْسَاخِ، وَالشُّعُورِ الْمَكْرُوهَةِ، مَعَ الْخِتَانِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ.

فَيَعْرِفُهُ بِصِفَاتِ الْجَمَالِ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ.

فَيَعْرِفُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ، وَيَعْبُدُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ شَرْعُهُ وَدِينُهُ)).

((الْجَمَالُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ حَوَى الْجَمَالَ بِكُلِّ صُوَرِهِ؛ جَمَالَ اللَّفْظِ، وَجَمَالَ الْمَعْنَى، وَجَمَالَ الْعَقِيدَةِ وَالتَّشْرِيعِ، وَجَمَالَ الْقِيَمِ، وَجَمَالَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالْمُسْلِمُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَقَوِيَ ارْتِبَاطُهُ بِهِ تَعَلُّمًا، وَتَعْلِيمًا، وَتِلَاوَةً، وَتَدَبُّرًا، وَعَمَلًا؛ اكْتَسَبَ مِنَ الْقُرْآنِ جَمَالَ الْقَلْبِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْخُلُقِ، زِيَادَةً عَلَى جَمَالِ الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ.

وَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى تَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالتَّرْبِيَةِ الْخُلُقِيَّةِ؛ لِلرُّقِيِّ بِهَا عَبْرَ مَدَارِجِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْجَمَالِ.

وَمِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ، وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ، وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ، وَالتَّسْرِيحُ الْجَمِيلُ.

* نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

((قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: أَمَّا أَنَا فَوَظِيفَتِي سَأَحْرِصُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا؛ وَهِيَ أَنِّي أَصْبِرُ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ صَبْرًا جَمِيلًا، سَالِمًا مِنَ السَّخَطِ وَالتَّشَكِّي إِلَى الْخَلْقِ، وَأَسْتَعِينُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، لَا عَلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي، فَوَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ هَذَا الْأَمْرَ، وَشَكَى إِلَى خَالِقِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}؛ لِأَنَّ الشَّكْوَى إِلَى الْخَالِقِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا وَعَدَ وَفَّى)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5].

 ((اصْبِرْ عَلَى دَعْوَتِكَ لِقَوْمِكَ صَبْرًا جَمِيلًا لَا تَضَجُّرَ فِيهِ وَلَا مَلَلَ، بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَادْعُ عِبَادَهُ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَلَا يَمْنَعُكَ عَنْهُمْ مَا تَرَى مِنْ عَدَمِ انْقِيَادِهِمْ، وَعَدَمِ رَغْبَتِهِمْ؛ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا)).

* وَحَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى التَّحَلِّي بِخُلُقِ الصَّفْحِ الْجَمِيلِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85].

(({وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} لَا رَيْبَ فِيهَا {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}؛ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: وَهُوَ الصَّفْحُ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ، بَلْ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَذَنْبَهُ بِالْغُفْرَانِ؛ لِتَنَالَ مِنْ رَبِّكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي مَعْنًى أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرْتُ هُنَا -يَقُولُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ--؛ وَهُوَ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الْجَمِيلُ، أَيِ: الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الْحِقْدِ، وَالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيْسَ بِجَمِيلٍ؛ وَهُوَ الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يَصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ؛ كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلَّا الْعُقُوبَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى)).

* وَوَرَدَ ذِكْرُ الْهَجْرِ الْجَمِيلِ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10].

((أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُ فِيهِ الْمُعَانِدُونَ لَهُ، وَيَسُبُّونَهُ، وَيَسُبُّونَ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْ يَمْضِيَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، وَأَنْ يَهْجُرَهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وَهُوَ الْهَجْرُ حَيْثُ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ الْهَجْرَ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ، فَيُقَابِلُهُمْ بِالْهَجْرِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَمَرَهُ بِجِدَالِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)).

* وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّلَاقَ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّرَاحِ الْجَمِيلِ، وَالتَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، وَهَذَا تَلْطِيفٌ إِلَهِيٌّ مِنْ غِلَظِ الْإِحْسَاسِ؛ حَتَّى يَصِيرَ الطَّلَاقُ خَفِيفَ الْوَقْعِ عَلَى النُّفُوسِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ؛ فَلَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ لَكِنَّهُ كَرِهَ الطَّلَاقَ، وَوَضَعَ أَمَامَهُ أَحْكَامًا وَمَوَاعِظَ شَأْنُهَا أَنْ تَكُفَّ الْأَزْوَاجَ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ بِهِ، وَتَجْعَلَ حَوَادِثَهُ قَلِيلَةً جِدًّا.

لِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ الزَّوْجَ بِأَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَدَعَاهُ إِلَى التَّأَنِّي إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةً لَهَا، فَلَا يُبَادِرُ إِلَى كَلِمَةِ الطَّلَاقِ؛ فَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَارِضَةً ثُمَّ تَزُولُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231].

(({وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} أَيْ: طَلَاقًا رَجْعِيًّا بِوَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيْ: قَارَبْنَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِنَّ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ: إِمَّا أَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ وَنِيَّتُكُمُ الْقِيَامُ بِحُقُوقِهِنَّ، أَوْ تَتَرْكُوهُنَّ بِلَا رَجْعَةٍ وَلَا إِضْرَارٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} أَيْ: مُضَارَّةً بِهِنَّ {لِتَعْتَدُوا} فِي فِعْلِكُمْ هَذَا الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ، فَالْحَلَالُ: الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ، وَالْحَرَامُ: الْمُضَارَّةُ، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}: وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ يَعُودُ لِلْمَخْلُوقِ فَالضَّرَرُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَرَادَ الضِّرَارَ)) .

((مَعَالِمُ الْجَمَالِ فِي الْمُؤْمِنِ وَمَجَالَاتُهُ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْجَمَالَ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ جَمَالِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ، وَهُوَ جَمَالُ الْبَاطِنِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّ الْجَمَالَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: ظَاهِرٌ، وَبَاطِنٌ، وَالْجَمَالُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ، وَهُوَ جَمَالُ الْعِلْمِ، وَالْعَقْلِ، وَالْجُودِ، وَالْعِفَّةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَهَذَا الْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللهِ مِنْ عَبْدِهِ، وَمَوْضِعُ مَحَبَّتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).

وَهَذَا الْجَمَالُ الْبَاطِنُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَيَكْسُو صَاحِبَهُ مِنَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلَاوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً وَحَلَاوَةً بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعَيَانِ؛ فَإِنَّكَ تَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْحَسَنَ ذَا الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ غَيْرَ جَمِيلٍ؛ وَلَا سِيَّمَا إِذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَتُحَسِّنُهُ)).

إِذَا آمَنَ الْعَبْدُ بِصِفَةِ الْجَمَالِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- -((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))، فَمِنْ صِفَاتِهِ: الْجَمَالُ-؛ تَعَبَّدَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ، وَالتَّأَلُّهَ لَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ الْعَبْدُ لَهُ خَالِصَ الْمَحَبَّةِ وَصَفْوَ الْوِدَادِ، بِحَيْثُ يَسِيحُ الْقَلْبُ فِي رِيَاضِ مَعْرِفَتِهِ وَمَيَادِينِ جَمَالِهِ، وَيَبْتَهِجُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ آثَارِ جَمَالِهِ وَعَظِيمِ كَمَالِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.

وَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَعْبُدُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ بِكُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَبِكُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٌ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَبِكُلِّ مَا هُوَ جَمِيلٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ؛ فَيُجَمِّلُ لِسَانَهُ بِالصِّدْقِ، وَيُجَمِّلُ قَلْبَهُ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَيُجَمِّلُ جَوَارِحَهُ بِالطَّاعَةِ، وَيُجَمِّلُ بَدَنَهُ بِإِظْهَارِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِي لِبَاسِهِ، وَفِي تَطَهُّرِهِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ وَالْأَوْسَاخِ، وَالشُّعُورِ الْمَكْرُوهَةِ، مَعَ الْخِتَانِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ!

فَيَعْرِفُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ، وَيَعْبُدُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ شَرْعُهُ وَدِينُهُ.

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

إِنَّ طَهَارَةَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَسِيلَةٌ لِلتَّحَلِّي بِالْجَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا..

وَالطَّهَارَةُ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، خَاصَّةً إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَاطِنِ وَالْقَلْبِ، فَأَهَمِّيَّتُهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَرَاتِبُهَا.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ -أَيْ نِصْفُهُ-، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ- قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ)) .

خِصَالُ الْإِيمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ.

وَأَمَّا الْآخَرُ: فَيُطَهِّرُ الْبَاطِنَ.

فَالْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ، فَصَارَتِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.

الْمُسْلِمُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَى دِينِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاهْتِمَامَ بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِطَهَارَةِ قَلْبِهِ مِنْ أَدْرَانِ وَأَوْسَاخِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ، وَالْبِدْعَةِ وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَسَفَاسِفِ الْأُمُورِ، كَمَا يَهْتَمُّ بِطَهَارَةٍ ظَاهِرِهِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِنَا، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِنَا وَأَعْمَالِنَا))، فَالْقَلْبُ مَحَلُّ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْبَدَنُ فَمَحَلُّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَى الْعَبْدِ.

وَالنَّاسُ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ وَقَّرَ رَبَّهُ تَوْقِيرًا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُطَهِّرَ مَحَلَّ نَظَرِ رَبِّهِ إِلَيْهِ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الشِّرْكِ وَمِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومِ الصِّفَاتِ.

وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ يَهْتَمُّونَ بِتَجْمِيلِ مَحَلِّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى تَطْهِيرِ مَحَلِّ نَظَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِمْ، وَهِيَ قُلُوبُهُمْ.

فَالْكَيِّسُ الَّذِي يُرَاعِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَتَّى لَا تَنْعَكِسَ عَلَيْهِ.

الْوُضُوءُ -كَمَا مَرَّ فِي رِوَايَةٍ- شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَإِسْبَاغُهُ -كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَرَّتْ- شَطْرُ الْإِيمَانِ؛ لِذَلِكَ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَظِيمَ فَضْلِهِ وَكَبِيرَ أَثَرِهِ.

فَعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِوَضُوءٍ -وَالْوَضُوءُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ كَالسَّحُورِ بِفَتْحِ السِّينِ: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ، وَأَمَّا السُّحُورُ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ- قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحَادِيثَ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الْمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَالطَّهَارَةُ هِيَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَآكَدُ شُرُوطِهَا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ صِحَّةٍ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَالشَّرْطُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ.

هَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى فَضْلِ الطَّهَارَةِ وَعَظِيمِ خَطَرِهَا، حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

عِبَادَ اللهِ! الطَّهَارَةُ عَلَى مَرَاتِبَ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ عَنِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ وَالْفَضَلَاتِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: تَطْهِيرُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ وَالْجَرَائِمِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَةِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَتَحْصِيلُ كُلِّ مَرْتَبَةٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَحْصِيلِ مَا قَبْلَهَا، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْعَى إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَيُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ عَنِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، فَإِنَّ مِفْتَاحَ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، فَإِذَا حَصَّلَ ذَلِكَ طَهَّرَ جَوَارِحَهُ عَنِ الْآثَامِ وَالْجَرَائِمِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

فَإِذَا حَصَّلَ ذَلِكَ؛ طَهَّرَ قَلْبَهُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالرَّذَائِلِ، وَخَلَصَ قَلْبُهُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا وَأَنْ يُسَلِّمَهَا مِمَّا يَشِينُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؛ وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَصَارَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَالطَّهَارَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ؛ وَهِيَ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ؛ وَهِيَ: طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَيْهِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَسِ الشِّرْكِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

هَذِهِ النَّجَاسَةُ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} هِيَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، هِيَ نَجَاسَةُ الْقَلْبِ بِالشِّرْكِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّهَارَةُ الْحِسِّيَّةُ.

فَالطَّهَارَةُ طَهَارَتَانِ:

طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ مِنْ نَجَسِ وَنَجَاسَةِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمَعَاصِي، وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ -طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ- أَهَمُّ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْبَدَنِ فَرْعٌ عَنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا اسْتَقَامَ اسْتَقَامَ الْبَدَنُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْبَدَنُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ)) .

((جَمَالُ الْبَاطِنِ وَسُبُلُ التَّحَلِّي بِهِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ أَبْدَلَ اللهُ بِذَلِكَ اللِّبَاسِ الَّذِي نَزَعَهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ بِلِبَاسٍ يُوَارِي السَّوْآتِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْجَمَالُ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَاةِ، وَلِبَاسٍ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ لِبَاسُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّحَلِّي بِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ خُلُقٍ رَذِيلٍ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

* إِنَّ أَعْظَمَ سَبِيلٍ لِلتَّحَلِّي بِجَمَالِ الْبَاطِنِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْقَوِيمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

((يَذْكُرُ -تَعَالَى- عَظَمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجَلَالَتَهُ، وَعَظَمَةَ بَانِيهِ، وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أَيْ: هَيَّأْنَاهُ لَهُ، وَأَنْزَلْنَاهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ قِسْمًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ سُكَّانِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبُنْيَانِهِ، فَبَنَاهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَأَسَّسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَبَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا؛ بِأَنْ يُخْلِصَ لِلَّهِ أَعْمَالَهُ، وَيَبْنِيَهُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ.

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ، وَأَضَافَهُ الرَّحْمَنُ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، وَلِتَعْظُمَ مَحَبَّتُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَتَنْصَبَّ إِلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلِيَكُونَ أَعْظَمَ لِتَطْهِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ بَيْتَ الرَّبِّ {لِلطَّائِفِينَ} بِهِ {وَالْقَائِمِينَ} عِنْدَهُ، الْمُقِيمِينَ لِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ مِنْ ذِكْرٍ، وَقِرَاءَةٍ، وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ، وَتَعْلِيمِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيِ: الْمُصَلِّينَ، أَيْ: طَهِّرْهُ لِهَؤُلَاءِ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ هَمُّهُمْ طَاعَةُ مَوْلَاهُمْ وَخِدْمَتُهُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ عِنْدَ بَيْتِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الْحَقُّ، وَلَهُمُ الْإِكْرَامُ، وَمِنْ إِكْرَامِهِمْ تَطْهِيرُ الْبَيْتِ لِأَجْلِهِمْ.

وَيَدْخُلُ فِي تَطْهِيرِهِ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْوَاتِ اللَّاغِيَةِ وَالْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ.

وَقَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ الِاعْتِكَافَ لِاخْتِصَاصِهِ بِجِنْسِ الْمَسَاجِدِ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} طَهَارَةَ الْبَاطِنِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْمَعَاصِي، وَطَهَارَةَ الظَّاهِرِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُو الْإِيمَانِ، وَحَرِيصُونَ عَلَى أَنْ يَظْفَرُوا بِمَحَبَّةِ اللهِ لَهُمْ، {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ ضَاعَفَ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَزَادَهُ مِنْهُ قُرْبًا، وَغَمَرَهُ بِفُيُوضِ إِحْسَانِهِ.

* وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ التَّحَلِّي بِجَمَالِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ: عِبَادَةُ اللهِ وَطَاعَتُهُ؛ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: ((إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبِغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ)).

* وَمِنْ أَجَلِّ سُبُلِ التَّحَلِّي بِجَمَالِ الْبَاطِنِ: حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَجَمَالُ الْبَاطِنِ حُسْنُ السُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ؛ فَإِنَّ الْخُلُقَ وَالْأَدَبَ عُنْوَانُ فَلَاحِ الْمَرْءِ وَسَعَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا اسْتُجْلِبَتِ الْخَيْرَاتُ بِمِثْلِ الْخُلُقِ الْفَاضِلِ وَالْأَدَبِ الْكَرِيمِ.

وَالدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟)).

فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَصِيَّةٍ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ تَقْوَى اللهِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ لِأَنَّ تَقْوَى اللهِ تُصْلِحُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ يُصْلِحُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَتَقْوَى اللهِ تُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةَ اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَحَبَّتِهِ)).

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ أَحْسَنَ خُلُقًا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ أَسْوَأَ خُلُقًا كَانَ أَبْعَدَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

أَيْ: لَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ عَطَاءً وَبَذْلًا مَهْمَا كَثُرَتْ أَمْوَالُكُمْ وَعَظُمَ سَخَاؤُكُمْ؛ لِأَنَّ اسْتِيعَابَ عَامَّتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ بِالْفِعْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَسَعُوهُمْ بِأَخْلَاقِكُمُ الْكَرِيمَةِ وَأَدَبِكُمُ الْجَمِيلِ؛ بِبَسْطِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَهَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ سَهْلٌ مُتَيَسِّرٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَوَهَبَهُ الْخُلُقَ الْحَسَنَ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ:

بُنَيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ     =    وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنُ

هَذِهِ الْأَخْلَاقُ هِبَاتٌ مِنَ اللهِ، وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ، يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ.

مِنْ جَلِيلِ سُبُلِ وَعَظِيمِ وَسَائِلِ التَّحَلِّي بِجَمَالِ الْبَاطِنِ: الْمُرُوءَةُ، ((وَحَقِيقَتُهَا: اتِّصَافُ النَّفْسِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ وَالشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ؛ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ ثَلَاثَةَ دَوَاعٍ مُتَجَاذِبَةٍ:

- دَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى الِاتِّصَافِ بِأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِ: مِنَ الْكِبْرِ، وَالْحَسَدِ، وَالْعُلُوِّ، وَالْبَغْيِ، وَالشَّرِّ، وَالْأَذَى، وَالْفَسَادِ، وَالْغِشِّ.

- وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ دَاعِي الشَّهْوَةِ.

- وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْمَلَكِ: مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالنُّصْحِ، وَالْبِرِّ، وَالْعِلْمِ، وَالطَّاعَةِ.

فَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ: بُغْضُ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَإِجَابَةُ هَذَا الدَّاعِي الثَّالِثِ.

وَقِلَّةُ الْمُرُوءَةِ وَعَدَمُهَا: هُوَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَالتَّوَجُّهُ لِدَعْوَتِهِمَا أَيْنَ كَانَتْ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((خَلَقَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ عُقُولًا بِلَا شَهْوَةٍ، وَخَلَقَ الْبَهَائِمَ شَهْوَةً بِلَا عُقُولٍ، وَخَلَقَ ابْنَ آدَمَ وَرَكَّبَ فِيهِ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ، فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ الْتَحَقَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْبَهَائِمِ)).

وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمُرُوءَةِ: إِنَّهَا غَلَبَةُ الْعَقْلِ لِلشَّهْوَةِ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّهَا: ((هِيَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ الْعَبْدَ وَيَزِينُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ)).

وَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ: تَجَنُّبُ الدَّنَايَا وَالرَّذَائِلِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.

 فَمُرُوءَةُ اللِّسَانِ: حَلَاوَتُهُ وَطِيبُهُ وَلِينُهُ، وَاجْتِنَاءُ الثِّمَارِ مِنْهُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ.

وَمُرُوءَةُ الْخُلُقِ: سَعَتُهُ وَبَسْطُهُ، وَبَذْلُهُ لِلْحَبِيبِ وَالْبَغِيضِ.

وَمُرُوءَةُ الْمَالِ: الْإِصَابَةُ بِبَذْلِهِ مَوَاقِعَهُ الْمَحْمُودَةَ عَقْلًا، وَعُرْفًا، وَشَرْعًا.

وَمُرُوءَةُ الْجَاهِ: بَذْلُهُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ.

وَمُرُوءَةُ الْإِحْسَانِ: تَعْجِيلُهُ، وَتَيْسِيرُهُ وَتَوْفِيرُهُ، وَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ حَالَ وُقُوعِهِ، وَنِسْيَانُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ.

فَهَذِهِ مُرُوءَةُ الْبَذْلِ.

وَأَمَّا مُرُوءَةُ التَّرْكِ: فَكَتَرْكِ الْخِصَامِ، وَالْمُعَاتَبَةِ، وَالْمُطَالَبَةِ، وَالْمُمَارَاةِ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ عَيْبِ مَا تَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّكَ، وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي طَلَبِهِ، وَالتَّغَافُلُ عَنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ، وَإِشْعَارُهُمْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَثْرَةً، وَالتَّوْقِيرُ لِلْكَبِيرِ، وَحِفْظُ حُرْمَةِ النَّظِيرِ، وَرِعَايَةُ أَدَبِ الصَّغِيرِ.

وَالْمُرُوءَةُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ:

* الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرُوءَةُ الْمَرْءِ مَعَ نَفْسِهِ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَهَا قَسْرًا عَلَى مُرَاعَاةِ مَا يُجَمِّلُ وَيُزِيِّنُ، وَتَرْكِ مَا يُدَنِّسُ وَيَشِينُ؛ لِيَصِيرَ لَهَا مَلَكَةً فِي الْعَلَانِيَةِ.

فَمَنِ اعْتَادَ شَيْئًا فِي سِرِّهِ وَخَلْوَتِهِ مَلَكَهُ فِي عَلَانِيَتِهِ وَجَهْرِهِ، فَلَا يَفْعَلُ خَالِيًا مَا يَسْتَحْيِي مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَلَأِ؛ إِلَّا مَا لَا يَحْظُرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَلْوَةِ؛ كَالْجِمَاعِ، وَالتَّخَلِّي، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

* الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْخَلْقِ؛ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ شُرُوطَ الْأَدَبِ وَالْحَيَاءِ وَالْخُلُقِ الْجَمِيلِ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَلْيَتَّخِذِ النَّاسَ مِرْآةً لِنَفْسِهِ؛ فَكُلُّ مَا كَرِهَهُ وَنَفَرَ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ خُلُقٍ فَلْيَجْتَنِبْهُ، وَمَا أَحَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَلْيَفْعَلْهُ.

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْبَصِيرَةِ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَنْ خَالَطَهُ وَصَحِبَهُ؛ مِنْ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَسَيِّءِ الْخُلُقِ وَحَسَنِهِ، وَعَدِيمِ الْمُرُوءَةِ وَغَزِيرِهَا.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَعَلَّمُ الْمُرُوءَةَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَضْدَادِهَا، كَمَا رُئِيَ عِنْدَ بَعْضِ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ سَيِّءُ الْخُلُقِ، فَظٌّ غَلِيظٌ، لَا يُنَاسِبُهُ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْرُسُ عَلَيْهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ!

وَهَذَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ ضِدِّ أَخْلَاقِهِ، وَيَكُونُ بِتَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ.

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-؛ بِالِاسْتِحْيَاءِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفَسٍ، وَبِإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ جَهْدَ الْإِمْكَانِ؛ فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْكَ، وَأَنْتَ سَاعٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ: تَسْلِيمُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ كَامِلًا، وَرُؤْيَتُكَ شُهُودَ مِنَنِهِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لَهُ لَا أَنْتَ؛ فَيُفْنِيكَ الْحَيَاءُ مِنْهُ عَنْ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنِ الْتِفَاتِكَ إِلَى عَيْبِ غَيْرِكَ، وَشُهُودُ الْحَقِيقَةِ عَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِكَ وَصَلَاحِكَ)).

((جَمَالُ الظَّاهِرِ وَوَسَائِلُ الِاتِّصَافِ بِهِ))

عِبَادَ اللهِ! ((كَمَا أَنَّ الْجَمَالَ الْبَاطِنَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ فَالْجَمَالُ الظَّاهِرُ نِعْمَةٌ مِنْهُ -أَيْضًا- عَلَى عَبْدِهِ يُوجِبُ شُكْرًا، فَإِنْ شَكَرَهُ بِتَقْوَاهُ وَصِيَانَتِهِ ازْدَادَ جَمَالًا عَلَى جَمَالِهِ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَ جَمَالَهُ فِي مَعَاصِيهِ -سُبْحَانَهُ- قَلَبَهُ لَهُ شَيْنًا ظَاهِرًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَتَعُودُ تِلْكَ الْمَحَاسِنُ وَحْشَةً وَقُبْحًا وَشَيْنًا، وَيَنْفِرُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ؛ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللهَ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ انْقَلَبَ قُبْحًا وَشَيْنًا يَشِينُهُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَحُسْنُ الْبَاطِنِ يَعْلُو قُبْحَ الظَّاهِرِ وَيَسْتُرُهُ، وَقُبْحُ الْبَاطِنِ يَعْلُو جَمَالَ الظَّاهِرِ وَيَسْتُرُهُ)).

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ شَرَعَ لَنَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ كَثِيرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي تُوصِلُ الْمُسْلِمَ إِلَى التَّحَلِّي بِالْجَمَالِ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ أَرَادَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا شَامَةً فِي النَّاسِ مُتَمَيِّزِينَ فِي زِيِّهِمْ وَهَيْآتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ؛ حَتَّى يَكُونُوا قُدْوَةً حَسَنَةً تَجْعَلُهُمْ جَدِيرِينَ بِحَمْلِ رِسَالَتِهِمُ الْعُظْمَى لِلنَّاسِ.

فِي حَدِيثِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَكَانُوا فِي سَفَرٍ قَادِمِينَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ: ((إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ؛ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ، وَأَحْسِنُوا لِبَاسَكُمْ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّحْسِينِ بِشَوَاهِدِهِ، بَلْ قَدْ حُسِّنَ.

وَ((الرِّحَالُ)): مَا يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَ((الْفُحْشُ وَالتَّفَحُّشُ)): كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ.

فَقَدْ عَدَّ الرَّسُولُ ﷺ الْهَيْئَةَ الرَّدِيئَةَ، وَالْحَالَةَ الزَّرِيَّةَ، وَإِهْمَالَ الْعِنَايَةِ بِالْمَظْهَرِ، وَالتَّبَذُّلَ فِي اللِّبَاسِ أَوِ الْمَرَافِقِ الْمَفْرُوشَةِ: فُحْشًا وَتَفَحُّشًا، وَهُوَ مَمَّا يَكْرَهُهُ الْإِسْلَامُ الْحَنِيفُ وَيَنْهَى عَنْهُ.

إِنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقَّ لَا يُهْمِلُ نَفْسَهُ، وَلَا يَنْسَى ذَاتَهُ مَعَ التَّكَالِيفِ الْعُلْيَا الَّتِي يَحْمِلُهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ إِذْ لَا يَنْفَصِلُ فِي نَفْسِهِ مَظْهَرُ الْإِنْسَانِ عَنْ مَخْبَرِهِ، فَإِنَّ الشَّكْلَ الْمُرَتَّبَ الْحَسَنَ أَلْيَقُ بِالْمُحْتَوَى الْجَلِيلِ وَالْجَوْهَرِ النَّبِيلِ.

فَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ الْوَاعِي الْحَصِيفُ هُوَ الَّذِي يُوَازِنُ بَيْنَ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَرُوحِهِ، فَيُعْطِي لِكُلٍّ حَقَّهُ، وَلَا يُغَالِي فِي جَانِبٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَانِبِ عَلَى حِسَابِ جَانِبٍ، مُسْتَهْدِيًا بِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمُتَوَازِنِ الْحَكِيمِ.

وَذَلِكَ فِيمَا يَرْوِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ بِشَأْنِهِ -أَيْ بِشَأْنِ عَبْدِ اللهِ- فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ: ((أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟!)).

قَالَ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلْ.. صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).

أَيْ: لِضِيفَانِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ» .

نُرِيدُ اسْتِعَادَةَ التَّوَازُنَ، نُرِيدُ أَنْ نَعُودَ إِلَى السَّوَاءِ النَّفْسِيِّ؛ فَإِنَّ مَا أَصَابَنَا مِنَ الْخَلَلِ أَصَابَنَا فِي الصَّمِيمِ، وَإِذَا لَمْ نَتَدَارَكْ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَّا خَيْرٌ لَا لِأَنْفُسِنَا وَلَا لِغَيْرِنَا.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَدَارَكَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُحَاوِلَ اسْتِعَادَةَ الْهُدُوءِ النَّفْسِيِّ، وَالسَّلَامِ الْعَقْلِيِّ، وَاسْتِقْرَارِ الرُّوحِ، وَاطْمِئْنَانِ الضَّمِيرِ، وَسَلَامَةِ التَّصَوُّرِ، وَنَظَافَةِ الشُّعُورِ؛ لِأَنَّنَا بِدُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ نُفْلِحَ فِي شَيْءٍ.

((فَالْمُسْلِمُ يُحَقِّقُ هَذَا التَّوَازُنَ بَيْنَ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَرُوحِهِ هَكَذَا.

الْمُسْلِمُ مُعْتَدِلٌ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ؛ فَيَحْرِصُ الْمُسْلِمُ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْجِسْمِ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ؛ وَلِهَذَا فَهُوَ يَعْتَدِلُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، لَا يُقْبِلُ عَلَى الطَّعَامِ إِقْبَالَ الشَّرِهِ النَّهِمِ، وَإِنَّمَا يُصِيبُ مِنْهُ مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَقُوَّتَهُ وَنَشَاطَهُ.

وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

* وَمِنْ مَظَاهِرِ حَثِّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى التَّحَلِّي بِجَمَالِ الظَّاهِرِ: حَضُّ النَّبِيِّ عَلَى نَظَافَةِ الْجِسْمِ وَالثِّيَابِ؛ فالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجِسْمِ وَالثِّيَابِ، يَغْتَسِلُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِسْلَامَ شَامَةً بَيْنَ النَّاسِ؛ لِكَيْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ نَظِيفَ الثَّوْبِ، كَمَا أَنَّهُ نَظِيفُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِهَذَا الْأَمْرِ: ((اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْسِلُوا رُؤُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .

وَبَلَغَ مِنْ شِدَّةِ حَضِّهِ عَلَى النَّظَافَةِ بِالِاسْتِحْمَامِ وَالِاغْتِسَالِ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَاجِبٌ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ -وَهُوَ الْحَقُّ- فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا؛ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» .

أَيُّ دِينٍ هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا)).

وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ إِلَّا كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، لَا.. هَذَا أَقْصَى الْمُدَّةِ، كَمَا وَقَّتَ فِي أَخْذِ الظُّفُرِ، وَكَذَلِكَ فِي أَخْذِ الشَّعْرِ مِنَ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ كَمَا وَقَّتَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ عَلَى أَنَّهُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْهُ ﷺ، فَذَلِكَ أَقْصَى الْمُدَّةِ، لَا أَنَّكَ تَتْرُكُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، بَلِ السُّنَّةُ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِك فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، قَالَ: ((يَغْسِلُ فِيهِ -أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((الْمُسْلِمُ الْحَقُّ نَظِيفٌ فِي ثَوْبِهِ وَجَوْرَبِهِ، يَتَفَقَّدُ ثِيَابَهُ وَجَوْرَبَهُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ؛ لَا يَرْضَى أَنْ تَفُوحَ مِنْ أَرْدَانِهِ أَوْ قَدَمَيْهِ رَائِحَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِالطِّيبِ أَيْضًا.

وَيَتَعَهَّدُ الْمُسْلِمُ الْوَاعِي فَمَهُ، فَلَا يَشُمُّ أَحَدٌ مِنْهُ رَائِحَةً مُؤْذِيَةً كَرِيهَةً، وَذَلِكَ بِتَنْظِيفِ أَسْنَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِالسِّوَاكِ مَرَّاتٍ، وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ وَالْمُنَظِّفَاتِ.

يَتَفَقَّدُ فَمَهُ وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِعِلَاجِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَسْنَانِهِ مِمَّنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْفَمِ وَالْحَنْجَرَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْبَطْنِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ رَائِحَةِ الْفَمِ قَدْ تَكُونُ نَاشِئَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا؛ فَإِنِ احْتَاجَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ؛ حَتَّى يَبْقَى فَمُهُ نَقِيًّا مُعَطَّرَ الْأَنْفَاسِ.

تَرْوِي عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ لَا يَرْقُدُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَيَسْتَيْقِظُ إِلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَتَبْلُغُ عِنَايَةُ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ بِنَظَافَةِ الْفَمِ حَدًّا يَجْعَلُهُ يَقُولُ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ فَقَالَتْ: ((السِّوَاكُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ أَنْ تَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُهْمِلُونَ هَذِهِ الْجَوَانِبَ، وَإِنَّهَا مِنَ الدِّينِ لَفِي الصَّمِيمِ!!

لَا يَعْتَنُونَ بِنَظَافَةِ أَفْوَاهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ وَجَوَارِبِهِمْ، وَتَرَاهُمْ يَغْشَوْنَ الْمَسَاجِدَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَحَلْقَاتِ الدَّرْسِ وَالْمُذَاكَرَةِ وَرَوَائِحُهُمُ الْبَشِعَةُ تُؤْذِي إِخْوَانَهُمُ الْحَاضِرِينَ، وَتُنَفِّرُ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي تَحُفُّ هَذِهِ الْأَمَاكِنَ الْجَلِيلَةَ الْمُبَارَكَةَ.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُرَدِّدُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ فِيمَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا أَلَّا يَقْرَبَ الْمَسَاجِدَ؛ لِكَيْ لَا يُؤْذِيَ بِرَائِحَةِ فَمِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّاسَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ))  عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

حَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الَّذِينَ أَكَلُوا بَعْضَ الْبُقُولِ ذَاتِ الرَّائِحَةِ الْخَبِيثَةِ الِاقْتِرَابَ مِنَ الْمَسْجِدِ؛ لِئَلَّا تَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ مِنْ أَنْفَاسِهِمُ الْمُشْبَعَةِ بِتِلْكَ الرَّوَائِحِ؛ وَإِنَّهَا لَأَهْوَنُ شَأْنًا وَأَخَفُّ وَقْعًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ رَوَائِحِ الْمَلَابِسِ وَالْجَوَارِبِ الْمُتَّسِخَةِ وَالْأَبْدَانِ الْمُنْتِنَةِ وَالْأَفْوَاهِ الْبُخْرِ الَّتِي تَفُوحُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَسَاهِلِينَ أَوِ الْغَافِلِينَ عَنِ النَّظَافَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَيَتَأَذَّى النَّاسُ مِنْهَا فِي مَجَامِعِهِمْ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟!)).

فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَظْهَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَلَأِ بِثِيَابٍ وَسِخَةٍ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِهَا وَتَنْظِيفِهَا؛ إِشْعَارًا مِنْهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- لِلْمُسْلِمِ بِأَنْ يَكُونَ دَوْمًا نَظِيفَ الثِّيَابِ حَسَنَ الْمَظْهَرِ مُحَبَّبَهُ.

كَانَ يَقُولُ ﷺ -كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ-: ((مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ)) .

فَيَتَجَمَّلُ لِغِشْيَانِ الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ يَغْشَاهَا الْمُسْلِمُونَ.

* وَمِنْ سُبُلِ التَّحَلِّي بِجَمَالِ الظَّاهِرِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى خِصَالِ الْفِطْرَةِ وَسُنَنِهَا؛ فَقَدْ جَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِطْرَةً.. فِطْرَةً يُبَيِّنُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي كَلَامٍ حَسَنٍ نَظِيفٍ؛ إِذْ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قَالَ: ((ابْتَلَاهُ بِخِصَالٍ فِي رَأْسِهِ وَفِي جَسَدِهِ؛ فَأَمَّا فِي رَأْسِهِ فَفَرْقُ شَعْرِهِ..)) .

أَوَفِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ؟!!

هِيَ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ كَمَا بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

تَقُولُ عَائِشَةُ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((كَأَنِّي أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ -يَعْنِي لَمَعَانَ الطِّيبِ- فِي مَفَارِقِ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ)).

يَقُولُ: ((ابْتَلَاهُ بِأُمُورٍ فِي شَعْرِهِ، بِالْفَرْقِ فِي شَعْرِهِ، بِالْمَضْمَضَةِ، بِالِاسْتِنْشَاقِ، بِالسِّوَاكِ، ابْتَلَاهُ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، بِقَصِّ الشَّارِبِ، ابْتَلَاهُ فِي بَدَنِهِ بِالِاسْتِحْدَادِ -يَعْنِي بِأَخْذِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدَةِ بِالْمُوسَى -إِنْ أَطَاقَهُ- وَإِلَّا فَبَأَيِّ وَسِيلَةٍ يُطِيقُهَا، بِنَتْفِ الْإِبِطِ -إِنِ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا فَلْيَأْخُذِ الشَّعْرَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ بِأَيِّ صُورَةٍ أَطَاقَهَا-، انْتِقَاصُ الْمَاءِ -يَعْنِي: اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلِاسْتِنْجَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بَوْلًا وَغَائِطًا- مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ)) .

مُسْلِمٌ نَظِيفٌ ظَاهِرًا.

النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ أُمُورًا مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ.

تَدْرِي مَا هُوَ الَّذِي يُعْجِبُكَ وَيُعَجِّبُكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ؟!!

يَقُولُ: ((وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ)).

وَالْبَرَاجِمُ: جَمْعُ بُرْجُمَةٍ؛ وَهِيَ تِلْكَ الْمَفَاصِلُ بِأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا مَا أَكَلَتْ لَا تَغْسِلُ أَيْدِيَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ بِزُهُومَتِهِ يَبْقَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ تِلْكَ الْمَفَاصِلِ، فَيَأْتِي فِيهِ مِنَ الْوَسَخِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَأْتِي.

فَمِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ -الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ دِينُ الْفِطْرَةِ، دِينُ النَّظَافَةِ- ((انْتِقَاصُ الْمَاءِ)): اسْتِخْدَامُ الْمَاءِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ الشَّعْرِ الزَّائِدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ.

((تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ)): نَعَمْ.. تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

النَّبِيُّ ﷺ يُقِيمُ وَجْهَهُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ للِدِّينِ حَنِيفًا؛ يَعْنِي مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، مَائِلًا إِلَى رَبِّهِ بِكُلِّيَّتِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، {حَنِيفًا}؛ يَعْنِي مَائِلًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِكُلِّيَّتِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

دِينٌ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَمِنَ الْفِطْرَةِ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُرَكِّزُ عَلَيْهَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ، جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ وَدَلَّ عَلَيْهَا.

* وَمِنْ مَظَاهِرِ حَثِّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى التَّحَلِّي بِجَمَالِ الظَّاهِرِ: أَمْرُهُ بِرِعَايَةِ الشَّعْرِ، وَإِصْلَاحِهِ وَتَجْمِيلِهِ التَّجْمِيلَ الْمَشْرُوعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأَنُّقٍ وَلَا إِسْرَافٍ؛ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ)).

وَإِكْرَامُ الشَّعْرِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ بِتَنْظِيفِهِ.. بِتَمْشِيطِهِ.. بِتَطْيِيبِهِ.. بِتَحْسِينِ شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ، بِغَيْرِ إِغْرَاقٍ؛ فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَتَرَجَّلَ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالتَّرَجُّلِ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِالْوَسَطِ الْخِيَارِ ﷺ.

كَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَدَعَ الْإِنْسَانُ شَعْرَهُ مُرْسَلًا مُهْمَلًا شَعِثًا مَنْفُوشًا بِحَيْثُ يَبْدُو لِلْأَعْيُنِ كَأَنَّهُ الْغُولُ الْهَائِجُ، وَشَبَّهَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ بِالشَّيْطَانِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) مُرْسَلًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟!)).

وَوَاضِحٌ أَنَّ فِي تَشْبِيهِ النَّبِيِّ ﷺ الْمُنْتَفِشَ الشَّعْرِ بِالشَّيْطَانِ.. أَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْبِيرًا عَنْ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمَنْظَرِ وَجَمَالِ الْهَيْئَةِ، وَفِيهِ إِنْكَارُهُ التَّبَذُّلَ وَقُبْحَ الْمَنْظَرِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ دَائِمَ التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ الْمَلَاحِظِ الْجَمَالِيَّةِ فِي هَيْئَةِ الْإِنْسَانِ؛ مَا رَأَى رَجُلًا رَدِيءَ الْهَيْئَةِ مُهْمِلًا شَعْرَهُ إِلَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ إِهْمَالَهُ وَتَقْصِيرَهُ وَزِرَايَتَهُ بِنَفْسِهِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ؟!)) ﷺ.

حُسْنُ الْهَيْئَةِ مِمَّا يُعْنَى بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

الْمُسْلِمُ الْحَقُّ يُعْنَى بِلِبَاسِهِ وَهِنْدَامِهِ فِي غَيْرِ مَا غُلُوٍّ وَلَا إِسْرَافٍ؛ فَتَرَاهُ حَسَنَ الْهَيْئَةِ نَظِيفًا فِي قَصْدٍ مِنْ غَيْرِ مَا مُغَالَاةٍ وَلَا إِسْرَافٍ.

لَا يَغْدُو عَلَى النَّاسِ فِي هَيْئَةٍ رَدِيَّةٍ قَمِيئَةٍ قَبِيحَةٍ؛ بَلْ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ دَوْمًا قَبْلَ خُرُوجِهِ عَلَى النَّاسِ، يَتَجَمَّلُ بِاعْتِدَالٍ.

كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَجَمَّلُ لِأَصْحَابِهِ، فَضْلًا عَنْ تَجَمُّلِهِ لِأَهْلِهِ.

الْمُسْلِمُ يَفْعَلُ هَذَا كُلَّهُ وَفْقَ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ الْوَسَطِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهِيَ طَرِيقَةُ الِاعْتِدَالِ الَّتِي لَا إِفْرَاطَ فِيهَا وَلَا تَفْرِيطَ؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

أَرَادَ الْإِسْلَامُ لِأَبْنَائِهِ وَدُعَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ أَنْ يَغْشَوُا الْمُجْتَمَعَاتِ وَهُمْ شَامَاتٌ مُشْتَهَاةٌ، لَا مَنَاظِرُ مُؤْذِيَةٌ تَقْتَحِمُهَا الْأَعْيُنُ وَتَصُدُّ عَنْهَا النُّفُوسُ.

فَلَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ أَنْ يُسِفَّ الْإِنْسَانُ فِي مَظْهَرِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِهْمَالِ الْمُزْرِي بِصَاحِبِهِ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ؛ فَرَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهُوَ سَيِّدُ الزُّهَّادِ وَالْمُتَوَاضِعِينَ- كَانَ يَلْبَسُ اللِّبَاسَ الْحَسَنَ، وَيَتَجَمَّلُ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَيَرَى هَذَا التَّجَمُّلَ وَحُسْنَ الْهِنْدَامِ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ)).

مَا دَامَ التَّجَمُّلُ لَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّأَنُّقِ الْمُفْرِطِ فَهُوَ مِنَ الزِّينَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادِهِ، وَحَضَّ عَلَيْهَا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32].

فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))  عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: ((إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا؟)).

كَأَنَّهُ يُرِيدُ: أَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْكِبْرِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ؛ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)) » .

فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا شَامَاتٍ بَيْنَ النَّاسِ بِقَصْدٍ لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيطَ، وَأَنْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ؛ لِأَنَّ جَمَالَ الْأَنْفُسِ وَاسْتِقَامَةَ الْفِطْرَةِ تَنْضَحُ عَلَى الْوُجُوهِ.

وَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ -رَحِمَهُ اللهُ- -كَانَ- أَسْوَدَ كَاللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَكَانَ أَعْوَرَ أَشَلَّ أَعْرَجَ مُفَلْفَلَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ وَاصِفُوهُ: ((كُنْتَ إِذَا نَظَرْتَ فِي وَجْهِهِ رَأَيْتَ كَأَنَّ الشَّمْسَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ -رَحِمَهُ اللهُ-)).

((النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ)) .

رِعَايَةُ جَمَالِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِمَّا حُبِّبَ فِي هَذَا الدِّينِ، وَرَغَّبَ فِيهِ كُلُّ ذِي طَبْعٍ رَاقٍ وَذَوْقٍ سَلِيمٍ.

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِنَايَةَ بِالْمَظْهَرِ لَا تَنْزَلِقُ بِالْمُسْلِمِ الْحَقِّ الصَّادِقِ إِلَى الْمُغَالَاةِ فِي التَّزَيُّنِ وَالْإِفْرَاطِ فِي التَّأَنُّقِ إِلَى حَدٍّ يَخْتَلُّ فِيهِ التَّوَازُنُ الَّذِي أَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ تَشْرِيعَاتِهِ جَمِيعًا)).

((مَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ لِلْغَيْرِ بِالْجَمَالِ))

يُشْرَعُ الدُّعَاءُ لِلَغَيْرِ بِالْجَمَالِ؛ تَأَسِيًّا بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((اسْتَسْقَى رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ -وَفِيهِ، أَيْ: فِي الْمَاءِ- شَعْرَةٌ، قَالَ: فَرَفَعْتُهَا -أَيْ: رَفَعْتُ الشَّعْرَةَ مِنَ الْمَاءِ- فَنَاوَلْتُهُ)).

فَنَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((اللهم جَمِّلْهُ)).

قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ: ((فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتُهُ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ!)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ مَوَارِدِ الظَّمْآنِ)).

لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((اللهم جَمِّلْهُ))، فَاسْتَجَابَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ، وَعَاشَ عُمُرًا طَوِيلًا، فَبَلَغَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ.

مَا الَّذِي فَعَلَهُ؟!

أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَلَكِنْ وَقَعَتْ فِي هَذَا الْمَاءِ شَعْرَةٌ، فَرَفَعَهَا، ثُمَّ نَاوَلَهُ الْإِنَاءَ بَعْدَ أَنْ رَفَعَ مِنَ الْمَاءِ الشَّعْرَةَ.. نَاوَلَهُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللهم جَمِّلْهُ)) يَعْنِي: كَمَا جَمَّلَ لَهُ الْإِنَاءَ بِرَفْعِ الشَّعْرَةِ مِنَ الْمَاءِ وَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَسَحَ وَجْهَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالْجَمَالِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالسِّيَاقُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ مَوَارِدِ الظَّمْآنِ)).

عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَسَحَ النَّبِيُّ وَجْهَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالْجَمَالِ.

((النَّبِيُّ ﷺ أَجْمَلُ الْبَشَرِ خُلُقًا وَخَلْقًا))

لَقَدْ حَازَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْجَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ أَطْرَافِهِ خُلُقًا وَخَلْقًا؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

أَيْ: عَلِيٌّ بِهِ، مُسْتَعْلٍ بِخُلُقِكَ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِهِ.

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ((لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللهِ)).

وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا جَمَالُ خِلْقَتِهِ فَحَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ؛ فَقَدْ كَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ أَجْمَلَ مِنَ الْقَمَرِ، عَلَيْهِ هَيْبَةٌ وَوَقَارٌ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ، فَلَهُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ الْقَمَرِ)).

وَسَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِثْلَ السَّيْفِ؟!!)).

قَالَ: ((لا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ)).

((مِثْلَ السَّيْفِ)) أَيْ: فِي حُسْنِهِ وَبَرِيقِهِ، أَوْ فِي طُولِهِ.

قَالَ: ((لا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ)) أَيْ: كَانَ وَجْهُهُ مُنِيرًا وَمُسْتَدِيرًا كَالْقَمَرِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَبْيَضَ كَأَنَّمَا صِيغَ مِنْ فِضَّةٍ، رَجِلَ الشَّعْرِ)).

 ((كَأَنَّمَا صِيغَ مِنْ فِضَّةٍ)): بِاعْتِبَارِ مَا يَعْلُوهُ مِنْ نُورٍ وَإِضَاءَةٍ تَعْلُو بَيَاضَهُ ﷺ.

((رَجِلَ الشَّعْرِ)) يَعْنِي: لَيْسَ بِمُتَجَعِّدِ الشَّعْرِ، وَلَا بِمُسْتَرْسِلِهِ.

الْإِسْلَامُ يَحُضُّ أَبْنَاءَهُ جَمِيعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى النَّظَافَةِ؛ يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا نَظِيفِينَ دَوْمًا، تَضُوعُ مِنْهُمْ رَائِحَةُ الطِّيبِ، وَتَفُوحُ مِنْ أَجْسَامِهِمُ الرَّوَائِحُ الْعَطِرَةُ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فيِ ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)) .

وَالْأَحَادِيثُ وَالْأَخْبَارُ فِي نَظَافَةِ جِسْمِهِ ﷺ وَمَلَابِسِهِ وَطِيبِ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ ﷺ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ؛ مِنْهَا:

أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَافَحَ الْمُصَافِحَ ظَلَّ يَوْمَهُ يَجِدُ رِيحَ الطِّيبِ فِي يَدِهِ، فَمَنْ وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الرَّسُولِ ﷺ ظَلَّ يَوْمَهُ يَجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ فِي يَدِهِ.

وَإِذَا وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ عُرِفَ مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ بِالرَّائِحَةِ الزَّكِيَّةِ.

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي ((تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ))  عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ؛ أَيْ سَلَكَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، مِنْ طِيبِهِ ﷺ)).

وَنَامَ ﷺ مَرَّةً فِي دَارِ أَنَسٍ فَعَرِقَ، فَجَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ- بِقَارُورَةٍ وَعُودٍ تَسْلُتُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعُودِ فِي قَارُورَتِهَا، فَانْتَبَهَ النَّبِيُّ فَزِعًا، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟!)).

قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ.

هَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

مَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَبَسَاتٍ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ الْعَظِيمِ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَمِّلَ قُلُوبَنَا وَأَلْسِنَتَنَا وَأَعْمَالَنَا، إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

 

((حُقُوقُ الْجَارِ وَحُرْمَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ))

الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَقُّ الْجَارِ مَقْرُونٌ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ))

فَلَقَدْ أَوْصَى الإِسْلَامُ بِالجَارِ، وَأَعْلَى مِنْ قَدْرِهِ؛ فَلِلْجَارِ فِي الإِسْلَامِ حُرْمَةٌ مَصُونَةٌ، وَحُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لَمْ تَعْرِفْهَا قَوَانِينُ الأَخْلَاقِ، وَلَا شَرَائِعُ البَشَرِ؛ بَلْ إِنَّ تِلْكَ القَوَانِينَ وَالشَّرَائِعَ الوَضْعِيَّةَ لَتَتَنَكَّرُ لِلْجَارِ، وَتَسْتَمْرِئُ العَبَثَ بِحُرْمَتِهِ؛ إِذْ غَالِبًا مَا يَكُونُ العَبَثُ بِحَقِّ الجَارِ أَسْهَلَ تَنَاوُلًا، وَأَقَلَّ كُلْفَةً، وَأَسْنَحَ فُرْصَةً.

وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ عِظَمِ حَقِّ الجَارِ فِي الإِسْلَامِ أَنْ قَرَنَ اللَّهُ حَقَّ الجَارِ بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ تَعَالَى، وَبِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ، وَاليَتَامَى، وَالأَرْحَامِ، قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي آيَةِ الحُقُوقِ العَشْرَةِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36].

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالجَارِ ذِي القُرْبَى}: هُوَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي قَرُبَ جِوَارُهُ، وَقِيلَ: المُسْلِمُ، وَقِيلَ: الزَّوْجَةُ.

وَقَوْلُهُ: {وَالجَارِ الجُنُبِ}: قِيلَ: هُوَ الَّذِي يُعَدُّ فِي العُرْفِ جَارًا وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْزِلِهِ فُسْحَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَقِيلَ: الزَّوْجَةُ، وَقِيلَ: غَيْرُ المُسْلِمِ.

((رِعَايَةُ حُقُوقِ الْجَارِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

أَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَقَدِ اسْتَفَاضَتْ نُصُوصُهَا فِي بَيَانِ رِعَايَةِ حُقُوقِ الجَارِ، وَالوَصَايَةِ بِهِ، وَصِيَانَةِ عِرْضِهِ، وَالحِفَاظِ عَلَى شَرَفِهِ، وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ، وَسَدِّ خَلَّتِهِ، وَغَضِّ البَصَرِ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَالبُعْدِ عَمَّا يَرِيبُهُ وَيُسِيءُ إِلَيْهِ.

وَمِنْ أَجْلَى تِلْكَ النُّصُوصِ وَأَعْظَمِهَا: مَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).

أَي: ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُبَلِّغُنِي عَنِ اللَّهِ الأَمْرَ بِتَوْرِيثِ الجَارِ الجَارَ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ بَالِغَةٌ؛ فَإِنَّ الوَصَايَةَ بِالجَارِ تَشْمَلُ كَفَّ الشَّرِّ عَنْهُ، وَإِسْدَاءَ الخَيْرِ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)): يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوَصَايَةَ بِالجَارِ كَانَتْ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَالحَثِّ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، فَكُلُّ مَنْ جَاوَرَكَ فِي السَّكَنِ لَهُ عَلَيْكَ حَقُّ الجِوَارِ؛ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَكَ وَشِيجَةٌ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَابِطَةٌ مِنْ دِينٍ، وَفِي هَذَا تَكْرِيمٌ لِلْجَارِ أَيُّ تَكْرِيمٍ فِي شِرْعَةِ الإِسْلَامِ الإِنْسَانِيَّةِ السَّمْحَةِ الغَرَّاءِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الرَّسُولِ ﷺ تَتَابَعُ مُوصِيَةً بِالجَارِ عَلَى وَجْهِ العُمُومِ، غَيْرَ نَاظِرَةٍ إِلَى قَرَابَتِهِ أَوْ دِينِهِ، مُؤَكِّدَةً أَهَمِّيَّةَ عَلَاقَةِ الجِوَارِ فِي الإِسْلَامِ، وَمِنْهَا: قَوْلُهُ ﷺ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).

إِنَّهَا لَلْمَنْزِلَةُ الكَرِيمَةُ العَالِيَةُ يَمْنَحُهَا الإِسْلَامُ لِلْجَارِ عَلَى لِسَانِ الرُّوحِ الأَمِينِ جِبْرِيلَ الَّذِي مَا فَتِئَ يُؤَصِّلُهَا وَيُؤَكِّدُهَا لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ؛ حَتَّى حَسِبَ أَنَّهَا سَتَرْفَعُ الجَارَ إِلَى دَرَجَةِ القَرَابَةِ، فَتَجْعَلُهُ وَارِثًا مِثْلَهُمْ.

وَقَدْ لَهَجَ الرَّسُولُ ﷺ إِزَاءَ تَوْصِيَةِ جِبْرِيلَ بِالحَضِّ عَلَى إِكْرَامِ الجَارِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُخْلِ خُطْبَتَهُ الجَامِعَةَ فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ الَّتِي اعْتَصَرَ فِيهَا أَهَمَّ مَا يَنْبَغِي قَوْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ لِلْجَارِ فِيهَا حَيِّزًا كَبِيرًا، لَفَتَ ذَلِكَ الحَيِّزُ نَظَرَ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ أَبِي أُمَامَةَ؛ حَتَّى ظَنَّ -أَيْضًا- أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ سَيُوَرِّثُ الجَارَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الجَدْعَاءِ فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ يَقُولُ: ((أُوصِيكُمْ بِالجَارِ))، حَتَّى أَكْثَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

وَتَبْلُغُ وَصِيَّةُ الرَّسُولِ الكَرِيمِ بِالجَارِ حَدًّا مِنَ الأَهَمِّيَّةِ وَالخُطُورَةِ يَجْعَلُ الإِحْسَانَ إِلَى الجَارِ، وَالتَّنَزُّهَ عَنْ أَذَاهُ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَنَتِيجَةً حَتْمِيَّةً مِنْ نَتَائِجِهِ الحِسَانِ، وَذٰلِكَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلبُخَارِيِّ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ)).

((مَعْنَى الْجَارِ وَحَدُّ الْجِوَارِ))

وَالجَارُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: مَنْ جَاوَرَكَ جِوَارًا شَرْعِيًّا؛ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، صَدِيقًا أَوْ عَدُوًّا، مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا، نَافِعًا أَوْ ضَارًّا، قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، بَلَدِيًّا أَوْ غَرِيبًا، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، تَزِيدُ وَتَنْقُصُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ وَقَرَابَتِهِ، وَدِينِهِ وَتَقْوَاهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيُعْطَى بِحَسَبِ حَالِهِ مَا يَسْتَحِقُّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَهْلِ العِلْمِ فِي حَدِّ الجِوَارِ المُعْتَبَرِ شَرْعًا؛ فَمِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أَنَّ حَدَّ الجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، كَمَا جَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ.

وَقِيلَ: عَشْرُ دُورٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

وَقِيلَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ -أَيِ: الأَذَانَ- فَهُوَ جَارٌ؛ جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقِيلَ: الجَارُ هُوَ المُلَاصِقُ المُلَازِقُ.

وَقِيلَ: حَدُّ الجِوَارِ هُمُ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ.

وَالأَقْرَبُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَنَّ حَدَّ الجِوَارِ يَرْجِعُ إِلَى العُرْفِ، فَمَا عُلِمَ عُرْفًا أَنَّهُ جَارٌ فَهُوَ جَارٌ.

((حُقُوقُ الْجِيرَانِ فِي الْإِسْلَامِ))

وَالجِوَارُ يَقْتَضِي حَقًّا وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ، فَيَسْتَحِقُّ الجَارُ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ مُسْلِمٍ وَزِيَادَةً، وَالجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ:

جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ.

* فَالْجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: الجَارُ المُسْلِمُ ذُو الرَّحِمِ؛ فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ الإِسْلَامِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ.

* وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ: فَالْجَارُ المُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الإِسْلَامِ، وَحَقُّ الجِوَارِ.

* وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: فَالْجَارُ المُشْرِكُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّ الجِوَارِ كَفَّ الأَذَى فَقَطْ:

- بَلِ احْتِمَالُ الأَذَى.

- وَالرِّفْقُ.

- وَابْتِدَاءُ الخَيْرِ.

- وَأَنْ يَبْدَأَ جَارَهُ بِالسَّلَامِ.

- وَلَا يُطِيلَ مَعَهُ الكَلَامَ.

- وَيَعُودَهُ فِي المَرَضِ.

- وَيُعَزِّيَهِ فِي المُصِيبَةِ.

- وَيُهَنِّئَهُ فِي الفَرَحِ.

- وَيَصْفَحَ عَنْ زَلَّاتِهِ.

- وَلَا يَطَّلِعَ إِلَى دَارِهِ.

- وَلَا يُضَايِقَهُ فِي وَضْعِ الخَشَبِ عَلَى جِدَارِهِ، وَلَا فِي صَبِّ المَاءِ فِي مِيزَابِهِ، وَلَا فِي طَرْحِ التُّرَابِ فِي فِنَائِهِ.

- وَلَا يُتْبِعَهُ النَّظَرَ فِيمَا يَحْمِلُهُ إِلَى دَارِهِ.

- وَيَسْتُرَ مَا يَنْكَشِفُ مِنْ عَوْرَاتِهِ.

- وَلَا يَتَسَمَّعَ عَلَى كَلَامِهِ.

- وَيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ حُرَمِهِ.

- وَيُلَاحِظَ حَوَائِجَ أَهْلِهِ إِذَا غَابَ.

((التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ أَذَى الجَارِ))

وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْهِيبِ مِنْ أَذَى الجَارِ، وَفِي تَأْكِيدِ حَقِّهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)).

وَعَنِ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟)).

قَالُوا: ((حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)).

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)).

قَالَ: ((مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟)).

قَالُوا: ((حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ فَهِيَ حَرَامٌ)).

قَالَ: ((لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الكَبِيرِ))، وَ((الأَوْسَطِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)): يَتَضَمَّنُ الزِّنَا، وَيَتَضَمَّنُ إِفْسَادَ امْرَأَةِ جَارِهِ عَلَى زَوْجِهَا، وَيَتَضَمَّنُ اسْتِمَالَةَ قَلْبِهَا إِلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ حِلٍّ، وَذَلِكَ أَفْحَشُ، وَفِيهِ خِيَانَةٌ عَظِيمَةٌ.

فَفِي هَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ: التَّحْذِيرُ مِنْ أَذَى الجَارِ بِأَيِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَمِنْ حَقِّ الجَارِ عَلَى الجَارِ: أَلَّا يَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي مَالِهِ.

فِيهِ: بَيَانٌ أَنَّ لِلْجَارِ حَقًّا عَظِيمًا؛ فَيَجِبُ حِفْظُ جِوَارِهِ وَمُرَاعَاتُهُ بِإِيصَالِ دُرُوبِ الإِحْسَانِ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ، وَيَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ.

وَفِيهِ: بَيَانٌ أَنَّ بَعْضَ الزِّنَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فِي الإِثْمِ وَالقُبْحِ وَالفُحْشِ.

وَفِيهِ: بَيَانٌ أَنَّ بَعْضَ المَعَاصِي أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ))؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ إِلَى فَاحِشَةِ الزِّنَا الخِيَانَةَ مَعَ قُرْبِ الدَّارِ، وَتَلَاصُقِ الجِدَارِ، وَمَعَ سُهُولَةِ هَذَا الأَمْرِ، وَفِيهِ خِيَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَضْيِيعٌ لِحُقُوقِ الجَارِ مَعَ حُقُوقِ المُسْلِمِ، مَعَ الوُقُوعِ فِي الفَاحِشَةِ، مَعَ انْتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ، قَالُوا: ((حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ )).

فَقَالَ: ((لَأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشْرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ)).

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ!)).

قِيلَ: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَحْمَدُ وَزَادَ:

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا بَوَائِقُهُ؟)).

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)) أَيْ: لَا يَأْمَنُ جَارُهُ شَرَّهُ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ((الصَّمْتِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ البُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)): ((بَابٌ: مَنْ أَغْلَقَ البَابَ عَلَى الجَارِ)).

وَبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ -أَوْ قَالَ: أَتَى عَلَيْنَا حِينٌ- وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ المُسْلِمِ، ثُمَّ الآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ المُسْلِمِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ)). وَالحَدِيثُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

((بَابٌ: مَنْ أَغْلَقَ البَابَ عَلَى الجَارِ)) أَيْ: دُونَ الجَارِ، أَغْلَقَ البَابَ فِي وَجْهِهِ، وَأَغْلَقَ البَابَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى جَارِهِ حَتَّى وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْهُ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ((ثُمَّ الآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ المُسْلِمِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

يَقُولُ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ؛ فَكَيْفَ بِزَمَانِنَا نَحْنُ؟! وَمَاذَا نَقُولُ؟! وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ المُقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ البَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ جَارَانِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: ((اطْرَحْ مُتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ))، فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ)) أَيْ: يَلْعَنُونَ جَارَهُ.

فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ -أَيِ: الجَارُ المُسِيءُ- فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ)).

فَقَالَ: ((وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟)).

قَالَ: ((يَلْعَنُونَنِي)).

قَالَ: ((لَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ)).

فَقَالَ: ((إِنِّي لَا أَعُودُ)).

فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((ارْفَعْ مُتَاعَكَ؛ فَقَدْ كُفِيتَ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصِيَامِهَا؛ غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).

قَالَ: ((هِيَ فِي النَّارِ)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَأَنَّهَا تَتَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ -أي: بِالْقِطَعِ مِنَ الأَقِطِ، وَهُوَ الجُبْنُ المُجَفَّفُ-، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).

قَالَ: ((هِيَ فِي الجَنَّةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ)). وَالأَحَادِيثُ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي لَفْظٍ: ((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَبِيتُ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ)).

وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَارِهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ! سَلْ هَذَا لِمَ أَغْلَقَ عَنِّي بَابَهُ، وَمَنَعَنِي فَضْلَهُ)). رَوَاهُ الأَصْبَهَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)).

((خَيْرُ الْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ))

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟)).

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، فَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَاللَّهُمَّ أَغْنِنِي عَنْ شِرَارِ خَلْقِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَعْطُوا مَنُّوا، وَإِذَا مُنِعُوا عَابُوا.

وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ كُلٌّ مِنَ الْجَارَيْنِ أَنَّهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى عَوْنِ الآخَرِ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَمِّلٌ لأَخِيهِ.

النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَحَاضِرَةٍ       =     بَعْضٌ لِبَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا خَدَمُوا

وَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الأَوْسَطِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ)).

قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ لَبِيدٍ يُوصِي وَلَدَهُ: ((يَا بُنَيَّ! إِنِ احْتَجْتَ إِلَى صُحْبَةِ الرِّجَالِ فَاصْحَبْ مَنْ إِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ أَصَابَتْكَ خَصَاصَةٌ أَعَانَكَ، وَإِنْ قُلْتَ سَدَّدَ قَوْلَكَ، وَإِنْ صُلْتَ قَوَّى صَوْلَتَكَ، وَإِنْ بَدَتْ مِنْكَ ثُلْمَةٌ سَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِكَ إِحْدَى الْمُهِمَّاتِ وَاسَاكَ، مَنْ لَا تَأْتِيكَ مِنْهُ الْبَوَائِقُ، وَلَا تَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْهُ الطَّرَائِقُ.

إِنَّ أَخَاكَ الْحَقَّ مَنْ كَانَ مَعَك          وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَك

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَك        شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك)).

لَا شَكَّ أَنَّ الْجَارَ الْحَقَّ وَالصَّدِيقَ الْحَقَّ هُوَ كَمَا جَاءَ فِي كَلَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَيَغْفِرُ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمُ عَبْرَتَهُ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُقِيلُ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلُ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدُّ غِيبَتَهُ، وَيُدِيمُ صُحْبَتَهُ، وَيَحْفَظُ خُلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيَعُودُ مَرْضَتَهُ، وَيَشْهَدُ جَنَازَتَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَيَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئُ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرُ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنُ نُصْرَتَهُ، وَيَحْفَظُ حُرْمَتَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ، وَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ طَلِبَتَهُ، وَيُشَمِّتُ عَطْسَتَهُ، وَيَرُدُّ ضَالَّتَهُ، وَيَرُدُّ سَلَامَهُ، وَيَسْتَحْسِنُ كَلَامَهُ، وَيَبَرُّ أَقْسَامَهُ، وَيُصَدِّقُ أَحْلَامَهُ، وَيَنْصُرُهُ ظَالِمًا بِرَدِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَمَظْلُومًا بِإِعَانَتِهِ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، وَيُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَشْتُمُهُ، وَيُحِبُّ لَهُ الْخَيْرَ كَمَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مِنَ الشَّرِّ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ)).

((مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ قَتْلُ الْجَارِ وَالْأَخِ!))

رَوَى البُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَأَخَاهُ، وَأَبَاهُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ شُيُوعُ القَتْلِ، وَلَا يَعْنِي هَذَا مُقَاتَلَةَ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ، وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلُ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ،  يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَأَخَاهُ، وَأَبَاهُ.

((مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ))

عَنْ نَافِعِ بْنِ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ: الْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاءِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

((شَرُّ الْجَارِ الْحَسُودِ!))

قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ((كَانَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارٍ سُوءٍ عَيْنُهُ تَرَانِي، وَقَلْبُهُ لَا يَنْسَانِي)).

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ أَحْسَدَ النَّاسِ لِلْعَالِمِ وَأَبْغَاهُمْ عَلَيْهِ قَرَابَتُهُ وَجِيرَانُهُ)).

قَالَ عِكْرِمَةُ: ((إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ)).

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ: ((فِي الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ الأَوَّلِ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ)).

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ((قَالَ رَجُلٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاللَّهِ! إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: وَلِمَ لَا تُحِبُّنِي وَلَسْتَ لِي بِجَارٍ وَلَا بِابْنِ عَمٍّ!)).

كَانَ يُقَالُ: ((الحَسَدُ فِي الْجِيرَانِ، وَالْعَدَاوَةُ فِي الأَقَارِبِ)).

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((إِلَى جَنْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُنَافِقٌ يُؤْذِيهِ)).

وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ((مَا كَثُرَتِ النِّعَمُ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا كَثُرَ أَعْدَاؤُهَا)).

أَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ، وَحُسْنَ الْخِتَامِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:كُنْ جَمِيلًا تَرَ الْوُجُودَ جَمِيلًا!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ
  التَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ فِي الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ
  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ
  الرد على الملحدين:مبحث عن الطبيعة ما هي؟ وما هي مفاهيمها؟ وما حقيقة تأثيرها؟
  الْإِيجَابِيَّةُ
  عَالَمِيَّةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهَا
  أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي ​الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
  الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ... وَكَيْفَ نَحْيَاهُ؟
  حَقِيقَةُ مِحْنَةِ غَزَّةَ وَدَوْرُ مِصْرَ التَّارِيخِيُّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان