وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ

وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ

((وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْوَطَنُ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ))

فَـ((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ، حَقُّ اللهِ.. وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ.. وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ.. وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.

فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ.. صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.

رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.

فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.

وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».

((دِينُ الْوَحْدَةِ وَالتَّآلُفِ

وَالنَّهْيِ عَنِ الْفُرْقَةِ وَالشِّقَاقِ))

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الِالْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ عَلَى عَقِيدَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَاءِ الْقُلُوبِ عَلَى عَاطِفَةٍ دِينِيَّةٍ وَأَهْدَافٍ غَائِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَائِهِمْ عَلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ، وَقِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ.

النَّبِيُّ ﷺ أُرْسِلَ بِرِسَالَةٍ تَدْعُو إِلَى الْوَحْدَةِ وَالتَّآلُفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ وَالشِّقَاقِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

جَمَعَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَوَدَّةِ وَالتَّرَاحُمِ، وَالْمَحَبَّةِ فِي اللهِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَهْلَ حَمِيَّةٍ وَعَصَبِيَّةٍ وَضَغِينَةٍ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيهِمْ، وَآمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ؛ انْقَلَبَتْ تِلْكُ الْحَالُ، فَائْتَلَفَتْ قُلُوبُهُمْ، وَصَارُوا أَنْصَارًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَعْوَانًا، يُقَاتِلُونَ عَنْهُ وَيَحْمُونَهُ.

لَوْ أَنْفَقْتَ -يَا رَسُولَ اللهِ- جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ فِي سَبِيلِ هَذَا التَّأْلِيفِ؛ لَمَا أَمْكَنَكَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللهِ، وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِخَاءِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي، إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- قَوِيٌّ غَالِبٌ، يُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ.

وَنَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ صَرَاحَةً، فَقَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

لَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِائْتِلَافِ، وَلِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ التَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ إِلَى الْعَوْدَةِ للهِ وَحْدَهُ، مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ، مُتَآلِفَةً قُلُوبُهُمْ، عَائِدَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّتِهَا وَبِكُلِّيَّتِهَا كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَى.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بَيَّنَ لَنَا طَرِيقًا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَهُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَنْهَجُ دِينِهِ الْقَوِيمُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

فَالْوَاجِبُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: تَوْضِيحُ الْحَقِيقَةِ، وَمُنَاقَشَةُ كُلِّ جَمَاعَةٍ، وَنُصْحُ الْجَمِيعِ بِأَنْ يَسِيرُوا فِي الْخَطِّ الَّذِي رَسَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَمَنْ تَجَاوَزَ هَذَا بِأَنْ يَسِيرُوا فِي الْخَطِّ الَّذِي خَطَّهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ؛ فَأُولَئِكَ الْوَاجِبُ التَّشْهِيرُ بِهِمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِمَّنْ عَرَفَ الْحَقِيقَةَ؛ حَتَّى يَتَجَنَّبَ النَّاسُ طَرِيقَهُمْ، وَحَتَّى لَا يَدْخُلَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ فَيُضِلُّوهُ، وَيَصْرِفُوهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِاتِّبَاعِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الْفِرَقِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي الْبَلَدِ الْمُسْلِمِ مِمَّا يَحْرِصُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَوَّلًا، وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِنْسِ ثَانِيًا.

فَمَا هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي تَعَدُّدِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَحْزَابِ وَالتَّنْظِيمَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ مَعَ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا، فِي مَنَاهِجِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَدَعَوَاتِهَا وَعَقَائِدِهَا، وَالْأُسُسِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا؛ وَخَاصَّةً أَنَّ جَمَاعَةَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، كَمَا دَلَّ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى ذَلِكَ؟

وَالْجَوَابُ: لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَارِفٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَنَّ التَّحَزُّبَ وَالتَّكَتُّلَ فِي جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَفْكَارِ أَوَّلًا، وَالْأَسَالِيبِ ثَانِيًا؛ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ؛ بَلْ نَهَى عَنْهُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(32)} [الروم:32،31].

وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَيَّ جَمَاعَةٍ يُرِيدُونَ بِحِرْصٍ بَالِغٍ وَإِخْلَاصٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، فَلَا سَبِيلَ لِلْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى تَحْقِيقِهِ عَمَلِيًّا فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ، وَإِلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَإِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا الصَّالِحُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَلَقَدْ أَوْضَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَنْهَجَ وَالطَّرِيقَ السَّلِيمَ؛ بِأَنْ خَطَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْأَرْضِ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ حَوْلَهُ خُطُوطًا قَصِيرَةً عَنْ جَانِبَيِ الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ.

لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الْقَصِيرَةَ هِيَ الَّتِي تُمَثِّلُ الْأَحْزَابَ وَالْجَمَاعَاتِ وَالتَّنْظِيمَاتِ الْعَدِيدَةَ؛ وَلِذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَرِيصٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقًّا مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ أَنْ يَنْطَلِقَ سَالِكًا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَلَّا يَأْخُذَ يَمِينًا وَلَا يَسَارًا.

وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُبِيحُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَحْزَابَ وَالتَّنْظِيمَاتِ؛ بَلْ إِنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذَمَّ ذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْزَابَ تُنَافِي مَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ؛ بَلْ مَا حَثَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6-7]، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهِمْ بَيَّنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

فَالَّذِينَ جَعَلُوا مَنْهَجَهُمْ كِتَابَ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَعَمِلُوا بِقَوْلِهِ ﷺ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي؛ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ».

هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا عَدَاهُمْ مِنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْفِرَقِ وَالتَّنْظِيمَاتِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ؛ مُشَاقُّونَ لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ كِتَابَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُخَالِفُونَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ.

وَهَؤُلَاءِ يَخْتَلِفُونَ فِي بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّنْظِيمَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْفِرَقِ تَحْتَ الْوَعِيدِ، وَكُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَالْجَمَاعَاتُ فِرَقٌ تُوجَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً».

فَوُجُودُ الْجَمَاعَاتِ وَوُجُودُ الْفِرَقِ وَالتَّنْظِيمَاتِ أَمْرٌ وَاقِعٌ، وَأَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَالَ: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»؛ وَلَكِنَّ الَّتِي يَجِبُ السَّيْرُ مَعَهَا وَالِاقْتِدَاءُ بِهَا: هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْفِرَقَ؛ قَالَ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً».

قَالُوا: وَمَا هِيَ؟

قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي».

فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ.

فَالْجَمَاعَاتُ وَالتَّنْظِيمَاتُ وَالْفِرَقُ إِنَّمَا يَجِبُ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

هَؤُلَاءِ هُمْ مِنَ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعَدُّدٌ وَلَا انْقِسَامٌ، مِنْ أَوَّلِ الْأُمَّةِ إِلَى آخِرِهَا هُمْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ؛ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

هَذِهِ هِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُمْتَدَّةُ مِنْ وَقْتِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا مَا خَالَفَهُمْ مِنَ الْجَمَاعَاتِ، وَمِنَ الْفِرَقِ وَالتَّشْكِيلَاتِ وَالتَّنْظِيمَاتِ؛ فَإِنَّهَا لَا اعْتِبَارَ بِهَا؛ وَإِنْ تَسَمَّتْ بِـ(الْإِسْلَامِيَّةِ)!!

كُلُّ مَا خَالَفَ؛ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْتَمِيَ إِلَيْهِ، أَوْ نَنْتَسِبَ إِلَيْهِ.

لَيْسَ عِنْدَنَا انْتِمَاءٌ إِلَّا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إِلَّا لِلتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ؛ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:7،6]، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَيَّنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

فَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْهَجَهُمْ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ ﷺ، وَعَمِلُوا بِقَوْلِهِ ﷺ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ؛ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ».

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُعْتَبَرُونَ حَقًّا، وَمَا عَدَاهُمْ مِنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْفِرَقِ وَالتَّنْظِيمَاتِ؛ فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِمْ؛ بَلْ هِيَ جَمَاعَاتٌ مُخَالِفَةٌ، وَتَخْتَلِفُ فِي بُعْدِهَا عَنِ الْحَقِّ وَقُرْبِهَا مِنْهُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَأَمَّا الِانْقِسَامُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ إِلَى الْفُرْقَةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِابْتِدَاعِ، وَمُفَارَقَةِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ؛ فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ».

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- سَمَّانَا فِي كِتَابِهِ: (الْمُسْلِمِينَ)، وَثَبَتَ فِي ((مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَهُوَ جُثَاءُ جَهَنَّمَ».

قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟

قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؛ وَلَكِنْ تَسَمَّوْا بِاسْمِ اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ عِبَادَ اللهِ؛ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ».

وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْرَفُ الِانْتِسَابُ إِلَّا إِلَى الْإِسْلَامِ آنَذَاكَ، فَلَمَّا فَشَتِ الْبِدَعُ، وَانْتَشَرَتِ الْأَهْوَاءُ، وَاتَّكَأَ كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لَمْ يَجِدْ سَلَفُنَا الصَّالِحُ بُدًّا مِنْ إِظْهَارِ أَلْقَابِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَمَيَّزُوا بِهَا عَمَّنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُضِلِّينَ، فَتَسَمَّوْا بِالْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي النُّصُوصِ؛ كَـ(الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ)، وَ(الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ).

كَمَا تَسَمَّوْا أَيْضًا بِمَا الْتَزَمُوا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ الَّتِي نَبَذَهَا وَخَالَفَهَا غَيْرُهُمْ؛ كَـ(السَّلَفِ)، وَ(أَهْلِ الْحَدِيثِ)، وَ(أَهْلِ الْأَثَرِ)، وَ(أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ).

إِنَّ الْجَمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْأُسُسِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ انْشِقَاقٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرُّهَا وَضَرَرُهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ خَيْرِهَا.

فَهِيَ لَمَّا اخْتَارَتْ طَرِيقًا لَا يَنْتَمِي إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَنْهَلُ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ دَخَلَ عَلَيْهَا النَّقْصُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الْمَشْبُوهَةِ وَالتَّنْظِيمَاتِ الْمُحْدَثَةِ.

فَلَا تَكُونُوا -أَيُّهَا الشَّبَابُ- ضَحِيَّةَ أَمْثَالِهَا؛ فَوَاللهِ مَا حَلَّتْ فِي بَلَدٍ، وَنَفَثَتْ فِيهِ سُمُومَهَا؛ إِلَّا سَادَ فِيهِ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ، وَبَرَزَتِ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، وَكَانُوا قَبْلَ ظُهُورِهَا وَبُرُوزِهَا فِي عَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، وَهِيَ سَبِيلٌ لِشَرْذَمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].

{رِيحُكُمْ}؛ أي: قُوَّتُكُمْ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].

وَهَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَيْضًا، فَمَنْ تَرَكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ الْأُوَلِ؛ دَخَلَ فِي هَذَا التَّحْذِيرِِ.

وَالسُّؤَالُ: إِضَافَةً لِحَالَةِ التَّرَدِّي تَعِيشُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ حَالَةَ اضْطِرَابٍ فِكْرِيٍّ؛ خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَقَدْ كَثُرَتِ الْفِرَقُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالتَّنْظِيمَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي تَدَّعِي أَنَّ نَهْجَهَا هُوَ النَّهْجُ الْإِسْلَامِيُّ الصَّحِيحُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ؛ حَتَّى أَصْبَحَ الْمُسْلِمُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ؛ أَيُّهَا يَتَّبِعُ؟!! وَأَيُّهَا عَلَى الْحَقِّ؟!!

وَالْجَوَابُ: التَّفَرُّقُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ أَمَرَنَا بِالِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].

فَدِينُنَا دِينُ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّفَرُّقُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَكُونَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَيَقُولُ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ، إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

فَهَذِهِ الْجَمَاعَاتُ وَالتَّنْظِيمَاتُ وَالْفِرَقُ، وَهَذَا التَّفَرُّقُ الْحَاصِلُ عَلَى السَّاحَةِ الْيَوْمَ لَا يُقِرُّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَيَأْمُرُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى مَنْهَجِ الْإِسْلَامِ، جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَأُمَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَمَرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِذَلِكَ.

وَالتَّفَرُّقُ وَتَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَيْدِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَمَا زَالَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ يَدُسُّونَ الدَّسَائِسَ لِتَفْرِيقِ الْأُمَّةِ؛ قَالَ الْيَهُودُ مِنْ قَبْلُ: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]؛ أَيْ: لَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ يَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ إِذَا رَأَوْكُمْ رَجَعْتُمْ عَنْهُ.

وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:107].

فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الْكُفَّارِ، وَمِنْ عَمَلِ الْمُنَافِقِينَ.

وَعُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ لَا يُجِيزُونَ هَذَا التَّفَرُّقَ، وَلَا هَذَا التَّحَزُّبَ، وَلَا هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي مَنَاهِجِهَا وَعَقَائِدِهَا، وَلَا هَذِهِ التَّنْظِيمَاتِ فِي أَهْدَافِهَا وَغَايَاتِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رَسُولُهُ ﷺ، وَالْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ.

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقَوِّي ذَلِكَ وَتُنَمِّيهِ، وَفِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْأَمْرِ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ تَفَرُّقَ الْمُسْلِمِينَ وَتَبَاعُدَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي التَّفَرُّقِ وَالْبَغْضَاءِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ.

فَالتَّفَرُّقُ هُوَ قُرَّةُ عَيْنِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَا يَوَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّفَرُّقَ تَفَتُّتٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالِالْتِزَامِ وَالِاتِّجَاهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالنَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى التَّآلُفِ وَالتَّحَابِّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ وَذَهَابِ الرِّيحِ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا: أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَأَلَّا يَحْصُلَ بَيْنَهُمْ تَفَرُّقٌ وَتَحَزُّبٌ بِحَيْثُ يَتَنَاحَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَسِنَّةِ الْأَلْسُنِ، وَيَتَعَادُونَ وَيَتَبَاغَضُونَ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ النُّصُوصُ حَسَبَ أَفْهَامِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ فِيهِ سَعَةٌ وَللهِ الْحَمْدُ.

وَالْمُهِمُّ ائْتِلَافُ الْقُلُوبِ وَاتِّحَادُ الْكَلِمَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ يُحِبُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا؛ سَوَاءٌ كَانُوا أَعْدَاءً يُصَرِّحُونَ بِالْعَدَاوَةِ، أَوْ أَعْدَاءً يَتَظَاهَرُونَ بِالْوَلَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِلْإِسْلَامِ، وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ.

((الْوَحْدَةُ وَنَبْذُ الْفُرْقَةِ سَبِيلُ قُوَّةِ الْوَطَنِ))

إِنَّ وَاجِبَنَا جَمِيعًا تِجَاهَ وَطَنِنَا يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْجُهُودِ وَنَبْذَ الْخِلَافَاتِ، وَأَنْ نَجْتَمِعَ جَمِيعًا عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّافِيَةِ؛ فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)).

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى)): ((وَهَذِهِ الثَّلَاثُ -يَعْنِي: الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي للهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي -فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ ﷺ لِحُذَيْفَةَ-؛ أَنْ قَالَ لَهُ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَنَّهُمَا قَالَا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي ((زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((تَحْقِيقِهِ عَلَى السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَمَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)).

وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ فِي وَصِيَّةٍ لَهُ: ((لَا تُفَارِقِ الْجَمَاعَةَ))؛ يَعْنِي: سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا الْجَمَاعَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).

وَإِذَا كَانَ الْفَرْدُ هُوَ الْعُنْصُرَ الْأَسَاسَ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِنَّ دَوْرَهُ الْحَقِيقِيَّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَا يَكْتَمِلُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْعَمَلِ مَعَ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ كَإِعْمَارِ الْأَرْضِ، وَبِنَاءِ الْوَطَنِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا، وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا.

فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا؛ لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ.

لَقَدْ ضَرَبَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ نَمَاذِجَ لِلْوَحْدَةِ الَّتِي أَدَّتْ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ، وَسَلَامَةِ الْمُجْتَمَعِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].

وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.

يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ، وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.

وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعَبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ؛ فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ؛ قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ! أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ! فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى: سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ؛ لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلِيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.

لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.

قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ، وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهِمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ؛ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.

لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: الْوَحْدَةُ وَالِاجْتِمَاعُ عِنْدَ الدِّفَاعِ عَنْهُ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

وَأَعِدُّوا -يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ- لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.

وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَّزَةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ صَفًّا فِي خُطَّةٍ مَرْسُومَةٍ مُوَحَّدَةٍ جَامِعَةٍ لِلْقُوَى، وَيَثْبُتُونَ فِي الْجِهَادِ، وَيُنَفِّذُونَ أَوَامِرَ قِيَادَتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مُحْكَمٌ مُتَنَاسِقٌ قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ.

وَقَدْ تَقْضِي الْخُطَّةُ الْحَكِيمَةُ الَّتِي تَضَعُهَا الْقِيَادَةُ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضُ الْمُقَاتِلِينَ، وَيَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونَ قِسْمٌ مِنْهُمْ فِي الْكَمَائِنِ، وَأَنْ يُدَاهِمُوا الْعَدُوَّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الشَّكْلِ، مُتَنَوِّعَاتِ السِّلَاحِ.

وَلَيْسَ مَعْنَى وِحْدَةِ صَفِّ الْمُقَاتِلِينَ أَنْ يُوَاجِهُوا عَدُوَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّفِّ الْمُتَرَاصِّ كَتِفًا بِكَتِفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُمَكِّنُ الْعَدُوَّ مِنْ حَصْدِهِمْ بِالْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يُوَاجِهَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءَهُ صَفًّا سَوِيًّا رَاسِخًا كَالْبُنْيَانِ الَّذِي تَتَعَاوَنُ لَبِنَاتُهُ وَتَتَضَامُّ وَتَتَمَاسَكُ، وَتُؤَدِّي كُلُّ لَبِنَةٍ دَوْرَهَا، وَتَسُدُّ ثَغْرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ كُلَّهُ يَنْهَارُ إِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ مَكَانِهَا؛ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، أَوْ تَخَلَّتْ عَنْ أَنْ تُمْسِكَ بِأُخْتِهَا تَحْتَهَا، أَوْ فَوْقَهَا، أَوْ عَلَى جَانِبَيْهَا سَوَاءٌ.

((سُبُلُ تَحْقِيقِ الْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ))

لَقَدْ دَعَا الْإِسْلَامُ وَرَغَّبَ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَكُونُ سَبَبًا فِي وَحْدَةِ الصَّفِّ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأَوَّلُ سُبُلِ تَحْقِيقِ الْوَحْدَةِ: الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)).

إِذَنْ؛ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.

إِنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى نَوْعَيْنِ:

* أُخُوَّةٌ هِيَ أُخُوَّةُ النَّسَبِ.

* وَأُخُوَّةٌ هِيَ أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ.

فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ الْأُولَى؛ فَإِنَّهَا هِيَ أَوَّلُ مَا يَحْرِصُ الْمَرْءُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَا يَسُوءُ، هِيَ أَوَّلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا أَتَاهُ مَا يُفْجِعُهُ وَيُفْظِعُهُ، كَأَنَّمَا يَدْعُو أَخَاهُ؛ لِيُنْقِذَهُ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا وَمِنْهَا مِمَّا قَدْ أَلَمَّ بِهِ ((أَخٌ))، هِيَ أَوَّلُ مَا يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلى الْإِنْسَانِ مَا يَسُوؤُهُ.

* وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ أُخُوَّةِ الْعَقِيدَةِ -لَا نَسَبَ وَلَا رَحِمَ-: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا بِشُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقَامِهِمْ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «هُمْ أَقْوَامٌ تَحَابُّوا عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَعَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يَتَعَاطُونَهَا».

أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقَانُونِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ؟!!

يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! إِنَّ النَّاسَ إِذَا مَا خَرَجُوا مِنْ ذَوَاتِهِمْ، وَإِذَا مَا أَخْرَجُوا ذَوَاتَهُمْ مِنْ ذَوَاتِهِمْ، وَإِذَا مَا عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى هَيْئَةِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، لَا عَلَى هَيْئَةِ الْمُسُوخِ الْمُشَوَّهَةِ، الَّتِي عَدَا عَلَيْهَا الْحِرْصُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالطَّمَعُ، فَأَصَبَحَتْ مُشَوَّهَةَ الصُّورَةِ وَمُشَوَّهَةَ الْبَاطِنِ، مُشَوَّهَةَ الْقَلْبِ وَمُشَوَّهَةَ الْقَالَبِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَدْعُو الْأُمَّةَ لِكَيْ تَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا.

وَمِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الْوَطَنِ: الدَّعْوَةُ وَالتَّعَامُلُ بِالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَالرِّفْقِ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَّقَكَ اللهُ لِلرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ بِأَصْحَابِكَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِكَ دَاعِيَةَ الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ فَسَهُلَتْ لَهُمْ أَخْلَاقُكَ، وَلِنْتَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتَ جَافِيًا مُتَجَهِّمَ الْوَجْهِ، سَيِّءَ الْخُلُقِ، قَلِيلَ الِاحْتِمَالِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ، خَالِيًا مِنْ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ؛ لَنَفَرُوا عَنْكَ، وَتَفَرَّقُوا حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ عِنْدَكَ.

فَتَجَاوَزْ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، وَاسْأَلِ اللهَ السَّتْرَ لِذُنُوبِهِمْ، وَاسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ، وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِرَادَتُكَ إِلَى مُسْتَوَى الْعَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ الشُّورَى وَاسْتِعْرَاضِ مُخْتَلَفِ الْآرَاءِ، وَتَرْجِيحِ الرَّأْيِ الْأَكْثَرِ نَفْعًا وَسَدَادًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاعْمَلْ عَلَى تَنْفِيذِ مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَاللهُ سَيَمُدُّكَ بِمَعُونَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْكَ الْأَعْرَاضَ وَالْمَوَانِعَ، وَيُحَقِّقُ لَكَ النَّتَائِجَ الَّتِي تَرْجُوهَا؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، مَعَ قِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا تَقْتَضِيهِ حَاجَاتُ التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابٍ رَبَطَ اللهُ بِهَا النَّتَائِجَ فِي نِظَامِ كَوْنِهِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بَعْضَ صِفَاتِ مَنْ يَكُونُ أَمَامَ النَّاسِ، أَوْ دَاعِيًا النَّاسَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَطْمَعَ أَحَدٌ فِيمَا لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ، لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفَظَاظَةِ وَغِلْظَةِ الْقَلْبِ يُرِيدُونَ أَلَّا يَنْفَضَّ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَيُأْتَوْنَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!!

وَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ مُعَلَّقَةً بِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ السَّبَبَ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَوْ تَعَامَلَ مَعَهُمْ بِالْغِلْظَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ انْفِضَاضِ أَصْحَابِهِ؛ فَكَيْفَ لَوْ تَعَامَلَ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ؟!!

وَأَنْتَ تَرَى -حَفِظَكَ اللهُ- بُعْدَ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ!

وَاللِّينَ اللِّينَ! إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، فَيَتَوَجَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشِّدَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ.. وَاللِّينَ اللِّينَ؛ حَتَّى تُبَلِّغَ دِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْمَلَ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَجَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْخَيْرَ فِي الرِّفقِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ؛ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ؛ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ».

وَمَفْهُومُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرَّ فِي الْعُنْفِ، وَهُوَ -فَضْلًا عَمَّا يَجُرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ- يُدَمِّرُ صِحَّةَ الْإِنْسَانِ، وَيُبَدِّدُ طَاقَةَ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، وَيُشَوِّشُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ، وَيَقْطَعُ مَوْصُولَ صِلَتِهِ بِالْخَلْقِ مِنْ حَوْلِهِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَأَمَّا الرِّفْقُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ.

النَّبِيُّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ؛ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ المُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ.

لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.

وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

وَمِنْ سُبُلِ وَحْدَةِ الصَّفِّ فِي الْوَطَنِ: الْعِلْمُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا».

إِذَنْ؛ لَنْ تُحَصِّلُوا الْإِيمَانَ حَتَّى تَحَابُّوا، وَلَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، فَعَلَّقَ الْأَمْرَ عَلَى شَرْطِهِ -شَرْطُهُ الثَّانِي-، فَلَا إِيمَانَ بِغَيْرِ مَحَبَّةٍ، وَلَا دُخُولَ لِجَنَّةٍ بِغَيْرِ إِيمَانٍ، وَإِذَنْ، فَمِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: لَا دُخُولَ لِلْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ.

«أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».

وَمِنْ سُبُلِ الْمَحَبَّةِ وَالْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ سُبُلِ الْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ الْمُسْلِمِ: الْبُعْدُ عَنِ الْخِصَامِ وَالتَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللهِ -تَعَالَى-، بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَنَهَى عَنِ الْحَسَدِ وَتَمَنِّي الشَّرِّ، وَأَمَرَهُمْ ﷺ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ.

فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى والرَّشَادِ، وَنَهَانَا عَنْ كُلِّ خُلُقٍ مَذْمُومٍ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ».

قَوْلُهُ: «لَا تَبَاغَضُوا»؛ أَيْ: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ بَيْنَكُمْ.

وَقَوْلُهُ: «لَا تَحَاسَدُوا»؛ أَيْ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ زَوَالَ النِّعْمَةِ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ لَا يَكْرَهَنَّ أَحَدُكُمْ نِعْمَةَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى أَخِيهِ، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْحَسَدِ، فَحَقِيقَةُ الْحَسَدِ أَنْ تَكْرَهَ نِعْمَةَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى أَخِيكَ، فَمَهْمَا أَنْعَمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَخِيكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَكَرِهْتَهَا؛ فَأَنْتَ لَهُ حَاسِدٌ.

وَقَوْلُهُ: «لَا تَدَابَرُوا»: وَالْمُدَابَرَةُ: الْمُصَارَمَةُ بِالْهِجْرَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ: «التَّقَاطُعُ».

وَقَوْلُهُ: «لَا تَبَاغَضُوا»: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ، تَحَابُّوا فِي اللهِ، الْبُغْضُ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا بِأَسْبَابِهِ، فَلَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ، لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْأَهْوَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، فَالْبِدْعَةُ فِي الدِّينِ وَالضَّلَالُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ الْبُغْضَ.

وَالنَّهْيُ عَنِ التَّبَاغُضِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَابُبِ مُطْلَقًا؛ إِلَّا مَا يَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ التَّحَابُبُ، وَيَجُوزُ التَّبَاغُضُ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَالتَّحَابُبُ سَبَبٌ لِلِاجْتِمَاعِ، وَالتَّبَاغُضُ سَبَبٌ لِلِافْتِرَاقِ.

وَالْمَعْنَى: لَا يُبْغِضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لَا تَشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ؛ إِذِ الْعَدَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ مِمَّا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْبُغْضَ مِنْ نِفَارِ النَّفْسِ عَمَّا يُرْغَبُ عَنْهُ، وَأَوَّلُهُ الْكَرَاهَةُ، وَأَوْسَطُهُ النُّفْرَةُ، وَآخِرُهُ الْعَدَاوَةُ، كَمَا أَنَّ الْحُبَّ مِنَ انْجِذَابِ النَّفْسِ إِلَى مَا يُرْغَبُ فِيهِ.

«وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»: كُونُوا مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: «عِبَادَ اللهِ» -بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ-: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ عَبِيدٌ لِلهِ، وَمِلَّتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّقَاطُعُ وَالتَّدَابُرُ مُنَافٍ لِحَالِكُمْ، فَحَقُّكُمْ أَنْ تَتَوَحَّدُوا، وَأَنْ تَتَآخَوْا، وَأَنْ تَتَعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ، وَأَنْ تَتَعَاشَرُوا بِمَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ، وَأَنْ تَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالنَّصِيحَةِ.

«وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ»؛ أَيْ: بِأَيَّامِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ الْهَجْرُ فِي ثَلَاثٍ وَمَا دُونَهُ؛ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْآدَمِيُّ مِنَ الْغَضَبِ، فَسُومِحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ؛ لِيَرْجِعَ مِنْ ذَلِكَ الْغَضَبِ، وَلِيَزُولَ ذَلِكَ الْعَرَضُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهْجُرَ فَوْقَ تِلْكَ الْمُدَّةِ.

وَهَذا فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَتْبٍ وَمَوْجِدَةٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ.

وَمِنْ سُبُلِ الْوَحْدَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْوَطَنِ الْوَاحِدِ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

(({فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ, وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ, وَالتَّقَاطُعِ, وَالتَّدَابُرِ؛ بِالتَّوَادُدِ, وَالتَّحَابِّ, وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ, وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِنَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ.

وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ, وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ -بِذَلِكَ- يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إِذَا اخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا، وَاتَّقُوا اللهَ فَلَا تَعْصُوهُ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ تَنَالُوا رَحْمَتَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ تَحْقِيقِ الْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ: عَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُكَّامِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)): هِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ؛ مِيتَةً؛ أَيْ: عَلَى صِفَةِ مَوْتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ فَوْضَى لَا إِمَامَ لَهُمْ)).

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَأَخْرَجَ -أَيْضًا- عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ وَمُحَاوَلَةُ تَفْرِيقِهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُلَّالُّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ!!

وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ، وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ سَقَطَ حُكَّامُهُمْ وَضَاعَتْ دُوَلُهُمْ -عَلَى عِوَجِهَا وَانْحِرَافِهَا- لَمْ يَعُدْ لَهُمْ كَرَامَةٌ -أَيْ: لِتِلْكَ الشُّعُوبِ- كَمَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَرَأَيْنَاهُمْ مُشَتَّتِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ فِي الْبِلَادِ، أُهِينَ الْكَرِيمُ، وَتَنَكَّرَ لَهُمُ اللَّئِيمُ، وَاحْتُقِرَ الْعَزِيزُ الْمَنِيعُ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَحِيلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَالِدَيْهِ وَذَوِيهِ.

مِنْ سُبُلِ الْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ: مُعَامَلَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ؛ فَإِنَّ سَمَاحَةَ الْإِسْلَامِ لَمْ تَقِفْ عِنْدَ حَدِّ تَعَامُلِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، بَلْ هِيَ مَنْهَجُ حَيَاةٍ شَامِلٌ يَسَعُ النَّاسَ جَمِيعًا؛ فَقَدْ حَفِظَ الْإِسْلَامُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ مَا دَامُوا لَمْ يُنَاصِبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعِدَاءَ, وَلَمْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى؛ فَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

بَلْ أَمَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-:

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))؛ أَيِ: النَّاسَ عُمُومًا.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا, وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَصِلَ مَنْ يَصِلُنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَصِلُوهُمْ، وَتَعْدِلُوا فِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْبِرِّ بِهِمْ؛ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى عَدْلِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المُمْتَحَنَة: 9].

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَصْدِقَاءَ وَأَنْصَارًا.

وَمَنْ يَتَّخِذُهُمْ أَنْصَارًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَحِبَّاءَ؛ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ؛ حَيْثُ وَضَعُوا الْوَلَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ الشّدِيدِ.

فَمَوَادَّةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِمُعَادِي اللهِ وَرَسُولِهِ وَمُعْلِنِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَضِيَّةٌ تُنَاقِضُ الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ: مُعَادَاةَ مَنْ عَادَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَحَارَبَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ غَيْرُ قَضِيَّةِ مُعَامَلَةِ الْكَافِرِينَ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ سَبَبٌ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَتَحْبِيبِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُونَ؛ حُبًّا فِي دِينِ اللهِ، وَإِعْجَابًا بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا أَتْبَاعُهُ.

قَالَ فِي «مُهَذَّبِ زَادِ الْمَعَادِ فِي بَابِ: هَدْيِ النَّبِيِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ»: ((كَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي مُعَامَلَةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ: الِاسْتِجَابَةَ التَّامَّةَ لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ؛ مِنْ صَبْرِ نَفْسِهِ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَأَلَّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَهْجُرَ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى بِمُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، شَرِيفُهُمْ وَضَعِيفُهُمْ.

وَكَانَ ﷺ لَا يُوَالِي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ، وَبِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ؛ هَدْيًا لِأُمَّتِهِ، وَاهْتِدَاءً بِهَدْيِ اللهِ -تَعَالَى- لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 55-56].

فَهَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ الشَّرْعِيَّيْنِ.

وَأَمَّا فِي الْعَادَاتِ: فَكَانَ يُعَامِلُ الْجَمِيعَ بِإِحْسَانٍ؛ يَشْتَرِي مِنْهُمْ، وَيَسْتَعِيرُ، وَيَعُودُ مَرِيضَهُمْ، وَيَقْبَلُ هَدِيَّتَهُمْ، وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِأَمْرِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِنَهْيِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2])).

((مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ وَحْدَةِ الْوَطَنِ:

نَبْذُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَهَدْمُ الْعَصَبِيَّةِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ لِتَحْقِيقِ الْوَحْدَةِ فِي الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: نَبْذَ الْعَصَبِيَّاتِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ؛ فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلَ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاهُمْ لَهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.

وَأَعْلَنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

وَأَشْهَدَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ)).

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ السَّبَّاحَةَ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُهَا إِلَيْهِمْ: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ)).

فَبَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ.

وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ، وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))-: ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَى دَعَائِمَ الدِّينِ، وَأَقَامَ أَسَاسَ الْمِلَّةِ الْمَتِينَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ.

بَعْدَ أَنْ أَرْسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَحَجَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَذَّرَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَيَقْتُلُ لِلْعَصَبِيَّةِ؛ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ مُنْتِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ لَعَّابًا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ -كَسَعَهُ: أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ أَوْ عَلَى عَجِيزَتِهِ بِيَدِهِ، أَوْ بِرِجْلِهِ، أَوْ بِعُرْضِ سَيْفِهِ-، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَى الْقَوْمُ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!

وَسَمِعَهَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟)).

فَلَمَّا أُخْبِرَ ﷺ، قَالَ: ((دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).

حَوْلَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ -حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تَدَاعَى كَلَقَبَيْنِ- تَدَاعَى مَنْ تَدَاعَى عَصَبِيَّةً، فَرَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُهَاجِرِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمَدَحَ الْأَنْصَارَ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْصَارَ فِي صَحِيحِ سُنَّتِهِ، وَمَدَحَ الْمُهَاجِرِينَ.

وَلَكِنْ لَمَّا تَدَاعَوْا حَوْلَ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَصَبِيَّةً؛ غَضِبَ ﷺ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ))، ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَكَفَى بِالْمُسْلِمِ إِثْمًا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)).

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لُحْمَةً وَسُدًى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ شَعَارُهُمْ الَّذِي يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ أَقْوَامًا سَيَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا؛ إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ))، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا ((هُوَ كَالْجُعَلِ يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ))، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ كَالْجُعَلِ، وَهُوَ الْجُعْرَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، ((يُدَهْدِهُ)): أَيْ: يُدَحْرِجُ الْخُرْءَ -أَعَزَّكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- ((بِفِيهِ))؛ مِنْ وَضَاعَتِهِ وَحَقَارَتِهِ.

((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، وَإِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونَنَّ عِنْدَ اللهِ أَهْوَنَ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)).

بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ الْعَصَبِيَّةِ، وَخُطُورَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الشَّعَارَاتِ الْحِزْبِيَّةِ، وَإِلَى الِانْتِمَاءَاتِ الضَّيِّقَةِ الرَّدِيَّةِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تُكَنُّوهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكْنُوا)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنِ انْتَمَى أَوِ انْتَسَبَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ عَصَبِيَّةً بِشَعَارٍ مِنْ شَعَارَاتِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَهَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، ((فَأَعِضُّوهُ -فَأَمِصُّوهُ- بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكْنُوهُ))، هَكَذَا ظَاهِرًا، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْعَى لِفُحْشٍ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ قُبْحِ الْعَصَبِيَّةِ بِانْتِمَائِهَا.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا يَفْخَرَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))، وَ((مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ))، وَأَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ.

إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَصَّبُونَ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ مَقَتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ ((إِذْ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَهُوَ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ.

لَمَّا عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَيَّرَهُ بِلَوْنِ أُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ.

وَاشْتَكَى بِلَالٌ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ)).

قَالُوا: وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ)).

لَا انْتِمَاءَ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَمِي إِلَى عَائِلَةٍ وَلَا قَبِيلَةٍ وَلَا شَعْبٍ وَلَا وَطَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ أَنْسَابِنَا مَا نَصِلُ بِهِ أَرْحَامَنَا، فَقَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ))، وَلَكِنْ لَا عَصَبِيَّةَ، وَلَا انْتِمَاءَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ، إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ.

وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يُخْبِرُكُمْ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا، فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).

وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ -عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا.. لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

لَا أَحْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا أَنْسَابَ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، فَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ مُسْلِمًا مُوقِنًا مُحْسِنًا؛ فَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى عِنْدَ رَبِّهِ وَهُوَ مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ، وَمَنْ جَاءَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا- بِالْعَمَلِ الطَّالِحِ؛ فَلَهُ الْمَكَانُ الْأَرْدَى وَلَا كَرَامَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا-؛ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.

((الْوَحْدَةُ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ أَوَّلِ دَوْلَةٍ فِي الْإِسْلَامِ))

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا اسْتَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ شَرَعَ فِي تَنْظِيمِ أُمُورِ الْمُجْتَمَعِ وَبِنَاءِ مُؤَسَّسَاتِهِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَضْمَنُ لَهُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا.

وَشَرَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنْذُ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي تَثْبِيتِ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مَتِينَةٍ وَأُسُسٍ رَاسِخَةٍ؛ فَكَانَتْ أُولَى خُطُوَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ الِاهْتِمَامَ بِبِنَاءِ دَعَائِمِ الْأُمَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْحُبِّ فِي اللهِ، وَإِصْدَارِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي يُنَظِّمُ بِهَا الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَمُشْرِكِي الْمَدِينَةِ، وَإِعْدَادِ جَيْشٍ لِحِمَايَةِ الدَّوْلَةِ، وَالسَّعْيِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ كَافَّةً.

لَقَدْ كَانَ لَا بُدَّ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ بَعْدَ أَنْ أَرْسَى الْمَسْجِدَ -مَجْمَعَ الْمُسْلِمِينَ الرُّوحِيَّ- أَنْ يُطِلَّ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ الَّذِي تَكَوَّنَ فِي الْمَدِينَةِ بِفَضْلِ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا، فَيُقِيمَهُ عَلَى قَاعِدَةٍ صُلْبَةٍ رَاسِخَةٍ، لَا تَعْصِفُ بِهَا الْأَهْوَاءُ وَالْمُنَازَعَاتُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْعَصَبِيَّاتُ وَالْمُنَافَسَاتُ الْقَبَلِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمَعَ هُوَ دِعَامَةُ الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي كَانَ بِصَدَدِ تَكْوِينِهَا.

كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمَدِينَةِ خِلَافَاتٌ وَاصْطِدَامَاتٌ مُسَلَّحَةٌ أَرْهَقَتْهُمْ قَدِيمًا، وَكَانَ آخِرُهَا (يَوْمَ بُعَاثَ) الْمَشْهُورَ الَّذِي الْتَهَمَ كَثِيرًا مِنْ سَادَاتِهِمْ وَنُبَلَائِهِمْ، وَأَلْحَقَ بِالطَّرَفَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ خَسَائِرَ مَادِّيَّةً لَا تُقَدَّرُ.

وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي فَاقَةٍ ظَاهِرَةٍ؛ إِذْ تَرَكُوا دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي مَكَّةَ، وَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ثَرْوَاتِهِمْ، وَجَرَّدُوهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُونَ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8].

وَكَانَ فِي الْأَنْصَارِ فَضْلُ ثَرَاءٍ مِنْ زَرْعٍ وَضَرْعٍ وَصَامِتٍ وَنَاطِقٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسُدَّ مِنْ عَوَزِ الْمُهَاجِرِينَ وَيُقِيمَ فِي أَوْدِهِمْ، فَرَأَى النَّبِيُّ ﷺ انْطِلَاقًا مِنْ رُوحِ التَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّضَامُنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِيَضَعَ الَّذِينَ رَحَّبُوا بِمَقْدَمِهِ وَاحْتَفَوْا بِهِجْرَتِهِ أَمَامَ مَسْئُولِيَّاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ رَأَى ﷺ أَنْ يَسْتَأْصِلَ شَأْفَةَ الْأَحْقَادِ الْمَوْرُوثَةِ فِيهِمْ، وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْفَقْرِ الْمُهَاجِمِ الْجَاثِمِ عَلَى صُدُورِ أَكْثَرِ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْقِدَ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَآخُوْا فِي اللهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ؛ أُخُوَّةٌ عَمَلِيَّةٌ جَامِعَةٌ مُوَحِّدَةٌ تَمْسَحُ الْأَنَانِيَّةَ الْمُسْتَأْثِرَةَ الْبَغِيضَةَ، وَتَبْذُلُ الْمَالَ وَالدَّمَ، وَتَقْبُرُ الْعَصَبِيَّاتِ الذَّمِيمَةَ الْفَارِغَةَ، وَتَحْيَا بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.

وَكَانَتْ دَرْسًا عَمَلِيًّا خُلُقِيًّا فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّظِيفَةِ الشَّرِيفَةِ الْهَادِفَةِ الْهَادِئَةِ، لَمْ يَتَخَلَّلْهُ اسْتِغْلَالٌ وَاسْتِنْزَافٌ، وَلَمْ يَتَسَرَّبْ إِلَيْهِ طَمَعٌ أَوْ جَشَعٌ فَيَفْسُدُ، وَلَا يَبْلُغُ قَلَمٌ وَصْفَ الشَّأْوِ الَّذِي بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ وَسَجَّلَتْهُ فَرِيدًا فِي سَمْعِ التَّارِيخِ وَبَصَرِهِ، ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فَيْضًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَنَبْعًا مِنْ خَيْرِ الْهَدْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، كَانَتْ قُوَّةً وَوِحْدَةً أَحْكَمَهَا دِينُ التَّوْحِيدِ.

وَهَكَذَا اسْتَطَاعَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَقْلِبَ الْعَدَاءَ إِخَاءً، وَالْحِقْدَ حُبًّا، وَيُحَوِّلَ الْأَثَرَةَ إِلَى إِيثَارٍ جَمِيلٍ حَمِيدٍ فَرِيدٍ، فَأَشَاعَ فِي مَدِينَتِهِ الْمُثْلَى لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي دُنْيَا النَّاسِ التَّكَافُلَ الِاجْتِمَاعِيَّ التِّلْقَائِيَّ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ الْوَاجِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ الْفَاقِدِينَ.

وَبِذَلِكَ أَثْبَتَ أَمَامَ الْعَالَمِ كُلِّهِ أَوَّلَ تَجْرِبَةٍ مُتَكَافِلَةٍ مُتَضَامِنَةٍ مُتَحَابَّةٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَأَرْسَى بِهَا الْقَاعِدَةَ الْكُبْرَى فِي بِنَاءِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَمْ تَنْبَعِثْ مِنَ الْفَلْسَفَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَلَا الْأَفْكَارِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَادِّيَّةِ بَلِ انْبَثَقَتْ مِنْ صَمِيمِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ نُصُوصُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وَ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).

لَقَدْ آخَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ يَتَسَابَقُونَ فِي مُؤَاخَاةِ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى يَئُولَ الْأَمْرُ إِلَى الِاقْتِرَاعِ.

وَكَانُوا يُحَكِّمُونَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَثَاثِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ يَقُولُ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: انْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيَّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا! وَيَقُولُ الْمُهَاجِرُ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَدُلَّنِي عَلَى السُّوقِ.

فَكَانَ مِنَ الْأَنْصَارِيِّ الْإِيثَارُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِيِّ التَّعَفُّفُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ.

وَكَانَ هَذَا الْإِخَاءُ أَسَاسًا لِإِخَاءٍ إِسْلَامِيٍّ عَالَمِيٍّ فَرِيدٍ مِنْ نَوْعِهِ، وَمُقَدِّمَةً لِنَهْضَةِ أُمَّةٍ ذَاتِ دَعْوَةٍ وَرِسَالَةٍ تَنْطَلِقُ لِصِيَاغَةِ عَالَمٍ جَدِيدٍ قَائِمٍ عَلَى عَقَائِدَ صَحِيحَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَأَهْدَافٍ صَالِحَةٍ مُنْقِذَةٍ لِلْعَالَمِ مِنَ الشَّقَاءِ وَالتَّنَاحُرِ وَالِانْتِحَارِ، وَعَلَى عَلَاقَاتٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخَاءِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ.

وَكَانَ هَذَا الْإِخَاءُ الْمَحْدُودُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ طَلِيعَةً لِاسْتِئْنَافِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، لِذَلِكَ خَاطَبَ اللهُ -تَعَالَى- تِلْكَ الثُّلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي مَدِينَةٍ صَغِيرَةٍ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73])).

لَقَدْ سَاهَمَ نِظَامُ الْمُؤَاخَاةِ فِي رَبْطِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَقَدْ أَقَامَ الرَّسُولُ ﷺ هَذِهِ الصِّلَةَ عَلَى أَسَاسِ الْإِخَاءِ الْكَامِلِ بَيْنَهُمْ.

إِنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ الَّذِي تَكَوَّنَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْعُنْصُرَيْنِ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَانَ أَسَاسُ بِنْيَتِهِ الْحُبَّ، فَلَقَدْ أَقَامَ الْإِسْلَامُ الْمُجْتَمَعَ الْمَدَنِيَّ عَلَى أَسَاسِ الْحُبِّ وَالتَّكَافُلِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

فَالتَّوَادُّ وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاصُلُ وَالْمَرْحَمَةُ أَسَاسُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، حَاكِمِهِمْ وَمَحْكُومِهِمْ.

وَقَدْ تَكَفَّلَتْ تَعَالِيمُ الْإِسْلَامِ بِتَدْعِيمِ الْحُبِّ وَإِشَاعَتِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ، فَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).

فَيَعِيشُ الْمُؤْمِنُونَ بَعِيدًا عَنِ الْأَثَرَةِ وَالِاسْتِغْلَالِ، وَهُمْ يَتَعَاوَنُونَ فِي مُوَاجَهَةِ أَعْبَاءِ الْحَيَاةِ، ((فَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ))؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

((وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)). كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

عَلَاقَاتُ الْمُؤْمِنِينَ قَائِمَةٌ عَلَى الِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، لَا يَسْتَعْلِي غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا حَاكِمٌ عَلَى مَحْكُومٍ، وَلَا قَوِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ، ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). كَمَا رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ.

قَدْ تَفْتُرُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ، وَقَدْ تَنْقَطِعُ سَاعَةَ غَضَبٍ، لَكِنَّ انْقِطَاعَهَا لَا يَسْتَمِرُّ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)) كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَتُدْعَمُ أُسُسُ الْحُبِّ بِالصِّلَةِ وَالصَّدَاقَةِ: ((تَهَادُوا تَحَابُّوا)).

وَيَضَعُ الْغَنِيُّ أَمْوَالَهُ فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ وَسَدِّ الثَّغْرَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي بِنَائِهِ الِاقْتِصَادِيِّ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِي تَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ، فَيُخْرِجُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ، وَيُوَاسِي الْمُحْتَاجِينَ بِأَمْوَالِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ إِذَا كَثُرَتْ ثَرْوَتُهُ؛ إِذْ تَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْرِ وَالْمُوَاسَاةِ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ؛ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ!!)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ -أَيْ: أَنَّ أَجْرَهَا يَرُوحُ وَيَغْدُو عَلَيْكَ-، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ)).

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: ((أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ!!)).

فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

كَانَ أَغْنِيَاءُ الصَّحَابَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَخْلَفُونَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ، فَإِذَا وَجَدُوا ثُغْرَةً تَعْجِزُ الدَّوْلَةُ عَنْ سَدِّهَا أَوْ لَا تَنْتَبِهُ لَهَا؛ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَدِّهَا.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي التَّارِيخِ أَنَّ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَصَدَّقَ بِقَافِلَةٍ ضَخْمَةٍ بِأَلْفِ بَعِيرٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالزَّيْتَ وَالزَّبِيبَ.. تَصَدَّقَ بِهَا جَمِيعِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عِنْدَمَا حَلَّتِ الضَّائِقَةُ الِاقْتِصَادِيَّةُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ التُّجَّارُ خَمْسَةَ أَضْعَافِ ثَمَنِهَا رِبْحًا، فَقَالَ: ((أُعْطِيتُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ!!)).

فَقَالَ التُّجَّارُ: ((مَنِ الَّذِي أَعْطَاكَ وَمَا سَبَقَنَا إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَنَحْنُ تُجَّارُ الْمَدِينَةِ؟!!)).

قَالَ: ((إِنَّ اللهَ أَعْطَانِي عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا)).

ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ!!

وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي سِيَرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ، لِذَلِكَ لَمْ تَظْهَرِ الرُّوحُ الطَّبَقِيَّةُ، وَلَمْ يَحْدُثِ الصِّرَاعُ الطَّبَقِيُّ، وَلَمْ يَتَكَتَّلِ النَّاسُ وَفْقَ مَصَالِحِهِمْ الِاقْتِصَادِيَّةِ لِحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُمْ أَوْ تَحْتَهُمْ.

فَتَأَمَّلْ كَثِيرًا فِي هَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي الَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَصَارَ الْمُجْتَمَعُ لُحْمَةً وَاحِدَةً، حَتَّى صَارَ الْمُجْتَمَعُ رُوحًا وَاحِدَةً فِي جَسَدٍ، وَقَلْبًا وَاحِدًا نَابِضًا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ هُوَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ، وَالْعَمَلُ الثَّانِي هُوَ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

((الْعَمَلُ الثَّالِثُ الَّذِي قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ: هُوَ ((كِتَابَةُ الصَّحِيفَةِ)).

الصَّحِيفَةُ كَانَ فِيهَا بُنُودٌ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَبُنُودٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَبُنُودٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْيَهُودِ، وَكَانَ فِي الصَّحِيفَةِ بُنُودٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ.

بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ أَرْسَى رَسُولُ اللهِ ﷺ قَوَاعِدَ مُجْتَمَعٍ جَدِيدٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ أَثَرًا لِلْمَعَانِي الَّتِي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِهَا أُولَئِكَ الْأَمْجَادُ بِفَضْلِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

((لَقَدْ نَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا أَوْرَدَتْهُ الْمَصَادِرُ التَّارِيخِيَّةُ، وَاسْتَهْدَفَ الْكِتَابُ أَوِ الصَّحِيفَةُ تَوْضِيحَ الْتِزَامَاتِ جَمِيعِ الْأَطْرَافِ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْدِيدَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَادِرِ الْقَدِيمَةِ بِـ(الْكِتَابِ أَوِ الصَّحِيفَةِ)، وَأَطْلَقَتِ الْأَبْحَاثُ الْحَدِيثَةُ عَلَيْهَا لَفْظَةَ الدُّسْتُورِ أَوِ الْوَثِيقَةِ.

لَقَدِ احْتَجَّ بِالْوَثِيقَةِ الْفُقَهَاءُ وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ.

ثُمَّ إِنَّ التَّشَابُهَ الْكَبِيرَ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْوَثِيقَةِ وَأَسَالِيبِ كُتُبِ النَّبِيِّ ﷺ الْأُخْرَى يُعْطِيهَا تَوْثِيقًا آخَرَ)).

اعْتَبَرَتِ الصَّحِيفَةُ -صَحِيفَةُ الْمَدِينَةِ- الْيَهُودَ جُزْءًا مِنْ مُوَاطِنِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَعُنْصُرًا مِنْ عَنَاصِرِهَا؛ لِذَلِكَ قِيلَ فِي الصَّحِيفَةِ: مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ.. كَمَا فِي الْمَادَّةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ.

ثُمَّ زَادَ هَذَا الْحُكْمَ إِيضَاحًا كَمَا فِي الْمَادَّةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَمَا يَلِيهَا؛ حَيْثُ نَصَّ فِيهَا صَرَاحَةً عَلَى أَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَبِهَذَا نَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتَبَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي أَرْجَائِهِ مُوَاطِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا قَائِمِينَ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِمْ.

وَجَعَلَتِ الصَّحِيفَةُ الْفَصْلَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ عَائِدًا إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ.

بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَعَقْدِ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَبِكِتَابَةِ الْوَثِيقَةِ مَعَ الْيَهُودِ.. يَكُونُ الرَّسُولُ ﷺ قَدْ أَرْسَى قَوَاعِدَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ مَتِينَةٍ.

 

((الْوَحْدَةُ وَعَدَمُ التَّنَازُعِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ))

إِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ وَالشِّقَاقَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْهَزِيمَةِ وَالضَّعْفِ، وَمِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: عَدَمُ النِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يُؤَدِّي إِلَى عَجْزِكُمْ وَضَعْفِكُمْ وَجُبْنِكُمْ وَذَهَابِ قُوَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُ الْقَوْمَ إِذَا مَا أَرَادُوا النَّصْرَ أَلَّا يَتَنَازَعُوا، فَرَفْعُ النِّزَاعِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: أَنْ يَثْبُتَ الْقَوْمُ، وَأَنْ يَذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَتَأَتَّى مِنْهُمْ طَاعَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ ﷺ.

ثُمَّ فَلْيَنْتَفِ النِّزَاعُ عَنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَأَتَّى لَهُمُ النَّصْرُ، وَلَكِنْ هَيْهَات! فَإِنَّ الْهَوَى قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الْقُلُوبِ، وَإِنَّ الْعُجْبَ بِالذَّاتِ، وَإِنَّ الْإِحْسَاسَ بِالنَّفْسِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى تِلْكَ الْقُلُوبِ، فَأَصْبَحَتْ فِي قَبْضَةِ الْأَنَا، لَا تَخْلُصُ مِنْهَا أَبَدًا، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفُكَّ قُيُودَهَا مِمَّا بُدِّلَتْ بِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَقْيَادِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهِ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ وَالْإِحْسَاسِ بِهَا.

{وَلَا تَنَازَعُوا}: فَإِنَّكُمْ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فَشِلْتُمْ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}: وَأَتَى بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَشَلَ يَأْتِي بِعَقِبِ النِّزَاعِ مِنْ غَيْرِ مَا فَصْلٍ، فَأَتَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفَاءِ هَاهُنَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ فَاصِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

بَلْ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى هَذَا تَرْتِيبًا حَالِيًّا بِغَيْرِ مَا فَصْلٍ فِي الْآنِ وَلَا فِي الزَّمَانِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}: يَعْنِي وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ، فَإِذَا مَا هُنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بَعْدَمَا هَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَمْرِهِ عَلَيْكُمْ؛ صِرْتُمْ هَيِّنِينَ لَيِّنِينَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَنَزَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّهْبَةَ مِنْكُمْ مِنْ صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ، فَسَامُوكُمُ الْخَسْفَ وَأَذَلُّوكُمْ، وَنَزَلَ بِكُمْ مَا لَا تُحِبُّونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ؛ مِنْ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَدْمِ الدِّيَارِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ تَغْيِيرُ الدِّينِ، وَمُحَاوَلَةُ الْمَحْقِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.

وَلَكِنَّمَا هُوَ جِيلٌ يَدْخُلُ الْأَتُّونَ الْمُسْتَعِرَ فَيَفْنَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةَ.

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}: وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ نِزَالٍ وَجِلَادٍ، وَهُوَ مَوْطِنٌ فِيهِ مَظِنَّةُ أَنْ تَسِيلَ النُّفُوسُ عَلَى ذُبَابِ السُّيُوفِ، وَأَنْ تَخْرُجَ الْأَرْوَاحُ عَلَى أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ.

فَوِحْدَةُ الْأُمَّةِ وَأُلْفَتُهَا تَدْفَعُ عَنْهَا مَكْرَ أَعْدَائِهَا وَكَيْدَهُمْ، وَتَجْعَلُهَا فِي مَأْمَنٍ مِنْ جَمِيعِ مُؤَامَرَاتِهِمْ وَدَسَائِسِهِمْ، وَمَا نَجَحَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَآمُرِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَيْدِهِمْ لَهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ تَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخَاذُلِهِمْ وَتَدَابُرِهِمْ.

((نِدَاءٌ لِأَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ!!))

يَا أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي اللهِ! ((اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْمَدُوا رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّحَابِّ وَالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمَصَالِحِ؛ لِتَكُونُوا مِنَ الْفَائِزِينَ.

اجْتَمِعُوا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَتَعَاوَنُوا وَلَا تَخَاذَلُوا، وَتَآلَفُوا وَلَا تَنَافَرُوا، وَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ مُخْلِصِينَ.

إِنَّ بِالِاجْتِمَاعِ تَتَّفِقُ الْكَلِمَةُ، وَتَجْتَمِعُ الْآرَاءُ، وَتَتِمُّ الْمَصَالِحُ، وَإِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَدَفًا لِلْأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعُلُوِّ الْفَرْدِيِّ.

إِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ جَمِيعِ الْمُسْتَوَيَاتِ الَّتِي دُونَهَا، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا وَلِذَاتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُدْرَسَ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَأَنْ تُسْتَخْلَصَ فِيهَا جَمِيعُ الْآرَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، فَيُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى إِلَيْهَا.

وَالْإِنْسَانُ مَتَى خَلُصَتْ نِيَّتُهُ، وَصَلُحَ عَمَلُهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ، وَسُلُوكِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، مَتَى اتَّصَفَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْلَاصِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْإِصْلَاحِ.. صَلُحَتِ الْأَشْيَاءُ وَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَمَتَى نَقَصَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ -إِمَّا الْإِخْلَاصُ، وَإِمَّا الِاجْتِهَادُ-؛ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأُمُورِ نَظْرَةَ اسْتِغْلَالٍ لِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ، أَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا نَظْرَةً قَاصِرَةً مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ؛ سَتَخْتَلُّ الْأُمُورُ وَتَفُوتُ الْمَصَالِحُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا كَأَبْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَسْعَى لِهَدَفٍ وَاحِدٍ هُوَ إِصْلَاحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِصْلَاحًا دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَلَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ حَتَّى تَتَّفِقَ كَلِمَتُنَا، وَنَتْرُكَ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَنَا، وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي لَا تُحَقِّقُ هَدَفًا، بَلْ رُبَّمَا تُفَوِّتُ مَقْصُودًا، وَتُعْدِمُ مَوْجُودًا.

إِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَفَرَّقَتْ؛ دَخَلَتِ الْأُمُورَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّغَائِنُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْعَى لِتَنْفِيذِ كَلِمَتِهِ؛ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي خِلَافِهَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعْنَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَدَرَسْنَا الْمَوْضُوعَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى مَا نَرَاهُ مُمْكِنًا نَافِعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَصَالِحِنَا الْخَاصَّةِ؛ حَصَلَ لَنَا بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

وَثِقُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- أَنَّكُمْ مَتَى أَخْلَصْتُمُ النِّيَّةَ، وَسَلَكْتُمُ الْحِكْمَةَ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُيَسِّرُ لَكُمُ الْأُمُورَ، وَيُصْلِحُ لَكُمُ الْأَعْمَالَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا()، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ وَتَمَاسُكَهُ وَإِحْكَامَهُ، بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلٌ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.

أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاءُ؟!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي كُلِّ صَوْبٍ.. اجْتَمِعُوا عَلَى الْحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَبْعُدُوا شَطَطًا، وَلَا تَقُولُوا بَاطِلًا، وَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

عِبَادَ اللهِ! الدِّينُ وَاضِحٌ وَمُبِينٌ، وَعَلَيْهِ نُورٌ وَلَأْلَاءٌ، وَفِي السُّنَّةِ بَرْدُ الْيَقِينِ وَطُمْأْنِينَةُ الْإِيمَانِ.

اتَّقُوا اللهَ!

أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ! تَمَسَّكِي بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِفَهْمِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

عُودِي -أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ- إِلَى الْأَمْرِ الْعَتِيقِ، إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَخْرُجُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخِلَافِ، تَتَآلِفُ الْقُلُوبُ، وَتَتَوَحَّدُ الْوُجْهَةُ، وَتَتَآزَرُ الْقُوَى، وَتَتَسَانَدُ الْأَبْدَانُ، وَتَتَعَاضَدُ السَّوَاعِدُ بِنَاءً فِي هَذَا الْوَطَنِ.

اتَّقُوا اللهَ فِي وَطَنِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-، وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَوْطَانِكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-؛ فَإِنَّهَا مُسْتَهْدَفَةٌ مُرَادَةٌ مَطْلُوبَةٌ.

تَآزَرُوا، وَتَعَاوَنُوا، وَنَمُّوا الْمَوْجُودَ؛ حَتَّى تُحَصِّلُوا الْمَفْقُودَ، وَلَا تَتَّبِعُوا السَّرَابَ؛ فَإِنَّهُ هَبَاءٌ يُفْضِي إِلَى يَبَابٍ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَهُ مِنَ الْفِتَنِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنْ يَعْصِمَ جَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

 

نَسْأَلُ اللَّـهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُجَنِّبَ وَطَنَنَا مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمَّ صُنْ بَلَدَنَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، صُنْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ اكْبِتِ الْحَاقِدِينَ.

اللَّهُمَّ أَذِلَّ الْحَاسِدِينَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْمَعْ أَبْنَاءَ هَذَا الْوَطَنِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ -يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-.

اللَّهُمَّ حَافِظْ عَلَى وَطَنِنَا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَاحْفَظْهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ, وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَمِّنْ وَطَنَنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ دِيَارَنَا, وأَلِّفْ بَيْنَ أَبْنَاءِ شَعْبِنَا.

اللَّهُمَّ اكْبِتِ الْحَاقِدِينَ.

اللَّهُمَّ اكْبِتْ أَصْحَابَ الْفِتْنَةِ وَأَذِلَّهُمْ، وَاكْشِفْ سِتْرَهُمْ، وَمَكِّنْ مِنْهُمْ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا مِنَ الْفَوْضَى، واحْفَظْ وَطَنَنَا مِنَ الْفِتَنِ, وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ أَهْلِهِ، وَاجْمَعْهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ -يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ-.

وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ وَأَثَرُهَا فِي التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  ماذا لو حكم الإخوان مصر؟
  الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ
  أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ
  التَّكَافُلُ الْمُجْتَمَعِيُّ وَاجِبُ الْوَقْتِ
  مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. مَسْؤُولِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان