((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-

((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-

((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ))

-إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَهَمِّيَّةُ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ))

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَ عَنْ سَعَةِ عِلْمِهِ وَعَظِيمِ اقْتِدَارِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، ابْتَدَأَ خَلْقَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ ضَعْفٍ، وَهُوَ الْأَطْوَارُ الْأُوَلُ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى عَلَقَةٍ إِلَى مُضْغَةٍ إِلَى أَنْ صَارَ حَيَوَانًا فِي الْأَرْحَامِ إِلَى أَنْ وُلِدَ، وَهُوَ فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، ثُمَّ مَا زَالَ اللهُ يَزِيدُ فِي قُوَّتِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى بَلَغَ سِنَّ الشَّبَابِ، وَاسْتَوَتْ قُوَّتُهُ، وَكَمُلَتْ قُوَاهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ هَذَا الطَّوْرِ وَرَجَعَ إِلَى الضَّعْفِ وَالشَّيْبَةِ وَالْهَرَمِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .

اللهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، وَأَنْشَأَكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ فِيكُمْ مِنْ بَعْدِ ضَعْفِ الطُّفُولَةِ شَيْئًا مِنَ الْقُوَّةِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي تَتَدَرَّجُ مُتَصَاعِدَةً حَتَّى تَبْلُغُوا كَمَالَ قُوَّتِكُمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الشَّبَابِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الْقُوَّةِ ضَعْفَ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَضَعْفَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبَ، فَتَتَنَاقَصُ لَدَيْكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةُ تَدْرِيجِيًّا حَتَّى تَصِلَ إِلَى تَمَامِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ الْكِبَرِ إِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ، أَوْ تُوَافِيكُمْ مَنَايَاكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.

يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ خَلْقَهُ؛ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَالشَّبَابِ وَالشَّيْبَةِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ، الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَشَاؤُهُ.

إِنَّ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ مَرْحَلَةُ الْقُوَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، فَفِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصِّحَّةِ وَفَضْلِ الْعَافِيَةِ، وَجَلَالِ ذَلِكَ؛ لِجَمِيلِ أَثَرِهِ، وَلِعَظِيمِ قَدْرِهِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ.

لَمَّا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَالُوتَ مَلِكًا مَبْعُوثًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْقَوْمُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَلَيْنَا بِكَثِيرِ مَالٍ، ولا بِشَيْءٍ، فَقَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البَقَرَة: 247].

فجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمِيزَةَ مَحْفُوظَةً لَدَيْهِ بِأَنْ آتَاهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، وَبَسْطَةً فِي الْجِسْمِ.

فَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِلْمًا، وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَيْدًا وَقُوَّةً، آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صِحَّةً فِي تَمَامِ إِيمَانٍ؛ فَجَعَلَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ذَلِكَ سَبَبًا لِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا -أَيْضًا- أَنَّ بِنْتَ شُعَيْبٍ لَمَّا صَحِبَتْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَبِيهَا، قَالَتْ فِي حَيْثِيَّاتِ تَقْدِيمِهِ مُسْتَأْجَرًا عِنْدَ أَبِيهَا؛ لِكَيْ تَتَخَلَّصَ مِنَ عَنَاءِ الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلِذَا خَرَجَتْ وَأُخْتُهَا؛ مِنْ أَجْلِ الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ، وَالْقِيَامِ عَلَى أُمُورِ الْحَيَاةِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ.

أَرَادَتْ أَنْ تَرْتَاحَ، فَوَجَدَتْ فِي مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بُغْيَتَهَا، فَمَا هِيَ الْحَيْثِيَّاتُ الَّتِي قَدَّمَتْهَا لِأَبِيهَا؟

قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

فَجَاءَتِ الْقُوَّةُ، وَجَاءَتِ الصِّحَّةُ -أَيْضًا- فِي هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْجَلِيلِ.

وَقَدْ جَعَلَ نَبِيُّنَا ﷺ مَنْزِلَةَ الشَّابِّ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَخْدُمُ دِينَهُ وَوَطَنَهُ تَالِيَةً لِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ فِي السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، قَالَ ﷺ: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ! وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 ((دَلَائِلُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّبَابِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدِ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ بِالشَّبَابِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَاصِفًا فِتْيَةَ الْكَهْفِ الْمُؤْمِنِينَ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ خَبْرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:

ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.

وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لَهُمْ.

إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى الَّذِينَ سَبَقُوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَجَاهَدُوا دُونَهُ وَانْتَصَرُوا بِهِ وَلَهُ، يَجِدُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ كَانُوا شَبَابًا، أَبُو بَكْرٍ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَلَهُ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَعُمَرُ كَانَتْ سِنَّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعُثْمَانُ كَانَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ فِي الثَّامِنَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِينَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَلَهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَلَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ فِي الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ.

وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ كَانَ فِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ كَانَ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ كَانَ فِي التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَلَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ دُونَ الْعِشْرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ دُونَ الْعِشْرِينَ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ كَانَ فِي الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ كَانَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ.

وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ كَانَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِينِ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينِ وَالْأَرْبَعِينَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ سِنُّهُ حِينَمَا دَخَلَ الْإِسْلَامَ فِي حُدُودِ الثَّانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

وَمِمَّا لَا يَخْفَى أَنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ ﷺ الْعَطِرَةَ، وَأَيَّامَهُ النَّضِرَةَ، شَاهِدَةٌ عَلَى اهْتِمَامِهِ ﷺ بِالشَّبَابِ، وَرِعَايَتِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ، وَتَوْجِيهِهِمْ، وَحِرْصِهِ عَلَى الْحِوَارِ مَعَهُمْ، وَتَأْهِيلِهِمْ لِلْقِيَادَةِ؛ فَتَرَاهُ ﷺ يُدْنِيهِمْ، وَيُقَرِّبُهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ؛ حَتَّى يَكْتَسِبُوا الْعِلْمَ وَالْخِبْرَةَ وَالْحِكْمَةَ، وَحَتَّى يَكُونُوا عَلَى إِدْرَاكٍ كَامِلٍ وَوَعْيٍ حَقِيقِيٍّ بِالْأَحْدَاثِ مِنْ حَوْلِهِمْ، ثُمَّ يَمْنَحُهُمُ ﷺ الثِّقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُكَلِّفُهُمْ بِتَحَمُّلِ الْمَسْئُولِيَّةِ.

فَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَتَكَلَّمَ مِنْ شَبَابِ الْمُهَاجِرِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَائِلًا: ((يَا رَسُولَ اللهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي ((السِّيرَةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَبِنَحْوِهِ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَمِنْ شَبَابِ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَائِلًا: ((وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

قَالَ: ((أَجَلْ)).

قَالَ: ((فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ)).

فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ((سِيرُوا وَأَبْشِرُوا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي ((السِّيرَةِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

 ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ))

لَقَدْ خَصَّ دِينُنَا الْحَنِيفُ عَهْدَ الشَّبَابِ بِمَزِيدٍ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَنَبَّهَ عَلَى دَوْرِهِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ وَتَكْوِينِهَا؛ فَالشَّبَابُ رَبِيعُ الْحَيَاةِ وَالْعُمُرِ، وَعَهْدُ اكْتِمَالِ الْبِنَاءِ الْجَسَدِيِّ وَالنُّضْجِ الْعَقْلِيِّ.

وَقَدْ حَثَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْمُهِمَّةِ مِنْ مَرَاحِلِ الْعُمُرِ بِالْعَمَلِ وَالْعَطَاءِ، وَالتَّزَوُّدِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ لِأَنْفُسِنَا وَدِينِنَا وَمُجْتَمَعِنَا؛ لِتَحْقِيقِ سَعَادَتِنَا وَمَا فِيهِ خَيْرُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ ﷺ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الشَّبَابَ نِعْمَةٌ كَغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ سَيُسْأَلُ عَنْهَا أَمَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَلَمْ يَأْمُرْنَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ بِمُجَرَّدِ اغْتِنَامِ عَهْدِ الشَّبَابِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ، إِنَّمَا أَمَرَنَا -كَذَلِكَ- بِالْإِتْقَانِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّمَيُّزِ فِيهِمَا؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).

((الْإِتْقَانُ فِي الْعِبَادَةِ))

إِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْقَانِ فِي أَعْمَالِهِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ؛ إِحْكَامًا وَإِكْمَالًا، تَجْوِيدًا وَإِحْسَانًا، إِنَّ الْإِتْقَانَ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِأَدَائِهَا أَدَاءً صَحِيحًا، وَإِتْمَامِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَاسْتِيفَاءِ سُنَنِهَا وَآدَابِهَا، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْعِبَادَاتِ:

*الْإِتْقَانُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَثَمَرَتُهُ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا -يَشُكُّ سَهْلٌ- يُحْسِنُ فِيهِنَّ الذِّكْرَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ غُفِرَ لَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ -رِعَايَةَ إِبِلِنَا-، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ -أَيْ: أَتَى بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْجَنَّةَ-)).

فَقُلْتُ: ((بَخٍ بَخٍ، مَا أَجْوَدَ هَذِهِ!!)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ إِلَّا انْفَتَلَ وَهُوَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)).

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)).

وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).

وَيَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].

(({قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَنَجَحُوا، وَأَدْرَكُوا كُلَّ مَا يُرَامُ، الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ، الَّذِينَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْكَامِلَةِ: أَنَّهُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ: هُوَ حُضُورُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -تَعَالَى-، مُسْتَحْضِرًا لِقُرْبِهِ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ قَلْبُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ، وَتَسْكُنُ حَرَكَاتُهُ، وَيَقِلُّ الْتِفَاتُهُ مُتَأَدِّبًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَحْضِرًا جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ إِلَى آخِرِهَا، فَتَنْتَفِي بِذَلِكَ الْوَسَاوِسُ وَالْأَفْكَارُ الرَّدِيَّةُ، وَهَذَا رُوحُ الصَّلَاةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي لَا خُشُوعَ فِيهَا وَلَا حُضُورَ قَلْبٍ وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِيَةً مُثَابًا عَلَيْهَا فَإِنَّ الثَّوَابَ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْقِلُ الْقَلْبُ مِنْهَا)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ الزَّكَاةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

((يَحُثُّ الْبَارِي عِبَادَهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِمَّا كَسَبُوا فِي التِّجَارَاتِ، وَمِمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَهَذَا يَشْمَلُ زَكَاةَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ كُلِّهَا؛ الْمُعَدَّةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ.

وَأَمَرَ -تَعَالَى- أَنْ يَقْصِدُوا الطَّيِّبَ مِنْهَا، وَلَا يَقْصِدُوا الْخَبِيثَ، وَهُوَ الرَّدِيءُ الدُّونُ، يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ، وَلَوْ بَذَلَهُ لَهُمْ مَنْ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَرْتَضُوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمُغَاضَاةِ وَالْإِغْمَاضِ.

فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ الْوَسَطِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالْكَمَالُ إِخْرَاجُ الْعَالِي، وَالْمَمْنُوعُ إِخْرَاجُ الرَّدِيءِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ، وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ الثَّوَابُ التَّامُّ فِي الْمَنْدُوبِ.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}: فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ نَفَقَاتِ الْمُنْفِقِينَ، وَعَنْ طَاعَاتِ الطَّائِعِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِهَا وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا لِنَفْعِهِمْ، وَمَحْضِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ عَلَيْهِمْ.

 

وَمَعَ كَمَالِ غِنَاهُ وَسَعَةِ عَطَايَاهُ فَهُوَ الْحَمِيدُ فِيمَا يَشْرَعُهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُوصِلَةِ لَهُمْ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَحَمِيدٌ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنِ الْفَضْلِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَحَمِيدُ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهُ كُلَّهَا مَحَاسِنُ وَكَمَالَاتٌ لَا يَبْلُغُ الْعِبَادُ كُنْهَهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ وَصْفَهَا)).

وَفِي شَأْنِ الصِّيَامِ يَقُولُ نَبِيُّنَا : ((وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ الْحَجِّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].

((يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} عَلَى أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَفَرْضِيَّتُهُمَا.

الثَّانِي: وُجُوبُ إِتْمَامِهِمَا بِأَرْكَانِهِمَا وَوَاجِبَاتِهِمَا الَّتِي قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَوْلُهُ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)).

الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِالشُّرُوعِ فِيهِمَا وَلَوْ كَانَا نَفْلًا.

الْخَامِسُ: الْأَمْرُ بِإِتْقَانِهِمَا وَإِحْسَانِهِمَا، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى فِعْلِ مَا يَلْزَمُ لَهُمَا.

السَّادِسُ: وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِخْلَاصِهِمَا لِلَّهِ -تَعَالَى-.

السَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمُحْرِمُ بِهِمَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يُكْمِلَهُمَا إِلَّا بِمَا اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْحَصْرُ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أَيْ: مُنِعْتُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ لِتَكْمِيلِهِمَا بِمَرَضٍ، أَوْ ضَلَالَةٍ، أَوْ عَدُوٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَصْرِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ)).

 وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

((إِذَا أَتْمَمْتُمْ عِبَادَتَكُمْ، وَفَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ؛ فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ مَفَاخِرَ آبَائِكُمْ وَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ)).

وَقَدْ شَمِلَ الْأَمْرُ بِالْإِتْقَانِ شَأْنَ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ: الْإِتْقَانُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ أَعْظَمُ قِيمَةٍ قَطُّ لِمَنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، لِمَنْ كَانَ لَهُ حَامِلًا، لِمَنْ كَانَ لِأَدَائِهِ مُجِيدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي ((الصَّحِيحِ))، تَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ -الَّذِي يُجِيدُ تِلَاوَتَهُ، لَا يَتَعَثَّرُ فِي تِلَاوَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ- مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ  -يَعْنِي: مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْمُطَهَّرِينَ الْمَبْرُورِينَ الْأَبْرَارِ-، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ -أَجْرُ التِّلَاوَةِ وَأَجْرُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُلَاقِيهَا-)).

 

((إِتْقَانُ الْعَمَلِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ))

لَا شَكَّ أَنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ الَّتِي يَحْمِلُ أَبْنَاءَهُمْ حُبُّهُمْ لِأَوْطَانِهِمْ، وَوَعْيُهُمْ بِدَوْرِهِمْ فِي رُقِيِّهِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَى إِحْسَانِ الْعَمَلِ وَتَجْوِيدِهِ وَالتَّمَيُّزِ فِيهِ، وَهُوَ خَيْرُ سَبِيلٍ لِاغْتِنَامِ قُدُرَاتِ الشَّبَابِ وَطَاقَاتِهِمْ فِيمَا يَخْدِمُ الدِّينَ وَالْوَطَنَ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّقَدُّمِ وَالتَّطَوُّرِ الَّذِي يَعِيشُهُ الْعَالَمُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ فِي شَتَّى الْمَجَالَاتِ قَائِمٌ عَلَى أَكْتَافِ الشَّبَابِ الَّذِينَ أَسْهَمُوا بِجُهْدِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ فِي خِدْمَةِ أَوْطَانِهِمْ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّهُ لَا يَكْفِي الْفَرْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَمَلَ صَحِيحًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتْقَنًا؛ فَهَل يَعِي ذَلِكَ الْمُسلِمُونَ وَيَسْعَوْنَ إِلَى جَعْلِهِ مِيزَةً لِشَخْصِيَّاتِهِمْ وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمَبْدَأً يَنْطَلِقُونَ مِنْهُ فِي مُؤَسَّسَاتِ الْعِلْمِ وَمَيَادِينِ الْعَمَلِ وَأَسْوَاقِ الصِّنَاعَةِ، لِيَصِلُوا بِهِ إِلَى الْإِنجَازِ وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!!

إِنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ وَالتَّمَيُّرَ فِيهِ وَالْقِيَامَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِإِتْقَانٍ وَإِبْدَاعٍ؛ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ الْإِلَهِيِّ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَدِينُنَا الْحَنِيفُ لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ، إِنَّمَا يَطْلُبُ إِتْقَانَهُ وَإِحْسَانَهُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).

إِنَّ دِينَنَا دِينُ الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عُنِيَ عِنَايَةً بَالِغَةً بِذَلِكَ، سَوَاءٌ فِي مَجَالِ الصِّنَاعَةِ أَمْ فِي مَجَالِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا يُمْكِنَ أَنْ تَنْهَضَ أَوْ تَتَقَدَّمَ بِلَا إِتْقَانٍ، وَدَوْرُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِتْقَانَ ثَقَافَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْإِتْقَانُ هُوَ الْأَصْلَ فِي حَيَاتِنَا وَمَا عَدَاهُ هُوَ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ الْقَبُولُ بِهِ.

وَأَمَّا إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ فَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَحَضَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ﷺ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَمَانَةٌ، وَاللهُ سَائِلُهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِلْسِلَة الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.

فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

وَمِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ رُؤْيَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: ((فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ)).

قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كَمَا حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ حَذَّرَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْإِهْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُرَاقِبٌ لَهُمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

مُطَّلِعٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِمْ وَسُكُونِهِمْ، وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، مُرَاقِبًا لَهُمْ فِيهَا مِمَّا يُوجِبُ مُرَاقَبَتَهُ، وَشِدَّةَ الْحَيَاءِ مِنْهُ بِلُزُومِ تَقْوَاهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

الَّذِي لَا يُتْقِنُ عَمَلَهُ وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِ آثِمٌ بِقَدْرِ مَا يَتَسَبَّبُ فِي ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ، وَإِهْدَارِ الطَّاقَاتِ، فَهَذَا وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ لَا تَتَّسِقُ أَعْمَالُهُمْ مَعَ الدِّينِ وَلَا الْوَطَنِيَّةِ وَلَا الضَّمِيرِ الْحَيِّ؛ إِذْ إِنَّ عَدَمَ الْإِتْقَانِ بِمَثَابَةِ غِشٍّ لِلْمُجْتَمَعِ، وَإِهْدَارٍ وَتَضْيِيعٍ لِثَرْوَاتِهِ وَمُقَدَّرَاتِهِ، وَإِيذَاءٍ لِخَلْقِ اللهِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ إِيذَائِهِمْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، غِشًّا أَوْ تَدْلِيسًا.

((إِنَّ تَخَلُّفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَكْبِ الْحَضَارَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَانْتِشَارَ مَظَاهِرِ التَّكَاسُلِ وَالْخُمُولِ وَالتَّوَانِي فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَضَعْفَ إِتْقَانِهِمْ عَمَلَهُمْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَضَعْفِ هِمَمِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَفَسَادِ ضَمَائِرِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنْ تَوْجِيهَاتِ دِينِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَبَدًا، فَقَدْ رَأَيْنَا فِيمَا سَبَقَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْعَمَلِ وَالْجِدِّ وَالنَّشَاطِ وَالْإِتْقَانِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَرَفْضَهُ مَظَاهِرَ الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَالتَّكَفُّفِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَهَلَّا اسْتَيْقَظَ أُولَئِكَ الْخَامِلُونَ النَّائِمُونَ الْكُسَالَى مِنْ سُبَاتِهِمْ؛ لِيُلْحِقُوا أُمَّتَهُمْ بِرَكْبِ الْحَضَارَاتِ، وَيَنْفُضُوا عَنْ كَاهِلِهَا مَظَاهِرَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالتَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ؟!!)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

فَاللهَ اللهَ فِي أَنْفُسِكِمْ -عِبَادَ اللهِ-، أَدُّوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:

((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ))

-إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  قِصَّةُ الذَّبِيحِ وَمَظَاهِرُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ فِي الْحَجِّ
  مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ
  الرد على الملحدين:تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام، وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
  حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا
  الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  عقائد الكفر تغزو الشباب
  يَوْمُ عَرَفَةَ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  تحقيق التوحيد في الكسوف والخسوف
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان