الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ

الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ

((الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ خُلُقِ الْوَفَاءِ))

فَإِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى احْتِرَامِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَتَعْظِيمِ مَنْ أَتَى بِهَا.. إِنَّ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ: خُلُقَ الْوَفَاءِ.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، فَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))، فَلَمَّا رَأَوْا نُدْرَةَ هَذَا الْخُلُقِ وَعِزَّةَ وُجُودِهِ فِي النَّاسِ، وَيَظَلُّونَ الْأَمَدَ مُفْتَقِرِينَ إِلَيْهِ، بَاحِثِينَ عَنْهُ، فَنَادِرًا مَا يَلْقَوْنَهُ، وَقَلَّ مَا يَجِدُونَهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَعْبُ الْمَنَالِ جِدًّا، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ الْبَشَرِ.. ضَرَبُوا بِنُدْرَتِهِ الْمَثَلَ؛ فَقَالُوا: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ)).

فَجَعَلُوا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ جَعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ بِالْوَفَاءِ الْمَفْقُودِ.

كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ هَذَا الْخُلُقَ جِدًّا، فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ ارْتَكَزَ -بَعْدَ ارْتِكَازِهِ عَلَى مَوْرُوثِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ- عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَرْعِيَّةِ.

((مَعَانِي الْوَفَاءِ))

((الْوَفَاءُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: وَفِى يَفِي وفاءً، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (و ف ي) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى «إِكْمَالٍ وَإِتْمَامٍ».

يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((وَمِنْ هَذَا: الْوَفَاءُ؛ وَهُوَ إِتْمَامُ الْعَهْدِ وَإِكْمَالُ الشَّرْطِ، وَيَقُولُونَ مِنْهُ أَيْضًا: أَوْفَيْتُكَ الشَّيْءَ؛ إِذَا قَضَيْتَهُ إِيَّاهُ وَافِيًا، وَتَوَفَّيْتَ الشَّيْءَ وَاسْتَوْفَيْتَهُ؛ إِذَا أَخَذْتَهُ كُلَّهُ حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا)).

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْوَفَاءُ ضِدُّ الْغَدْرِ، يُقَالُ: وَفَى بِعَهْدِهِ وَأَوْفَى بِمَعْنًى، وَوَفَى الشَّيْءُ وُفِيًّا عَلَى وَزْنِ (فُعُولٍ)؛ أَيْ تَمَّ وَكَثُرَ.

وَالْوَفِيُّ الْوَافِي، وَوَفَى عَلَى الشَّيْءِ: أَشْرَفَ، وَأَوْفَاهُ حَقَّهُ وَوَفَاهُ بِمَعْنًى، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ وَتَوَفَّاهُ بِمَعْنًى، وَتَوَفَّاهُ اللهُ: قَبَضَ رُوحَهُ، وَوَافَى فُلَانٌ: أَتَى، وَتَوَافَى الْقَوْمُ: تَتَامُّوا)).

قَالَ الرَّاغِبُ: ((الْوَافِي: الَّذِي بَلَغَ التَّمَامَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَافٍ وَكَيْلٌ وَافٍ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35].

وَوَفَى بِعَهْدِهِ وَأَوْفَى إِذَا تَمَّمَ الْعَهْدَ وَلَمْ يَنْقُضْ حِفْظَهُ، وَاشْتِقَاقُ ضِدِّهِ وَهُوَ الْغَدْرُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ وَهُوَ تَرْكُ الْحِفْظِ.

وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَاءَ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ «أَوْفَى»، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].

وَتَوْفِيَةُ الشَّيْءِ: بَذْلُهُ وَافِيًا، وَاسْتِيفَاؤُهُ: تَنَاوُلُهُ وَافِيًا، وَقَدْ عُبِّرَ عَنِ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ بِالتَّوَفِّي)).

((وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَفَتْ أُذُنُكَ وَصَدَّقَ اللهُ حَدِيثَكَ))، كَأَنَّهُ جَعَلَ أُذُنَهُ فِي السَّمَاعِ كَالضَّامِنَةِ بِتَصْدِيقِ مَا حَكَتْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْخَبْرِ صَارَتِ الْأُذُنُ كَأَنَّهَا وَافِيَةٌ بِضَمَانِهَا خَارِجَةٌ مِنَ التُّهَمَةِ فِيمَا أَدَّتْهُ إِلَى اللِّسَانِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَوْفَى اللهُ بِأُذُنِهِ))؛ أَيْ: أَظْهَرَ صِدْقَهُ فِي إِخْبَارِهِ عَمَّا سَمِعَتْ أُذُنُهُ.

وَأَوْفَى الْكَيْلَ: أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ»؛ أَيْ: تَمَّتْ وَطَالَتْ.

وَالْمُوَافَاةُ: أَنْ تُوَافِيَ إِنْسَانًا فِي الْمِيعَادِ، تَوَافَيْنَا فِي الْمِيعَادِ وَوَافَيْتُهُ فِيهِ)).

((وَالْوَفَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَى الشَّعْرُ فَهُوَ وَافٍ إِذَا زَادَ، وَوَفَيْتُ لَهُ بِالْعَهْدِ أَفِي، وَوَافَيْتُ أُوَافِي)).

وَمِنْهُ: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ؛ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ بُلُوغِ تَمَامِ الْكَمَالِ فِي تَنْفِيذِ كُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ، وَفِي كُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِبَادَ اللهِ.

الْوَفَاءُ اصْطِلَاحًا:

قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الْوَفَاءُ: هُوَ مُلَازَمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَمُحَافَظَةُ عُهُودِ الْخُلَطَاءِ)).

الْوَفَاءُ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَرْهَنُهُ بِهِ لِسَانُهُ، وَالْخُرُوجُ مِمَّا يَضْمَنُهُ -بِمُقْتَضَى الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ- وَإِنْ كَانَ مُجْحِفًا بِهِ، فَلَيْسَ يُعَدُّ وَفِيًّا مَنْ لَمْ تَلْحَقْهُ بِوَفَائِهِ أَذِيَّةٌ وَإِنْ قَلَّتْ، وَكُلَّمَا أَضَرَّ بِهِ الدُّخُولُ تَحْتَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْوَفَاءِ)).

((الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: إِتْمَامُهُ وَعَدَمُ نَقْضِ حِفْظِهِ)).

وَ((الْوَفَاءُ: صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْفِعْلِ مَعًا)).

((أَنْوَاعُ الْوَفَاءِ))

لِلْوَفَاءِ أَنْوَاعٌ عَدِيدَةٌ بِاعْتِبَارِ الْمُوفَى بِهِ؛ فَهِيَ قَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْعَهْدِ، وَقَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ أَوِ الْمِيثَاقِ، وَقَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْوَعْدِ.

((الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: إِتَمَامُهُ وَعَدَمُ نَقْضِ حِفْظِهِ، وَيَتَطَابَقُ مِنْ ثَمَّ صِدْقُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا)).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «الْعُهُودُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ، وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ».

أَمَّا الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ: ((فَالْمُرَادُ بِهِ إِمَّا الْعَهْدُ، وَبِذَلِكَ يَتَطَابَقُ مَعَ النَّوْعِ الَّذِي سَبَقَ، وَقِيلَ: الْعُقُودُ هِيَ أَوْكَدُ الْعُهُودِ، وَقِيلَ: هِيَ عُهُودُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَتَعَاقَدُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ)).

أَمَّا الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ: فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَصْبِرَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَدَاءِ مَا يَعِدُ بِهِ الْغَيْرَ وَيَبْذُلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيَرْهَنُهُ بِهِ لِسَانُهُ، حَتَّى وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ: كُلَّمَا أَضَرَّ بِهِ الدُّخُولُ تَحْتَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْوَفَاءِ)).

((مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!))

يَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهِمْ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ)).. فَصَارَ مَثَلًا.

((وَالسَّمَوْأَلُ هُوَ ابْنُ حَيَّانَ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ مِنْ وَفَائِهِ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى قَيْصَرَ اسْتَوْدَعَ السَّمَوْأَلَ دُرُوعًا وَأَحِيحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ -أَيْضًا- دُرُوعًا.

فَلَمَّا مَاتَ امْرُؤُ الْقَيْسِ غَزَاهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ فَتَحَرَّزَ مِنْهُ السَّمَوْأَلُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ ابْنًا لَهُ وَكَانَ خَارِجًا مِنَ الْحِصْنِ، فَصَاحَ الْمَلِكُ بِالسَّمَوْأَلِ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُكَ فِي يَدَيَّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ ابْنُ عَمِّي وَمِنْ عَشِيرَتِي، وَأَنَا أَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ، فَإِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ الدُّرُوعَ وَإِلَّا ذَبَحْتُ ابْنَكَ.

فَقَالَ: أَجِّلْنِي.. فَأَجَّلَهُ، فَجَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَنِسَاءَهُ فَشَاوَرَهُمْ، فَكُلٌّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الدُّرُوعَ وَيَسْتَنْقِذَ ابْنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: لَيْسَ إِلَى دَفْعِ الدُّرُوعِ سَبِيلٌ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ!!

فَذَبَحَ الْمَلِكُ ابْنَهُ وَهُوَ مُشْرِفٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الْمَلِكُ بِالْخَيْبَةِ، فَوَافَى السَّمَوْأَلُ بِالدُّرُوعِ الْمَوْسِمَ فَدَفَعَهَا إِلَى وَرَثَةِ امْرَئِ الْقَيْسِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:

وَفَيْتُ بِأَدْرُعِ الْكِنْدِيِّ إِنِّي=إِذَا مَا خَانَ أَقْوَامٌ وَفَيْتُ

وَقَالُوا: عِنْدَهُ كَنْزٌ رَغِيبٌ=وَلَا وَاللهِ أَغْدِرُ مَا مَشَيْتُ

بَنَى لِي عَادِيَا حِصْنًا حَصِينًا=وَبِئْرًا كُلَّمَا شِئْتُ اسْتَقَيْتُ

طِمَرًّا تَزْلِقُ الْعِقَبَانُ عَنْهُ=إِذَا مَا نَابَنِي ظُلْمٌ أَبَيْتُ

وَيُرْوَى:

إِذَا مَا سَامَنِي ضَيْمٌ أَبَيْتُ

وَقَدْ تَنَاوَلَ الْأَعْشَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَوْأَلُ مِنْ مَضْرِبِ الْمَثَلِ فِي الْوَفَاءِ، فَقَالَ:

شُرَيْحٌ لَا تَتْرُكَنِّي بَعْدَمَا عَلِقَتْ=حِبَالُكَ الْيَوْمَ بَعْدَ الْقِدِّ أَظْفَارِي

كُنْ كَالسَّمَوْأَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ=فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ

بِالْأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ=حِصْنٌ حَصَينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ

إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ=مَهْمَا تَقُلْهُ فَإنِّي سَامِعٌ حَارِ

وَحَارِ: تَرْخِيمُ حَارِثٍ.

فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أنْتَ بَيْنَهُمَا=فَاخْتَرْ وَمَا فِيْهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ

فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ=اذْبَحْ أَسِيْرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي

هَذَا لَهُ خَلَفٌ إِنْ كُنْتَ قَاتِلَهُ=وَإنْ قَتَلْتَ كَرٍيمًا غَيْرَ خَوَّارِ

فَقَالَ تَقَدِمَةً إِذْ قَامَ يَقْتُلُهُ=أَشْرِفْ سَمَوْأَلُ فَانْظُرْ لِلدَّمِ الْجَارِي

أَأَقْتُلُ ابْنَكَ صَبْرًا أَوْ تَجِيءُ بِهِ=طَوْعًا؟ فَأَنْكَرَ هَذَا أَيَّ إنْكَارِ

فَشَكَّ أَوْدَاجَهُ وَالصَّدْرُ فِي مَضَضٍ=عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا كَاللَّذْعِ بِالنَّارِ

وَاخْتَارَ أَدْرَاعَهُ أَلَّا يُسَبَّ بِهَا=وَلَمْ يَكُنْ عَهْدُهُ فِي غَيْرِ مُخْتَارِ

وَقَالَ لَا أَشْتَرِي عَارًا بِمْكرُمَةٍ=فَاخْتَارَ مَكْرَمُةَ الدُّنْيَا عَلَى الْعَارِ

وَالصَّبْرُ مِنْهُ قَدِيمًا شِيمَةٌ خُلُقٌ=وَزَنْدُهُ فِي الْوَفَاءِ الثَّاقِبُ الْوَارِي

وَقَدْ كَانَ فَتًى لَبِيبٌ يَخْدُمُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ مَرْوٍ عِنْدَهُ كِلَابٌ جَوَارِحُ يَرْمِي إِلَيْهَا بِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَخَافَ ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَتَنَكَّرَ لَهُ الْمَلِكُ يَوْمًا؛ فَأَخَذَ يُحْسِنُ إِلَى تِلْكَ الْكِلَابِ حَتَّى ارْتَاضَتْ لَهُ وَأَلِفَتْهُ، وَصَحَّ ظَنُّهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ يَوْمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُرْمَى بِهِ إِلَى تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْجَارِحَةِ السَّفَّاكَةِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ بِهِ سُوءًا وَلَا أَصَابَتْهُ بِأَذًى!!

وَحِينَ تَعَجَّبَ ذَلِكَ الْمَلِكُ مِنْ أَمْرِهِ، أَجَابَهُ الْفَتَى هَذِهِ الْإِجَابَةَ الْقَاسِيَةَ: طَالَمَا أَطْعَمْتُ هَذِهِ الْكِلَابَ فَغَدَتْ لِي صَدِيقًا، وَقَدْ أَمْضَيْتُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لَكَ غُلَامًا فَأَسْلَمْتَنِي إِلَى الْكِلَابِ لِهَفْوَةٍ ظَنَنْتَهَا بَدَرَتْ مِنِّي!!

الْكِلَابُ رَحِمَتْنِي حَيْثُ لَمْ تَرْحَمْنِي، وَرَعَتْ حَقِّي حَيْثُ لَمْ تَرْعَ، وَالْكِلَابُ تُسَالِمُ مِنْ أَجْلِ عَظْمَةٍ تُرْمَى لَهَا، وَالْخَسِيسُ لَا يَفِي وَلَوْ فَدَيْتَهُ بِالرُّوحِ!!

((الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي الْقُرْآنِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! نَفِّذُوا ارْتِبَاطَاتِكُمُ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ رَبِّكُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِكُمْ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ أَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ حَلِفِكُمْ وَنَذْرِكُمْ عَلَى أَلَّا تَفْعَلُوا فِعْلًا أَوْ تَكُفُّوا عَنْ فِعْلٍ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ مِن بَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَرَهْنٍ، وَشَرِكَةٍ، وَمُضَارَبَةٍ، وَزَوَاجٍ وَنَحْوِهَا، فَالْتَزِمُوا بِهَا، وَبِالْعُقُودِ الَّتِي تَعْقِدُهَا الدَّوْلَةُ الْمُسْلِمَةُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.

وَكَمَا أَمَرَ دِينُنَا الْحَنِيفُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ حَذَّرَنَا مِنْ نَقْضِهَا، وَنَهَانَا عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا؛ فَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ تَعْظِيمٌ للهِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهَا عَدَمُ تَعْظِيمٍ لَهُ؛ فَهُوَ قَدْحٌ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91].

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}: بِالِالْتِزَامِ بِمُوجِبِهِ؛ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعَةِ، وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.

{وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ}؛ أَيْ: أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ، أَوْ مُطْلَقَ الْأَيْمَانِ.

{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}؛ أَيْ: شَاهِدًا عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ الْبَيْعَةِ.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}: مِنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ؛ وَهَذَا تَهْدِيدٌ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: يَأْمُرُ -تَعَالى- بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ جَعَلُوهُ -سُبْحَانَهُ- شَاهِدًا وَرَقِيبًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ أَفْعَالَهُمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ؛ مِنْ إِعْطَاءِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَى الْآيَةِ».

وَقَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَأَوْفُوا بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ مَوَاثِيقَ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهَا بِلَا نَقْضٍ وَلَا إِخْلَافٍ وَلَا نَقْصٍ، إِنَّ مُعْطِيَ الْعَهْدِ كَانَ مَسْئُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ عَنْ حِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.

وَمَدَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الْوَفَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِ رَبِّكَ- خَبَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُنَزَّلَ فِي الْقُرْآنِ وَاحْفَظْهُ وَتَدَبَّرْهُ، وَاسْتَذْكِرْهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَاتِ الدَّاعِيَاتِ؛ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، لَمْ يَعِدْ شَيْئًا إِلَّا وَفَى بِهِ، وَكَانَ رَسُولًا حَامِلًا لِوَظَائِفِ رِسَالَةٍ رَبَّانِيَّةٍ، نَبِيًّا مُخْبِرًا عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَوَفَّوْا بِهِ، فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ مَعَ اللهِ، وَأَدَّى نَذْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةَ أَوِ النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ.

وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ -الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَهُ حَتَّى غَايَتِهِ- مَا بَدَّلُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ تَبْدِيلًا مَا، بَلْ حَافَظُوا عَلَى عُهُودِهِمْ وَنَفَّذُوهَا وَوَفَّوْا بِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 32 - 35].

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ مُرَاعُونَ حَافِظُونَ، مُجْتَهِدُونَ عَلَى أَدَائِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ.

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ.. شَامِلٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ: هَلْ قَامَ بِهِ وَوَفَّاهُ، أَمْ رَفَضَهُ وَخَانَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ؟

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا كِتْمَانٍ، وَلَا يُحَابِي فِيهَا قَرِيبًا وَلَا صَدِيقًا وَنَحْوَهُ، فَيَكُونُ الْقَصْدُ بِإِقَامَتِهَا وَجْهَ اللهِ.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ؛ أَيْ أَوْصَلَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

((الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هِرَقْلَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَلْ يَغْدِرُ؟

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ آنَذَاكَ مُشْرِكًا-: لَا.

فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ -أَيْ: لَا أَنْقُضُهُ- وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ -أَيْ: الرُّسُلَ- وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي بِنَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ)).

قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلُ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا.

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ.

فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ.

فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: ((انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعِنْدَهُ -أَيْضًا-: أَنَّ شَاعِرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ -يَعْنِي: حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- هَجَا بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ دِفَاعًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ=وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا تَقِيًّا=رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي=لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يِوَمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلَمْ يُؤْثَرْ أَبَدًا -وَلَا يَكُونُ.. وَحَاشَاهُ!- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ غَدْرٌ وَلَا خِيَانَةٌ؛ لَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَلَا بَعْدَهَا، شَهِدَ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.

وَقَدْ عَاهَدَ النَّبِيُّ ﷺ يَهُودَ الْمَدِينَةِ حِينَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا، وَعَاهَدَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَوَفَّى لَهُمْ، حَتَّى كَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا.

وَفِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعَهْدِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَسْلَمَ، وَأَعْطَى النَّبِيَّ ﷺ الْمَالَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ)).

وَإِنَّمَا رَدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ لِأَنَّهُ أُخِذَ غَدْرًا.

وَأَمَّا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ فَقَدْ وَقَعَ حَادِثٌ جَلَلٌ؛ خَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِـ (الْقَرْقَرَةِ) مِنْ صَدْرِ قَنَاةٍ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، حَتَّى نَزَلَا مَعَهُ فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيَّيْنِ عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ.

وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلَا مِمَّنْ أَنْتُمَا؟

فَقَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ.

فَأَمْهَلَهُمَا، حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثَأْرَهُ مِنْ بَنِي عَامِرٍ بِمَا أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا)).

وَكَانَ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَبُو بَرَاءٍ.. كَانَ كَبِيرَ الْعَامِرِيِّينَ وَسَيِّدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَعْطَى النَّبِيَّ ﷺ جِوَارًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِيَأْتُوا لِدَعْوَةِ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْعِينَ رَجُلًا فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، وَتَسَاهَلَ أَبُو بَرَاءٍ فِي نُصْرَتِهِمْ فِي جِوَارِهِ إِيَّاهُمْ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا)).

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ -يَعْنِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ-، وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمَّدًا وَصَالِحْهُ، وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً أَبَدًا.

فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُقْبِلًا قَالَ: ((قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ)).

فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، فَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَئَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو.. اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ)).

فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْتَبُ الْكِتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ قَدْ فَارَقَ مِلَّةَ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَسَلْسَلَهُ أَبُوهُ وَجَعَلَهُ فِي مِحْبَسٍ هُنَالِكَ، فَانْفَلَتَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ ابْنَهُ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ -أَيْ بِثِيَابِ رَقَبَتِهِ- وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ لَجَّتِ الْقَضِيَّةُ -أَيْ تَمَّ الِاتِّفَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ- قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا -يُرِيدُ وَلَدَهُ-.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَدَقْتَ)).

فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ -أَيْ: يَجْذِبُهُ بِقُوَّةٍ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرُ الْمُسْلِمِينَ! أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟!!

فَزَادَ ذَلِكَ النَّاسَ إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللهِ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ)) ﷺ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ؛ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا -أَيْ: طِفْلًا-، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ قَالَ: خِلَالٍ-؛ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ)).

عَنْ عُقْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)).

عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ تُوِفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَى الْيَهُودِيِّ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ تَمْرَ نَخْلِهِ بِالتَّيِ لَهُ؛ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: ((جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ))، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: ((أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ))، فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: ((هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟)).

فَإِذَا حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)).

فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: ((أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوِفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تُجَّارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ...)) الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ قَالَ -يَعْنِي: قَيْصَرَ-: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.

فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَا الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ.

وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا، وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ؛ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ.

وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.

قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ))، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ. الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ.. فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟

فَقَالَ: ((نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ؛ فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَذَا نَبِيُّ الْوَفَاءِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَوْفِ بِنَذْرِكَ))، فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ؛ فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.

يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.

يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.

يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَلَّا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْر خَمْسِ نِسْوَةٍ: أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ الْعَلَاءِ وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، أَوِ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَةٍ أُخْرَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ؛ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ -وَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا-، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ.

فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا!

قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟

فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ.

قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ! قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْإِبِلُ، أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ -شَكَّ إِسْحَاقُ- إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ، قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَنِي النَّاسُ!

قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْبَقَرُ.. فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ!

قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْغَنَمُ.. فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا.

قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَمِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي.

قَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ!

فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟!!

فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ!

قَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ!

قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا؛ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ!

قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.

فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ.

قَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ لِلْحَالَةِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ قَبْلَ أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَالْغِنَى أَوْ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، لَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ لِلْفَقْرِ الَّذِي كَانَ عَاضًّا بِنَابِهِ فِي حَبَّةِ الْقَلْبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ لِلْمَرَضِ الَّذِي كَانَ، تَهْمَدُ مِنْهُ الطَّاقَةُ وَتَنْفَدُ مِنْهُ الْقُوَّةُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ مُسْتَقِيمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَإِذَا مَنَّ بِالْمَالِ وَالْغِنَى وَبِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ يَأْتِي التَّمَرُّدُ عَلَى جَنَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ.

فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا!

قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ.

فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا!

قَالَ: صَدَقْتَ..

فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا.. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ بِهِ إِلَى بَلَدِهِ.

فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.

قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟

قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ.

قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الوَفَاءَ..

فَوَفَاؤُهُ وَفَاؤُهُ ﷺ.

وَإِذَا صُحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمَا فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

ﷺ.

((مَظَاهِرُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فِي الْحَيَاةِ))

((لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ؛ أَيْ: بِإِكْمَالِهَا، وَإِتْمَامِهَا، وَعَدَمِ نَقْضِهَا وَنَقْصِهَا.

وَهَذَا شَامِلٌ لِلْعُقُودِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ مِنَ الْتِزَامِ عُبُودِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِهَا أَتَمَّ قِيَامٍ، وَعَدَمِ الِانْتِقَاصِ مِنْ حُقُوقِهَا شَيْئًا، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ بِبِرِّهِمْ وَصِلَتِهِمْ وَعَدَمِ قَطِيعَتِهِمْ.

وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الصُّحْبَةِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، بَلْ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عَقَدَهَا اللهُ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؛ بِالتَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ التَّقَاطُعِ».

فَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ؛ فُكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْقِيَامِ بِهَا.

((الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَوَّلَ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ مَا كَانَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61].

أَلَمْ آمَرُكُمْ وَأُوصِيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلَّا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِيمَا يُوَسْوِسُ وَيُزَيِّنُ لَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِرَبِّكُمْ وَمَعْصِيَتِهِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ.

وَأَنْ حَقِّقُوا مَطْلُوبِي مِنْكُمْ؛ فَأَطِيعُونِي وَوَحِّدُونِي، هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ هُوَ طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ يُوصِلُكُمْ إِلَى الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الحديد: 8].

وَأَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللهِ؛ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَيَتْلُو عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ النَّاطِقَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَكُمْ حِينَ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِ أَبِيكُمْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ رَبَّكُمْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَوْمًا مَا، فَالْآنَ أَحْرَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُؤْمِنُوا لِقِيَامِ الْحُجَجِ وَالْإِعْلَامِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ.

إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذُرِّيَّتِهِ هِيَ: عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَآدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبُو الْبَشَرِ وَحَوَّاءُ أُمُّهُمْ، وَقَدْ كَانَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَحِينَ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ عَلِمَا أَنَّ لَهُمَا رَبًّا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ؛ فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ قَائِلَيْنِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

وَقَدْ أَخَذَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى آدَمَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَكَذَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ فِي صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.. أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173].

وَذُرِّيَّةُ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَدِينُونَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ طِيلَةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ، حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَيْهِمْ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].

وَكُلَّمَا انْحَرَفَتِ الْبَشَرِيَّةُ عَنِ التَّوْحِيدِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَدْعُو إِلَى نَبْذِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى- مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ فِطْرَةً؛ يَعْنِي أَصْلَ الْخِلْقَةِ، وَهِيَ مَا أَوْجَدَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ ابْتِدَاءً مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَوْحِيدِهِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟

قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ! فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَلَّا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي!)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِنَعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً...} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُبْطِلُونَ})). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: ((((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ))، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ)).

وَبَعْدَ هَذَا رُسْلَهُ قَدْ أَرْسَلَا=لَهُمْ وَبِالْحَقِّ الْكِتَابَ أَنْزَلَا

لِكَيْ بِذَا الْعَهْدِ يُذَكِّرُوهُمْ=وَيُنْذِرُوهُمْ وَيُبَشِّرُوهُمْ

كَيْ لَا يَكُونَ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ بَلْ=لِلَّهِ أَعْلَى حُجَّةٍ -عَزَّ وَجَلَّ-

فَمَنْ يُصَدِّقْهُمْ بِلَا شِقَاقِ=فَقَدْ وَفَى بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ

وَذَاكَ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ=وَذَلِكَ الْوَارِثُ عُقْبَى الدَّارِ

وَمَنْ بِهِمْ وَبِالْكِتَابِ كَذَّبَا=وَلَازَمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالْإِبَا

فَذَاكَ نَاقِضٌ كِلَا الْعَهْدَيْنِ=مُسْتَوْجِبٌ لِلْخِزْيِ فِي الدَّارَيْنِ

((الْوَفَاءُ بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ))

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ -وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ--: ((بَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانِ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللهِ؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ)).

قَالَ: فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: اتِّبَاعُهُ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ آل عمران: 31].

اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ.. أَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ، فِيمَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَسْمَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْقَوْلِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُتَابِعًا، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.. يَنْبَغِي أَنْ تُتَابِعَ النَّبِيَّ ﷺ بَدْءًا فِي عَقِيدَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ أُرْسِلَ بِهَذَا الْأَمْرِ كَمَا أُرْسِلَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ لِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَوْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي فِعْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ وَفِي سُلُوكِهِ ﷺ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.

((الْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ))

إِنَّ الْحَاكِمَ لَهُ حُقُوقٌ، وَاجِبَةٌ لَهُ؛ أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، وَاجِبَةٌ.. كَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الصَّلَاةُ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الزَّكَاةُ؛ أَوْجَبَهَا اللهُ فِي عُلَاهُ.

وَمِنْ حُقُوقِهِ: الْبَيْعَةُ لَهُ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَمَنْ نَقَضَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ تَنَالُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ مَنْ وَلَّاهُ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ)).

قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟

قَالَ: ((فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنْ حُقُوقِهِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

*وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِإِمَامِهِ: الصَّبْرُ عَلَى جَوْرِهِ:

إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِإِمَامٍ جَائِرٍ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ يُوجِبُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ، فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى- عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ؛ إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا)).

*وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَفِيَ لِرَعِيَّتِهِ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ؛ فَيَنْظُرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الضَّرَرَ وَالظُّلْمَ، وَيَعْمَلُ لَهُمْ كُلَّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.. قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٨ - ٥٩].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْأَمَانَاتُ: كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.

{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}؛ وَهَذَا يَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّمَاءِ, وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ؛ الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُكْمِ بِهِ, هُوَ مَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ الْعَدْلِ لِيُحْكَمَ بِهِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيِّتِهِ)).

((الْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ))

لَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- ذَاكِرًا الأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي القُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].

فَسَوَّى بينَ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، والْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.

وَنَسَبَ اللهُ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40].

وَلَوْ قَنَعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِمْ أَقْنَعُ مِنْهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا».

فَدَعَا ﷺ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَدُوَّ الَّذِي يُحَاوِلُ اغْتِصَابَهَا وَاحْتِلَالَهَا، وَأَنْ يُجَاهِدَ دُونَهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ احْتِفَاظًا بِمَا لِأَهْلِهَا فِي وَطَنِهِمْ؛ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْلُّبِهِمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَصَوْنِ حَرِيمِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي مَعَائِشِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ.

وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ، فَيَقْضِيَ عَلَى شَرَفِ دِينِهِمْ، وَيَمْنَعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَمُقْتَنَيَاتِهِمْ، وَيَهْتِكَ حُرَمَهُمْ، وَيَمْحُوَ تَارِيخَ مَجْدِهِمْ، وَيُفْنِيَ لُغَتَهُمْ وَعُلُومَهُمْ فِي رَطَانَتِهِ وَعَوَائِدِهِ.

فَكُلُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ مِمَّا يَنْوِيهِ الْعَدُوُّ الْغَاصِبُ لِلْوَطَنِ تِلْقَاءَ أَهْلِهِ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ دُونَهُ لِوَجْهِ اللهِ وَفِي سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَحَابُّوا وَلَا يَتَعَادَوْا، وَأَنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا، وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِمْ، وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَذْمُومَةِ؛ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْجِنْسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ.

أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: ((أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ)).

فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، إِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ)).

وَمِيزَانُ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَمَا أَشَدَّ جُرْمَ مَنْ يَسْعَى لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى، وَإِطْلَاقِ الْغَرَائِزِ مِنْ قُيُودِهَا!!

وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَنْ سَعْيُهُ لِإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الْإِسْلَامِ فِي بَلَدٍ يُنَعَّمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

وَمِنَ الْوَفَاءِ لِلْوَطَنِ: الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ وَعَدَمُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَائِلُكَ، وَأَنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَاخِذَ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَكَ.

الدَّمُ وَالْمَالُ.. إِيَّاكَ أَنْ تَعْتَدِيَ عَلَى مَالِ أَخِيكَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَحَرَّمَ الْغَصْبَ، وَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.

الْيَوْمَ عِنْدَمَا تَنْظُرُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.. مَالِي وَمَالِكَ، مَالِ كُلِّ مَنْ يَقْطُنُ هَذَا الْبَلَدَ، مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، الْمَالُ الْعَامُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ . تَجِدُ النَّاسَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.. وَهُوَ مَالٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْيَانِهِمْ.. لَا يَرْقُبُونَ فِي هَذَا الْمَالِ الْعَامِّ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا يُرَاعُونَهُ بِحَالٍ أَبَدًا!!

لا يَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِ وَاحِدٍ وَلَا فِي وِجْدَانِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْإِثْمَ فِيهِ أَكْبَرُ مِنَ الْإِثْمِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلَى مَالٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي أَرْوَاحِنَا مِنْ دِمَاءٍ، وَمَا فِي عُرُوقِنَا مِنْ دِمَاءٍ.


((الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ مَعَ النَّاسِ كَافَّةً))

مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ الْعُقُودُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ؛ كَعُقُودِ الشَّرِكَاتِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ التِّجِارِيَّةِ؛ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)).

إِنَّ الْإِخْلَالَ بِمُقْتَضَيَاتِ الْعُقُودِ أَكْلٌ لِلسُّحْتِ، وَأَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ؛ كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ، وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.

وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ لَهُ وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

وَمِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ: الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الدُّوَلِ الْأُخْرَى؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا الْعَهْدَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِ الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي عَاهَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُعَاوِنُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا مِنْ عَدَوِّكُمْ كَمَا عَاوَنَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَلَا تُجْرُوهُمْ مَجْرَى النَّاكِثِينَ، وَلَا تَجْعَلُوا الْوَفِيَّ كَالْغَادِرِ.

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ وَلَا يَبْدَءُونَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى تَقْوَاهُمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

وَمِنَ الْخِيَانَةِ: نَقْضُ الْعَهْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].

فَنَفِي بِعُهُودِنَا مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِي حُرُمَاتِهِمْ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ لَا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

فَإِذَا كَانَ الذِّمِّيُّ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَّةُ وَالْكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الْجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعْظَمَ، وَإِنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ؛ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ الْقَاتِلِ الْجَنَّةَ.

وَتَأْشِيرَةُ الدُّخُولِ الَّتِي يُشْتَرَطُ تَوَفُّرُهَا لِدُخُولِ أَيِّ أَجْنَبِيِّ لِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ تُمَثِّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عَقْدًا يُشْبِهُ عَقْدَ الْأَمَانِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، لَا سِيِّمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ التَّأْشِيرَةُ صَادِرَةً بِنَاءً عَلَى دَعْوَةٍ مُقَدَّمَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ لِأَجْنَبِيٍّ لِزِيَارَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلْعَمَلِ بِهَا.

وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السَّائِحَ أَوِ الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَمَا يُقْبِلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ, عِنْدَمَا يَحْصُلُ عَلَى تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ, وَلَا يُتَصَوَّرُ قَبُولُهُ لِلْمَجِيءِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّأْشِيرَةَ لَا تَعْنِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ -أَيْ: مِنْ تَأْمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ-.

*وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا: مِيثَاقُ الزَّوَاجِ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِيثَاقًا غَلِيظًا؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20-21].

{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ عَهْدًا شَدِيدًا مُؤَكَّدًا؛ وَهِيَ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ.

وَعَنْ عُقْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: مُعَامَلَةً تَلِيقُ بِأَمْثَالِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مَا يُسْتَنْكَرُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالتَّلَطُّفِ بِهِنَّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَعَدَمِ إِيذَائِهِنَّ، فَإِنْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ، فَاصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ مَعَ الْفِرَاقِ.

فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيْجَعْلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ خَيْرًا كَثِيرًا.

فَعَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْعَلَاقَاتِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ أَجَلِّ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَوْ سَارَتْ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

*وَمِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ: قِيَامُ الْمُوَظَّفِ بِحُقُوقِ عَمَلِهِ؛ فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

وَكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَمَلٌ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ أَكَلَ مِنْ حَرَامٍ إِنْ كَانَ مُتَحَصِّلًا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى أَجْرٍ؛ شَاءَ أَمْ أَبَى.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانَ مُوَظَّفًا يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ فِي مُقَابِلِ عَمَلِهِ.. كَثِيرٌ مِنْهُمْ -بَلْ جُلُّهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ، هُمْ أُجَرَاءُ، مُسْتَأْجَرُونَ عَلَى حَسَبِ عَقْدٍ مُبْرَمٍ وَلَائِحَةٍ لَهَا بُنُودٌ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ بَدْءًا.

وَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، وَهُوَ مُغَذٍّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَانٍ بَيْتَهُ، وَمُقْتَنٍ مَرْكُوبَهُ.. مِنْ حَرَامٍ!

هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَظِيفَةُ فِي نَفْسِهَا بِعَقْدٍ عَلَى مَا يَحِلُّ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا شَرَعَ اللهُ.

فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي مَاخُورٍ يُقَدِّمُ الْخُمُورَ، وَيَقُومُ عَلَى الْعَمَلِ مُتَفَانِيًا فِيهِ بِإِخْلَاصٍ، يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِهِ بِعَرَقِ جَبِينِهِ!!

فَأَيُّ حُرْمَةٍ تَلْحَقُهُ، وَالْعَمَلُ حَرَامٌ فِي أَصْلِهِ؟!!

وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ حَلَالًا -كَالْغَالِبِ عَلَى جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ- فَوَقَعَ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ هَاهُنَا يَكُونُ مِنْ حَرَامٍ، وَمَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ لَحِقَتْهُ الْحُرْمَةُ لَا مَحَالَةَ.

فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِي مِهْنَةٍ هِيَ حَلَالٌ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ؛ لَا يُؤَدِّيهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَيَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَعَاقَدَ عَلَيْهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ.

((ثَمَرَاتُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ لِلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ قِيمَةً إِنْسَانِيَّةً وَأَخْلَاقِيَّةً عُظْمَى؛ لِأَنَّهُ يُرْسِي دَعَائِمَ الثِّقَةِ فِي الْأَفْرَادِ وَيُؤَكِّدُ أَوَاصِرَ التَّعَاوُنِ فِي الْمُجْتَمَعِ.

قَالَ الرَّاغِبُ فِي ذَلِكَ: ((الْوَفَاءُ أَخُو الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْغَدْرُ أَخُو الْكَذِبِ وَالْجَوْرِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْوَفَاءَ صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْفِعْلِ مَعًا، وَالْغَدْرَ كَذِبٌ بِهِمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعَ الْكَذِبِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ.

وَالْوَفَاءُ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ، فَمَنْ فُقِدَ فِيهِ الْوَفَاءُ فَقَدِ انْسَلَخَ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَهْدَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَصَيَّرَهُ قِوَامًا لِأُمُورِ النَّاسِ، فَالنَّاسُ مُضْطَرُّونَ إِلَى التَّعَاوُنِ، وَلَا يَتِمُّ تَعَاوُنُهُمْ إِلَّا بِمُرَاعَاةِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَنَافَرَتِ الْقُلُوبُ وَارْتَفَعَ التَّعَايُشُ، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ -تَعَالَى- أَمْرَهُ فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ أَيْ: نَزِّهْ نَفْسَكَ عَنِ الْغَدْرِ.

وَقَدْ عُظِّمَ حَالُ السَّمَوْأَلِ فِيمَا الْتَزَمَ بِهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِدُرُوعِ امْرِئِ الْقَيْسِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ قَدَّرَهَا عَرَبُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَقَرَّهُمُ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُونَ، وَلِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 103].

وَقَدْ ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْعِزَّةِ؛ فَقَالَتِ الْعَرَبُ: «هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ»؛ أَيْ: أَنْدَرُ مِنْهُ، بِحَيْثُ إِنَّكَ رُبَّمَا لَمْ تَرَهُ حَيَاتَكَ كُلَّهَا.

*وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ رِعَايَةِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ: الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ بِأَعْلَى الْجَنَّةِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.. ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَوْصَافَهُمْ؛ وَمِنْهَا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8 - 11].

وَالَّذِينَ هُمْ قَائِمُونَ بِحِفْظِ كُلِّ مَا اؤْتُمِنُوا عَلَيْهِ، مُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا اللهَ -تَعَالَى- وَالنَّاسَ عَلَيْهِ؛ كَالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَمْوَالِ الْمُودَعَةِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالْعُقُودِ وَنَحْوِهَا.

الَّذِينَ يَرِثُونَ أَعْلَى الْجَنَّاتِ وَأَفْضَلَهَا، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ، وَلَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُمْ وَلَا يَزُولُ.

*وَرَتَّبَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].

وَمَنْ أَتَمَّ الْعَمَلَ بِكُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ فِي مُبَايَعَتِهِ الَّتِي بَايَعَ عَلَيْهَا؛ فَسَيُعْطِيهِ اللهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجْرًا عَظِيمًا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ.

*مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ أَيْضًا: أَنَّ اللهَ وَصَفَ الْمُوفِينَ بِعُهُودِهِمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا اللهَ أَوِ النَّاسَ، وَأَخُصُّ بِالْمَدْحِ الصَّابِرِينَ فِي الْفَقْرِ وَالْجُوعِ، وَالْمَصَائِبِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَحِينَ شِدَّةِ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِصَبْرِهِمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْبِرِّ.

أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَأولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ: التَّقْوَى وَمَحَبَّةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ قال -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].

عَلَى أَيِّ حَالٍ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ النَّاقِضِينَ لِلْعُهُودِ مِرَارًا عَهْدٌ مُحْتَرَمٌ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ.. عَلَى أَيِّ حَالٍ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟!!

فَلَا تَأْخُذُوا بِعُهُودِهِمْ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نُكْثٌ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ.

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ إِذَا عَاهَدُوا، وَيَتَّقُونَ نَقْضَهُ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى تَقْوَاهُمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ضَاعَفَ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى أَعْمَالِهِ وَزَادَهُ مِنْهُ قُرْبًا، وَغَمَرَهُ بِفُيُوضِ عَطَاءَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَثْنَى عَلَى الْمُوفِينَ بِعَهْدِ اللهِ؛ فَوَصَفَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19-20].

أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لَهُمْ صِفَاتٌ؛ مِنْهَا: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ الَّذِي عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَيُتِمُّونَ فِعْلَ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ مِنْ أَوَامِرَ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ نَوَاهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْقُضُونَ أَيَّ عَهْدٍ مُؤَكَّدٍ يُعْطُونَهُ لِأَحَدٍ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ اللهِ أَمْ مَعَ عِبَادِ اللهِ.

*وَمِنْ أَكْبَرِ ثَمَرَاتِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ وَأَجْمَعِهَا: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].

وَامْتَثِلُوا أَمْرِي وَأَدُّوهُ وَافِيًا، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أُوفِ بِمَا عَاهَدْتُكُمْ عَلَيْهِ؛ مِنْ طِيبٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحُسْنِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.

((عَاقِبَةُ نَقْضِ الْعُقُودِ وَالْعُهُودِ))

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ سَتَكُونُ وَبَالًا وَخُسْرَانًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].

مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَكَثَ الْبَيْعَةَ فَإِنَّ وَبَالَ ذَلِكَ وَضَرَرَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَخْطَرِ أَلْوَانِ نَقْضِ الْعَهْدِ؛ قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

إِنَّ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ عَهْدَ اللهِ وَأَيْمَانَهُمْ كَاذِبِينَ مُقَابِلَ ثَمَنٍ قَلِيلٍ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي أَغْرَتْهُمْ فَأَغْوَتْهُمْ فَيَحْصُلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ، أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي نَعِيمِهَا.

وَلَا يُوَاجِهُهُمُ اللهُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْحِسَابِ، بَلْ يُحَاسِبُهُمْ كِخِطَابِ الْغَائِبِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لِعِظَمِ جَرِيمَتِهِمْ؛ إِذْ كَفَرُوا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كَفَرُوا بِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ.

وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِجَمِيلٍ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فِي الْآخِرَةِ؛ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ وَفَائِهِمْ بِعَهْدِ اللهِ، وَجَزَاءَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفُوهَا وَوَثَّقُوا بِهَا الْعُهُودَ الَّتِي أَعْطَوْهَا لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَيَتَّبِعُوهُ.

وَجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةً جَزَاءَ نَقْضِ عَهْدِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].

فَبِسَبَبِ نَقْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللهِ الْمُؤَكَّدَ؛ عَاقَبْنَاهُمْ بِعُقُوبَتَيْنِ..

الْأُولَى: أَبْعَدْنَاهُمْ وَطَرَدْنَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.

وَالثَّانِيَةُ: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ غَلِيظَةً يَابِسَةً، مَنْزُوعَةً مِنْهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ، مَشُوبَةً بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ طَالَ عَلَيْهِ الْأَمَدُ فِي الْعِصْيَانِ وَارْتِكَابِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَالْعُدْوَانِ قَسَا قَلْبُهُ، وَجَفَّتْ مَنَابِعُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ فِيهِ، وَهِيَ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا هَذِهِ الْقُلُوبُ ضِمْنَ سُنَنِ اللهِ السَّبَبِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

وَالْأَشْقِيَاءُ الَّذِينَ عَطَّلُوا عُقُولَهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ، وَلَمْ تَعْقِلْهُمْ عُقُولُهُمْ عَنِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ، فَهُمْ يَسْتَجْمِعُونَ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ مِنْ خِصَالِ السُّوءِ..

الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَوَامِرَ اللهِ وَلَا يَفُونَ بِعَهْدِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَوْثَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ خِصَالِ السُّوءِ: فَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَغَيْرِهَا.

وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، وَنَشْرِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَأَنْوَاعِ الْفَوَاحِشِ، وَبِالْمُجَاهَرَةِ الْوَقِحَةِ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَبِالْإِضْرَارِ بِالْآخَرِينَ وَالْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ.

أُولَئِكَ الْمُسْتَجْمِعُونَ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْقَبِيحَةِ.. أُولَئِكَ لَهُمُ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَهُمُ الْعَاقِبَةُ السَّيِّئَةُ وَهِيَ النَّارُ دَارُ الْعَذَابِ الَّتِي يَنْقَلِبُونَ إِلَيْهَا.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

*وَمِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ: الْفَضِيحَةُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يِوَمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ)).

*مِنْ آثَارِ نَقْضِ الْعُهُودِ: الْوَصْفُ بِالنِّفَاقِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.

((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ بِجَحْدِ مَا عَلَيْهِ، وَبِادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَائِنٌ.. خَانَ الْأَمَانَةَ، يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَجْحَدُ مَا عَلَيْهِ.

((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)): فَلَا ذِمَّةَ لَهُ تَقُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَدْرُ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَالنَّقْضُ لِلْوَعْدِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ النِّفَاقُ بِخَصْلَتِهِ.

وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النُّفُوسِ الْمَرِيضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ, لَا تَجِدُ الرَّجُلَ صَاحِبَ الْمُرُوءَةِ يُنَافِقُ أَبَدًا!!

*وَمِنْ أَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ: تَسْلِيطُ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَنَهْبُهُمْ لِثَرْوَاتِهَا؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَيَتَخَيِّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ أَمَانَةٌ، عَلَى الْعَبْدِ حِفْظُهَا بِالْقِيَامِ التَّامِّ بِهَا، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْآدَمِيِّينَ؛ كَأَمَانَاتِ الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ وَنَحْوِهِمَا، فَعَلَى الْعَبْدِ مُرَاعَاةُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَتَيْنِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨].

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ, وَالَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَهِيَ الِالْتِزَامَاتُ وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْعَبْدُ، فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهَا وَالْوَفَاءُ بِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْرِيطُ فِيهَا وَإِهْمَالُهَا.

عَبْدَ اللهِ! عُدْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي هَذَا الْخُلُقِ الْأَصِيلِ؛ فَاقْتَبِسْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْفَاضِلَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يُطَهِّرَنَا مِنْ أَضْدَادِهَا بِرَحْمَتِهِ وَمِنَّتِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

المصدر:الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  حدث في رمضان
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَشَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ
  الصائمون المفلسون
  الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان