وَنَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنَا

وَنَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنَا

((وَنَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنَا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ النَّافِعَةُ الْعَصْرِيَّةُ

دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ))

((فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

وَقَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3-5].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. [البقرة: 164].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].

وَقَالَ تَعَالَى: { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى جَمِيعِ عُلُومِ الْكَوْنِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَنَافِعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ.

وَعُلُومُ الْبَشَرِ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالنَّتَائِجِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: عُلُومٌ دِينِيَّةٌ تُعَرِّفُ الْعِبَادَ بِاللهِ؛ بِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَتُبَيِّنُ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْقِصَصِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.

الثَّانِي: عُلُومٌ كَوْنِيَّةٌ مَوْضُوعُهَا النَّظَرُ فِي الْكَوْنِ وَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلْعِبَادِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفَهْمُهَا، وَتَصْوِيرُهَا وَإِبْرَازُهَا بِالْعَمَلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَاسْتِخْرَاجُ مَنَافِعِهَا.

وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِيهِ بَيَانُ النَّوْعَيْنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ إِلَّا وَقَدْ هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَدَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَصَّلَهَا تَفْصِيلًا لَا يُبْقِي فِيهَا لَبْسًا وَلَا إِشْكَالا؛ خُصُوصًا مَا يَحْتَاجُهُ كُلُّ فَرْدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.

وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ جَعَلَ لَهَا قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ تُرَدُّ إِلَيْهَا الْحَوَادِثُ الْجُزْئِيَّةُ، فَتُطَبَّقُ الْمُعَيَّنَاتُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ.

وَالْعُلُومُ الْكَوْنِيَّةُ يُرْشِدُ الْعُقُولَ إِلَى التَّفْكِيرِ فِيهَا، وَاسْتِخْرَاجِ عُلُومِهَا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّهَا وَسَخَّرَهَا لِمَنَافِعِهِمُ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا، وَاسْتِخْرَاجِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ.

وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَ لَنَا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَنَا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِهِ نَسْتَنْفِعُ، وَبِهِ نَنْتَفِعُ.

وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُحَصِّلُ لَنَا هَذِهِ النِّعَمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا، وَخَلَقَ أَعْمَالَنَا بِمَا يَسَّرَ، وَسَخَّرَ لَنَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي نُدْرِكُ بِهَا الْأَعْمَالَ وَالنَّتَائِجَ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَجَعَلَهُ قَابِلًا لِتَعَلُّمِ الْعُلُومِ كُلِّهَا؛ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ.

وَهَذَا الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ، كَمَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ وَهَذِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَكُلُّهَا نِعَمٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي حَصَلَ لَهُ فِيهَا الْعِلْمُ الدِّينِيُّ وَالْكَوْنِيُّ، كَمَا أَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ رِزْقَهُ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْأَرْضِ الْمَنَافِعَ الْمُتَنَوِّعَةَ، وَهُوَ الَّذِي يَسَّرَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي يُرْسِلُهُمْ إِلَيْهَا، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِخْرَاجِهَا، وَرَبَطَ الْبَشَرَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، وَآثَارِهَا وَنَتَائِجِهَا، وَجَعَلَ هَذَا الِارْتِبَاطَ الْمُتَنَوِّعَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا كُلُّ مَقْدُورٍ لِلْبَشَرِ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي إِمْكَانِهِمْ.

وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

* إِمَّا أَنْ يَسْتَعِينُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَحُقُوقِ سَائِرِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى الْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالصَّلَاحِ، وَالسَّعَادَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ؛ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَقِيَتْ لَهُمُ النِّعَمُ، وَبُورِكَ لَهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَزَالُوا فِي صُعُودٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَنْجَاةٍ مِنَ الشُّرُورِ وَالْهَلَكَاتِ، وَتَمَكَّنُوا أَنْ يَحْيَوْا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً سَعِيدَةً هَنِيئَةً.

وَبِهَذَا أَمَرَ الْقُرْآنُ، وَلِهَذَا أَرْشَدَ الْقُرْآنُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ ضِدِّهِ؛ وَهُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالنِّعَمِ عَنِ الْمُنْعِمِ، وَجَعَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ الْمَادِّيَّةَ غَايَةَ مَطْلُوبِهِمْ وَمُرَادِهِمْ، وَلَمْ يَقُومُوا بِحُقُوقِ الْمُنْعِمِ بِهَا، وَلَا حَنَوْا بِهَا عَلَى الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ؛ كَانَتْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ وَضَرَرًا لَازِمًا، وَصَارَتْ آلَاتٍ وَوَسَائِلَ لِلْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالشَّقَاءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَعِيشُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عِيشَةً هَنِيئَةً، بَلْ عِيشَةَ شَقَاءٍ وَتَنَقُّلٍ مِنْ شَرٍّ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهُ.

وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الرُّقِيَّ الْحَقِيقِيَّ الصَّحِيحَ هُوَ بِاسْتِصْحَابِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ، وَامْتِزَاجِ كُلِّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَتَعَاوُنِهِمَا وَتَسَاعُدِهِمَا عَلَى سُلُوكِ طُرُقِ الصَّلَاحِ الْمُطْلَقِ، وَالسَّعَادَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالنِّعَمِ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ؛ لِتَتِمَّ النِّعَمُ، وَتَكْمُلَ السَّعَادَةُ.

وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ؛ بَلْ هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَلُبُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ، وَسَخَّرَ لَنَا مَا فِي الْكَوْنِ لِنَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَنَرْتَفِعَ بِمَا أَحَلَّهُ لَنَا وَأَبَاحَهُ.

وَفِي إِخْبَارِهِ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:

* أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ عَظِيمَةً، وَكُنُوزًا وَخَزَائِنَ قَدْ أَعَدَّهَا اللهُ لَنَا، وَجَعَلَهَا مُهَيَّئَةً مُمْكِنًا اسْتِخْرَاجُهَا وَتَحْصِيلُهَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ حَثًّا لَنَا عَلَى تَعَلُّمِ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا نُدْرِكُهَا وَنُحَصِّلُهَا، وَنُنَمِّيهَا وَنُكَمِّلُهَا؛ فَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِوُجُودِ الْمَنَافِعِ الْمُتَنَوِّعَةِ لِكُلِّ الْحَاجَاتِ، وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقٍ مِنْ عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ، وَاخْتِبَارَاتٍ وَتَجَارِبَ، وَأَنَّ مَنَافِعَهَا لَا تَزَالُ تُوجَدُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ؛ فَكُلُّ مَا تَمَّ وَيَتِمُّ لِلْبَشَرِ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؛ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِكْمَالِ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي تُجْلَبُ بِهَا الْمَصَالِحُ، وَتُدْفَعُ بِهَا الْمَضَارُّ.

وَلَقَدْ صَرَّحَ -تَعَالَى- فِي قَوْلِهِ: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]؛ حَيْثُ جَاءَ بِهَا فِي صِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ.. صَرَّحَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ بِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ، وَإِقْدَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُتَنَوِّعَةِ، يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ وَقْتَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.

وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا حَدَثَ وَيَحْدُثُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ بِأَسْمَائِهَا وَلَا بِأَوْصَافِهَا، بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِلَوَازِمِهَا الدَّالَّةِ عَلَى مَلْزُومِهَا لِحِكْمَةٍ يَفْهَمُهَا كُلُّ مُتَأَمِّلٍ مُتَدَبِّرٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَوْصَافِ الْمُخْتَرَعَاتِ الَّتِي تَجِدُّ مَعَ تَقَدُّمِ الزَّمَانِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّهَا سَتَكُونُ الطَّيَّارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا، وَالسَّيَّارَاتُ الْبَرِّيَّةُ وَالْبَحْرِيَّةُ، وَالْغَوَّاصَاتُ بِأَجْنَاسِهَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَتَخَاطَبُونَ فِيمَا بَعْدُ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا؛ لَوْ أَخْبَرَهُمْ بِبَعْضِ ذَلِكَ لَمْ يُصَدِّقُوا وَلَارْتَابُوا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُشَاهِدُوهَا، وَلَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا.

وَلَكِنْ -وَللهِ الْحَمْدُ- أَخْبَرَ بِنُصُوصٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِخْبَارَاتٍ عَامَّةً؛ لِتَشْمَلَ جَمِيعَ مَا حَدَثَ وَيَحْدُثُ، وَأَخْبَرَ بِلَوَازِمِهَا عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ؛ بِحَيْثُ إِذَا حَدَثَتِ الْجُزْئِيَّاتُ أَمْكَنَ إِدْخَالُهَا فِي تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ، وَذَلِكَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَإِخْبَارِهِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَعِنْدَ وُقُوعِهَا يَزْدَادُ الْمُؤْمِنُ إِيمَانًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَزْدَادُ الْمُكَذِّبُ إِعْرَاضًا وَنُفُورًا وَتَمَرُّدًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96-97].

وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

وَكَمَا أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَرْضَ فِيهَا مَنَافِعُ وَخَزَائِنُ عَظِيمَةٌ سَخَّرَهَا لِلْآدَمِيِّينَ؛ أَخْبَرَ كَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْفَعَةً دُونَ أُخْرَى؛ لِيَشْمَلَ وَيَعُمَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ بِالْحَدِيدِ سَابِقًا وَلَاحِقًا.

فَكُلُّ مَنْفَعَةٍ اسْتُخْرِجَتْ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْحَدِيدِ مُنْفَرِدَةً أَوْ مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا أَوْ مُسَاعِدَةً بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.

وَكُلُّ تَعْلِيمٍ حَصَلَ لِلْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشِذَّ عَنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ، وَالْمَنَافِعِ، وَالِاخْتِرَاعَاتِ، وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَالنَّتَائِجِ لَهَا وَالثَّمَرَاتِ، وَكُلُّهَا مِنَ اللهِ بِمَا يَسَّرَهُ لِلْعِبَادِ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يُدْرِكُونَهَا، وَيَسْتَخْرِجُونَهَا بِهَا؛ فَمَنِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ؟!

وَمَنِ الَّذِي أَقْدَرَهُمْ عَلَى مَا عَلَيْهِ يَقْتَدِرُونَ؟!

وَمَنِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْكَوْنِ الْمَنَافِعَ وَالْخَزَائِنَ وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا؟!

مَنِ الَّذِي يَسَّرَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-!

وَكَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَرْزُقُ الْخَلَائِقَ، وَيُصَرِّفُهُمْ، وَيُدَبِّرُهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّدَابِيرِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْصُلُ فِيهَا هَذِهِ الْأُمُورُ؛ فَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ نَتَائِجِهَا؛ وَلَكِنَّ الْجَاحِدَ قَاصِرُ النَّظَرِ يَقِفُ عِنْدَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى مُسَبِّبِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَالْمُنْعِمِ بِهَا.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْحَثُّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ الْكَوْنِ كُلِّهَا، وَالنَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا أَنْ سَخَّرَ لِلْعِبَادِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا مُعَدَّةً وَمُهَيَّأَةً لِمَنَافِعِهِمْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا -أَيْ: بِهَذِهِ الْآيَاتِ- فَقَطْ مُجَرَّدَ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ؛ مَقْصُودًا لِتَحْصِيلِ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَهُوَ حُصُولُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَمَعْرِفَةُ قُدْرَةِ اللهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ، وَالدَّالَّةِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ الَّتِي مَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ شَيْئًا فَشَيْئًا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: ثَمَرَةُ هَذِهِ الْعُلُومِ؛ مِنْ عُبُودِيَّةِ اللهِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَمِنْ تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا الَّتِي تُفِيدُ الْعِبَادَ، وَتُصْلِحُ أَحْوَالَهُمْ، وَتَتِمُّ بِهَا أَحْوَالُهُمْ، وَيَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَصَالِحَ، وَيَدْفَعُونَ بِهَا الْمَضَارَّ.

لَقَدْ وَضَحَ أَنَّ عُلُومَ الْكَوْنِ الَّتِي تُسَمَّى فِي الْعُرْفِ (الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ) دَاخِلَةٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَرْشَدَ إِلَيْهَا، وَهَدَى الْعِبَادَ إِلَيْهَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى إِعْمَالِ أَفْكَارِهِمْ فِي تَحْقِيقِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَأَنَّ جَمِيعَ الصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ، وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْإِرْشَادَاتِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى لِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَرَحْمَةٌ تَشْمَلُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالسَّعَادَةِ وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ إِلَّا بِالْتِزَامِ هَدْيِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَهَى الْعِبَادَ عَمَّا سِوَاهُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فَهَذَا خَبَرُهُ -تَعَالَى- عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أَنَّهُ سَيُرِي عِبَادَهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ فِي الْكَوْنِ -أَيْ: فِي الْآفَاقِ- وَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالرَّسُولَ حَقٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ فَعَلَ -جَلَّ وَعَلَا-، فَأَرَاهُمْ مِنْ آثَارِ اخْتِرَاعَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَسَّرَهَا لَهُمْ -خُصُوصًا فِي هَذَا الْعَصْرِ- مَا تَبَيَّنَ بِهِ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّ خَبَرَ اللهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ حَقٌّ)).

((الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْمِهَنِ

فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

((لَقَدْ أَمَرَ -تَعَالَى- بِفِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصَّلُ بِهَا الْأَرْزَاقُ؛ مِنْ تِجَارَاتٍ، وَصِنَاعَاتٍ، وَحِرَاثَاتٍ، وَحِرَفٍ، وَمِهَنٍ، وَغَيْرِهَا.

وَامْتَنَّ عَلَى الْعِبَادِ بِتَيْسِيرِهَا، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَالْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ؛ فَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- بَعْدَ أَنْ أَمَرَ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْفُرُوضِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].

أَيْ: بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَصِنَاعَةٍ، وَحِرَاثَةٍ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [المزمل: 20].

مُسَافِرُونَ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِيَسْتَغْنُوا عَنِ الْخَلْقِ، وَيَتَكَفَّفُوا عَنِ النَّاسِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].

أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ ابْتِغَاءَ فَضْلِ اللهِ بِالتَّكَسُّبِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ إِذَا لَمْ يَشْغَلْ عَمَّا يَجِبُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحَجَّ، وَكَانَ الْكَسْبُ حَلَالًا مَنْسُوبًا إِلَى فَضْلِ اللَّهِ، لَا مَنْسُوبًا إِلَى حِذْقِ الْعَبْدِ وَالْوُقُوفِ مَعَ السَّبَبِ وَنِسْيَانِ الْمُسَبِّبِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْحَرَجُ بِعَيْنِهِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ اللَّيْلَ لِرَاحَةِ الْبَشَرِ، وَالنَّهَارَ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ؛ قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ: 10-11].

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ سِتْرًا وَغِطَاءً، وَقَطْعًا لِلْحَرَكَةِ، وَتَحْصِيلًا لِلرَّاحَةِ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَقْتًا لِطَلَبِ الْعَيْشِ وَالرِّزْقِ، وَتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَالْحَيَاةِ.

وَقَدْ شَرَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعِبَادِهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ؛ وُصُولًا إِلَى الْغَرَضِ، وَدَفْعًا لِلْحَاجَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275].

وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِغْلَالٍ وَضَيَاعٍ وَهَلَاكٍ.

وَجَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقِ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.

وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنَ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، تَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي خَلْقِ اللهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَتَسْخِيرِهَا لِلْإِنْسَانِ، يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الصِّنَاعَاتِ الْحَدِيثَةِ قَامَتْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ وَالتَّذْلِيلِ: قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

اللهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.

اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَابِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.

كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛ فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.

وَأَمَرَ اللهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَطَالِبِ دُنْيَاهُ بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، أَوْ مَطَالِبِ آخِرَتِهِ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].

فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنْ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مِنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَحَقِيقَةِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ أَيْضًا الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مِنْ أُصُولِ الْعَدْلِ وَفُرُوعِهِ، وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ إِذَا عَمِلُوا بِهَا فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ.

فَمَتَى عَمِلُوا بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ صَلَحَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ.

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَخَصَّ مَنَافِعَهُ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَمَّمَهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَالْحَدِيدُ أَنْزَلَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.

فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللهُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ؛ الْأَمْرُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّمَ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَتَوَابِعِهَا، وَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60])).

((هَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ)).

عِبَادَ اللهِ! لَيْسَ الْإِسْلَامُ دِينُ بَطَالَةٍ أَوْ تَوَاكُلٍ، أَوْ سُؤَالٍ وَكَسَلٍ وَخُمُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دِينٌ يُحَفِّزُ أَتْبَاعَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ، وَيَمْقُتُ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْآخَرِينَ؛ فَهُوَ يُشَخِّصُ الدَّاءَ وَيَضَعُ الدَّوَاءَ، وَيَتَبَيِّنُ مَدَى حِرْصِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَسْبِ الْمَشْرُوعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى العَمَلِ، وَبَيَّنَ ﷺ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ عَلَى نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- وَعَلَى أَهْلِكَ، وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

وَمِنْ دَلَائِلِ حَثِّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:

* الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.

* وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.

وَالْحَدِيثُ يُفْهَمُ فَهْمًا مَضْبُوطًا، وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي فَهْمِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ فِي الْوُكُنَاتِ وَفِي الْأَعْشَاشِ لَا تَبْقَى فِي أَعْشَاشِهَا، وَإِنَّمَا تُبَكِّرُ فِي الذَّهَابِ لِالْتِقَاطِ رِزْقِهَا.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»: وَالْغُدُوُّ: هُوَ الْخُرُوجُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، فَتَغْدُو هَذِهِ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا وَوُكُنَاتِهَا مِنْ أَجْلِ الْتِقَاطِ رِزقِهَا، مُبَكِّرَةً مَعَ خُيُوطِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ، سَاعِيَةً فِي أَرْضِ اللهِ، لَكِنَّهَا لَا تَحْمَلُ لِرِزْقِهَا هَمًّا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْزُقُهَا كَمَا رَزَقَهَا الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ رِزْقٍ.

وَالْحَيَاةُ وَالْأَجَلُ يَرْتَبِطَانِ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا مُبَاشَرًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَحْيَا كَائِنٌ حَيٌّ بِغَيْرِ رِزْقٍ، يَقُولُ النَّاسُ: «فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ»، وَلَنْ تَجِدَ أَبَدًا أَنَّ فُلَانًا حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، فَارْتِبَاطُ الْأَجَلِ بِالرِّزْقِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ بِصَيْرُورَةٍ تَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا أَجَلَ وَلَا رِزْق.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الطُّيُورَ تَغْدُو مُبَكِّرَةً مِنْ أَعْشَاشِهَا، تَطْلُبُ رِزْقَهَا، تَلْتَقِطُهُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، لَا تَحْمِلُ لَهُ هَمَّا، «خِمَاصًا»: جَمْعُ أَخْمَصٍ، وَهَذَهِ الْحَوَاصِلُ الْخُمْصُ قَدْ الْتَزَقَتْ لُحُومُهَا بِبَعْضِهَا، بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَحْوِي شَيْئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»: وَقَدْ امْتَلَأَتْ بُطُونُهَا وَحَوَاصِلُهَا، مِنْ أَيْنَ؟!!

مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هَلْ قَدَّرَتْ لِذَلِكَ تَقْدِيرًا؟!!

هَلْ وَضَعَتْ لَهُ خُطَّةً لِلْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ اكْتِسَابِهِ؟!!

إِنَّمَا أَخَذَتْ بِالْأَسْبَابِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيتُهُ بِيَدِهِ.

وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.

((الْعَمَلُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ))

إِنَّ طَلَبَ الْمَعَاشِ وَاكْتِسَابَ الرِّزْقِ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20].

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ؛ طَلَبًا لِمَعَاشِهِمْ وَلِاكْتِسَابِ أَرْزَاقِهِمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ السَّابِقِينَ، وَمَا أَنَا إِلَّا رَسُولٌ، وَمَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ كَانُوا بَشَرًا مِثْلِي يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ.

وَحَكَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7].

وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مُتَعَجِّبِينَ: أَيُّ شَيْءٍ اخْتُصَّ بِهِ مُحَمَّدٌ حَتَّى اسْتَطَاعَ بِسَبَبِهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كَمَا نَأْكُلُ نَحْنُ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا نَمْشِي يَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ؟!!

((إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].

وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟

قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ))؛ أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ؛ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)). هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يَكْتَسِبُ مِنْهَا، فَلَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ شُغِلَ عَنْ حِرْفَتِهِ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرَضَ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَآلُهُ.

وَقَوْلُهُ: ((وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ))؛ أَيْ: أَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَمْيِيزِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ -وَكَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مَشْغُولًا-، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى...)) الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!))؛ يَتَعَجَّبُ مِنْ حَالِهِ.

ثُمَّ قَالَ: ((أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ))؛ يَعْنِي: الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ.

الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.

فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ يُتَاجِرُ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَمَّا فَاتَتْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ سُنَنِ الِاسْتِئْذَانِ صَارَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، قَالَ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ)).

وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ)).

فَقَالَا: ((كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَ((الصَّرْفُ)): مُبَادَلَةُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ، يُعْرَفُ الْآنَ بِبَيْعِ الْعُمْلَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).

قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.. فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-...)).

وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثُ.

قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!

فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَ ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-)).

((أَهَمِّيَّةُ إِتْقَانِ الْعَمَلِ وَدَلَائِلُهُ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّهُ لَا يَكْفِي الْفَرْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَمَلَ صَحِيحًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتْقَنًا؛ فَهَل يَعِي ذَلِكَ الْمُسلِمُونَ وَيَسْعَوْنَ إِلَى جَعْلِهِ مِيزَةً لِشَخْصِيَّاتِهِمْ وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمَبْدَأً يَنْطَلِقُونَ مِنْهُ فِي مُؤَسَّسَاتِ الْعِلْمِ وَمَيَادِينِ الْعَمَلِ وَأَسْوَاقِ الصِّنَاعَةِ، لِيَصِلُوا بِهِ إِلَى الْإِنجَازِ وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!!.

إِنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ وَالتَّمَيُّرَ فِيهِ وَالْقِيَامَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِإِتْقَانٍ وَإِبْدَاعٍ؛ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ الْإِلَهِيِّ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَدِينُنَا الْحَنِيفُ لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ، إِنَّمَا يَطْلُبُ إِتْقَانَهُ وَإِحْسَانَهُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).

إِنَّ دِينَنَا دِينُ الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عُنِيَ عِنَايَةً بَالِغَةً بِذَلِكَ، سَوَاءٌ فِي مَجَالِ الصِّنَاعَةِ أَمْ فِي مَجَالِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا يُمْكِنَ أَنْ تَنْهَضَ أَوْ تَتَقَدَّمَ بِلَا إِتْقَانٍ، وَدَوْرُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِتْقَانَ ثَقَافَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْإِتْقَانُ هُوَ الْأَصْلُ فِي حَيَاتِنَا وَمَا عَدَاهُ هُوَ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ الْقَبُولُ بِهِ.

إِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْقَانِ فِي أَعْمَالِهِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ؛ إِحْكَامًا وَإِكْمَالًا، تَجْوِيدًا وَإِحْسَانًا، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْعِبَادَاتِ:

* الْإِتْقَانُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَثَمَرَتُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا -يَشُكُّ سَهْلٌ- يُحْسِنُ فِيهِنَّ الذِّكْرَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ غُفِرَ لَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا؛ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ -رِعَايَةَ إِبِلِنَا-، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ -أَيْ: أَتَى بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْجَنَّةَ-)).

فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ، مَا أَجْوَدَ هَذِهِ!!)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ وَهُوَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)).

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)).

وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ: الْإِتْقَانُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآن؛ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ أَعْظَمُ قِيمَةٍ قَطُّ لِمَنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، لِمَنْ كَانَ لَهُ حَامِلًا، لِمَنْ كَانَ لِأَدَائِهِ مُجِيدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي ((الصَّحِيحِ))، تَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ -الَّذِي يُجِيدُ تِلَاوَتَهُ لَا يَتَعَثَّرُ فِي تِلَاوَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ- مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ -يَعْنِي مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْمُطَهَّرِينَ الْمَبْرُورِينَ الْأَبْرَارِ-، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ -أَجْرُ التِّلَاوَةِ وَأَجْرُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُلَاقِيهَا-)).

وَأَمَّا إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ فَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَحَضَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ﷺ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَمَانَةٌ، وَاللهُ سَائِلُهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.

فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

وَمِنْ دَلَائِلِ الْإِتْقَانِ فِي الْعَمَلِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَغَّبَ التُّجَّارَ فِي الصِّدْقِ، وَرَهَّبَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَمِنَ الْحَلِفِ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَقَالَ الْأَلْبَانيُّ: «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا الْبَيِّعَانِ وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَرُورَةِ الْإِتْقَانِ فِي الْعَمَلِ أَمْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَكْلِ الْحَلَالِ؛ فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَنَا بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَاتًا وَكَسْبًا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 171]، أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي كَسْبِهِ، فَتَعْلَقُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].

إِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.

وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ إِتْقَانِ الْعَمَلِ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَقَامَ مَحَاذِيرَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ: كَالظُّلْمِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّدْلِيسِ، وَبَخْسِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَبَخْسِ الْحُقُوقِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً؛ بِأَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، أَوْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَهْلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْخَبِيثَةِ، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الْمُحَرَّمَةُ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَنَحْوُهُمَا)).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى حَثِّ الشَّرْعِ عَلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ: الْأَمْرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَتَحْرِيمُ الْبَخْسِ واَلتَّطْفِيفِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84-85].

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَاللُّغَةِ وَالْمَوْطِنِ شُعَيْبًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ: يَا قَوْمِ! وَحِّدُوا اللهَ وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَكُمْ فِي الْوَاقِعِ وَالْحَقِيقَةِ مِنْ مَعْبُودٍ حَقٍّ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ سِوَاهُ.

وَلَا تَكِيلُوا وَتَزِنُوا لِلْغَيْرِ نَاقِصًا وَتَسْتَوفُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لِأَنْفُسِكُمْ زَائِدًا، إِنِّي أَرَاكُمْ فِي نِعْمَةٍ وَسَعَةٍ تُغْنِيكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يُدْرِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِالْعَذَابِ فَيُهْلِكَكُمْ جَمِيعًا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَحْقِيقِ الْجَزَاءِ.

وَيَا قَوْمِ! أَتِّمُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَافِيَيْنِ بِالْعَدْلِ، وَلَا تُطَفِّفُوا فِيهِمَا، وَلَا تَنْقُصُوا النَّاسَ مِمَّا اسْتَحَقُّوهُ شَيْئًا، وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْافِرِينَ.

مِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالْجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.

وَالْمَكَايِيلُ: جَمْعُ: مِكْيَالٍ، وَهُوَ وِعَاءُ الْكَيْلِ.

وَالْكَيْلُ: تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ آلَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ تُسَمَّى الْمِكْيَالَ.

وَالْمَوَازِينُ: جَمْعُ: مِيزَانٍ، وَهُوَ آلَةُ الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ: تَقْدِيرُ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ الْمِيزَانِ.

وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وُجُودُ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تُساعِدُهُمْ عَلَى تَحْدِيدِ مَقَادِيرِ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ، فَيَأْخُذُ الشَّخْصُ مَا يَجِبُ لَهُ تَامًّا، وَيُعْطِي مَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ أَيْضًا.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ الْمَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا».

وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلَاعُبَ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].

وَالْوَيْلُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَتَهَدَّدُ بِهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- أُولَئِكَ الَّذِينَ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَبَاعُوا ذِمَمَهُمْ، وَتَعَدَّوْا عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ.

وَعَلَى الْمُوَظَّفِ أَوِ الْعَامِلِ أَنْ يَحْذَرَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَعَدَمِ إِتْقَانِ عَمَلِهِ؛ فَكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَمَلٌ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَقَدْ أَكَلَ مِنْ حَرَامٍ إِنْ كَانَ مُتَحَصِّلًا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى أَجْرٍ؛ شَاءَ أَمْ أَبَى.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانَ مُوَظَّفًا يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ فِي مُقَابِلِ عَمَلِهِ؛ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -بَلْ جُلُّهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ، هُمْ أُجَرَاءُ، مُسْتَأْجَرُونَ عَلَى حَسَبِ عَقْدٍ مُبْرَمٍ وَلَائِحَةٍ لَهَا بُنُودٌ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ بَدْءًا.

وَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، وَهُوَ مُغَذٍّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَانٍ بَيْتَهُ، وَمُقْتَنٍ مَرْكُوبَهُ مِنْ حَرَامٍ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَظِيفَةُ فِي نَفْسِهَا بِعَقْدٍ عَلَى مَا يَحِلُّ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا شَرَعَ اللهُ.

فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي مَاخُورٍ يُقَدِّمُ الْخُمُورَ، وَيَقُومُ عَلَى الْعَمَلِ مُتَفَانِيًا فِيهِ بِإِخْلَاصٍ، يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِهِ بِعَرَقِ جَبِينِهِ!!

فَأَيُّ حُرْمَةٍ تَلْحَقُهُ، وَالْعَمَلُ حَرَامٌ فِي أَصْلِهِ؟!!

وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ حَلَالًا -كَالْغَالِبِ عَلَى جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ-، فَوَقَعَ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ هَاهُنَا يَكُونُ مِنْ حَرَامٍ، وَمَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ لَحِقَتْهُ الْحُرْمَةُ لَا مَحَالَةَ.

فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِي مِهْنَةٍ هِيَ حَلَالٌ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ؛ لَا يُؤَدِّيهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَيَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَعَاقَدَ عَلَيْهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَرْءُ شَيْئًا فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ، يَعْنِي: فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، لَا فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجَرٌ، قَدْ يَأْتِيهِ صَاحِبُ الْحَاجَةِ فِي بَيْتِهِ، لَا فِي عَمَلِهِ، فَيُعْطِيهِ؛ فَوَ اللَّهِ لَتَخْتَلِفَنَّ النَّظْرَةُ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَاحِبِ حَقٍّ.

الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَقْبَلُ لَا أَقُولُ: الرِّشْوَةَ -حَاشَا للهِ-، وَهَلْ يَأْخُذُ مُوَظَّفٌ رِشْوَةً؟! هُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ، أَيْدِيهِمْ مُتَوَضِّئَةٌ!! لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ!! حَاشَا للهِ أَنْ نَظُنَّ بِمُسْلِمٍ سُوءًا؛ وَلَكِنْ نَحْنُ نُرَكِّزُ الْآنَ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ، الْهَدِيَّةُ لَا تَحِلُّ؛ ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ؛ لِنَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!)).

وَاللهِ! إِنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ وَظِيفَتِهِ فَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَا خَادِمُهُ، وَلَا يَحْتَرِمُهُ، وَلَا يُقَدِّرُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا.

فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ لِصَلَاحِهِ، وَأَمَّا لِمَنْصِبِهِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَزُولَ عَنْهُ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ، إِمَّا أَنْ يَزُولَ هُوَ عَنِ الْمَنْصِبِ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ الْمَنْصِبُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَزُولَ عَنْهُ -وَقَدِّرْ أَنْتَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا-، أَوْ يَزُولَ عَنْهُ وَقَدِّرْ أَنْتَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا-، حَتَّى يُجْعَلَ كَالذُّبَابِ قِيمَةً، وَاحْتِقَارًا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

فَنَحْنُ الْآنَ فِي الْهَدِيَّةِ، فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فِي أَنْ تَكُونَ آتِيًا بِمَا كُلِّفْتَ بِهِ وَتَعَاقَدْتَ عَلَيْهِ.

وَشُبْهَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَظَائِفِ، يِقُولُونَ: الْمَالُ لَا يَكْفِي.

دَعْهَا! فَلَسْتَ مَجْبُورًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُكْرَهًا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَنْتَ سَعَيْتَ إِلَيْهَا.

وَقِيلَ لَكَ فِي بَدْءِ التَّعْيِينِ: الرَّاتِبُ قَلِيلٌ.

تَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، وَنَحْنُ نَرْضَى بِالْقَلِيلِ.

ثُمَّ يَأْتِيكَ مَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ، لَوْ كَانَ لَهُ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ.

فَإِذَا كَانَ لَا يَكْفِيكَ، دَعْهَا، غَيْرُكَ يُرِيدُهَا، إِنْ لَمْ تُؤَدِّ كَمَا تَعَاقَدْتَ فَأَنْتَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، آكِلٌ مِنْ سُحْتٍ؛ وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، هُوَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، عَقْدُ إِجَارَةٍ، أَنْتَ مُسْتَأْجَرٌ، تَتَحَصَّلُ عَلَى مَالٍ فِي نَظِيرِ مَنْفَعَةٍ تُؤَدِّيهَا لِمَنِ اسْتَأْجَرَكَ، مِنْ مُعَلِّمٍ، وَطَبِيبٍ، وَعَامِلٍ، وَمُهَنْدِسٍ وَمَا أَشْبَهَ، كُلُّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ.

وَعَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَاتَّقِ اللهَ، عَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَكُلُّ مَا تَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَأْكُلُ بِدِينِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي!! الرَّجُلُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالصَّلَاحِ فَاشْتَرَى أَوْ بَاعَ؛ أُكْرِمَ لِصَلَاحِهِ، فَهُوَ يَأْكُلُ بِدِينِهِ، وَلَيْسَتِ الْعَادَةُ عِنْدَ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُهُ لِلْبَرَكَةِ الَّتِي يَرْجُوهَا مِنْ وَرَائِهِ، فَهَذَا بَدَلُ بَرَكَةٍ كَبَدَلَاتِ الْمُوَظَّفِينَ!!

فَكُلُّ مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْمُوَظَّفُ مِنْ هَدِيَّةٍ -لَا نَقُولُ الرِّشْوَةَ، حَاشَا للهِ، وَلَا السَّرِقَةَ، أَعُوذُ بِاللهِ، وَلَا الْغَصْبَ، وَلَا تَبْدِيدَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا بِمَبْعَدَةٍ، هَذَا يَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَحَاشَا للهِ!!- نَتَكَلَّمُ الْآنَ فِي الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ هَدِيَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ، هِيَ لَا تَحِلُّ.

وَمِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ رُؤْيَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: ((فَأَخْبَرَنِي عَنِ الْإِحْسَانِ)).

قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كَمَا حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ حَذَّرَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْإِهْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُرَاقِبٌ لَهُمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

مُطَّلِعٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِمْ وَسُكُونِهِمْ، وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، مُرَاقِبًا لَهُمْ فِيهَا مِمَّا يُوجِبُ مُرَاقَبَتَهُ، وَشِدَّةَ الْحَيَاءِ مِنْهُ بِلُزُومِ تَقْوَاهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

((إِتْقَانُ الْعَمَلِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ))

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ يَدْعُو إِلَى إِتْقَانِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تَتَقَدَّمْ أُمَّةٌ إِلَّا بِتَفَانِيهَا فِي صَنَاعَاتِهَا وَحِرَفِهَا وَمِهَنِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.

وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ إِلَى صِنَاعَةِ الْحَدِيدِ؛ حَيْثُ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

كَمَا أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى صِنَاعَةِ الْمَلَابِسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْجُلُودِ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80-81].

كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفَ مِهْنَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَقَدْ كَانُوا فِيهَا خَيْرَ أُنْمُوذَجٍ لِلْإِجْاَدَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي عَدَدٍ مِنَ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ؛ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- لِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].

وَاصْنَعِ السَّفِينَةَ بِمَرْأَى مِنَّا، مَحْفُوظًا بِكَلَاءَتِنَا وَعِنَايَتِنَا، وَبِوَحْيِنَا فِي خُطَّةِ الْعَمَلِ، وَبِنَاءِ السَّفِينَةِ، وَطَرِيقَةِ التَّنْفِيذِ.

وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].

{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}: فَكَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِ دَاوُدَ كَالْعَجِينِ، يَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ.

وَأَمَرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ؛ فَقَدْ وَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ:  ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ -أَيْضًا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)).

فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى شَرَفِ الْعَمَلِ، وَعَظِيمِ قِيمَتِهِ.

((وَنَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنَا))

عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ، وَأَنْ نُتْقِنَ عَمَلَنَا، وَأَنْ نَغْرِسَ لِأَنْفُسِنَا وَلِغَيْرِنَا، وَعَلَيْنَا أَلَّا نَنْشَغِلَ بِجَمْعِ الثِّمَارِ لِأَنْفُسِنَا فَقَطْ، بَلْ نَزْرَعُ وَنَغْرِسُ مَا يَنْفَعُ غَيْرَنَا فِي الدُّنْيَا، وَيَرْفَعُنَا عِنْدَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلْنَغْرِسْ لِيَأْكُلَ مَنْ بَعْدَنَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ غَرَسَ النَّخْلَ لِغَيْرِهِ بِيَدِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: ((جَاءَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِمَائِدَةٍ عَلَيْهَا رُطَبٌ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا سَلْمَانُ! مَا هَذَا؟!)).

فَقَالَ: ((صَدَقَةٌ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَصْحَابِكَ)).

فَقَالَ: ((ارْفَعْهَا؛ فَإِنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ)).

قَالَ: ((فَرَفَعَهَا، فَجَاءَ الْغَدَ بِمِثْلِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟!)).

فَقَالَ: ((هَدِيَّةٌ لَكَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأَصْحَابِهِ: ((ابْسُطُوا)).

ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَآمَنَ بِهِ، وَكَانَ لِلْيَهُودِ فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُمْ نَخْلًا، فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهِ، حَتَّى تُطْعِمَ، فَغَرَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخلَ إِلا نَخْلَةً وَاحِدَةً، غَرَسَهَا عُمَرُ، فَحَمَلَتِ النَّخْلُ مِنْ عَامِهَا، وَلَمْ تَحْمِلْ نَخْلَةٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا شَأْنُ هَذِهِ النَّخْلَةِ؟!)).

فَقَالَ عُمَرُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا غَرَسْتُهَا)).

فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَغَرَسَهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهَا)) . هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي ((مَعَانِي الْآثَارِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ))، وَفِي ((الدَّلَائِلِ))، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: ((رِجَالُهُ ثِقَاتٌ))، وَالْحَدِيثُ حَسَّنَهُ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((ابْسُطُوا))؛ دَفْعًا لِوَهْمِهِمْ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ﷺ.. ابْسُطُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَائِدَةِ، وَكُلُوا مِنْهَا.

أَوِ: ((ابْسُطُوا)) بِمَعْنَى: النَّشْرِ، أَيِ: انْشُرُوا الطَّعَامَ فِي الْمَجْلِسِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ يَدٍ.

أَوِ: انْبَسِطُوا مَعَ سَلْمَانَ وَاسْتَبْشِرُوا.

وَقَدْ تَكُونُ هَدِيَّةُ سَلْمَانَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي لُفَافَةٍ، فَأَمَرَ بِبَسْطِهَا ﷺ.

((عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُمْ نَخْلًا، فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهِ، حَتَّى تُطْعِمَ)) يَعْنِي: حَتَّى يَأْتِيَ النَّخْلُ بِالثِّمَارِ.

وَالشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ -وَكُلُّهُ شَاهِدٌ-: ((فَغَرَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخلَ إِلا نَخْلَةً وَاحِدَةً)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ «فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا -حِينَئِذٍ-، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: وَنَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنَا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  التَّاجِرُ الْأَمِينُ
  ماذا لو حكم الإخوان مصر؟
  أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ
  مَنْ وراء الأحداث الأخيرة في مصر؟
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ
  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  المخرج من الفتن
  نصيحة للشباب مع بداية العام الدراسي
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان