((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رِسَالَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ))
*تَمْهِيدٌ:
فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِأَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، بَلْ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَعْتَقِدُوا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ.
فَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا.
فَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا، وَالْمُنَافِقُونَ قَالُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا بِقُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ: هِيَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَقِّقُ التَّوْحِيدَ وَيُعَلِّمُهُ أُمَّتَهُ))، وَيَحْرِصُ عَلَى بَيَانِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فِي الْحَرْبِ وَفِي السِّلْمِ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُ التَّوْحِيدَ وَيُحَذِّرُ مِنَ الشِّرْكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ.
((وَكُلُّ هَذَا لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا إلَّا بِهِ، وَيَغْفِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِصَاحِبِهِ وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَرَكَهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ وَأَعْظَمَهُ، فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) » .
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ: أَنْ أَرْسَلَ لَهُمُ الرُّسُلَ، بَدْءًا بِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَانْتِهَاءً بِمُحَمَّدٍ ﷺ، أَرْسَلَهُمْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالنَّـهْيِ عَنِ الشِّرْكِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
عِبَادَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ.
كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ.
تَضَمَّنَتْ نَفْيَ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتَ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ فَمَنْ عَبَدَ اللهَ وَلَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْجَهْلَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ!
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]؛ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].
أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
وَالرُّسُلُ: هُمُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللهِ، هُمُ الْقَادَةُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَجِنَانِهِ؛ فَبِهِمْ يُعْرَفُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُعْرَفُ مَرْضَاتُهُ وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرُّسُلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلمَ-.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ هَذَا الرَّكْبَ الْمُبَارَكَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ؛ مِنْ أَجْلِ هِدَايَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَمَّا حَادَتْ عَنِ الطَّرِيقِ وَضَلَّتْ، وَدَخَلَ الشِّرْكُ عَلَيْهَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَأَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نُوحًا وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَدَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ: عِبَادَةُ اللهِ، وَاجْتِنَابُ الطَّاغُوتِ.
وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَّمٍد -صَلى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ-؛ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مَعْنَى الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ الْعَبْدُ بِهِ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ)).
فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا؛ يُحَذِّرُهُمْ، وَيُنْذِرُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِه -جَلَّ وَعَلَا-.
فَكُلُّ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.
وَالثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالْكُفْرُ بِهِ.
وَالطَّاغُوتُ يَشْمَلُ: كُلَّ مَنْ عُبِدَ بِبَاطِلٍ.
إِذَنْ؛ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ دَاعِينَ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْكُفْرِ بِكُلِّ مَنْ وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَجَاؤُوا جَمِيعًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.
فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ: نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتُهَا للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ.
((خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ))
إِنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْأَسَاسُ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَضِدُّهُ: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
{وَمَا خَلَقْتُ}؛ أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.
{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}؛ أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا}؛ أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}؛ الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا، وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.
الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].
بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.
وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.
التَّوْحِيدُ شَرْطُ صِحَّةٍ لِكُلِّ أَمْرٍ يُتَعَبَّدُ بِهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَالتَّوْحِيدُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ؛ فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَذِكْرٍ، وَاسْتِغْفَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا يَقْبَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا وَحَّدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَأَفْرَدَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ قَرَنَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْأَمْرِ بِتَرْكِ الشِّرْكِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
فَلَا يَقْبَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا إِلَّا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.
((فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُسَمَّى صَلَاةً إِلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ فَسَدَتْ، كَالْحَدَثِ إِذَا دَخَلَ فِي الطَّهَارَةِ)) .
فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ يَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ ظُلْمًا بَيِّنًا إِذَا أَهْمَلَ مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ، وَإِذَا عَرَفَ التَّوْحِيدَ فَلَمْ يُحَقِّقْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ.
وَالْعِبَادَةُ: هِيَ غَايَةُ الذُّلِّ مَعَ غَايَةِ الْحُبِّ؛ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- :
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ *** مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ *** مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ
وَمَدَارُهُ بِالْأَمْرِ أَمْرِ رَسُولِهِ *** لَا بِالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .
وَالْعِبَادَةُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى هِيَ مَا تَوَفَّرَ فِيهَا شَرْطَانِ:
*الْإِخْلَاصُ للهِ؛ حَيْثُ لَا شِرْكَ فِيهَا.
*وَالْمُتَابَعَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ لَا بِدْعَةَ فِيهَا.
فَإِذَا اخْتَلَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ الْإِخْلَاصُ-، فَدَخَلَ الشِّرْكُ الْعِبَادَةَ؛ كَانَ مَنْ أَتَى بِذَلِكَ غَيْرَ عَابِدٍ للهِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطُ الْمُتَابَعَةِ؛ صَارَتِ الْعِبَادَةُ ابْتِدَاعًا فِي دِينِ اللهِ.
وَالشِّرْكُ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يُفْسِدُ الطَّهَارَةَ؛ فَأَيُّ عِبَادَةٍ خَالَطَهَا شِرْكٌ أَوْ دَاخَلَهَا فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا خَالَطَهَا أَوْ بَاشَرَهَا الْحَدَثُ فسَدَتْ.
((مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هِيَ الْإِسْلَامُ وَدَعْوَةُ التَّوْحِيدِ))
((إِنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّنَا وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَخْلَاقٍ وَأَعْمَالٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ، فَقَدْ آتَاهُ اللهُ رُشْدَهُ وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ مُنْذُ كَانَ صَغِيرًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ يَقِينًا وَعِلْمًا وَقُوَّةً فِي دِينِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعِبَادِ)) .
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الْمُمْتَحَنَةُ: 4].
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ تَقْتَدُونَ بِهَا فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا بَرِيئُونَ مِنْكُمْ وَمِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، كَفَرْنَا بِأَنَّنَا مِنْكُمْ وَبِأَنَّكُمْ مِنَّا، فَلَا وِلَايَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
وَكَفَرْنَا بِأَنَّ لَكُمْ حَقَّ الْقَرَابَةِ أَوِ الْمُوَاطَنَةِ، وَكَفَرْنَا بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَلَا نُبَالِي بِكُمْ وَلَا بِآلِهَتِكُمْ، وَظَهَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَشِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ، فَنَحْنُ أَعْدَاؤُكُمْ وَأَنْتُمْ أَعْدَاءٌ لَنَا.
وَنَحْنُ نُبْغِضُكُمْ بُغْضًا لَا يَزُولُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْتُمْ تُبْغِضُونَنَا لِأَنَّنَا نُقَاوِمُ شِرْكَكُمْ وَنُحَطِّمُ أَصْنَامَكُمْ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا بِتَوْفِيقِكَ لَنَا وَهِدَايَتِنَا مُخْلِصَيْنِ مُطِيعَيْنِ خَاضِعَيْنِ لَكَ، رَبَّنَا وَاجْعَلْ بَعْضَ أَوْلَادِنَا بِحِكْمَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ جَمَاعَةً خَاضِعَةً مُنْقَادَةً لَكَ.
رَبَّنَا وَعَلِّمْنَا وَبَصِّرْنَا شَرَائِعَ دِينِنَا وَأَعْمَالَ حَجِّنَا وَالْأَمَاكِنَ الْخَاصَّةَ الَّتِي جَعَلْتَهَا لِعِبَادَتِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنَّا بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَتَقَبَّلْ مِنَّا تَوْبَتَنَا وَارْحَمْنَا إِنَّكَ أَنْتَ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِكَ الدَّائِمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ.
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِنَا حِينَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَاعِيًا رَبَّهُ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ؛ رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ، يَأْمَنُ كُلُّ مَنْ فِيهَا، وَأَبْعِدْنِي وَأَبْعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أَيِ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!)).
إِذَا كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ، وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.
وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 120-123].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِمَامًا فِي الْخَيْرِ، يُؤْتَمٌّ بِهِ، مُطِيعًا للهِ، خَاضِعًا لَهُ، مُلَازِمًا عِبَادَتَهُ، مَائِلًا عَنْ كُلِّ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، مُوَحِّدًا للهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ أَرْبَابًا وَلَا آلَهَةً وَلَا أَسْبَابًا مُنْذُ نَشْأَتِهِ.
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ، اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، شَاكِرًا للهِ عَلَى أَنْعُمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ اللهُ لِنُبُوَّتِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِخُلَّتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمِ.
{وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: وَآتَيْنَاهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَطَايَا حَسَنَةً؛ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَالْخُلَّةِ، وَلِسَانِ الصِّدْقِ، وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالْقَبُولِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: ثُمَّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَعَصْرِهِ وَبَعْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَتْبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنِ اتَّبِعْ دِينَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، مَائِلًا عَنْ كُلِّ الْمِلَلِ الْبَاطِلَةِ، مُسْتَقِيمًا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي هَدَيْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُخْلَصِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161-163].
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمِ، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا الْتِوَاءَ، حَالَةَ كَوْنِهِ دِينًا ذَا مَبَادِئَ عَظِيمَةٍ تُقَوَّمُ بِهَا الْعَقَائِدُ وَأَنْوَاعُ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهَدَانِي دِينَ إِبْرَاهِيمَ فِي أُصُولِهِ وَعَقَائِدِهِ وَكُلِّيَّاتِهِ السُّلُوكِيَّةِ حَالَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَائِلًا عَنْ كُلِّ عِوَجٍ فِي مِلَلِ النَّاسِ وَمَذَاهِبِهِمْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ.
وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى دِينٍ.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}: قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ صَلَاتِي وَعِبَادَتِي وَتَقَرُّبِي إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وَحَيَاتِي وَمَوْتِي كُلَّهَا خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، الْخَالِقِ لِكُلِّ الْمَوْجُودَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْمُمِدِّ لَهَا دَوَامًا بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ الْمَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي إِلَهِيَّتِهِ.
فَبِهَذَا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ إِسْلَامَهُمْ، وَأَوَّلُ الْمُنَفِّذِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي سُلُوكِي النَّفْسِي وَالْجَسَدِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
((الْحِكْمَةُ مِنَ الْحَجِّ وَجُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِهِ وَأَهْدَافِهِ))
*تَمْهِيدٌ:
الْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).
وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ((مُسْنَدِ الْفَارُوقِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا)).
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَرُكْنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ: مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ، مَالِكًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاجِدًا أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَرْأَةِ أَحَدُ مَحَارِمِهَا.
((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ))
*لِلْحَجِّ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ:
1*أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي:
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ.
قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟))
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟))
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
2*وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ أَيْضًا: أَنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3*وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ: أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَفْضْلُهَا:
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟
قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
4*وَمِنْ فَوَاضِلِ الْحَجِّ وَفَضَائِلِهِ: الْفَوْزُ بِأَعْلَى الْمَطَالِبِ وَهِيَ الْجَنَّةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((بَعْضُ أَهْدَافِ الْحَجِّ))
لِلْحَجِّ أَهْدَافُهُ الْعَظِيمَةُ؛ مِنْهَا:
1*الْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
2*وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّ فِيهِ ارْتِبَاطًا بِرُوحِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الدِّيَارَ الْمُقَدَّسَةَ هِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَكُلَّمَا ارْتْبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَلَّغُوا شَرْعَهُ.
3*وَفِي الْحَجِّ إِعْلَانٌ عَمَلِيٌّ لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.
4*وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.
((الْحِكْمَةُ مِنْ الْحَجِّ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
إِنَّ الْحَجَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَبَيَانِ أَسْرَارِ فَرْضِيَّتِهَا:
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيَّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَمَّا الْحَجُّ فَشَأْنٌ آخَرُ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْحُنَفَاءُ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْمَحَبَّةِ بِسَهْمٍ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الْعِبَارَةُ، وَهُوَ خَاصَّةُ هَذَا الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَمَعُونَةُ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ قَوْلِ الْعَبْدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَإِنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ.
وَهُوَ اسْتِزَارَةُ الْمَحْبُوبِ لِأَحِبَّائِهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ، وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَشِعَارُهُمْ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) إِجَابَةُ مُحِبٍّ لِدَعْوَةِ حَبِيبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ مَوْقِعٌ عِنْدَ اللهِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْعَبْدُ مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَبِّهِ وَأَحْظَى عِنْدَهُ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ.
وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْحَجِّ مِمَّا شَهِدَتْ بِحُسْنِهِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَعَلِمَتْ أَنَّ الَّذِي شَرَعَ هَذِهِ لَا حِكْمَةَ فَوْقَ حِكْمَتِهِ)).
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((إِنَّ الْحَاجَّ يَتَذَكَّرُ بِتَحْصِيلِ الزَّادِ زَادَ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ فَاسِدَةً بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَلَا تَصْحَبُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَفْسُدُ فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ السَّفَرِ، فَيَبْقَى صَاحِبُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ مُتَحَيِّرًا.
وَإِذَا فَارَقَ الْحَاجُّ وَطَنَهُ، وَدَخَلَ الْبَادِيَةَ، وَشَهِدَ تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَالصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ إِلَى مِيقَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَتَذَكَّرَ وَقْتَ إِحْرَامِهِ وَتَجَرُّدِهِ مِنْ ثِيَابِهِ أَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى رَبَّهُ بِزِيٍّ مُخَالِفٍ لِزِيِّ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ مُتَجَرِّدًا مِنَ الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا وَغُرُورِهَا، مَا مَعَهُ إِلَّا عَمَلُهُ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَإِذَا لَبَّى فَلْيَسْتَحْضِرْ بِتَلْبِيَتِهِ إِجَابَةَ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وَلْيَرْجُ الْقَبُولَ، وَلْيَخْشَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ، وَلْيَتَذَكَّرْ خَيْرَ مَنْ لَبَّى وَأَجَابَ النِّدَاءَ، مُحَمَّدًا ﷺ وَصَحَابَتَهُ الْكِرَامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَلْيَعْزِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاقْتِفَاءِ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ.
وَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَرَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ عِنْدَ اللهِ، مُعَظِّمًا رَجَاءَهُ فِي رَبِّهِ، مُحْسِنًا ظَنَّهُ بِهِ.
فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ اسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَظُمَتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، وَازْدَادَ لَهُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا، وَشَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَبْلِيغِهِ رُتْبَةَ الْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، وَلْيَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الطَّوَافِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَاةٌ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنًى، فَيَتَذَكَّرْ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13].
وَإِذَا جَاءَ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ فَاقْصِدْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ، وَإِظْهَارَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعَ الطَّرِيقَةِ، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَرَغَبَاتِهَا)).
((الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَالْحَجُّ وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ -أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ- لِعِبَادَتِهِمْ وَنُسُكِهِمْ، يَطُوفُونَ بِهِ، وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَيَعْتَكِفُونَ عِنْدَهُ، {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}؛ يَعْنِي: الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، الَّذِي يَزْعُمُ كُلٌّ مِنْ طَائِفَتَيِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ وَمَنْهَجِهِ، وَلَا يَحُجُّونَ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ عَنْ أَمْرِ اللهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَادَى النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مُبَارَكًا}؛ أَيْ: وُضِعَ مُبَارَكًا، {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يُخْبِرُ تَعَالَى بِعَظَمَةِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ فِي الْأَرْضِ لِعِبَادَتِهِ، وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ.
وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، وَتَنَوُّعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ لِلْعَالَمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَضْلًا غَزِيرًا.
وَأَنَّ فِيهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَتَنَقُّلَاتِهِ فِي الْحَجِّ، وَمِنْ بَعْدِهِ تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ سَيِّدِ الرُّسُلِ وَإِمَامِهِمْ.
وَفِيهِ الْأَمْنُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قَدَرًا، مُؤْمِنًا شَرْعًا ودِينًا, فَلَمَّا احْتَوَى عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هَذِهِ مُجْمَلَاتُهَا، وَتَكْثُرُ تَفْصِيلَاتُهَا؛ أَوْجَبَ اللهُ حَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَطِيعِينَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِأَيِّ مَرْكُوبٍ يُنَاسِبُهُ، وَزَادٍ يَتَزَوَّدُهُ، وَلِهَذَا أَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي يُمْكِنُ تَطْبِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَرْكُوبَاتِ الْحَادِثَةِ، وَالَّتِي سَتَحْدُثُ.
وَهَذَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، حَيْثُ كَانَتْ أَحْكَامُهُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاحُ التَّامِّ بِدُونِهَا، فَمَنْ أَذْعَنَ لِذَلِكَ وَقامَ بِهِ؛ فَهُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يَلْتَزِمْ حَجَّ بَيْتِهِ؛ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الدِّينِ، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ})).
*أَمَرَ اللهُ الْخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
ضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِنَا- بِأَنَّكَ تُشَاهِدُ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ حِينَ يَرْفَعَانِ أُسُسَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى الْأُسُسِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا قَبْلَ انْدِثَارِهَا.
وَمَعَ قِيَامِهِمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَانَا يَدْعُوَانِ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا تَقَبَّلْ طَاعَتَنَا إِيَّاكَ، وَعِبَادَتَنَا لَكَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ السَّمِيعُ دَوَامًا لِدُعَائِنَا، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِنَا.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 26-29].
((ذَكَرَ تَعَالَى عَظَمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجَلَالَتَهُ، وَعَظَمَةَ بَانِيه، وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}؛ أَيْ: هَيَّأْنَاهُ لَهُ وَأَنْزَلْنَاهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ قِسْمًا مِنْ ذُريَّتِهِ مِنْ سُكَّانِهِ، وَأَمَرَهُ اللهُ بِبُنْيَانِهِ، فَبَنَاهُ عَلَى تَقْوَى اللهِ, وَأَسَّسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَبَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيل، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، بِأَنْ يُخْلِصَ للهِ أَعْمَالَهُ، وَيَبْنِيَهُ عَلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}؛ أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ، وَأَضَافَهُ الرَّحْمَنُ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَلِتَعْظُمَ مَحَبَّتُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَتُنْصَبُّ إِلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلِيَكُونَ أَعْظَمَ لِتَطْهِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ بَيْتَ الرَّبِّ لِلطَّائِفِينَ بِهِ وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ, الْمُقِيمِينَ لِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}؛ أَيِ: الْمُصَلِّينَ، أَيْ: طَهِّرْهُ لِهَؤَلَاءِ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ هَمُّهُمْ طَاعَةُ مَوْلَاهُمْ وَخِدْمَتُهُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ عِنْدَ بَيْتِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الْحَقُّ وَلَهُمُ الْإِكْرَامُ، وَمِنْ إِكْرَامِهِمْ تَطْهِيرُ الْبَيْتِ مِنْ أَجْلِهِمْ.
وَيَدْخُلُ فِي تَطْهِيرِهِ: تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْوَاتِ اللَّاغِيَةِ وَالْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، وَقَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ الِاعْتِكَافَ لِاخْتِصَاصِهِ بِجِنْسِ الْمَسَاجِدِ.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؛ أَيْ: أَعْلِمْهُم بِهِ وَادْعُهُمْ إِلَيْهِ، وَبَلِّغْ دَانِيهُمْ وَقَاصِيهُمْ فَرْضَهُ وَفَضِيلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ أَتَوْكَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا.
{رِجَالًا}؛ أَيْ: مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الشَّوْقِ.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}؛ أَيْ: نَاقَةٍ ضَامِرٍ تَقْطَعُ الْمَهَامِهَ وَالْمَفَاوِزَ، وَتَواصِلُ السَّيْرَ حَتَّى تَأْتِيَ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ.
{مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}؛ أَيْ: مِنْ كُلِّ بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ فَعَلَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَبْدَيَا فِي ذَلِكَ وَأَعَادَا، وَقَدْ حَصَلَ مَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ أَتَاهُ النَّاسُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ فَوَائِدَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مُرَغِّبًا فِيهِ؛ فَقَالَ:
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}؛ أَيْ: لِيَنَالُوا بَبَيْتِ اللهِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً مِنَ الْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِ، وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةً مِنَ التَّكَسُّبِ وَحُصُولِ الْأَرْبَاحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ كُلٌّ يَعْرِفُهُ.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، وَهَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ أَيْ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحْتُمُوهَا {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}؛ أَيْ: شَدِيدَ الْفَقْرِ.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}؛ أَيْ: يَقْضُوا نُسُكَهُمْ، وَيُزِيلُوا الْوَسَخَ وَالْأَذَى الَّذِي لَحِقَهُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} الَّتِي أَوْجَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ أَيِ: الْقَدِيمِ أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الْمُعْتَقِ مِنْ تَسَلُّطِ الْجَبَابِرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالطَّوَافِ خُصُوصًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَنَاسِكِ عُمُومًا لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ وَمَا قَبْلَهُ وَسَائِلُ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- لِفَائِدَةٍ أُخْرَى؛ وَهِيَ أَنَّ الطَّوَافَ مَشْرُوعٌ كُلَّ وَقْتٍ, وَسَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا لِنُسُكٍ أَمْ مُسَتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30-31].
{ذٰلِكَ}؛ أَيْ: ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنْ تِلْكُمُ الْأَحْكَامِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ وَإِجْلَالِهَا وَتَكْرِيمِهَا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ حُرُمُاتِ اللهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ للهِ، الْمُقَرِّبَةِ إِلَيْهِ، الَّتِي مَنْ عَظَّمَها وَأَجَلَّهَا أَثَابَهُ اللهُ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَكَانَتْ خَيْرًا لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
وَحُرُمَاتُ اللهِ: كُلُّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ وَأَمَرَ تَعَالَى بِاحْتِرَامِهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ كَالْمَنَاسِكِ كُلِّهَا، وَكَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، وَكَالهَدَايَا، وَكَالْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ الْعِبَادَ بِالْقِيَامِ بِهَا، فَتَعْظِيمُهَا إِجْلَالًا بِالْقَلْبِ، وَمَحَبَّتُهَا وَتَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ وَلَا مُتَكَاسِلٍ وَلَا مُتَثَاقِلٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مِنَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ بِمَا أَحَلَّهُ لِعِبَادِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ مِنْ بَقَرٍ وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ، وَشَرَعَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ، فَعَظُمَتْ مِنَّتُهُ فِيهَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
{إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُهُ، مِنْ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} الْآيَةَ، وَلَكِنَّ الَّذِي مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ؛ تَزْكِيَةً لَهُمْ وَتَطْهِيرًا مِنَ الشِّرْكِ بِهِ وَقَوُلِ الزُّورِ، وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ}؛ أَيْ: الْخَبَثَ الْقَذِرَ.
{مِنَ الْأَوْثَانِ}؛ أَيِ: الْأَنْدَادِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا آلِهَةً مَعَ اللهِ، فَإِنَّهَا أَكْبَرُ أَنْوَاعِ الرِّجْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ {مِن} هُنَا لَيْسَتْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ الرِّجْسَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَيَكُونُ مَنْهيًّا عَنْهَا عُمُومًا، وَعَنِ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ بَعْضُهَا خُصُوصًا.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}؛ أَيْ: جَمِيعَ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا مِنْ قَوْلِ الزُّورِ الَّذِي هُوَ الْكَذِبُ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الزُّورِ، فَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالرِّجْسِ وَقَوْلِ الزُّورِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}؛ أَيْ: مُقْبِلِينَ عَلَى اللهِ وَعَلَى عِبَادَتِهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فَمَثَلُهُ {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أَيْ: سَقَطَ مِنْهَا، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بِسُرْعَةٍ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}؛ أَيْ: بَعِيدٍ.
كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ، فَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مَحْفُوظَةٍ مَرْفُوعَةٍ, وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ تَخْطَفَهُ الطَّيْرُ فَتُقَطِّعَهُ أَعْضَاءً، فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ؛ إِذَا تَرَكَ الِاعْتِصَامَ بِالْإِيمَانِ تَخَطَّفَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَزَّقُوهُ، وَأَذْهَبُوا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ, وَإِمَّا أَنْ تَهْوِيَ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)).
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 32-33].
{ذٰلِكَ}؛ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وَالْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: أَعلَامُ الدِّينِ الظَّاهِرَةُ، وَمِنْهَا: الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158].
وَمِنْهَا: الْهَدايَا وَالْقُرْبَانُ لِلْبَيْتِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى تَعْظِيمِهَا: إِجْلَالُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَتَكْمِيلُهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا يَقْدِر عَلَيْهِ الْعَبْدُ.
وَمِنْهَا: الْهَدَايَا، فَتَعْظِيمُهَا بِاسْتِحْسَانِهَا وَاسْتِسْمَانِهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُكَمَّلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللهِ صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، فَالْمُعَظِّمُ لَهَا يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ وَعَلى صِحَّةِ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ.
{لَكُمْ فِيهَا}؛ أَيْ: فِي الْهَدَايَا {مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}، هَذَا فِي الْهَدايَا الْمَسُوقَةِ مِنَ الْبُدْنِ وَنَحْوِهَا، يَنْتَفِعُ بِهَا أَرْبَابُهَا بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّهَا.
{إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} مُقَدَّرٍ مُوَقَّتٍ, وَهُوَ ذَبْحُهَا إِذَا وَصَلَتْ {مَحِلُّهَا} وَهُوَ {الْبَيْتُ الْعَتِيق}؛ أَيِ: الْحَرَمُ كُلُّهُ ((مِنًى)) وَغَيْرُهَا، فَإِذَا ذُبِحَتْ أَكَلُوا مِنْهَا وَأَهْدَوا، وَأَطْعَمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.
((فَهْمُ رَجُلٍ حَدِيثِ عَهْدِ بِإِسْلَامٍ لِلْغَايَةِ مِنَ الْحَجِّ))
كَانَ (مُحَمَّد أَسَد) -رَحِمَهُ اللهُ- نِمْسَاويًّا مِنْ أَصْلٍ يَهُودِيٍّ، وَكَانَ يُدْعَى قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (لِيُو بُولد فَايس)، وَكَانَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ حَاخَامًا، وَأَمَّا أَبُوهُ فَبِمُقْتَضَى التَّقَالِيدِ الْعَائِلِيَّةِ فَقَدْ فَرَضَ عَلَى وَلَدِهِ (لِيُو بُولد) أَنْ يَدْرُسَ عَلَى أَسَاتِذَةٍ خُصُوصِيِّينَ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ الْعِبْرَانِيَّةَ بِتَعَمُّقٍ كَبِيرٍ.
وَلَمْ يَكُنْ مَرَدُّ ذَلِكَ إِلَى أَيِّ وَرَعٍ امْتَازَ بِهِ أَبَوَاهُ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَنْتَمِيَانِ إِلَى جِيلٍ يَخْضَعُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ إِلَى التَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي سَبَكَتْ حَيَاةَ أَسْلَافِهِمَا، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَمْ يَسْعَ أَبَوَاهُ قَطُّ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَا فِي حَيَاتِهِمَا الْعَمَلِيَّةِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ التَّعَالِيمِ.
وَبَعْدَ رِحْلَةٍ فِكْرِيَّةٍ مَعْنُوِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ؛ حَطَّ رَحْلَهُ فِي دِمَشْق قَارِئًا فِيهَا كُلَّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدَاهُ مِنْ كُتُبٍ عَنِ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ، وَلَقَدْ لَجَأَ إِلَى تَرْجَمَتَيْنِ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَرَنْسِيَّة وَأَلْمَانِيَّة؛ اسْتَعَارَهُمَا مِنْ إِحْدَى الْمَكْتَبَاتِ، تِلْكَ كَانَتْ دِرَاسَتَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحِينِ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: «وَمَهْمَا كَانَتْ تِلْكَ الدِّرَاسَةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ نُتَفٍ وَشَذَرَاتٍ؛ فَإِنَّهَا رَفَعَتِ الْغَشَاوَةَ عَنْ عَيْنَيِّ، لَقَدْ بَدَأْتُ أُمَيِّزُ عَالَمًا مِنَ الْحِكْمَةِ كُنْتُ حَتَّى ذَلِكَ الْحِينِ أَجْهَلُهُ جَهْلًا كُلِّيًّا».
قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبَدَا لِي الْإِسْلَامُ طَرِيقًا يَقِينِيًّا فِي الْحَيَاةِ، وَمِنْهَاجًا لِلسُّلُوكِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ قَائِمًا عَلَى ذِكْرِ اللهِ، لَا يُجِيزُ اتِّخَاذَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ اللهِ وَعَبْدِهِ مِنْ أَجْلِ الْخَلَاصِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَعْوَى عَنْ خَطِيئَةٍ أُولَى مَوْرُوثَةٍ تَقِفُ بَيْنَ الْفَرْدِ وَمَصِيرِهِ، ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)).
قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَصِفُ انْطِبَاعَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ مِنْ حَجَّاتِهِ الْخَمْس، قَالَ: «هَذِهِ إِذَنِ الْكَعْبَةُ الَّتِي كَانَتْ وَلَا تَزَالُ مَحَطَّ أَشْوَاقِ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ مِنَ النَّاسِ مِنْذُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ (سلم2) بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى.
إِنَّ حُجَّاجًا لَا يُحصَوْنَ وَلَا يُعَدُّونَ قَدْ بَذَلُوا تَضْحِيَاتٍ عَظِيمَةً عَبْرَ الْعُصُورِ لِلْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْمَحَجَّةِ -يَعْنِي الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ–، فَمَاتَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبَلَغَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَشَقَّةٍ كُبْرَى وَفِي أَعْيُنِهِمْ جَمِيعًا كَانَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الْمُرَبَّعُ ذُرْوَةَ آمَالِهِمْ وَغَايةَ أَحْلَامِهِمْ».
يَقُولُ نَافِذًا إِلَى حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهُوَ الرَّجُلُ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي تَرَبَّى عَلَى عَقَائِدِ يَهُودَ، دِرَاسَةً مُمَحِّصَةً، وَفِي كَنَفِ رَجُلٍ كَانَ أَبُوهُ حَاخَامًا، وَكَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى تَقَالِيدِ أُسْرَتِهِمْ فِي انْتِمَائِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ، يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِ الَّتِي لَا تُحِسُّ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ اللهِ».
هَذِهِ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ.
فَهُوَ الَّذِي كَرَّمَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهَا أَوْ رَفَعَهَا وَشَرَّفَهَا، وَهُوَ الَّذِي فَرَضَ الْحَجَّ إِلَيْهَا، فَمِنْ أَجْلِ اللهِ وَحْدَهُ سَعْيُهُمْ وَكِفَاحُهُمْ وَعَنَاؤُهُمْ وَتَعَبُهُمْ، بَلْ وَمَوْتُهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ.
((مَظَاهِرُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ))
((الِاسْتِسْلَامُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَاخِصًا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ))
((إِنَّ الْمَشَاعِرَ وَمَوَاضِعَ الْأَنْسَاكِ -فِي الْحَجِّ- مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ فِيهَا؛ أَنَّ فِيهَا تَذْكِيرَاتٍ بِمَقَامَاتِ الْخَلِيلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فِي عِبَادَاتِ رَبِّهِمْ، وَإِيمَانًا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَحَثًّا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَكُلُّ أَحْوَالِ الرُّسُلِ دِينِيَّةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] » .
((لَمَّا وَهَبَ مَلِكُ مِصْرَ لِسَارَّةَ هَاجَرَ -وَهِيَ جَارِيَةٌ قِبْطِيَّةٌ-، وَكَانَتْ سَارَّةُ عَاقِرًا مُنْذُ كَانَتْ شَابَّةً، فَوَهَبَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَتَسَرَّرَهَا لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ مِنْهَا وَلَدًا، فَأَتَتْ هَاجَرُ بِإسْمَاعِيلَ عَلَى كِبَرِ إِبْرَاهِيمَ، فَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَكِنَّ سَارَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا يُسَاكِنَهَا بِهَا، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُه اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِذَهَابِه بِهَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُ ذَلِكَ –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
فَذَهَبَ بِهَا وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهَا سَكَنٌ وَلَا مَسْكَنٌ وَلَا مَاءٌ وَلَا زَرْعٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَزَوَدَهُمَا بِسِقَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَجِرَابٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَوَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مَحِلِّ بِئْرِ زَمْزَم، ثُمَّ قَفَّى عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّنِيَّةِ بِحَيْثُ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا دَعَا اللهَ تَعَالَى فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم : 37] إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ.
ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللهِ، وَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى نَفِدَا، فَعَطِشَتْ، ثُمَّ عَطِشَ وَلَدُهَا فَجَعَلَ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ، ثُمَّ ذَهَبَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَعَلَّهَا تَرَى أَحَدًا أَوْ تَجِدُ مُغِيثًا، فَصَعِدَتْ أَدْنَى جَبَلٍ مِنْهَا وَهُوَ الصَّفَا، وَتَطَلَّعَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَرْوَةِ فَصَعِدَتْ عَلَيْهِ فَتَطَلَّعَتْ، فَلَمْ تَرَ أحدًا.
ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَكْرُوبَةٌ مُضْطَرَّةٌ مُسْتَغِيثَةٌ بِاللهِ لَهَا وَلِابْنِها، وَهِيَ تَمْشِي وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ خَشْيَةَ السِّبَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا هَبَطَتِ الْوَادِي سَعَتْ حَتَّى تَصْعَدَ مِنْ جَانِبِهِ الِآخَرِ؛ لِئَلَّا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهَا ابْنُهَا.
وَالْفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْعُسْرُ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ، فَلَمَّا تَمَّتْ سَبَعَ مَرَّاتٍ تَسَمَّعَتْ حِسَّ الْمَلَكِ، فَبَحَثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ زَمْزَمُ فَنَبَعَ الْمَاءُ، فَاشْتَدَّ فَرَحُ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، وَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى، وَحَوَّطَتْ عَلَى الْمَاءِ لِئَلَّا يَسِيحَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ -أَيْ: لَمْ تَحُطْهُ-؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا -أَيْ مَاءً ظَاهِرًا-».
ثُمَّ عَثَرَ بِهَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُمْ (جُرْهُمُ)، فَنَزَلُوا عِنْدَهَا وَتَمَّتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ، وَشَبَّ إِسْمَاعِيلُ شَبَابًا حَسَنًا، وَأَعْجَبَ الْقَبِيلَةَ بَأَخْلَاقِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَكَمَالِه، فَلَمَّا بَلَغَ تَزَوَّجَ مِنْهُمُ امْرَأَةً، فَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَاتَتْ أُمُّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِغَيْبَةِ إِسْمَاعِيلَ يَتَصَيَّدُ -مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً-.
فَلَمَّا عَادَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يَبْرِي نَبْلًا عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ الشَّفِيقُ وَالْوَلَدُ الشَّفِيقُ.
فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ أَبْنيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَعْبَدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ: سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 -129] .
فَلَمَّا تَمَّ بُنْيَانُهُ، وَتَمَّ لِلْخَلِيلِ هَذَا الْأَثَرُ الْجَلِيلُ؛ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَدْعُو النَّاسَ وَيُؤَذِّنَ فِيهِمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ وَهُمْ يَفِدُونَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَيَسْعَدُوا، وَلِيَزُولَ عَنْهُمْ شَقَاؤُهُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ حِينَ تَمَكَّنَ حُبُّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْتَحِنَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ لِتَقْدِيمِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَخُلَّتِهِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمُشَارَكَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ.
فَأَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَ إِسْمَاعِيلَ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، فَقَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا}؛ أَيْ: خَضَعَا لِأَمْرِ اللهِ، وَانْقَادَا لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَوَطَّنَا أَنْفُسَهُمَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُزْعِجِ الَّذِي لَا تَكَادُ النُّفُوسُ تَصْبِرُ عَلَى عُشْرِ مِعْشَارِهِ.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} نَزَلَ الْفَرَجُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105].
فَحَصَلَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى الشَّاقَّةِ الْمُزْعِجَةِ، وَحَصَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْجَزْمُ الْمُصَمِّمُ، وَتَمَّ لَهُمَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَحَصَلَ لَهُمَا الشَّرَفُ وَالْقُرْبُ وَالزُّلْفَى مِنَ اللهِ، وَمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْطَافِ الرَّبِ بِعَزِيزٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 105 -107].
وَأيُّ ذِبْحٍ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا عِبَادَة، وَصَارَ سُنَّةً فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، وَيُدْرَكُ بِهِ ثَوَابُهُ وَرِضَاهُ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108-109].
ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ زَوْجَتَهُ سَارَّةَ عَلَى الْكِبَرِ وَالْعُقْمِ وَالْيَأْسِ بِالبِشَارَةِ بِالِابْنِ الْجَلِيلِ وَهُوَ إِسْحَاقُ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ» .
((التَّسْلِيمُ للهِ مُجَسَّدًا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ))
لَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَادِيًا، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْإِيمَانِ يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اتْرُكْ أَهْلَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: غَادِرْ وَطَنَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اخْلَعْ ثَوْبَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: طُفْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: انْحَرْ هَدْيَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: احْلِقْ رَأْسَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَجْعَلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ هَكَذَا، وَعَلَى اسْتِجَابَةٍ مِنْ عَبْدِهِ هَكَذَا.
النَّبِيُّ ﷺ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ حَجَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
وَقَدْ عَلَّلَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- ذَلِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَلَاعَبُونَ بِالشُّهُورِ، وَكَانَ النَّسَأَةُ يُؤَخِّرُونَ وَيُقَدِّمُونَ؛ فَاخْتَلَّ مِيزَانُ السَّنَةِ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ.
فَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَشَهِدَ الْمَوْسِمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَأَخْبَرَ ((أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)) .
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَعَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْدَلَ أَحْوَالِهَا كَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ زَمَانَ التَّلَاعُبِ بِالْأَشْهُرِ قَدْ مَضَى وَلَنْ يَعُودَ.
النَّبِيُّ ﷺ يُذَكِّرُنَا حَجُّهُ بِمَا كَانَ قَبْلُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَبِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِالْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ كُلِّهَا وَيُعْلِنُ التَّوْحِيدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَبِّلُ حَجَرًا، وَيَرْجُمُ حَجَرًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يُطِيعُ رَبَّهُ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِ مُتَمَسِّكًا بِهُ، صَابِرًا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
((مَظَاهِرُ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ))
*تَمْهِيدٌ:
لَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}؛ أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}: مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ.
{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا للهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
فَجَمَعَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شَرْطَيْ قَبُولِ الْعَمَلِ؛ وَهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَالْمُتَابَعَةُ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا:
فَمِنَ الْكِتَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وَمِنَ السُّنَّةِ: قولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى, فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكذلك قَوْلُهُ ﷺ: ((قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ, فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)) وَاللَّفْظُ لَهُ.
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي؛ فَهُوَ: تَجْرِيدُ المُتَابَعَةِ لِلْمَعْصُومِ ﷺ:
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمُتَابَعَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه فَهُوَ رَدٌّ)).
يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
فَاللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.
وَالْحَجُّ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَهُوَ مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ دِينُ الْعَبْدِ إِلَّا بِهَا.
وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَا يَسْتَقِيمُ التَّقَرُّبُ بِهَا إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لَدَيْهِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بِأَنْ يَقْصِدَ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَا يَقْصِدُ بِالْعِبَادَةِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً.
وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعِبَادَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَالِاتِّبَاعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ بِمَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ الِاتِّبَاعِ أَنْ يَتَعَلَّمَ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ، بِأَنْ يَتَلَقَّاهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإمَّا بِطَرِيقِ الْمُشَافَهَةِ.
وَكَانَ مِنْ وَاجِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ وَرِثُوا النَّبِيَّ ﷺ، وَخَلَفُوهُ فِي أُمَّتِهِ؛ أَنْ يُطَبِّقُوا عِبَادَاتِهِمْ وَأَخْلَاقَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ عَلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ إِلَى أُمَّتِهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ؛ لِيَتَحَقَّقَ لَهُمْ مِيرَاثُ النَّبِيِّ ﷺ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَبْلِيغًا وَدَعْوَةً.
وَلِيَكُونُوا بِذَلِكَ مِنَ الرَّابِحِينَ إِنْ أَرَادُوا الرِّبْحَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُفْلِحًا إِلَّا إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَتَوَاصَى مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَى مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ، فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ دُنْيَا وَآخِرَةً.
يَنْبَغِي لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ لِتَكُونَ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَنَفَقَاتُهُ مُقَرِّبَةً لَهُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَـ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالشَّهَامَةِ، وَالِانْبِسَاطِ إِلَى رُفْقَتِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيَامِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
((تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْحَجِّ))
إِنَّ الْحَجَّ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ مِنْ مَيَادِينِ غَرْسِ الْعَقِيدَةِ فِي الْقُلُوبِ, وَالْمُتَأَمِّلُ لِآيَاتِ الْحَجِّ يَجِدُ رُكْنَيْنِ مُهِمَّيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ فِيهَا، وَهُمَا: ((الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَمَثِّلُ فِي التَّوْحِيدِ, وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)).
وَهُمَا مِنْ أَدَلِّ الْأَرْكَانِ عَلَى سَلَامَةِ الْعَقِيدَةِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ, فَلَنْ تَسْلَمَ الْعَقِيدَةُ، وَلَنْ يَزِيدَ الْإِيمَانُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ -جَلَّ وَعَلَا-, وَنَفْيِ غَيْرِهِ مِنَ الْآلِهَةِ.
وَلَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا آمَنَ النَّاسُ بِأَنَّ هُنَاكَ بَعْثًا وَجَزَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَبِذَلِكَ يُحْسِنُوا التَّوْجُّهَ للهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ؛ رَغْبَةً فِي جَزَائِهِ، وَرَهْبَةً مِنْ عِقَابِهِ.
وَلِذَا نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْرِنُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ, وَذَلِكَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي كِتَابِهِ فِي ثَمَانِي سُوَرٍ؛ وَمِنْ ذَلِكَ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 62].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 39].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].
وَنَجِدُ هَذَا الِاقْتِرَانَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَمِنْ ذَلِكَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَوْلُهُ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَجَاءَ الْحَجُّ؛ لِيُرَبِّيَ النَّاسَ عَلَى هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْمُهِمَّيْنِ؛ لِتَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ))
الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ؛ فَمِنْ خِلَالِ النَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَتِ الْحَجَّ, أَوِ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهَا فَرِيضَةُ الْحَجِّ؛ نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَكَّزَ عَلَى تِبْيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَمَرَ بِهِ فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، وَآيَاتٍ عِدَّةٍ.
فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هَيَّأَ تِلْكَ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ، وَطَهَّرَهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ إِعْلَانًا بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ شِعَارُ الْحَجِّ, وَشِعَارُ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُؤَدَّى فِيهَا الْحَجُّ, وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ, وَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهَا مِنَ الشِّرْكِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- أَنْ يَبْنِيَا الْكَعْبَةَ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لِلطَّائِفِينَ بِهِ, وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ، وَالْمُصَلِّينَ لَهُ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)).
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ((هَذَا فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ، وَأَشْرَكَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أُسِّسَتْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ؛ أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ)).
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمَا وَأَمَرْنَاهُمَا بِتَطْهِيرِ بَيْتِ اللهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ)).
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ : ((أَمَرْنَاهُمَا وَأَوْصَيْنَا إِلَيْهِمَا {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّيْبِ)).
وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ضِمْنَ آيَاتِ الْحَجِّ بِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ, فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى ضِمْنَ آيَاتِ الْحَجِّ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ, وَأَمَرَ بِالِالْتِزَامِ بِالْحَنِيفِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30-31].
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : (({فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}؛ يَعْنِي: عِبَادَتَهَا {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يَعْنِي: الشِّرْكَ بِاللهِ)).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : (({مِنْ} هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ؛ أَيِ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ)).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحَج: 31].
قَالَ السَّعْدِيُّ : ((أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}؛ أَيْ: مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِبَادَتِهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فَمَثَلُهُ: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أَيْ: سَقَطَ مِنْهَا {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بِسُرْعَةٍ {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}؛ أَيْ: بَعِيدٍ.
كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ، فَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مَحْفُوظَةٍ مَرْفُوعَةٍ, وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ تَخْطَفَهُ الطَّيْرُ فَتُقَطِّعَهُ أَعْضَاءً.
فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ؛ إِذَا تَرَكَ الِاعْتِصَامَ بِالْإِيمَانِ تَخَطَّفَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَزَّقُوهُ، وَأَذْهَبُوا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ, وَإِمَّا أَنْ تَهْوِيَ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)).
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ, وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلَّةُ كُلِّ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحَجّ: 34].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : ((يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللهِ مَشْرُوعًا فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا}؛ أَيْ: مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَهُ أَسْلِمُوا}؛ أَيْ : أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ)).
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَمِنْهَا: النُّسُكُ:
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
«يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ, وَيَذْبَحُونَ لِغَيرِ اسْمِهِ؛ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ للهِ, وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : ((عِبَادَتِي مِنْ حِجِّي وَقُرْبَانِي للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)).
«قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ, هَا هُنَا: النَّحْرُ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ لِأَصْنَامِهِمْ بِعِبَادَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ: هِيَ النَّحْرُ, فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صَلَاتَهُ وَنَحْرَهُ كِلَاهُمَا خَالِصٌ للهِ تَعَالَى)).
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((النُّسُكُ: جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ , وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّحْرُ))» .
وَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ؛ لِتَطْهِيرِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الشِّرْكِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
«أَيْ: عِلَّةُ الْإِيحَاءِ هِيَ إِنْذَارُكَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى -مَكَّةَ- وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى؛ أَيْ: تُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ اللهِ إِنْ بَقَوْا عَلَى الشِّرْكِ» .
وَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْمِشْرَكَ لَا يُعَظِّمُ حُرُمَاتِ اللهِ وَلَا شَعَائِرَهُ, فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
فَشِرْكُ الْمِشْرِكِينَ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَيْهِ؛ جَعَلَهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ شَعَائِرَ اللهِ وَحُدُودَهُ, وَهَذَا ذَمٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَجَعَلَ اللهُ الْبَيْتَ أَحَدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
«يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ {جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}، يَقُومُ بِالْقِيَامِ بِتَعْظِيمِهِ دِينُهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِسْلَامُهُمْ، وَبِهِ تُحَطُّ أَوْزَارُهُمْ، وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِقَصْدِهِ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةُ، وَالْإِحْسَانُ الْكَثِيرُ، وَبِسَبَبِهِ تُنْفَقُ الْأَمْوَالُ، وَتُتَقَحَّمُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَهْوَالُ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ -الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ- قِيَامًا لِلنَّاسِ، يَنْتَفِعُونَ بِهِمَا، وَيُثَابُونَ عَلَيْهِمَا.
{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ فَمَنْ عِلْمِهِ أَن جعل لَكُمْ هَذَا الْبَيْت الحرام، لما يعلمه مِنْ مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ» .
وَإِذَا عَرَفَ النَّاسُ صِفَةَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى, وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَائِمُ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ؛ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ للهِ وَحْدَهُ, وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الْعَظِيمَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالشِّرْكِ, قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((لَمَّا اخْتَلَفَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ -أَوْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضُ الْمِشْرِكِينَ- فِي تَفْضِيلِ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ بِالْبِنَاءِ, وَالصَّلَاةِ, وَالْعِبَادَةِ فِيهِ, وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ -لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ ذَلِكَ- عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}؛ أَيْ: سَقْيَهُمُ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ -كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ إِذَا أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ- {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}.
فَالْجِهَادُ وَالْإِيمَانُ بِاللهِ أَفْضَلُ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُ الدِّينِ، وَبِهِ تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ، وَتَزْكُو الْخِصَالُ.
وَأَمَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ: فَهُوَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الدِّينِ، الَّذِي بِهِ يُحْفَظُ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ وَيَتَّسِعُ، وَيُنْصَرُ الْحَقُّ، وَيُخْذَلُ الْبَاطِلُ.
وَأَمَّا عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَسِقَايَةُ الْحَاجِّ: فَهِيَ -وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالًا صَالِحَةً- فَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا فِي الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أَيِ: الَّذِينَ وَصْفُهُمُ الظُّلْمُ، الَّذِينَ لَا يَصْلُحُونَ لِقَبُولِ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ لَا يَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا الشَّرُّ)).
((الْحَجُّ إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ وَهَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْتِ بِبِدْعٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَالْحَجُّ مِنْ أَجْلَى مَجَالِي تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْسَلِخُ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَاتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِ وَأَحِبَّائِهِ؛ ضَارِبًا فِي أَرْضِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَاصِدًا بَيْتَهُ الْحَرَامَ؛ تَلْبِيَةً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، آتِيًا بِإِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ..)): إِجَابَةً مِنْ بَعْدِ إِجَابَةٍ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ))، وَهُوَ اسْتِعْلَانٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).
فَفِي هَذَا -كَمَا تَرَى- أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ إِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَمَرَنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْعَظِيمَةِ، أَمَرَنَا بِأَنْ نَأْتِيَ بِهَا تَامَّةً لَهُ وَحْدَهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، لَا لِسِوَاهُ.
فَهَذَا اخْتِصَاصٌ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا لَا يَنْصَرِفُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَالَ: ((لَبَّيْكَ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةً)) .
فَهُوَ ((إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَهُوَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ، وَهُوَ تَوْحِيدٌ بِالْقَلْبِ وَالْقَالَبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى حَيْثُ أَمَرَ أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ.
النَّبِيُّ ﷺ حَجَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ، الَّتِي جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا)).
قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟
قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ؛ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ» .
فَهُوَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَفِي يَوْمِ عِيدٍ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَتْ يَهُودُ.
وَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الدِّينَ، فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَأَتَمَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَجَحُودٌ كَفُورٌ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ كَمَا ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لَمْ تَتَحَمَّلْهَا الْعَضْبَاءُ، فَبَرَكَتْ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ .
إِنَّ إِعْلَانَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَإِخْلَاصَ الْقَصْدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، مُنْذُ انْبِعَاثِ النِّيَّةِ بِالْحَجِّ، مَعَ الْإِهْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ، مَعَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ إِلَى بَلَدِ اللهِ الْحَرَامِ، إِلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ.
إِنَّ عِظَمَ الصِّلَةِ بِاللهِ تَعَالَى, وَقُوَّةَ الِارْتِبَاطِ بِهِ ثَرْوَةُ الْمُتَّقِينَ, وَرَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ, وَيُعَدُّ الْحَجُّ مِنْ أَهَمِّ مَحَاضِنِ التَّقْوَى، وَمَدَارِسِ الْعُبُودِيَّةِ.
تَتَقَوَّى فِيهِ صِلَةُ الْعَبْدِ بِاللهِ, وَتَتَرَبَّى بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى التَّقَلُّبِ فِي مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ, وَمَنَازِلِ الْخُضُوعِ للهِ, وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَقَدْ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ -وَهُوَ أَعْبَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ, وَأَكْثَرُهُمْ تَعَلُّقًا وَارْتِبَاطًا بِهِ- بِأَدْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ إِذْ عَلَّمَ الْحَجِيجَ وَقَادَهُمْ, وَاعْتَنَى بِزَوْجَاتِهِ وَرَعَاهُنَّ, وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ.
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِظَمِ الصِّلَةِ بِرَبِّهِ وَدَوَامِهَا, وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ الِانْكِسَارِ التَّامِّ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ.
وَلَوْ أَخَذْنَا نُعَدِّدُ صُوَرَ خُضُوعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَجِّ لِرَبِّهِ, وَمَظَاهِرَ انْقِيَادِهِ فِيهِ لِخَالِقِهِ وَبَارِئِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَطَالَ الْمَقَامُ جِدًّا؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
*تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَالْعِنَايَةُ بِهِ:
يُعَدُّ التَّوْحِيدُ أَبْرَزَ الْقَضَايَا الرَّئِيسَةِ الَّتِي عَمِلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَجِّ عَلَى تَحْقِيقِهَا وَالْعِنَايَةِ بِهَا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196], الَّذِي تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِإِخْلَاصِ النُّسُكِ وَإِتْقَانِهِ, وَهَذَا جَلِيٌّ لِمَنْ تَأَمَّلَ أَعْمَالَهُ ﷺ فِي الْحَجِّ.
((مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ فِي النِّيَّةِ لِلْحَجِّ))
إِنَّ مِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: عِنَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ, وَسُؤَالُهُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُجَنِّبَهُ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا، قَالَ: ((اللهم حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةً)) .
الْحَجُّ شِعَارُهُ التَّوْحِيدُ, فَالتَّوْحِيدُ شِعَارُ الْحَجِّ, وَمَقَاصِدُ الْحَجِّ, وَالْأَضَاحِي, وَكَذَا الهَدْيُ وَجْهُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَتَوْحِيدُهُ, وَذِكْرُهُ, وَتَقْوَى الْقُلُوبِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
أَدُّوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا تَامَّيْنِ بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ لَوَجْهِ اللهِ تَعَالَى.
وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ يَقُولُ الْمُسْلِمُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَا سُمْعَةً)) .
قَالَ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحَجّ: 27].
أَيْ: وَقِفْ يَا إِبْرَاهِيمُ رَافِعًا صَوْتَكَ، مُنَادِيًا النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نِدَائِكَ، وَالَّذِينَ سَيَتَتَابَعُونَ أَجْيَالًا بَعْدَ أَجْيَالٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ سَيُوصِلُ أَثَرَ نِدَائِكَ إِلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَرِّكُهَا إِلَى تَلْبِيَةِ النِّدَاءِ.
قِفْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ -الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا- يَأْتِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُلَبِّينَ مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَيَأْتِكَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُلَبِّينَ رُكْبَانًا عَلَى الْإِبِلِ الْمَهْزُولَةِ مِنْ بُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَكَثْرَةِ السَّيْرِ.
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ إِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحَجّ: 28]: لِيَشْهَدَ الْحُجَّاجُ مَنَافِعَ لَهُمْ كَثِيرَةً دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً؛ مِنْ ثَوَابِ أَدَاءِ نُسُكِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، وَوَحْدَةِ كَلِمَتِهِمْ، وَالتَّشَاوُرِ فِي أُمُورِهِمْ، وَتَكَسُّبِهِمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنَافِعِ.
وَلِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا ذَبَحُوا مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهِيَ: ((يَوْمُ النَّحْرِ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ))؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.
فَكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَأَطْعِمُوا الْبَائِسِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ بُؤْسٌ وَشِدَّةٌ، الْمَسْتُورِينَ الَّذِينَ لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلصَّدَقَاتِ.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحَجّ: 29].
ثُمَّ لِيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ وَأَوْسَاخَهُمْ، وَيَخْرُجُوا عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِحْدَادِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَلِيُوفُوا بِمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا.
وَلِيَطُوفُوا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ طَوَافَ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْإِفَاضَةُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلِأَنَّ اللهَ يُعْتِقُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا أَتَوْا تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْتَقَ الْبَيْتَ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحَجّ: 37].
لَنْ تُرْفَعَ إِلَى اللهِ لُحُومُ هَذِهِ الذَّبَائِحِ وَلَا دِمَاؤُهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ عِبَادَتِكُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا لِحَاجَتِهِ إِلَى لُحُومِهَا وَدِمَائِهَا، وَلَكِنْ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ, وَالْتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ.
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي الْإِحْرَامِ))
مِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْحَجِّ الْإِحْرَام؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ؛ يَتَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ))؛ أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِحْرَامِ ﷺ.
الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَالتَّطَيُّبِ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي-غَيْرُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ- الْفَرِيضَةَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَنْوِيِ بِهِمَا سُنَّةَ الْوُضُوءِ, -لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ سُنَّةُ الْإِحْرَامِ- وَإِنَّمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ.
وَبَعْدَ أَنْ يَلْبَسَ مَلَابِسَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ أَنْ يَتَطَيَّبَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ أَحْرَمَ قَائِلًا: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)).
وَيَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، خُصُوصًا عِنْدَ تَغْيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ؛ كَأَنْ يَعْلُو مُرْتَفَعًا، أَوْ يَنْزِلَ مُنْخَفَضًا، أَوْ يُقْبِلَ اللَّيْلُ أَوْ النَّهَارُ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللهَ بَعْدَهَا رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ النَّارِ.
((أَسْرَارُ التَّوْحِيدِ وَمَعَانِيهِ فِي التَّلْبِيَةِ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ الْحَجَّ فَرِيضَةَ الْعُمُرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَفْرُوضٌ عَلَى الْمُسْلِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ، وَشِعَارُ الْحَجِّ التَّلْبِيَةُ.
- وَمِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ فِي الْحَجِّ: التَّلْبِيَةُ؛ وَهِيَ شِعَارُ الْحَجِّ, الَّتِي تَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْعَمَلِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ - قَالَ: ((فَأَهَلَّ ﷺ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ, إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)) .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ)) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: ((لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ)) .
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ)): يَقُولُهَا وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ، وَيُعْلِنُ هَذَا الْإِهْلَالَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ إِهْلَالٌ بِتَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ لَهُ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ كُلِّهِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، دَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، كَبِيرِهِ وَصَغِيرِهِ.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْلِمُ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ الَّذِي يَتَبَرَّأُ مِنْهُ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ.
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)): يَأْتِي بِهَا مُثْبِتًا أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ وَمُشْرِكٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحِبُّ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ أَعْظَمَ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الشِّرْكُ.
وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ؛ لَيَدُلُّوا الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَوْحِيدِهِ وَحْدَهُ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ وَمُشْرِكٍ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُهِلُّ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ))
إِنَّ هَذِهِ التَّلْبِيَةَ الْعَظِيمَةَ -الَّتِي هِيَ شِعَارُ الْحَاجِّ وَشِعَارُ الْمُعْتَمِرِ أَيْضًا- بَيَّنَ الْإِمْامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((تَهْذِيبِ السُّنَنِ)) بَعْضًا مِنْ فَوَائِدِهَا، وَدَلَّ عَلَى طَرَفٍ مِنْ مَعَانِيهَا، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- :
«مِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أنَّ قَوْلَكَ لَبَّيْكَ يَتَضَمَّنُ إِجَابَةَ دَاعٍ دَعَاكَ وَمُنَادٍ نَادَاكَ، وَلَا يَصِحُّ فِي لُغَةٍ وَلَا عَقْلٍ إِجَابَةُ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَدْعُو مَنْ أَجَابَهُ؛ فَفِي هَذَا إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ للهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ -وَهِيَ التَّلْبِيَةُ، وَهِيَ شِعَارُ الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ-: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ، وَلَا يُقَالُ لَبَّيْكَ إِلَّا لِمَنْ تُحِبُّهُ وَتُعَظِّمُهُ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا: أَنَا مُوَاجِهٌ لَكَ بِمَا تُحِبُّ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ؛ أَيْ مُحِبَّةٌ لِوَلَدِهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ دَوَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ هِيَ مِنَ الْإِقَامَةِ؛ أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ.
مِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ وَالذُّلَّ؛ أَيْ خُضُوعًا بَعْدَ خُضُوعٍ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَا مُلَبٍّ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ أَيْ خَاضِعٌ لَكَ ذَلِيلٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِخْلَاصَ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ اللُّبِّ وَهُوَ خَالِصُ الشَّيْءِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِسَمْعِ الرَّبِّ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَبَّيْكَ لِمَنْ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّقَرُّبَ مِنَ اللهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْإِلْبَابِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ.
وَمِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا جُعِلَتْ فِي الْإِحْرَامِ شِعَارًا لِانْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَنْسَكٍ إِلَى مَنْسَكٍ كَمَا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ سَبْعًا لِلْانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُلَبِّيَ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَقْطَعَهَا.
فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ، وَالتَّنَقُّلُ فِي أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ.
فَالْحَاجُّ يَرمي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ وَالتَّنَقُّلِ فِي أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ، كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ قَالَ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ))، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُولُ فِي انْتِقَالِهِ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ: ((اللهُ أَكْبَرُ)).
فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكِهِ قَطَعَهَا كَمَا يَكُونُ سَلَامُ الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا شِعَارٌ لِتَوْحِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْحَجِّ وَمَقْصِدُهُ، بَلْ رُوحُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتِ التَّلْبِيَةُ مِفْتَاحَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُدْخَلُ فِيهَا بِهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمِفْتَاحِ الْجَنَّةِ وَبَابِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَالشَّهَادَةُ للهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحَمْدِ للهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبِّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ، وَهُوَ فَاتِحَةُ الصَّلَاةِ وَخَاتِمَتُهُا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ للهِ بِالنِّعْمَةِ كُلِّهَا؛ وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْاسْتِغْرَاقِ، أَيِ النِّعَمُ كُلُّهَا لَكَ وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا».
*وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّدُ الثُّبُوتِ بِـ«إِنَّ» الْمُقْتَضِيَةِ تَحْقِيقَ الْخَبَرِ وَتَثْبِيتَهُ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ رَيْبٌ وَلَا شَكٌّ، وَفِي «إِنَّ» وَجْهَانِ: فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا، فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ؛ أَيْ: لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مُسْتَأَنَفَةً، تَتَضَمَّنُ ابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ، وَالثَّنَاءُ إِذَا كَثُرَتْ جُمَلُهُ وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ قِلَّتِهَا.
وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفَةِ مَعَهَا قِيَاسًا، وَالْمَعْنَى لَبَّيْكَ؛ لِأَنَّ ال