الْعُقُولُ الْمُحَمَّدِّيَّةُ

الْعُقُولُ الْمُحَمَّدِّيَّةُ

((الْعُقُولُ الْمُحَمَّدِّيَّةُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ الْعَقْلِ))

فَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَةَ الْعَقْلِ، فَلَوْلَا الْعَقْلُ لَمَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَلَا النُّبُوَّةَ، وَلَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلَا الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَلَا الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

فَاللهُ -تَعَالَى- فَضَّلَ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ بِهَذَا الْعَقْلِ.

قَالَ -تَعَالَى- مَادِحًا عِبَادَهُ أَصْحَابَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]: لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (({لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أَيْ: لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ التَّامَّةِ الزَّكِيَّةِ الَّتِي تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِحَقَائِقِهَا عَلَى جَلِيَّاتِهَا، لَيْسُوا كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، الَّذِينَ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 105-106])).

وَقَدْ ذَمَّ اللهُ -تَعَالَى- أَصْحَابَ الْعُقُولِ الْغَافِلَةِ عَنْ دِينِهِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

فَإِذَا فَقَدَ الْإِنْسَانُ الْعَقْلَ السَّلِيمَ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَصْبَحَ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ، وَلَا تَعْقِلُ شَيْئًا؛ بَلْ إِنَّ الْبَهِيمَةَ خَيْرٌ مِنْهُ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.

رَوَى الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) أَيْ: دَنِيئَهَا وَخَسِيسَهَا.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: ((وَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَرْءِ الْمَكَارِمَ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَكَرَاهَتَهُ سَفْسَافَهَا هُوَ نَفْسُ الْعَقْلِ؛ فَالْعَقْلُ يَكُونُ بِهِ الْحَظُّ، وَيُؤْنِسُ الْغُرْبَةَ، وَيَنْفِي الْفَاقَةَ، وَلَا مَالَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا يَتِمُّ دِينُ أَحَدٍ حَتَّى يَتِمَّ عَقْلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ مَوَاهِبِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ دَوَاءُ الْقُلُوبِ، وَمَطِيَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَبَذْرُ حِرَاثَةِ الْآخِرَةِ، وَتَاجُ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، وَعُدَّتُهُ فِي وُقُوعِ النَّوَائِبِ، وَمَنْ عُدِمَ الْعَقْلَ لَمْ يَزِدْهُ السُّلْطَانُ عِزًّا، وَلَا الْمَالُ يَرْفَعُهُ قَدْرًا، وَلَا عَقْلَ لِمَنْ أَغْفَلَهُ عَنْ أُخْرَاهُ مَا يَجِدُ مِنْ لَذَّةِ دُنْيَاهُ، فَهَذَا لَا عَقْلَ لَهُ.

وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ              =     فَلَيْسَ مِنَ الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُه 

إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ              =      فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُه)).

  يَعِيشُ الْفَتَى فِي النَّاسِ بِالْعَقْلِ إِنَّهُ      =     عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُه  

  يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ جَوْدَةُ عَقْلِهِ      =     وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُه

قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: ((مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ؟)).

قَالَ: ((غَرِيزَةُ عَقْلٍ)).

قِيلَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((أَدَبٌ حَسَنٌ)).

قِيلَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((أَخٌ صَالِحٌ يَسْتَشِيرُهُ)).

 قِيلَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((صَمْتٌ طَوِيلٌ)).

قِيلَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((مَوْتٌ عَاجِلٌ)). 

سُئِلَ عُقَيْلٌ: ((مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ؟)).

قَالَ: ((غَرِيزَةُ عَقْلٍ)).

قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((فَأَدَبٌ حَسَنٌ)).

قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((فَأَخٌ شَقِيقٌ يَسْتَشِيرُهُ)).

قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((فَطُولُ الصَّمْتِ)).

قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟)).

قَالَ: ((فَمَوْتٌ عَاجِلٌ)).

قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ((الْعَقْلُ نَوْعَانِ:  مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، فَالْمَطْبُوعُ مِنْهُمَا كَالْأَرْضِ، وَالْمَسْمُوعُ كَالْبِذْرِ وَالْمَاءِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ أَنْ يَخْلُصَ لَهُ عَمَلٌ مَحْصُولٌ دُونَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الْمَسْمُوعُ فَيُنَبِّهَهُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَيُطْلِقَهُ مِنْ مَكَامِنِهِ، كَمَا يَسْتَخْرِجُ الْبِذْرُ وَالْمَاءُ مَا فِي قُعُورِ الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ الرِّيعِ.

فَالْعَقْلُ الطَّبِيعِيُّ مِنْ بَاطِنِ الْإِنْسَانِ بِمَوْضِعِ عُرُوقِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْعَقْلُ الْمَسْمُوعُ مِنْ ظَاهِرِهِ كَتَدَلِّي ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ مِنْ فُرُوعِهَا)).

قَالَ الْوَاسِطِيُّ: ((رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ: فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعُ، وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ، كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ)).

عَنِ ابْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: ((يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ؟)).

 قَالَ: ((الْعَقْلُ عَنِ اللَّهِ)).

يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ         =      وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُه  

 يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ خِفَّةُ عَقْلِهِ         =       وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُه)).

لَيْسَ الْجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا     =      إِنَّ الْجَمَالَ جَمَالُ الْعَقْلِ وَالْأَدَبِ

((مَا هُوَ الْعَقْلُ؟ وَمَنْ هُوَ الْعَاقِلُ؟))

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: مَا هُوَ الْعَقْلُ؟ وَمَنْ هُوَ الْعَاقِلُ؟

((الْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا وَقَعَ عَنْ دَرْكِ الْحَوَاسِّ.

وَالْآخَرُ: مَا كَانَ مُبْتَدَأً فِي النُّفُوسِ.

فَأَمَّا مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرْكِ الْحَوَاسِّ فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ، وَالْأَصْوَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ، وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ، وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ بِالشَّمِّ، وَالْأَجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ بِاللَّمْسِ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَعَلِمَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ فِي حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ.

وَأَمَّا مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو مِنْ حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ، وَأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنَ الِاثْنَيْنِ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْعَاقِلِ مَعَ سَلَامَةِ حَالِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ، فَإِذَا صَارَ عَالِمًا بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ.

وَسُمِّيَ الْعَقْلُ عَقْلًا تَشْبِيهًا بِعَقْلِ النَّاقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إِذَا قَبُحَتْ، كَمَا يَمْنَعُ الْعِقَالُ النَّاقَةَ مِنَ الشُّرُودِ إِذَا نَفَرَتْ.

لِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ: ((إِذَا عَقَلَكَ عَقْلُكَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ)).

وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْعَقْلِ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦] .

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ عِلْمٌ)).

وَالْعَقْلُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِسُلُوكِ الصَّوَابِ، وَالْعِلْمِ بِاجْتِنَابِ الْخَطَأِ،  فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ فِي أَوَّلِ دَرَجَتِهِ يُسَمَّى أَدِيبًا، ثُمَّ أَرِيبًا، ثُمَّ لَبِيبًا، ثُمَّ عَاقِلًا.

كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي أَوَّلِ حَدِّ الدَّهَاءِ قِيلَ لَهُ: شَيْطَانٌ، فَإِذَا عَتَا فِي الطُّغْيَانِ قِيلَ: مَارِدٌ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ: عَبْقَرِيٌّ، فَإِذَا جَمَعَ إِلَى خُبْثِهِ شِدَّةَ شَرٍّ قِيلَ: عِفْرِيتٌ.

وَكَذَلِكَ الْجَاهِلُ، يُقَالُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَرَجَتِهِ: الْمَائِقُ، ثُمَّ الرَّقِيعُ، ثُمَّ الْأَنْوَكُ، ثُمَّ الْأَحْمَقُ)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] قَالَ: ((أَيْ: تَنَاهَى عَقْلُهُ، وَكَمُلَ فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَرْبَعِينَ)).

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ((وَحَدُّ الْعَقْلِ يَنْطَوِي فِيهِ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْ عَصَاهُ لَا يَعْقِلُ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10-11].

وَحَدُّ الْحُمْقِ: اسْتِعْمَالُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَقْلِ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْحُمْقِ وَالْعَقْلِ إِلَّا السُّخْفُ)).

((إِرْشَادُ الْقُرْآنِ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْعَقْلِ))

وَعَنْ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْعَقْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الصَّانِعُ، وَتَوْحِيدُهُ، وَصِفَاتُهُ، وَصِدْقُ رُسُلِهِ، وَبِهَا يُعْرَفُ إِمْكَانُ الْمَعَادِ؛ فَفِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي تَعْلَمُ مُقَدِّمَاتِهَا بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ بَلْ عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهَا، وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الروم: 27].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21])).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ فَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ الدَّلَالَةُ عَلَى الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَالْبَيَانُ لَهَا، وَالْإِرْشَادُ إِلَيْهَا، وَالْقُرْآنُ مَلْآنٌ مِنْ ذَلِكَ، فَتَكُونُ شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ هَدَى إِلَيْهَا، عَقْلِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْرَفُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ؛ فَقَدْ جَمَعَتْ وَصْفَيِ الْكَمَالِ)).

وَمِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الشَّرَائِعَ قَامَتْ عَلَى الْعِلْمِ، وَهِيَ لَا تَتَنَافَى مَعَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَشَفَ إِلَّا بِالْعَقْلِ.

لَقَدْ أَكْثَرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- مِنْ ذِكْرِ الْعَقْلِ وَمُشْتَقَّاتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ الْعَقْلِ، وَقِيمَةَ التَّفْكِيرِ، وَنُبْلَ التَّدَبُّرِ، وَشَرَفَ إِعْمَالِ النَّظَرِ، قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤].

(({أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: تَتْرُكُونَهَا عَنْ أَمْرِهَا بِذَلِكَ وَالْحَالُ: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وَأَسْمَى الْعَقْلَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ بِهِ مَا يَنْفَعُهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَنْعَقِلُ بِهِ عَمَّا يَضُرُّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحُثُّ صَاحِبَهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ فَاعِلٍ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَأَوَّلَ تَارِكٍ لِمَا يَنْهَى عَنْهُ، فَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْخَيْرِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ نَهَاهُ عَنِ الشَّرِّ فَلَمْ يَتْرُكْهُ؛ دَلَّ عَلَى عَدَمِ عَقْلِهِ، وَجَهْلِهِ؛ خُصُوصًا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي سَبَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3])).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٧٣].

((وَيُرِيكُمْ مُعْجِزَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ؛ رَغْبَةً أَنْ تَعْقِلُوا عَقْلًا عِلْمِيًّا فَتُؤْمِنُوا بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى الْبَعْثِ، وَتَعْقِلُوا عَقْلًا إِرَادِيًّا فَتَمْنَعُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الْمَعَاصِي)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون} [الأنفال: ٢٢].

إِنَّ شَرَّ مَنْ دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ خَلْقِ اللهِ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، الْبُكْمُ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَلَا يَقْبَلُونَ، وَلَا يَعْقِلُونَ نُفُوسَهُمْ عَنْ أَهْوَائِهَا الْجَانِحَةِ، وَبِذَلِكَ كَانُوا كَافِرِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي وَهَبَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا، وَاسْتَخْدَمُوهَا فِي حُدُودِ ظَوَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَنْتَقِلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ خَالِقِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا يَعْبُدُونَهُ، وَلَا يَشْكُرُونَهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: ٢٦٩].

يُؤْتِي اللهُ الْعِلْمَ وَإِصَابَةَ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَنْ يُؤْتِهِ اللهُ ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَتَّعِظُ بِهِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْعَمِيقَةِ الْمُتَدَبِّرَةِ الْوَاعِيَةِ الَّذِينَ عَقِلُوا عَنِ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب} [آل عمران: ١٩٠].

فَاعْتَبِرُوا وَتَفَكَّرُوا يَا ذَوِي الْعُقُولِ الْخَالِصَةِ الْمُدْرِكَةِ، الصَّافِيَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْوَهْمِ، الَّتِي تَنْفُذُ إِلَى لُبِّ الْأَشْيَاءِ، وَلَا تَكْتَفِي بِظَوَاهِرِهَا!

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: ١٠١].

وَقَدْ حَثَّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ؛ حَيْثُ جَاءَ عَلَى نَسَقٍ مُحْكَمٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ‌الْقُرْآنَ} [محمد: ٢٤].

أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي مَوَاعِظِهِ وَزَوَاجِرِهِ!

وَقَدْ دَعَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِلَى إِعْمَالِ الْعُقُولِ؛ فَدَعَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْكَوْنِ وَمَا فِيهِ، وَذَلِكَ ((أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ عَلَى مَا يُرَى فِي أَكْمَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الصَّلَاحِ وَالِانْتِظَامِ الَّذِي مَا فِيهِ خَلَلٌ وَلَا عَيْبٌ، وَلَا مُمَانَعَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُ وَاحِدٌ، وَإِلَهَهُ وَاحِدٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرَانِ وَرَبَّانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَاخْتَلَّ نِظَامُهُ، وَتَقَوَّضَتْ أَرْكَانُهُ؛ فَإِنَّهُمَا يَتَمَانَعَانِ وَيَتَعَارَضَانِ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَدْبِيرَ شَيْءٍ، وَأَرَادَ الْآخَرُ عَدَمَهُ؛ فَإِنَّهُ مُحَالٌ وُجُودُ مُرَادِهِمَا مَعًا، وَوُجُودُ مُرَادِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى عَجْزِ الْآخَرِ، وَعَدَمِ اقْتِدَارِهِ، وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى مُرَادٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.

فَإِذَنْ؛ يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْقَاهِرَ الَّذِي يُوجِدُ مُرَادَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللهُ دَلِيلَ التَّمَانُعِ فِي قَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ})).

قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: ٢٢].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آلِهَةٌ تَصْلُحُ لَهُمُ الْعِبَادَةُ سِوَى اللهِ الَّذِي هُوَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، وَلَهُ الْعِبَادَةُ وَالْأُلُوهِيَّةُ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ؛ {لَفَسَدَتَا} يَقُولُ: لَفَسَدَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} يَقُولُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: فَتَنْزِيهٌ للهِ وَتَبْرِئَةٌ لَهُ مِمَّا يَفْتَرِي بِهِ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: ٤٦].

((أَيْ: قُلْ -يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ- لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَصَدِّينَ لِرَدِّ الْحَقِّ وَتَكْذِيبِهِ، وَالْقَدْحِ بِمَنْ جَاءَ بِهِ: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أَيْ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِهَا، وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي سُلُوكِهَا، وَهِيَ طَرِيقٌ نَصَفٌ، لَسْتُ أَدْعُوكُمْ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِي، وَلَا إِلَى تَرْكِ قَوْلِكُمْ مِنْ دُونِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَهِيَ: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أَيْ: تَنْهَضُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَقَصْدٍ لِاتِّبَاعِ الصَّوَابِ، وَإِخْلَاصٍ لِلَّهِ، مُجْتَمِعِينَ وَمُتَبَاحِثِينَ فِي ذَلِكَ وَمُتَنَاظِرِينَ، وَفُرَادَى، كُلُّ وَاحِدٍ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا قُمْتُمْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى؛ اسْتَعْمَلْتُمْ فِكْرَكُمْ، وَأَجَّلْتُمُوهُ، وَتَدَبَّرْتُمْ أَحْوَالَ رَسُولِكُمْ؛ هَلْ هُوَ مَجْنُونٌ؛ فِيهِ صِفَاتُ الْمَجَانِينِ مِنْ كَلَامِهِ وَهَيْئَتِهِ وَصِفَتِهِ، أَمْ هُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، مُنْذِرٌ لَكُمْ مَا يَضُرُّكُمْ مِمَّا أَمَامَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ؟!

فَلَوْ قَبِلُوا هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ وَاسْتَعْمَلُوهَا؛ لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ؛ لِأَنَّ هَيْئَاتِهِ لَيْسَتْ كَهَيْئَاتِ الْمَجَانِينِ فِي خَنْقِهِمْ، وَاخْتِلَاجِهِمْ، وَنَظَرِهِمْ، بَلْ هَيْئَتُهُ أَحْسَنُ الْهَيْئَاتِ، وَحَرَكَاتُهُ أَجَلُّ الْحَرَكَاتِ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ أَدَبًا وَسَكِينَةً وَتَوَاضُعًا وَوَقَارًا، لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَرْزَنِ الرِّجَالِ عَقْلًا.

ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلُوا كَلَامَهُ الْفَصِيحَ، وَلَفْظَهُ الْمَلِيحَ، وَكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَمْلَأُ الْقُلُوبَ أَمْنًا وَإِيمَانًا، وَتُزَكِّي النُّفُوسَ، وَتُطَهِّرُ الْقُلُوبَ، وَتَبْعَثُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَحُثُّ عَلَى مَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَتُرْهِبُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَرَذَائِلِهَا، إِذَا تَكَلَّمَ رَمَقَتْهُ الْعُيُونُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا.

فَهَلْ هَذَا يُشْبِهُ هَذَيَانَ الْمَجَانِينِ، وَعَرْبَدَتَهُمْ، وَكَلَامَهُمُ الَّذِي يُشْبِهُ أَحْوَالَهُمْ؟!

فَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَهُ وَقَصْدُهُ اسْتِعْلَامُ هَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ أَمْ لَا؟ سَوَاءٌ تَفَكَّرَ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَنَبِيُّهُ صِدْقًا؛ خُصُوصًا الْمُخَاطَبِينَ الَّذِي هُوَ صَاحِبُهُمْ، يَعْرِفُونَ أَوَّلَ أَمْرِهِ وَآخِرَهُ)).

 ((صَلَاحُ الْأَعْمَالِ بِالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ))

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَلِ الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَإِنِ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرِ الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا، وَإِنْ عُزِلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَتِ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مَعَ عَدَمِهِ أُمُورًا حَيَوَانِيَّةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَحَبَّةٌ وَوَجْدٌ وَذَوْقٌ كَمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَهِيمَةِ.

فَالْأَحْوَالُ الْحَاصِلَةُ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ نَاقِصَةٌ، وَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلْعَقْلِ بَاطِلَةٌ، وَالرُّسُلُ جَاءَتْ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِهِ، لَمْ تَأْتِ الرُّسُلُ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ؛ لَكِنِ الْمُسْرِفُونَ فِيهِ قَضَوْا بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ وَجَوَازِهَا، وَامْتِنَاعِهَا لِحُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ -بِزَعْمِهِمْ- اعْتَقَدُوهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ، وَعَارَضُوا بِهَا النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ، وَالْمُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ بَاطِلَةٍ، وَدَخَلُوا فِي أَحْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَاسِدَةٍ، وَخَرَجُوا عَنِ التَّمْيِيزِ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ)).

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ))

((وَالْإِسْلَامُ دِينُ عِلْمٍ وَعَقْلٍ؛ فَهُوَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّفَ أَتْبَاعَهُ تَحْصِيلَ أَيِّ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا يُكَلِّفُهُمْ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ، صَحِيحِي الْفَهْمِ، ثَاقِبِي الْفِكْرِ، حَدِيدِي الْبَصِيرَةِ، يَتَدَبَّرُونَ الْأُمُورَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَيُقَلِّبُونَ وُجُوهَ الرَّأْيِ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَمَبَادِيهَا وَمَصَايِرِهَا، فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْوَاجِبِ.

كَمَا يُكَلِّفُهُمُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ عَارِفِينَ بِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ وَطُرُقِ الْمَنَافِعِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ، مُلِمِّينَ بِتَفَاصِيلِ التَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي اهْتَدَى إِلَيْهَا الْبَشَرُ فِي سَابِقِ أَدْوَارِهِمْ، وَمُخْتَلَفِ أَطْوَارِهِمْ؛ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَصْحِيحِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَتَقْوِيمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمَلَكَاتِ، وَإِتْقَانِ أَمْرِ الْمَعَايِشِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَتَرْقِيَةِ شَأْنِ الصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، وَتَحْسِينِ سَائِرِ مُقَوِّمَاتِ الْحَيَاةِ.

فَالْقُرْآنُ لَمَّا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَلَّفَهُمْ قَبُولَهُ بِقَبُولِ تَعَالِيمِهِ وَهِدَايَتِهِ؛ كَانَ يُقِيمُ الْعَقْلَ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَيَعْجَبُ مِنَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ، وَإِهْمَالِهِمْ لَهُ، وَتَرْكِ الِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ، فَكَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُحَاجُّهُمْ: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28].

وَيَقُولُ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

وَيَقُولُ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].

وَ (الْأَبْصَارُ وَالْأَلْبَابُ): الْعُقُولُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فِي الْقُرْآنِ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً فِي صَدَدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ.

وَمَوَاضِعُ ذِكْرِ الْعَقْلِ وَاللُّبِّ وَمَا صِيغَ مِنْهُمَا لِاسْتِخْرَاجِ وَظَائِفِ الْعَقْلِ الْمُصَرَّحِ بِهَا وَالْمُلَمَّحِ إِلَيْهَا بَلَغَتْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ خَمْسَةً وَسِتِّينَ مَوْضِعًا.

وَكَفَى بِهَذَا مَزِيَّةً وَمَنْقَبَةً لِلْعَقْلِ مُذْ جُعِلَ لِلدِّينِ أَصْلًا، وَلِمَصَالِحِ الدُّنْيَا عِمَادًا.

وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ؛ خَشْيَةَ أَنْ تُسَيْطِرَ عَلَى الْعَقْلِ فَتُفْسِدَهُ أَوْ تُضْعِفَهُ.

وَالْعَقْلُ مِلَاكُ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ، وَقِوَامُ حَيَاتِهِ.

أَمَّا الْعِلْمُ فَالْقُرْآنُ رَفَعَ مِنْ شَأْنِهِ، وَنَوَّهَ بِمَنْزِلَتِهِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ سَابِقٌ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

بَلْ إِذَا تَدَبَّرْنَا أَوَّلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَجَدْنَاهَا تَحُضُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَرْفَعُ مِنْ مَكَانَتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].

وَقَالَ تَعَالَى: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].

فَقَدْ نَوَّهَ فِي الْآيَتَيْنِ بِشَأْنِ الْقَلَمِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ.

هَذَا الشَّأْنُ مِنْ شُؤُونِ الْحَيَاةِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا هُوَ أَوَّلُ مَا فَاجَأَ بِهِ الْقُرْآنُ الْبَشَرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَوْقَعَهُ فِي أَذْهَانِهِمْ؛ أَفَلَا يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ عِلْمٍ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ إِلَّا الْعِلْمَ؟!

وَلَا نَظُنُّ أَنَّ كَلِمَةً مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ -عَدَا لَفْظِ الْجَلَالَةِ- تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا تَكَرَّرَتْ فِيهِ كَلِمَةُ (الْعِلْمِ)؛ فَالْإِسْلَامُ -إِذَنْ- دِينُ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّهُ دِينُ التَّوْحِيدِ.

وَلَمَّا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُلَقِّنَ نَبِيَّهُ ﷺ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ؛ لَقَّنَهُ أَنْ يَطْلُبَ فِي دُعَائِهِ الْمَزِيدَ مِنَ الْعِلْمِ؛ إِذْ قَالَ لَهُ تَعَالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

الْعِلْمُ حَيَاةُ الْإِسْلَامِ، وَعِمَادُ الدِّينِ.

وَالْعِلْمُ إِذَا أُطْلِقَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ: الْعِلْمَ النَّافِعَ الْمُوصِلَ إِلَى سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

((الْعَقْلِيَّةُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ الْخُرَافِيَّةُ

فِي مِيزَانِ الْإِسْلَامِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ دِينُ رَبِّنَا الْكَرِيمِ، الَّذِي ارْتَضَاهُ لَنَا رَبُّنَا دِينًا، وَشَرَّفَنَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ، وَفَضَّلَنَا بِالنِّسْبَةِ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ الصِّدْقُ مَعَ الْحَقِّ، وَالْخُلُقُ مَعَ الْخَلْقِ، هُوَ تَوْحِيدُ الْمُشَرِّعِ، وَمُتَابَعَةُ الْمُبَلِّغِ ﷺ.

الْإِسْلَامُ تَوْحِيدُ الْمُشَرِّعِ -سُبْحَانَهُ-، وَمُتَابَعَةُ الْمُبَلِّغِ ﷺ.

 وَمَهْمَا نَظَرْتَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- تَبَدَّتْ مَحَاسِنُهُ، وَظَهَرَتْ فَوَاضِلُهُ، وَحَيْثُمَا دَقَّقْتَ فِي أَطْوَاءِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَرَجَتْ لَكَ الْمَكَارِمُ، وَبَدَتْ لَكَ الْفَضَائِلُ، وَلَا غَرْوَ؛ فَهُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ.

الْعَقْلِيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ عَقْلِيَّتَانِ:

* عَقْلِيَّةٌ عَامِّيَّةٌ خُرَافِيَّةٌ.

* وَعَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَوْضُوعِيَّةٌ.

الْعَقْلِيَّةُ الْعَامِّيَّةُ الْخُرَافِيَّةُ تُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ، وَلَا تَطْلُبُ عَلَى أَمْرٍ بُرْهَانًا، وَلَا عَلَى دَعْوَى دَلِيلًا.

وَالْعَقْلِيَّةُ الْعَامِّيَّةُ الْخُرَافِيَّةُ جَامِدَةٌ مُتَحَجِّرَةٌ، تَتْبَعُ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ بِغَيْرِ نُورٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.

 وَالْعَقْلِيَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْمَوْضُوعِيَّةُ لَا تَقْبَلُ شَيْئًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، تَكْسِرُ الْجُمُودَ وَالتَّقْلِيدَ، وَتَخْرُجُ إِلَى حَيِّزِ الِاتِّبَاعِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ.

الْعَقْلِيَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْمَوْضُوعِيَّةُ مَهْمَا نَظَرْتَ فِي جَوَانِبِهَا، وَفَحَصْتَ فِي دَعَائِمِهَا وَجَدْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ قَدْ أَرْسَى تِلْكَ الْأُسُسَ، وَوَضَّحَ تِلْكَ الْمَعَالِمَ.

دَعَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْعَقْلِيَّةِ الْعَامِّيَّةِ الْخُرَافِيَّةِ، وَالِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ الْعُقَلَاءِ.. فِي سِلْكِ أَصْحَابِ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ.

 وَأَبْرَزُ هَذِهِ الدَّعَائِمِ فَصَّلَهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَبَيَّنَتْهَا سُنَّةُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ الْعِلْمِيَّةَ الْمَوْضُوعِيَّةَ تَكْسِرُ الْجُمُودَ، وَتَخْرِقُ التَّقْلِيدَ، وَتَصْدِفُ عَنِ اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ كَمَا قَالَ السَّالِفُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، وَالْأُخْرَى: {وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَرَادَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً ذَاتَ عَقْلِيَّةٍ مَوْضُوعِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ تَكْسِرُ الْجُمُودَ، وَتَخْرِقُ التَّقْلِيدَ.

وَأَمَّا الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دِعَامَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ؛ فَهِيَ الْخُرُوجُ عَنْ إِطَارِ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى الْأَهْوَاءِ، وَالْعَوَاطِفِ، وَالنَّزْغَاتِ الْفَرْدِيَّةِ، وَالِاعْتِبَارَاتِ الشَّخْصِيَّةِ.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَأْمُرُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ الْكِبَارِ الْكِرَامِ أَلَّا يَتَّبِعَ الْهَوَى، وَأَلَّا يُغَلِّبَ الْعَاطِفَةَ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لِدَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ} [ص: 26]، يُضِلَّهُ وَهُوَ مَنْ هُوَ ثَبَاتًا، وَحِشْمَةً، وَعِلْمًا، وَحِكْمَةً، وَتَأْيِيدًا وَنَصْرًا.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُخْبِرُ مُحَمَّدًا ﷺ بِأَمْرٍ قَسَمَهُ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50].

إِمَّا اسْتِجَابَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِمَّا اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى.

 الْخُرُوجُ مِنْ إِطَارِ الْهَوَى، وَمِنْ حَيِّزِ الْعَاطِفَةِ، وَمِنَ التَّحَاكُمِ إِلَى الْأُمُورِ الْفَرْدِيَّةِ، وَالِانْتِحَاءِ جَانِبًا مُكِبًّا عَلَى الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ انْطِلَاقٌ إِلَى الْحَقِّ الْحَقِيقِ.

 إِمَّا حَقٌّ، وَإِمَّا هَوًى.

 إِمَّا حَقٌّ، وَإِمَّا بَاطِلٌ.

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرَادَ لَنَا هَذِهِ الْمِيزَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَسْلُكُ الْبَشَرَ فِي سِلْكِ الْعُقَلَاءِ الْمُفَكِّرِينَ، وَتَخْرُجُ بِهِمْ عَنْ حَيِّزِ الِاتِّبَاعِ لِكُلِّ نَاعِقٍ، وَالسَّيْرِ خَلْفَ كُلِّ نَاهِقٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَدِّيَ السَّيْرُ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى قَرَارَةِ النَّارِ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

 لَا يَقْبَلُ صَاحِبُ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ سَاطِعَةٍ نَيِّرَةٍ.

وَلَيْسَ الْأَمْرُ سَوَاءً فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ، وَالْمَنْقُولَاتِ.

 وَلَكِنْ أَمْرٌ عَلَى تَفْصِيلٍ:

أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُولَاتِ؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْبُرْهَانِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدَّلِيلِ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].

وَأَمَّا فِي الْمَحْسُوسَاتِ؛ فَيُطَالِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقَوْمَ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالتَّجْرِبَةِ الْحِسِّيَّةِ فِي عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19].

يُطَالِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمُشَاهَدَةِ بِالتَّجْرِبَةِ؛ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِذَا مَا ادَّعَيْتَهَا، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}.

هَذَا أَمْرٌ مَادِّيٌّ مَحْسُوسٌ، وَهُنَا لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ.

 وَالدَّلِيلُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.

وَأَمَّا فِي الْمَنْقُولَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْثِيقِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ، لَا بُدَّ مِنَ التَّوْثِيقِ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ.

 لَا بُدَّ مِنَ التَّوْثِيقِ فِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَحْصِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّفْتِيشِ.

 هَكَذَا يَأْمُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقَوْمَ؛ أَلَّا يَقْبَلُوا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

 وَالدَّلِيلُ يَنْقَسِمُ كَمَا رَأَيْتَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ، وَالْمَحْسُوسِ.

اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَجْعَلُ لَنَا دِعَامَةً أُخْرَى؛ أَلَّا نَقْبَلَ الظَّنَّ فِي مَجَالٍ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْيَقِينُ؛ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ لَا يَقْبَلُ صَاحِبُ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ السَّوِيِّ السَّلِيمِ إِلَّا الْيَقِينَ، وَيَرْفُضُ جَانِبًا وَيُنَحِّي الظَّنَّ وَالْحَدْسَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، وَبِغَيْرِ دَلِيلٍ.

أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ حَجَرًا، وَمَدَرًا، وَشَجَرًا؛ بَلْ وَمَأْكُولًا؛ بَلْ وَتُرَابًا يَبُولُ عَلَيْهِ عَابِدُهُ؛ لِيَصْنَعَ مِنْهُ صَنَمًا يَدُورُ حَوْلَهُ، وَيَذْبَحُ عِنْدَهُ الْقَرَابِينَ!

عَقْلِيَّةٌ خُرَافِيَّةٌ عَامِّيَّةٌ لَا دَلِيلَ وَلَا بُرْهَانَ، وَلَا بَحْثَ عَنْ نَفْيٍ لِلظَّنِّ، وَلَا بَحْثَ عَنِ الْتِمَاسٍ لِيَقِينٍ.

 أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ الْمُظْلِمِ الْمُعْتِمِ الْمَشْؤُومِ إِلَى سَوَاءِ الدَّلِيلِ، وَإِلَى صُبْحِ الْبُرْهَانِ، وَإِلَى شَمْسِ الْيَقِينِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَفْضَلُ الْخَلْقِ طُرًّا.

 مُحَمَّدٌ ﷺ هُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ، نَبِيُّنَا، وَسَيِّدُنَا، وَعَظِيمُنَا وَكَبِيرُنَا، مُحَمَّدٌ ﷺ مَحْبُوبُنَا؛ لَا يَصِحُّ لَنَا إِيمَانٌ وَلَا يَقِينٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا إِذَا أَحْبَبْنَا نَبِيَّنَا فَوْقَ حُبِّنَا لِأَنْفُسِنَا ﷺ.

وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ مَقَامَيْنِ لَا يَلْتَبِسَانِ، بَيْنَ مَقَامَيْنِ لَا يَمْتَزِجَانِ وَلَا يَشْتَبِهَانِ؛ بَيْنَ مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ الْمُتَفَرِّدَةِ بِالصَّمَدَانِيَّةِ وَالْأَحَدِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيْنَ مَقَامِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ -عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ-.

 يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ  فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَقَدْ جَاءَهُ مَا جَاءَهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ، فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -وَالرَّبَاعِيَةُ: السِّنُّ الَّتِي تَلِي الثَّنِيَّةَ، عَلَى كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الثَّنَايَا الْأَرْبَعِ رَبَاعِيَةٌ؛ فَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ- فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَدَخَلَتْ حَلْقَةُ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ، فَلَمَّا أُزِيلَتْ بِثَنِيَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهَا جَهْدَهُ بِرِفْقِهِ بِنَبِيِّهِ ﷺ؛ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ أَبِي عُبَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَانْفَجَرَ الدَّمُ الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ، أَطْهَرُ دَمٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، أَطْهَرُ دَمٍ خُلِقَ دَمُ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ أَنَسٍ: ((أَخَذَ يَسْلُتُ -يَعْنِي: يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ- وَيَقُولُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟!)).

تَدْرِي مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكَ؟

قَالَ لَهُ رَبُّكَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128])).

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ مُتَعَجِّبًا: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ؟!))، لَا لِجَرِيرَةٍ، بَلْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ قَطُّ، وَمَا ذَنْبُهُ لَدَيْهِمْ إِلَّا أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، لَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِاتِّبَاعِهِ لِذَاتِهِ وَشَخْصِهِ، وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَنِعْمَ الْقَرَارُ، وَنِعْمَ الْمَصِيرُ.

وَمَعَ ذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِهِ الْأَفَاعِيلَ، وَيُنْزِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَّا أَمْرًا، وَأَمَّا نَحْنُ -وَيَا لَبِئْسَ مَا نُرِيدُ مِنْ أَنْفُسِنَا-؛ نُرِيدُ مِنْ أَنْفُسِنَا غَيْرَهُ!

 اللهُ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نُوَحِّدَهُ، وَأَنْ نَعْبُدَهُ، وَأَنْ نُخْلِصَ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَأَنْ نَصْدُقَ فِي عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَامَ فِي الْأَرْضِ أَمْرُهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُعْلَى فِي الْأَرْضِ ذِكْرُهُ .

اللهُ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ لَهُ عَابِدِينَ صَادِقِينَ مُخْلِصِينَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَنْأَى بِأَنْفُسِنَا عَنْ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَانْظُرْ فِي ذَاتِ الْغَزْوَةِ بِدَرْسٍ عَظِيمٍ جِدًّا: ابْنُ قَمِئَةَ -قَمَأَهُ اللهُ-، كَانَ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَحْمِلُ اللِّوَاءَ، يَحْمِلُ الرَّايَةَ -رَايَةَ الْإِسْلَامِ، رَايَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَكَانَ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُشَبَّهُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ هَيْئَةً وَظَاهِرًا، فَحَسِبَهُ اللَّئِيمُ ابْنُ قَمِئَةَ -قَمَأَهُ اللهُ- حَسِبَهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ﷺ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ.

الرَّايَةُ يَحْمِلُهَا مُصْعَبٌ بِيَمِينِهِ، فَضَرَبَ يَدَهُ فَأَطَنَّهَا، فَتَلَقَّى الرَّايَةَ بِيُسْرَاهُ فَلَمْ تَقَعْ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ يُسْرَاهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهَا مُصْعَبٌ بِفَخِذَيْهِ، وَأَحْنَى عَلَيْهَا بِوَجْهِهِ فَضَرَبَهُ اللَّئِيمُ حَتَّى أَثْخَنَهُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَتَلَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ لَهُمْ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. ﷺ.

 تَفَشَّتِ الْمَقُولَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَفَشِّيَ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ، فَأُحْرِقُوا، فَقَعَدُوا.

 تَدْرِي مَاذَا قَالَ رَبُّكَ بَعْدُ؟ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

لَمْ يَرْبِطْ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- دِينَهُ بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ مَنْ هُوَ ﷺ-، وُجُودُهُ هُوَ وُجُودُهُ -وَهُوَ مَنْ هُوَ ﷺ-.

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.

 مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.

 فِي ذَاتِ الْغَزْوَةِ لَمَّا جَاءَتِ الْكَسْرَةُ، وَوَقَعَتِ الْحَسْرَةُ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ الْقَوْمِ لِنَبِيِّهِمْ ﷺ، وَهُوَ دَرْسٌ جَلِيلٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُوَحِّدَ الْمُشَرِّعَ، وَأَنْ تُتَابِعَ الْمُبَلِّغَ ﷺ، وَأَنْ تَكُونَ صَاحِبَ عَقْلِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ مَوْضُوعِيَّةٍ، لَا عَقْلِيَّةٍ عَامِّيَّةٍ خُرَافِيَّةٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ، وَأَنْتَ صَاحِبُ حُجَّةٍ مُلْتَمِسٌ لِلْبُرْهَانِ.

وَأَمَّا أَنْتَ فَخَارِقٌ لِهَذَا الْجُمُودِ وَهَذَا التَّقْلِيدِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَقْبَلُ الظَّنَّ حَيْثُ لَا يُغْنِي إِلَّا الْيَقِينُ؛ صَاحِبُ عَقْلِيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ، هِيَ عَقْلِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ.

 هَذَا دَرْسٌ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَخْفَى نَبَأَ حَيَاتِهِ، وَانْتِفَاءَ مَا انْتَفَى مِنَ الْمَوْتِ عَنْهُ عَلَى مَا أَرْجَفَ بِهِ أُولَئِكَ الْمُجْرِمُونَ؛ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ مَا زَالَ كَافِرًا- قَالَ: ((يَوْمٌ بِيَوْمٍ -يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ- قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ)).

انْظُرْ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرُدُّ عَلَى مَقُولَةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ الْكَسْرَةِ وَالْحَسْرَةِ، وَالْهَزِيمَةِ ظَاهِرًا، يَقُولُ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ.

 يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا سَوَاءَ؛ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ)).

 فَأَيُّ يَوْمٍ هُوَ الَّذِي هُوَ بِيَوْمٍ؟!

 أَيُّ يَوْمٍ هُوَ الَّذِي بِيَوْمٍ؟!

 نَحْنُ مَنْصُورُونَ وَإِنِ انْهَزَمْنَا.

 لَا هَزِيمَةَ تَلْحَقُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَبَدًا؛ قَتْلَاهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ.

 إِمَّا نَصْرٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ؛ فَأَيُّ هَزِيمَةٍ تَلْحَقُ بِمَنْ كَذَلِكَ؟!

يَقُولُ: ((يَوْمٌ بِيَوْمٍ)).

قَالَ: ((لَا سَوَاءَ؛ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ)).

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((اعْلُ هُبَلُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَعْلِ هُبَلُ)) يَعْنِي: انْصُرْ أَمْرَكَ، وَأَظْهِرْ قَدْرَكَ.

 قَالَ ﷺ: ((أَلَا تُجِيبُونَهُ؟!))، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)).

 قَالُوا: ((بِمَاذَا نُجِيبُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

 قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)).

 يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ -عِنْدَمَا كَانَ هُنَالِكَ فِي أُحُدٍ، مَا زَالَ كَافِرًا بَعْدُ- يَقُولُ: ((اعْلُ هُبَلُ)).

 ((اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)).

فَيَنْتَمِي الرَّجُلُ عَلَى انْتِمَائِهِ الْأَوَّلِ، يَقُولُ: ((لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ)).

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا تُجِيبُونَهُ؟!)).

((بِمَاذَا نُجِيبُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)) .

حَدِّدْ خَنْدَقَكَ، حَدِّدْ مَوْقِعَكَ!

ثُمَّ انْظُرْ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ وَفِيمَا يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ حَوْلَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَفِي ((الْبُخَارِيِّ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقْدُمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، وَنَتَجَتْ إِبِلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ تَنْتُجْ إِبِلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11])).

إِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، وَنَتَجَتْ إِبِلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ.

 وَمَا دَخْلُ هَذَا بِهَذَا؟!

إِنْ نَجَحَ وَلَدُهُ، وَأَنْتَجَتْ زِرَاعَتُهُ مَالًا كَثِيرًا، وَخَيْرًا وَفِيرًا؛ هَذَا دِينٌ حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ هَذَا دِينُ سُوءٍ!

لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّدَ الْمَرْءُ بَدْءًا: مَا هُوَ انْتِمَاؤُهُ؟ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَنْتَمِي؟

 وَالْمُؤْمِنُ يَنْتَمِي إِلَى صَاحِبِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، يَنْتَمِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.

 اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمَرْحُومَةَ بِوَعْدٍ صَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَدُنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَدُنِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ.. اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُخْبِرُنَا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 110-111].

لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَمَا قَاتَلُوا لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ، قَاتَلُوا الْأَشْبَاحَ، قَاتَلُوا الْمَرْضَى مِنْ أَصْحَابِ الْعَقِيدَةِ الْمُلْتَوِيَةِ الْمُهْتَزَّةِ، قَاتَلُوا الْأَمْشَاجَ، قَاتَلُوا الْمَحْسُوبِينَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ زُورًا وَبُهْتَانًا؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَلَمْ يَنْهَزِمُوا أَمَامَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ صَادِقٌ؛ لِأَنَّهُ وَعْدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}.

وَالضَّمِيرُ هَاهُنَا مَرْجِعُهُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمثُمَّ يَقُولُ بِعَقِبِهَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلَتْهَا: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}: ضُرًّا غَيْرَ بَلِيغٍ، ضُرًّا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيكُمْ شَيْئًا.

 هَذَا كَلَامُ اللهِ، هَذَا كَلَامُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}.

وَلَكِنْ مَا هُوَ مَرْجِعُ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي: {يَضُرُّوكُمْ

{يَضُرُّوكُمْ} أَيْ: يَضُرُّوا الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، يَضُرُّوا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ الْأَمِينِ.

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ}: مَا مَرْجِعُ ضَمِيرِ النَّصْبِ هَاهُنَا؟

لَنْ يَضُرُّوكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَحِّدُونَ الْمُلْتَزِمُونَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ.

 أَمَّا الْمُخَلِّطُونَ فَخَارِجُونَ عَنِ الْوَعْدِ، غَيْرُ دَاخِلِينَ فِيهِ، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}: ضُرًّا غَيْرَ بَلِيغٍ، ضُرًّا يَسِيرًا يَجْرَحُ فِيكُمْ، ثُمَّ لَا يَدَعُ بَعْدَ الْجُرْحِ أَثَرًا، ثُمَّ لَا يَتْرُكُ عَلَامَةً فِي الْقَلْبِ وَلَا عَلَى الْجِلْدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}: مَا دُمْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

وَوَعْدٌ آخَرُ بِإِثْرِ الْوَعْدِ يَأْتِي قَوِيًّا حَازِمًا حَاسِمًا قَاطِعًا مُنِيرًا مُشْرِقًا: {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}.

يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! لَوْ تَأَمَّلَ الْمَرْءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ تَأَمُّلٍ، وَتَمَلَّى فِيهَا يَسِيرًا قَلِيلًا؛ لَعَادَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَاغِرًا مُنِيبًا مُخْبِتًا.

وَعْدٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12].

أَهَذَا كَلَامٌ يَقْبَلُ الشَّكَّ؟!

أَهَذَا كَلَامٌ يَمْتَرِي فِيهِ أَهْلُ الْيَقِينِ؟!

أَهَذَا كَلَامٌ عَلَيْهِ تَعْقِيبٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحِجَا وَالنُّهَى وَالْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ، مِنْ أَصْحَابِ الْعَقْلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ؟!

لَا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْكَلَامِ الرَّبَّانِيِّ.. بِهَذَا الْوَعْدِ الْإِلَهِيِّ.. بِهَذَا الْقَوْلِ الْفَاصِلِ الْحَاسِمِ الْجَازِمِ.. لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ إِلَّا صَاحِبُ الْعَقْلِيَّةِ الْخُرَافِيَّةِ الْعَامِّيَّةِ، الَّذِي لَا يَبْحَثُ عَنْ دَلِيلٍ، وَلَا يُحَكِّمُ فِي الْأَمْرِ عَقْلًا.

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ؛ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُ لَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آمِرًا نَبِيَّهُ: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا}: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى كَثْرَةِ انْتِمَاءَاتِهِمْ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى تَبَايُنِ مَوَاقِعِهِمْ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِإِطْلَاقٍ لَا تَقْيِيدَ مَعَهُ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ}، ثُمَّ لَمْ يُعَقِّبْ بَعْدُ إِلَّا عَطْفًا بِـ(الْوَاوِ)، كَأَنَّمَا يَأْتِي بِالِاقْتِرَانِ مَعًا سَوِيًّا: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ}.

لَمْ يَقُلْ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ثُمَّ تُحْشَرُونَ.

{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا كَلَامُهُ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صَاحِبُ الْقُوَى وَالْقُدَرِ.

((الْعَقْلُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ))

إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَمْ تُهْمِلْ جَانِبَ الْعَقْلِ؛ حَيْثُ جَعَلَتِ الْعَقْلَ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ، فَكَرَّمَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْعَقْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].

وَأَسْقَطَ اللهُ التَّكْلِيفَ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ، وَالْغُلَامِ قَبْلَ الِاحْتِلَامِ.

وَلَقَدْ دَعَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْ خِلَالِ الْعَقْلِ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي -جَلَّ وَعَلَا-، وَعَلَى رُبُوبِيَّتِهِ -تَعَالَى- وَأُلُوهِيَّتِهِ.

وَلَقَدْ كَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْإِنْسَانَ لِأَمْرَيْنِ: الْهِدَايَةِ، وَالْعِلْمِ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَقْلِ؛ لِذَلِكَ فَالْمَجْنُونُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ: ((الْعَقْلُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ)) تَتَرَدَّدُ كَثِيرًا فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِثْلُ مَعْنَاهَا قَوْلُهُمْ: ((إِذَا أَخَذَ اللهُ مَا أَوْهَبَ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَ)) أَيْ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَقَدَ عَقْلَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَضُرُّهُ وَمَا يَنْفَعُهُ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يُؤَاخِذُهُ اللهُ عَلَى مَا كَسَبَتْ يَدَاهُ.

وَلِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ))، وَيَعْنِي بِالْقَلَمِ قَلَمَ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَالَّذِي يُسَجِّلُ عَلَى الْإِنْسَانِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا -يَعْنِي: الْمُؤَاخَذَةَ وَالْمُعَاتَبَةَ وَالذَّنْبَ وَالْعُقُوبَةَ-؛ مَرْفُوعَةٌ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ: ((عَنِ الطِّفْلِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ)).

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَحِفَاظًا عَلَى هَذَا الْعَقْلِ حَتَّى لَا يَنْحَرِفَ، وَحَتَّى لَا يَضِلَّ، وَحَتَّى يَبْقَى قَائِمًا بِوَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ أَجْلِهَا.. حَرَّمَ اللهُ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِهَذَا الْعَقْلِ، وَكُلَّ مَا يُعَطِّلُ فَاعِلِيَّةَ هَذَا الْعَقْلِ؛ فَحَرَّمَ -تَعَالَى- الْمُسْكِرَاتِ، وَالْمُخَدِّرَاتِ، وَكُلَّ مَادَّةٍ يُدْخِلُهَا الْإِنْسَانُ فِي جَوْفِهِ؛ مَطْعُومًا كَانَتْ أَوْ مَشْرُوبًا، حَرَّمَهَا اللهُ إِذَا كَانَتْ تُخَامِرُ الْعَقْلَ وَتَضُرُّ بِهِ، وَالْخَمْرُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((نَعْيُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ الْمُضَيِّعِينَ عُقُولَهُمْ))

وَقَدْ نَعَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالضَّالِّينَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ -وَهِيَ نِعْمَةُ الْعَقْلِ- فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَلَمْ يَسْتَخْدِمُوهَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا--.

وَوَرَدَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- تَنْعَى عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُقُولِهِمْ؛ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تُقَادُ، لَا فَرْقَ!

وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْآيَاتِ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَصِفُ الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]؛ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ وَالْبَهَائِمَ لَا عَقْلَ لَهَا، فَلَمْ تَهْتَدِ إِلَى مَا يَنْفَعُهَا.

قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

يَعِيبُ -تَعَالَى- عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ فِيكُمْ عَقْلٌ لَآثَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالْخَيْرِ أَوَّلًا.

وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

لِمَاذَا لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى عَظَمَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَإِلَى قُدْرَتِهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، فَيَهْتَدُوا بِعُقُولِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ رَبِّهِمْ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ -تَعَالَى-.

وَيَقُولُ -تَعَالَى- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان: 44].

لَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَعْقِلُونَ!

كَمَا قَالَ -تَعَالَى- فِي آيَةٍ أُخْرَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35].

((التَّفَكُّرُ بِالْعَقْلِ فِي آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ))

وَلَقَدْ بَثَّ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْكَوْنِ آيَاتٍ عَظِيمَةً..

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْبَحْرِ نَجِدُ آيَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةَ!

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى السَّمَاءِ نَجِدُ عَجِيبَ قُدْرَةِ اللهِ؛ كَيْفَ خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَبَثَّهَا فِي الْكَوْنِ لَا يَصْطَدِمُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ!

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَشْجَارِ..

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا..

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَدْرَكْنَا عَظَمَةَ الْخَالِقِ -جَلَّ وَعَلَا-!

فَتَبًّا لِلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ سَبِيلًا، وَتَعْمَى أَبْصَارُهُمْ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ!

 ((أَهَمِّيَّةُ الْعَقْلِ وَحُدُودُهُ فِي الْإِسْلَامِ))

الْعَقْلُ مَادَّةُ الْفَهْمِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَبِهِ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِلْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الْمُوصِلُ إِلَى صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.

وَالْعَقْلُ سَبَبٌ إِلَهِيٌّ، وَسِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ تَدْبِيرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يُودِعُهُ -تَعَالَى- مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَضَى لَهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي مِيعَادِهِ.

وَبِالْعَقْلِ اسْتَظْهَرَ الْمَرْءُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا غَابَ عَنْهُ، وَاسْتَطْلَعَ عَلَى دُرُوبٍ مِمَّا يُحْجَبُ عَنْهُ مِمَّا يُمْكِنُ عِرْفَانُهُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَى أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ بَيَانُهُ.

وَمَعَ هَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ لِلْعَقْلِ إِلَّا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْعَقْلَ حَكَمًا عَلَى الْغَيْبِ وَلَا عَلَى الشَّرْعِ، إِنَّمَا حَدَّ لِلْعَقْلِ حُدُودًا لَمْ يَجُزْ لَهُ تَجَاوُزُهَا؛ فَالْعَقْلُ وَسِيلَةٌ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ إِبْدَاعِ اللهِ فِي الْكَوْنِ، وَأَسْرَارِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِ الْآخِرَةِ وَالْغَيْبِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَاتِهِ -تَعَالَى- وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ؛ فَكُلُّ أُولَئِكَ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ أَنْ يَخُوضَ فِيهَا إِلَّا مِنْ خِلَالِ نُصُوصِ الْوَحْيِ.

فَمَنْ رَامَ مَعْرِفَةَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ بِعَقْلِهِ وَحَدْسِهِ تَخَبَّطَ وَاضْطَرَبَ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِطَائِلٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].

لِذَلِكَ أَلَّفَ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، لَهُ كِتَابٌ جَلِيلٌ عَظِيمٌ اسْمُهُ: ((دَرْءُ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ))، أَوْ: ((مُوَافَقَةُ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ)).

فَلَا نَجِدُ عَقْلًا عَلَى الْفِطْرَةِ يُخَالِفُ نَقْلًا صَحِيحًا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَدَعْوَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ هَذِهِ الْآيَةَ تُخَالِفُ الْعَقْلَ دَعْوَى مَرْفُوضَةٌ يُرَوِّجُ لَهَا أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَدَارِسِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرَادَتْ أَنْ تُعَطِّلَ شَرِيعَةَ اللهِ بِاسْمِ مُخَالَفَةِ الْعَقْلِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالرُّسُلُ جَاءَتْ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِهِ، وَلَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَالِفَ شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا أَنْ يُخْبِرَ بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَتَنْفِيهِ، لَكِنْ يُخْبِرُ بِمَا تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، فَيُخْبِرُ بِمُحَارَاتِ الْعُقُولِ، لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ.

لِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ فِي ((السُّنَّةِ)) -الَّتِي رَوَاهَا عَبْدُوسُ بْنُ مَالِكٍ الْعَطَّارُ- قَالَ: ((لَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِيَاسٌ، وَلَا يُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ، وَلَا تُدْرَكُ بِالْعُقُولِ)).

هَذَا قَوْلُهُ وَقَوْلُ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ النَّاسِ بِعُقُولِهِمْ، وَلَوْ أَدْرَكُوهُ بِعُقُولِهِمْ لَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْوَحْيِ وَعَنِ الرَّسُولِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي هَذَا، فَمَنْ عَرَفَ قَوْلَ الرَّسُولِ وَمُرَادَهُ كَانَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَلَيْسَ فِي الْمَعْقُولِ مَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلِيَّاتُ الصَّرِيحَةُ إِذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَرْتِيبُهَا صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ إِلَّا حَقًّا، لَا تُنَاقِضُ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ ﷺ )).

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ مَا عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَارِضَهُ الشَّرْعُ الْبَتَّةَ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ فِيمَا تَنَازَعَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ؛ وَجَدَ مَا خَالَفَتِ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهَا)).

أَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُ النَّقْلَ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

أَوَّلُهَا: أَنَّ مَا ظَنَّهُ مَعْقُولًا لَيْسَ مَعْقُولًا، بَلْ هُوَ شُبُهَاتٌ تُوهِمُ أَنَّهُ عَقْلٌ صَرِيحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

ثَانِيهَا: أَنَّ مَا ظَنَّهُ سَمْعًا لَيْسَ سَمْعًا صَحِيحًا مَقْبُولًا؛ إِمَّا لِعَدَمِ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ، أَوْ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ؛ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ يَأْتِي بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ إِدْرَاكِهِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَأْتِي بِمَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ امْتِنَاعَهُ.

إِنَّ الشَّرْعَ يَأْتِي بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ إِدْرَاكِهِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَأْتِي أَبَدًا بِمَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ امْتِنَاعَهُ.

((بَعْضُ التَّنْبِيهَاتِ حَوْلَ الْعَقْلِ))

هَاهُنَا بَعْضُ التَّنْبِيهَاتِ:

* أَوَّلًا: مَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

قَالَ الشَّيْخُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنَ الْخَطَأِ: قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ: إِنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الدِّمَاغُ، وَقَدْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ، فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، فَعَابَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، وَالْفِقْهُ هُوَ الْفَهْمُ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَقْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14])).

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)).

فَإِذَا آمَنَ الْقَلْبُ آمَنَتِ الْجَوَارِحُ؛ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ أَمِيرُ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَا كَانَ كَذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْفَهْمُ.

* وَمِنَ التَّنْبِيهَاتِ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى الْعَقْلَ يُعْتَبَرُ عَاقِلًا؛ فَقَدْ يَدَّعِيهِ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ، وَمَنْ هُوَ أَحْمَقُ، فَالْعَاقِلُ مَنْ تَرَفَّعَ عَنِ السَّفَاهَاتِ، وَالْمَعَاصِي، وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ كُلِّهَا، وَسَمَا بِنَفْسِهِ إِلَى الطَّاعَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

قَالَ ابْنُ حِبَّانَ -بَعْدَمَا ذَكَرَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْمُرُوءَةِ-: ((وَالْمُرُوءَةُ عِنْدِي خَصْلَتَانِ؛ اجْتِنَابُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْفَعَالِ، وَاسْتِعْمَالُ مَا يُحِبُّ اللهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْخِصَالِ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا هُوَ الْعَقْلُ نَفْسُهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَثَرِ: إِنَّ مُرُوءَةَ الْمَرْءِ عَقْلُهُ)).

* وَمِنَ التَّنْبِيهَاتِ -أَيْضًا-: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَكِيًّا وَلَيْسَ بِعَاقِلٍ؛ فَالذَّكَاءُ هُوَ سُرْعَةُ الْبَدِيهَةِ وَالْفَهْمِ، وَالْعَقْلُ مَا حَجَزَ الْإِنْسَانَ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي؛ فَقَدْ يَكُونُ ذَكِيًّا أَلْمَعِيًّا وَهُوَ أَحْمَقُ!

قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَكِيًّا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ؛ فَالذَّكَاءُ هُوَ سُرْعَةُ الْبَدِيهَةِ وَالْفَهْمِ، وَالْعَقْلُ مَا حَجَزَ الْإِنْسَانَ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي.

وَالْعَقْلُ نَوْعَانِ:

قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعَقْلُ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا، وَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَغَيْرِهَا، وَعَقْلُ الرُّشْدِ هُوَ أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ التَّصَرُّفَ.

وَسَمَّى إِحْسَانَ التَّصَرُّفِ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عَقَلَ تَصَرُّفَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ، قَالَ تَعَالَى: {كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73])).

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

أَفَلَا يَكُونُ لَكُمْ عُقُولٌ تُدْرِكُونَ بِهَا خَطَأَكُمْ وَضَلَالَكُمْ!

* وَمِنَ التَّنْبِيهَاتِ: أَنَّهُ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ الْقُوَّةَ وَالذَّكَاءَ وَالْعَقْلَ؛ وَلَكِنْ لَا يُوَفَّقُ لِلْهِدَايَةِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا كَثِيرَةٌ؛ فَأَصْحَابُ الْمُخْتَرَعَاتِ الْعَظِيمَةِ، كَالْكَهْرُبَاءِ، وَالطَّائِرَاتِ، وَالْقَنَابِلِ النَّوَوِيَّةِ، وَغَيْرِهَا؛ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَلَاحِدَةِ، وَالْوَثَنِيِّينَ.

بَلْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ قَوْمِ عَادٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ قُوَّةٍ وَذَكَاءٍ، بَنَوْا حَضَارَةً مِنْ أَحْسَنِ الْحَضَارَاتِ، فَقَالَ -تَعَالَى- عَنْهُمْ: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7-8].

لَكِنَّهُمْ لَمَّا جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ مَا نَفَعَتْهُمْ عُقُولُهُمْ، وَلَا نَفَعَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، بَلْ صَارَتْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].

فَالْعَقْلَ الْعَقْلَ..

((مَحَبَّةُ النَّاسِ الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْعَاقِلَ))

وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الرَّجُلَ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَرُجْحَانِ الْعَقْلِ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا؛ فَفِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَعَلُّقِ النَّاسِ بِهَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ جَمَادَاتٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُودِعُ أَمْوَالَهَا عِنْدَهُ، وَيَسْتَشِيرُونَهُ فِي أُمُورِهِمْ؛ لِرُجْحَانِ عَقْلِهِ، وَسَدَادِ رَأْيِهِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ النَّاسَ، وَيَتَعَبَّدُ فِي غَارِ حِرَاءٍ يَسْأَلُ رَبَّهُ الْهِدَايَةَ.

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ)).

قَالَ زَيْدٌ: ((فَوَاللَّهِ! لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ))؛ لِتَمَامِ عَقْلِهِ.

وَحُكِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَى تَحَدَّثُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: ((مَا أَقَلَّ عُقُولَ الْمُسْلِمِينَ، يَزْعُمُونَ أَنْ نَبِيَّهُمْ كَانَ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ؛ فَكَيْفَ يَصْلُحُ رَاعِي الْغَنَمِ لِلنُّبُوَّةِ)).

فَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ بَيْنِهِمْ: ((أَمَّا هُمْ -أَيِ: الْمُسْلِمُونَ- فَوَاللَّهِ! إِنَّهُمْ لَأَعْقَلُ مِنَّا؛ فَإِنَّ اللهَ بِحِكْمَتِهِ يَسْتَرْعِي النَّبِيَّ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ، فَإِذَا أَحْسَنَ رِعَايَتَهُ وَالْقِيَامَ عَلَيْهِ نَقَلَهُ مِنْهُ إِلَى رِعَايَةِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ؛ حِكْمَةً مِنَ اللهِ، وَتَدْرِيجًا لِعَبْدِهِ، وَلَكِنْ نَحْنُ -يَعْنِي: النَّصَارَى- جِئْنَا إِلَى مَوْلُودٍ خَرَجَ مِنِ امْرَأَةٍ يَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ، وَيَبُولُ، وَيَبْكِي، فَقُلْنَا: هَذَا إِلَهُنَا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ!)).

فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ عَنْهُ)).

((أُسُسُ التَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ النَّافِعِ))

عِبَادَ اللهِ! مَنْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَسُنَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ يَجِدْ أَنَّ هُنَاكَ أُسُسًا لِلتَّفْكِيرِ الْإِيجَابِيِّ أُودِعَتْ فِي نُصُوصِ هَذَا الْوَحْيِ الْمُبَارَكِ، أَهَمُّهَا:

* الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى-، وَالْخُضُوعُ لَهُ -تَعَالَى-، وَالِانْقِيَادُ لِأَحْكَامِهِ:

وَالْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَأَلَّفُ مِنَ اعْتِقَادٍ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٍ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٍ بِالْجَوَارِحِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةٌ عِنْدَهُمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ دُخُولُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فِي الْإِيمَانِ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ مِنَ الْإِيمَانِ.

وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا عَطْفُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}.

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.

فَهَذَا الْعَطْفُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ يَكُونُ غَالِبًا لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ وَفِي الْأَقْوَالِ أَيْضًا؛ بَلْ إِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِيمَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ.

قَالَ الْإِمَامُ الْحُمَيْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا عَمَلٌ وَقَوْلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلَّا بِسُنَّةٍ)).

وَسَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: ((الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ)).

مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَدْعُو إِلَى الزِّيَادَةِ مِنْ عُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ فَالْمُؤْمِنُ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ لَا يَزَالُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ يَزِيدُ إِيمَانُهُ وَرَغْبَتُهُ وَعَمَلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].

* وَمِنْ أُسُسِ التَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ: الْعِلْمُ النَّافِعُ؛ فَالتَّفْكِيرُ حَتَّى يَكُونَ فَاعِلًا لَا بُدَّ أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ التَّوْجِيهَ الْإِلَهِيَّ فِي مُفْتَتَحِ وَحْيِهِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١-٥].

اقْرَأْ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ، مُفْتَتِحًا وَمُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ عَلَى مَا تَتَحَمَّلُهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ، خَلَقَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ قِطْعَةِ دَمٍ جَامِدٍ مُتَعَلِّقٍ بِالرَّحِمِ، اقْرَأْ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، الَّذِي يَمُدُّكَ بِفُيُوضِ الْمَعَارِفِ فَوْقَ حُدُودِ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَلْفَاظُ الْمَكْتُوبَةُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ؛ كَالْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ لِلْأَشْيَاءِ عَنْ طَرِيقِ حَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْأُصُولِ الْفِكْرِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهَا.

وَيَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: ٩].

قُلْ -أَيُّهَا النَّاصِحُ الْمُرْشِدُ-: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟!

لَا يَسْتَوُونَ..

مَا يَتَذَكَّرُ هَذَا التَّذَكُّرَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ وَالسُّلُوكِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْوَاعِيَةِ الدَّرَّاكَةِ الَّتِي تَعْقِلُ الْمَعَارِفَ، وَتَعْقِلُ النَّفْسَ بِإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالِاسْتِجَابَةِ لِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.

وَفِي الْآيَةِ: مَدْحُ الْعِلْمِ، وَبَيَانُ رِفْعَةِ قَدْرِهِ، وَذَمُّ الْجَهْلِ، وَبَيَانُ نَقْصِهِ.

لَا يَسْتَوِي الَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ، كَمَا لَا يَسْتَوِي الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، وَالسَّمِيعُ وَالْأَصَمُّ، وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى.

الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

وَيُوَضِّحُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعِلْمَ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَا أَتَوْا إِلَّا لِنَشْرِ الْفِكْرِ الصَّحِيحِ النَّافِعِ فِي كُلِّ صُوَرِهِ؛ الْعَقَدِيَّةِ، وَالتَّعَبُّدِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَغَيْرِهَا، وَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَكَأَنَّمَا يَقُومُ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ الشَّرِيفَةِ وَالرِّسَالَةِ النَّبِيلَةِ، فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

((مُوَاجَهَةُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ لِلْأَفْكَارِ السَّلْبِيَّةِ))

لَقَدْ قَدَّمَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ مَنْهَجًا رَاسِخًا فِي صِنَاعَةِ التَّفْكِيرِ الْإِيجَابِيِّ النَّافِعِ، وَتَحْرِيرِ النَّفْسِ مِنَ الْفُتُورِ وَالِانْهِزَامِ الدَّاخِلِيِّ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِن الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: يُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ جُمْلَةً مِنَ الْأُمُورِ الْأَصِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَوَّلُ مَا يُطَالِعُنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَقِلُّ عَلَى حَسَبِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): يُرِيدُ بِالْقُوَّةِ هَاهُنَا: عَزِيمَةَ النَّفْسِ، وَقُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُصَرِّفَ الْجَسَدَ مَعَهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَيْسَ الْمُرَادُ -بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى- مَا يَتَعَلَّقُ بِقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَسَلَامَةِ الْجَسَدِ وَالصِّحَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يُخْفِقُ وَيَفْشَلُ فِيهِ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْقُوَّةَ وَالصِّحَّةَ، فَيُصَرِّفُهَا فِي ظُلْمِ النَّاسِ، وَفِعْلِ السَّيِّئَاتِ.

وَلَكِنْ ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)) يُرِيدُ عَزِيمَةَ النَّفْسِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَتَحُثُّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَجْعَلُ الْإِنْسَانَ عَابِدًا لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يُرِيدُهُ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ))، وَحَتَّى لَا يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ -الَّذِي عِنْدَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَعِثُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يُوَاظِبُ عَلَى طَلَبِ الْخَيْرَاتِ، وَيَقَعُ مِنْهُ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْمُلِمَّاتِ- حَتَّى لَا يَتَصَوَّرَ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ؛ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ))؛ أَيْ: فِي الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ خَيْرٌ، وَفِي الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ -أَيْضًا- خَيْرٌ.

وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا؛ إِنَّمَا تَعُودُ إِلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْإِتْيَانِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ؛ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالِانْبِعَاثِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَتَمَامِ الْمُلَازَمَةِ لِلطَّاعَاتِ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)).

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)): وَهَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَهِيَ أَسَاسٌ وَقَاعِدَةٌ لِلْمُسْلِمِ، لَوْ أَنَّهُ الْتَزَمَ بِهَا؛ لَأَصْلَحَ اللهُ حَالَهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ.

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)): لَا تُبَدِّدْ طَاقَتَكَ، وَلَا تُهْدِرْ وَقْتَكَ، وَلَا تُسْرِفْ فِي اسْتِعْمَالِ مَالِكَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ حَرِيصًا عَلَى مَا يَنْفَعُكَ.

وَالَّذِي يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِرَبِّهِ؛ بِأَسْمَائِهِ -تَعَالَى- وَصِفَاتِهِ، مُتَلَقِّيًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَعْصُومُ ﷺ بِالتَّصْدِيقِ، وَبِالتَّطْبِيقِ.

فَيَعْلَمُ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِيُحَوِّلَهُ إِلَى اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ.

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)): لِتَكُنْ اسْتِعَانَتُكَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، ((وَلَا تَعْجِزْ)).

إِذَنْ؛ مَعَنَا فِي الْفَاتِحَةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: لَا نَعْبُدُ إِلَّا أَنْتَ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: لَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ؛ فَمَدَارُ الدِّينِ عَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ، وَهُمَا: الْعِبَادَةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ)) يَعْنِي: إِنْ بَعَثْتَ فِي طَلَبِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ لَدَيْكَ: فِي طَلَبِ وَظِيفَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ، فَلَمْ يُقَدَّرْ -لَمْ يُقَدِّرْهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكَ- وَأَنْتَ لَمْ تُقَصِّرْ؛ وَلَكِنَّ اللهَ صَرَفَ عَنْكَ شَيْئًا قَدْ يَكُونُ شَرًّا عَلَيْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، وَحِكْمَةُ اللهِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.

((وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ)) يَعْنِي: مِمَّا تَكْرَهُ؛ ((فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا)).

هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ (لَوْ) الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّ (لَوْ) يُؤْتَى بِهَا أَحْيَانًا فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَقْدُورِ، كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا)).

((لَا تَقُلْ: لَوْ؛ فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))، تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ قَلِقًا مُشَوَّشًا.

((وَهَذَا مِنَ الْعَقْلِ!))

عَتَبْتُ عَلَى الدُّنْيَا لِرِفْعَةِ جَاهِلٍ      =     وَخَفْضٍ لِذِي عِلْمٍ فَقَالَتْ خُذِ الْعُذْرَا

بَنُو الْجَهْلِ أَبْنَائِي لِهَذَا رَفَعْتُهُمْ      =      وَأَهْلُ التُّقَى أَبْنَاءُ ضَرَّتِي الْأُخْرَى

أَأَتْرُكُ أَوْلَادِي يَمُوتُونَ ضَيْعَةً        =    وَأُرْضِعُ أَوْلَادًا لِضَرَّتِي الْأُخْرَى

(الْأُخْرَى) -الْأُولَى- فِي الْبَيْتِ الثَّانِي: هِيَ الْآخِرَةُ، وَأَمَّا (الْأُخْرَى) -الثَّانِيَةُ-: فَالْمَعْنِيُّ بِهَا ضَرَّتُهَا.

***

إِذَا مَا هَجَانِي نَاقِصٌ لَا أُجِيبُهُ      =       فَإِنِّيَ إِنْ جَاوَبْتُهُ فَلِيَ الذَّنْبُ

أُنَزِّهُ نَفْسِي عَنْ مُسَاوَاةِ سُفْلِهِ       =         وَمَنْ ذَا يَعَضُّ الْكَلْبَ إِنْ عَضَّهُ الْكَلْبُ

***

إِذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلَا تَجِبْهُ              =            فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ

فَإِنْ كَلَّمْتَهُ فَرَّجْتَ عَنْهُ                  =            وَإِنْ خَلَّيْتَهُ كَمَدًا يَمُوتُ

***

اصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُودِ             =               فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهُ

فَالنَّارُ تَأكُلُ بَعْضَهَا                    =                  إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ

وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْعَقْلِ.

((شُكْرُ اللهِ عَلَى نِعْمَةِ الْعَقْلِ))

فَاذْكُرْ مَا تَفَضَّلَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ عَلَيْكَ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ تَمَيَّزْتَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَاحْذَرْ أَنْ تُضَيِّعَهُ، أَوْ تُهْمِلَهُ، أَوْ أَنْ تَتَعَدَّى بِهِ حَدَّهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَاسْتَعْمَلَهَا فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ إِلَّا حَفِظَهَا اللهُ وَنَمَّاهَا، وَلَا أَهْمَلَهَا وَضَيَّعَهَا وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا إِلَّا سَلَبَهَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَقَاهَا.

فَهَذَا الْعَقْلُ الَّذِي مَنَحَكُمُ اللهُ إِيَّاهُ مِنْ أَفْضَلِ الْعَطَايَا؛ فَمَا بَالُكُمْ تَسْتَعْمِلُونَهُ فِي رُكُوبِ الدَّنَايَا!!

خَلَقَ اللهُ لَكُمُ الْعُقُولَ لِتَعْقِلُوا بِهَا مَا يَنْفَعُكُمْ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتَرْتَقُوا بِهَا إِلَى مَدَارِجِ الْفَلَاحِ بِهِمَمٍ قَوِيَّةٍ وَقُلُوبٍ وَاعِيَةٍ، فَقَاوِمُوا بِهَا مَا يَضُرُّكُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ؛ فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ، فَأَلْقَتْهُ فِي الْمَهَالِكِ الْوَبِيلَةِ.

فَكِّرُوا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، فَإِذَا تَوَضَّحَتْ فَاسْلُكُوهَا، وَزَاحِمُوا النُّفُوسَ الْعَالِيَةَ الْمُقْبِلَةَ عَلَى الْخَيْرِ وَنَافِسُوهَا، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونَ هِمَمُكُمْ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ فَتَخْسَرُوا عُقُولَكُمْ وَتُضَيِّعُوهَا.

طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ أَفْكَارُهُ حَائِمَةً حَوْلَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، دَائِرَةً حَوْلَ مَا يَنْفَعُ عِبَادَ اللهِ، الْإِخْلَاصُ للهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ شِعَارُهُ، وَالْإِحْسَانُ الْمُتَنَوِّعُ عَلَى الْخَلْقِ دِثَارُهُ!

طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ شَهْوَتُهُ تَبَعًا لِعَقْلِهِ، فَآثَرَ النَّافِعَ وَفَازَ بِالسَّعَادَتَيْنِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ، فَاخْتَارَ الرَّذَائِلَ فَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ!

مَنْ تَرَكَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ للهِ لَمْ يَجِدْ فَقْدَهُ، وَعَوَّضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِيمَانَ وَالثَّوَابَ، وَمَنْ تَبِعَ هَوَاهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا يُحِبُّهُ مَوْلَاهُ؛ ابْتَلَاهُ بِالْهُمُومِ وَأَنْوَاعِ الْأَوْصَابِ)).

 ((حَافِظُوا عَلَى عُقُولِكُمْ!))

فَعَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى عُقُولِنَا مِنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِيهَا؛ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْكِرَاتِ، وَالْمُخَدِّرَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ، وَأَيْضًا بِالْأَفْكَارِ السَّيِّئَةِ، بِالْأَفْكَارِ الَّتِي تُلَوِّثُ الْعُقُولَ، وَتُدَمِّرُ طَاقَاتِهَا، وَتَحْرِفُ عَنْ مَقَاصِدِهَا وَسُبُلِهَا.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ وَاعِينَ لِكُلِّ مَا نَتَلَقَّاهُ مِنْ خَبَرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَصِحَّتِهَا إِنْ كَانَ خَبَرًا مِمَّا يُتَلَقَّى عَنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ دَعْوَى فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ صِحَّةِ النَّقْلِ، إِنْ كُنْتَ تَنْقُلُ فَإِنَّا لَا نَقْبَلُ نَقْلَكَ إِلَّا إِذَا كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا، وَإِذَا كُنْتَ تَدَّعِي دَعْوَى مُجَرَّدَةً فَإِنَّنَا نُطَالِبُكَ بِالدَّلِيلِ، وَهَذَا هُوَ قَانُونُ الْعِلْمِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْمَجِيدِ: إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ، كَذَا كُلُّ خَبَرٍ.

فَحَافِظُوا عَلَى عُقُولِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-؛ فَنَحْنُ فِي عَصْرٍ اخْتَلَطَتْ فِيهِ الْأُمُورُ، وَانْبَهَمَتْ فِيهِ الْمَعَالِمُ، وَتَشَابَكَتْ فِيهِ الدُّرُوبُ، وَاخْتَلَطَ عَلَى النَّاسِ سُبُلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

وَالَّذِينَ يُحَاوِلُونَ حَرْفَ الْإِنْسَانِ عَنِ الْجَادَّةِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَفَاعِي كَثِيرُونَ، لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَالدُّنْيَا تَتَلَاطَمُ فِيهَا الْفِتَنُ تَلَاطُمَ الْأَمْوَاجِ فِي بِحَارِهَا؛ بَلْ فِي مُحِيطَاتِهَا.

فَحَافِظْ عَلَى عَقْلِكَ، وَكُنْ وَاعِيًا، وَلَا تُسَلِّمْ زِمَامَ هَذَا الْعَقْلِ لِكُلِّ نَاعِقٍ؛ فَمَا أَكْثَرَ الضُّلَّالَ الْمُضِلِّينَ!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

((التَّحْذِيرُ مِنَ التَّشْكِيكِ

وَنَشْرِ رُوحِ التَّشَاؤُمِ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّحْذِيرُ مِنَ التَّشْكِيكِ وَنَشْرِ رُوحِ التَّشَاؤُمِ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((ظَاهِرَةُ التَّشْكِيكِ وَالتَّشَاؤُمِ وَأَهَمِّيَّةُ الْيَقِينِ))

فَإِنَّ التَّشْكِيكَ وَالْحَيْرَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، وَنَشْرَ رُوحِ التَّشَاؤُمِ مِنْ أَخْطَرِ الظَّوَاهِرِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، فَتَقْضِي عَلَى الْأَمَلِ، وَتُحْبِطُ الْقُلُوبَ، وَتُوهِنُ الْعَزَائِمَ، وَتَصْنَعُ بِيئَةً نَفْسِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً مُلَبَّدَةً بِالسَّلْبِيَّةِ وَالِانْهِزَامِيَّةِ، تَعُوقُ التَّقَدُّمَ وَالتَّنْمِيَةَ، ((وَالْيَقِينُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَفِيهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ، وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -وَبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

وَخَصَّ -سُبْحَانَهُ- أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، فَقَالَ -وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ-: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20].

وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ٤-5].

وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].

فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَالْيَقِينُ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ)).

وَالْعَبْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى يَقِينٍ رَاسِخٍ يَثْبُتُ بِهِ إِيمَانُهُ حِينَمَا تَعْصِفُ بِهِ الشُّبُهَاتُ الْمُزَلْزِلَةُ، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِحَاجَةٍ إِلَى يَقِينٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْعَمَلِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.

وَهَكَذَا إِذَا لَاحَ الطَّمَعُ، وَتَطَلَّعَتِ النُّفُوسُ إِلَى مَطْلُوبَاتِهَا الَّتِي تَهْوَاهَا وَتَشْتَهِيهَا؛ فَإِنَّ الْيَقِينَ يَكُونُ كَابِحًا لَهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ بِإِذْنِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

((خُطُورَةُ التَّشَاؤُمِ وَعِلَاجُهُ))

التَّشَاؤُمُ رُوحٌ سَلْبِيَّةٌ تَتَسَلَّلُ إِلَى النُّفُوسِ، فَتُثْقِلُهَا بِالْهُمُومِ، وَتَغْرِسُ فِيهَا الْيَأْسَ، وَتَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يُرَكِّزُ عَلَى الْعَقَبَاتِ بَدَلَ الْفُرَصِ، وَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنْ هَذِهِ النَّظْرَةِ الْمُظْلِمَةِ لِلْحَيَاةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شُعُورٍ، بَلْ قَدْ تُؤَثِّرُ عَلَى السُّلُوكِ وَالْقَرَارِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

* وَمِنْ عِلَاجَاتِ التَّشَاؤُمِ، ((وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلسُّرُورِ وَزَوَالِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ: السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْهُمُومِ، وَفِي تَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلسُّرُورِ.

وَذَلِكَ بِنِسْيَانِ مَا مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَكَارِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا، وَمَعْرِفَتُهُ أَنَّ اشْتِغَالَ فِكْرِهِ فِيهَا مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالْمُحَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ حُمْقٌ وَجُنُونٌ، فَيُجَاهِدُ قَلْبَهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهَا.

وَكَذَلِكَ يُجَاهِدُ قَلْبَهُ عَنْ قَلَقِهِ لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ، مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَقْرٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَكَارِهِ الَّتِي يَتَخَيَّلُهَا فِي مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ مَجْهُولٌ مَا يَقَعَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَآمَالٍ وَآلَامٍ، وَأَنَّهَا بِيَدِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ بِيَدِ الْعِبَادِ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ خَيْرَاتِهَا، وَدَفْعِ مَضَرَّاتِهَا.

وَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّهُ إِذَا صَرَفَ فِكْرَهُ عَنْ قَلَقِهِ مِنْ أَجْلِ مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ، وَاتَّكَلَ عَلَى رَبِّهِ فِي إِصْلَاحِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَصَلُحَتْ أَحْوَالُهُ، وَزَالَ عَنْهُ هَمُّهُ وَقَلَقُهُ)).

فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لَوْ تَدَبَّرَهُ الْعَاقِلُ، أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَلَّا يَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ مَا يَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَقْرٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَكَارِهِ الَّتِي يَتَخَيَّلُهَا فِي مُسْتَقْبَلِ حَيَاتِهِ، بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ رَبِّهِ.

وَالْمَرْءُ إِذَا مَا فَكَّرَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ فَإِنَّهُ لَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا، الَّذِي يُسَافِرُ مِنْ أَجْلِ التِّجَارَةِ لَوْ أَنَّهُ جَعَلَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ مَخَاطِرَ السَّفَرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَافِرَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْلُوَ حَالٌ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْآلَامِ، وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ.

حَتَّى لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَذَلَ مَا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ وَالْجُهْدِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْنِيَ قَصْرًا مُنِيفًا، وَبَذَلَ مَا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ وَالْجُهْدِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَثِّثَهُ تَأْثِيثًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ يَكُونُ مِمَّا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتْرَفِينَ، لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَانِ؛ لَوَدَّ لَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ رَبِّنَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمَّا ذَكَرَ الْجَنَّةَ قَالَ: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] أَيْ: تَحَوُّلًا؛ فَالْجَنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي إِذَا دَخَلَهَا الْمَرْءُ لَا يَتَمَنَّى وَلَا يَوَدُّ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا، فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ أَيَّ مَنْزِلٍ تَنْزِلُهُ مَهْمَا بَلَغَتْ وَسَائِلُ الْمُتْعَةِ فِيهِ؛ فَإِنَّكَ مَهْمَا قَضَيْتَ فِيهِ مِنْ زَمَانٍ طَالَ أَوْ قَصُرَ فَإِنَّكَ تَوَدُّ التَّحَوُّلَ عَنْهُ، هَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ لَا اسْتِقْرَارَ لَكَ إِلَّا فِي دَارِ أَبِيكَ الْأُولَى الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا بِذَنْبِهِ ﷺ -أَعْنِي: آدَمَ ﷺ-.

* ((وَمِنْ أَنْفَعِ مَا يَكُونُ فِي مُلَاحَظَةِ مُسْتَقْبَلِ الْأُمُورِ: اسْتِعْمَالُ هَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بهِ: ((اللهم أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((اللهم رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)).

وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِفَاطِمَةَ: ((مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؛ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ؛ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((فَإِذَا لَهِجَ الْعَبْدُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ مُسْتَقْبَلِهِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ، وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، مَعَ اجْتِهَادِهِ فِيمَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ؛ حَقَّقَ اللهُ لَهُ مَا دَعَاهُ وَرَجَاهُ وَعَمِلَ لَهُ، وَانْقَلَبَ هَمُّهُ فَرَحًا وَسُرُورًا)).

* وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ: ((قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَعَدَمُ انْزِعَاجِهِ وَانْفِعَالِهِ لِلْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ الَّتِي تَجْلِبُهَا الْأَفْكَارُ السَّيِّئَةُ.

فَلْإِنْسَانَ مَتَى اسْتَسْلَمَ لِلْخَيَالَاتِ، وَانْفَعَلَ قَلْبُهُ لِلْمُؤَثِّرَاتِ؛ مِنَ الْخَوْفِ، مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَغَيْرِهَا، وَمِنَ الْغَضَبِ وَالتَّشَوُّشِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ، وَمِنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ الْمَكَارِهِ، وَزَوَالِ الْمَحَابِّ؛ أَوْقَعَهُ ذَلِكَ فِي الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، وَالْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالِانْهِيَارِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي لَهُ آثَارُهُ السَّيِّئَةُ الَّتِي قَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مَضَارَّهَا الْكَثِيرَةَ.

* وَمِنْ أَعْظَمِ عِلَاجَاتِ التَّشَاؤُمِ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ ((وَمَتَى اعْتَمَدَ الْقَلْبُ عَلَى اللهِ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلْأَوْهَامِ، وَلَا مَلَكَتْهُ الْخَيَالَاتُ السَّيِّئَةُ، وَوَثِقَ بِاللهِ، وَطَمَعَ فِي فَضْلِهِ؛ انْدَفَعَتْ عَنْهُ بِذَلِكَ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ، وَزَالَتْ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَسْقَامِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ، وَحَصَلَ لِلْقَلْبِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالِانْشِرَاحِ وَالسُّرُورِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ.

فَكَمْ مُلِئَتِ الْمُسْتَشْفَيَاتُ مِنْ مَرْضَى الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ!

وَكَمْ أَثَّرَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ؛ فَضْلًا عَنِ الضُّعَفَاءِ!

وَكَمْ أَدَّتْ إِلَى الْحُمْقِ وَالْجُنُونِ!

وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللهُ، وَوَفَّقَهُ لِجِهَادِ نَفْسِهِ؛ لِتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ الْمُقَوِّيَةِ لِلْقَلْبِ، الدَّافِعَةِ لِقَلَقِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

أَيْ: كَافِيهِ جَمِيعَ مَا يَهُمُّهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.

فَالْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللهِ قَوِيُّ الْقَلْبِ، لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُزْعِجُهُ الْحَوَادِثُ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ، وَمِنَ الْخَوَرِ وَالْخَوْفِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ بِالْكِفَايَةِ التَّامَّةِ، فَيَثِقُ بِاللهِ، وَيَطْمَئِنُّ لِوَعْدِهِ، فَيَزُولُ هَمُّهُ وَقَلَقُهُ، وَيَتَبَدَّلُ عُسْرُهُ يُسْرًا، وَتَرَحُهُ فَرَحًا، وَخَوْفُهُ أَمْنًا.

فَنَسْأَلُهُ -تَعَالَى- الْعَافِيَةَ، وَأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ الْقَلْبِ وَثَبَاتِهِ بِالتَّوَكُّلِ الْكَامِلِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللهُ لِأَهْلِهِ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَدَفْعِ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَضَيْرٍ)).

((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

الْفَأْلُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا تُعْطِيهِ دَافِعًا لِلْعَمَلِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْأَمَامِ، فَالْمُتَفَائِلُ عِنْدَهُ أَمَلٌ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِي مُسْتَقْبَلِهِ خَيْرًا مِنْهُ فِي يَوْمِهِ، وَبِأَنْ يُعَوِّضَ فِي مُسْتَقْبَلِهِ مَا فَاتَهُ فِي أَمْسِهِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ الْعَقَبَاتِ وَالْمِحَنَ، وَأَنْ يُحَقِّقَ الْمَصَالِحَ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي حَوْزَتِهِ الْيَوْمَ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ((الْفَأْلُ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزْمِ، وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ، وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ؛ فَقَدْ تَفَاءَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي غَزَوَاتِهِ وَحُرُوبِهِ)).

وَالْمُرَادُ بِالتَّفَاؤُلِ: انْشِرَاحُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَإِحْسَانُهُ الظَّنَّ، وَتَوَقُّعُهُ الْخَيْرَ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((التَّفَاؤُلُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَرِيضٌ فَيَتَفَاءَلُ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامٍ، فَيَسْمَعُ آخَرَ يَقُولُ: يَا سَالِمُ، أَوْ يَكُونُ طَلَبَ ضَالَّةً فَيَسْمَعُ آخَرَ يَقُولُ: يَا وَاجِدُ، فَيَقَعُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ مَرَضِهِ، وَأَنَّهُ يَجِدُ ضَالَّتَهُ)).

لَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَقُوَّةِ الْيَقِينِ فِي تَحْقِيقِ مَوْعُودِهِ وَنَيْلِ رَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْإِحْسَانِ فِي الْعَمَلِ، ((وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ، وَرَجَائِهِ لَهُ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ)).

«إِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَالْإِيَاسُ يُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ، وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ».

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ، وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.

وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ؛ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ، وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

«يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}؛ أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: {مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].

«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».

وَالنَّبِيُّ ﷺ حُوصِرَ، وَأُوذِيَ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ، وَمَاتَ لَهُ سِتَّةٌ مِنَ الْوَلَدِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَفَاءَلُ، وَيُعْجِبُهُ الِاسْمُ الْحَسَنُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ)).

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَيُعْجِبُهُ الِاسْمُ الْحَسَنُ)).

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَاهُ -جَدَّ سَعِيدٍ- قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((مَا اسْمُكَ؟)).

قَالَ: ((اسْمِي حَزْنٌ)) -وَالْحُزُونَةُ ضِدُّ السُّهُولَةِ-.

قَالَ: ((بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ)).

قَالَ: ((مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي)).

قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: ((فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ)).

فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَمَا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لِمُفَاوَضَةِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ: أَنَّ الْفَأْلَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ، وَأَمَّا الطِّيَرَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي السُّوءِ؛ فَلِذَلِكَ كُرِهَتْ)).

قَالَ الْحَلِيمِيُّ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ؛ لِأَنَّ التَّشَاؤُمَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّفَاؤُلَ حُسْنُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ)).

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِنَّمَا أَحَبَّ النَّبِيُّ ﷺ الْفَأْلَ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَجَاءَ الْخَيْرِ وَالْفَائِدَةِ، وَرَجَاءُ الْخَيْرِ أَحْسَنُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْيَأْسِ وَقَطْعِ الرَّجَاءِ عَنِ الْخَيْرِ)).

التَّفَاؤُلُ حُسْنُ ظَنٍّ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ إِلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى-.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)).

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ)).

((الْفَرَجُ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ))

«إِنَّ الْفَرَجَ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاكَمَتِ الشَّدَائِدُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَضَاقَ الْعَبْدُ ذَرْعًا بِحَمْلِهَا؛ فَرَّجَهَا فَارِجُ الْهَمِّ، كَاشِفُ الْغَمِّ، مُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهَذِهِ عَوَائِدُهُ الْجَمِيلَةُ؛ خُصُوصًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ لِيَكُونَ لِذَلِكَ الْوَقْعُ الْأَكْبَرُ، وَالْمَحَلُّ الْأَعْظَمُ، وَلِيَجْعَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ مَا يُوَازِنُ وَيَرْجَحُ بِمَا جَرَى عَلَى الْعَبْدِ بِلَا نِسْبَةٍ».

«فَسُبْحَانَ مَنْ يُنْعِمُ بِبَلَائِهِ، وَيَلْطُفُ بِأَصْفِيَائِهِ، وَهَذَا عُنْوَانُ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَةُ السَّعَادَةِ».

عِبَادَ اللهِ! لَيْسَ لَنَا سِوَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّنَا.

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُحَسِّنَ بِهِ -تَعَالَى- ظُنُونَنَا، وَأَنْ يُعِيذَنَا أَجْمَعِينَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: الْعُقُولُ الْمُحَمَّدِّيَّةُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان