أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ

أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ

((أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْحِوَارُ سَبِيلُ التَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ))

فَقَدْ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي أَلْوَانِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

وَمِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي كَوْنِهِ -تَعَالَى- الدَّالَّاتِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُزَيَّنَةً بِالْكَوَاكِبِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ، وَبِالشَّمْسِ الَّتِي سَخَّرَ ضَوْءَهَا وَحَرَارَتَهَا لِحَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَبِالْقَمَرِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَخَلْقُ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْتَوُونَ عَلَى ظُهُورِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارِ وَبِحَارٍ وَخَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ فِي اللُّغَاتِ وَاللَّهَجَاتِ وَأَجْنَاسِ النُّطْقِ وَأَشْكَالِهِ، وَتَبَايُنُ أَلْوَانِكُمْ وَصِفَاتِكُمْ مَعَ كَوْنِ الْأَصْلِ وَاحِدًا؛ لِلتَّمَايُزِ، وَلِإِمْكَانِ التَّعَارُفِ وَالتَّفَاهُمِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ مُرَادَاتِ الْأَنْفُسِ.

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَجِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّهُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَيَرْجِعُونَ جَمِيعُهُمْ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَفَرَّقَهُمْ وَجَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ؛ أَيْ: قَبَائِلَ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَارَفُوا، فَإِنَّهُمْ لَوِ اسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ التَّعَارُفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّنَاصُرُ وَالتَّعَاوُنُ، وَالتَّوَارُثُ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْأَقَارِبِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ؛ لِأَجْلِ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَغَيْرُهَا، مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَارُفِ، وَلُحُوقِ الْأَنْسَابِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [لحجرات: 13].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ.

وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّعَارُفُ إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْحِوَارِ الْهَادِفِ الَّذِي يُخَاطِبُ الْعُقُولَ وَالْقُلُوبَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

وَجَادِلْهُمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَدَبًا وَتَهْذِيبًا وَقَوْلًا وَفِكْرًا.

 ((آدَابُ الْحِوَارِ فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ أَدَبَ الْحِوَارِ وَالرُّقِيَّ فِي مُخَاطَبَةِ النَّاسِ أَمْرٌ قَدْ أَسَّسَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِمُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 43-44].

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَارُونَ كَمَا أَمَرَ مُوسَى الْكَلِيمَ أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وَأَنْ يَعِظَاهُ وَأَنْ يُذَكِّرَاهُ وَأَنْ يَدْعُوَاهُ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

 ادْعُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ وَضْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يُوجِبُهُ الْعَقْلُ، وَتَكْشِفُهُ التَّجْرِبَةُ، وَتَتَحَقَّقُ بِهِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَبِالنُّصْحِ الْمَقْرُونِ بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ أَوِ الرَّهْبَةَ؛ لِلِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ وَاتِّبَاعِ مَا هَدَى إِلَيْهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا، وَجَادِلْهُمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَدَبًا وَتَهْذِيبًا وَقَوْلًا وَفِكْرًا.

وَمِنْ ذَلِكَ هِجَاءُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَاعِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ دِفَاعًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ=وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا تَقِيًّا=رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي=لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

إِنَّ الْآدَابَ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَوَضَّحَهَا رَسُولُهُ ﷺ كَثِيرَةٌ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعَلُّمِهَا وَالتَّخَلُّقِ بِهَا، مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ.

مِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَهَا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِهَا: آدَابُ الْحِوَارِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

وَجَادِلْهُمْ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَدَبًا وَتَهْذِيبًا وَقَوْلًا وَفِكْرًا، وَتَابِعْ دَعْوَةَ مَنْ لَمْ تُثْبِتِ التَّجْرِبَةُ الطَّوِيلَةُ أَنَّهُمْ مَيْؤُوسٌ مِنَ اسْتِجَابَتِهِمْ؛ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ضَلَالًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِاسْتِعْدَادٍ مِنْ عُمْقِ نَفْسِهِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ لَدَيْهِ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا مِنَ الْمُهْتَدِينَ؛ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا -كَمَا قَالَ اللهُ-، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].

وَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا دَوَامًا الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)).

فَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ فَاحِشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.

وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.

مِنَ الْآدَابِ -عِبَادَ اللهِ-: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأَدُّبِ فِي الْمُحَاوَرَةِ؛ فَالْمُسْلِمُ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْمُتَأَدِّبِ الْوَقُورِ، يُنْصِتُ إِلَى كَلَامِ الْمُتَحَدِّثِينَ مَا لَمْ يَتَحَدَّثُوا بِإِثْمٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَلَا يُقَاطِعُ أَحَدًا أَثْنَاءَ حَدِيثِهِ.

وَإِذَا تَحَدَّثَ كَانَ كَلَامُهُ لَطِيفًا، فَيَسْمَعُ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

وَإِذَا عَرَضَ الْمُسْلِمُ رَأْيَهُ؛ عَرَضَهُ بِهُدُوءٍ وَوُضُوحٍ حَتَّى يَفْهَمَهُ النَّاسُ، فَإِذَا رَأَى أَنْ يُعِيدَ كَلَامَهُ لِيَفْهَمَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ؛ أَعَادَهُ، وَقَدْ ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا))، كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ))؛ حَتَّى يَفْهَمَهَا الْمُسْتَمِعُ.

وَقَدْ وَصَفَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَلَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهَا: ((كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ: ((أَيْ: لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَمِعُ عَدَّ كَلِمَاتِهِ أَوْ حُرُوفِهِ؛ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ، وَمِنْهُ أُخِذَ أَنَّ عَلَى الْمُدَرِّسِ أَلَّا يَسْرُدَ الْكَلَامَ سَرْدًا، بَلْ يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا، وَيَتَمَهَّلُ؛ لِيَتَفَكَّرَ فِيهِ هُوَ وَسَامِعُهُ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَسْأَلَةٍ أَوْ فَصْلٍ سَكَتَ قَلِيلًا؛ لِيَتَكَلَّمَ مَنْ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ)).

قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَمْ يَكُنْ ﷺ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَمِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى الْمُسْلِمِ مُرَاعَاتُهَا: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْآخَرِينَ، وَاحْتِرَامِ رَأْيِ جُلَسَائِهِ، وَلَا يُطِيلُ الْكَلَامَ وَيَسْتَأْثِرُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْبَعْضُ -هَدَاهُمُ اللهُ-؛ حَتَّى لَا يَمَلَّ النَّاسُ حَدِيثَهُ وَمَجْلِسَهُ.

 ((أَهَمِّيَّةُ الْحِوَارِ وَأَثَرُهُ فِي انْتِشَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ تَعَدَّدَتِ الْأَسَالِيبُ الْبَيَانِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَانَ مِنْ أَبْرَزِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ: أُسْلُوبُ الْحِوَارِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

وَذَكَرَ اللهُ الْحِوَارَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُجَادِلَةِ وَرَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ تَعَالَى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ اشْتَكَتْهُ زَوْجَتُهُ إِلَى اللهِ، وَجَادَلَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمَّا حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الصُّحْبَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْأَوْلَادِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا شَيْخًا كَبِيرًا، فَشَكَتْ حَالَهَا وَحَالَهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَرَّرَتْ ذَلِكَ، وَأَبْدَتْ فِيهِ وَأَعَادَتْ.

فَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أَيْ: تَخَاطُبَكُمَا فِيمَا بَيْنَكُمَا، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ {بَصِيرٌ} يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كَمَالِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَإِحَاطَتِهِمَا بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَلِيلَةِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْإِشْارَةُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- سَيُزِيلُ شَكْوَاهَا، وَيَرْفَعُ بَلْوَاهَا؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ حُكْمَهَا وَحُكْمَ غَيْرِهَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.

وَلِلْحِوَارِ أَهَمِّيَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَتَوْضِيحِ مَعَالِمِ الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَإِبْطَالِ دَعَوَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُتَتَبِّعُ لِقِصَّةِ  إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَرَى أَنَّهُ أَقَامَ حِوَارًا مَعَ أَبِيهِ وَمَعَ قَوْمِهِ يُحَاوِلُ هِدَايَتَهُمْ، ((وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَهُمْ فَلَاسِفَةُ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَخْبَثِ الطَّوَائِفِ وَأَعْظَمِهِمْ ضَرَرًا عَلَى الْخَلْقِ، فَدَعَاهُمْ بِطُرُقٍ شَتَّى، فَأَوَّلُ ذَلِكَ دَعَاهُمْ بِطَرِيقَةٍ لَا يُمْكِنُ صَاحِبَ عَقْلٍ أَنْ يَنْفِرَ مِنْهَا.

فَرَفَعَ اللهُ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِالْعِلْمِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَعَجَزُوا عَنْ نَصْرِ بَاطِلِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمُ الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ نَهْيًا عَامًّا وَخَاصًّا، وَأَخَصُّ مَنْ دَعَاهُ: أَبُوهُ آزَرُ؛ فَإِنَّهُ دَعَاهُ بِعِدَّةِ طُرُقٍ نَافِعَةٍ؛ وَلَكِنْ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس : 96-97] .

فَمِنْ جُمْلَةِ مَقَالَاتِهِ لِأَبِيهِ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 42-43].

فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْخِطَابِ الْجَاذِبِ لِلْقُلُوبِ، لَمْ يَقُلْ لِأَبِيهِ: إِنَّكَ جَاهِلٌ؛ لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَشِنِ، بَلْ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 43-45] .

فَانْتَقَلَ بِدَعْوَتِهِ مِنْ أُسْلُوبٍ لِآخَرَ؛ لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِ أَوْ يُفِيدُ؛ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].

هَذَا وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَغْضَبْ، وَلَمْ يُقَابِلْ أَبَاهُ بِبَعْضِ مَا قَالَ، بَلْ قَابَلَ هَذِهِ الْإِسَاءَةَ الْكُبْرَى بِالْإِحْسَانِ، فَقَالَ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47] أَيْ: لَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ إِلَّا بِكَلَامٍ طَيِّبٍ لَا غِلْظَةَ فِيهِ وَلَا خُشُونَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَسْتُ بِآيِسٍ مِنْ هِدَايَتِكَ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أَيْ: بَارًّا رَحِيمًا، قَدْ عَوَّدَنِي لُطْفَهُ، وَأَجْرَانِي عَلَى عَوَائِدِهِ الْجَمِيلَةِ، وَلَمْ يَزَلْ لِدُعَائِي مُجِيبًا.

فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مَعَ قَوْمِهِ فِي دَعْوَةٍ وَجِدَالٍ، وَقَدْ أَفْحَمَهُمْ، وَكَسَرَ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ وَشُبَهِهِمْ، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ يُقَاوِمَهُمْ بِأَعْظَمِ الْحُجَجِ، وَأَنْ يَصْمُدَ لِبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا وَجِلٍ.

فَلَمَّا خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَظَاهَرَ بِعَدَاوَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنَّهْيِ الْأَكِيدِ عَنْهَا، وَجِهَادِ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَرَزُوا جَمِيعًا إِلَى الصَّحْرَاءِ؛ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ، فَجَعَلَهَا جُذَاذًا كُلَّهَا إِلَّا صَنَمًا كَبِيرًا أَبْقَى عَلَيْهِ؛ لِيُلْزِمَهُمْ بِالْحُجَّةِ.

فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ؛ بَادَرُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ صَبَابَةً وَمَحَبَّةً، فَرَأَوْا فِيهَا أَفْظَعَ مَنْظَرٍ رَآهُ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: {مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59-60]؛ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَذْكُرُهَا بِأَوْصَافِ النَّقْصِ وَالسُّوءِ {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ الَّذِي كَسَرَهَا؛ {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] أَيْ: بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَوَبَّخُوهُ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ، ثُمَّ نَكَّلُوا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ بِمَرْأَى الْخَلْقِ وَبِمَسْمَعِهِمْ، فَلَمَّا جُمِعَ النَّاسُ وَحَضَرُوا وَحَضَّرُوا إِبْرَاهِيمَ قَالُوا: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63]، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي سَلِمَ مِنْ تَكْسِيرِهِ، وَهُمْ فِي هَذِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ عَقْلَ أَحَدٍ؛ أَنَّ جَمَادًا مَعْرُوفٌ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ مَوَادَّ مَعْرُوفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا، وَأَنْتَ سَالِمٌ نَاجٍ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ.

قَالَ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ؛ فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَبَانَ، وَاعْتَرَفُوا هُمْ بِالْحَقِّ: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 64-65] أَيْ: مَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا إِلَّا وَقْتًا قَصِيرًا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ مُبَاشَرَةً الَّتِي لَا يُمْكِنُ مُكَابَرَتُهَا؛ وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا عَادَتْ عَقَائِدُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي رَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَصَارَتْ صِفَاتٍ مُلَازِمَةً لَهُمْ، إِنْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّهُ عَارِضٌ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65].

فَحِينَئِذٍ وَبَّخَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا الْخُصُومُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67].

فَلَوْ كَانَتْ لَكُمْ عُقُولٌ صَحِيحَةٌ؛ لِمَ تُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ؟!!

فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ؛ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، فَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا فَأَلْقَوهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ-: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا لِيَنْصُرُوا آلِهَتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ وَالْحَادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ وَالرُّؤَساءِ وَالْمَرْؤُوسِينَ)).

وَكَذَلِكَ الْحِوَارُ بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ، {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه: 49-50].

قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا الَّذِي أَرْسَلَكُمَا يَا مُوسَى -مُوَجِّهًا الْخِطَابَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ--؟!

قَالَ لَهُ مُوسَى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مُخَطَّطَ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ مِنْ مَادِّيَّاتٍ وَمَعْنَوِيَاتٍ وَنَفْسِيَّاتٍ؛ فَهِيَ كَامِنَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي أَعْمَاقِهِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ عُنْصُرٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ لِلنَّمَاءِ وَالتَّحَرُّكِ عَلَى وَفْقِ مَا قَدَّرَ اللهُ لَهُ فِي خَصَائِصِهِ.

وَكَذَلِكَ حِوَارُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ قَوْمِهِ؛ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا وَقَالَ: ((وَاصَبَاحَاهُ!)).

فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا؛ مَاذَا هُنَالِكَ؟!!

يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ؛ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!)).

فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ؛ فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!!)).

أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ؛ بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ.

قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.. بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

إِنَّ لِلْحِوَارِ أَثَرًا كَبِيرًا فِي هِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمُتَتَبِّعُ لِسِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ يُدْرِكُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْوُفُودِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَتْ تُعْلِنُ إِسْلَامَهَا بَعْدَ حِوَارِهَا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ، وَلْنَسْتَفِدْ مِنَ الْحِوَارِ الَّذِي أَدْخَلَ الْيَهُودِيَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ النَّبيِّ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ -وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ مِنْ أَحْبَارِ وَعُلَمَاءِ اليَهُودِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ-، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ ﷺ؛ جَاءَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ.

قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟

وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟

وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ))

قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؛ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؛ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا)).

قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.

ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ.

فَجَاءَتِ الْيَهُودُ، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ الْبَيْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟)).

قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْيَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟)).

قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.

فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

فَقَالَ اليَهُودُ: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَوَقَعُوا فِيهِ!!)).

لَقَدْ كَانَ لِلْحِوَارِ وَالْكَلِمَةِ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدِ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْهِجْرَةِ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ شَرْقًا وَإِلَى أَجْزَاءٍ مِنْ أُورُوبَّا غَرْبًا دُونَ قِتَالٍ، إِنْدُونِسْيَا.. الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ مِلْيُون إِنْدُونِيسِيّ إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ أَقْدَامُ أَيِّ جَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ فِي أَكْثَرِ مِنْ أَلْفَيْ جَزِيرَةٍ فِي إِنْدُونِسْيَا.

وَهَذِهِ أَكْبَرُ بَلْدَةٍ أَوْ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ.

مَالِيزْيَا.. الْغَالِبِيَّةُ الْعُظْمَى مِنْ سُكَّانِ مَالِيزْيَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ قَدَمُ جُنْدِيٍّ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ أَرَاضِيَ مَالِيزْيَا.

إِفْرِيقِيَّةُ.. أَغْلَبِيَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ حَتَّى مُوزَنْبِيق إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ -أَيْضًا- نَجِدُ أَنَّ أَغْلَبِيَّةَ السُّكَّانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يُسَجِّلْ أَيَّ غَزَوَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْإِفْرِيقِيَّةِ جَاءَتْ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا الْحُرِّيَّةَ الَّتِي تَعْتِقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ، وَحَمَلُوا الْكَرَامَةَ وَالْمُسَاوَاةَ، وَحَمَلُوا الْقِيَمَ الْعُلْيَا الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ وَطِأَتْهَا أَقْدَامُهُمْ.

وَالْحِوَارُ وَالدَّعْوَةُ سَبِيلُ الْمُسْلِمِينَ لِعَرْضِ الدِّينِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَلَا يُقَاتَلُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ قَبْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ فَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ؛ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؛ يُدْعَى قَبْلَ القِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدُّعَاءِ».

إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَتَبَ كُتُبَهُ، وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأَقْوَامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ -وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ- لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ  يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!

الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا اسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ كَانَ أَوَّلَ مَا فَعَلَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَى أَكَابِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ظَاهِرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قُلْ لِي بِرَبِّكَ: مَا الْجَيْشُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِجَمِيعِ مَقَايِيسِ الْقُوَى الْعَسْكَرِيَّةِ، وَجَمِيعِ مُعَادَلَاتِ الْقُوَى مِنَ النَّاحِيَةِ الِاسْتِرَاتِيجِيَّةِ -كَمَا يَقُولُونَ-؟!!

مَا الْجَيْشُ الْمُحَمَّدِيُّ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَدَّى لِكِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَنْ يَتَصَدَّى لِلنَّجَاشِيِّ وَالْمُقَوْقِسِ؛ فَضْلًا عَنْ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَنَاثَرُوا فِي دِيَارِ الْعَرَبِ عَلَى اتِّسَاعِ جَزِيرَتِهِمْ؟!!

قُلْ لِي بِرَبِّكَ: مَا الْمَنْطِقُ الَّذِي يَجْعَلُ النَّبِيَّ ﷺ يُرْسِلُ إِلَى هِرَقْلَ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، يَقُولُ: ((السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ!)).

وَالرَّجُلُ كَانَ مُقَدِّرًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَكَانَ عَاقِلًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَعَا بَعْضَ الْعَرَبِ مِمَّنْ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا ﷺ؛ لِيَسْتَجْلِيَ خَبَرَ هَذَا الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَى عَرِينِ الْأَسَدِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ خِطَابًا -هَكَذَا- يَدْعُوهُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَيَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ دِينٌ بَاطِلٌ، هَذَا الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: ((أَسْلِمْ تَسْلَمْ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ)).

لَمَّا قَامَ أَبُو سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ، قَالَ: ((لَئِنْ كَانَ حَقًّا مَا تَقُولُ؛ لَيَمْلِكَنَّ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ)).

ثُمَّ بَعْدَمَا قَرَأَ الْكِتَابَ؛ يَقُولُ: ((وَلَوْ أَنِّي كُنْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ؛ لَتَجَشَّمْتُ -يَعْنِي: لَتَكَلَّفْتُ مَعَ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ- الرِّحْلَةَ إِلَيْهِ -يَعْنِي: إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَلَوْ أَنِّي كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ)) ﷺ.

كَانَ أَبُو سُفْيَانَ كَافِرًا بَعْدُ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ، وَعِنْدَئِذٍ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مَذْهُولًا، يَقُولُ: مُحَمَّدٌ! هَذَا الَّذِي نُعَادِيهِ، وَالْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَائِمَةٌ!! هَذَا الَّذِي لَا نَلْتَفِتُ إِلَى دَعْوَتِهِ!! قَالَ: ((لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ)) ﷺ يَعْنِي: لَقَدْ عَظُمَ شَأْنُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَبُو كَبْشَةَ هُوَ أَبُو النَّبِيِّ ﷺ فِي الرَّضَاعِ -عَلَى رِوَايَةٍ-، أَوْ هُوَ بَعْضُ أَجْدَادِهِ مِنَ الْمَغْمُورِينَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِجَدٍّ مَغْمُورٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَهْجُوَ الرَّجُلَ.

يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: ((لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَعْنِي: مَلِكَ الرُّومِ-)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَرَّرَ الْأَنْفُسَ مِنْ خَوْفِهَا؛ صَارَ الْمُسْلِمُ عَزِيزًا بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُ كَرِيمًا بِكَرَامَةِ الْإِيمَانِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الْهَامَاتِ بِتَوْحِيدِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَرَّرَ الْأَنْفُسَ مِنْ خَوْفِهَا.

وَيُرْسِلُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ الْفُرْسِ: ((فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللهِ)).

إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: ((فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ)).

وَإِلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ: ((فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ)).

مَا هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!!

أَيْنَ الْجَيْشُ اللَّجْبُ الْجَرَّارُ الْمُتَلَاطِمُ بِأَمْوَاجِ كَتَائِبِهِ، الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُرْسِلَهُ الرَّسُولُ ﷺ يُصَادِمُ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَيُنَاطِحُ قُوَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ؟!!

إِنَّهُ الْإِيمَانُ وَحْدَهُ الَّذِي صَنَعَ هَذَا الْجِيلَ الْفَذَّ، صَنَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْإِيمَانِ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ.

 ((آثَارُ الْحِوَارِ فِي مُعَالَجَةِ أَفْكَارِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مِمَّا يُدَلِّلُ عَلَى عَظِيمِ أَهَمِّيَّةِ الْحِوَارِ: تَأْثِيرَهُ فِي مُعَالَجَةِ أَفْكَارِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: فِكْرُ الْخَوَارِجِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ عَقِيدَةَ الْخَوَارِجِ مُنْتَشِرَةٌ بَيْنَ الشَّبَابِ؛ فَكَيْفَ نُعَالِجُ هَذَا الِانْحِرَافَ، وَنُنَجِّي أَنْفُسَنَا وَأَوْطَانَنَا مِنَ الدَّمَارِ؟

هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الرَّئِيسَةُ؛ كَيْفَ يُعَالَجُ هَذَا الْأَمْرُ؟

لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِمُحَارَبَةِ هَذَا الْفِكْرِ كَانُوا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ أَهْلٍ لِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِطَبِيعَةِ فِكْرِ الْخَوَارِجِ، وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِمُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَخْلِطُونَ بَيْنَ هَذَا الِانْحِرَافِ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ، وَبَيْنَ الْجِهَادِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْإِفْسَادِ بِاسْمِ الْجِهَادِ.

إِنَّ انْتِشَارَ مَظَاهِرِ الْفَسَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَالسَّمَاحَ لِدُعَاةِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ بِالتَّعَدِّي وَالظُّهُورِ وَالتَّحَدُّثِ ضِدَّ الْإِسْلَامِ عَلَانِيَةً، مَعَ انْتِشَارِ مَظَاهِرِ الِانْحِرَافِ الْأَخْلَاقِيِّ؛ هَذِهِ كُلُّهَا لَا شَكَّ شَجَّعَتْ عَلَى رُدُودِ الْفِعْلِ لَدَى الشَّبَابِ، فَوَجَبَتْ إِزَالَتُهَا، وَالسَّعْيُ لِتَطْبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ، وَجَعْلُ الدِّينِ الْمُسَيْطِرَ عَلَى الْحَيَاةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِنْشَاءُ الْمُوَاطِنِ الصَّالِحِ.

لَقَدْ تَصَدَّى الْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ لِلْخَوَارِجِ مُنْذُ ظُهُورِهِمْ، فَنَسَفُوا شُبُهَاتِهِمْ، وَأَحْكَمُوا قَبْضَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِقَابِ حُجَجِهِمْ، فَهَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَحَمَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِبَاكِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنُسِبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ لِيَخْرُجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((جَعَلَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَلَيْكَ.

فَيَقُولُ: دَعْهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا.

فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ قُلْتُ -وَالْقَائِلُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ -وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ: هُوَ تَأْخِيرُهَا؛ حَتَّى يُتَمَكَّنَ مِنَ الْمَشْيِ فِي الْفَيْحِ-، قَالَ: أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَفُوتُنِي حَتَّى آتِيَ الْقَوْمَ.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ -مِنَ الْقَيْلُولَةِ-، فَإِذَا هُمْ مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ -أَيْ مُتَغَيِّرَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ-، قَدْ أَثَّرَ السُّجُودُ فِي جِبَاهِهِمْ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ ثَفِنُ الْإِبِلِ -وَالثَّفِنُ: جَمْعُ ثَفِنَةٍ، وَهِيَ مَا وَلِيَ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ إِذَا بَرَكَتْ؛ كَالرُّكْبَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ فِيهِمَا غِلَظٌ مِنْ أَثَرِ الْبُرُوكِ-، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ- أَيْ: مَغْسُولَةٌ-.

فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟! وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ عَلَيْكَ؟!

قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ هَذِهِ؟! فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ ثِيَابٍ الْيَمَنِيَّةِ، ثُمَّ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ؟!

قَالَ: قُلْتُ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، جِئْتُ لِأُبْلِغَهُمْ عَنْكُمْ، وَلِأُبْلِغَكُمْ عَنْهُمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلَى فَلْنُكَلِّمْهُ.

قَالَ: فَكَلَّمَنِي مِنْهُمْ رَجُلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَاذَا نَقِمْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؟

قَالُوا: ثَلَاثًا.

قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هُنَّ؟

قَالُوا: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].

قَالَ: قُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَمَاذَا أَيْضًا؟

 قَالُوا: فَإِنَّهُ قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ -يُرِيدُونَ يَوْمَ الْجَمَلِ-، فَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا كَافِرِينَ لَقَدْ حَلَّ قِتَالُهُمْ وَسَبْيُهُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا أَيْضًا؟

قَالُوا: وَمَحَا نَفْسَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:  قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا يَنْقُضُ قَوْلَكُمْ هَذَا؛ أَتَرْجِعُونَ؟

قَالُوا: وَمَا لَنَا لَا نَرْجِعُ!

قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95].

وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].

فَصَيَّرَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ الرِّجَالِ؛ فَنَاشَدْتُكُمُ اللهَ! أَتَعْلَمُونَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَفْضَلُ، أَوْ فِي دَمِ أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، وَفِي بُضْعِ امْرَأَةٍ؟

قَالُوا: بَلَى، هَذَا أَفْضَلُ.

قَالَ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ؛ أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؟!

فَإِنْ قُلْتُمْ: نَسْبِيهَا، فَنَسْتَحِلُّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ بِأُمِّنَا؛ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَأَنْتُمْ تَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ؛ أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَأَنَا آتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ، إِنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ أَبَا سُفْيَانَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَان وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؛ مَا قَاتَلْنَاكَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَخَرَجُوا، فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ))، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي ((الْمُصَنَّفِ))، وَالنَّسَائيُّ فِي ((تَهْذِيبِ خَصَائِصِ الْإِمَامِ عَلِىٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَمِنْ إِرْشَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: مَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ الْخَوارِجِ، وَمَعَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ.

وَمِثَالٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ لِمُحَارَبَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَكَابِرِ لِلتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ: جَاءَ فِي ((الْقِصَّةِ الْكَامِلَةِ لِخَوَارِجِ عَصْرِنَا)): دَوْرُ عُلَمَائِنَا فِي إِخْمَادِ فِتْنَةِ الْجَزَائِرِ:

((إِنَّ فِتْنَةَ خَوَارِجِ الْجَزَائِرِ لَمْ تَنْتَهِ حَتَّى هَذِهِ السَّاعَةِ؛ لَكِنْ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ بِجُهُودِ عُلَمَائِنَا خَمَدَتِ الْفِتْنَةُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، حَيْثُ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ بِنَشْرِ فَتَاوَى أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ -فِي هَذَا الْعَصْرِ- عَنْ مَسَائِلِ الْخُرُوجِ.

فَأَمَّا الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمَيْنَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَوْلَاتٌ وَجَوْلَاتٌ مَعَ الْمُنَظِّرِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ، وَمِنْ أَشْهَرِهَا: أَنَّهُ وَجَّهَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَيُدْعَى: حَسَن حَطَّاب-، يَنْصَحُهُ فِي عَدَمِ الْخَوْضِ فِي دِمَاءِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ وَقْعٌ كَبِيرٌ فِي نُفُوسِ الشَّبَابِ؛ فَقَدِ اكْتَشَفُوا بَعْدَ سِنِينَ مِنَ الْمَجَازِرِ أَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ جِهَادًا، إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ، فَقَرَّرَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ وَضْعَ السِّلَاحِ، وَالتَّوْبَةَ، وَعَفَتِ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ، وَأَوَّلُ التَّائِبِينَ كَبِيرُهُمْ حَطَّاب)).

وَمِنْ نَفْعِ اللهِ الشَّبَابَ بِكَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ: أَنَّهُ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ غُرِّرَ بِهِمْ بِالِاتِّصَالِ هَاتِفِيًّا بِالشَّيْخِ، وَالشَّرِيطُ مَعْرُوفٌ بِاسْم: ((لِقَاءُ ثُوَّارِ الْجَزَائِرِ بِالشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ هَاتِفِيًّا))، وَكَانَ مِحْوَرُ الْأَسْئِلَةِ تَدُورُ حَوْلَ شَرْعِيَّةِ قِتَالِهِمْ.

وَمِمَّا قَالَهُ الشَّيْخُ -نَاصِحًا لَهُمْ-: أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ سَفْكٍ لِلدِّمَاءِ، وَاسْتِبَاحَةٍ لِلْأَعْرَاضِ؛ سَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِجِهَادٍ.

عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِ شَيْءٌ، وَالْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَالْخُصُومَةَ شَيْءٌ آخَرُ، هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَاكَ مُرَغَّبٌ فِيهِ.

كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ لَمْ يَتَمَكَّنِ الضَّلَالُ مِنْ قُلُوبِهِمْ بَعْدُ، أَعْنِي النَّاشِئَةَ مِنْهُمْ؛ وَلَكِنْ سَرَتِ الْعَدْوَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا تَوْبَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَأَوْبَتُهُ مُمْكِنَةٌ، وَمُنَاظَرَتُهُ نَافِعَةٌ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى مُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْعِلْمِ الْقَوِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُرْعَةِ الْبَدِيهَةِ، كَمَا يُلَاحَظُ مِنْ مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ حَظِيَ بِالْقَبُولِ وَالْإِمَامَةِ، ذَلِكُمْ أَنَّ إِرْسَالَ أَيِّ رَجُلٍ كَانَ لِمُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا حَصَلَ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ، فَتَغَلَّبَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ الدَّاحِضَةِ وَالْبَيَانِ الظَّاهِرِيِّ، هَذَا جَعَلَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُنَاظِرُهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَثَبِّتًا نَاطِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا أَنْ يُقَدَّمَ إِلَى هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَهَذَا هُوَ الْعَبَثُ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا يُمَكِّنُ لِهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتِهِمْ.

إِذَنْ؛ مُنَاظَرَةُ نَاشِئَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ نَافِعَةٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ؛ فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَعَهُمْ إِلَّا مَا نَفَعَ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ صَبِيغٌ.

فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ عُمَرُ!! فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِتِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَمَا زَالَ يَضْرِبُهُ حَتَّى شَجَّهُ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَنْ وَجْهِهِ.

فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَدْ وَاللهِ ذَهَبَ الَّذِي أَجِدُ فِي رَأْسِي!

فَنَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَر بِعَدَمِ مُجَالَسَتِهِ، ثُمَّ صَلُحَ حَالُهُ، فَعَفَا عَنْهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى».

فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا مَعَ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا الْمُنْحَرِفُونَ، وَلَا الْمُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ الْمُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا.

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُرِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لِيُحَرِّرَ الْأَنْفُسَ مِنَ الْخَوْفِ، وَلِيُحَرِّرَ الْعُقُولَ مِنَ الْوَهْمِ وَالْخُرَافَةِ، وَلِيُحَرِّرَ الْقُلُوبَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ، وَالنِّفَاقِ.

وَتَمَّ تَحْرِيرُ الْإِنْسَانِ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَائِلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.. انْطَلَقُوا فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ يَدْعُونَ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَيَحْمِلُونَ النَّاسَ إِلَى جَنَّاتِ الْخُلْدِ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْتُونَ بِهِمْ مُقَيَّدِينَ فِي السَّلَاسِلِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ بِرَحَمَاتِ رَبِّنَا الرَّحِيمِ.

النَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُحَرِّرُ الْعَقْلَ مِنَ الْوَهْمِ وَمِنَ الْخُرَافَةِ، وَيُحَرِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشَّكِّ، وَالنِّفَاقِ؛ حَتَّى يَصِيرَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُحَرِّرُ النَّفْسَ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْخَوْفُ يَشُلُّ النَّفْسَ عَنْ طَاقَاتِهَا، فَلَا يَأْتِي مِنْهَا خَيْرٌ.

اللهُ  -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هِدَايَةً لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ؛ فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ هِدَايَتَهُ، وَمَنْ تَفَتَّحَ لِلْقُرْآنِ سَمْعُ قَلْبِهِ؛ هَدَاهُ إِلَى الرُّشْدِ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27-28]، ثُمَّ سَاقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَثَلًا حَيًّا مُجَسَّدًا؛ كَأَنَّمَا تَتَمَلَّى فِيهِ الْأَبْصَارُ وَتُدْرِكُهُ الْأَعْيُنُ، وَكَأَنَّمَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَاخِصًا مُمَثَّلًا مُصَوَّرًا قَائِمًا يَرُوحُ وَيَجِيءُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ}[الزمر: 29].

هَاتَانِ الصُّورَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ؛ الْآنَ رَجُلٌ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، فَهُوَ عَبْدٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، لِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيهِ سَهْمٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيهِ نَصِيبٌ، وَإِذَنْ؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ.

ثُمَّ وَصَفَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- حَالَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {مُتَشَاكِسُونَ}.. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ}، وَهَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءُ الشَّكِسُونَ الْمُتَشَاكِسُونَ.. مَحَلُّ تَشَاكُسِهِمْ وَمَحَلُّ تَشَاجُرِهِمْ هُوَ هَذَا الْعَبْدُ الْمِسْكِينُ، فَهَذَا يَقُولُ: قُمْ، وَهَذَا يَقُولُ: اقْعُدْ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: تَعَالَ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: افْعَلْ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: اسْتَيْقِظْ، وَهَذَا يَقُولُ لَهُ: نَمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا هَذَا التَّشَاكُسُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَشَاكِسِينَ!!

{وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ}؛ فَهُوَ مِلْكٌ خَالِصٌ لَهُ، تَوَحَّدَ عِنْدَهُ الْقَصْدُ، وَتَوَحَّدَتْ عِنْدَهُ الْإِرَادَةُ، وَتَوَحَّدَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ.

{وَرَجُلًا سَلَمًا}: خَالِصًا بِغَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا شَرِيكٍ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا مُشَاكِسًا، شَرِيكًا مُتَشَاكِسًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شُرَكَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!

فَإِذَا مَا لَاحَظْتَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ؛ رَأَيْتَ الْعَنَاءَ هَاهُنَا، وَالْمَجْهُودَ قَائِمًا، وَلَحَظْتَ الْقَرَارَ وَالِاسْتِقْرَارَ مَاثِلًا.

صُورَةٌ بِإِزَاءِ صُورَةٍ كَأَنَّمَا تَتَمَلَّاهَا الْعَيْنُ، وَتَسْمَعُهَا الْأُذُنُ، وَتَتَذَوَّقُهَا الْحَوَاسُّ فِي كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟!! وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ اسْتِنْكَارِيٌّ الْغَرَضُ الْبَلَاغِيُّ مِنْهُ النَّفْيُ، يَعْنِي: كُلُّ عَاقِلٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَامَ شَيْئًا وَشَمَّهُ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَتَخَيَّلَ أَمْرَ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ؛ مَا مِنْ عَاقِلٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَامَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ يَفْزَعُ إِلَى قَوْلَةِ: ((لَا)) عِنْدَمَا يَأْتِي هَذَا السُّؤَالُ مِنْ قِبَلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ} عَلَى أَنْ جَعَلَ لِلنَّاسِ قَصْدًا وَاحِدًا بِعُبُودِيَّتِهِمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ حَتَّى لَا تَتَنَازَعَهُمْ عُبُودِيَّاتُهُمْ لِلْأَهْوَاءِ وَالنَّزْغَاتِ وَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} مِنْ جَهَالَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصْرِفُوا قَصْدَ الْقَلْبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يُحَرِّرُوا الْوَلَاءَ مِنْ قُيُودِ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيرَ الْوَلَاءِ مِنْ قُيُودِ الْأَهْوَاءِ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخُنْصُرُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَحْرِيرُ الْوَلَاءِ مِنْ قُيُودِ الْأَهْوَاءِ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْقَلْبُ وَتَصِيرُ الْوُجْهَةُ خَالِصَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَرْسَلَ مُحَمَّدًا ﷺ؛ لِكَيْ يُحَرِّرَ الْقَلْبَ مِنْ هَذَا التَّشَابُكِ هَاهُنَا وَهُنَاكَ وَهُنَالِكَ، لِكَيْ يُحَرِّرَ الْقَلْبَ مِنْ هَذِهِ الْوُجْهَاتِ الَّتِي تَتَنَازَعُ الْقُلُوبَ، مِنْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَاتِ لِلْأَهْوَاءِ، وَالنَّزَغَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ كُلُّ الْقَصْدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 ((التَّعْبِيرُ عَنِ الرَّأْيِ.. آدَابٌ وَضَوَابِطُ))

لَقَدْ كَفَلَ الْإِسْلَامُ الْحَقَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ بِمَفْهُومِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْحَقُّ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ يَعْنِي: تَمَتُّعُ الْإِنْسَانِ بِحُرِّيَّتِهِ فِي الْجَهْرِ بِالْحَقِّ، وَإِسْدَاءِ النَّصِيحَةِ فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيمَا يُحَقِّقُ نَفْعَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَصُونُ مَصَالِحَ كُلٍّ مِنَ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَيَحْفَظُ النِّظَامَ الْعَامَّ، وَذَلِكَ فِي إِطَارِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! خَافُوا عِقَابَ اللهِ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ، وَقُولُوا قَوْلًا صَوَابًا قَاصِدًا إِلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ؛ يَتَقَبَّلِ اللهُ حَسَنَاتِكُمْ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ.

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالْخَيْرِ الْعَظِيمِ؛ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- جَمَاعَةٌ دُعَاةٌ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ جَمِيعًا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَتَأْمُرُ بِكُلِّ فِعْلٍ حَسَنٍ يُسْتَحْسَنُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَتَنْهَى عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ دَاخِلَ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَرَفُوا أَوَامِرَ الدِّينِ، وَعَرَفُوا حُسْنَهَا، وَعَرَفُوا نَوَاهِيَ الدِّينِ، وَعَرَفُوا قُبْحَهَا؛ فَهَذَا إِذَا مَا كَانَتْ (مِنْ) فِي الْآيَةِ تَبْعِيضِيَّةً: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ (مِنْ) بَيَانِيَّةً؛ فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلْتَكُونُوا جَمِيعًا أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

{وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: وَأُولَئِكَ ذَوُوا الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللهِ، الَّذِينَ قَامُوا بِوَظِيفَتَيِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ هُمُ الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، الظَّافِرُونَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالسَّعَادَةِ الْخَالِدَةِ.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعِدُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُقَرِّبُ مِنْ رِزْقٍ أَلَّا يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ الدِّينَ النَّصِيحَةَ؛ فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».

قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «لِلهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ».

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْمَحُ لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِإِبْدَاءِ آرَائِهِمْ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْهَا، وَكَانَ يَأْخُذُ ﷺ بِمَا يَتَّضِحُ أَنَّهُ الْأَوْلَى مِنْ آرَائِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَثِيرَ الِاسْتِشَارَةِ لِأَصْحَابِهِ؛ وَالشُّورَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَلِي:

*لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ.

*وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ.

*وَلِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ، وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَغَالِبًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَأَخْذًا بِمَا يَتَّضِحُ أَنَّهُ الْأَوْلَى مِنْ آرَائِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ، وَتَنْشِيطًا لَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ، وَمُمْتَنًّا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159].

حَدَثَ ذَلِكَ أَوَّلًا فِي بَدْرٍ -كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ-، وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ: هَلْ يَقْعُدُ فِي الْمَدِينَةِ، أَوْ يَخْرُجُ إِلَى الْعَدُوِّ؟ وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِخُطَّةِ الدِّفَاعِ، ثُمَّ شَاوَرَهُمْ فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ عَامَئِذٍ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَنْصَارِ.

وَفِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا)). قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ؛ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ!!

فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ؛ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يا نَبِيَّ اللهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).

وَمَعَ كَفَالَةِ الْإِسْلَامِ حَقَّ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ حَرَصَ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِهِ مِنَ الْقُيُودِ وَالضَّوَابِطِ الْكَفِيلَةِ بِحُسْنِ اسْتِخْدَامِهِ، وَتَوْجِيهِهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْخَالِقَ -جَلَّ وَعَلَا- وَيَنْفَعُ النَّاسَ؛ فَهُنَاكَ حُدُودٌ لَا يَنْبَغِي الِاجْتِرَاءُ عَلَيْهَا؛ وَإِلَّا كَانَتِ النَّتِيجَةُ هِيَ الْخَوْضَ فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ، أَوْ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ عَلَى السَّوَاءِ، وَيُخِلُّ بِالنِّظَامِ الْعَامِّ وَحُسْنِ الْآدَابِ، إِنَّ الْحُرِّيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْئُولَةً، وَأَلَّا تَمَسَّ الْمُقَوِّمَاتِ الْأَسَاسِيَّةَ لِلْمُجْتَمَعِ وَالْأُسْرَةِ وَالدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ.

لَقَدْ ضَمِنَ الْإِسْلَامُ لِجَمِيعِ النَّاسِ حُرِّيَّةَ الرَّأْيِ الْهَادِفِ الَّذِي يَجْمَعُ وَلَا يُفَرِّقُ، وَيَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ، عَلَى أَنَّنَا نُؤَكِّدُ أَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ فِي التَّعْبِيرِ مَكْفُولٌ دُونَ الْمَسَاسِ بِثَوَابِتِ الدِّينِ وَدُونَ التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّأْيُ مُنْضَبِطًا بِضَوَابِطِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ وَبِالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ وَمُرَاعَاةِ شُعُورِ الْآخَرِينَ؛ فَـ((الْإِسْلَامُ لَيْسَ تَقْيِيدًا لِلْحُرِّيَّاتِ، وَلَكِنَّهُ تَنْظِيمٌ لِلْحُرِّيَّاتِ، وَتَوْجِيهٌ سَلِيمٌ لَهَا؛ حَتَّى لَا تَصْطَدِمَ حُرِّيَّةُ شَخْصٍ بِحُرِّيَّةِ آخَرِينَ عِنْدَمَا يُعْطَى الْحُرِّيَّةَ بِلَا حُدُودٍ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَخْصٍ يُرِيدُ الْحُرِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ بِلَا حُدُودٍ إِلَّا كَانَتْ حُرِّيَّتُهُ هَذِهِ عَلَى حِسَابِ حُرِّيَّاتِ الْآخَرِينَ، فَيَقَعُ التَّصَادُمُ بَيْنَ الْحُرِّيَّاتِ، وَتَنْتَشِرُ الْفَوْضَى، وَيَحُلُّ الْفَسَادُ.

وَلِذَلِكَ سَمَّى اللهُ -تَعَالَى- الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ حُدُودًا، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ تَحْرِيمًا قَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وَإِنْ كَانَ إِيجَابًا قَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].

وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ التَّقْيِيدِ الَّذِي ظَنَّهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ، وَالتَّوْجِيهِ وَالتَّنْظِيمِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

التَّنْظِيمُ أَمْرٌ وَاقِعِيٌّ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، وَالْإِنْسَانُ بِطَبِيعَتِهِ خَاضِعٌ لِهَذَا التَّنْظِيمِ الْوَاقِعِيِّ، فَهُوَ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلِنِظَامِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ وَلِذَلِكَ يُضْطَرُ إِلَى تَنْظِيمِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً وَنَوْعًا؛ كَيْ يُحَافِظَ عَلَى صِحَّةِ بَدَنِهِ وَسَلَامَةِ جَسَدِهِ.

وَهُوَ خَاضِعٌ كَذَلِكَ لِنِظَامِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، مُسْتَمْسِكٌ بِعَادَةِ بَلَدِهِ فِي مَسْكَنِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَيَخْضَعُ -مَثَلًا- لِشَكْلِ اللِّبَاسِ وَنَوْعِهِ، وَلِشَكْلِ الْبَيْتِ وَنَوْعِهِ، وَلِنِظَامِ السَّيْرِ وَالْمُرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَخْضَعْ لِهَذَا؛ عُدَّ شَاذًّا يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الشُّذُوذِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْمَأْلُوفِ.

إِذَنْ؛ فَالْحَيَاةُ كُلُّهَا خُضُوعٌ لِحُدُودٍ مُعَيَّنَةٍ؛ كَيْ تَسِيرَ الْأُمُورُ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، وَإِذَا كَانَ الْخُضُوعُ لِلنُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ -مَثَلًا- خُضُوعًا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِصَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ، وَمَنْعِ الْفَوْضَوِيَّةِ مِنْهُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ مِنْهُ أَيُّ مُوَاطِنٍ؛ فَالْخُضُوعُ كَذَلِكَ لِلنُّظُمِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ؛ فَكَيْفَ يَتَبَرَّمُ مِنْهُ بَعْضُهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْحُرِّيَّاتِ؟!! إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُبِينٌ.

وَالْإِسْلَامُ كَذَلِكَ لَيْسَ كَبْتًا لِلطَّاقَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ لِلطَّاقَاتِ كُلِّهَا: الْفِكْرِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْجِسْمِيَّةِ.

فَالْإِسْلَامُ يَدْعُو إِلَى التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ؛ لِكَيْ يَعْتَبِرَ الْإِنْسَانُ، وَيُنَمِّيَ عَقْلَهُ وَفِكْرَهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سـبأ: 46]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

وَالْإِسْلَامُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، بَلْ يَعِيبُ كَذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَنْظُرُونَ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68].

وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ مَا هُوَ إِلَّا فَتْحٌ لِلطَّاقَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ)).

لَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ ضَوَابِطَ الْكَلَامِ، وَآدَابَ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ، وَقُيُودَهُ تَحْدِيدًا دَقِيقًا وَوَاضِحًا، وَمِنْ ذَلِكَ:

*أَلَّا يَكُونَ الرَّأْيُ مُخَالِفًا لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْ يُدْلِيَ بِرَأْيِهِ فِي مَسْأَلَةٍ دَلَّ عَلَى حُكْمِهَا نَصٌّ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء :65].

*وَمِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا مِنْ إِبْدَاءِ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا.

وَالْمَصْلَحَةُ هِيَ: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ-، طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا)) .

*وَمِنَ الْآدَابِ: اسْتِشْعَارُ أَمَانَةِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

مَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا عِنْدَهُ مَلَكٌ حَافِظٌ يَكْتُبُ قَوْلَهُ، مُعَدٌّ مُهَيَّأٌ لِذَلِكَ، حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَا يُفَارِقُهُ.

وَمِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ: ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذْبَةَ، فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ، وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنْأًى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزْنَ، وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ!!

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً؛ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))

قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ؛ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))

قُلْنَا: لَا.

قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).

ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.

 قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ؛ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأيتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

((رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).

هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ: ((يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يَعْنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.

هَذَا جَزَاءُ مَنْ كَذَبَ الْكَذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَى، وَكِفَاءُ مَا صَنَعَ؛ فَمَنْ لَا يَقْدُرُ الْكَلِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَهَا؟!!

وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!

*وَمِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَصْدُ إِيضَاحِ الْحَقِّ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

وَيُخْلِصُ الْمُسْلِمُ النِّيَّةَ بِأَنْ يَبْتَغِيَ بِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-، وَلْيَكُنْ قَصْدُهُ فِي نَظَرِهِ إِيضَاحَ الْحَقِّ وَتَثْبِيتَهُ دُونَ الْمُغَالَبَةِ لِلْخَصْمِ.

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَتَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ، وَمَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَمْ لِسَانِهِ)).

وَيَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى النَّصِيحَةِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلِلَّذِي يُجَادِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ فِي الدِّينِ، مَعَ أَنَّ النَّصِيحَةَ وَاجِبَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

*وَمِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: الصِّدْقُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظٌ لِمُسْلِمِ.

*الْقَوْلُ الْحَسَنُ السَّدِيدُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا -كَمَا قَالَ اللهُ-، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِمَّا حَضَّ الْقُرْآنُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، أَيْ: مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ.

وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ أَثَابَهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ: يُوَفِّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ الْمَاضِيَةَ، وَمَا قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُلْهِمُهُمُ التَّوْبَةَ مِنْهَا.

قَالَ عِكْرِمَةُ: الْقَوْلُ السَّدِيدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّدِيدُ: الصِّدْقُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ السَّدَادُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الصَّوَابُ.

وَالْكُلُّ حَقٌّ».

*وَمِنْ آدَابِ وَضَوَابِطِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ حَقًّا يَقِينًا: عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ، أَوْ شَهَادَةٍ، أَوْ رِوَايَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ؛ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ الَّذِي تُرِيدُونَ مَحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.

*وَمِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: عَدَمُ الْكَلَامِ فِي أَمْرٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي غَيْرِ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا قَاعِدَةً كُلِّيَّةً عَامَّةً، مَنْ أَخَذَ بِهَا وَالْتَزَمَهَا؛ نَجَّاهُ اللهُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ كُلِّهَا، وَهِيَ: قَوْلُهُ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْهُ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) أَمْرٌ بِقَوْلِ الْخَيْرِ، وَبِالصَّمْتِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ كَلَامٌ يَسْتَوِي قَوْلُهُ وَالصَّمْتُ عَنْهُ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا؛ فَيَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَيْرٍ؛ فَيَكُونَ مَأْمُورًا بِالصَّمْتِ عَنْهُ.

فَاحْذَرْ أَنْ تَدْخُلَ فِيمَا لَيْسَ لَكَ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَأَنْ تَتَكَلَّمَ فِيمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَإِنْ تَكَلَّمَ الْمَرْءُ فِي غَيْرِ فَنِّهِ أَتَى بِالْعَجَائِبِ!! مَنْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِ فَنِّهِ أَتَى بِالْعَجَائِبِ!!

فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ، أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ.

*مِنْ ضَوَابِطِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: عَدَمُ خَوْضِ الْمَرْءِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا، وَتَرْكِ مَا لَا جَدْوَى فِيهِ وَلَا نَفْعَ.

((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)): مِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَالْتِزَامِهِ بِدِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلًا وَعَمَلًا: ((تَرْكُهُ)) أَيِ: ابْتِعَادُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَقِّي مِنْهُ، وَأَيْضًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، ((مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَيْ: مَا لَا يُهِمُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.

*مِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأيِ: عَدَمُ الْكَلَامِ بِكُلِّ مَا يُسْمَعُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَلَا تَتَّبِعْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ حَيَاتِكَ شَيْئًا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ لَدَيْكَ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَسْتَطِيعُ بِهِ التَّبَصُّرَ فِي الْأُمُورِ.

فَإِذَا أَنْتَ اتَّبَعْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَقَدْ عَطَّلْتَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَدَيْكَ؛ إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْؤُولٌ عَمَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَعُمْقَ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْإِدْرَاكِ فِي الْإِنْسَانِ، وَمَرْكَزُ اسْتِقْرَارِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالَّذِي تَنْطَلِقُ مِنْهُ الْإِرَادَاتُ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَثَبَّتَ، وَلَا يَقُولَ وَلَا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ»، وَأَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ».

*وَمِنْ آدَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: التَّثَبُّتُ قَبْلَ الْكَلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ كَلَامٍ وَشَائِعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفْكِيرَهُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَائِعَةٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.

*وَمِنْ ضَوَابِطِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ؛ خَاصَّةً بَيْنَ عُمُومِ النَّاسِ: عَدَمُ الْكَلَامِ بِمَا يُهَدِّدُ أَمْنَ الْمَجْتَمَعِ وَسِلْمَهُ الِاجْتِمَاعِيَّ، وَتَرْكُ الْقَضَايَا الْعَامَّةِ لِأَهْلِهَا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيِ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ، فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ؛ وَذَلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ، وَجَرَاءَتِه عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ، وَاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ، وَالْجِدِّ فِي إِفْشَائِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟!!

يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَ وُرُودِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْنٍ أَوْ خَوْفٍ: أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي نَشْرِهِ وَإِذَاعَتِهِ نُشِرَ، وَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِ نَشْرِهِ لَا يُنْشَرُ؛ حِفَاظًا عَلَى دِينِ النَّاسِ، وَأَمْنِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

وَالَّذِي يُقَدِّرُ الْخَيْرَ مِنْ عَدَمِهِ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ فِيهَا.

وَكُلُّ خَبَرٍ يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ، أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ، أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنسَانٍ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ، أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ، يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.

وَاللهُ تَعَالَى ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ  لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الْخَوْفَ، وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا لِأُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَلَيْسَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَلُوكُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.

السِّيَاسَةُ لَهَا نَاسُهَا، وَلَوْ أَنَّ السِّيَاسَةَ صَارَتْ تُلَاكُ بَيْنَ أَلْسُنِ عَامَّةِ النَّاسِ لَفَسَدَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ.

الْعَامَّةُ لَيْسُوا كَأُولِي الْأَمْرِ وَأُولِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ؛ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفرَادُ الْمُجْتَمَعِ جَمِيعًا!!

مَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْعَامَّةُ مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الْأُمُور فِي سِياسَاتِهَا، وَفِي رَأْيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَرَجَ عَن هَدْيِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُذِيعًا، كُلَّمَا سَمِعَ عَنْ خَبَرٍ مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ أَذَاعَهُ، بَلْ قَد يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَكْتُمَ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي حَصَلَ.

*مِنْ ضَوَابِطِ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ: اجْتِنَابُ آفَاتِ اللِّسَانِ؛ كَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْكَذِبِ، وَفُحْشِ الْقَوْلِ، وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ؛ فَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ.

وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ آدَابِ الْكَلَامِ تَنْفَعُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ عِنْدَ الْحَدِيثِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ رَأْيِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ((اعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ آدَابًا إِنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ؛ أَذْهَبَ رَوْنَقَ كَلَامِهِ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ، وَلَهَا النَّاسُ عَنْ مَحَاسِنِ فَضْلِهِ بِمَسَاوِئِ أَدَبِهِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ.

فَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَلَّا يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ، وَلَا يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ، وَإِنْ كَانَتِ النَّزَاهَةُ عَنِ الذَّمِّ كَرَمًا، وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ، وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامًا يَصْدُرُ عَنْ شَرٍّ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ؛ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الْكَذِبِ.

وَحُكِيَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: ((سَهِرْتُ لَيْلَتِي أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي، وَلَا أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي فَمَا وَجَدْتُهَا)).

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ، فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ.

قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: يُرْضِيهِ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا، وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً لِامْرِئٍ     =   فَلَا تَغْلُ فِي وَصْفِهِ وَاقْصِدِ

فَإِنَّك إنْ تَغْلُ تَغْلُ   الظُّنُو         = نُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ الْأَبْعَدِ

فَيَضْأُلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ         =  لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ

وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَلَّا تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِمَا؛ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بالوَعْدِ والوَعِيدِ لِسَانَهُ، وَأَرْسَلَ فِيهِمَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَثْقِلْ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنَ الْعَمَلِ؛ صَارَ وَعْدُهُ نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا.

وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَنَّهُ إِنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ صَدَّقَهُ بِعَمَلِهِ؛ فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ، وَلَأَنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَلَامِ))؛ أَيْ: يُكْتفَى بِالْفِعْلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ، الْقَوْلُ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ، لَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ تَحْتِهِ الْأَصْلُ.

وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَغْرَاضِهِ، فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ، وَإِنْ كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ؛ فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتَهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا، وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا؛ فَيَصِيرَ الْكَلَامُ لَغْوًا، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ لَهْوًا.

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: ((يَا بُنَيَّ! إنْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَلَا تَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فَيَمْقُتُوكَ، وَلَا بِكَلَامِ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيَزْدَرُوكَ)).

وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَلَّا يَرْفَعَ بِكَلَامِهِ صَوْتًا مُسْتَكْرَهًا، وَلَا يَنْزَعِجَ لَهُ انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا، وَعَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا؛ فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ الْبَلَاغَةِ.

وَقَدْ رُوي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: ((أَخَطِيبٌ أَنَا؟

قَالَ: نَعَمْ؛ لَوْ لَا أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ، وَتُشِيرُ بِالْيَدِ، وَتَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ)).

وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يَتَجَافَى هُجْرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَلْيَعْدِلْ إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ، ولِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ.

وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، قَالَ: ((كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا عَنْهَا))، وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ، فَلَا يَسْمَعُ خَنَا، وَلَا يُصْغِي إلَى فُحْشٍ؛ فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى إنْكَارِهِ، وَإِذَا وُجِدَ عَنِ الْفُحْشِ مُعْرِضًا؛ كَفَّ قَائِلُ الْفُحْشِ، وَكَانَ إعْرَاضُهُ أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ)).

وَقد أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ :

تَحَرَّ مِنَ الطُّرْقِ أَوْسَاطَهَا              =        وَعُدْ عَنِ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَبِهْ

وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ قَبِيحِ الْكَلَامِ     = كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ

فَإِنَّكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقَبِيحِ            =    شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ

وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى فُحْشِ الْقَوْلِ وَهُجْرِهِ، وَفِي وُجُوبِ اجْتِنَابِهِ وَلُزُومِ تَنَكُّبِهِ: مَا كَانَ شَنِيعَ الْبَدِيهَةِ مُسْتَنْكَرَ الظَّاهِرِ؛ وَإِنْ كَانَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ سَلِيمًا، وَبَعْدَ الْكَشْفِ وَالرَّوِيَّةِ مُسْتَقِيمًا)).

فَيَا عَبْدَ اللهِ! قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ!

 ((هَدْمُ الثَّوَابِتِ لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ!!))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ تَعَامَلَ الْإِسْلَامُ مَعَ الْحُرِّيَّةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَحُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ عَلَى أَنَّهَا أَهَمُّ مَا يُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهِ، لَا بُدَّ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ وَالرَّأْيِ كَحَقٍّ يَكْفُلُهُ الْإِسْلَامُ، وَالْفَوْضَى بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ فِي التَّعْبِيرِ؛ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلثَّوَابِتِ الدِّينِيَّةِ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهَا دُونَ وَعْيٍ بِاسْمِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ أَوِ التَّعْبِيرِ!!

 ((إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ حُرِّيَّتَهُ؛ لَكِنْ مَا الْحُرِّيَّةُ الصَّحِيحَةُ؟ الْحُرِّيَّةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ: التَّحَرُّرُ مِنْ قُيُودِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ قُيُودِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ خَالَفَ الشَّرْعَ؛ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ، وَلَيْسَ بِحُرٍّ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيْتٍ أَرَى أَنْ يُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، يَقُولُ:

(هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ  =  فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ)

يَعْنِي: إِنَّهُمْ تَحَرَّرُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ، وَهُوَ الرِّقُّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَلَكِنَّهُمْ ابْتُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ.

وَنَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ يَطْلُبُ حُرِّيَّتَهُ فِي أَنْ يَقُولَ مَا يَشَاءُ: إِنَّنَا إِذَا أَعْطَيْنَاكَ حُرِّيَّتَكَ، وَقُلْتَ مَا شِئْتَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ؛ فَإِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِرِقٍّ آخَرَ، وَهُوَ رِقُّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ.

وَعَلَى هَذَا؛ فَيُقَالُ: إِنَّ قَمْعَ الْكُفْرِ -وَلَوْ تَظَاهَرَ الْإِنْسَانُ بِالْإِسْلَامِ- مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُظَرَاءَ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ، وَكُلِّ مَا يُنْشَرُ فِي الْإِذَاعَاتِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَرْئِيَّةِ، وَكُلِّ مَا يُذْكَرُ فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ، فَيَجْعَلُ أُمَنَاءَ عُلَمَاءَ يُولِيهِمُ الْحَقَّ فِي النَّظَرِ فِي كُلِّ مَا يُنْشَرُ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَيَمْنَعُونَ كُلَّ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَى الْفُسُوقِ وَالْمُجُونِ وَالْكُفْرِ، وَهَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ.

وَمَعْنَى قَوْلِنَا: ((يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ كَذَا)): لَيْسَ حُرُوفًا تُكْتَبُ عَلَى وَرَقٍ، بَلْ هِيَ مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ يُسْأَلُ عَنْهَا الْإِمَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَلَيْهِ مَسْؤُولِيَّةُ قَمْعِ الْكُفْرِ بِأَنْوَاعِهِ وَأَشْكَالِهِ)).

قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ: ((لَا شَيْءَ أَوْجَبُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلرِّيَاسَةِ فِي الْعِلْمِ؛ فَمِنَ الْإِخْلَالِ بِهَا يَنْتَشِرُ الشَّرُّ، وَيَكْثُرُ الْأَشْرَارُ، وَيَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ التَّظَاهُرُ وَالتَّنَافُرُ...، وَلَمَّا تَرَشَّحَ قَوْمٌ لِلزَّعَامَةِ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَحْدَثُوا بجَهْلِهِمْ بِدَعًا اسْتَغْنَوْا بِهَا عَامَّةً، وَاسْتَجْلَبُوا بِهَا مَنْفَعَةً وَرِيَاسَةً، فَوَجَدُوا مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعَدَةً بِمُشَارَكَةٍ لَهُمْ، وَقُرْبِ جَوْهَرِهِمْ مِنْهُمْ، وَفَتَحَوُا بِذَلِكَ طُرُقًا مُنْسَدَّةً، وَرَفَعُوا بِهِ سُتُورًا مُسْبَلَةً، وَطَلَبُوا مَنْزِلَةَ الْخَاصَّةِ، فَوَصَلُوهَا بِالْوَقَاحَةِ، وَبِمَا فِيهِمْ مِنَ الشَّرَهِ، فَبَدَّعُوا الْعُلَمَاءَ وَجَهَّلُوهُمُ؛ اغْتِصَابًا لِسُلْطَانِهِمْ، وَمُنَازَعَةً لِمَكَانِهِمْ، فَأَغْرَوْا بِهِمْ أَتْبَاعَهُمْ؛ حَتَّى وَطَئُوهُمْ بِأَظْلَافِهِمْ وَأَخْفَافِهِمْ، فَتَوَلَّدَ بِذَلِكَ الْبَوَارُ وَالْجَوْرُ الْعَامُّ وَالْعَارُ)).

تَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ، وَانْظُرْ فِي حَالِ النَّاسِ حَوْلَكَ!

يَنْفُونَ الْعِلْمَ عَنِ الْأَئِمَّةِ جُمْلَةً!! الصَّحَابَةُ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ!! مِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُغَفَّلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَلَى رَسُولِهِ ﷺ!! وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَا وَزْنَ لَهُمْ وَلَا قِيمَةَ وَلَا خَطَرَ!! هَكَذَا يَقُولُونَ!!

هَذِهِ الْفِرْقَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ تُشَكِّكُ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، يَعْتَدُونَ عَلَى ثَوَابِتِ الْأُمَّةِ، يُهَرْطِقُونَ، يُجَدِّفُونَ، يَتَزَنْدَقُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَيُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحِفْظِ أَمْنِهِمْ، النَّاسُ يَمُوتُونَ مِنْ أَجْلِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَنُوا فِي الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ مَرَّةً، وَفِي النَّبِيِّ ﷺ مَرَّةً، وَفِي أَصْحَابِهِ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا فِي الْأَئِمَّةِ؛ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُرَبَّعُ الشَّرِّ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَلَا وَزْنَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْخُلُقِ، وَلَا فِي الدِّينِ!!

مَنْ يَتَحَمَّلُ هَذَا؟!! وَمَنْ يَقْبَلُهُ؟!!

عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَتَهُمْ، هَؤُلَاءِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ)).

قَالُوا: ((وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى: ((الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).

وَفِي بَعْضِهَا: ((مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).

إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ، إِذَا تَكَلَّمَ الْفُوَيْسِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ، وَالْفُوَيْسِقُ: تَصْغِيرُ فَاسِقٌ؛ لِلتَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ، وَالْبَيَانِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ وَحِطَّةٍ، سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ فُوَيْسِقًا، يَكُونُ هَذَا فِي السَّنَوَاتِ الْخَدَّاعَاتِ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.

فِتْنَةٌ مَاحِقَةٌ، قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ، وَالنَّاسُ فِي حَيْرَةٍ، وَفِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، انْبَهَمَتِ الْمَعَالِمُ، اخْتَلَطَتِ السُّبُلُ، صَارَ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَسِيرُونَ؟!!

وَيُخْبِرُهُمُ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ أَنَّ خَلَاصَهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.

أَكْثَرُ الَّذِينَ يَجْتَهِدُونَ فِي مُعَالَجَةِ الْوَاقِعِ الْمَرِيضِ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ: فُوَيْسِقٌ تَافِهٌ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، سَفِيهٌ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا فِيهِ.

وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ إِلَى الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ، وَأَخَصُّ خَصَائِصِهَا حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ، فَيَجْعَلُونَ حُرِّيَّةَ الرَّأْيِ حَظْرًا وَحِكْرًا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ!!

حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ نَصِيبٌ!!

هَذِهِ هِيَ الَّتِي أَوْصَلَتِ الْأُمَّةَ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ.

هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَجِدُونَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُعْتَدَى عَلَى ذَاتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَقَعُ فِي التَّجْدِيفِ بَعْضُ مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ؛ لَا يَنْبِسُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِبِنْتِ شَفَةٍ؛ يَكِيلُونَ بِمِكْيَالَيْنِ.

إِذَا كَتَبَ رَجُلٌ قَصِيدَةً يَعْتِدي فِيهَا عَلَى رَبِّنَا جَلَّ وَعَلَا، وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ؛ خَرَجَ مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الشِّعْرِ، وَلُغَةُ الشِّعْرِ لَيْسَتْ بِخَاضِعَةٍ لِمُوَاضَعَاتِ اللُّغَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا!!

جَهَلَةٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقِيدَةَ، يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ مَاركِس مِنَ التَّظَاهُرَاتِ، وَالِاعْتِصَامَاتِ، وَالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالْفَوْضَى الْجَالِبَةِ لِلشَّعَارَاتِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا الثَّوْرَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ: ((الْإِخَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمُسَاوَاةُ)).

الْحُرِّيَّةُ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذَا الْعَبَثِ وَهَذَا الْكُفْرِ!! يَقُولُونَ: هِيَ حُرِّيَّةُ التَّعْبِيرِ!!

أَيُّ حُرِّيَّةٍ؟!!

هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْكُبُونَ النِّفْطَ عَلَى نَارِ الْإِرْهَابِ وَالتَّطَرُّفِ.

هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَطَرُ الْأَوَّلُ..

هَؤُلَاءِ يَنْخَرُونَ فِي عِظَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ..

وَهُمْ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَيْهَا؛ عَلَى دِينِهَا، وَمُسْتَقْبَلِهَا، وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهَا، وَعَلى سَلَامَةِ تُرَابِهَا، وَوَحْدَةِ أَرَاضِيهَا.

هَؤُلَاءِ أَخْطَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْدَائِهَا الظَّاهِرِينَ الْحَقِيقِيِّينَ؛ مِنَ الْأَمْرِيكِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ، إِلَى الصَّلِيبِيِّينَ، إِلَى التَّكْفِيرِيِّينَ، وَمَا شِئْتَ، وَمَنْ شِئْتَ!!

لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ!

يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِلَايَةً أَنْ يَحْجُرَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي كَلامِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ، وَهُوَ أَهَمُّ -أَيْ: هَذَا الحَجْرُ- مِنَ الحَجْرِ الصِّحيِّ لِلأَوْبِئَةِ الفَتَّاكَةِ؛ لِأَنَّ الأَوْبِئَةَ الفَتَّاكَةَ الَّتِي يُحْجَرُ عَلَى مَنْ حَمَلَ جَرَاثِيمَهَا إِنَّمَا تُصِيبُ الأَبْدَانَ، وَقَدْ تَصِيرُ هَذِهِ الأَرْوَاحُ الَّتِي تُصَابُ أَبْدَانُهَا إِلَى الجَنَّةِ؛ كَالمَطْعُونِ مَثَلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّاعُونَ إِذَا نَزَلَ بِمَكَانٍ؛ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، وَعَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الحَجْرِ الصِّحِّيِّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِإِصَابَةِ بَدَنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْ صَبَرَ إِلَى الجَنَّةِ، وَنِعْمَ القَرَارُ، فَالمَطْعُونُ فِي الجَنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.؛

فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ القُلُوبِ؟!!

فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ أُمُورِ الآخِرَةِ؟!!

فَكَيْفَ بِجَرِّ المُسْلِمِينَ بَلْ سَوْقِ المُسْلِمِينَ سَوْقًا إِلَى النَّارِ، وَبِئْسَ القَرَارُ؟!!

بِتَشْكِيكِهِمْ فِي مَوْرُوثِهِم، فِي عَقِيدَتِهِمُ الَّتِي تُبَدَّلُ جَهَارًا نَهَارًا!!

وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ؛ لَا المُؤسَّسَةُ الدِّينِيَّةُ الرَّسْمِيَّةُ مِنْ أَنْ تَعْتَرِضَ اعْتِرَاضًا صَرِيحًا، لَا تُمَكَّنُ مِنْ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ بحُجَّةِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ!! حُرِّيَّةُ الرَّأيِ فِيمَا يَخُصُّهُم، أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ المُسْلِمِينَ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ، وَيَخُصُّ عُلَمَاءَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ لِلرَّأْيِ حِينَئذٍ.

هَؤلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ وَتُرَاثِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هَؤلَاءِ هُمْ أَكْبَرُ الدَّاعِينَ إِلَى التَّطَرُّفِ وَالتَّكفِيرِ وَالإِرهَابِ، هَؤلَاءِ يَتَحَمَّلُونَ وِزْرَ الدِّمَاءِ -عَلَيْهِم مِنَ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ-.

 ((التَّهْيِيجُ عَلَى الْحُكَّامِ لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ))

 

إِنَّ التَّهْيِيجَ عَلَى الْحُكَّامِ وَالْكَلَامَ وَالطَّعْنَ فِيهِمْ لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ؛ فَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِإِمَامِهِ: النُّصْحُ لَهُ، وَهَذَا الْحَقُّ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَقَبْلَ ذِكْرِ بَعْضِهَا نَعْرِفُ مَعْنَى النُّصْحِ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ:

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ الْوُثُوبِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ، وَحَثُّ الْأَغْيَارِ عَلَى ذَلِكَ)).

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُؤَكِّدَةِ لِذَلِكَ: حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).

قُلْنَا: لِمَنْ؟

قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَمَنْ نَصَحَ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ؛ فَقَدْ أَدَّى مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ؛ فَإِنَّ قَلْبَهُ قَدْ مُلِئَ غَيْظًا عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلِذَا لَا تَرَى هَذِهِ الْخَصْلَةَ الذَّمِيمَةَ يَعْنِي: الْخُرُوجَ عَلَى الْحُكَّامِ- إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.

وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ لَا تُوجَدُ فِي قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ قَلْبٌ طَاهِرٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَالدَّغَلِ، وَالشَّرِّ، وَالْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ تَنْفِي الْغِلَّ، وَالْغِشَّ، وَمُفْسِدَاتِ الْقُلُوبِ.

فَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ مُنَافِيَةٌ لِلْغِلِّ وَالْغِشِّ؛ لِأَنَّ النَّصِيحَةَ لَا تُجَامِعُ الْغِلَّ، وَلَا تُجَامِعُ الْغِشَّ؛ إِذْ هِيَ ضِدُّهُ، فَمَنْ نَصَحَ الْأَئِمَّةَ وَالْأُمَّةَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْغِلِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْصَحِ الْأَئِمَّةَ فَقَدِ انْغَمَسَ فِي الْغِلِّ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى-.

إِنَّ انْتِقَادَ الْحُكَّامِ وَالطَّعْنَ فِي سِيَاسَاتِهِمْ عَلَنًا لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ فِي شَيْءٍ؛ فَـ((لَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ التَّشْهِيرُ بِعُيُوبِ الْوُلَاةِ، وَذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْفَوْضَى، وَعَدَمِ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَيُفْضِي إِلَى الْخَوْضِ الَّذِي يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؛ وَلَكِنَّ الطَّرِيقَةَ الْمُتَّبَعَةَ عِنْدَ السَّلَفِ: النَّصِيحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ، وَالْكِتَابَةُ إِلَيْهِ، أَوْ الِاتِّصَالُ بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ بِهِ؛ حَتَّى يُوَجَّهَ إِلَى الْخَيْرِ)).

((وَلَمَّا فَتَحُوا بَابَ الشَّرِّ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَنْكَرُوا عَلَى عُثْمَانَ جَهْرَةً؛ تَمَّتِ الْفِتْنَةُ وَالْقِتَالُ وَالْفَسَادُ الَّذِي لَا يَزَالُ النَّاسُ فِي آثَارِهِ إِلَى الْيَوْمَ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَصَلَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَقُتِلَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِأَسْبَابِ الْإِنْكَارِ الْعَلَنِيِّ، وَذِكْرِ الْعُيُوبِ عَلَنًا؛ حَتَّى أَبْغَضَ النَّاسُ وَلِيَّ أَمْرِهِمْ، وَقَتَلُوهُ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ)).

 ((الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ))

إِنَّ الْكَلَامَ فِي السِّيَاسَةِ وَالْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ لَيْسَ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ فِي شَيْءٍ؛ فَمِنْ أَسْبَابِ ذَهَابِ الْأَمْنِ، وَإِشَاعَةِ الِاضْطِرَابِ وَالْفَوْضَى: شَغْلُ النَّاسِ بِالسِّيَاسَةِ، وَزَجُّهُم فِيهَا؛ فَإِنَّ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى زَعْزَعَةِ الْأَمْنِ -وَلَوْ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ-: شَغْلَ النَّاسِ بِالسِّيَاسَةِ الْخَاصَّةِ بِالْحُكُومَاتِ، وَزَجَّهُمْ فِيهَا عَنْ جَهْلٍ وَعَدَمِ دِرَايَةٍ، فَالسِّيَاسَةُ عِلْمٌ مِنَ الْعُلُومِ؛ بَلْ هِيَ عِلْمٌ صَعْبٌ جِدًّا، أَحْيَانًا لَا يُعْرَفُ لَهَا رَأْسٌ مِنْ ذَيْلٍ!! فَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَيُنَاقَشُ فِيهَا الْجَمِيعُ؟!!

يَدُورُ أَمْرُ السِّيَاسَةِ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرِّعَايَةِ، وَالِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ، وَإِدَارَةِ الشُّؤُونِ وَالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَاكِنِ الدَّوْلَةِ الثَّقِيلَةِ؛ كَالْوَزَارَاتِ، وَالْجُيُوشِ، وَالْمُعَاهَدَاتِ الدَّوْلِيَّةِ، وَالدُّوَلِ الْمُجَاوِرَةِ.

فَهَلْ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا مَنْ هَبَّ وَدَبَّ وَطَارَ وَدَرَجَ، وَيَعْتَرِضُ مَنْ لَا يَدْرِي شَيْئًا؟!!

إِنَّ سِيَاسَةَ الْأُمُورِ مِنْ شُؤُونِ السَّاسَةِ؛ فَهِيَ أُمُورٌ تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَمُسْتَجَدَّاتُهَا مِنَ النَّوَازِلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى عُلَمَاءَ يُبْصِرُونَ الْأُمُورَ جَيِّدًا، فَالْعُلَمَاءُ وَالسَّاسَةُ -وَهُمْ وُلَاةُ الْأَمْرِ- أَدْرَى بِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّافِعِيُّ: ((وَلَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ، وَكَانَ امْتِزَاجُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَقْطَعُهُمْ عَنْ تَصَفُّحِهَا مَعَ تَشَاغُلِهِمْ بِالسِّياسَةِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَفْرَدْتُ لَهَا كِتَابًا امْتَثَلْتُ فِيهِ أَمْرَ مَنْ لَزِمَتْ طَاعَتُهُ؛ لِيَعْلَمَ مَذَاهِبَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَهُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِيَهُ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَيُوَفِّيَهُ؛ تَوَخِّيًا لِلْعَدْلِ فِي تَنْفِيذِهِ وَقَضَائِهِ)).

وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: ((لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ -أَيِ: السِّيَاسَةُ- بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ))؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْعِلْمَ حَقَّهُ، وَلَوْ لَا انْشِغَالُ وُلَاةِ الْأَمْرِ عَنْ الِاطِّلَاعِ وَالْقِرَاءَةِ حَوْلَ هَذَا الشَّأْنِ؛ لَمَا كَتَبَ وَأَلَّفَ فِيهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ))).

قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟

قَالَ: ((فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ)).

وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: ((تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ))؛ قَالَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: ((أَيْ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَادٌ؛ بَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ نَبِيًّا يُقيمُ لَهُم أَمْرَهُمْ، وَيُزِيلُ مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِمٍ بِأُمُورِهِم يَحْمِلُهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْحَسَنَةِ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ)).

فَتَأَمَّلْ مَنِ الَّذِي يَسُوسُ الْقَوْمَ -أَيْ: يُدِيرُ أُمُورَهُمْ-؟ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ خَيْرُ الْبَشَرِ عِلْمًا وَحِكْمَةً وَخُلُقًا، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِذَا يَسِيرُونَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ؛ فَلَيْسَ الْأَمْرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا تُطْرَحُ السِّيَاسَةُ وَشُؤُونُ الدَّوْلَةِ وَأَسْرَارُهَا عَلَى مَسَامِعِ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُ كُلُّهُمْ وَلَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنْهُمُ الْمَصْلَحَةَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.

لِذَا لَم يَكُنْ كِبَارُ الصَّحَابَةِ وَقَادَتُهُمْ -كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- يُخْبِرُونَ النَّاسَ بِكُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصَّةِ مِنْهُمْ.

فَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الشُّؤُونَ الْخَاصَّةَ لِلدَّوْلَةِ وَالْأُمُورَ الْحسَّاسَةَ فِيهَا لَا تُطْرَحُ عَلَنًا -وَهِيَ مَا يُقَالُ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ: بِأُمُورِ وَأَسْرَارِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ-، فَهَذِهِ لَا تُطْرَحُ عَلَنًا، بَلْ يَتَصَدَّى لَهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالْقَادَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالسَّاسَةُ الْفُقَهَاءُ.

لِذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي السِّيَاسَةِ سَابِقًا كَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ.

فَانْظُرْ -رَعَاكَ اللهُ- مَنِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ فِي السِّيَاسَةِ، وَلِمَنْ تُكْتَبُ وَتُقَالُ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ عِلْمٌ صَعْبُ الْمَنَالِ، قَدْ خَاضَ بِحَارَهُ وَسَبَرَ أَغْوَارَهُ وَاسْتَخْرَجَ كُنُوزَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، لَا عَامَّةُ النَّاسِ وَالْغَوغَاءُ مِنْهُمْ.

وَنَظَرًا لِخَفَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَصُعُوبَتِهِ؛ فَإِنَّه لَا يُذْكَرُ أَمَامَ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ، فَإِنَّ انْتِقَادَ سِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأَمرِ وَالدَّوْلَةِ أَمَامَ النَّاسِ وَعَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالْعَقْلِ.

فَمَا أَسْرَعَ هَيَجَانَ النَّاسِ! وَمَا أَسْهَلَهُ! فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلامَ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَجَاعَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَبَاوَةٌ؛ لِأَنَّه يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَفِقْهٍ وَإِلْمَامٍ؛ فَإِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ تُحِيطُ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْمَشَاكِلِ، وَيَعْلَمُ مِنَ التَّقَارِيرِ وَالْأَسْرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ عَامَّةُ النَّاسِ، وَيَكُونُ قَرَارُهُ فِي الْمُنْتَهَى مُؤَسَّسًا عَلَى ذَلِك كُلِّهِ؛ فَيَظْهَرُ أَمَامَهُمْ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ، فَيَأْتِي النَّقْدُ وَالطَّعْنُ وَالتَّهْيِيجُ تَحْتَ عُنْوَان (حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ) أَوِ (الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ)؛ وَحِينَهَا يَكْرَهُهُ الْكُلُّ أَوْ مُعْظَمُ النَّاسِ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا زَعْزَعَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَلَيْسَ إِلَّا الْفَوضَى.

 ((رِسَالَةٌ إِلَى الْإِعْلَامِيِّينَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ))

إِنَّ الْعَامِلِينَ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ مِنْ أَفْرَادٍ وَمَسْؤُولِينَ يُمَارِسُونَ دَوْرًا مِنْ أَخْطَرِ الْأُمُورِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِيُوَفِّقَهُمُ اللهُ إِلَى مَرَاضِيهِ.

وَأَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِعْلَامِيِّ أَنْ يَسْتَشْعِرَ عَظِيمَ الْأَمَانَةِ الْمُلْقَاةِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى ثَغْرٍ عَظِيمٍ، فَلْيُخْلِصْ لِلَّهِ قَصْدَهُ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مُوَافَقَةِ مَرْضَاتِهِ.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَزِيدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الْإِعْلَامِيِّ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَصِلُ إِلَى شَرِيحَةٍ كَبِيرَةٍ، وَيَتَأَثَّرُ بِهِ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ.

وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظٌ لِمُسْلِمِ.

وَلْيَحْذَرِ الْإِعْلَامِيُّونَ مِنَ الْكَذِبِ أَشَدَّ الْحَذَرِ تَحْتَ أَيِّ ذَرِيعَةٍ؛ سَوَاءٌ بِذَرِيعَةِ الْفَوْزِ بِالسَّبْقِ الْإِعْلَامِيِّ -كَمَا يُقَالُ-، أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الذَّرَائِعِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْذِبُ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَلَا يُعْفَى الْإِعْلَامِيُّ الْمُسْلِمُ أَنْ يَنْقُلَ كَلَامَ الْغَيْرِ بِلَا تَحَرٍّ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بِئْسَ مَطِيَّةُ الْقَوْمِ [زَعَمُوا])) .

وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا)).

وَعَلَى الْإِعْلَامِيِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ حَقًّا، وَلَا كُلُّ مَا يُنْشَرُ صِدْقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَعَلَى الْإِعْلَامِيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّأَنِّي فِي التَّعَاطِي مَعَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ عُظْمَى لِلْأُمَّةِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ يُقَالُ؛ وَلَوْ كَانَ حَقًّا وَصِدْقًا.

يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَ وُرُودِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْنٍ أَوْ خَوْفٍ: أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي نَشْرِهِ وَإِذَاعَتِهِ نُشِرَ، وَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِ نَشْرِهِ لَا يُنْشَرُ؛ حِفَاظًا عَلَى دِينِ النَّاسِ، وَأَمْنِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) .

وَالَّذِي يُقَدِّرُ الْخَيْرَ مِنْ عَدَمِهِ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ؛ فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ فِيهَا.

وَالْإِعْلَامِيُّ الْمُسْلِمُ لَا تَقْتَصِرُ مُهِمَّتُهُ عَلَى نَقْلِ الْخَبَرِ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ، وَلَا تَقِفُ مَسْؤُولِيَّتُهُ عِنْدَ تَحْلِيلِ الْأَخْبَارِ، كَلَّا؛ بَلْ رِسَالَةُ الْإِعْلَامِيِّ الْمُسْلِمِ تَذْهَبُ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، فَالْإِعْلَامِيُّ يَحْمِلُ أَعْظَمَ رِسَالَةٍ إِعْلَامِيَّةٍ يَحْمِلُهَا إِعْلَامِيٌّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عِنْدَمَا يَكُونُ مُسْلِمًا، إِنَّهَا رِسَالَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْعَى فِي إِبْلَاغِهاَ؛ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَنَشْرُ الْإِعْلَامِيِّ الْمُسْلِمِ لِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَبَثُّهُ فِي النَّاسِ؛ لِيُعَرِّفَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ فِعْلُهُ، وَيَرْسُمُ لَهُمُ الْمَنْهَجَ الصَّحِيحَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحَسَبِهِ.

كُلُّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِعْلَامِيِّ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ رِسَالَةٌ سَامِيَةٌ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِ الْإِعْلَامِيِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَصِلَ لِدَرَجَتِهَا وَلَا يُدَانِيَهَا مَهْمَا كَانَتْ رِسَالَتُهُ الْإِعْلَامِيَّةُ.

الْإِعْلَامُ يَجِبُ أَنْ يَبُثَّ صُورَةً مُشْرِقَةً وَصَحِيحَةً لِلدِّينِ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْعَقَدِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِي نَشْرِ الْخَيْرَاتِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

وَفِي حَالِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ وَاشْتِدَادِ الْأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا يَكُونُ لِلْإِعْلَامِ وَقْعٌ كَبِيرٌ وَدَوْرٌ عَظِيمٌ فِي تَسْيِيرِ الْأَحْدَاثِ.

وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ فِي عَصْرِنَا هَذَا الَّذِي بَاتَ الْإِعْلَامُ فِي حَالِ الْمُدْلَهِمَّاتِ وَعَظَائِمِ الْأُمُورِ يُؤَثِّرُ تَأْثِيرًا بَالِغًا فِي نُفُوسِ النَّاسِ بِإِثَارَتِهَا أَوْ تَثْبِيطِهَا، بِتَخْوِيفِهَا أَوْ تَأْمِينِهَا؛ لِذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْحَذَرَ فِي التَّعَاطِي مَعَ الْأَحْدَاثِ الْجَسِيمَةِ، فَلَا تَنْقُلْ مَا يُثَبِّطُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَفُتُّ فِي عَضُدِهِمْ، وَلَا مَا يُثِيرُهُمْ وَيُرْجِفُ بِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أُنَاسٌ يَسْتَغِلُّونَ الْأَحْدَاثَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَفَضَحَ اللهُ أَمْرَهُمْ؛ وَتَوَعَّدَهُمْ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 81].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60].

فَمَا مَوْقِفُ الْإِعْلَامِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْأُمَّةِ؟!!

إِنَّ مَوْقِفَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْقِفَ الْمُؤْمِنِ الثَّابِتِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُوَجَّهَ الْإِعْلَامُ لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْزِيزِ تَعَلُّقِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الضَّوَابِطِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَهَا الْإِعْلَامِيُّ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أُمَّتِهِ.

وَيُقَالُ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ: لَئِنِ احْتَفَلَ غَيْرُكُمْ، وَفَرِحُوا وَتَفَاخَرُوا بِسُرْعَةِ نَقْلِ الْأَخْبَارِ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، مُصِحًّا أَوْ مُسْقِمًا، لَئِنْ تَبَجَّحُوا بِنَشْرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِصُنُوفِهِ؛ فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِكُمْ -أَيُّهَا الْإِعْلَامِيُّونَ- أَنْ تَرْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، الَّذِي يَبْنِي إِعْلَامًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُقَرِّرًا لِلْحَقِّ، دَاحِضًا لِلْبَاطِلِ، نَاشِرًا لِلْفَضِيلَةِ، مُحَارِبًا لِلرَّذِيلَةِ، يَسْتَمِدُّ تَعَالِيمَهُ وَضَوَابِطَهُ مِنَ الْوَحْيِ الصَّادِقِ، مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 ((تَعَلَّمُوا آدَابَ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ!))

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْآدَابَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَأَنْ يَلْتَزِمَهَا، وَأَنْ يُعَلِّمَهَا أَهْلَهُ وَمَنْ تَحْتَ يَدِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُمَّ الْتِزَامُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي طُرُقَاتِهِمْ، وَفِي مَسَاجِدِهِمْ، وَفِي جَمِيعِ مَحِلَّاتِهِمْ؛ عَسَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَرْحَمَنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ بَحَّاثَةً عَنِ الْخَيْرِ، وَأَنْ يَكُونَ دَؤُوبًا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُسْعِدُهُ فِي الْآخِرَةِ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَأَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَمَسُّهُ فِي جَسَدِهِ، وَفِي نَفْسِهِ، وَفِي بَيْتِهِ، وَفِي مُجْتَمَعِهِ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَحْرِمَ نَفْسَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ الْآدَابَ الَّتِي دَلَّهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ؛ كَآدَابِ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَبِيَّنَا لَنَا أُسْوَةً حَسَنَةً.

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ، وَأَنْ نَكُونَ عَلَى أَثَرِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ.

لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْتَزَمَ هَذِهِ الْآدَابَ؛ لَآتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا عَظِيمًا، وَحَبَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ؛ فَشُؤْمٌ لَا يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا كُلُّ شَرٍّ.

عِبَادَ اللهِ! نَبِيُّكُمْ ﷺ يُرِيدُ لَكُمْ حُرِّيَّةَ الْعَقْلِ، حُرِّيَّةَ النَّفْسِ، حُرِّيَّةَ الْقَلْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُجْمَعُ بَعْدُ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ الْحُرِّيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْؤُولَةً، وَأَلَّا تَمَسَّ الْمُقَوِّمَاتِ الْأَسَاسِيَّةَ لِلْمُجْتَمَعِ، وَالْأُسْرَةِ، وَالدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا التَّوْحِيدَ وَالِاتِّبَاعَ، إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُؤَدِّبَنَا بِآدَابِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَّبِعِينَ لِنَبِيِّنَا ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَقْبِضَنَا عَلَى ذَلِكَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  أحداث البطرسية
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ وَأَثَرُهَا فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَبِنَاءِ الدُّوَلِ
  الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ رِسَالَةُ سَلَامٍ لِلْإِنْسَانِيَّةِ
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  فضل عشر ذي الحجة
  حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  هؤلاء يساندون التكفير والإرهاب
  إنَّهم قَتَلَةُ الحُسين - رضي الله عنه -
  خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان