الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ

الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ

((الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ شَأْنِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ حُذَيْفَةَ صَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «حَدَّثَنا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثَنا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ)).

ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».

النَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُ الْمَثَلَ الْمَحْسُوسَ بِمَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ لَا يُحَسُّ، وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَمْرٍ كَائِنٍ فِي الْأُمَّةِ لَا مَحَالَةَ؛ بَلْ رَآهُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمِنْهُمْ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ: ((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا اليَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا)).

وَهَذَا حُذَيْفَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا؛ فَمَا نَقُولُ نَحْنُ؟!!

اللهم لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ -وَجَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ: أَصْلُهُ- فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ))، كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا))، ثُمَّ: ((إِنَّ قَوْمًا يَقْرَأُونَهُ يَنْثُرُونَهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ نَزَلَ فِي جَذْرِ -أَيْ: فِي أَصْلِ- قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.

ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ، عَنْ قَبْضِ الْإِيمَانِ مِنَ الْقُلُوبِ، يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَتُنْزَعُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إلَّا كَمَثَلِ أَثَرِ الْوَكْتِ -وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ يَبْقَى فِي الشَّيْءِ عَلَامَةً بَاهِتَةً تَكَادُ تُخْطِؤُهَا الْعَيْنُ-.

ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَتُنْزَعُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إلَّا كَمِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ -وَهُوَ مَا يُصِيبُ الْيَدَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْفَأْسِ وَنَحْوِهَا-؛ فَإِذَا هِيَ مُنْتَبِرَةٌ قَدْ نَفِطَتْ، وَتَجَمَّعَ الْمَاءُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، كَالَّذِي دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، وَأَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.

ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمَانَاتِ تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى تُصْبِحَ أَنْدَرَ مِنْ عُقَابِ مَغْرِبٍ أَوْ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، لَا يَكَادُ الرَّجُلُ الْأَمِينُ يُوجَدُ فِي الْقَوْمِ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ، يَتَحَدَّثُ بِنُدْرَتِهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا؛ لِنُدْرَتِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِهِ، وَعِزَّتِهِ! «يُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا».

وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ عِنْدَمَا تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ تَخْتَلُّ الْمَقَايِيسُ، فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَحْسَنَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الشَّكْلُ الظَّاهِرُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةٍ؛ كَالْقَبْرِ.. لَهُ ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ، يَحْوِي الْجِيَفَ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى الدُّودِ وَمَا أَشْبَهَ، رُفَاةٌ وَأَسْمَالٌ بَالِيَاتٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النِّفَايَاتِ، ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ.

مَا أَجْمَلَهُ! مَا أَعْقَلَه! مَا أَكْيَسَهُ! مَا أَحْسَنَهُ! مَا أَجْلَدَهُ! وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ))؛ مَنْ أَعْطَيْتُ، وَمِمَّنْ أَخَذْتُ، وَلَا أُبَالِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَلَا فِيهِ أَحَدًا؛ ((لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا اليَومَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا))؛ لِعِزَّةِ الْأَمْرِ وَنُدْرَتِهِ، وَلِصُعُوبَةِ الْحُصُولِ عَلَى الْأَمِينِ فِي الْقَوْمِ، كَمَا قَالَ الْأَمِينُ ﷺ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ، قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا، فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ -عَلَى كَتِفَيْهِ-، حَتَّى إِذَا نَظَرَ ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبَيْهِ؛ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ: إِنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ أَبَاهُ -كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ ((الزُّهْدِ)) لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ--، فَقَالَ الْإِمَامُ لِابْنِهِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: ((إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ)).

وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ حَسَنٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِخْبَارًا عَنْ عَذَابٍ وَعَنْ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ فَمِ الْمَعْصُومِ ﷺ: ((الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ -الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ- يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ، قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ -وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، أَوْ هُوَ طَبَقَةٌ فِيهَا-، وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا، فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبَيْهِ؛ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ)).

((مَعْنَى الْأَمَانَةِ))

الْأَمَانَةُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: أَمِنَ يَأْمَنُ أَمَانَةً، أَيْ: صَارَ أَمِينًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (أ م ن) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى سُكُونِ الْقَلْبِ.

وَيُقَالُ: أَمِنْتُ الرَّجُلَ أَمْنًا وَأَمَنَةً وَأَمَانًا، وَآمَنَنِي يُؤْمِنُنِي إِيمَانًا.

وَرَجُلٌ أُمَنَةٌ: إِذَا كَانَ يَأْمَنُهُ النَّاسُ، وَلَا يَخَافُونَ غَائِلَتَهُ، وَأَمَنَةٌ -بِالْفَتْحِ-: يُصَدِّقُ مَا سَمِعَ، وَلَا يُكَذِّبُ بِشَيْءٍ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْأَمَنَةُ: الَّذِي يُصَدِّقُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ الأُمَنَةُ مِثَالُ الْهَمْزَةِ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ: دَخَلَ فِي أَمَانِهِ)).

وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((الْأَمَانُ وَالْأَمَانَةُ بِمَعْنًى، وَالْأَمَانَةُ ضِدُّ الْخِيَانَةِ)).

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((الْأَمَنَةُ: جَمْعُ أَمِينٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ، وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: ١٢٥]؛ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَادَ ذَا أَمْنٍ، فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِنٌ وَأَمِينٌ)).

وَرَجُلٌ أَمِنٌ وَأَمِينٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَيُقَالُ: أَمَّنْتُهُ عَلَى كَذَا، وَائْتَمَنْتُهُ بِمَعْنًى.

وَتَقُولُ: اؤْتُمِنَ فُلَانٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَإِنِ ابْتَدَأْتَ بِهِ صَيَّرْتَ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ وَاوًا، فَنَقُولُ: أُؤْتُمِنَ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((وَالْأَمْنُ وَالْأَمَانُ وَالْأَمَانَةُ فِي الْأَصْلِ مَصَادِرُ، وَيُجْعَلُ الْأَمَانُ تَارَةً اسْمًا لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ فِي الْأَمْنِ، وَتَارَةً تُجْعَلُ الْأَمَانَةُ اسْمًا لِمَا يُؤَمَّنُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧] أَيْ: مَا ائْتُمِنْتُمْ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُ اللهِ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: ٧٢] قِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: الْعَدَالَةُ، وَقِيلَ: حُرُوفُ التَّهَجِّي، وَقِيلَ: الْعَقْلُ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي لِحُصُولِهِ يَتَحَصَّلُ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ، وَتَجْرِي الْعَدَالَةُ، وَتُعْرَفُ حُرُوفُ التَّهَجِّي؛ بَلْ لِحُصُولِهِ تُعُلِّمَ كُلُّ مَا فِي طَوْقِ الْبَشَرِ تَعَلُّمُهُ، وَفُعِلَ مَا فِي طَوْقِهِمْ مِنَ الْجَمِيلِ فِعْلُهُ، وَبِهِ فُضِّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَهُ)).

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: ((اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَرَضَ طَاعَتَهُ وَفَرَائِضَهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ أَحْسَنَتْ أُثِيبَتْ وَجُوزِيَتْ، وَإِنْ ضَيَّعَتْ عُوقِبَتْ، فَأَبَتْ حَمْلَهَا؛ شَفَقًا مِنْهَا أَلَّا تَقُومَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهَا، وَحَمَلَهَا آدَمُ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ، جَهُولًا بِالَّذِي فِيهِ الْحَظُّ لَهُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْأَمَانَةَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ -أَيْضًا- مِنْ قَوْلِهِ -أَيِ: ابْنِ عَبَّاسٍ-: الْأَمَانَةُ: الطَّاعَةُ عَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهَا -أَيْ: عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَى آدَمَ-، فَلَمْ تُطِقْهَا، فَقَالَ لِآدَمَ: يَا آدَمُ! إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَلَمْ تُطِقْهَا؛ فَهَلْ أَنْتَ آخِذُهَا بِمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتَ جُزِيتَ، وَإِنْ أَسَأْتَ عُوقِبْتَ، فَأَخَذَهَا آدَمُ فَتَحَمَّلَهَا».

قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِالْأَمَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمَانَاتِ النَّاسِ، وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ هُنَا: ائْتِمَانُ آدَمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ابْنَهُ قَابِيلَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ)).

وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ عُنِيَ بِالْأَمَانَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمِيعَ مَعَانِي الْأَمَانَاتِ فِي الدِّينِ، وَأَمَانَاتِ النَّاسِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَخُصَّ بِقَوْلِهِ: {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} بَعْضَ مَعَانِي الْأَمَانَاتِ دُونَ بَعْضٍ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «الْأَمَانَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ وَظَائِفِ الدِّينِ؛ فَالْأَمَانَةُ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفَاصِيلِ بَعْضِهَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: هِيَ أَمَانَاتُ الْأَمْوَالِ؛ كَالْوَدَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ الْفَرَائِضِ، وَأَشَدُّهَا أَمَانَةُ الْمَالِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَمَانَةِ أَنِ ائْتُمِنَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ أَمَانَةٌ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ هِيَ الصَّلَاةُ؛ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ: صَلَّيْتُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لَمْ أُصَلِّ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ، وَغُسْلُ الجَنَابَةِ؛ وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، وَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، وَاللِّسَانُ أَمَانَةٌ، وَالْبَطْنُ أَمَانَةٌ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، قَالَ ﷺ: ((وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ))، وَقِيلَ: هَذِهِ الْأَمَانَةُ هِيَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْخَلْقِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ أَنْ يُظْهِرُوهَا، فَأَظْهَرُوهَا إِلَّا الْإِنْسَانَ؛ فَإِنَّهُ كَتَمَهَا وَجَحَدَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ: هُوَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ)).

أَمَّا مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ»؛ أَرَادَ بِهِ: مُؤْتَمَنَ الْقَوْمِ الَّذِي يَثِقُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَّخِذُونَهُ أَمِينًا حَافِظًا.

الْأَمَانَةُ تَقَعُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْوَدِيعَةِ، وَالثِّقَةِ، وَالْأَمَانِ.

وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَمِينٌ وَأَمَّانٌ، أَيْ: لَهُ دِينٌ، وَقِيلَ: مَأْمُونٌ بِهِ ثِقَةٌ.

قَالَ الْأَعْشَى:

وَلَقَدْ شَهِدْتُ التَّاجِرَ الْ      =       أُمَّانَ مَوْرُودًا شَرَابُهُ

وَالتَّاجِرُ الْأُمَّانُ -بالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: هُوَ الْأَمِينُ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ((وَالْأَمِينُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَمِينٌ، أَيْ: مُؤْتَمَنٌ، وَفُلَانٌ أَمِينِي، أَيْ: مُؤْتَمَنِي الَّذِي أَأْتَمِنُهُ عَلَى أَمْرِي، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أَسْمَ وََكِ أَنَّنِي    =     حَلَفْتُ يَمِينًا لَا أَخُونُ أَمِينِي

أَيْ: مُؤْتَمِنِي .

وَالْأَمَانَةُ اصْطِلَاحًا:

قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الْأَمَانَةُ: كُلُّ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ فَهُوَ أَمَانَةٌ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَأَوْكَدُهَا الْوَدَائِعُ، وَأَوْكَدُ الْوَدَائِعِ كَتْمُ الْأَسْرَارِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كُلُّ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُرُمٍ وَأَسْرَارٍ فَهُوَ أَمَانَةٌ)).

وَقِيلَ: هِيَ خُلُقٌ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ يَعِفُّ بِهِ الْإِنْسَانُ عَمَّا لَيْسَ لَهُ بِهِ حَقٌّ؛ وَإِنْ تَهَيَّأَتْ لَهُ ظُرُوفُ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً لِلْإِدَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَيُؤَدِّي بِهِ مَا عَلَيْهِ أَوْ لَدَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ؛ وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَهْضِمَهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً لِلْإِدَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ.

وَهِيَ أَحَدُ الْفُرُوعِ الْخُلُقِيَّةِ لِحُبِّ الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ، وَهِيَ ضِدُّ الْخِيَانَةِ.

وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمَانَةِ أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ عَنَاصِرَ.

الْأَوَّلُ: عِفَّةُ الْأَمِينِ عَمَّا لَيْسَ لَهُ بِهِ حَقٌّ.

الثَّانِي: تَأْدِيَةُ الْأَمِينِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ.

الثَّالِثُ: اهْتِمَامُ الْأَمِينِ بِحِفْظِ مَا اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ بِهَا وَالتَّهَاوُنِ بِشَأْنِهَا -أَيْ: بِالْأَمَانَةِ-.

 ((الْأَمَانَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْغَرَّاءَ حَافِلَةٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَمِنْهَا: خُلُقُ الْأَمَانَةِ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- بِهِ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ، وَوَصَفَ بِهِ أَهْلَ الْفَلَاحِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58].

((الْأَمَانَاتُ: كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا، أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً، وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا; فَوَجَبَ ذَلِكَ.

وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى أَهْلِهَا} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ وَتُؤَدَّى لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ; فَلَوْ دَفَعَهَا لِغَيْرِ رَبِّهَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لَهَا)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

(({وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ: مُرَاعُونَ لَهَا، ضَابِطُونَ، حَافِظُونَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَتَنْفِيذِهَا، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَالَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ}؛ فَجَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ أَمَانَةٌ، عَلَى الْعَبْدِ حِفْظُهَا بِالْقِيَامِ التَّامِّ بِهَا، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْآدَمِيِّينَ؛ كَأَمَانَاتِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَسْرَارِ، وَنَحْوِهِمَا؛ فَعَلَى الْعَبْدِ مُرَاعَاةُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَتَيْنِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَالَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَهِيَ الِالْتِزَامَاتُ وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْعَبْدُ؛ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهَا وَالْوَفَاءُ بِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْرِيطُ فِيهَا وَإِهْمَالُهَا)).

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283].

((وَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَكُمْ فَادْفَعُوا إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ شَيْئًا يَكُونُ عِنْدَهُ ضَمَانًا لِحَقِّهِ إِلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ، فَإِنْ وَثِقَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، وَالْإِشْهَادِ، وَالرَّهْنِ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ أَمَانَةً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاقِبَ اللهَ فَلَا يَخُونُ صَاحِبَهُ.

فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ، وَكَانَ هُنَاكَ مَنْ حَضَرَ وَشَهِدَ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ شَهَادَتَهُ، وَمَنْ أَخْفَى هَذِهِ الشَّهَادَةَ فَهُوَ صَاحِبُ قَلْبٍ غَادِرٍ فَاجِرٍ.

وَاللهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ.. الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ أُمُورِكُمْ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

فَمَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَلْ خَانَهَا؛ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ، وَصَارَ خَائِنًا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِأَمَانَتِهِ، مُنْقِصًا لِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِأَخَسِّ الصِّفَاتِ وَأَقْبَحِ الشِّيَاتِ؛ وَهِيَ الْخِيَانَةُ، مُفَوِّتًا لَهَا أَكْمَلَ الصِّفَاتِ وَأَتَمَّهَا؛ وَهِيَ الْأَمَانَةُ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُمْتَحَنًا بِأَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَرُبَّمَا حَمَلَتْهُ مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى أَدَاءِ أَمَانَتِهِ؛ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِتْنَةٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ سَتُؤَدَّى لِمَنْ أَعْطَاهَا، وَتُرَدُّ لِمَنِ اسْتَوْدَعَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ عَقْلٌ وَرَأْيٌ؛ فَآثِرُوا فَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى لَذَّةٍ صَغِيرَةٍ فَانِيَةٍ مُضْمَحِلَّةٍ، فَالْعَاقِلُ يُوَازِنُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهَا بِالْإِيثَارِ وَأَحَقَّهَا بِالتَّقْدِيمِ)).

إِنَّ شَأْنَ الْأَمَانَةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَظِيمٌ، وَكَمَا أَمَرَ بِأَدَائِهَا وَالْحِفَاظِ عَلَيْهَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-؛ كَذَلِكَ أَمَرَ بِهَا نَبِيُّنَا ﷺ، وَأَوْلَاهَا اهْتِمَامًا كَبِيرًا فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ)). الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ, وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ, وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ, وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ)).

((وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ..)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)).

اؤْتُمِنَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا دَامَ قَدِ الْتَفَتَ.

((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

 لَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُم.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:  ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ)) كَذَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حَدِيثِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ فِي مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ؛ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ, وَنُسِيءُ الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ, فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا, نَعْرِفُ صِدْقَهُ, وَنَسَبَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قال: فَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ, وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ...)) الْحَدِيثَ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ، وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ)).

قَالَ: ((اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ)).

فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((ادْعُ أَصْحَابَكَ)).

فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا -وَاللهِ- رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَلَا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ -وَاللهِ- الْبَيَادِرَ كُلَّهَا حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً!!)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ لِي عَلَى قُرَيْشٍ حَقًّا، وَإِنَّ لِقُرَيْشٍ عَلَيْكُمْ حَقًّا مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا، وَاؤْتُمِنُوا فَأَدَّوْا، وَاسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: ((مَتَى السَّاعَةُ؟)).

فَمَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: ((أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟)).

قَالَ: ((هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟)).

قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ عَلَى وُضُوئِهِنَّ، وَرُكُوعِهِنَّ، وَسُجُودِهِنَّ، وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ)).

قَالُوا: ((يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟)).

قَالَ: ((الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ؛ وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ)).

قَالَ: ((فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟)).

فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: ((اقْلُصْ))، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ)).

قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: ((يَرْحَمُكَ اللهُ؛ فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ)).

ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: ((فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مَنْقُورَةٍ، فَاحْتَلَبَ فِيهَا، فَشَرِبَ، وَشَرِبَ أَبُو بَكْرٍ، وَشَرِبْتُ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ)).

قَالَ: ((إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ)).

قَالَ: ((فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-؟)).

قَالُوا: ((كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: ((تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَوَامِّكُمْ)).

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ: ((لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ)).

فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ)).

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْتَشَارُ  مُؤْتَمَنٌ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا: ((ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعُكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُوَدِّعُنَا: ((أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)).

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟)).

قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ؛ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَجْمَعُ اللَّه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- فَيَقُولُون: يَا أَبَانَا! اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيقُولُ: وهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟! لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ)).

قُلْتُ: ((بِأَبِي وَأُمِّي! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟!!)).

قَالَ: ((أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدُّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِئَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ، مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ)).

((وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ! إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((الْأَمَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ))

مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ: الْأَمَانَةُ، وَالْأَمَانَةُ: هِيَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَمِينًا عَلَى الْوَحْيِ، يُبَلِّغُ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيَهُ إِلَى عِبَادِهِ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَدُونَ تَحْرِيفٍ أَوْ تَبْدِيلٍ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].

فَالْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا مُؤْتَمَنُونَ عَلَى الْوَحْيِ، يُبَلِّغُونَ أَوَامِرَ اللَّهِ كَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخُونُوا أَوْ يُخْفُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ تَتَنَافَى مَعَ الْأَمَانَةِ، وَهَلْ يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ أَنْ يَخُونَ أَمَانَتَهُ؛ فَلَا يَنْصَحَ الْأُمَّةَ، وَلَا يُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ؟!!

وَلِذَلِكَ كَانَ وَصْفُ الْأَمَانَةِ وَاجِبًا، وَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ اعْتِقَادُهُ فِيهِمْ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قَالَ هُودٌ (سلم): {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68].

وَكَمَا قَالَ عَنْ يُوسُفَ (سلم): {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].

وَقَصَّ عَنْ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، وَمُوسَى -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَقَالَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ لِلْإِيمَانِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 143].

وَقَصَّ مَقَالَةَ ابْنَةِ شُعَيْبٍ فِي وَصْفِهَا لِمُوسَى (سلم): {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْوَاصِفَةِ لَهُمْ بِهَذَا الْخُلُقِ دُونَ سَائِرِ أَوْصَافِهِمُ الْحَمِيدَةِ، وَكُلُّ أَوْصَافِهِمْ حَمِيدَةٌ؛ فَدَلَّ اخْتِيَارُ وَصْفِ الْأَمَانَةِ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ كَثْرَةِ صِفَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمُ الْكَرِيمَةِ عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الْخُلُقِ، وَبَالِغِ مَنْزِلَتِهِ.

وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي الْأَنْبِيَاءِ الْأَمَانَةُ لَتَغَيَّرَتْ مَظَاهِرُ الرِّسَالَةِ وَتَبَدَّلَتْ، وَلَمَا اطْمَأَنَّ الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ؛ وَلِهَذَا تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37])). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ نَشَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الصِّدْقِ، وَالْأَمَانَةِ، لَا يَعْرِفُ لَهُمَا بَدِيلًا، مُنْذُ نَشْأَتِهِ وَتَرَعْرُعِهِ وَهُوَ لَا يَكَادُ يُعْرَفُ فِي أَوْسَاطِ قَوْمِهِ إِلَّا بِالْأَمِينِ، فَيَقُولُونَ: جَاءَ الْأَمِينُ، ذَهَبَ الْأَمِينُ، حَتَّى حَلَّ مَحَلَّ الرِّضَا فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ احْتِكَامُهُمْ إِلَيْهِ فِي قِصَّةِ رَفْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ بَعْدَ تَنَازُعِهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ شَرَفِ رَفْعِهِ وَوَضْعِهِ فِي مَحَلِّهِ؛ حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ لَوْ لَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّاخِلُ مُحَمَّدًا ﷺ، الْمَرْضِيَّ لَدَيْهِمْ جَمِيعًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، رَضِينَا! هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ.

بَلْ لَقَدْ جَعَلَتْهُمْ ثِقَتُهُمُ الْكَبِيرَةُ بِأَمَانَتِهِ ﷺ يَنْقُلُونَ إِلَى بَيْتِهِ أَمْوَالَهُمْ وَنَفَائِسَ مُدَّخَرَاتِهِمْ؛ لِتَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، فَكَانَ لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ أَمَانَةً عِنْدَهُ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ؛ حَتَّى بَعْدَ مُعَادَاتِهِ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا يَخْتَلِجُهُمْ شَكٌّ فِي أَمَانَتِهِ وَهُمْ لَهُ ﷺ مُعَادُونَ.

وَلَقَدْ شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْأَمَانَةِ الْأَعْدَاءُ وَالْأَصْدِقَاءُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى شُيُوعِ هَذَا الْخُلُقِ فِيهِ، وَتَسْلِيمِ الْكُلِّ لَهُ بِهِ.

((مَجَالَاتُ الْأَمَانَةِ وَصُوَرُهَا))

إِنَّ الْأَمَانَةَ أَمَانَتَانِ: أَمَانَةُ الدِّينِ، وَأَمَانَةُ الْمَالِ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَتَيْنِ: أَمَانَةَ الدِّينِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ عَنْ إِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ، وَأَمَانَةَ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا لِأَهْلِهَا بِأَمَانَةٍ وَعَدَمِ تَفْرِيطٍ وَعَدَمِ تَسَاهُلٍ وَلَا عُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ.

كُلُّ مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَتَيْنِ: أَمَانَةَ الدُّنْيَا، وَأَمَانَةَ الدِّينِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، يَعُمُّ الْأَمَانَاتِ الدِّينِيَّةَ مِنْ: أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَتَرْكِ الْمَحَارِمِ، وَالْأَمَانَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ الْمَالِيَّةَ، وَغَيْرَهَا.

وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا- تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب:72] الْآيَةَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعِظَمِ شَأْنِهَا، فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الْفَرَائِضَ وَتَرْكَ الْمَحَارِمِ، وَتَشْمَلُ حُقُوقَ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

إِنَّ الْأَمَانَةَ تَدْخُلُ الْمَجَالَاتِ كُلَّهَا: الدِّينَ، وَالْأَعْرَاضَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْأَجْسَامَ، وَالْأَرْوَاحَ، وَالْمَعَارِفَ، وَالْعُلُومَ، وَالْوِلَايَةَ، وَالْوِصَايَةَ، وَالشَّهَادَةَ، وَالْقَضَاءَ، وَالْكِتَابَةَ، وَنَقْلَ الْحَدِيثِ، وَالْأَسْرَارَ، وَالرِّسَالَاتِ، وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَسَائِرَ الْحَوَاسِّ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّفْصِيلِ مَا يُنَاسِبُهَا. 

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الصَّلَاةُ أَمَانَةٌ، وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ، وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ، وَالْكَيْلُ أَمَانَةٌ))، وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا، قَالَ: ((وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ))؛ وَأَعَزُّ ذَلِكَ وَأَصْعَبُهُ وَأَكْبَرُهُ هُوَ الْوَدَائِعُ.

فَذَهَبَ مَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ -وَهُوَ زَادَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-- إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَقَالَ: ((أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ؟!! قَالَ: كَذَا، قَالَ: كَذَا)).

قَالَ: ((صَدَقَ؛ أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58]؟!)).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ: ((إِنَّ الصَّلَاةَ أَمَانَةٌ، وَإِنَّ الْوُضُوءَ أَمَانَةٌ، وَإِنَّ الْبَيْعَ أَمَانَةٌ، وَإِنَّ الْوَزْنَ أَمَانَةٌ، وَإِنَّ الْكَيْلَ أَمَانَةٌ)) فِي أَشْيَاءَ عَدَّدَهَا، ثُمَّ قَالَ: ((وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ)).

فَإِدْخَالُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي الْأَمَانَاتِ عَوْدٌ إِلَى قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 72-73].

((أَمَانَةُ الدِّينِ وَالتَّكْلِيفِ))

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ, أَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا, أَشْفَقْنَ مِنْ حَمْلِهَا, تَصَدَّى لِحَمْلِهَا الْإِنْسَانُ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِكُلِّ إِنْسَانٍ ظُلْمٌ بِحَسَبِهِ, وَجَهْلٌ بِحَسَبِهِ، لَا يَخْلُو إِنْسَانٌ مِنْ ظُلْمٍ وَجَهْلٍ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: ٧٢].

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

((يُعَظِّمُ -تَعَالَى- شَأْنَ الْأَمَانَةِ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفِينَ، الَّتِي هِيَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ فِي حَالِ السِّرِّ وَالْخُفْيَةِ كَحَالِ الْعَلَانِيَةِ، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- عَرَضَهَا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؛ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عَرْضَ تَخْيِيرٍ لَا تَحْتِيمٍ، وَأَنَّكِ إِنْ قُمْتِ بِهَا وَأَدَّيْتِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَلَكِ الثَّوَابُ، وَإِنْ لَمْ تَقُومِي بِهَا وَلَمْ تُؤَدِّيهَا فَعَلَيْكِ الْعِقَابُ.

{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أَيْ: خَوْفًا أَلَّا يَقُمْنَ بِمَا حُمِّلْنَ، لَا عِصْيَانًا لِرَبِّهِنَّ، وَلَا زُهْدًا فِي ثَوَابِهِ، وَعَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، فَقَبِلَهَا، وَحَمَلَهَا مَعَ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ، وَحَمَلَ هَذَا الْحِمْلَ الثَّقِيلَ.

فَانْقَسَمَ النَّاسُ -بِحَسَبِ قِيَامِهِمْ بِهَا وَعَدَمِهِ- إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

-مُنَافِقُونَ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ قَامُوا بِهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.

-وَمُشْرِكُونَ تَرَكُوهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

-وَمُؤْمِنُونَ قَائِمُونَ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

فَذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَعْمَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَقَالَ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا})).

((قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ... الْآيَةَ}؛ أَرَادَ بِالْأَمَانَةِ الطَّاعَةَ وَالْفَرَائِضَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، عَرَضَهَا عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَدَّوْهَا أَثَابَهُمْ، وَإِنْ ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَمَانَةُ: أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْعَدْلُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْوَدَائِعُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَمَانَةُ: الْفَرَائِضُ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ.

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الصَّوْمُ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَمَا يَخْفَى مِنَ الشَّرَائِعِ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَرْجَهُ، وَقَالَ: هَذِهِ أَمَانَةٌ اسْتَوْدَعْتُكَهَا؛ فَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، وَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَمَانَاتُ النَّاسِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ؛ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَغِشَّ مُؤْمِنًا وَلَا مُعَاهَدًا فِي شَيْءٍ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

فَعَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَانَةَ عَلَى أَعْيَانِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ -هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَكْثَرِ السَّلَفِ-، فَقَالَ لَهُنَّ: أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ بِمَا فِيهَا؟ قُلْنَ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُنَّ جُوزِيتُنَّ، وَإِنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ، فَقُلْنَ: لَا يَا رَبَّنَا، نَحْنُ مُسَخَّرَاتٌ لِأَمْرِكَ، لَا نُرِيدُ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً وَتَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أَلَّا يَقُومُوا بِهَا، لَا مَعْصِيَةً وَلَا مُخَالَفَةً، وَكَانَ الْعَرْضُ عَلَيْهِنَّ تَخْيِيرًا لَا إِلْزَامًا، وَلَوْ أَلْزَمَهُنَّ لَمْ يَمْتَنِعْنَ مِنْ حَمْلِهَا، وَالْجَمَادَاتُ كُلُّهَا خَاضِعَةٌ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، مُطِيعَةٌ سَاجِدَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصِّلِتْ: 11]، وَقَالَ لِلْحِجَارَةِ: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 74]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الْحَج: 18] الْآيَةَ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَكَّبَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِنَّ الْعَقْلَ وَالْفَهْمَ حِينَ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَقِلْنَ الْخِطَابَ، وَأَجَبْنَ بِمَا أَجَبْنَ.

{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أَيْ: خِفْنَ مِنَ الْأَمَانَةِ أَلَّا يُؤَدِّيَنَهَا فَيَلْحَقَهُنَّ الْعِقَابُ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} يَعْنِي: آدَمُ (سلم).

{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ، جَهُولًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا احْتَمَلَ مِنَ الْأَمَانَةِ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَلُومًا حِينَ عَصَى رَبَّهُ، جَهُولًا لَا يَدْرِي مَا الْعِقَابُ فِي تَرْكِ الْأَمَانَةِ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ، جَهُولًا بِعَاقِبَةِ مَا تَحَمَّلَ)).

هَذَا الْإِنْسَانُ الضَّئِيلُ الْقَلِيلُ بِذَاتِهِ بِعَدَمِ اتِّصَالِهِ بِرَبِّهِ، هَذَا الْإِنْسَانُ الضَّئِيلُ فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِزَاءِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مَا يَكُونُ حَجْمًا، وَكَيْنُونَةً، وَصِفَةً، وَقُوَّةً، وَثَبَاتًا وَرُسُوخًا؟!!

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}، هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْعَظِيمَةُ أَعْظَمُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْنُ بَاصِرٍ، وَتَمْتَدُّ إِلَيْهِ بِطَرْفِهَا عَيْنُ إِنْسَانٍ، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، يَهْتَدُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَيُطِيعُونَ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِإِرَادَةٍ وَلَا نَوَازِعَ وَلَا شَهْوَةٍ تَدْفَعُ الْإِنْسَانَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَا غَرِيزَةٍ تَأْخُذُ بِالْإِنْسَانِ بِثِقْلَةِ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ، بَيْنَمَا تُحَاوِلُ الرُّوحُ أَنْ تَصْعَدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ.

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}: أَشْفَقْنَ مِنْ ثِقَلِهَا، مِنَ التَّعَرُّضِ لِمِثْلِ هَذَا الْحِمْلِ الثَّقِيلِ الْعَظِيمِ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}: يَظْلِمُ نَفْسَهُ، وَيَجْهَلُ إِمْكَانَاتِهِ وَقَدْرَهُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ فَحَمَلَهَا؛ حَمَلَ أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْإِرَادَةِ بِالنَّوَازِعِ، وَبِالْجَذْبِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِثِقْلَةِ الطِّينِ وَإِشْرَاقَةِ النُّورِ؛ لِلتَّجَاذُبِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ هَوَاهُ وَدُنْيَاهُ وَالشَّيْطَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ كُلُّ ذَلِكَ يَأْتِيهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّمَزُّقِ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

ثُمَّ يُرَتِّبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْأَمْرِ نَتِيجَتَهُ: {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، وَالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ الْحَاسِمَةِ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يَتَحَمَّلُونَ الْأَمَانَةَ بِظُلْمٍ وَجَهْلٍ، وَيُؤَدُّونَهَا بِعَدْلٍ وَعِلْمٍ، وَيَأْتُونَ بِمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَجْتَنِبُونَ نَهْيَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ نَهْيُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُطِيعُونَ النَّبِيَّ ﷺ، وَلَا يَتَوَرَّطُونَ فِي الْخِيَانَةِ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}

لَا يَتَوَرَّطُونَ فِي خِيَانَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْبُعْدِ عَنْ مَنْهَجِهِ، بِالْبُعْدِ عَنْ كِتَابِهِ، بِالْبُعْدِ عَنْ تَعَالِيمِهِ، بِالْوُقُوعِ فِي مَعَاصِيهِ، بِالِاقْتِرَابِ مِنْ مَنَاهِيهِ، فَهَذِهِ خِيَانَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ كُفْرًا بِاللهِ، وَجُحُودًا لِوُجُودِهِ الْعَظِيمِ، وَفَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ شِرْكًا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِدْخَالًا لِمَا لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْخَلْقِ أَوْ فِي الْأَمْرِ، وَلَا خَلْقَ وَلَا أَمْرَ إِلَّا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لَا تَخُونُوا اللهَ، وَتَخُونُوا الرَّسُولَ، وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} مَا ائْتَمَنَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانَةِ التَّكْلِيفِ، أَمَانَةِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّ خِيَانَةَ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ هِيَ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، فِي الْبُعْدِ عَنْ طَرِيقَتِهِ، هِيَ خِيَانَةٌ لَهُ ﷺ، وَأَقْبِحْ بِهَا مِنْ خَصْلَةٍ، وَأَقْبِحْ  بِهَا مِنْ سِيمَاءَ يَتَّسِمُ بِهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ قَدْرًا  وَلَا لِرُوحِهِ وَزْنًا فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِنَّ أَصْحَابَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْعِنَادِ وَالطُّغْيَانِ كَانُوا لَا يَخُونُونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَمَنْ خَانَ مِنْهُمْ فَهِيَ مَسَبَّةُ الدَّهْرِ وَمَعَرَّةُ الْعُمُرِ، يَتَوَارَثُهَا الْأَحْفَادُ عَنِ الْأَبْنَاءِ، وَيَتَوَارَثُهَا الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ، وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ ثَابِتًا.

وَإِنَّهُ لَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ: مَا يُقَالُ فِي الْأَمْثَالِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ))، وَكَانَ السَّمَوْأَلُ بْنُ عَادِيَاءَ رَجُلًا يَهُودِيًّا لَهُ حِصْنٌ فِي الْبَادِيَةِ، اسْتَوْدَعَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ أَدْرُعَهُ، وَأَمْوَالَهُ، وَنِسَاءَهُ، وَجَاءَ أَعْدَاءُ كِنْدَةَ، جَاءَ أَعْدَاءُ امْرِئِ الْقَيْسِ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الْيَهُودِيِّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْخُذُوا وَدَائِعَ عَدُوِّهِمْ، فَأَبَي وَدَافَعَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى شَارَفَ عَلَى الْهَلَاكِ؛ فَصَارَ مَثَلًا فِي الْوَفَاءِ، يُقَالُ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ))، وَلَا دِينَ هُنَاكَ يَدْفَعُهُ إِلَى هَذَا؛ وَلَكِنَّهُ الْخَوْفُ مِنْ مَعَرَّةِ الْخِيَانَةِ، وَالِارْتِفَاعُ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ فَوْقَ حَمْأَةِ الطِّينِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَلَّا يُخَانَ، كَمَا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا يُخَانَ!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

لَا تَخُونُوا أَمَانَةَ الصَّلَاةِ!

وَلَا تَخُونُوا أَمَانَةَ الزَّكَاةِ!

وَلَا تَخُونُوا أَمَانَةَ الْحَجِّ، وَلَا أَمَانَةَ الصَّوْمِ!

وَلَا تَخُونُوا الْأَمَانَاتِ فِي عَلَاقَاتِكُمْ بِرَبِّكُمْ، وَلَا فِي عَلَاقَاتِكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا فِي عَلَاقَاتِكُمْ بِغَيْرِكُمْ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!

فِي كُلِّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَاذَ بِاللهِ أَنْ يَتَوَرَّطَ الْمُسْلِمُ فِيهَا، وَنَاهِيكَ وَالنَّبِيُّ ﷺ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَهُوَ أَوْفَى الْخَلْقِ طُرًّا ﷺ، يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)).

وَكَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثَابِتًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَّا قَالَ: ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)).

((مَا خَطَبَنَا)) يَعْنِي: إِنَّهُ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ ﷺ بِالتَّذْكِيرِ، بِالتَّنْفِيرِ، بِالتَّبْشِيرِ، بِالنِّذَارَةِ ﷺ؛ ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)).

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَنْطَوُونَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ بِحَالٍ أَبَدًا، وَأَمَّا خِصَالُ الْمُنَافِقِينَ فَثَابِتٌ مِنْهَا مَعْلُومٌ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).

أَمَّا الرَّسُولُ ﷺ فَيَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ؛ وَإِلَّا فَهِيَ الْخِيَانَةُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهِيَ الْخِيَانَةُ لِلْأَمَانَةِ الَّتِي حُمِّلَهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَمَا عَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، فَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ حَمَلَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ظَلُومًا جَهُولًا}، يَنْحَطُّ إِلَى الْأَرْضِ، إِلَى الدَّرْكِ الْهَابِطِ إِذَا لَمْ يَتَمَسَّكْ بِأَسْبَابِ الِاتِّصَالِ بِأَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا إِذَا مَا تَمَسَّكَ بِأَهْدَابِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَغَالَبَ الشَّهَوَاتِ، وَنَازَعَ النَّزْغَاتِ، وَاسْتَعْلَى عَلَى الْغَرَائِزِ الْكَامِنَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَخَذَ يَرْتَقِي صُعُدًا فِي مَدَارِجِ الْكَمَالَاتِ نَحْوَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَإِنَّهُ -عِنْدَئِذٍ- يَكُونُ فِي الْمَقَامِ الْأَسْنَى عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُسَوِّي بَيْنَ الَّذِي يَأْتِيهِ طَائِعًا مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ، مِنْ غَيْرِ نَوَازِعَ، وَمِنْ غَيْرِ إِرَادَاتٍ، وَبَيْنَ الَّذِي يُغَالِبُ مَا يُغَالِبُ مِنْ نَفْسِهِ وَضَعْفِهِ، وَالْتِصَاقِهِ بِالْحَمْأَةِ، وَنُزُوعِهِ إِلَى الطِّينِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ، ثُمَّ هَذِهِ الْغَرَائِزُ وَالشَّهَوَاتُ مَعَ الْمُغَالَبَةِ الدَّائِمَةِ لِكُلِّ ذَلِكَ؛ لَا يُسَوِّي رَبُّكَ -وَهُوَ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ- بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.

((أَمَانَةُ الْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

إِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الدِّينِ، وَبِهِ يُؤْمَنُ انْمِحَاقُ الْعِلْمِ، فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَآكَدِ الْفُرُوضِ -فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ-.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا...} [البقرة: 159] الْآيَةَ.

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ طُرُقٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ)).

مِنْ آدَابِ الْعُلَمَاءِ: أَلَّا يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ، وَلَا يَمْنَعُوا مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لُؤْمٌ وَظُلْمٌ، وَالْمَنْعَ مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمُ الْبُخْلُ بِمَا مُنِحُوهُ جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مَنْ غَيْرِ بَذْلٍ؟!!

أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمُ الشُّحُّ بِمَا إِنْ بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا، وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهَى؟!!

وَلَوِ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَمَا وَصَلَ الْعِلْمُ إِلَيْهِمْ، وَلَانْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الْأَيَّامِ جُهَّالًا، وَبِتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالًا.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((مَا أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا)).

مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْأَمَانَةِ أَمَانَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَهِيَ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 143].

((إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ مِنَ اللهِ رَبِّكُمْ, أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ؛ لُطْفًا بِكُمْ وَرَحْمَةً, فَتَلَقَّوْا رَحْمَتَهُ بِالْقَبُولِ, وَقَابِلُوهَا بِالْإِذْعَانِ، أَمِينٌ تَعْرِفُونَ ذَلِكَ مِنِّي, وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِي, وَبِمَا جِئْتُ بِهِ)).

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَبَبَ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَمْلَهَا هَذِهِ الْأَمَانَةِ -وَهِيَ أَمَانَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ لِلْعَالَمِينَ-، قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ، وَحُمِّلَتْ وَظِيفَةَ الْخُرُوجِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ دِينَ اللهِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ قَدْ عَلِمَهَا اللهُ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَكُمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ.

وَسَبَبُ بَقَاءِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ فِيكُمْ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ أَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تَأْمُرُونَ دَاخِلَ مُجْتَمَعِكُمُ الْمُسْلِمِ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ.

وَتَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ، فَتَحْمُونَ مُجْتَمَعَكُمْ بِهَذَا -أَيْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الِانْحِرَافِ الْخَطِيرِ، وَالِانْهِيَارِ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ.

وَأَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تُصَدِّقُونَ بِاللهِ، وَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ النَّكَبَاتُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى؛ بُغْيَةَ إِخْرَاجِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ.

وَإِنَّ أَمَانَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- تَقْتَضِي؛ أَنْ يَتَّقِيَ الدُّعَاةُ اللهَ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا مِنْهَاجَ نَبِيِّهِمْ، وَسَبِيلَ سَلَفِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ.

وَأَنْ يُعَلِّمُوا النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَنْ يُرْشِدُوهُمْ إِلَى صَالِحِهِمْ، وَأَنْ يَنْشُرُوا الْحُبَّ وَالسَّلَامَ بَيْنَهُمْ.

وَأَنْ يُعَلِّمُوا النَّاسَ مُجْمَلَ الِاعْتِقَادِ.

أَنْ يُبَصِّرُوا النَّاسَ بِحَقِيقَةِ دِينِهِمْ، وَجَلَالِ مُعْتَقَدِهِمْ، وَسَلَامَةِ مَنْهَجِهِمْ، وَأَنْ يَحُثُّوهُمْ عَلَى أَنْ يَعِيشُوا بِالْوَحْيِ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ مَعْصُومٌ.

((أَمَانَةُ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالدِّمَاءِ))

لِلْأَمَانَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَمَعَانٍ عَظِيمَةٌ، مَنَاطُهَا جَمِيعًا شُعُورُ الْمَرْءِ بِمَسْؤُولِيَّتِهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يُوكَلُ إِلَيْهِ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْأَمَانَةَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، كَمَا تَشْمَلُ أَمَانَةَ الْكَلِمَةِ، وَأَمَانَةَ الْأَسْرَارِ، وَأَمَانَةَ النَّصِيحَةِ، وَأَمَانَةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَانَةَ الْعَمَلِ وَالصَّنْعَةِ.

مِنَ الْأَمَانَةِ: الْأَمَانَةُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ، وَتَكُونُ بِكَفِّ النَّفْسِ وَالْيَدِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسُوءٍ؛ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ جَرْحٍ، أَوْ ضَرٍّ، أَوْ أَذًى.

النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ: نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).

وَهُمْ يَقُولُونَ: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟)).

يَقُولُونَ: ((بَلَى)).

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

وَرَوَى مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وعِرْضُهُ)).

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ.

فَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْأَمَانِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 93].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ، لَا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺكَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ الْقَاتِلِ الْجَنَّةَ.

وَأَمَّا قَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأً، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].

((الْأَمَانَةُ فِي الْأَمْوَالِ))

مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْأَمَانَاتِ: أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ النَّاسَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَعَدَمِ التَّوَرُّطِ فِي أَكْلِ الْحَرَامِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!)).

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ الصَّحِيحُ يُرَكِّزُ عَلَى أَصْلٍ خَطِيرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ ((أَكْلُ الْحَلَالِ))، وَيُحَذِّرُ مِنْ خُطُورَةِ أَكْلِ الْحَرَامِ.

وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، وَأَكْلَهَا بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.

وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ بِصُنُوفِهِ؛ مِنْ رِبًا، وَرِشْوَةٍ، وَتَزْوِيرٍ.

وَأَكْلُ السُّحْتِ يَسْتَأْصِلُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُفْسِدُ أُمُورَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

حُكَّامُ الْيَهُودِ كَثِيرُو السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، كَثِيرُو الْأَكْلِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ؛ كَالرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ رَشَاهُمْ وَيَقْضُونَ لَهُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].

تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -أَيِ: الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبِطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ.

وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ- وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ: قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

((أَمَانَةُ الْأَعْرَاضِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الْأَمَانَةِ: أَمَانَةَ الْأَعْرَاضِ، وَأَمَانَةُ الْأَعْرَاضِ: هِيَ الْعِفَّةُ عَمَّا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ حَقٌّ مِنْهَا، وَكَفُّ النَّفْسِ وَاللِّسَانِ عَنْ نَيْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِسُوءٍ، كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ، وَمِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَّهَا حَفِظَتْ لِلْإِنْسَانِ كَرَامَتَهُ وَإِنْسَانِيَّتَهُ، وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ؛ فَهِيَ شَرِيعَةُ الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ صِيَانَةَ الْأَعْرَاضِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا، وَالنَّيْلَ مِنْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: وَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ؛ كَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ كُلُّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْبَغْيِ كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ.

فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ تَرْجِعُ إِلَيْهَا سَائِرُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى عَدْلٍ، أَوْ إِحْسَانٍ، أَوْ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى؛ فَهِيَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.

وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فَحْشَاءٍ، أَوْ مُنْكَرٍ، أَوْ بَغْيٍ؛ فَهِيَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَا يُعْلَمُ حُسْنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَقُبْحُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِهَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْوَالِ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ فِي كَلَامِهِ الْهُدَى، وَالشِّفَاءَ، وَالنُّورَ، وَالْفُرْقَانَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ.. بِأَمْرِكُمْ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِكُمْ، وَنَهْيِكُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مَا يَعِظُكُمْ بِهِ فَتَفْهَمُونَهُ وَتَعْقِلُونَهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهُ وَعَقِلْتُمُوهُ؛ عَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَسَعِدْتُمْ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا.

أَمَرَ اللهُ بِالْحِفَاظِ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَأَثْنَى -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ((الَّذِينَ هُمْ حَافِظُونَ لِفُرُوجِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَإِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ))، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5-7].

(({وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} عَنِ الزِّنَى، وَمِنْ تَمَامِ حِفْظِهَا تَجَنُّبُ مَا يَدْعُو إِلَى ذَلِكَ؛ كَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مِنَ الْإِمَاءِ الْمَمْلُوكَاتِ {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} بِقُرْبِهِمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَحَلَّهُمَا.

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} غَيْرَ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} الَّذِينَ تَعَدَّوْا مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ، الْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ.

وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً حَقِيقَةً مَقْصُودًا بَقَاؤُهَا، وَلَا مَمْلُوكَةً، وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ لِذَلِكَ)).

وَشَرَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -حِفَاظًا عَلَى أَمَانَةِ الْأَعْرَاضِ- الْحُدُودَ الَّتِي فَرَضَهَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عُقُوبَةً لِلْمُتَعَدِّي عَلَى الْأَعْرَاضِ؛ فَـ((إِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الْحُدُودِ، وَتَنَوُّعِهَا بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ.

وَهَذَا لِأَنَّ الْجَرَائِمَ وَالتَّعَدِّيَ عَلَى حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ الَّذِي يُخِلُّ بِالنِّظَامِ، وَيَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا.

فَوَضَعَ الشَّارِعُ لِلْجَرَائِمِ وَالتَّجَرُّءاتِ حُدُودًا تَرْدَعُ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَتُخَفِّفُ مِنْ وَطْأَتِهَا: مِنَ الْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَالْجَلْدِ، وَأَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ.

وَكُلُّهَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْعَاقِلُ حُسْنَ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّ الشُّرُورَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاوَمَ وَتُدْفَعَ دَفْعًا كَامِلًا إِلَّا بِالْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَشِدَّةً وَضَعْفًا)).

لَقَدْ نَهَانَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ تَأْخُذَنَا رَأْفَةٌ بِالزُّنَاةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَمْنَعُنَا مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَرَحْمَتُهُ حَقِيقَةٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَرَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْضُرَ عَذَابَ الزَّانِيَيْنِ طَائِفَةٌ -أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ-؛ لِيَشْتَهِرَ، وَيَحْصُلَ بِذَلِكَ الْخِزْيُ وَالِارْتِدَاعُ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].

وَكَمَا حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَضْيِيعَ أَمَانَةِ الْعِرْضِ وَرَهَّبَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَكَذَلِكَ رَسُولُهُ ﷺ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

 (({إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيِ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ، فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ؛ وَذَلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ، وَلِاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ؟!!

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْفَاحِشَةُ صَادِرَةً أَوْ غَيْرَ صَادِرَةٍ.. وَكُلُّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَصِيَانَةِ أَعْرَاضِهِمْ كَمَا صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي الْمُصَافَاةَ، وَأَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ فَلِذَلِكَ عَلَّمَكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَجْهَلُونَهُ)).

بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- تَعْظِيمَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالرَّمْيِ بِالزِّنَى فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 4-5].

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ، وَكَذَلِكَ الرِّجَالُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ: الرَّمْيُ بِالزِّنَى، بِدَلِيلِ السِّيَاقِ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} عَلَى مَا رَمَوْا بِهِ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: بِرِجَالٍ عُدُولٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ صَرِيحًا.

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} بِسَوْطٍ مُتَوَسِّطٍ يُؤْلِمُ فِيهِ، وَلَا يُبَالِغُ بِذَلِكَ حَتَّى يُتْلِفَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ: التَّأْدِيبُ، لَا الْإِتْلَافُ.

وَفِي هَذَا تَقْرِيرُ حَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ -كَمَا قَالَ تَعَالَى- مُحْصَنًا مُؤْمِنًا، وَأَمَّا قَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ.

{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أَيْ: لَهُمْ عُقُوبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ حُدَّ عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَتُوبَ.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، الَّذِينَ قَدْ كَثُرَ شَرُّهُمْ؛ وَذَلِكَ لِانْتِهَاكِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَانْتِهَاكِ عِرْضِ أَخِيهِ، وَتَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَى الْكَلَامِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَإِزَالَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي عَقَدَهَا اللهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ)).

((وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: الْعَفَائِفَ عَنِ الْفُجُورِ {الْغَافِلَاتِ} اللَّاتِي لَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِنَّ الْمُؤْمِنَاتِ، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: وَاللَّعْنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَأَكَّدَ اللَّعْنَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارَيْنِ.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى اللَّعْنَةِ، أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ شَدِيدَ نِقْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟)).

قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ))

مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْأَمَانَةِ: أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! خَافُوا عِقَابَ اللهِ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ، وَقُولُوا قَوْلًا صَوَابًا قَاصِدًا إِلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ؛ يَتَقَبَّلِ اللهُ حَسَنَاتِكُمْ، وَيَمْحُو ذُنُوبَكُمْ.

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ حَقًّا يَقِينًا: عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ، أَوْ شَهَادَةٍ، أَوْ رِوَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ الَّذِي تُرِيدُونَ مَحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

مَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، وَمَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا عِنْدَهُ مَلَكٌ حَافِظٌ يَكْتُبُ قَوْلَهُ، مُعَدٌّ مُهَيَّأٌ لِذَلِكَ، حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَا يُفَارِقُهُ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ، الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذبَةَ فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ، وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنأًى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزْنَ، وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ!!

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))

قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ، قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))

قُلْنَا: لَا.

قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).

ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.

 قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأيتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

((رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُه بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).

هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ، يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَعنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرزَخِ.

فَانْظُر إِلَى هَذَا الْعَذَابِ -هُدِيتَ-، كَيْفَ تَنَاوَلَ مِنَ الْكَذَّابِ آلَةَ كَذِبِه وَمَوْضِعَ إِفْكِهِ؟!! وَكَيْفَ يُشَقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ يُثَنَّى بِالْآخَرِ، فَيَلْتَئِمُ الْأَوَّلُ، فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ كَمَا صُنِعَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!!

وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ».

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ».

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِفْظَ اللِّسَانِ مَعَ حِفْظِ الْفَرْجِ جَوَازًا إِلَى الْجَنَّةِ وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَمَنْ ضَمِنَ اللِّسَانَ وَالْفَرْجَ ضَمِنَ لَهُ النَّبِيُّ الْجَنَّةَ؛ قَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَانْظُرْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ- إِلَى قَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا»، وَتَأَمَّلْ جَيِّدًا -أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي وَعَنْكَ.

((أَمَانَةُ الْجَوَارِحِ))

إِنَّ الْجَوَارِحَ وَالْأَعْضَاءَ كُلَّهَا أَمَانَاتٌ، يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ -سُبْحَانَهُ-؛ فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغُضَّهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَنِّبَهَا سَمَاعَ الْحَرَامِ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَلَا تَتَّبِعْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ حَيَاتِكَ شَيْئًا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ لَدَيْكَ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَسْتَطِيعُ بِهِ التَّبَصُّرَ فِي الْأُمُورِ.

فَإِذَا أَنْتَ اتَّبَعْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَقَدْ عَطَّلْتَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَدَيْكَ، إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْؤُولٌ عَمَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَعُمْقَ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْإِدْرَاكِ فِي الْإِنْسَانِ، وَمَرْكَزُ اسْتِقْرَارِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالَّذِي تَنْطَلِقُ مِنْهُ الْإِرَادَاتُ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَيَسْتَنْطِقُ الْأَعْضَاءَ؛ لِكَيْ تَنْطِقَ بِمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَمَا اقْتَرَفَهُ وَمَا اجْتَنَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ سَيُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ أَمَامَ اللهِ، وَاللهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ سَيَقِفُ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ أَمَامَ اللهِ عَمَّا اقْتَرَفَتْ يَدَاهُ!!

فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: سَأَجْعَلُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ شَاهِدًا مِنْ نَفْسِكَ!!

فَمَا ظَلَمَهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ فِيهِ غَايَةَ الْعَدْلِ, وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

يَخْتِمُ عَلَى فَمِهِ، وَيَأْمُرُ أَعْضَاءَهُ بِأَنْ تَنْطِقَ بِمَا عَمِلَتْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَمَا اقْتَرَفَتْ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْطِقُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَيُقْبِلُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَائِمًا يَقُولُ: وَيحَكُنَّ! عَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ!!

فَتَقُولُ أَعْضَاؤُهُ وَجَوارِحُهُ: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.

((أَمَانَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ))

إِنَّ الْأَمَانَاتِ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْوَدَائِعِ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا مَفْهُومٌ كَبِيرٌ كَمَا بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَالْبَيْتُ وَالْأَوْلَادُ أَمَانَةٌ وَمَسْؤُولِيَّةٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

(({يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أَيْ: أَوْلَادُكُمْ -يَا مَعْشَرَ الْوَالِدِينَ- عِنْدَكُمْ وَدَائِعُ قَدْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِتَقُومُوا بِمَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَتُعْلِمُونَهُمْ وَتُؤَدِّبُونَهُمْ وَتَكُفُّونَهُمْ عَنْ الْمَفَاسِدِ، وَتَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمُلَازَمَةِ التَّقْوَى عَلَى الدَّوَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.

فَالْأَوْلَادُ عِنْدَ وَالِدِيهِمْ مُوصًى بِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَقُومُوا بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَيِّعُوهَا فَيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْعِقَابَ.

وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، حَيْثُ أَوْصَى الْوَالِدَيْنِ مَعَ كَمَالِ شَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِمْ)).

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].

((أَيْ: يَا مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ! قُومُوا بِلَوَازِمِهِ وَشُرُوطِهِ، فَـ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْفَظِيعَةِ، وَوِقَايَةُ الْأَنْفُسِ بِإِلْزَامِهَا أَمْرَ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ امْتِثَالًا وَنَهْيِهِ اجْتِنَابًا، وَالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْخَطُ اللَّهُ وَيُوجِبُ الْعَذَابَ، وَوِقَايَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ؛ بِتَأْدِيبِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِجْبَارِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَلَا يَسْلَمُ الْعَبْدُ إِلَّا إِذَا قَامَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ.

وَوَصَفَ اللَّهُ النَّارَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ؛ لِيَزْجُرَ عِبَادَهُ عَنِ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ فَقَالَ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ})).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)).

يَقُولُ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)).

((أَمَانَةُ الْوَدَائِعِ))

مِنْ صُوَرِ الْأَمَانَةِ: الْأَمَانَةُ فِي الْأَمْوَالِ.

مِنَ الْأَمَانَةِ: الْعِفَّةُ عَمَّا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ حَقٌّ مِنَ الْمَالِ، وَتَأْدِيَةُ مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِذَوِيهِ، وَتَأْدِيَةُ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْهُ لِأَصْحَابِ الْحَقِّ فِيهِ، وَتَدْخُلُ فِي الْبُيُوعِ، وَالدُّيُونِ، وَالْمَوَارِيثِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالرُّهُونِ، وَالْعَوَارِي، وَالْوَصَايَا، وَأَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا الْأَمَانَةُ الْمَالِيَّةُ وَهِيَ: الْوَدَائِعُ الَّتِي تُعْطَى لِلْإِنْسَانِ لِيَحْفَظَهَا لِأَهْلِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الْأُخْرَى الَّتِي تَكُونُ بِيَدِ الْإِنْسَانِ لِمَصْلَحَتِهِ، أَوْ مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ مَالِكِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمَانَةَ الَّتِي بِيَدِ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِمَصْلَحَةِ مَالِكِهَا أَوْ لِمَصْلَحَةِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ، أَوْ لِمَصْلَحَتِهِمَا جَمِيعًا)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58].

((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَأْمُرُكُمْ بِأَدَاءِ مُخْتَلَفِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي اؤْتُمِنْتُمْ عَلَيْهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، فَلَا تُفَرِّطُوا فِيهَا)).

بَعْدَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَصْرِيحِهِ بِالنُّبُوَّةِ كَانُوا يُودِعُونَ عِنْدَهُ وَدَائِعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ لِعَظِيمِ ثِقَتِهِمْ بِهِ، وَهُوَ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ خَلَّفَ فِيهَا عَلِيًّا لِيَرُدَّ مَا كَانَ لَدَيْهِ مِنَ الْوَدَائِعِ إِلَى أَهْلِهَا.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).

((أَمَانَةُ الْوِلَايَاتِ))

مِنَ الْأَمَانَاتِ: الْأَمَانَةُ فِي الْوِلَايَةِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنَ الْأَمَانَةِ -أَيْضًا- أَمَانَةُ الْوِلَايَةِ، وَهِيَ أَعْظَمُهَا مَسْؤُولِيَّةً، الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْوِلَايَاتُ الْخَاصَّةُ، فَالسُّلْطَانُ -مَثَلًا، الرَّئِيسُ الْأَعْلَى فِي الدَّوْلَةِ- أَمِينٌ عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، عَلَى مَصَالِحِهَا الدِّينِيَّةِ، وَمَصَالِحِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، عَلَى أَمْوَالِهَا الَّتِي تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَا يُبَذِّرُهَا وَلَا يُنْفِقُهَا فِي غَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ أَمَانَاتٌ أُخْرَى دُونَهَا؛ كَأَمَانَةِ الْوَزِيرِ -مَثَلًا- فِي وَزَارَتِهِ، وَأَمَانَةُ الْأَمِيرِ فِي مَنْطَقَتِهِ، وَأَمَانَةُ الْقَاضِي فِي عَمَلِهِ، وَأَمَانَةُ الْإِنْسَانِ فِي أَهْلِهِ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٨ - ٥٩].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْأَمَانَاتُ: كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.

{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}؛ وَهَذَا يَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّمَاءِ, وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ؛ الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُكْمِ بِهِ, هُوَ مَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ الْعَدْلِ لِيُحْكَمَ بِهِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيِّتِهِ)).

((أَمَانَةُ الْوَطَنِ))

إِنَّ الْوَطَنَ الْإِسْلَامِيَّ أَمَانَةٌ فِي الْأَعْنَاقِ, وَإِنَّ عَلَيْنَا جَمِيعًا الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَصِيَانَتَهَا، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

((الْأَمَانَةُ فِي الْأَسْرَارِ))

مِنْ صُوَرِ الْأَمَانَةِ: الْأَسْرَارُ الَّتِي يُسْتَأْمَنُ الْمُسْلِمُ عَلَى حِفْظِهَا وَعَدَمِ إِفْشَائِهَا، وَتَكُونُ الْأَمَانَةُ فِيهَا بِكِتْمَانِهَا، فَـ ((مِنَ الْأَمَانَاتِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَصَاحِبِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يَجِبُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا، فَلَوِ اسْتَأْمَنَكَ عَلَى حَدِيثٍ حَدَّثَكَ بِهِ، وَقَالَ لَكَ: هَذَا أَمَانَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْكَ، سَوَاءً أَوْصَاكَ بِأَلَّا تُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا، أَوْ عُلِمَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا حَدَّثَكَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ وَالْتَفَتَ فَهَذِهِ أَمَانَةٌ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَلْتَفِتُ فَإِنَّهُ يَخْشَى بِذَلِكَ أَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ، إِذَنْ؛ فَهُوَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِذَا ائْتَمَنَكَ الْإِنْسَانُ عَلَى حَدِيثٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُفْشِيَهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا- مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَرُوحُ يَنْشُرُ سِرَّهَا، وَيَتَحَدَّثُ بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا)).

قَالَ ﷺ: ((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَلَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ، وَأَسَرَّ إِلَيْهَا كَلَامًا، فَبَكَتْ، ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي فِي آنٍ!!))

فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: ((بِمَ أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟))

قَالَتْ: ((إِنِّي إِذَنْ لْبَذِرَةٌ -وَالْبَذِرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَنْقُلُ الْحَدِيثَ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ شَيْءٌ سَمِعَهُ، فَإِذَا جَلَسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَدَّثَ بِمَا كَانَ-، وَمَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ)).

فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثَتْ بِالَّذِي كَانَ، فَقَالَتْ: ((إِنِّي لَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى، أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جَاءَهُ فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ دَنَا، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنِّي -أَيْ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- أَسْرَعُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقًا بِهِ، قَالَتْ: فَضَحِكْتُ)).

((الْأَمَانَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ))

مِنْ صُوَرِ الْأَمَانَةِ الْعَظِيمَةِ: الْأَمَانَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ فَعَلَى التَّاجِرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَمِينًا، وَلْيَحْذَرِ الْكَذِبَ وَالْكِتْمَانَ مَعَ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَهُمْ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْعُمَلَاءِ؛ فَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ..

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ -مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى كَوْمَةٍ مِنْ طَعَامٍ-، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»

قَالَ: ((أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ)).

قَالَ ﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ)) ؛ أَيْ: إِلَّا أَخْبَرَ الْمُشْتَرِيَ.

هَذِهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ قَوَاعِدُهُ: لَا غِشَّ، وَلَا خِدَاعَ، وَلَا تَدْلِيسَ، وَلَا تَزْيِيفَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ)).

وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((الْحَلِفُ الْكَاذِبُ..)). مُنَفِّقَةٌ

وَمَعْنَى: ((مَنَفِّقَةٌ))؛ أَيْ: يَكْثُرُ الْمُشْتَرُونَ وَيَرْغَبُونَ فِي سِلْعَتِهِ بِسَبَبِ حَلِفِهِ، ((مَمْحَقَةٌ)): مِنَ الْمَحْقِ وَهُوَ النَّقْصُ وَالْإِعْطَالُ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، قَالَهَا النَّبِيُّ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: ((خَابُوا وَخَسِرُوا.. مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((الْمُسْبِلُ))؛ وَهُوَ الَّذِي يُطِيلُ ثَوْبَهُ أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ، وَالْكَعْبُ: الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبِ الرِّجْلِ.. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَا سُئِلَ عَنْهُمْ، قَالَ: ((الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)) .

فَهَذَا -كَمَا تَرَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُجَانِبَهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمُعَامَلَتِهِ مَعَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ غَيْرِهِمْ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بِغَشَّاشٍ بِحَالٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)).

رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ التُّجَّارَ فِي الصِّدْقِ، وَرَهَّبَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَمِنَ الْحَلِفِ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَقَالَ الْأَلْبَانيُّ: «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ».

وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

حَضَّ النَّبِيُّ ﷺ التُّجَّارَ عَلَى الصِّدْقِ وَعَلَى الْأَمَانَةِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ.

((الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ))

لَقَدْ حَثَّ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَحَضَّ نَبِيُّنَا ﷺ عَلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَمَانَةٌ، وَاللهُ سَائِلُهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِلْسِلَة الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.

فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ،  فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

الْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

((الْأَمَانَةُ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ))

مِنْ صُوَرِ الْأَمَانَةِ أَنْ تَنْصَحَ مَنِ اسْتَشَارَكَ، وَأَنْ تَصْدُقَ مَنْ وَثَقَ بِرَأْيِكَ، فَإِذَا عَرَضَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا مُعَيَّنًا، وَطَلَبَ مِنْكَ الرَّأْيَ وَالْمَشُورَةَ وَالنَّصِيحَةَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ إِبْدَاءَ رَأْيِكَ لَهُ أَمَانَةٌ، فَإِذَا أَشَرْتَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الرَّأْيِ الصَّحِيحِ فَذَلِكَ خِيَانَةٌ!

وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((الْمُسْتَشَارُ  مُؤْتَمَنٌ)).

وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: وَذَكَرَ مِنْهَا: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)).

يَعْنِي: إِذَا جَاءَ إِلَيْكَ يَطْلُبُ نَصِيحَتَكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَانْصَحْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الدِّينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ يَطْلُبُ النَّصِيحَةَ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ إِثْمٌ فِيمَا سَيُقْدِمُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالْمُنْكَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَفْعَلُ وَلَا إِثْمَ وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِحَكَ فَتَلْزَمُ النَّصِيحَةُ -حِينَئِذٍ-.

((ثَمَرَاتُ الْأَمَانَةِ وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْأَمْنَ وَالْأَمَانَةَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَمْنُ، فَلَا أَمْنَ بِلَا إِيمَانٍ، وَلَا إِيمَانَ بِلَا أَمَانَةٍ، وَأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتِ الْأَمَانَةُ حَدَثَ اضْطِرَابٌ مُجْتَمَعِيٌّ كَبِيرٌ، وَوَقَعَتِ الْقَلَاقِلُ وَالْخُصُومَاتُ وَالْفِتَنُ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَشَكَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَلَمْ يَأْمَنْ صَدِيقٌ صَدِيقَهُ، وَلَا زَوْجٌ زَوْجَهُ، وَلَا جَارٌ جَارَهُ، أَمَّا الْأَمَانَةُ فَتُحَقِّقُ لِلنَّاسِ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّكِينَةَ وَالْأَمْنَ الْمُجْتَمَعِيَّ.

إِنَّ لِلْأَمَانَةِ ثَمَرَاتٍ عَظِيمَةً وَأَثَرًا جَلِيلًا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامِ الْمُجْتَمَعِيِّ؛ فَمِنْ ثَمَرَاتِ الْأَمَانَةِ: ((أَنَّهَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ، وَيَقُومُ عَلَيْهَا أَمْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

وَالْأَمَانَةُ مِحْوَرُ الدِّينِ، وَامْتِحَانُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَبِالْأَمَانَةِ يُحْفَظُ الدِّينُ، وَالْأَعْرَاضُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْأَجْسَامُ، وَالْأَرْوَاحُ، وَالْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالْوِصَايَةُ، وَالشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْكِتَابَةُ.

وَالْأَمِينُ يُحِبُّهُ اللهُ، وَيُحِبُّهُ النَّاسُ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الصِّفَاتِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} [المؤمنون: ٨].

إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي تَفْشُو فِيهِ الْأَمَانَةُ مُجْتَمَعُ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ)).

 ((رَفْعُ الْأَمَانَةِ وَعَوَاقِبُهُ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: ضَيَاعَ الْأَمَانَةِ.

أَمَّا الْأَمَانَةُ؛ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ الْوَاحِدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الدِّينُ، وَالدِّينُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ.

 وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَمَا نُهُوا عَنْهُ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأَمَانَةُ الطَّاعَةُ.

 قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

 قَالَ: فَالْأَمَانَةُ فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ: الطَّاعَةُ، وَالْفَرَائِضُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَائِهَا الثَّوَابُ، وَبِتَضْيِيعِهَا الْعِقَابُ)).

قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}، وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا اسْتَمْكَنَتِ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ قَامَ حِينَئِذٍ بِأَدَاءِ التَّكَالِيفِ، وَاغْتَنَمَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَجَدَّ فِي إِقَامَتِهَا)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟)).

قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((قَوْلُهُ: ((إِذَا وُسِّدَ)) أَيْ: أُسْنِدَ، أَصْلُهُ مِنَ الْوِسَادَةِ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْأَمِيرِ عِنْدَهُمْ إِذَا جَلَسَ أَنْ تُثْنَى تَحْتَهُ وِسَادَةٌ.

 فَقَوْلُهُ: ((وُسِّدَ)) أَيْ: جُعِلَ لَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ وِسَادًا؛ فَتَكُونُ ((إِلَى)) بِمَعْنَى اللَّامِ، وَأَتَى بِهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى أُسْنِدَ)).

قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَوَابٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ تَضْيِيعُ الْأَمَانَةِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ؛ كَاتِّخَاذِ الْعُلَمَاءِ الْجُهَّالِ عِنْدَ مَوْتِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاتِّخَاذِ وُلَاةِ الْجَوْرِ وَحُكَّامِ الْجَوْرِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ.

فَإِذَا ضَيَّعَ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ النَّاسِ الْأَمَانَةَ -وَالنَّاسُ تَبَعٌ لِمَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ-؛ كَانُوا مِثْلَهُ فِي تَضْيِيعِ الْأَمَانَةِ؛ فَصَلَاحُ حَالِ الْوُلَاةِ صَلَاحٌ لِحَالِ الرَّعِيَّةِ، وَفَسَادُهُ فَسَادٌ لَهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ النَّاسِ بِدِينِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَلُّونَ مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِدِينِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، وَرَفْعِ الْعِلْمِ، وَهَذِهِ هِيَ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ ((الْعِلْمِ)) مِنْ صَحِيحِهِ)).

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْمَتْنِ لِكِتَابِ ((الْعِلْمِ)): أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، وَرَفْعِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْرَاطِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ مَا دَامَ قَائِمًا فَفِي الْأَمْرِ فُسْحَةٌ)).

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ تُرْفَعُ الْأَمَانَةُ مِنَ الْقُلُوبِ؛ فَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ؛ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.

وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: ((يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ -الْوَكْتُ: جَمْعُ وَكْتَةٍ، وَهِيَ الْأَثَرُ فِي الشَّيْءِ كَالنُّقْطَةِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبُسْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نُقْطَةٌ مِنَ الْأَرْطَابِ: قَدْ وَكَّتَ-، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ -أَيِ: الْأَمَانَةُ-، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ -وَالْمَجْلُ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْكَفِّ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ بِالْأَشْيَاءِ الصُّلْبَةِ الْخَشِنَةِ كَهَيْئَةِ الْبَثْرِ-؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ نَفِطَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، يُقَالُ: نَفِطَتْ يَدَاهُ، أَيْ: قَرِحَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَالنَّفْطَةُ: بَثْرَةٌ تَخْرُجُ فِي الْيَدِ مِنَ الْعَمَلِ مَلْأَى مَاءً-، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا -الْمُنْتَبِرُ: كُلُّ مُرْتَفِعٍ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ الْمِنْبَرُ، يُقَالُ: انْتَبَرَ الْجُرْحُ، إِذَا وَرِمَ وَامْتَلَأَ مَاءً- وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)).

((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حَاصِلُ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَنْذَرَ بِرَفْعِ الْأَمَانَةِ، وَأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَمَانَةِ يُسْلَبُهَا حَتَّى يَصِيرَ خَائِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمِينًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ شَاهِدٌ لِمَنْ  خَالَطَ أَهْلَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ خَائِنًا؛ لِأَنَّ الْقَرِينَ يَقْتَدِي بِقَرِينِهِ.

 وَقَوْلُهُ: ((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ)) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ حَالَ الْأَمَانَةِ أَخَذَ فِي النَّقْصِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ.

 وَكَانَتْ وَفَاةُ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَلِيلٍ، فَأَدْرَكَ بَعْضَ الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّغَيُّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ.

 مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ عَلِمَ مِصْدَاقَ قَوْلِهِ ﷺ، وَزِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ -وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ الَّذِي يَذْكُرُهُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: هُوَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصْفَهَانِيُّ، صَاحِبُ ((الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْمَحَجَّةِ))-: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْأَمَانَةَ تَزُولُ عَنِ الْقُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهَا زَالَ نُورُهَا، وَخَلَفَتْهُ ظُلْمَةٌ كَالْوَكْتِ؛ وَهُوَ اعْتِرَاضُ لَوْنٍ مُخَالِفٍ لِلَّوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ آخَرُ صَارَ كَالْمَجْلِ؛ وَهُوَ أَثَرٌ مُحْكَمٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، هَذِهِ الظُّلْمَةُ فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا.

ثُمَّ شَبَّهَ زَوَالَ ذَلِكَ النُّورِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ، وَخُرُوجَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، وَاعْتِقَابَ الظُّلْمَةِ إِيَّاهُ؛ شَبَّهَهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجُهُ عَلَى رِجْلِهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، ثُمَّ يَزُولُ الْجَمْرُ، وَيَبْقَى التَّنَفُّطُ)).

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمَانَةَ تَذْهَبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا الْأَثَرُ الْمَوْصُوفُ فِي الْحَدِيثِ.

 قَالَ: وَحَاصِلُ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَنْذَرَ بِرَفْعِ الْأَمَانَةِ، وَأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَمَانَةِ يُسْلَبُهَا حَتَّى يَصِيرَ خَائِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمِينًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ شَاهِدٌ لِمَنْ خَالَطَ أَهْلَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ خَائِنًا؛ لِأَنَّ الْقَرِينَ يَقْتَدِي بِقَرِينِهِ.

وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْأَثَرُ عَلَى أَنَّ الْأَمَانَةَ بَدَأَ نُقْصَانُهَا مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الدِّينِ، وَأَظْهَرِ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ؛ لِذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ إِلَّا قَالَ: ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَحَسَّنَهُ الْبَغَوِيُّ.

وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ضَيَاعَ الْأَمَانَةِ نَتِيجَةٌ لِضَيَاعِ الدِّينِ.

النَّاسُ كُلَّمَا دَنَوْا مِنَ السَّاعَةِ قَلَّ دِينُهُمْ فَقَلَّتْ أَمَانَاتُهُمْ.

 وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِئَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يُرِيدُ ﷺ أَنَّ النَّاسَ كَثِيرٌ، وَالْمَرْضِيُّ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ الْمِئَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَا تَكَادُ تُصَابُ فِيهَا الرَّاحِلَةُ الْوَاحِدَةُ.

 وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْقُرُونُ الْمَذْمُومَةُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؛ وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا أَيْ: فِي بَابِ رَفْعِ الْأَمَانَةِ-)).

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْخِيَانَةِ))

إِنَّ الْخِيَانَةَ أَشَدُّ الْأُمُورِ تَعَلُّقًا بِالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرَكَةِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا، فَالْقُلُوبُ تَخُونُ، وَالْأَعْيُنُ تَخُونُ، وَالْجَوَارِحُ تَخُونُ، وَالْخَوَاطِرُ تَخُونُ.

وَقَدِيمًا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِالْأَمَانَةِ وَمُجَانَبَةِ الْخِيَانَةِ.

قَالَ النَّابِغَةُ لِلْنُعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ:

لَوِ اخْتَانَتْكَ مِنِّي ذَاتُ خَمْسٍ = يَمِينِي لَمْ تُصَاحِبْنِي الْيَمِينُ

أَتَيْتُكَ عَارِيًّا خَلَقًا ثِيَابِي = عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ

فَأَلْفَيْتُ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا = كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ

 وَضَرَبَتِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ بِوَفَاءِ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا، وَقَدْ ذَبَحَ بَنُو أَسَدٍ ابْنَ السَّمَوْأَلِ تَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ يَتَطَلَّعُ إِلَى وَلَدِهِ يُذْبَحُ تَحْتَ عَيْنَيْهِ مِنْ حِصْنٍ كَانَ فِيهِ، وَأَبَى أَنْ يَخُونَ امْرَأَ الْقَيْسِ فِي أَدْرَاعِهِ حَتَّى سَلَّمَهَا لَهُ؛ فَقَالَتِ الْعَرَبُ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ))

وَقَالَ الْمُثَقِّبُ الْعَبْدِيُّ:

فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ = فَأَعْرِفَ بِكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي

وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي = عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي

فَإِنَّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي = خِلَافَكَ مَا وَصَلْتُ بِهَا يَمِينِي

إِذَنْ لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي = كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟

قَالَ ﷺ: ((إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟

قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)) .

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((إِسْنَادُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِفْرَاطِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ مَا دَامَ قَائِمًا فَفِي الْأَمْرِ فُسْحَةٌ.

وَالْمُرَادُ -أَيْضًا- مِنَ الْأَمْرِ: جِنْسُ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ؛ كَالْخِلَافَةِ، وَالْإِمَارَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

فَإِذَا وُسِّدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَيَاعَ الْأُمَّةِ، وَذَهَابَ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْ دِينِهِمُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ لَا خَلَاقَ لَهُ عِنْدَ اللهِ)). حَسَّنَهُ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

قَالَ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧].

فَخِيَانَتُهُمْ لِلهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ بِإِظْهَارِ مَنْ أَظْهَرَ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يَسْتَسِرُّ الْكُفْرَ وَالْغِشَّ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَيَدُلُّونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِمْ.

قِيلَ: ((نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّ الْمُسْلِمِينَ)) .

وَقَوْلُهُ: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}: هِيَ مَا يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، وَقِيلَ: هِيَ الدِّينُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ١٨٧].

قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَأْمِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُرِيدُ خِيَانَةَ نَفْسِهِ، وَسُمِّيَ خَائِنًا لِأَنَّ الضَّرَرَ عَائِدٌ عَلَيْهِ.

وَخَائِنَةُ الْأَعْيُنِ: مَا يُسَارَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ يَنْظُرَ نَظْرَةً بِرِيبَةٍ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ)) ؛ أَيْ: يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُهُ، فَإِذَا كَفَّ لِسَانَهُ وَأَوْمَأ بِعَيْنِهِ فَقَدْ خَانَ.

الْخِيَانَةُ: ((هِيَ الِاسْتِبْدَادُ بِمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْحُرَمِ، وَتَمَلُّكُ مَا يُسْتَوْدَعُ وَمُجَاحَدَةُ مُودِعِهِ.

وَفِيهَا -أَيْضًا- طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا، وَتَحْرِيفُ الرَّسَائِلِ إِذَا تَحَمَّلَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ وُجُوهِهَا)) .

((طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا..)) -فِي الْقَانُونِ الْعَسْكَرِيِّ: مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَهُوَ كَالْمُبَاشِرِ الْمُتَسَبِّبِ -يَعْنِي فِي الْعُقُوبَةِ وَفِي الْإِثْمِ-، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَقَدْ رَضِيَ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، وَالرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَالرِّضَا بِالْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ، وَالرِّضَا بِالصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ، فَهُوَ مُشَارِكٌ فِي الْإِثْمِ وَمَا يَنْتُجُ بَعْدُ مِنَ الضَّرَرِ.

مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَهُوَ خَائِنٌ كَالْخَائِنِ الْمُبَاشِرِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ-.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: هِيَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ)).

وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((إِنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَخِيَانَةُ الْأَعْيُنِ: مَا تَسَارَقَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَنَقِيضُهَا: الْأَمَانَةُ)).

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: ١٩])).

قَالَ الرَّاغِبُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّفَاقِ وَالْخِيَانَةِ: ((الْخِيَانَةُ وَالنِّفَاقُ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَالُ: اعْتِبَارًا بِالدِّينِ، ثُمَّ يَتَدَاخَلَانِ.

فَالْخِيَانَةُ: مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَنَقِيضُ الْخِيَانَةِ الْأَمَانَةُ، يُقَالُ: خُنْتَ فُلَانًا وَخُنْتَ أَمَانَةَ فُلَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧])).

مِنْ مَعَانِي ((الْخِيَانَةِ)) فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: الْمَعْصِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ١٨٧].

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ((تَخُونُونَهَا بِالْمَعْصِيَةِ)).

وَمِنْهَا: نَقْضُ الْعَهْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨]

وَمِنْهَا: تَرْكُ الْأَمَانَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥].

نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ الْمُنَافِقِ، كَانَ عِنْدَهُ دِرْعٌ فَخَانَهَا، قِيلَ: نَزَلَتْ فِيهِ.

وَمِنْ مَعَانِي كَلِمَةِ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ: الْمُخَالَفَةُ فِي الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ((التَّحْرِيمِ)): {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: ١٠].

وَزَادَ ابْنُ سَلَّامٍ وَجْهًا خَامِسًا فَقَالَ: ((وَالْخِيَانَةُ تَعْنِي الزِّنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: ٥٢].

وَقَدْ عَدَّ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ الْخِيَانَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

وَلِقَوْلِهِ ﷺ -أَيْضًا-: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

قَالَ: ((الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْضُهَا شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ.. كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَارْتَكَبَ الْعَظَائِمَ)).

وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ فَقَدْ ذَكَرَ: ((أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ: عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ)) )) .

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: ٣٨].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((هَذَا إِخْبَارٌ وَوَعْدٌ وَبِشَارَةٌ مِنَ اللهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ كُلَّ شَرٍّ -بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ- مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَشَرِّ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَشُرُورِ أَنْفُسِهِمْ وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَيَحْمِلُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَكَارِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُونَ، فَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ غَايَةَ التَّخْفِيفِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِنَ هَذِهِ الْمُدَافَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.

{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ}؛ أَيْ: خَائِنٍ فِي أَمَانَتِهِ الَّتِي حَمَّلَهُ اللهُ إِيَّاهَا، فَيَبْخَسُ حُقُوقَ اللهِ عَلَيْهِ وَيَخُونُهَا، وَيَخُونُ الْخَلْقَ.

{كَفُورٍ} بِنِعَمِ اللهِ، يُوَالِي عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ، وَيَتَوَالَى مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْعِصْيَانُ، فَهَذَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ، بَلْ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى كُفْرِهِ وَخِيَانَتِهِ.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ أَمِينٍ قَائِمٍ بِأَمَانَتِهِ، شَكُورٍ لِمَوْلَاهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

فَمَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَلْ خَانَهَا؛ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ، وَصَارَ خَائِنًا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِأَمَانَتِهِ، مُنْقِصًا لِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِأَخَسِّ الصِّفَاتِ، وَأَقْبَحِ الشِّيَاتِ؛ وَهِيَ الْخِيَانَةُ، مُفَوِّتًا لَهَا أَكْمَلَ الصِّفَاتِ وَأَتَمَّهَا وَهِيَ الْأَمَانَةُ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُمْتَحَنًا بِأَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى أَدَاءِ أَمَانَتِهِ؛ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِتْنَةٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ سَتُؤَدَّى لِمَنْ أَعْطَاهَا، وَتُرَدُّ لِمَنِ اسْتَوْدَعَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ عَقْلٌ وَرَأْيٌ؛ فَآثِرُوا فَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى لَذَّةٍ صَغِيرَةٍ فَانِيَةٍ مُضْمَحِلَّةٍ، فَالْعَاقِلُ يُوَازِنُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهَا بِالْإِيثَارِ، وَأَحَقَّهَا بِالتَّقْدِيمِ)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: ٥٥-57].

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ: الْكُفْرَ، وَعَدَمَ الْإِيمَانِ، وَالْخِيَانَةَ؛ بِحَيْثُ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى عَهْدٍ عَاهَدُوهُ، وَلَا قَوْلٍ قَالُوهُ.. هُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ؛ فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَالْكِلَابِ، وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ مَعْدُومٌ مِنْهُمْ، وَالشَّرَّ مُتَوَقَّعٌ فِيهِمْ.

فَإِذْهَابُ هَؤُلَاءِ وَمَحْقُهُمْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ؛ لِئَلَّا يَسْرِيَ دَاؤُهُمْ لِغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}؛ أَيْ: تَجِدَنَّهُمْ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}: نَكِّلْ بِهِمْ غَيْرَهُمْ، وَأَوْقِعْ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ {لَعَلَّهُمْ} أَيْ: مَنْ خَلْفَهُمْ {يَذَّكَّرُونَ} صَنِيعَهُمْ؛ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ.

 وَهَذِهِ مِنْ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْمَعَاصِي، أَنَّهَا سَبَبٌ لِازْدِجَارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلِ الْمَعَاصِيَ؛ بَلْ وَزَجْرًا لِمَنْ عَمِلَهَا أَنْ لَا يُعَاوِدَهَا.

وَدَلَّ تَقْيِيدُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فِي الْحَرْبِ أَنَّ الْكَافِرَ - وَلَوْ كَانَ كَثِيرَ الْخِيَانَةِ سَرِيعَ الْغَدْرِ - أَنَّهُ إِذَا أُعْطِيَ عَهْدًا لَا يَجُوزُ خِيَانَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ.

هَذَا دِينُ اللهِ، دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، لَا غَدْرَ فِيهِ، وَلَا خِيَانَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مُطْلَقٌ، وَحَقٌّ كَامِلٌ، وَأَمَانَةٌ شَامِلَةٌ.

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨].

وَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ؛ {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ}: ارْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، {عَلَى سَوَاءٍ}: حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَغْدِرَهُمْ، أَوْ تَسْعَى فِي شَيْءٍ مِمَّا مَنَعَهُ مُوجِبُ الْعَهْدِ، حَتَّى تُخْبِرَهُمْ بِذَلِكَ.

{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، بَلْ يُبْغِضُهُمْ أَشَدَّ الْبُغْضِ، يَمْقُتُهُمْ أَعْظَمَ الْمَقْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ بَيِّنٍ يُبَرِّئُكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتِ الْخِيَانَةُ الْمُحَقَّقَةُ مِنْهُمْ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْفَ مِنْهُمْ، بَلْ عُلِمَ ذَلِكَ، وَلِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلِقَوْلِهِ: {عَلَى سَوَاءٍ}، وَهُنَا قَدْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمِيعِ غَدْرُهُمْ.

وَدَلَّ مَفْهُومُهَا -أَيْضًا- أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُمْ خِيَانَةً، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَبْذُ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ مُدَّتُهُ)) .

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا -أَيْ: لَا تُشَوِّهُوا الْقَتْلَى بِقَطْعِ الْأُنُوفِ وَالْآذَانِ-، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.

وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِن حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: ((إِذَا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ يُونُسُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَلكَ-)).

قَالَ: قُلْتُ: مَا أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((اتَّقِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ)) . أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ.

 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَلَقَّوُا الْبَيْعَ -يَعْنِي: بِظَاهِرِ الْقُرَى وَالْمُدُنِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ السِّعْرُ فِي الْأَسْوَاقِ-، وَلَا تَصُرُّوا الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ لِلْبَيْعِ -يَعْنِي: يَحْبِسُونَهَا عَلَى أَلْبَانِهَا فِي ضُرُوعِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ بَائِعٌ لِمُشْتَرٍ ظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ لَهَا عَادَةٌ-، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا بِصَاعِ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ -قَالَ: عَمْرٌو أَوِ ابْنُ أَبِي عُمَرَ- اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ))، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)) مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي!! الْمُوَظَّفُ فِي وَظِيفَتِهِ لَهُ رَاتِبُه، لَا يُهْدَى لَهُ؛ لِمَاذَا يُهْدَى لَهُ؟!!

يَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي!! يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهَا غَدْرَةٌ وَخِيَانَةٌ.

عَنْ أَبِي زُرَارَةَ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْوَدُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ -قَالَ: لَا تَسْتَعْمِلْنِي-.

قَالَ: ((وَمَا لَكَ؟)).

قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: ((وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْخِيَانَةِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِهِ -تَعَالَى- مِنْ غَيْرِهَا مِنْ مُضْنِيَاتِ الدُّنْيَا، فَقَالَ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثَ أَنَّ الْأَمَانَةَ سَوْفَ تُرْفَعُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ، وَسَوْفَ يَقِلُّ التَّعَامُلُ بِهَا، وَإِذَا رُفِعَتِ الْأَمَانَةُ فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مَكَانَهَا الْخِيَانَةُ، وَالْخِيَانَةُ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ، وَأَنْ يُبَرِّأَنَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

((حَالُ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ مَعَ الْأَمَانَةِ!!))

وَالْيَوْمَ سَرِّحِ الْبَصَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَصَوِّبِ الطَّرْفَ عُلْوًا وَسُفْلًا، وَانْظُرْ فِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْظُرْ فِي خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ الْأُولَى، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

وَانْظُرْ إِلَى خَيْرِ أُمَّةٍ حُمِّلَتِ الْأَمَانَةَ قَطُّ، خَيْرُ أُمَّةٍ حُمِّلَتِ الْأَمَانَةَ قَطُّ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، انْظُرْ إِلَى خَيْرِ أُمَّةٍ حُمِّلَتِ الْأَمَانَةَ، وَرَدِّدْ فِيهَا الطَّرْفَ؛ أَهِيَ عَلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَلَا خِيَانَةَ للهِ، وَلَا خِيَانَةَ لِرَسُولِ اللهِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلْأَمَانَاتِ الْعَامَّةِ، لَا خِيَانَةَ لِلصَّلَاةِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلزَّكَاةِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلصَّوْمِ وَلَا لِلْحَجِّ، وَلَا خِيَانَةَ فِي أَدَاءِ اللِّسَانِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلْكَلِمَةِ فِي مَسْؤُولِيَّتِهَا وَفِي شَرَفِهَا، وَلَا لِمَنْهَجِ اللهِ فِي دَيْمُومَتِهِ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَفَرْضِيَّتِهِ، وَكَوْنِهِ حَاكِمًا، لَا خِيَانَةَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي مَنْهَجِهِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ، وَلَا خِيَانَةَ لِلْأَمَانَاتِ فِي عُمُومِهَا؟!!

رَدِّدِ الطَّرْفَ ثُمَّ انْظُرْ، فَلَا تَرَى إِلَّا خَائِنًا -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَالنَّبِيُّ يَقُولُ ﷺ: ((لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ عِنْدَ اسْتِهِ -عِنْدَ دُبُرِهِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ)).

((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ)).

يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ -عِنْدَ دُبُرِهِ- رَايَةٌ، عَلَمٌ مَنْشُورٌ فِي الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ، مَرْفُوعٌ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، يَا لَهَا مِنْ فَضِيحَةٍ!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُجَنِّبَنَا الْخِزْيَ، وَأَنْ يَقِيَنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ- فَمَنْ أَخْفَرَ -يَعْنِي: خَانَ-  مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ)).  

كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ أَنَّ ((اللهَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ...)). كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمَانَةَ الَّتِي حُمِّلَهَا الْإِنْسَانُ ثَقِيلَةٌ جِدًّا، وَإِنَّهَا تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ ذَا بَصِيرَةٍ وَذَا بَصَرٍ ثَاقِبٍ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ حَوْلَهُ؛ فِي عَلَاقَتِهِ بِرَبِّهِ، وَفِي عَلَاقَتِهِ بِنَبِيِّهِ ﷺ، وَفِي عَلَاقَتِهِ بِدِينِهِ، وَفِي عَلَاقَتِهِ بِالنَّاسِ مِنْ حَوْلِهِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، كَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58].

أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ أَمَانَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى، وَأَمَانَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَنْبَغِي أَلَّا يُخَانَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَمَانَاتُ الْخَلْقِ تُؤَدَّى لِلْخَلْقِ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ أَمَانَةُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، الْأَمَانَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي حُمِّلَهَا الْإِنْسَانُ، فَيَنْجُو بِهَا مِنْ عَذَابِ النِّيرَانِ بِكَرَمِ أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، الْكَرِيمِ الدَّيَّانِ الْعَظِيمِ الرَّحْمَنِ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا.

اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.

اللهم عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.

عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.

عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا إِيمَانَنَا، وَأَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا أَدَاءَ أَمَانَاتِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ
  التَّفَوُّقُ الْعِلْمِيُّ وَأَثَرُهُ فِي تَقَدُّمِ الْأُمَمِ
  ما صح في ليلة النصف من شعبان
  الْحَجُّ فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ
  الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ
  كيف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان