هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!

هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!

((هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ أَقْوَى مِنْ كُلِّ رَابِطَةٍ))

فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِخْوَةٌ فِي دِينِ اللهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ أَقْوَى مِنْ كُلِّ رَابِطَةٍ وَصِلَةٍ؛ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أَنْسَابَ بَيْنَكُمْ؛ وَلَكِنَّ الْأَخِلَّاءَ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، فَنَمُّوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- هَذِهِ الْأُخُوَّةَ، وَقَوُّوا تِلْكَ الرَّابِطَةَ بِفِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لَكُمْ وَرَسُولُهُ، وَاغْرِسُوا فِي قُلُوبِكُمُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَأَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، وَوَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى فِي اللهِ؛ فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَكُونُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَحْصُلُ لَهَا قُوَّةٌ وَلَا عِزَّةٌ حَتَّى تَرْتَبِطَ بِالرَّوَابِطِ الدِّينِيَّةِ، حَتَّى تَكُونَ كَمَا وَصَفَهَا نَبِيُّهَا ﷺ بِقَوْلِهِ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ أَرْسَتِ الشَّرِيعَةُ أُسُسَ تِلْكَ الرَّوَابِطِ وَالْأَوَاصِرِ، فَشَرَعَ اللهُ وَرَسُولُهُ لِلْأُمَّةِ مَا يُؤَلِّفُ بَيْنَهَا، وَيُقَوِّي وَحْدَتَهَا، وَيَحْفَظُ كَرَامَتَهَا وَعِزَّتَهَا، وَيَجْلِبُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.

* شَرَعَ لِلْأُمَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ؛ فَالسَّلَامُ يَغْرِسُ الْمَحَبَّةَ، وَيُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ بِجَوَابٍ يَسْمَعُهُ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: أَهْلًا وَسَهْلًا، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا حَتَّى يَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ.

* وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَالتَّفَرُّقَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِمَعْصِيَةٍ، أَوْ مَوْصُومًا بِبِدْعَةٍ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ.

وَقَالَ ﷺ: ((تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللهِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ)).

إِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ رَأْبٌ لِلصَّدْعِ، وَلَمٌّ لِلشَّعَثِ، وَإِصْلَاحٌ لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَثَوَابٌ عَظِيمٌ لِمَنِ ابْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللهِ.

إِنَّ الْمُوَفَّقَ إِذَا رَأَى بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةً وَتَبَاعُدًا سَعَى بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَاعُدِ حَتَّى يَكُونَا صَدِيقَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ وَأَخَوَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ.

* وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَالتَّشَاوُرِ بَيْنَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ؛ حَتَّى تَتِمَّ الْأُمُورُ، وَتَنْجَحَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْآرَاءَ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ تَحَقَّقَ الْخَيْرُ، وَزَالَ الشَّرُّ -بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى-.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْقَاعِدَةَ الْأَصِيلَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَوْا فِي كُلِّ أَمْرٍ يُؤَلِّفُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَيَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، وَيُوَحِّدُ رَأْيَهُمْ، وَأَنْ يُنَابِذُوا كُلَّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ؛ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَهْجُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَإِنَّكَ لَتَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ حَرِيصًا عَلَى الْخَيْرِ، وَجَادًّا فِي فِعْلِهِ؛ لَكِنْ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فِي هَجْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَجْلِ أَغْرَاضٍ شَخْصِيَّةٍ، وَمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ تُؤَثِّرَ الْأَغْرَاضُ الشَّخْصِيَّةُ أَوِ الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي الصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ.

* وَحَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوقِعَ أَحَدٌ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ، وَيَسْعَى فِي الْإِفْسَادِ، يَأْتِي إِلَى شَخْصٍ فَيَقُولُ لَهُ: قَالَ فِيكَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَيُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بِنَمِيمَتِهِ هَذِهِ أَصْبَحَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، الْمُتَعَرِّضِينَ لِعُقُوبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ كَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ.

وَيَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ الْحَثَّ مِنْهُ عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَأَنْ يَكُونُوا إِخْوَانًا مُتَرَاحِمِينَ، مُتَحَابِّينَ مُتَعَاطِفِينَ، يُحِبُّ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِمَصَالِحِهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ الْمَجْمُوعَ مِنْ أَسَاسَاتٍ وَجُدْرَانٍ مُحِيطَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَجُدْرَانٍ تُحِيطُ بِالْمَنَازِلِ الْمُخْتَصَّةِ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ سُقُوفٍ وَأَبْوَابٍ وَمَصَالِحَ وَمَنَافِعَ؛ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَقُومُ بِمُفْرَدِهِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ.

وَالْمُسْلِمُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَيُرَاعُوا قِيَامَ دِينِهِمْ وَشَرَائِعِهِ، وَمَا يُقَوِّمُ ذَلِكَ وَيُقَوِّيهِ، وَيُزِيلُ مَوَانِعَهُ وَعَوَارِضَهُ، فَالْفُرُوضُ الْعَيْنِيَّةُ يَقُومُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ، لَا يَسَعُ مُكَلَّفًا قَادِرًا تَرْكُهَا أَوِ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ يُجْعَلُ فِي كُلِّ فَرْضٍ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ، وَيَتِمُّ بِهِمُ الْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْجِهَادِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122].

وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104].

وَأَمَرَ -تَعَالَى- بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَالْمُسْلِمُونَ قَصْدُهُمْ وَمَطْلُوبُهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ قِيَامُ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمُ الَّتِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إِلَّا بِهَا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَسْعَى فِي تَحْقِيقِ مُهِمَّتِهَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهَا وَيُنَاسِبُ الْوَقْتَ وَالْحَالَ، وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِعَقْدِ الْمُشَاوَرَاتِ، وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّاتِ، وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ تُدْرَكُ، وَكَيْفِيَّةِ الطُّرُقِ إِلَى سُلُوكِهَا، وَإِعَانَةِ كُلِّ طَائِفَةٍ لِلْأُخْرَى فِي رَأْيِهَا وَقَوْلِهَا وَفِعْلِهَا، وَفِي دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَالْمُعَوِّقَاتِ عَنْهَا.

فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَتَعَلَّمُ، وَطَائِفَةٌ تُعَلِّمُ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَخْرُجُ إِلَى الْجِهَادِ بَعْدَ تَعَلُّمِهَا لِفُنُونِهِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُرَابِطُ وَتُحَافِظُ عَلَى الثُّغُورِ وَمَسَالِكِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِالصِّنَاعَاتِ الْمُخْرِجَةِ لِلْأَسْلِحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِالْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْمَكَاسِبِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِدَرْسِ السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَمَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ مَعَ الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَعُودُ إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَتَرْجِيحُ أَعْلَى الْمَصَالِحِ عَلَى أَدْنَاهَا، وَدَفْعُ أَعْلَى الْمَضَارِّ بِالنُّزُولِ إِلَى أَدْنَاهَا، وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْأُمُورِ، وَمَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ وَمَرَاتِبِهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ يَسْعَوْنَ كُلُّهُمْ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مُتَسَاعِدِينَ مُتَسَانِدِينَ، يَرَوْنَ الْغَايَةَ وَاحِدَةً وَإِنْ تَبَايَنَتِ الطُّرُقُ، وَالْمَقْصُودَ وَاحِدًا وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْوَسَائِلُ إِلَيْهِ.

فَمَا أَنْفَعَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَرْشَدَ فِيهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ أُمَّتَهُ إِلَى أَنْ يَكُونُوا كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.

وَلِهَذَا حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُقَوِّي هَذَا الْأَمْرَ، وَيُوجِبُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا بِهِ يَتِمُّ التَّعَاوُنُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَتَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ؛ حَتَّى عُدَّ هَذَا أَصْلًا عَظِيمًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَتَرْجِيحُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَجِبُ السَّعْيُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحَقِّقَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا الْأَصْلَ، وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَيَجْعَلَهُمْ يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَعَادَاهُمْ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْحَكِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

((إِجْرَاءُ أَحْكَامِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ وَسَرَائِرُهُمْ إِلَى اللهِ))

الْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ الْحِسَابُ عَلَى السَّرَائِرِ وَمَا أَخْفَى الْعَبْدُ مِنْ سَرِيرَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَشَرٌّ.

فَيَجِبُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِ النَّاسِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَالٍ، وَالْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَى مَا أَخْفَى الْعَبْدُ مِنْ سَرِيرَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَجَزَاؤُهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ.

وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ وَالِاجْتِزَاءُ بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مِنَ الْإِنْسَانِ بِنُطْقِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي عِصْمَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَمَّا فِي قَلْبِهِ مِنَ الِاعْتِقَادِ هَلْ هُوَ جَازِمٌ أَوْ لَا.

وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ حُكْمًا عَلَيْهِ بِظَاهِرِ إِقْرَارِهِ.

((هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ إِجْرَاءَ أَحْكَامِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَسَرَائِرُهُمْ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-.

حَمْلُ النَّاسِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَأَنْ يَكِلَ الْإِنْسَانُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الدُّنْيَا بِمَا فِي الظَّوَاهِرِ؛ بِمَا فِي لِسَانِهِ، وَجَوَارِحِهِ، وَمَا يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُحَاسَبُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِ.

وَهَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأَشْخَاصِ، فَلَا تَكُونُ أَحْكَامُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَى ظُنُونٍ وَأَوْهَامٍ، أَوْ دَعَاوَى لَا يَمْلِكُونَ عَلَيْهَا بَيِّنَاتٍ.

قَالَ تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].

أَيْ: فَدَعُوهُمْ، وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْحَصْرِ.

وَإِطْلَاقُ الْآيَاتِ شَامِلٌ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ مَنْ تَابَ فَآمَنَ بِاللهِ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ؛ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْحَصْرِ، وَهِيَ تَشْمَلُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ ظَاهِرًا.

لَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.

{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}: دَعُوهُمْ، وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَتْلِ؛ فَقَدْ أَصْبَحُوا مُسْلِمِينَ حُكْمًا؛ سَوَاءٌ كَانُوا صَادِقِينَ فِي إِسْلَامِهِمْ أَوْ مُتَظَاهِرِينَ، وَالْعِبْرَةُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَا فِي الظَّاهِرِ.

وَاللِّسَانُ، وَالْجَوَارِحُ، وَمُلَابَسَاتُ الْأَحْوَالِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَفِي الْآخِرَةِ الْحُكْمُ بِمَا فِي سَرَائِرِ الْقُلُوبِ، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].

قَالَ تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}: لَمْ يَكْتَفِ فِي تَخْلِيَةِ السَّبِيلِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى قَتْلِ تَارِكِي الصَّلَاةِ، وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه -تَعَالَى-)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)): النَّاسُ: عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، لَا أَهْلُ الْكِتَابِ؛ لِسُقُوطِ قِتَالِهِمْ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ.

((عَصَمُوا)): مَنَعُوا وَحَفِظُوا.

((إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ)): لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ)) أَيْ: أَمَرَنِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، ((أَنْ أُقَاتِلَ)): هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ.

هَذَا مُهِمٌّ جِدًّا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ يَطْعَنُونَ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ؛ بَلْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ!

هَذَا حَدِيثٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، فَيَقُولُونَ: لَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ!

يَقُولُونَ: لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَوْ لِأَنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ مَا أُرْسِلَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْتُلَ النَّاسَ، وَأَنْ يُرِيقَ دِمَاءَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَيْنَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ؟!

هَلْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا؟!

هُنَاكَ فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ، الْمُقَاتَلَةُ: مُفَاعَلَةٌ؛ فَـ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)) أَيْ: أَمَرَنِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ((أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ))، لَمْ يَقُلْ: أُمِرْتُ أَنْ أَقْتُلَ النَّاسَ، الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ: الْأَذَى، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَتْلِ: الْإِبَادَةُ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَ (النَّاسُ): هُمُ الْكُفَّارُ، عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ، لَا أَهْلُ الْكِتَابِ؛ لِانْتِفَاءِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ.

((حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)): مِنْ أَجْلِ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْعِبَادِ إِلَى عُبُودِيَّةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ.

وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُقَاتَلُ النَّاسُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِقْرَارُ وَإِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ.

أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يُقِرُّونَ بِهِ، وَهُوَ اللهُ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَالَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38].

هُمْ يُقِرُّونَ بِهَذَا.

((وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)): الصَّلَاةُ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، قَالَ ﷺ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)): حَقٌّ فِي الْأَمْوَالِ تُعْطَى لِأَصْنَافِهَا الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.

لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَقِيَّةَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ لَمْ يَذْكُرِ الصِّيَامَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ؛ إِمَّا لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَدْ فُرِضَتْ وَقْتَ هَذَا الْقَوْلِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، أَوِ اكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ تَنْبِيهًا بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى.

((فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا)): إِذَا الْتَزَمُوا وَقَامُوا بِذَلِكَ مَنَعُوا وَحَفِظُوا وَحَقَنُوا ((مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)) أَيْ: لَا تُهْدَرُ دِمَاؤُهُمْ، وَلَا تُسْتَبَاحُ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ.

((إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ)) أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، أَوْ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فِي الْإِسْلَامِ؛ كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.

((وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-)) يَعْنِي: حِسَابُ بَوَاطِنِهِمْ وَصِدْقِ قُلُوبِهِمْ عَلَى اللهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ، أَمَّا نَحْنُ فَنُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا.

الْبَشَرُ لَا يُكَلَّفُونَ إِلَّا بِالظَّاهِرِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا يَحْكُمُ عَلَى الظَّاهِرِ، لَا يَحْكُمُ عَلَى الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَكَانَ أَظْهَرَ ذَلِكَ نِفَاقًا؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَكِنْ نُجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا.

عَكْسُ أُولَئِكَ رَجُلٌ رُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَجَلَدَهُ، فَسَبَّهُ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَالَ: ((لَعَنَهُ اللهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ!)).

فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)).

الْمُنَافِقُ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَهَذَا رَجُلٌ مُخْلِصٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي إِيمَانِهِ، وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ تَقَعُ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ، لَا بَأْسَ؛ فَهَذَا لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ إِلَّا الْمَعْصُومُ، وَالْكُلُّ خَطَّاءٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَانْظُرْ إِلَى تَقَابُلِ الصُّورَتَيْنِ؛ هَذَا رَجُلٌ ظَاهِرُهُ لَا يَسْتَوْجِبُ حَدًّا؛ وَلَكِنَّ بَاطِنَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَهَذَا رَجُلٌ بَاطِنُهُ مُنْطَوٍ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَزِلُّ زَلَّةً؛ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ فَيُضْرَبُ، يُجْلَدُ، ثُمَّ يُرْسَلُ، ثُمَّ يَشْرَبُ، وَهَكَذَا، وَلَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَلْعَنَهُ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، ((لَا تَلْعَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)).

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَبْدُ للهِ مَأْمُورٌ، يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ))، يُوَجَّهُ إِلَيْهِ كَمَا يُوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ مَكَانَةِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أُمُورَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ دُونَ بَوَاطِنِهَا.

وَأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ شِعَارَ الدِّينِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَلَمْ يُكْشَفْ عَنْ بَاطِنِ أَمْرِهِ، وَلَوْ وُجِدَ مَخْتُونٌ فِيمَا بَيْنَ قَتْلَى غُلْفٍ عُزِلَ عَنْهُمْ فِي الْمَدْفَنِ، وَلَوْ وُجِدَ لَقِيطٌ فِي بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تُجْرَى عَلَى الظَّوَاهِرِ.

فِي الْحَدِيثِ: قَبُولُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهَا فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا.

فِي الْحَدِيثِ: قِتَالُ أَهْلِ الْكُفْرِ قَائِمٌ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، دَلِيلُ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ نُطْقُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْإِتْيَانُ بِشُرُوطِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.

كَلِمَةُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، هِيَ مِفْتَاحُ الْإِسْلَامِ، وَلِكُلِّ مِفْتَاحٍ أَسْنَانٌ، وَأَسْنَانُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَأَجَلُّهَا الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُكَمِّلَاتِ الْإِيمَانِ، مَعَ تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَفِي الْحَدِيثِ: الْقِتَالُ فِي الْإِسْلَامِ لِأَهْلِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، دَلِيلُ دُخُولِهِمْ نُطْقُهُمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِقَامَتُهُمْ لِلصَّلَاةِ، وَأَدَاؤُهُمْ لِلزَّكَاةِ، وَاعْتِرَافُهُمْ بِبَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ؛ إِمَّا لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَدْ فُرِضَتْ وَقْتَئِذٍ، أَوِ اكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ بِهَا.

وَإِذَا أَعْلَنُوا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ حُرِّمَتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَحِسَابُ بَوَاطِنِهِمْ وَصِدْقِ قُلُوبِهِمْ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-.

أَمَّا نَحْنُ فَنُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا.

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: مَعَ قَرِينَتِهَا ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يَعْنِي: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، نَطَقَ بِهَا، وَعَرَفَ مَعْنَاهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَاجْتَنَبَ نَوَاقِضَهَا، وَهِيَ جَامِعَةٌ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

فَـ((لَا إِلَهَ)): نَفْيٌ لِجَمِيعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ كَالْأَصْنَامِ، وَالْأَوْثَانِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْجِنِّ الَّذِينَ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللهِ.

وَ ((إِلَّا اللهُ)): إِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، إِثْبَاتُهَا للهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ.

((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)): الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ؛ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا يُعْبَدُ اللهُ بِالْبِدَعِ.

هَذَا مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

((وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ)): أَيِّ مَعْبُودٍ كَانَ سِوَى اللهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، ((حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ)): حَرُمَ أَخْذُ مَالِهِ، وَحَرُمَ قَتْلُهُ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ؛ مِنْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رِدَّةٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قِصَاصٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمُنِعَ أَخْذُ مَالِهِ، وَمُنِعَ قَتْلُهُ بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْهُ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ؛ كَالزَّكَاةِ.

((وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-)): فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى السَّرَائِرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حِسَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا أَثَابَهُ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا عَذَّبَهُ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ.

وَالْمُسْلِمُ مَعْصُومُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، لَا يَجُوزُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ، وَلَا إِلْحَاقُ الْأَذَى بِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ الْغَايَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا الْقِتَالُ.

وَفِيهِ: بَيَانُ شِدَّةِ اعْتِنَاءِ الرَّسُولِ ﷺ بِشَأْنِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَظِيمِ احْتِفَائِهِ ﷺ بِهِ؛ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ رَبِّهِ لَهُ بِالْقِتَالِ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ إِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنَّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانَهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَعُصِمَ مَالُهُ وَدَمُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ أَمْ لَا؛ فَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَنَحْنُ لَنَا الظَّاهِرُ.

فِي الْحَدِيثِ: الرَّدُّ عَلَى الْغُلَاةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِدُونِ الْتِزَامِ الضَّوَابِطِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِينَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْأَعْمَالِ؛ لِذَلِكَ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ((كِتَابِ الْإِيمَانِ)) لِلرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَنْ وَرِثَ الرَّسُولَ ﷺ -يَعْنِي: مِنْ أَتْبَاعِهِ الصَّادِقِينَ- لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، الْحِسَابُ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

وَمِنْ شُرُوطِ التَّوْحِيدِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ؛ شَرْطُ التَّوْحِيدِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَالْمُسْلِمُ مَعْصُومُ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ؛ فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ، وَلَا إِلْحَاقُ الْأَذَى بِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.

وَعَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للَّهِ؛ أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟)).

فَقَالَ: ((لَا تَقْتُلْهُ)).

فَقُلْتُ: ((يَا رسُولَ اللَّهِ! قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَمَا قَطَعَهَا!)).

فَقَالَ: ((لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

مَعْنَى: ((إِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ)) أَيْ: مَعْصُومُ الدَّمِ، مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ، وَمَعْنَى: ((إنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ)) أَيْ: مُبَاحُ الدَّمِ بِالْقِصَاص لِوَرَثَتِهِ، لَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْكُفْرِ.

ذَكَرَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الْمِقْدَادُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ سَائِلًا وَمُسْتَفْتِيًا: ((إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي -أَيْ: احْتَمَى مِنِّي وَاسْتَتَرَ- بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للَّهِ -أَيْ: دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ-؛ أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا -فِي هَذِهِ الْحَالِ-؟)) أَأَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ؟ وَالْمَعْنَى: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى الْخَشْيَةِ، لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ.

قَالَ ﷺ: ((لَا تَقْتُلْهُ)): لَا تَفْعَلْ.

قَالَ الْمِقْدَادُ: قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَمَا قَطَعَهَا مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ!

قَالَ ﷺ: ((لَا تَقْتُلْهُ))، وَهُوَ مُشْرِكٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلَاذَ بِالشَّجَرَةِ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: ((أَأَقْتُلُهُ؟)).

ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا حُكْمَهُ إِنْ قَتَلَ الرَّجُلَ: ((فَإِنْ قَتَلْتَهُ)) بَعْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَةِ؛ ((فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ)) أَيْ:  فِي عِصْمَةِ الدَّمِ، وَالْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ، ((وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ)) قَبْلَ إِهْدَارِ دَمِهِ ((قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)) أَيِ: الَّتِي قَالَهَا وَعَصَمَ الدَّمَ؛ فَتَصِيرَ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، ولَا يَحْرُمُ الْقَتْلُ بَعْدَ قَتْلِكَ لَهُ.

((وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)): قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ؛ فَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَظْهَرُ: مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنَّهُ مَعْصُومُ الدَّمِ، مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) كَمَا كُنْتَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بَعْدَ قَتْلِهِ غَيْرُ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَلَا مُحَرَّمُ الْقَتْلِ كَمَا كَانَ هُوَ قَبْلَ قَوْلِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: يَعْنِي: لَوْلَا عُذْرُكَ بِالتَّأْوِيلِ الْمُسْقِطِ لِلْقِصَاصِ عَنْكَ)).

مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عُصِمَ دَمُهُ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَسْرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُطَالَبَ بِحَقٍّ.

وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِشَرْعِ اللهِ، وَلَيْسَ لِلْعَصَبِيَّةِ وَلَا الِانْتِقَامِ؛ فَالشَّرِيعَةُ لَا نِكَايَةَ فِيهَا، وَلَا تَزْكُو النُّفُوسُ وَتَطْهُرُ حَتَّى تَتْرُكَ هَوَاهَا طَاعَةً لِمَوْلَاهَا.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.

وَقَدْ حَكَمَ ﷺ بِإِسْلَامِ (بَنِي جَذِيمَةَ) الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِقَوْلِهِمْ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا أَسْلَمْنَا.

فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اللهم إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

ثُمَّ وَدَاهُمْ -يَعْنِي: دَفَعَ دِيَتَهُمْ-، حَتَّى كَانَ مَبْعُوثُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي دَفْعِ الدِّيَةِ لِلْقَوْمِ يَدِي مِيلَغَةَ الْكَلْبِ -الْإِنَاءُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ لِلْكَلْبِ، فَيَلَغُ الْكَلْبُ فِيهِ- كُسِرَ عِنْدَ الْمُدَاهَمَةِ، وَيَقُولُونَ: كُسِرَ هَذَا، فَيَدِيهِ -يَعْنِي: يَدْفَعُ دِيَتَهُ-.

((لَا تَقْتُلْهُ، فِإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)).

زَادَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ ﷺ قَالَ لِلْمِقْدَادِ: ((إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، وَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ)).

كَانَ هَذَا مُؤْمِنًا بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمٍ كُفَّارٍ يُخْفِي إِيمَانَهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ.

وَمَعْنَى: ((وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ)) أَيْ: مُبَاحُ الْقِصَاصِ لِوَرَثَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قِصَاصٌ؛ لَكِنْ تَلْزَمُهُ دِيَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَقْتُلِ الْمِقْدَادَ وَلَا أُسَامَةَ، وَوَدَى الَّذِينَ قَتَلَهُمْ أُسَامَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَرُمَ قَتْلُهُ، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ عَالِمًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ مُتَأَوِّلًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ؛ أَنَّهُمْ قَتَلُوا بَعْضَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ فَقَتَلُوهُمْ، فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حُكِمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى النُّطْقِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ تُجْرَى فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى (الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ)، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ بَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ ﷺ )).

فَقَالَ لِي: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا)).

فَقَالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)).

((فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَتَلْتَهُ؟!)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ)).

قَالَ: ((أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!)).

((فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((الْحُرَقَةُ)): بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، القَبِيلَةِ الْمَعْرُوفَةِ.

((فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ)): أَتَيْنَاهُمْ صَبَاحًا.

((غَشِينَاهُ)): اقْتَرَبْنَا مِنْهُ وَعَلَوْنَاهُ بِسِلَاحِنَا.

((مُتَعَوِّذًا)): الْمُتَعَوِّذُ: هُوَ الْمُحْتَمِي بِالشَّيْءِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ.. ((مُتَعَوِّذًا)) أَيْ: مُعْتَصِمًا بِهَا مِنَ القَتْلِ، لَا مُعْتَقِدًا لَهَا.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ.

فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ حَمْلِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، أَمَّا مَا فِي الْقُلُوبِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-.

وَفِي الْحَدِيثِ: الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَعَدَّى الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَخْطَأَ.

يَجِبُ تَعْلِيقُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِالظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ الْبَحْثُ عَمَّا فِي الْبَاطِنِ.

وَفِي هَذَا التَّشْرِيعِ سَدٌّ لِلذَّرَائِعِ، وَمَنْعٌ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ الِانْتِقَامَ وَالْقَتْلَ وَالثَّأْرَ بِدَعْوَى عَدَمِ صِدْقِ الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْكُمِ الرَّسُولُ ﷺ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ مُتَأَوِّلًا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أُسَامَةُ لِمَا حَصَلَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ شِدَّةِ إِنْكَارِ النَّبِيِّ ﷺ لِذَلِكَ.

وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلَهُ، وَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: ((لِمَ قَتَلْتَهُ؟)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا -وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا-، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَقَتَلْتَهُ؟!)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! اسْتَغْفِرْ لِي)).

قَالَ: ((وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!)).

فَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: ((فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)) أَيْ: مَنْ يَشْفَعُ لَكَ، وَمَنْ يُحَاجُّ عَنْكَ وَيُجَادِلُ إِذَا جِيءَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؟!

وَقِيلَ: كَيْفَ قَتَلْتَ مَنْ قَالَهَا وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ذِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَحُرْمَتُهُ؟!

ذَكَرَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ فِي سَرِيَّةٍ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (7هـ) إِلَى (الْحُرَقَةِ) مِنْ قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ صَبَاحًا عَلَى مِيَاهِهِمْ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَشْعُرُوا بِهِمْ، وَهَرَبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ، فَلَحِقَهُ أُسَامَةُ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَتْبَعَانِهِ، يُرِيدَانِ قَتْلَهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ عَنْهُ؛ لِإِتْيَانِهِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَكَانَ أَفْقَهَ مِنْ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ حَيْثُ تَرَكَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَّا أُسَامَةُ فَطَعَنَهُ بِرُمْحِهِ حَتَّى قَتَلَهُ.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ الْأَمْرُ، فَقَالَ لِأُسَامَةَ مُنْكِرًا لِمَا فَعَلَهُ وَمُوَبِّخًا لَهُ: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!))، وَهَذَا سُؤَالٌ اسْتِنْكَارِيٌّ، أَيْ: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الْعَاصِمَةُ لِدَمِ قَائِلِهَا.

قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُتَعَوِّذًا وَخَائِفًا مِنَ الْقَتْلِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يُكَرِّرُ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)).

عَاتَبَ ﷺ حِبَّهُ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لِهَذَا الْفِعْلِ وَذَلِكَ الصَّنِيعِ، وَأَعَادَ الِاعْتِذَارَ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ، وَكَانَ جَوَابُ أُسَامَةَ وَمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَهَا خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ، لَا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا.

قَالَ ﷺ: ((أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!)) أَيْ: لَيْسَ لَكَ إِلَّا الظَّاهِرُ، وَالْقُلُوبُ وَالسَّرَائِرُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَفِي تَكْرِيرِهِ ﷺ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ قَبُولِ الْعُذْرِ زَجْرٌ شَدِيدٌ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَكَرَّرَ الرَّسُولُ ﷺ قَوْلَهُ مُوَبِّخًا أُسَامَةَ؛ حَتَّى تَمَنَّى أُسَامَةُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ: تَمَنَّى إِسْلَامًا لَا ذَنْبَ فِيهِ، أَوِ ابْتِدَاءَ الْإِسْلَامِ لِيَجُبَّ مَا قَبْلَهُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَصْغَرَ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي جَنْبِ مَا ارْتَكَبَهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ اسْتَصْغَرَ مَا سَبَقَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْفَعْلَةِ لَمَّا سَمِعَ مِنَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا هِيَ بِالظَّاهِرِ، وَتُوكَلُ السَّرَائِرُ إِلَى الْعَلِيِّ الْغَافِرِ.

فِي الْحَدِيثِ: حُرْمَةُ دَمِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ إِجْرَاءَ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنَّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَعُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ أَمْ لَا.

يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ: عِظَمُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مَنْ جَاءَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَيَانُ فَضْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَفِيهِ: تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ؟!

وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ؛ لِذَلِكَ تَمَنَّى أُسَامَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِيَكُونَ إِسْلَامُهُ كَفَّارَةً لَهُ عَنْهُ، وَهَذَا لِشِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِمَوْعِظَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الِانْتِصَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَةً عَلَى دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى-، فَيُقْتَلُ مَنْ هُوَ مُتَيَقَّنٌ بِكُفْرِهِ، أَمَّا مَنْ لَا نَعْلَمُ سَرِيرَتَهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ عِظَمِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَالسَّعِيدُ مَنْ وُفِّقَ لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

((إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ)): هُمْ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ يَفْضَحُهُمْ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

((أَمَّنَّاهُ)): صَيَّرْنَاهُ عِنْدَنَا أَمِينًا.

((سَرِيرَتُهُ)): مَا أَسَرَّهُ وَمَا أَخْفَاهُ.

ذَكَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ عَمَّنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً بَاطِلَةً فِي وَقْتِ الْوَحْيِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ، فَكَانَتِ الْآيَاتُ تَتَنَزَّلُ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْخَيْرَ، وَيُبْطِنُونَ الشَّرَّ، فَكَانَتِ الْآيَاتُ تَفْضَحُهُمْ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَوْصَافِهِمْ، لَا بِأَسْمَائِهِمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِمْ بِالْأَوْصَافِ دُونَ الْأَعْيَانِ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْعُمُومِ، أَيْ: لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.

وَبَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ)) أَيْ: بِمَا نَرَاهُ وَنَسْمَعُهُ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَمَانَةُ، فَمَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ صَيَّرْنَاهُ عِنْدَنَا أَمِينًا، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، لَا تَعَلُّقَ لَنَا بِمَا أَسَرَّهُ وَأَخْفَاهُ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ؛ فَإِنَّ سَرَائِرَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ، ((وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ)) يَعْنِي: مَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ حَسَنَةً.

((وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ)) يَعْنِي: لَمْ نُصَدِّقْهُ، وَأَبْغَضْنَاهُ.

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّنَا نَحْمِلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، أَمَّا مَا فِي الْقُلُوبِ فَمَوْعِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ؛ تَنْكَشِفُ السَّرَائِرُ، وَيُحَصَّلُ مَا فِي الضَّمَائِرِ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْبَاطِنِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْقَائِمُونَ بِأَمْرِ الشَّرِيعَةِ يَأْخُذُونَ الرَّعِيَّةَ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.

وَالْحِسَابُ يَوْمَ الْجَزَاءِ يَكُونُ عَلَى مَا أَخْفَى الْعَبْدُ مِنْ سَرِيرَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَجَزَاؤُهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ.

وَالْمَحْبُوبُ الْمُقَرَّبُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ، وَأَظْهَرَ الْخَيْرَ.

فِي الْحَدِيثِ: إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِ النَّاسِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَالٍ، وَلَا تُبَرِّرُ النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ عَدَمَ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

فِي الْحَدِيثِ: إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِ النَّاسِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَعْمَالٍ، وَالْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا أَخْفَى الْعَبْدُ مِنْ سَرِيرَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَجَزَاؤُهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَلَّا يُدْخِلَ نَفْسَهُ مَوَاقِعَ الرِّيَبِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ مَا يَقْدَحُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ دِيَانَتِهِ؛ حَتَّى لَا يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ.

مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْمَعْرُوفَ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَهَذَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعَانُ عَلَيْهِ.

عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عِتْبَانَ فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ)).

قَالَ: ((أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ، فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى)).

قَالَ: ((فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِي، وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ، قَالُوا: وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، وَوَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّلَاةَ وَقَالَ: ((أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟)).

قَالُوا: ((إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ)).

قَالَ: ((لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ أَوْ: تَطْعَمَهُ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ فَقُلْتُ لِابْنِي: اكْتُبْهُ، فَكَتَبَهُ)).

((أَصَابَنِي فِي بَصَرِي)) وَعَيْنِي ((بَعْضُ الشَّيْءِ)) أَيْ: بَعْضُ النَّقْصِ فِي نَظَرِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ عَمِيَ، وَالْعَمَى: ذَهَابُ الْبَصَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَبَيْنَهُمَا مُعَارَضَةٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ: الْعَمَى، وَهُوَ ذَهَابُ الْبَصَرِ جَمِيعِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ: ضَعْفَ الْبَصَرِ، وَذَهَابَ مُعْظَمِهِ، وَسَمَّاهُ عَمًى فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي فَوَاتِ بَعْضِ مَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ فِي حَالِ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ)).

((فَدَخَلَ)) أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلِي، ((وَهُوَ)) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ ((يُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي))، فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ((وَأَصْحَابُهُ)) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ ((يَتَحَدَّثُونَ)) فِيمَا ((بَيْنَهُمْ)) فِي شُؤُونِ الْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ.

((ثُمَّ)): بَعْدَمَا تَحَدَّثُوا فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهِمْ ((أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ)) التَّحَدُّثِ، أَيْ: نَسَبُوا مُعْظَمَ حَدِيثِهِمْ وَجُلَّهُ ((وَكُبْرَهُ))، أَيْ: أَكْثَرَهُ ((إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ))، وَجَعَلُوا فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا وَذَكَرُوا شُؤُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَقْوَالَهُمُ الشَّنِيعَةَ، وَأَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ، وَنَسَبُوا مُعْظَمَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ.

((قَالُوا)) أَيْ: قَالَ الْمُتَحَدِّثُونَ عِنْدَهُ ﷺ فِي مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ مَا قَالُوا فِي شَأْنِهِ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ ((وَدُّوا)) وَأَحَبُّوا وَتَمَنَّوا ((أَنَّهُ ﷺ دَعَا عَلَيْهِ)) أَيْ: دَعَا عَلَى مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ بِالْهَلَاكِ، ((فَهَلَكَ)) أَيْ: فَهَلَكَ مَالِكٌ بِدُعَائِهِ ﷺ.

((وَوَدُّوا)) أَيْ: أَحَبُّوا ((أَنَّهُ)) أَيِ: الشَّأْنَ وَالْحَالَ ((أَصَابَهُ)) أَيْ: أَصَابَ مَالِكَ بْنَ دُخْشُمٍ ((شَرٌّ)) أَيْ: ضَرَرٌ وَآفَةٌ فَهَلَكَ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مُؤَانَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَمُخَادَنَتَهُ مَعَ الْمُنَافِقِينَ، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالنِّفَاقِ، وَتَمَنَّوْا دُعَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِهَلَاكِهِ.

 وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي هَلَاكِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَوُقُوعِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ؛ وَلَكِنَّ مَالِكَ بْنَ دُخْشُمٍ هَذَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ بْنِ غُنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ((وَاخْتَلَفُوا فِي شُهُودِهِ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ النِّفَاقُ؛ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ مَا يَمْنَعُ مِنَ اتِّهَامِهِ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((وَقَدْ نَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى إِيمَانِهِ بَاطِنًا، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ النِّفَاقِ بِقَوْلِهِ ﷺ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: ((أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-؟!)) فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَهُ بِأَنَّهُ قَالَهَا مُصَدِّقًا بِهَا، مُعْتَقِدًا صِدْقَهَا، مُتَقَرِّبًا بِهَا إِلَى اللهِ، وَشَهِدَ لَهُ فِي شَهَادَتِهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِي صِدْقِ إِيمَانِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ رَدٌّ عَلَى غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِيمَانِ النُّطْقُ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ؛ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَدْمَغُهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَعْلَمُ)).

((فَقَضَى)) أَيْ: أَتَمَّ ((رَسُولُ اللهِ ﷺ الصَّلَاةَ)) أَيِ: الَّتِي كَانَ مَشْغُولًا بِهَا حِينَ دَخَلَ مَنْزِلَ عِتْبَانَ، ((وَقَالَ)) لِلْمُتَحَدِّثِينَ الَّذِينَ رَمَوْا مَالِكَ بْنَ دُخْشُمٍ بِالنِّفَاقِ: أَتَقُولُونَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ؟ ((أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟)).

((قَالُوا)) فِي جَوَابِ اسْتِفْهَامِ رَسُولِ اللهِﷺ: ((إِنَّهُ)) أَيْ: إِنَّ مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ ((يَقُولُ ذَلِكَ)) الْمَذْكُورَ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ، ((وَمَا هُوَ)) أَيْ: وَمَعَ اعْتِقَادِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ فِي قَلْبِهِ وَرُوْعِهِ، فَإِيمَانُهُ لِسَانِيٌّ لَا قَلْبِيٌّ كَمَا أَنَّ إِيمَانَ سَائِرِ الْمُنَافِقِينَ كَذَلِكَ.

((قَالَ)) رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ))، أَوْ قَالَ: ((أَوْ: فَتَطْعَمَهُ)) أَيْ: فَتُطْعَمَهُ النَّارُ وَتَأْكُلَهُ، ((أَوْ)): لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَيْسَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((قَالَ أَنَسُ)) بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاوِي الْحَدِيثِ: ((فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ، فَقُلْتُ لابْنِي اكْتُبْهُ)) أَيْ: اكْتُبْ لِي هَذَا الْحَدِيثَ يَا وَلَدِي؛ لِيَكُونَ مَحْفُوظًا مَصُونًا عِنْدِي، ((فَكَتَبَهُ)) لِي وَلَدِي، فَكَانَ مَصُونًا عِنْدِي.

 

يُحَدِّثُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ ظُرُوفِ زِيَارَةِ الرَّسُولِ ﷺ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَقُولُ: كُنْتُ إِمَامَ قَوْمِي، أَنْتَقِلُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ إِلَى مَسْجِدِ مَحَلَّتِهِمْ فَأُصَلِّي بِهِمْ، فَرَأَيْتُ أَنَّ بَصَرِي جَعَلَ يَكِلُّ وَيَضْعُفُ، وَيَسُوءُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَصْبَحْتُ أَتَعَثَّرُ فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ، وَحَتَّى أَصْبَحَ مِنَ الْعَسِيرِ عَلَيَّ أَنْ أَجْتَازَ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ إِذَا جَاءَ الْمَطَرُ وَسَالَ الْوَادِي.

وَلَمْ يَكُنْ مَفَرٌّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي بَعْضَ الْأَوْقَاتِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَوِّضَ مَا يَفُوتُنِي مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي؛ إِذْ أَصَابَنِي فِيهِ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَنَا إِمَامُ قَوْمِي، فَإِذَا كَانَتِ الْأَمْطَارُ وَسَالَ الْوَادِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ، وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتَخُطَّ لِي مَكَانًا فِي بَيْتِي فَتُصَلِّيَ فِيهِ فَأَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ)).

وَلِشِدَّةِ لَهْفَةِ عِتْبَانَ تَرَقَّبَ قُدُومَ رَسُولِ اللهِ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ أَصْبَحَ فَأَعَدَّ طَعَامًا لَهُ ﷺ وَلِمَنْ عَسَاهُ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَقُولُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ عِتْبَانَ يُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِهِ فَيَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، فَغَدَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمَا فِي الطَّرِيقِ عُمَرُ.

فَلَمَّا وَصَلُوا الْمَنْزِلَ -مَنْزِلَ عِتْبَانَ- اسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَذِنَ عِتْبَانُ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلُوا، فَلَمْ يَجْلِسْ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟

فَقَالَ عِتْبَانُ: هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَامَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَفُّوا، فَكَبَّرَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ.

وَقَامَ ﷺ يُصَلِّي -رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ-، فَتَنَاوَلُوا بِحَدِيثِهِمْ مَالِكَ بْنَ دُخْشُمٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْمِ عِتْبَانَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ؟ لِمَاذَا لَمْ يَحْضُرِ الصَّلَاةَ هُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ؟ وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ يُجَالِسُ الْمُنَافِقِينَ وَيُصْغِي إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الرَّابِعُ: لَيْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَدْعُو عَلَيْهِ فَيَهْلِكَ، وَقَالَ خَامِسٌ: لَيْتَهُ يُصَابُ بِمَكْرُوهٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ.

كُلُّ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَسْمَعُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: لَا تَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ فِي شَأْنِ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ؛ أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟

قَالُوا: إِنَّهُ يَشْهَدُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، قَالَ: أَلَا تَرَوْنَهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؟

قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ ﷺ: ((لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ أَوْ تَطْعَمَهُ النَّارُ)).

وَحَدَّثَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَسُرَّ بِهِ وَاسْتَبْشَرَ، وَقَالَ لابْنِهِ: اكْتُبْهُ، فَكَتَبَهُ، فَأَخَذَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُحَدِّثُ بِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ فَضْلِ الشَّهَادَتَيْنِ إِذَا كَانَتَا خَالِصَتَيْنِ للهِ -تَعَالَى- كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)).

وَفِيهِ: التَّبَرُّكُ بِآثَارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَتَسَابَقُونَ فِيهَا، وَأَمَّا التَّبَرُّكُ بِآثَارِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ -وَإِنْ قَالَ بِهِ شُرَّاحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ- فَمِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ السَّلَفِ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، مَعَ أَنَّ فِيهِمْ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ؛ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَقِيَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ تَبَرَّكَ بِآثَارِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ غَيْرِهِ.

فَفِي الْحَدِيثِ التَّبَرُّكُ بِرَسُولِ اللهِﷺ، وَهَلْ يُلْحَقُ بِهِ غْيْرُهُ؟

الْجَوَابُ: لَا، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسانُ بَرَكَةً، وَيَكُونُ فِيهِ بَرَكَةٌ إِذَا كَانَ سَبَبًا فِي خَيْرٍ، يُقَالُ: فِيهِ بَرَكَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ الَّتِي فِيهَا سَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: ((مَا هَذِهِ أَوَّلُ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُ النَّاسِ: إِنَّكَ لَا تَقُلْ لِلْإِنْسَانِ أَتَيْتَنَا بِالْبَرَكَةِ، أَوْ مَجِيئُكَ إِلَيْنَا بَرَكَةٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، أَيْ: هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْبَرَكَةُ الذَّاتِيَّةُ الْجَسَدِيَّةُ فَهَذَا خَطَأٌ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِالْبَرَكَةِ بَرَكَةُ الْخَيْرِ، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْخَيْرِ؛ إِمَّا لِتَعْلِيمِ عِلْمٍ، أَوْ تَنْبِيهٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ بَرَكَةِ الْإِنْسَانِ؛ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا.

وَمَا حُكْمُ مَنْ قَالَ: يَا بَرَكَةُ!! مَازِحًا أَوْ مُرَحِّبًا؟

الْجَوَابُ: إِذَا قَالَ لِأَخِيهِ: يَا بَرَكَةُ! مَازِحًا فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات:11].

وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ مُرَحِّبًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ هَذَا إِذَا جَاءَ بِالْخَيْرِ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَدِيَّةٍ مَعَهُ، أَوْ يَأْتِيَ بِفَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ قُصِدَ الْبَرَكَةُ الذَّاتِيَّةُ فَلَا.

* فِي الْحَدِيثِ: اجْتِمَاعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى الْإِمَامِ أَوِ الْعَالِمِ إِذَا وَرَدَ مَنْزِلَ بَعْضِهِمْ لِيَسْتَفِيدُوا مِنْهُ؛ فَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةِ عِتْبَانَ لَمَّا سَمِعُوا بِمَجِيءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى بَيْتِهِ.

* وَفِيهِ: اتِّخَاذُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فِي الدَّارِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الِاسْتِيطَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

((التَّثَبُّتُ وَالتَّبَيُّنُ مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ))

إِنَّ التَّثَبُّتَ وَالتَّبَيُّنَ أَمْرٌ قُرْآنِيٌّ وَجَّهَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ((الْمُؤْمِنِينَ إِذَا سَافَرُوا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَنْ يَطْلُبُوا بَيَانَ الْأَمْرِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُونَ وَيَتْرُكُونَ؛ حَتَّى يَعْرِفُوا الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الَّذِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ.

وَلَا يَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَوُّذًا، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُ، وَيَقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَ لَهُمْ.

فَلَا يَقْتُلُوهُ طَالِبِينَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا الزَّائِلَ؛ فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ وَخَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ يُغْنِيهِمْ بِهَا عَنْ قَتْلِ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ.

فَبَيَّنَ الْقُرْآنُ وُجُوبَ التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي الْجِهَادِ، وَعَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ فِي الْحُكْمِ عَلَى النَّاسِ؛ حَتَّى لَا يُعْتَدَى عَلَى الْبَرِيءِ.

وَالْأَصْلُ فِي الْحُكْمِ عَلَى النَّاسِ قَبُولُ ظَاهِرِهِمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ قُبِلَ مِنْهُ، وَعُومِلَ بِهِ، وَسَرِيرَتُهُ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ)).

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجُوا جِهَادًا فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ أَنْ يَتَبَيَّنُوا وَيَتَثَبَّتُوا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمُ الْمُشْتَبِهَةِ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ: وَاضِحَةٌ، وَغَيْرُ وَاضِحَةٍ، فَالْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَثَبُّتٍ وَتَبَيُّنٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْكِلَةُ غَيْرُ الْوَاضِحَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّثَبُّتِ فِيهَا وَالتَّبَيُّنِ؛ لِيَعْرِفَ هَلْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟

فَإِنَّ التَّثَبُّتَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ، وَالْكَفِّ لِشُرُورٍ عَظِيمَةٍ مَا بِهِ يُعْرَفُ دِينُ الْعَبْدِ وَعَقْلُهُ وَرَزَانَتُهُ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعْجِلِ لِلْأُمُورِ فِي بِدَايَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي، كَمَا جَرَى لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ لَمَّا لَمْ يَتَثَبَّتُوا، وَقَتَلُوا مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مَعَهُ غَنِيمَةٌ لَهُ، أَوْ مَالُ غَيْرِهِ؛ ظَنًّا أَنَّهُ يَسْتَكْفِي بِذَلِكَ قَتْلَهُمْ، وَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

فَلِهَذَا عَاتَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أَيْ: فَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ الْعَرَضُ الْفَانِي الْقَلِيلُ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي فَيَفُوتَكُمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ الْبَاقِي، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا رَأَى دَوَاعِيَ نَفْسِهِ مَائِلَةً إِلَى حَالَةٍ لَهُ فِيهَا هَوًى وَهِيَ مُضِرَّةٌ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهَا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِمَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا، وَقَدَّمَ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَلَى رِضَا نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلنَّفْسِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا.

ثُمَّ قَالَ -تَعَالَى- مُذَكِّرًا لَهُمْ بِحَالِهِمُ الْأُولَى قَبْلَ هِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أَيْ: فَكَمَا هَدَاكُمْ بَعْدَ ضَلَالِكُمْ فَكَذَلِكَ يَهْدِي غَيْرَكُمْ، وَكَمَا أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ لَكُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَذَلِكَ غَيْرُكُمْ.

فَنَظَرُ الْكَامِلِ لِحَالِهِ الْأُولَى النَّاقِصَةِ، وَمُعَامَلَتُهُ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهَا بِمُقْتَضَى مَا يَعْرِفُ مِنْ حَالِهِ الْأُولَى، وَدَعْوَتُهُ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ لِنَفْعِهِ وَانْتِفَاعِهِ؛ وَلِهَذَا أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبَيُّنِ فَقَالَ: {فَتَبَيَّنُوا}.

فَإِذَا كَانَ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَدِ اسْتَعَدَّ بِأَنْوَاعِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيقَاعِ بِهِمْ مَأْمُورًا بِالتَّبَيُّنِ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ السَّلَامَ، وَكَانَتِ الْقَرِينَةُ قَوِيَّةً فِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَلَّمَ تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، وَخَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا نَوْعُ اشْتِبَاهٍ، فَيَتَثَبَّتُ فِيهَا الْعَبْدُ؛ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الْأَمْرُ، وَيَبِينَ الرُّشْدُ وَالصَّوَابُ.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: فَيُجَازِي كُلًّا مَا عَمِلَهُ وَنَوَاهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ عِبَادِهِ وَنِيَّاتِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

((وَهَذَا مِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ التَّأَدُّبُ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ فَاسِقٌ بِخَبَرٍ أَنْ يَتَثَبَّتُوا فِي خَبَرِهِ، وَلَا يَأْخُذُوهُ مُجَرَّدًا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا كَبِيرًا، وَوُقُوعًا فِي الْإِثْمِ؛ فَإِنَّ خَبَرَهُ إِذَا جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الصَّادِقِ الْعَدْلِ حُكِمَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ، فَحَصَلَ مِنْ تَلَفِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَبَرِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّدَامَةِ.

بَلِ الْوَاجِبُ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ التَّثَبُّتُ وَالتَّبَيُّنُ، فَإِنْ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ وَالْقَرَائِنُ عَلَى صِدْقِهِ عُمِلَ بِهِ وَصُدِّقَ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى كَذِبِهِ كُذِّبَ، وَلَمْ يُعْمَلْ بِهِ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الصَّادِقِ مَقْبُولٌ، وَخَبَرَ الْكَاذِبِ مَرْدُودٌ، وَخَبَرَ الْفَاسِقِ مُتَوَقَّفٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقْبَلُونَ رِوَايَاتِ كَثِيرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَلَوْ كَانُوا فُسَّاقًا)).

 ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ وَالشَّكَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْيَقِينِ شَيْئًا، وَلَا يَقُومُ فِي شَيْءٍ مَقَامَهُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَى الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36].

((وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا الظَّنُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَدَى الْإِنْسَانِ احْتِمَالَانِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُنَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} وَلَمْ يَقُلْ: اجْتَنِبُوا الظَّنَّ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: ظَنُّ خَيْرٍ بِالْإِنْسَانِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ: أَنْ تَظُنَّ بِإِخْوَانِكَ خَيْرًا مَا دَامُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُظَنُّ بِهِ خَيْرًا، وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ إِسْلَامِهِ وَأَعْمَالِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: ظَنُّ السُّوءِ، وَهَذَا يَحْرُمُ بِالنِّسْبَةِ لِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ تَظُنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ-: يَحْرُمُ ظَنُّ السَّوْءِ بِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ.

أَمَّا ظَنُّ السَّوْءِ بِمَنْ قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَظُنَّ السَّوْءَ بِهِ.

{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ وَقَدْ تُوحِي هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ أَكْثَرَ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَقَسَّمْنَاهُ؛ أَنَّ الظَّنَّ نَوْعَانِ: ظَنُّ خَيْرٍ، وَظَنُّ سُوءٍ، ثُمَّ ظَنُّ السُّوءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى وُجُودِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ فَمَا هُوَ الظَّنُّ الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ؟

هُوَ ظَنُّ الْخَيْرِ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. فَهَذَا لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْخَيْرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. هَذَا -أَيْضًا- أَيَّدَتْهُ الْقَرِينَةُ)).

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ الطَّرِيقِ وَمُهْلِكَاتِ الْقُلُوبِ: سُوءَ الظَّنِّ، وَسُوءُ الظَّنِّ: اعْتِقَادُ جَانِبِ الشَّرِّ، وَتَرْجِيحُهُ عَلَى جَانِبِ الْخَيْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا.

وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي تَجْلِبُ الضَّغَائِنَ وَالْكَدَرَ وَالْهَمَّ لِلْفَرْدِ، وَتُفْسِدُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ النَّاسِ، فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يُسِيءُ الظَّنَّ فِي الْآخَرِينَ، وَيَحْسِبُ كُلَّ صَيْحَةٍ وَكُلَّ مَكْرُوهٍ يُقْصَدُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَأَصْحَابِ الْفَضْلِ؛ لِأَغْرَاضٍ شَخْصِيَّةٍ، وَأَمْرَاضٍ دَاخِلِيَّةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَنِّفُ الْعُلَمَاءَ عَلَى هَذَا، فَيَقُولُ: هَذَا عَالِمُ سُلْطَةٍ! وَهَذَا عَالِمٌ يُفْتِي بِكَذَا لِيَحْصُلَ عَلَى كَذَا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا عَالِمٌ بِالطَّلَاقِ وَبِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ! وَهَذَا عَالِمٌ بِدَوْرَاتِ الْمِيَاهِ! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَزْعُمُونَ وَيَفْتَرُونَ!!

وَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

وَقَالَ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)).

وَقَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ     =      وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ

وَعَادَى مُحْبِّيهِ لِقَوْلِ عِدَاتِهِ     =      وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ

وَعَدَّ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- سُوءَ الظَّنِّ مِنَ الْكَبَائِرِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالَ: ((يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهَا لِيُعَالِجَ زَوَالَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْهَا؛ لَمْ يَلْقَ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَأَنَّهُ يُذَمُّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ عَلَى الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا، وَسُوءِ أَثَرِهَا، وَتَدُومُ بِحَيْثُ تُصْبِحُ حَالًا وَهَيْئَةً رَاسِخَةً فِي الْقَلْبِ، بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ الَّتِي تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ)).

وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الظَّنَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:

* التُّهَمَةُ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي (التَّكْوِيرِ): {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] أَيْ: بِمُتَّهَمٍ.

* وَمِنْهَا: الْكَذِبُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي (النَّجْمِ): {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

وَأَمَّا أَنْوَاعُ الظَّنِّ؛ فَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الظَّنُّ ظَنَّانِ؛ ظَنٌّ إِثْمٌ، وَظَنٌّ لَيْسَ بِإِثْمٍ، فَأَمَّا الَّذِي هُوَ إِثْمٌ؛ فَالَّذِي يَظُنُّ ظَنًّا وَيَتَكَلَّمُ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ فَالَّذِي يَظُنُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ)).

وَالظَّنُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ مَذْمُومٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَظُنَّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا إِلَّا إِذَا انْكَشَفَ أَمْرٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَإِنْ أَخْبَرَكَ بِذَلِكَ عَدْلٌ فَمَالَ قَلْبُكَ إِلَى تَصْدِيقِهِ؛ كُنْتَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّكَ لَوْ كَذَّبْتَهُ؛ كُنْتَ قَدْ أَسَأْتَ الظَّنَّ بِالْمُخْبِرِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْسِنَ الظَّنَّ بِوَاحِدٍ وَتُسِيئَهُ بِآخَرَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَبْحَثَ: هَلْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ وَحَسَدٌ؟ فَتَتَطَرَّقُ التُّهَمَةُ حِينَئِذٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَمَتَى خَطَرَ لَكَ خَاطِرُ سُوءٍ عَلَى مُسْلِمٍ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تَزِيدَ فِي مُرَاعَاتِهِ، وَتَدْعُوَ لَهُ بِالْخَيْرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الشَّيْطَانَ وَيَدْفَعُهُ عَنْكَ، فَلَا يُلْقِي إِلَيْكَ خَاطِرَ السُّوءِ؛ خِيفَةً مِنَ اشْتِغَالِكَ بِالدُّعَاءِ وَالْمُرَاعَاةِ، وَإِذَا تَحَقَّقْتَ هَفْوَةَ مُسْلِمٍ؛ فَانْصَحْهُ فِي السِّرِّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ: التَّجَسُّسَ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ، بَلْ يَطْلُبُ التَّحْقِيقَ، فَيَشْتَغِلُ بِالتَّجَسُّسِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى هَتْكِ سِتْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَكَ؛ كَانَ قَلْبُكَ أَسْلَمَ لِلْمُسْلِمِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رَوْحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ؛ فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.

وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ؛ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ، يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا!! فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ.. هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟!!

فَإِنْ تَنجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ=وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكَ نَاجِيًا)).

وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الظَّنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَيُقَابِلُهُ وُجُوبُ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ.

حُرْمَةُ الظَّنِّ كَذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، وَالْمَطْلُوبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ.

الظَّنُّ الْمُبَاحُ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِ فِي أَخِيهِ بِسَبَبِ مَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ، وَهَذَا الظَّنُّ لَا يُحَقَّقُ.

سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ.. مَا أَفْظَعَ أَثَرَهُ!! وَمَا أَشَدَّ خَطَرَهُ!! وَرُبَّمَا قَضَى الْمَرْءُ عُمُرَهُ كُلَّهُ فِي صَحَرَاءَ مُوحِشَةٍ وَبَيْدَاءَ قَاحِلَةٍ بِلَا أَنِيسٍ وَلَا جَلِيسٍ، وَلَا مُنَاجٍ وَلَا خَلِيلٍ وَلَا حَبِيبٍ؛ حَتَّى إِذَا أَخَذَ الْإِيَاسُ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَأْخَذٍ، وَعَدَتْ عَلَيْهِ عَوَادِي الظُّنُونِ وَالْقُنُوتِ؛ أَبْصَرَ مَنْ عَاشَ مَا سَلَفَ مِنْ عُمُرِهِ يَهْفُو إِلَيْهِ، وَمَضَتْ رُوحُهُ إِلَيْهِ تَحْنُو عَلَيْهِ، وَوَدَّ لَوْ كَانَ مِنْهُ مَكَانَ السُّوَيْدَاءِ مِنْ قَلْبِهِ، فَأَتْرَعَهُ مِنْ صَفْوِ وِدَادِهِ وَمَوْفُورِ حُبِّهِ، ثُمَّ عَدَتْ عَلَيْهِ خَوَاطِرُ سُوءِ الظَّنِّ، تَسُوقُهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهِيَ خُصُومٌ لِمَنْ أَحَبَّ، وَأَعْدَاءٌ لِمَنْ يَوَدُّ، فَمَكَّنَ لَهَا بِسُوءِ ظَنِّهِ فِي فُؤَادِهِ، فَصَارَ بِهَا خَصْمًا لِحِبِّهِ وَعَدُوًّا لِخِلِّهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَسْتَبِينُ.

((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ بِأُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ}.

{وَبِذِي الْقُرْبَىٰ} أَيْ: وَبِذِي الْقُرْبَى إِحْسَانًا.

أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، {وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ؛ إِحْسَانُ الْمَرْءِ فِي أُسْرَتِهِ، وَإِحْسَانُ الْمَرْءِ فِي مُجْتَمَعِهِ.

وَجَاءَ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِإِحْسَانِ الْفَعَالِ وَالْمَقَالِ.. بِإِحْسَانِ الْأَفْعَالِ، وَإِحْسَانِ الْأَقْوَالِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

فَكَمَا أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَفْعَالِ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَقْوَالِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 83].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْمَقَالِ؛ بِمُجَانَبَةِ الْهُجْرِ فِيهِ، وَالْفُحْشِ وَالتَّفَحُّشِ فِيهِ، وَبِالْإِتْيَانِ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَقْوَالِ كَمَا يَأْتِي مِنَ الْأَفْعَالِ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَبِمَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَ فِيهِ الشَّرْطَانِ:

* أَنْ يَكُونَ خَالِصًا للهِ.

* وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ قَوْلِ مَا يَسُوءُ.

وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ اعْتِرَاضًا ﷺ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ عَوْرَاءَ.

وَكَانَ ﷺ يُوصِي بِالرِّفْقِ، وَيُخْبِرُ أَنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ.

الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ: الصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِحْسَانُ بِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ، وَالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ.

فَهُمَا أَمْرَانِ: صِدْقٌ، وَإِحْسَانٌ.

فَإِذَا صَدَقَ الْمَرْءُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَأَحْسَنَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَأَحْسَنَ فِي مَقَالِهِ، وَأَحْسَنَ فِي فَعَالِهِ؛ فَهُوَ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، نِهَايَتُهُ الْجَنَّةُ، فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالنَّعِيمِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 111].

{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: فَصَدَقَ فِي دِينِ اللهِ؛ صَدَقَ فِي دِينِ اللهِ قَلْبُهُ، وَصَدَقَ فِي دِينِ اللهِ قَوْلُهُ، وَصَدَقَ فِي دِينِ اللهِ فِعْلُهُ.

{وَهُوَ مُحْسِنٌ}: يُحْسِنُ اتِّبَاعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَيَتَخَلَّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَهُوَ خُلُقُ الْإِحْسَانِ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)) أَيْ: كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

 {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].

وَالْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ سَبِيلُهُ الْإِحْسَانُ، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].

{الْحُسْنَىٰ}: الْجَنَّةُ، وَ (الزِيَادَةٌ): النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ.

((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): فِي كُلِّ شَيْءٍ .

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِحْسَانِ اعْتِقَادِهِ، وَفِي إِحْسَانِ مَقَالِهِ، وَفِي إِحْسَانِ فَعَالِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّادِقِينَ الْمُحْسِنِينَ أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

خُطُورَةُ الرِّشْوَةِ

 

 

 

 


الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِبَاحَةُ الْإِسْلَامِ الطَّيِّبَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ))

فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].

((يَقُولُ -تَعَالَى- رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أَوِ الْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ، أَيْ: هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَبَدَهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَإِنْ شَرَكَهُمْ فِيهَا الْكُفَّارُ حِسًّا فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ)).

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَعَنَّتَ وَحَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}: مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؛ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، أَيْ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ؟! وَمَنْ ذَا الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ؟!

وَهَذَا التَّوْسِيعُ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالطَّيِّبَاتِ جَعَلَهُ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَلَمْ يُبِحْهُ إِلَّا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، بَلِ اسْتَعَانَ بِهَا عَلَى مَعَاصِيهِ؛ فَإِنَّهَا غَيْرُ خَالِصَةٍ لَهُ وَلَا مُبَاحَةٍ، بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَعَلَى التَّنَعُّمِ بِهَا، وَيُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أَيْ: نُوَضِّحُهَا وَنُبَيِّنُهَا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَعْقِلُونَهَا وَيَفْهَمُونَهَا)).

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْخَيْرِ، وَالنَّفْعِ، وَالْفَضْلِ، وَالسَّعَةِ، وَأَرْشَدَتِ النَّاسَ إِلَى مَا يُسْعِدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَحَلَّتْ لَهُمْ كُلَّ طَيِّبٍ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ ضَرَرٍ، وَشَرَعَتْ كُلَّ مَا يُقِيمُ الْحَيَاةَ، وَيَحْفَظُ عَلَى النَّاسِ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَطَيِّبٍ وَنَافعٍ وَمُسْتَحْسَنٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَمُنْكَرٍ وَخَبِيثٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، يُبِيحُ كُلَّ طَيِّبٍ، وَيُحَرِّمُ كُلَّ خَبِيثٍ.

يَقُولُ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

(({يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} يُحِلُّ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَنَاكِحِ، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ)).

((يُحِلُّ لَهُمْ مَا كَانُوا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحَائِرِ، وَالسَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالِحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالرِّبَا، وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ -تَعَالَى-)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ -تَعَالَى- فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ)).

((التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَا لَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ بِصُنُوفِهِ؛ مِنْ رِبًا، وَرِشْوَةٍ، وَتَزْوِيرٍ، وَأَكْلُ السُّحْتِ يَسْتَأْصِلُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُفْسِدُ أُمُورَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

حُكَّامُ الْيَهُودِ كَثِيرُو السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، كَثِيرُو الْأَكْلِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ؛ كَالرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ رَشَاهُمْ وَيَقْضُونَ لَهُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].

تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبُطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ، وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

هَلَّا يَنْهَاهُمُ الْعُبَّادُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ كَانَ يَتَّبِعُهُمُ الْيَهُودُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ الْكَذِبِ بِإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَإِبْطَانِهِمْ الْكُفْرَ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

لَبِئْسَ مَا كَانَ عُبَّادُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ يَصْنَعُونَ؛ إِذْ لَمْ يَنْهَوْا غَيْرَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا، بَلْ صَارُوا أَشَدَّ جُرْمًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِنَاعَةً، وَهِيَ تَكُونُ بِمَهَارَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَرُّفٍ بِالْغَايَاتِ وَالنَّتَائِجِ.

وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا -وُهَوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ- وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا أَخْذًا وَعَطَاءً، فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى بَارِئِهِمْ مِنْهُ، وَيَرَوْنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مُنْكَرًا، وَيَرْفُضُونَ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِهِ، حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -إِذْ يَسْلُبُ الْإِثْرَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ عَاطِفَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَجْعَلُ أَفْكَارَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ مُضْطَرِبَةً دَائِمَةَ التَّطَلُّعِ لِمُضَاعَفَةِ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ جَهْدِ الْآخِرِينَ، وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَاتِهِمْ-.

حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا كَالْمَجْنُونِ ذِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ، يَمْشِي وَيَتَعَثَّرُ، وَيَصْدِمُ الْأَشْيَاءَ، وَتَأْتِيهِ الْخَبْطَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ لَا يَرَى الشَّخْصَ الْمَسْئُولَ عَنِ الضَّرْبَاتِ الَّتِي تَتَهَاوَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَأَنَّمَا يَتَخَبَّطُهُ شَيْطَانٌ خَبِيثٌ عَدِيمُ الرَّحْمَةِ، خَفِيٌّ لَا تَرَاهُ أَعْيُنُ النَّاسِ.

ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِرَفْضِهِمْ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبَا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي نَظَرِهِمْ أَيْضًا.

مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُثْبِتُ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مِثْلَ الرِّبَا، فَالرِّبَا ظُلْمٌ وَاسْتِغْلَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَوَسِيلَةٌ لِمَنْعِ التَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ الِاجْتِمَاعِيِّ عَنْ طَرِيقِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رِبْحٌ لَا يُقَابِلُهُ جَهْدٌ وَلَا ضَمَانُ خَسَارَةٍ.

وَرِبْحُ الْبَيْعِ يُقَابِلُهُ ضَمَانُ الْخَسَارَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا؟!!

وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِغْلَالٍ وَضَيَاعٍ وَهَلَاكٍ.

وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَيْنِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدَيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.

ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ، يَمْنَعُ بِهِا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِعِيهِمَا، وَاللهُ قَوِيٌّ غَالِبٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، حَكِيمٌ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ.

وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُحَرَّزًا مَصُونًا، مَعْنِيًّا بِحِفْظِهِ الْعِنَايَةُ الَّتِي تَلِيقُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ بِأَنْ يَتَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيُعِدُّونَهُ لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي طَلَبِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تُقْطَعُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ الْمَسْرُوقُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ مِقْدَارُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمٍ.

وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ، سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيْدَخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! أَنْفِقُوا مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي كَسَبْتُمُوهُ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَلَا تَعْمَدُوا إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ فَتُنْفِقُونَهُ، وَلَوْ أُعْطِيَ لَكُمْ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ مُكْرَهِينَ عَلَى رَدَاءَتِهِ؛ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ للهِ مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ؟!!

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ نَفَقَاتِكُمْ، مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ نَهْيًا شَدِيدًا عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ)).

«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

الْعَبْدُ يَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، وَالدَّمُ يَتَجَدَّدُ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ فِي فَتْرَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى خَلِيَّةٌ مِنْ خَلَايَا الدَّمِ جَارِيَةً سَارِيَةً فِي عُرُوقِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهَا؛ إِذْ تَتَكَسَّرُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، وَيَتَجَدَّدُ ذَلِكَ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ.

فَإِذَا مَا دَفَعَ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ؛ فَلَا جَرَمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحَرَامِ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ خَلَايَاهُ دَمًا وَلَحْمًا وَعَظْمًا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَ«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسْلِمِ حَرَجًا وَلَا ضِيقًا فِي شَيْءٍ، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ.

فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيل (سلم)- نَفَثَ فِي رُوعِي)).

وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((فِي رُوعِيَ»؛ يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.. «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»: وَتَجَمَّلُوا، وَأْتُوا بِالْأَمْرِ لَا عَلَى نَحْوٍ مُنْضَبِطٍ وَنَحْوٍ جَمِيلٍ، مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْدِفَاع، «فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ آجِلًا، كَمَا حَدَّدَ الْآجَالَ سَلَفًا، فَلَا الْأَجَلَ يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا الرِّزْقَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ حَدَّدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفًا.

دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).

الْحَلَالُ عِنْدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي الْيَدِ!! وَلَوْ كَانَ رِشْوَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً!! مَا دَامَ وَقَعَ فِي الْيَدِ فَهُوَ حَلَالٌ!! وَالْحَرَامُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْيَدِ!!

وَمَا كَذَلِكَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى هَذَا أَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِيثَاقَنَا أَمْرًا: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].

وَالنَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).

وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

((التَّرْهِيبُ مِنَ الرِّشْوَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرِّشْوَةَ وَاحِدَةٌ مِنْ أَخْطَرِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ بِنْيَةَ الْمُجْتَمَعِ، وَتُفْسِدُ مَنْظُومَةَ الْقِيَمِ، وَتُهَدِّدُ الْعَدَالَةَ وَتَكَافُؤَ الْفُرَصِ، كَمَا تُؤَدِّي إِلَى تَقْوِيضِ ثِقَةِ الْمُوَاطِنِ فِي مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ، وَتُمَثِّلُ الرِّشْوَةُ سُلُوكًا مُنْحَرِفًا يَتَنَافَى مَعَ مَبَادِئِ الدِّينِ، وَيَنْعَكِسُ سَلْبًا عَلَى الِاقْتِصَادِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَامَّةِ.

إِنَّ الرِّشْوَةَ صُورَةٌ مِنْ أَشْنَعِ صُوَرِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

(({وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} أَيْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللهُ، وَأَصْلُ الْبَاطِلِ: الشَّيْءُ الذَّاهِبُ، وَالْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ أَنْوَاعٌ؛ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ وَالنَّهْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ اللَّهْوِ؛ كَالْقِمَارِ، وَأُجْرَةِ الْمُغَنِّي، وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ.

 {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أَيْ: تُلْقُوا أُمُورَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَيَجْحَدُ الْمَالَ، وَيُخَاصِمُ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ أَثِمَ بِمَنْعِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُدْلِ بِمَالِ أَخِيكَ إِلَى الْحَاكِمِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ ظَالِمٌ؛ فَإِنَّ قَضَاءَهُ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا}: طَائِفَةً {مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ}: بِالظُّلْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَقْطَعُ بِهَا مَالَ أَخِيهِ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 168-170].

(({وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ وَمَزَّقْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَمَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ، {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ}: الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أَيْ: دُونَ الصَّلَاحِ؛ إِمَّا مُقْتَصِدُونَ، وَإِمَّا الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، {وَبَلَوْنَاهُمْ}: عَلَى عَادَتِنَا وَسُنَّتِنَا {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أَيْ: بِالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الرَّدَى، يُرَاجِعُونَ مَا خُلِقُوا لَهُ مِنَ الْهُدَى، فَلَمْ يَزَالُوا بَيْنَ صَالِحٍ، وَطَالِحٍ، وَمُقْتَصِدٍ، حَتَّى خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ زَادَ شَرُّهُمْ؛ وَرِثُوا بَعْدَهُمُ الْكِتَابَ، وَصَارَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِمْ، وَصَارُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ، وَتُبْذَلُ لَهُمُ الْأَمْوَالُ لِيُفْتُوا وَيَحْكُمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَفَشَتْ فِيهِمُ الرِّشْوَةُ.

{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ} مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ، وَأَنَّهُمْ ظَلَمَةٌ: {سَيُغْفَرُ لَنَا}، وَهَذَا قَوْلٌ خَالٍ مِنَ الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِغْفَارًا وَطَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَعَزَمُوا عَلَى أَلَّا يَعُودُوا، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَتَاهُمْ عَرَضٌ آخَرُ وَرِشْوَةٌ أُخْرَى يَأْخُذُوهُ.

فَاشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانِ جَرَاءَتِهِمْ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}، فَمَا بَالُهُمْ يَقُولُونَ عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ؛ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَمَيْلًا مَعَ مَطَامِعِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ دَرَسُوا مَا فِيهِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهِ إِشْكَالٌ؛ بَلْ قَدْ أَتَوْا أَمْرَهُمْ مُتَعَمِّدِينَ، وَكَانُوا فِي أَمْرِهِمْ مُسْتَبْصِرِينَ، وَهَذَا أَعْظَمُ لِلذَّنْبِ، وَأَشَدُّ لِلَّوْمِ، وَأَشْنَعُ لِلْعُقُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ نَقْصِ عُقُولِهِمْ، وَسَفَاهَةِ رَأْيِهِمْ بِإِيثَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي تُصَابُ وَتُؤْكَلُ رِشْوَةً عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ.

{أَفَلا تَعْقِلُونَ} أَيْ: أَفَلَا تَكُونُ لَكُمْ عُقُولٌ تُوَازِنُ بَيْنَ مَا يَنْبَغِي إِيثَارُهُ، وَمَا يَنْبَغِي الْإِيثَارُ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ أَوْلَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيمِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ؟! فَخَاصِّيَّةُ الْعَقْلِ النَّظَرُ لِلْعَوَاقِبِ.

وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى عَاجِلٍ طَفِيفٍ مُنْقَطِعٍ يُفَوِّتُ نَعِيمًا عَظِيمًا بَاقِيًا؛ فَأَنَّى لَهُ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ؟!

وَإِنَّمَا الْعُقَلَاءُ حَقِيقَةً مَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أَيْ: يَتَمَسَّكُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَيَعْلَمُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي عِلْمُهَا أَشْرَفُ الْعُلُومِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَسُرُورُ الْقُلُوبِ، وَأَفْرَاحُ الْأَرْوَاحِ، وَصَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ وَلِهَذَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، وَكَوْنِهَا مِيزَانَ الْإِيمَانِ، وَإِقَامَتُهَا دَاعِيَةٌ لِإِقَامَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ.

وَلَمَّا كَانَ عَمَلُهُمْ كُلُّهُ إِصْلَاحًا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} فِي أَقْوَالِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ، وَنِيَّاتِهِمْ، مُصْلِحِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ رُسُلَهُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالصَّلَاحِ لَا بِالْفَسَادِ، وَبِالْمَنَافِعِ لَا بِالْمَضَارِّ، وَأَنَّهُمْ بُعِثُوا بِصَلَاحِ الدَّارَيْنِ؛ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَصْلَحَ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ)).

وَالرِّشْوَةُ مِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ وَكَبَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ لِصَاحِبِهَا اللَّعْنَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

 وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ)).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَالرَّاشِي: هُوَ الَّذِي يُعْطِي الرِّشْوَةَ، وَالْمُرْتَشِي: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ.

وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَى الرَّائِشِ -أَيْضًا-، وَهُوَ السَّاعِي بَيْنَهُمَا.

وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَدْ أَتَى بَابًا كَبِيرًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا)).

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ((السُّحْتُ أَنْ تَطْلُبَ لِأَخِيكَ الْحَاجَةَ فَتُقْضَى، فَيُهْدِي إِلَيْكَ هَدِيَّةً، فَتَقْبَلُهَا مِنْهُ)) )).

وَعَنْ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ أَنَّهُمَا سَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الرِّشْوَةِ، فَقَالَ: ((هِيَ مِنَ السُّحْتِ)).

قَالَ: فَقَالَا: ((أَفِي الْحُكْمِ؟)) يَعْنِي: إِذَا أَعْطَى رِشْوَةً لِيُحْكَمَ لَهُ.. لِيُغَيِّرَ الْحُكْمَ.

قَالَ: ((ذَلِكَ الْكُفْرُ)).

لَمْ يَقُلْ مِنَ السُّحْتِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ((ذَلِكَ الْكُفْرُ))، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44])). أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي ((التَّفْسِيرِ))، وَالْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)).

وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ: ((مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إِلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ)).

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ((ذَلِكَ الْكُفْرُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ فِي ((التَّفْسِيرِ))، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ الْكُفْرُ.

وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: ((سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 62])).

قَالَ: ((الرُّشَا)).

قَالَ: قُلْتُ: ((فِي الْحُكْمِ؟)).

قَالَ: ((ذَلِكَ الْكُفْرُ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ)).

هَذِهِ الْآثَارُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هِيَ مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ.

الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِأَجْلِ الرِّشْوَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الصُّورَةُ فِي الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَلَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَكْبَرَ.

فَصُوَرُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْهَا هَذِهِ الصُّورَةُ، وَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي لَا تُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ؛ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، أَوْ أَكْلًا لِلْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، كَمَا فِي الرِّشَا، وَهُوَ هَذَا السُّحْتُ الَّذِي ذُكِرَ، فَقَالَ: ((هَذَا هُوَ الْكُفْرُ))؛ وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.

وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوْ هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ؛ فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

أَوْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَلَكِنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِأَنَّ هَذَا أَصْلَحُ لِلْمُجْتَمَعِ، وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ.

وَأَمَّا هَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، الَّتِي يُؤْخَذُ فِيهَا الْمَالُ مِنْ أَجْلِ الْحُكْمِ؛ فَهَذَا مِنَ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ.

وَهَذَا التَّصْنِيفُ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مَتَى يَكُونُ أَكْبَرَ وَمَتَى يَكُونُ أَصْغَرَ هُوَ مِنَ الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْخَوَارِجِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ التَّصْنِيفَ أَصْلًا، وَلَا ذَلِكَ التَّقْسِيمَ؛ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَهُوَ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا!

وَأَمَّا السَّلَفُ فَيَقُولُونَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.

((هَدَايَا الْعُمَّالِ وَالْمُوَظَّفِينَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَرْءُ شَيْئًا فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ، يَعْنِي: فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، لَا فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجَرٌ، قَدْ يَأْتِيهِ صَاحِبُ الْحَاجَةِ فِي بَيْتِهِ، لَا فِي عَمَلِهِ، فَيُعْطِيهِ؛ فَوَ اللَّهِ لَتَخْتَلِفَنَّ النَّظْرَةُ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَاحِبِ حَقٍّ.

وَهَذَا عِنْدَ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ قَاضِيًا مِنَ الْقُضَاةِ الْوَرِعِينَ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَكَانَ لَهُ كَارِهًا، وَجَاءَ يَوْمًا إِلَى الْخَلِيفَةِ فَزِعًا، فَيَقُولُ: أَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ.

قَالَ: وَيْحَكَ! مَا دَهَاكَ؟!

قَالَ: إِنَّهُ لَيَتَرَدَّدُ عَلَيَّ خَصْمَانِ مُنْذُ شُهُورٍ فِي قَضِيَّةٍ لَا أَرَى وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا، فَأَنَا أُؤَجِّلُهُمَا، يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيَّ عَلَى اسْتِوَاءٍ وَسَوَاءٍ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا؛ لِيَكْسِرَ بِهِ جُمُودَ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ، فَسَأَلَ الْحَاجِبَ: أَيُّ التَّمْرِ أَحَبُّ إِلَيْهِ؟

قَالَ: الْبَرْنِيُّ -وَهُوَ تَمْرٌ جَيِّدٌ-، وَلَمْ يَكُنْ بِأَوَانِهِ، وَلَا فِي مَكَانِهِ.

فَاحْتَالَ ذَلِكَ الْخَصْمُ حَتَّى اِسْتَجْلَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ تَمْرٍ بَرْنِيٍّ جَيِّدٍ، ثُمَّ دَفَعَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَاجِبِ، أَوْ وَلَدِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَاسْتَمْلَحَهُ.

ثُمَّ جَاءَ فَزِعًا بَعْدُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَقِيلَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ؟

قَالَ: وَاللهِ! لَمَّا أَهْدَى إِلَيَّ، وَكَانَا قَبْلُ عِنْدِي مُسْتَوِيَيْنِ؛ فَوَ اللهِ! لَمَّا أَهْدَى إِلَيَّ مَا اسْتَوَيَا فِي عَيْنَيَّ؛ فَأَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَقَالَهُ!

الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، هِيَ لَا تَحِلُّ.. الْهَدِيَّةُ لَا تَحِلُّ؛ ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ؛ لِنَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!)).

وَاللهِ إِنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ وَظِيفَتِهِ فَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَا خَادِمُهُ، وَلَا يَحْتَرِمُهُ، وَلَا يُقَدِّرُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا.

فَنَحْنُ الْآنَ فِي الْهَدِيَّةِ، فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فِي أَنْ تَكُونَ آتِيًا بِمَا كُلِّفْتَ بِهِ وَتَعَاقَدْتَ عَلَيْهِ.

وَشُبْهَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَظَائِفِ، يِقُولُونَ: الْمَالُ لَا يَكْفِي.

دَعْهَا! فَلَسْتَ مَجْبُورًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُكْرَهًا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَنْتَ سَعَيْتَ إِلَيْهَا.

 وَقِيلَ لَكَ فِي بَدْءِ التَّعْيِينِ: الرَّاتِبُ قَلِيلٌ.

 تَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، وَنَحْنُ نَرْضَى بِالْقَلِيلِ.

 ثُمَّ يَأْتِيكَ مَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ، لَوْ كَانَ لَهُ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ.

فَإِذَا كَانَ لَا يَكْفِيكَ، دَعْهَا، غَيْرُكَ يُرِيدُهَا، إِنْ لَمْ تُؤَدِّ كَمَا تَعَاقَدْتَ فَأَنْتَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، آكِلٌ مِنْ سُحْتٍ؛ وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، هُوَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، عَقْدُ إِجَارَةٍ، أَنْتَ مُسْتَأْجَرٌ، تَتَحَصَّلُ عَلَى مَالٍ فِي نَظِيرِ مَنْفَعَةٍ تُؤَدِّيهَا لِمَنِ اسْتَأْجَرَكَ، مِنْ مُعَلِّمٍ، وَطَبِيبٍ، وَعَامِلٍ، وَمُهَنْدِسٍ وَمَا أَشْبَهَ، كُلُّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ.

 وَعَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَاتَّقِ اللهَ، عَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَكُلُّ مَا تَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ.

فَكُلُّ مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْمُوَظَّفُ مِنْ هَدِيَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ، هِيَ لَا تَحِلُّ.

فَمِنْ ضُرُوبِ الْأَمَانَةِ: الْوَظِيفَةُ الَّتِي يَشْغَلُهَا الْمَرْءُ فِي خِدْمَةِ حُكُومَةِ وَطَنِهِ؛ فَإِنَّهَا فِي الْمَعْنَى: عَهْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمَّتِهِ أَنْ يَخْدُمَهَا بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، فَلَا يَتَوَانَى فِي الْعَمَلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ مِمَّا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَامَ ﷺ عَامِلًا أَسَاءَ فِي عِمَالَتِهِ فَقَالَ: ((أَمَّا بَعْدُ: فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا!!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَرَادَ هَذَا الْعَامِلُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَا أُعْطِيتُهُ مِنَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ رِشْوَةً، إِنَّمَا هُوَ هَدِيَّةٌ، فَأَجَابَهُ ﷺ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ.

وَحَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ -وَالْعُمَّالُ: هُمُ الْمُوَظَّفُونَ-، حَذَّرَتْ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ، وَالَّتِي مِنْهَا الْمَالُ الْعَامُّ، وَحَذَّرَتْهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا -أَيْ: إِبْرَةً- فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: ((فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ)).

قَالَ: ((وَمَا لَكَ؟)).

قَالَ: ((سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا)).

قَالَ: ((وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَفِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَ مِنْهُ أَوْ يُخْفِيَ مِنْهُ شَيْئًا؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا بِمِقْدَارِ الْإِبْرَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَيُعَدُّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ خِيَانَةً لِلْأَمَانَةِ، وَهَذَا مَسُوقٌ لِحَثِّ الْعُمَّالِ -أَيِ: الْمُوَظَّفِينَ- عَلَى الْأَمَانَةِ، وَلِتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَوْ فِي أَمْرٍ تَافِهٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ جَسِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَالِ الْأَوْقَافِ، وَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الِاسْتِحْلَالِ، أَوْ رَدِّ حُقُوقِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

وَفِيهِ: غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ؛ حَتَّى الشِّرَاكِ -وَالشِّرَاكُ: هُوَ سَيْرُ النَّعْلِ-.

عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبُهَاتِ.

((فَلْيُعِدَّ الْمُرْتَشِي لِلسُّؤَالِ جَوَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ!))

لِيَعْلَمْ كُلُّ مَنْ يَتَعَامَلُ بِالرِّشْوَةِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ مَالِهِ؛ فَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، وَصَحَّحَهُ.

إِنَّ الرِّشْوَةَ مِنْ ضَيَاعِ الْأَمَانَةِ، وَضَيَاعُ الْأَمَانَةِ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: ((مَتَى السَّاعَةُ؟)).

فَمَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: ((سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ)).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ((بَلْ لَمْ يَسْمَعْ)).

حَتَّى إِذَا قَضَى قَالَ: ((أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟)).

قَالَ: ((هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟)).

قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ -أَيْ: مَنْ لَيْسَ كُفْؤًا لَهُ- فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

((مِنْ عُقُوبَاتِ الرِّشْوَةِ))

إِنَّ الرِّشْوَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِهَا مُجْتَمَعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مَرَضٌ عُضَالٌ وَدَاءٌ خَطِيرٌ يُفْسِدُ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، وَيُخِلُّ بِالْأَمَانَةِ، تُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ الْعَدَالَةِ، وَفُقْدَانِ الْأَمَانَةِ وَالثِّقَةِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَكْلٌ لِلْحَرَامِ؛ إِذْ هِيَ أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

وَأَكْلُ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْمَعَاصِي، وَالذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي عَوَاقِبُهَا كَثِيرَةٌ تَعُمُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.

وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ: حِرْمَانُهُ مِنَ الرِّزْقِ، وَالْحِرْمَانُ مِنَ الرِّزْقِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

- إِمَّا حِرْمَانٌ مِنَ الرِّزْقِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَذَلِكَ بِتَعْسِيرِهِ وَتَضْيِيقِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ، وَهَذَا خِذْلَانٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا بِحِرْمَانِهِ مِنَ الْحَلَالِ، فَكُلَّمَا سَعَى فِي نَيْلِهِ وَجَدَ الْأَبْوَابَ مُغْلَقَةً، وَالطُّرُقَ إِلَى الْحَلَالِ مُوصَدَةً، وَالْأَمْوَالَ وَالْأُمُورَ الْمُوصِلَةَ إِلَى ذَلِكَ مُتَعَذِّرَةً، وَبِالْمُقَابِلِ يَجِدُ أَبْوَابَ الْحَرَامِ مُفَتَّحَةً، فَهَذَا بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعَبْدِ؛ خُصُوصًا الْخَفِيَّةِ، فَلَا يَفْرَحِ الْعَبْدُ بِهَذَا الْفَتْحِ؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44-45].

وَأَمَّا دَلِيلُ حِرْمَانِ الرِّزْقِ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي ((المُشْكِلِ))، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَوَاقِبُ الْكَسْبِ الْحَرَامِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَسْبِ الْحَرَامِ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا: ضَعْفُ مُرَاقَبَةِ الْمُسْلِمِ رَبَّهُ.

وَمِنْهَا: إِفْسَادُ الْقَلْبِ بِقَدْرِ التَّغَذِّي بِالْحَرَامِ؛ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا، سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، أَوْ تَفَكُّرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْكَسْبِ الْحَرَامِ: تَلَوُّثُ الْعَقْلِ، وَإِضْعَافُ نُورِهِ؛ بِحَيْثُ يَضْعُفُ الْعَقْلُ عَنْ إِدْرَاكِ الضَّارِّ بِضَرَرِهِ وَشَرَرِهِ، وَعَارِهِ وَنَارِهِ، وَيَضْعُفُ عَنْ إِدْرَاكِ النَّافِعِ بِبَرَكَتِهِ، وَنَفْعِهِ، وَجَمَالِهِ، وَسَلَامَتِهِ، وَسَعَادَتِهِ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْحَرَامِ: تَدْنِيسُ النَّفْسِ بِالْخَبَائِثِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَلَا فَلَاحَ لِلنَّفْسِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْحَرَامِ: مَحْقُ الْكَسْبِ، وَأَخْذُ الْبَرَكَةِ مِنْهُ فِي أَيِّ مَجَالٍ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَأْكَلِ، أَمِ الْمَشْرَبِ، أَمِ الْمَلْبَسِ، أَمِ الْمَنْكَحِ، أَمِ الْمَرْكَبِ، أَمِ التَّدَاوِي، أَمِ الْإِنْفَاقِ، أَمْ الِادِّخَارِ، أَمِ التَّوْرِيثِ، أَمِ الْهَدِيَّةِ والْعَطِيَّةِ، أَوِ التَّبَرُّعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْمَالُ الْحَرَامُ كَالسُّمِّ النَّاقِعِ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْحَرَامِ: أَنَّ مُكْتَسِبِي الْحَرَامِ مَطْعُونٌ فِي أَمَانَاتِهِمْ وَصِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ بِقَدْرِ مَا اكْتَسَبُوا مِنَ الْحَرَامِ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْحَرَامِ: أَنَّ مُكْتَسِبَ الْحَرَامِ يُبْتَلَى بِسُوءِ الْأَخْلَاقِ؛ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ، وَلَعْنٍ، وَكَذِبٍ، وَأَيْمَانٍ فَاجِرَةٍ، وَقِلَّةِ صَبْرٍ، وَكَثْرَةِ تَضَجُّرٍ، وَسُوءِ تَصَرُّفٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ كَسْبِ الْحَرَامِ: حِرْمَانُ الْكَاسِبِ مِنْ هِدَايَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، وَتَوْفِيقِهِ الشَّامِلِ، وَنَصْرِهِ الْكَامِلِ، وَتَأْيِيدِهِ وَحِفْظِهِ، وَدِفَاعِهِ فِي الْحَلِّ وَالتِّرْحَالِ، وَفِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفِي الْحَضَرِ وَالْأَسْفَارِ.

وَمِنْهَا: تَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ أَسِيرًا بَيْنَ يَدَيْ عَدُوِّهِ، فَيُهِينُهُ عَدُوُّهُ وَيُذِلُّهُ، وَيَخْذُلُهُ وَيَتَلَاعَبُ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِقَدْرِ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْحَرَامِ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْحَرَامِ: الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوَدَّةِ النَّاسِ لَهُ، وَحُبِّهِ، وَنُصْرَتِهِ، وَإِرْشَادِهِ، وَإِصْلَاحِهِ فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ أَوَّلًا، وَفِي دُنْيَاهُ ثَانِيًا، وَبِالْمُقَابِلِ يُبْدِلُهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ يَسْتَغِلُّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ لِلشَّرِّ، فَتَكُونُ الْغَلَبَةُ عَلَيْهِ لِهَذَا الصِّنْفِ، يَهْوِي بِهِ فِي مَهَاوِي الْخِدَاعِ وَالْحِيَلِ وَالْمَكْرِ.

وَأَمَّا عَوَاقِبُ كَسْبِ الْحَرَامِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَهِيَ أَشَدُّ مِنْ عَوَاقِبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا دُخُولُ سَاحَةِ الْحِسَابِ لِيُحَاسَبَ عَلَى الْمَالِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؛ لَكَفَى بِهَذَا عَذَابًا؛ فَكَيْفَ بِمَا يَسْبِقُ هَذَا الْحِسَابَ مِنْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، وَحَمْلٍ لِلْحَرَامِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِالْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، مَعَ مَا فِي هَذَا الْحَمْلِ مِنَ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَاشْتِدَادِ الْكَرْبِ، وَغَوْصِهِ فِي الْعَرَقِ، وَاحْتِرَاقِ الْأَحْشَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَامْتِلَاءِ الْقُلُوبِ مِنَ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ وَالذُّعْرِ؟!

وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُكْتَسِبِ لِلْحَرَامِ إِذَا كَانَ الْمَالُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ظُلْمًا وَبَغْيًا وَعُدْوَانًا؛ فَهُوَ أَسِيرٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ، مُشْتَكًى بِهِ إِلَى رَبِّهِ، مَأْخُوذٌ بِذَنْبِهِ وَتَعَدِّيهِ؛ فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ؟! وَمَنْ يُرْضِي هَؤُلَاءِ عَنْهُ؟! وَمَاذَا يَكْفِيهِمْ مِنْهُ غَيْرُ حَسَنَاتِهِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ سِوَاهَا، وَلَا فَقْرَ لَهُ إِلَّا إِلَيْهَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إِلَّا بِبَقَائِهَا؟!

تَنَاوُلُ الْحَرَامِ مَانِعٌ مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ غَالِبًا.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ التَّاسِعُ: دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
  حُسْنُ الخُلُقِ سَبَبُ بِنَاءِ المُجْتَمِعِ الصَّالِحِ
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ
  الْمَرَافِقُ الْعَامَّةُ بَيْنَ تَعْظِيمِ النَّفْعِ وَمَخَاطِرِ التَّعَدِّي
  الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ وَوُجُوبُ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
  مصر وحرب الاستنزاف الإرهابية
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  فَضَائِلُ عْشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِقْهُ الْمَقَاصِدِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَوَاجِبُنَا تِجَاهَ الْأَقْصَى
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان