رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عَظَمَةِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-

رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عَظَمَةِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-

رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ

دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عَظَمَةِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ وَالْقُرْآنُ))

فَشَهْرُ رَمَضَانَ؛ عَظَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْرَهُ، وَأَبْقَى ذِكْرَهُ لَمَّا أَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ المَجِيدَ؛ بَلْ إِنَّ النَّاظِرَ فِي الْآيَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِصِيَامِهِ؛ يَلْمَحُ أَنَّ هَذَا الصِّيَامَ إِنَّمَا فُرِضَ فِي هَذَا الشَّهْرِ لِنُزُولِ القُرْآنِ فِيهِ.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-  ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} [البَقَرَة: 185]، فَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نُزُولَ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البَقَرَة: 185].

فَفَرَضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِيَامَهُ بَعْدَمَا ذَكَرَ تَخْصِيصَهُ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْقُرْآنَ، وَسَنَّ فِيهِ النَّبِيُّ الْقِيامَ، وَفِي الْقِيامِ تِلَاوَةٌ لِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ الْمُسْلِمُونَ.

لَقَدِ اقْتَرَنَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِالْقُرْآنِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

(({شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أَيِ: الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ عَلَيْكُمْ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، الشَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْهِدَايَةِ لِمَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَبْيِينِ الْحَقِّ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ، وَالْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ؛ فَحَقِيقٌ بِشَهْرٍ هَذَا فَضْلُهُ وَهَذَا إِحْسَانُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْسِمًا لِلْعِبَادِ مَفْرُوضًا فِيهِ الصِّيَامُ.

فَلَمَّا قَرَّرَهُ، وَبَيَّنَ فَضِيلَتَهُ وَحِكْمَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي تَخْصِيصِهِ؛ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، هَذَا فِيهِ تَعْيِينُ الصِّيَامِ عَلَى الْقَادِرِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدَاءِ خَاصَّةً؛ أَعَادَ الرُّخْصَةَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ -أَيْضًا- مَنْسُوخَةٌ، فَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَيْ: يُرِيدُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْكُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضْوَانِهِ أَعْظَمَ تَيْسِيرٍ، وَيُسَهِّلَهَا أَشَدَّ تَسْهِيلٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ فِي أَصْلِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الْمُوجِبَةِ لِثِقَلِهِ؛ سَهَّلَهُ تَسْهِيلًا آخَرَ؛ إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهَا جَمِيعُ الشَّرْعِيَّاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}: وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِبَعْضِهِ، دَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِالْأَمْرِ بِتَكْمِيلِ عِدَّتِهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ إِتْمَامِهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَتَسْهِيلِهِ وَتَبْيِينِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ إِلَى فَرَاغِ خُطْبَةِ الْعِيدِ)).

وَاقْتِرَانُ رَمَضَانَ بِالْقُرْآنِ لَهُ صِلَةٌ بِفَرْضِ الصِّيَامِ فِيهِ، فَالصَّوْمُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي إِزَالَةِ الْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ الْحَاجِبَةِ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِدَايَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي بَثَّهَا اللهُ -تَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَالصِّلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَظِيمَةٌ.

فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مُخْتَصًّا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ؛ فَقَدْ كَانَ لَازِمًا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ أَنْسَبُ حَالَاتِ الْإِنْسَانِ لِتَلَقِّي هُدَى اللهِ الْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ.

وَالْآيَاتُ تُشْعِرُكَ بِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الصَّوْمِ: تَصْفِيَةَ الْفِكْرِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْقُرْآنِ؛ فَبَعْدَ الْحَدِيثِ عَنْ فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 186]؛ لِيَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُخْتَصًّا بِالصِّيَامِ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ رَمَضَانُ وَكَانَ الصِّيَامُ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَلَا عَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ عَنْ رَمَضَانَ: ((شَهْرُ الْقُرْآنِ)).

((حَالُ السَّلَفِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ))

لَقَدْ فَهِمَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ هَذَا الْمَعْنَى جَيِّدًا وَوَعَوْهُ -أَنَّ الصِّيَامَ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ-، وَعَلِمُوا أَنَّ وَظِيفَةَ رَمَضَانَ الْكُبْرَى هِيَ الِاعْتِنَاءُ بِالْقُرْآنِ، وَالْقِيَامُ بِالْقُرْآنِ، وَالصِّيَامُ لِأَجْلِ تَخْلِيَةِ الذِّهْنِ لِلْقُرْآنِ.

((سُئِلَ الزُّهْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ الْعَمَلِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: ((إِنَّمَا هُوَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ)).

وَنَقَلَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْإِمَامِ الثَّوْرِيِّ: ((أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ؛ تَرَكَ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْوَاجِبَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ)).

وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ: ((أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ؛ فَرَّ مِنْ مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُصْحَفِ)) )).

كَانَ الْأَئِمَّةُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يَجْتَهِدُونَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَرُبَّمَا كَانَ يَخْتِمُ خَتْمَتَيْنِ، وَأَحْوَالُهُمْ نُسَلِّمُهَا إِلَيْهِمْ وَلَا نَقْتَدِي بِهِمْ فِيهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ أَخْبَرَ أَنَّ: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ))؛ وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أَحْوَالٌ، وَآتَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا مِنْهُم قُدْرَةً عَلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ مَنْ لَيْسَ فِي دَرَجَتِهِم فِي الْعِلْمِ وَالعَمَلِ.

لَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكْثِرُونَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ، وَكَانُوا إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسَاجِدِ وَقَالُوا: ((نَحْفَظُ صَوْمَنَا وَلَا نَغْتَابُ أَحَدًا))، وَكَانُوا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخْتُمُ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْتُمُ الْقُرْآنَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ عَشْرٍ.

كَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ فِي رَمَضَانَ.

وَكَانَ قَتَادَةُ يَخْتُمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعٍ دَائِمًا، وَفِي رَمَضَانَ كُلَّ ثَلَاثٍ، وفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ.

((إِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الْمُفَضَّلَةُ كَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَخُصُوصًا اللَّيَالِي الَّتِي تُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَوْ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُفَضَّلَةِ كَمَكَّةَ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا؛ فَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ فِيهَا مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ؛ اغْتِنَامًا لِفَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عَمَلُ غَيْرِهِمْ)).

((مِنْ فَضَائِلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))

لَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -تَعَالَى- لِنَفْسِهِ أَهْلَ كِتَابِهِ التَّالِينَ لَهُ، وَالْعَامِلِينَ بِهِ؛ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَهُ وَخَاصَّتَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ)).

قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

اهْتِمَامُكَ -أَيُّهَا الصَّائِمُ- بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ تِلَاوَةً وَمُدَارَسَةً؛ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِدَايَةً لِتَصْحِيحِ الْمَسَارِ مَعَ الْقُرْآنِ؛ حَتَّى تَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ، وَحَتَّى لَا تَكُونَ مِنَ الْهَاجِرِينَ لِلْقُرْآنِ، الْمُسْتَجْلِبِينَ لِغَضَبِ رَبِّهِمْ وَشَكْوَى رَسُولِهِمْ ﷺ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]؛ فَلْيَكُنْ لَكَ بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وِرْدٌ أَوْ حِزْبٌ تَسْتَمِرُّ بِهِ بَعْدَ رَمَضَانَ؛ حَتَّى تَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ لَا مِنْ أَهْلِ الْهَجْرِ، فَتَحْزِيبُ الْقُرْآنِ سُنَّةٌ؛ لَكِنَّهَا مَهْجُورَةٌ، كَادَتْ تَضِيعُ بَيْنَ أَهْلِ الدَّعْوَةِ وَالِالْتِزَامِ؛ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ.

وَقَدْ كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ مَعَ الْقُرْآنِ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى قَدْرٍ ثَابِتٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ كُلَّ يَوْمٍ، يُسَمُّونَهُ حِزْبًا، أَوْ يُسَمُّونَهُ وِرْدًا أَوْ جُزْءًا يُوصِلُهُمْ إِلَى خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، أَوْ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً.

وَأَصْلُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا: قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ : ((مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَاهْتِمَامُ السَّلَفِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ كَانَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ؛ فَقَدْ كَانَ يُسْمَعُ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِمْ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ.

وَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ بِتَمَامِهِ زَمَانًا شَرِيفًا لِلتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ؛ فَإِنَّ لَيَالِيَهُ أَنْسَبُ لِذَلِكَ، فَهِيَ أَرَقُّ فِي الشُّعُورِ، وَأَدَقُّ فِي التَّدَبُّرِ، وَلَعَلَّ هَذَا سَبَبُ مَجِيءِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْلًا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ؛ لِكَيْ يُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ: ((دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ لَيْلًا؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ تُقْطَعُ فِيهِ الشَّوَاغِلُ، وَتُجْمَعُ فِيهِ الْهِمَمُ، وَيَتَوَاطَأُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ عَلَى التَّدَبُّرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6])).

هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَزْمِنَةِ، أَمَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْأَمْكِنَةِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمَسَاجِدِ فَضْلَهَا فِي الْقِرَاءَةِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا اقْتَرَنَتِ التِّلَاوَةُ بِالْمُدَارَسَةِ وَالتَّعَلُّمِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ، وَأَنَّهُ شَفِيعٌ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ))، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: ((كَأَنَّهُمَا -يَعْنِي: الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ- غَمَامَتَانِ -وَالْغَمَامَةُ وَالْغَيَايَةُ: كُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّ الْإِنْسَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ؛ مِنْ سَحَابَةٍ، وَغَبَرَةٍ، وَغَيْرِهِمَا-، أَوْ ظُلْمَتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ -أَيْ: ضِيَاءٌ وَنُورٌ-، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (آلم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ (أَلِفٌ) حَرْفٌ، وَ(لَامٌ) حَرْفٌ، وَ(مِيمٌ) حَرْفٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ وَاللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ؛ فَإِنَّ لِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ فِي رَمَضَانَ مَزِيَّةً خَاصَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ؛ لِيَغْتَنِمَ شَرَفَ الزَّمَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لَهَا مَزِيَّةٌ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الشَّوَاغِلُ، وَتَجْتَمِعُ فِيهِ الْهِمَمُ، وَيَتَوَاطَأُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ عَلَى التَّدَبُّرِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَلْقَى رَسُولَ اللهِ ﷺ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ)).

وَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ؛ لَفَعَلَا -يَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ وَجِبْرِيلَ- دَائِمًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَعَ تَكْرَارِ اجْتِمَاعِهِمَا.

فَأَفَادَنَا هَذَا الْحَدِيثُ اسْتِحْبَابَ دِرَاسَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ، مَعَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَرْضِ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْ هُوَ أَتْقَنُ وَأَحْفَظُ لَهُ.

وَكَمَا أَنَّ الصَّائِمَ يَجْتَهِدُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ -أَيْضًا- أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِحْسَانِ الِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ الِاسْتِمَاعَ لِتِلَاوَتِهِ بِتَدَبُّرٍ عِبَادَةٌ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي ذَاتَ يَوْمٍ-: ((اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ)).

قَالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟

فَقَالَ: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)) ﷺ.

قَالَ: فَاسْتَفْتَحْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا وَصَلْتُ إِلَى قَوْلِ اللهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].

قَالَ:  ((حَسْبُكَ الْآنَ)).

قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ﷺ.

اسْتَغْرَقَتِ النَّبِيَّ ﷺ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَفِيهَا يَتَوَجَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْخِطَابِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}: يَعْنِي وَجِيءَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاتَمَةِ شَهِيدًا، بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ، وَنَصَحْتَ الْأُمَّةَ، وَكَشَفْتَ الْغُمَّةَ، وَبَلَّغْتَهُمْ أَوَامِرَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَفَصَّلْتَ لَهُمْ، وَوَضَّحْتَ لَهُمْ مَا غَمَضَ عَلَيْهِمْ، وَجَلَّيْتَ لَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَى أَفْهَامِهِمْ.

 ثُمَّ إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ الَّذِي وَصَفَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمُشَرَّفَةُ، يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَتَأْتِي الْأُمَمُ، وَتَأْتِي هَذِهِ الْأُمَمُ خَلْفَ أَنْبِيَائِهَا؛ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدٌ مِنْهُمْ، وَيَجِيءُ مُحَمَّدٌ ﷺ  شَهِيدًا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاتَمَةِ، وَعِنْدَئِذٍ فَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالدَّمْعِ بُكَاءً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- تَمَثُّلًا لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ وَالْمَشْهَدِ الْأَكْبَرِ.

قَالَ: فَقَالَ لِي:  ((حَسْبُكَ الْآنَ))؛  يَعْنِي يَكْفِي مَا قَرَأْتَ.

قَالَ : فَالْتَفَتُّ  يَعْنِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.

 وَلَعَلَّ الَّذِي جَعَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ هُوَ تَغَيُّرُ نَغْمَةِ الصَّوْتِ الَّتِي قَالَ بِهَا لَهُ حَسْبُكَ الْآنَ؛  لِأَنَّهُ ﷺ كَانَتْ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ الدَّمْعَ الْمِدْرَارَ الْغَزِيرَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، تَأَثَّرَ صَوْتُهُ بَعْضَ تَأَثُّرٍ، فَقَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: ((حَسْبُكَ الْآنَ))،  فَكَانَ فِي نَبْرَةِ الصَّوْتِ تَأَثُّرُهُ وَبُكَاؤُهُ.

قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ﷺ.

رَمَضَانُ بِكَرَامَتِهِ وَحُرْمَتِهِ يَسْتَحِقُّ مِنْكَ -أَيُّهَا الصَّائِمُ- أَنْ تَحْفَظَهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَسَمَاعِهِ فِي جِلْسَاتِكَ وَلِقَاءَاتِكَ، فَكُلُّ بَاطِلٍ سَمَاعُهُ بَاطِلٌ إِذَا كَانَ اسْتِمَاعَ تَلَقٍّ وَرِضًا وَإِعْجَابٍ.

يَا أُذُنُ لَا تَسْمَعِي غَيْرَ الْهُدَى أَبَدًا   =   إِنَّ اسْتِمَاعَكِ لِلْأَوْزَارِ أَوْزَارُ

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ حِفْظَ السَّمْعِ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَفِي الصِّفَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي ((سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ)) يَأْتِي الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مُبَاشَرَةً بَعْدَ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ؛ حَيْثُ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1-3].

فَالْمُؤْمِنُونَ لِسَمَاعِهِمُ الْخَيْرَ؛ فَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَلِكَيْ يُحَافِظُوا عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّرِّ يُضَيِّعُ رَصِيدَ الْقَلْبِ مِنْ سَمَاعِ الْخَيْرِ، وَيُشَوِّشُ عَلَى النَّفْسِ قِيَمَ الْحَقِّ.

قَالَ -تَعَالَى- مُزَكِّيًا فِعْلَ مَنْ طَهَّرُوا أَسْمَاعَهُمْ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].

وَكَمَا تَتَضَاعَفُ فِي رَمَضَانَ مَسْؤُولِيَّةُ الْأُذُنِ فِي عَدَمِ سَمَاعِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا تَعْظُمُ فِي سَمَاعِ الْحَقِّ، فَالصَّلَوَاتُ الْجَهْرِيَّةُ، وَصَلَاةُ الْقِيَامِ الْجَمَاعِيَّةُ تَقُومُ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُتْلَى، وَكَذَلِكَ حِلَقُ الذِّكْرِ وَمَجَالِسُ الْعِلْمِ تَقْتَضِي يَقَظَةَ السَّامِعِ وَحُسْنَ إِنْصَاتِهِ.

وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، تَنَزَّلَ الْقُرْآنُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

وَقَدْ تَنَزَّلَ الْقُرْآنُ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْجِنِّ وَهُمْ فِي عَالَمِهِمُ الْمَحْجُوبِ، يَشْكُرُ لَهُمْ حُسْنَ اسْتِمَاعِهِمْ وَجَمِيلَ إِنْصَاتِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ يُتْلَى، وَنَزَلَتْ بِشَأْنِ ذَلِكَ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ هِيَ ((سُورَةُ الْجِنِّ)): {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1].

تَرَى مَنْ مِنَ الْإِنْسِ قَالُوا عِنْدَمَا اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِثْلَ مَا قَالَتِ الْجِنُّ: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1-2]؟!!

كَمْ مِنَ الْإِنْسِ وَعَوْا مَا وَعَوْا وَدَعَوْا إِلَى مَا دَعَوْا؟!!

لَقَدْ دَعَوْا قَوْمَهُمْ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ لِذَلِكَ الرُّشْدِ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ فَقَالُوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].

إِنَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ يَتَحَقَّقُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عِنْدَمَا تَتَحَقَّقُ شُرُوطُ وُصُولِهِ مِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْقَلْبِ، فَالِانْتِفَاعُ بِهِ يَحْتَاجُ حُضُورَ قَلْبِكَ، وَإِنْصَاتَ سَمْعِكَ، وَيَقَظَةَ عَقْلِكَ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُحْسِنُوا اسْتِمَاعَ كَلَامِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِتِلْكَ الْأَسْمَاعِ وَتَطْهِيرٌ لَهَا، وَتِلْكَ الْأَسْمَاعُ نَفْسُهَا مِنَّةٌ تَحْتَاجُ إِلَى امْتِنَانٍ، وَنِعْمَةٌ تَحْتَاجُ الشُّكْرَ وَالْعِرْفَانَ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].

وَشُكْرُ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى نِعْمَةِ السَّمْعِ تَكُونُ بِقَصْرِهِ عَلَى الْخَيْرِ، وَمَنْعِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَرَمَضَانُ مَجَالٌ رَحْبٌ لِتَحْلِيَةِ الْأَسْمَاعِ بِالطَّاعَاتِ، وَتَخْلِيَتِهَا عَنِ الْمُخَالَفَاتِ، فَعَلَى السَّمْعِ عُبُودِيَّاتٌ مَخْصُوصَاتٌ تَحَدَّثَ عَنْهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ: ((وَهِيَ وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ؛ مِنَ اسْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَفُرُوضِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، وَاسْتِمَاعِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي اسْتِمَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ كَرَدِّهِ، أَوْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا: اسْتِمَاعُ أَسْرَارِ مَنْ يَهْرَبُ عَنْكَ بِسِرِّهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَضَمِّنًا لِحَقٍّ للهِ يَجِبُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ لِأَذَى مُسْلِمٍ يَتَعَيَّنُ نُصْحُهُ وَتَحْذِيرُهُ مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ أَصْوَاتِ النِّسَاءِ الَّتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِأَصْوَاتِهِنَّ، إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ، أَوْ مُحَاكَمَةٍ، أَوْ مُدَاوَاةٍ وَنَحْوِهَا.

وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْمَعَازِفِ، وَآلَاتِ الطَّرَبِ وَاللَّهْوِ؛ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ سَمَاعَهُ، إِلَّا إِذَا خَافَ السُّكُونَ إِلَيْهِ وَالْإِنْصَاتَ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ؛ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَجَنُّبُ سَمَاعِهَا وُجُوبَ سَدِّ الذَّرَائِعِ.

وَأَمَّا السَّمْعُ الْمُسْتَحَبُّ فَكَاسْتِمَاعِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللهِ، وَاسْتِمَاعِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَالْمَكْرُوهُ عَكْسُهُ، وَهُوَ اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ)).

فَعَلَى الْمُسْلِمِ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَشْغَلَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْفَائِدَةِ وَالْعَائِدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْعُمُرَ أَنْفَاسٌ كُلَّمَا خَرَجَ نَفَسٌ اقْتَرَبَ الْمَرْءُ مِنَ النِّهَايَةِ نَفَسًا، وَإِنَّمَا هِيَ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَاتٌ، هِيَ نِهَائِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِلَا نِهَائِيَّةٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ عِنْدَمَا يَأْذَنُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَذَلِكَ غَيْبٌ مَحْجُوبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَسِتِّيرُ الْعُيُوبِ.

((الْحَثُّ عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ))

إِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَلَّا تَقِفَ عِنْدَ حُدُودِ التِّلَاوَةِ دُونَ فَهْمٍ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَمَقَاصِدِهِ وَغَايَاتِهِ، وَتَأَمُّلٍ لِجَوَانِبِ عَظَمَتِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي مَعَانِيهِ، وَتَحْدِيقُ الْفِكْرِ فِيهِ، وَفِي مَبَادِئِهِ وَعَوَاقِبِهِ، وَلَوَازِمِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِ اللَّهِ مِفْتَاحًا لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَبِهِ يُسْتَنْتَجُ كُلُّ خَيْرٍ، وَتُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلُومِ، وَبِهِ يَزْدَادُ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَتَرْسَخُ شَجَرَتُهُ؛ فَإِنَّهُ يُعَرِّفُ بِالرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مِنْ سِمَاتِ النَّقْصِ، وَيُعَرِّفُ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَصِفَةَ أَهْلِهَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَيُعَرِّفُ الْعَدُوَّ الَّذِي هُوَ الْعَدُوُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْعَذَابِ، وَصِفَةَ أَهْلِهَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْعِقَابِ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَأَمُّلًا فِيهِ ازْدَادَ عِلْمًا وَعَمَلًا وَبَصِيرَةً؛ لِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

وَمِنْ فَوَائِدِ التَّدَبُّرِ لِكِتَابِ اللَّهِ: أَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَتَرَى الْحِكَمَ وَالْقِصَّةَ وَالْإِخْبَارَاتِ تُعَادُ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، كُلُّهَا مُتَوَافِقَةٌ مُتَصَادِقَةٌ، لَا يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَبِذَلِكَ يُعْلَمُ كَمَالُ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أَيْ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا)).

وَجَوَانِبُ الْعَظَمَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ الَّذِي لَا يَنَالُهُ التَّحْرِيفُ، وَلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

(({وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَفِي أَحْكَامِ الدَّارَيْنِ، وَكُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِيهِ أَتَمَّ تَبْيِينٍ بِأَلْفَاظٍ وَاضِحَةٍ وَمَعَانٍ جَلِيَّةٍ؛ حَتَّى إِنَّهُ -تَعَالَى- يُثَنِّي فِيهِ الْأُمُورَ الْكِبَارَ الَّتِي يَحْتَاجُ الْقَلْبُ لِمُرُورِهَا عَلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَيُعِيدُهَا وَيُبْدِيهَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَدِلَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ؛ لِتَسْتَقِرَّ فِي الْقُلُوبِ فَتُثْمِرَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ بِحَسَبِ ثُبُوتِهَا فِي الْقَلْبِ، وَحَتَّى إِنَّهُ -تَعَالَى- يَجْمَعُ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ الْوَاضِحِ مَعَانِيَ كَثِيرَةً يَكُونُ اللَّفْظُ لَهَا كَالْقَاعِدَةِ وَالْأَسَاسِ.

فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ صَارَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ كُلِّهِمْ، فَانْقَطَعَتْ بِهِ حُجَّةُ الظَّالِمِينَ، وَانْتَفَعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَصَارَ هُدًى لَهُمْ يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَرَحْمَةً يَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَالْهُدَى مَا نَالُوا بِهِ مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَالرَّحْمَةُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ كَصَلَاحِ الْقَلْبِ وَبِرِّهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ، وَتَمَامِ الْعَقْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْبِيَتِهِ عَلَى مَعَانِيهِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَعَانِي وَأَعْلَاهَا، وَالْأَعْمَالِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَنَيْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى- وَكَرَامَتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ إِلَّا الرَّبُّ الرَّحِيمُ)).

إِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَظَلَّ عَالِقًا فِي الذِّهْنِ وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ؛ هُوَ أَنْ نُوقِنَ بِأَنَّ التَّدَبُّرَ وَتَفَهُّمَ مَعَانِي كَلَامِ اللهِ هُوَ مَقْصُودُ التِّلَاوَةِ؛ لِذَلِكَ جَعَلَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- أَوَّلَ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَشْرَةِ الْمُوجِبَةِ لِمَحَبَّةِ اللهِ: ((قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ)).

وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَأَوُا الْقُرْآنَ رَسَائِلَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَكَانُوا يَتَدَبَّرُونَهَا بِاللَّيْلِ، وَيَتَفَقَّدُونَهَا فِي النَّهَارِ)).

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْبَغِي لِتَالِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَنْظُرَ كَيْفَ لَطَفَ اللهُ -تَعَالَى- بِخَلْقِهِ فِي إِيصَالِ مَعَانِي كَلَامِهِ إِلَى أَفْهَامِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقْرَأُهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ عَظَمَةَ الْمُتَكَلِّمِ -سُبْحَانَهُ-، وَيَتَدَبَّرَ كَلَامَهُ)).

لِذَلِكَ فَإِنَّ مِنَّةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ أَنْ أَذِنَ لِمَخْلُوقَاتٍ ضَعِيفَةٍ مِثْلِنَا أَنْ تُنَاجِيَهُ، وَتَبْحَثَ فِي كِتَابِهِ وَكَلامِهِ، وَتَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ.

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كَرَامَةٌ أَكْرَمَ اللهُ بِهَا الْبَشَرَ؛ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يُعْطَوْا ذَلِكَ، وَأَنَّهَا حَرِيصَةٌ -يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ- عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِنْسِ)).

وَمَعَ امْتِنَانِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِذْنِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَالنَّظَرِ فِي كَلِمَاتِهِ؛ فَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ -أَيْضًا- أَنْ أَعْطَاهُمْ أَعْظَمَ الْمَنَازِلِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].

((مَعْنَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَثَمَرَاتُهُ))

لِلْقُرْآنِ بِرَمَضَانَ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ؛ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ أَوْجَبَ اللهُ -تَعَالَى- صِيَامَهُ.

وَلِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ مَزِيدُ عِنَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، وَمَوْصُولُ تَدَارُسٍ وَتَدَبُّرٍ.

وَلِلْمُسْلِمِ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ؛ لِأَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ أَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ، وَفَلَاحِهِ، وَثَبَاتِهِ.

وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ فِي تَثْبِيتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَإِرْسَاءِ دَعَائِمِهِ؛ ((لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَوَعَدَهُمْ أَسْنَى الْمَوَاهِبِ.

فَلَوْ أَنْفَقَ الْعَبْدُ جَوَاهِرَ عُمُرِهِ فِي هَذَا التَّدَبُّرِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي جَنْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ الْمَطَالِبِ، وَأَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ، وَأَصْلُ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَقَاعِدَةُ أَسَاسِ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَصَلَاحُ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَتْ حَيَاةُ الْعَبْدِ زَاهِرَةً بِالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَطِيبِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا، وَأَسْبَابِهِمَا، وَغَايَاتِهِمَا، وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ أَيْ: تَجْعَلُ مُسْتَقِرًّا فِي يَدِهِ- مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ.

وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ، وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ.

وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا.

وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ، وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.

وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طِلَّسْمُهُ -أَيِ:  الْمُزِيلُ لِغُمُوضِهِ، الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْمُفَسِّرُ لِمُبْهَمِهِ- الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ)).

فَتَدَبَّرِ الْقُرْآنَ إِنْ رُمْتَ الْهُدَى   =  فَالْعِلْمُ تَحْتَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ

((وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلْقَلْبِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ؛ فَإِنَّهُ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَأَحْوَالِ الْعَامِلِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَهُوَ الَّذِي يُورِثُ الْمَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ، وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَالْإِنَابَةَ وَالتَّوَكُّلَ، وَالرِّضَا وَالتَّفْوِيضَ، وَالشُّكْرَ وَالصَّبْرَ، وَسَائِرَ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَكَمَالُهُ، وَكَذَلِكَ يَزْجُرُ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي بِهَا فَسَادُ الْقَلْبِ وَهَلَاكُهُ.

فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ؛ لَاشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، فَإِذَا قَرَأَهُ بِتَفَكُّرٍ حَتَّى مَرَّ بِآيَةٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فِي شِفَاءِ قَلْبِهِ؛ كَرَّرَهَا وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَلَوْ لَيْلَةً كَامِلَةً؛ فَقِرَاءَةُ آيَةٍ بِتَفَكُّرٍ وَتَفَهُّمٍ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، وَأَنْفَعُ لِلْقَلْبِ، وَأَدْعَى إِلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ حَلَاوَةِ الْقُرْآنِ.

وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَةَ السَّلَفِ، يُرَدِّدُ أَحَدُهُمُ الْآيَةَ إِلَى الصَّبَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ: ((قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى الصَّبَاحِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118])). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ.

فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفَكُّرِ هِيَ أَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ؛ لِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ)).

وَالدَّقَلُ: وَاحِدُهُ دَقَلَةٌ: وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ وَيَابِسُهُ، وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ؛ فَتَرَاهُ لِيُبْسِهِ وَرَدَاءَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ، يَكُونُ مَنْثُورًا.

((لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، لَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ)) أَيْ: أَنْ يَخْتِمَهَا فَقَطْ.

وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: ((إِنِّي سَرِيعُ الْقِرَاءَةِ، إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ)).

قَالَ: ((لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَأَتَدَبَّرَهَا وَأُرَتِّلَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كَمَا تَقْرَأُ)).

وَالتَّفَكُّرُ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ:

*تَفَكُّرٌ فِيهِ لِيَقَعَ عَلَى مُرَادِ الرَّبِّ -تَعَالَى- مِنْهُ.

*وَتَفَكُّرٌ فِي مَعَانِي مَا دَعَا عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيهِ.

فَالْأَوَّلُ تَفَكُّرٌ فِي الدَّلِيلِ الْقُرْآنِيِّ، وَالثَّانِي تَفَكُّرٌ فِي الدَّلِيلِ الْعِيَانِيِّ.

الْأَوَّلُ تَفَكُّرٌ فِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالثَّانِي تَفَكُّرٌ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللهُ الْقُرْآنَ لِيُتَدَبَّرَ وَيُتَفَكَّرَ فِيهِ، وَيُعْمَلَ بِهِ، لَا لِمُجَرَّدِ تِلَاوَتِهِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا!)))).

((إِذَا أَرَدْتَ الِانْتِفَاعَ بِالْقُرْآنِ؛ فَاجْمَعْ قَلْبَكَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، وَأَلْقِ سَمْعَكَ، وَاحْضُرْ حُضُورَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ -سُبْحَانَهُ- مِنْهُ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ خِطَابٌ مِنْهُ لَكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

وَذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ التَّأْثِيرِ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُؤَثِّرٍ مُقْتَضٍ، وَمَحَلٍّ قَابِلٍ، وَشَرْطٍ لِحُصُولِ الْأَثَرِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ؛ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ بَيَانَ ذَلِكَ كُلِّهُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْيَنِهِ وَأَدَلِّهِ عَلَى الْمُرَادِ.

فَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لِذِكْرَى}: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَاهُنَا، وَهَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ.

وَقَوْلُهُ: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}: هَذَا هُوَ الْمَحَلُّ الْقَابِلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْقَلْبُ الْحَيُّ الَّذِي يَعْقِلُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} أَيْ: حَيَّ الْقَلْبِ.

وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أَيْ: وَجَّهَ سَمْعَهُ وَأَصْغَى حَاسَّةَ سَمْعِهِ إِلَى مَا يُقَالُ لَهُ، وَهَذَا شَرْطُ التَّأَثُّرِ بِالْكَلَامِ.

وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أَيْ: شَاهِدُ الْقَلْبِ، حَاضِرٌ غَيْرُ غَائِبٍ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ((اسْتَمَعَ كِتَابَ اللهِ وَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ وَالْفَهْمِ، لَيْسَ بِغَافِلٍ وَلَا سَاهٍ)).

وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَانِعِ مِنْ حُصُولِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ سَهْوُ الْقَلْبِ وَغَيْبَتُهُ عَنْ تَعَقُّلِ مَا يُقَالُ لَهُ، وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَتَأَمُّلِهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَحَلُّ الْقَابِلُ وَهُوَ الْقَلْبُ الْحَيُّ، وَوُجِدُ الشَّرْطُ وَهُوَ الْإِصْغَاءُ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ وَهُوَ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ وَذُهُولُهُ عَنْ مَعْنَى الْخِطَابِ، وَانْصِرَافُهُ عَنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ؛ حَصَلَ الْأَثَرُ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَالتَّذَكُّرُ)).

وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي هَجْرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ((هَجْرَ الْقُرْآنِ أَنْوَاعٌ:

أَحَدُهَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ.

وَالثَّانِي: هَجْرُ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؛ وَإِنْ قَرَأَهُ وَآمَنَ بِهِ.

وَالثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ هَجْرِ الْقُرْآنِ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَأَنَّ أَدِلَّتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا تُحَصِّلُ الْعِلْمَ.

وَالرَّابِعُ: هَجْرُ تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنْهُ.

وَالْخَامِسُ: هَجْرُ الِاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ فِي جَمِيعِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَأَدْوَائِهَا، فَيَطْلُبُ شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَهْجُرُ التَّدَاوِيَ بِهِ!!

وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْهَجْرِ أَهْوَنَ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الْحَرَجُ الَّذِي فِي الصُّدُورِ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حَرَجًا مِنْ إِنْزَالِهِ وَكَوْنِهِ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ التَّكَلُّمِ بِهِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ أَلْهَمَ غَيْرَهُ أَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ كِفَايَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الْعِبَادَ، بَلْ هُمْ مُحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى الْمَعْقُولَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ أَوِ الْآرَاءِ أَوِ السِّيَاسَاتِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ حَقَائِقُهُ الْمَفْهُومَةُ مِنْهُ عِنْدَ الْخِطَابِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ تَأْوِيلُهَا وَإِخْرَاجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا إِلَى تَأْوِيلَاتٍ مُسْتَكْرَهَةٍ مُشْتَركَةٍ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ وَإِنْ كَانَتْ مُرَادَةً فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوْ أَوْهَمَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ لِضَرْبٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ فِي صُدُورِهِمْ حَرَجٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَيَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَلَا تَجِدُ مُبْتَدِعًا فِي دِينِهِ قَطُّ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُخَالِفُ بِدْعَتَهُ، كَمَا أَنَّكَ لَا تَجِدُ ظَالِمًا فَاجِرًا إِلَّا وَفِي صَدْرِهِ حَرَجٌ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِرَادَتِهِ؛ فَتَدَبَّرْ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ ارْضَ لِنَفْسِكَ بِمَا تشَاءُ!)).

((تَأَمَّلْ خِطَابَ الْقُرْآنِ تَجِدْ مَلِكًا لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلُّهَا بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا مِنْهُ، وَمَرَدُّهَا إِلَيْهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، عَالِمًا بِمَا فِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى إِسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، يَسْمَعُ وَيَرَى، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُقَدِّرُ وَيَقْضِي وَيُدَبِّرُ.

الْأُمُورُ نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ دَقِيقُهَا وَجَلِيلُهَا، وَصَاعِدَةٌ إِلَيْهِ، لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ.

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُهُ يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيُمَجِّدُ نَفْسَهُ، وَيَحْمَدُ نَفْسَهُ، وَيَنْصَحُ عِبَادَهُ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ؛ فَيُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ تَمَامَهَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ نِقَمِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِنْ أَطَاعُوهُ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِنْ عَصَوْهُ، وَيُخْبِرُهُمْ بِصُنْعِهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْسَنِ أَوْصَافِهِمْ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَبِيحِ صِفَاتِهِمْ.

وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَيُنَوِّعُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ أَعْدَائِهِ أَحْسَنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيُصَدِّقُ الصَّادِقَ، وَيُكَذِّبُ الْكَاذِبَ، وَيَقُولُ الْحَقَّ، وَيَهْدِي السَّبِيلَ، وَيَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهَا وَحُسْنَهَا وَنَعِيمَهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ، وَيَذْكُرُ عَذَابَهَا وَقُبْحَهَا وَآلَامَهَا، وَيُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ وَشِدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَيَشْهَدُ مِنْ خِطَابِهِ عِتَابَهُ لِأَحْبَابِهِ أَلْطَفَ عِتَابٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُقِيلٌ عَثَرَاتِهِمْ، وَغَافِرٌ زَلَّاتِهِمْ، وَمُقِيمٌ أَعْذَارَهُمْ، وَمُصْلِحٌ فَسَادَهُمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْهُمْ، وَالنَّاصِرُ لَهُمْ، وَالْكَفِيلُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُنْجِي لَهُمْ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَالْمُوفِي لَهُمْ بِوَعْدِهِ، وَأَنَّهُ وَلِيُّهُمُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمْ سِوَاهُ؛ فَهُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ، وَنَصِيرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ؛ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.

فَإِذَا شَهِدَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْقُرْآنِ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا جَمِيلًا هَذَا شَأْنُهُ؛ فَكَيْفَ لَا تُحِبُّهُ، وَتُنَافِسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتُنْفِقُ أَنْفَاسَهَا فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَرِضَاهُ آثَرَ عِنْدَهَا مِنْ رِضَا كُلِّ مَا عَدَاهُ؟! وَكَيْفَ لَا تَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيَصِيرُ حُبُّهُ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ وَالْأُنْسُ بِهِ غِذَاءَهَا وَقُوتَهَا وَدَوَاءَهَا؛ بِحَيْثُ إِنْ فَقَدَتْ ذَلِكَ فَسَدَتْ وَهَلَكَتْ، وَلَمْ تَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهَا؟!)).

لَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} مَا دَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظِيمَ شَأْنِهِ، وَذَكَرَ النَّارَ وَعَظِيمَ شَأْنِهَا، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا لِأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، فَأَخْبَرَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو وَمَا يَسْمَعُ؛ لِيَنْتَفِعَ بِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَبِالِاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَثَّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

 أَلَا تَرَوْنَ -رَحِمَكُمُ اللهُ- إِلَى مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلَامَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرَفَ عَظِيمَ تَفَضُّلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَرَفَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ؛ فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ الْكَرِيمُ، وَرَغَّبَ فِيمَا رَغَّبَهُ فِيهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً؛ فَاسْتَغْنَى بِلَا مَالٍ، وَعَزَّ بِلَا عَشِيرَةٍ، وَأَنِسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لِلسُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتَى أَتَّعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتَى أَخْتُمُ السُّورَةَ؟! وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَزْدَجِرُ؟ مَتَى أَعْتَبِرُ؟ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ بِغَفْلَةٍ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ».

وَقَالَ الْحَسَنُ: «الْزَمُوا كِتَابَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَتَبَّعُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَكُونُوا فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ، ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا عَرَضَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللهِ؛ حَمِدَ اللهَ وَسَأَلَهُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ؛ أَعْتَبَ نَفْسَهُ، وَرَجَعَ مِنْ قَرِيبٍ)).

وَعَنْ أَبِي كِنَانَةَ، أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ جَمَعَ الَّذِينَ قَرَؤُوا القُرْآنَ -وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةٍ-، فَعَظَّمَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَائِنٌ لَكُمْ ذُخْرًا -أَيْ: ثَوَابًا  مُدَّخَرًا-، وَكَائِنٌ عَلَيْكُمْ وِزْرًا؛ فَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ وَلَا يَتَّبِعْكُمْ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ هَبَطَ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ الْقُرْآنُ زَجَّ فِي قَفَاهُ، فَقَذَفَهُ فِي النَّارِ)).

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا هُوَ -أَيْ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ حَالَهُ: هَلْ هُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، أَمْ مِنَ الطَّالِحِينَ-؛ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ)).

وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: قَالَ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ)) ».

فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ الْقُرْآنِ؛ خَاصَّةً فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ الْقُرْآنَ؛ وَإِلَّا مَا اسْتَفَدْنَا مِنْهُ مَا نَرْجُوهُ، وَمَا حَقَّقْنَا مِنْهُ مَا نَطْلُبُهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

((قُوَّةُ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ مِنْ جَوَانِبِ الْعَظَمَةِ فِي الْقُرْآنِ: قُوَّةَ تَأْثِيرِهِ عَلَى كُلِّ مَا يَتَّصِلُ بِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ الحشر: ٢١]

لَوْ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْقُرْآنَ تَكْلِيفًا وَتِلَاوَةً عَلَى جَبَلٍ فِي وُعُورَتِهِ وَقَسْوَتِهِ وَصَلَادَتِهِ وَصَلَابَتِهِ، فِي حُزُونَتِهِ وَسُمُوقِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَثَبَاتِهِ، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ﷺ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ؛ وَلَكِنْ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنْ ثَبَّتَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتَلَقُّونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ زَادَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْكُمْ فَيَسَّرَهُ لَكُمْ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا. 

لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذكَّرَنَا بِالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا وَاصْطِفَائِنَا، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِنَّ ظَالِمَنَا الَّذِي يَظْلِمُ نَفْسَهُ هُوَ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ .

فَمَا تَقُولُ فِي أُمَّةٍ ظَالِمُهَا مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؟!

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [ فاطر: ٣٢ ]

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَتَفَاعَلُ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا أَوْفَدَتْهُ قُرَيْشٌ لِيُكَلِّمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَوَافَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ بِأَصْحَابِهِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الطُّورِ، قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَسَمِعْتُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ*أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36]، قَالَ: فَكَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَذَلِكَ حِينَ دَخَلَ الْإِسْلَامُ قَلْبِي))، لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَهَذَا أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ -وَالْمِرْبَدُ: هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُيَبَّسُ فِيهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ-، فَأُسَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ بِشَطَنٍ أَيْ: بِحَبْلٍ- هُنَالِكَ، وَعِنْدَهَا وَلَدُهُ يَحْيَى.

أَخَذَ أُسَيْدٌ يَتْلُو كَلَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَخَذَتِ الْفَرَسُ تَجُولُ أَيْ: تَتَحَرَّكُ فِي مَوْضِعِهَا، تَرْفَعُ حَوَافِرَهَا وَتَخْفِضُهَا-، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.

 ثُمَّ قَرَأَ أُسَيْدٌ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.

 ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَخَشِيَ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى بِحَافِرِهَا، فَقَامَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَأَى كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ؛ غَيْرَ أَنَّهَا تَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ حَتَّى ذَهَبَتْ، فَخَشِيَ عَلَى يَحْيَى فَسَكَتَ.

 ثُمَّ غَدَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْبَارِحَةَ.

 قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)). 

قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.

قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)). 

قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.

قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)). 

قال: يَا رَسُولَ اللهِ! خِفْتُ عَلَى يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ الْفَرَسُ بِحَافِرِهَا، ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ، فَلَمَّا سَكَتُّ تَوَارَتْ، وَعُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ.

فَقَالَ:  ((تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ، وَلَوْ أَنَّكَ ظَلَلْتَ فِي قِرَاءَتِكَ وَعَلَيْهَا؛ لَأَصْبَحَ النَّاسُ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ  ».

{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: ١٧ ]؛ وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ الَّذِي يَصْلُدُ قَلْبُهُ فَوْقَ صَلَادَةِ الْجِبَالِ، وَيَصْلُبُ فُؤَادُهُ فَوْقَ صَلَابَتِهَا!! فَاللَّهُمَّ لَيِّنْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ وَلِذِكْرِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَلَقَدْ تَحَدَّى اللهُ -تَعَالَى- الْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِأَئِمَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صُنْعِكَ، وَحَاوَلُوا إِغْرَاءَكَ بِتَبْدِيلِ مَا كَرِهُوا مِنَ الْقُرْآنِ، قُلْ لَهُمْ: أُقْسِمُ لَكُمْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهِ الْبَيَانِيِّ، وَالْعِلْمِيِّ، وَالتَّشْرِيعِيِّ، وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ؛ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُعِينًا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].

(({‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ أَيِ‏:‏ الْمُكَذِّبُونَ بِهِ عِنَادًا وَبَغْيًا‏:‏ ‏{‏افْتَرَاهُ‏}‏ مُحَمَّدٌ عَلَى اللهِ وَاخْتَلَقَهُ!! ‏{‏قُلْ‏}‏ لَهُمْ -مُلْزِمًا لَهُمْ بِشَيْءٍ- إِنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ؛ أَمْكَنَ مَا ادَّعَوْهُ؛ وَإِلَّا كَانَ قَوْلُهُمْ بَاطِلًا.‏

‏{‏فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ يُعَاوِنُكُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَلَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَادَّعَوْا قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَأَتَوْا بِمِثْلِهِ)).‏

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].

(({أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أَيِ: افْتَرَى مُحَمَّدٌ هَذَا الْقُرْآنَ؟! فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَهُمْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّهُ قَدِ افْتَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَأَنْتُمُ الْأَعْدَاءُ حَقًّا، الْحَرِيصُونَ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُكُمْ عَلَى إِبْطَالِ دَعَوْتِهِ، فَإِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ فَأَتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)).

((عَظَمَةُ الْخَالِقِ وَقُدْرَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَجِدُهُ عَامِرًا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ-، وَبَيَانِ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ؛ سَوَاءٌ فِي خَلْقِ الْكَوْنِ، أَوْ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ أَوْدَعَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].

(({مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: مَا أَهْمَلْنَا وَلَا أَغْفَلْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا مُثْبَتَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَتَقَعُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ طِبْقَ مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ قَدْ حَوَى جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَهَذَا أَحَدُ مَرَاتِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ؛ فَإِنَّهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: عِلْمُ اللَّهِ الشَّامِلُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكِتَابُهُ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ النَّافِذَةُ الْعَامَّةُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَخَلْقُهُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ حَتَّى أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ: هَذَا الْقُرْآنُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى كَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِ شَيْءٍ})).

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَا وَرَدَ فِيهِ عَنْ هَذَا الْكَوْنِ الْوَاسِعِ يَسْتَشْعِرُ عَظَمَةَ الْخَالِقِ وَقُدْرَتَهُ؛ فَالْكَوْنُ كُلُّهُ يَسِيرُ وَفْقَ نِظَامٍ دَقِيقٍ، وَتَرْتِيبٍ بَدِيعٍ، وَتَنْسِيقٍ مُحْكَمٍ، وَإِتْقَانٍ يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَتِلْكَ صَنْعَةُ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا، وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا، وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعَ الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

وَتَأَمَّلْ فِي كُلِّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ ذَرَّاتٍ وَعَنَاصِرَ، وَنُظُمٍ وَقَوَانِينَ وَنَوَامِيسَ، وَنِسَبٍ وَرَوَابِطَ وَعَلَائِقَ، وَأَقْدَارٍ وَأَحْجَامٍ وَأَوْزَانٍ، وَمُدَدٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَزْمَانٍ، وَصُوَرٍ وَأَشْكَالٍ وَأَلْوَانٍ، وَحَرَكَاتٍ وَسَكَنَاتٍ وَأَوْضَاعٍ، وَأَجْنَاسٍ وَأَصْنَافٍ وَأَنْوَاعٍ.

وَتَعَالَ تَتَصَوَّرْ عَدَدَ مَا فِي الْعَالَمِ -عَالَمِ الْخَلْقِ- مِنْ شَيْءٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْمَجَرَّةِ، وَتَصَّوَرْ عَدَدَ مَا يَرْبِطُ بَيْنَهَا فِي عَالَمِ الْأَمْرِ مِنْ رَوَابِطَ وَعَلَائِقَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّوَامِيسِ وَالْأَقْدَارِ وَالْمُدَدِ، وَالْأَشْكَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَوْضَاعِ، ثُمَّ تَعَالَ نَدْرُسْ فِي ضَوْءِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ تَقْدِيرٍ وَاتِّزَانٍ، وَتَنْظِيمٍ وَتَرْتِيبٍ وَإِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ.

مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.

{وَكُلُّ شَيْءٍ عَنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}.

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}.

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ}.

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}.

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.

{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}.

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ}.

هَذَا بَعْضُ كَلَامِ اللهِ الَّذِي نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ، النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، سَلِيلِ الْقَبِيلَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَرَبِيبِ الْبِيئَةِ الْأُمِّيَّةِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ، وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

((جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ))

عِبَادَ اللهِ! ((يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ اللهِ -تَعَالَى- وَخَاصَّتِهِ، وَمِمَّنْ وَعَدَهُ اللهُ مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْكَرِيمِ، وَمَنْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِمْ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ))، وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: ((إِذَا خَتَمَ الْعَبْدُ الْقُرْآنَ؛ قَبَّلَ الْمَلَكُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ))، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ، يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرِبَ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقٍ شَرِيفَةٍ تَبِينُ بِهِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.

فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ تَقْوَى اللهِ -تَعَالَى- فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ؛ بِاسْتِعْمَالِ الْوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلَى دِينِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، مُمَيِّزًا لِكَلَامِهِ، إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا، قَلِيلَ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عَدُوِّهِ، يَحْبِسُ لِسَانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ؛ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وَسُوءَ عَاقِبَتِهِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ؛ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، إِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَقَّ تَبَسَّمَ، يَكْرَهُ الْمُزَاحَ خَوْفًا مِنَ اللَّعِبِ، فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا، بَاسِطَ الوَجْهِ، طَيِّبَ الْكَلَامِ، لَا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ؛ فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟!!

يَحْذَرُ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلَاهُ، لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَحْقِرُ أَحَدًا، وَلَا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلَا يَشْمَتُ بِمُصِيبَةٍ، وَلَا يَبْغِي عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَحْسُدُهُ، وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأَحَدٍ إِلَّا بِمَنْ يَسْتَحِقُّ، يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، وَهِيَ الْغِبْطَةُ، وَيَظُنُّ بِعِلْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ عَيْبٍ بِعِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فِيهِ بِعِلْمٍ، قَدْ جَعَلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ دَلِيلَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، حَافِظًا لِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، إِنْ مَشَى مَشَى بِعِلْمٍ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ بِعِلْمٍ.

يَجْتَهِدُ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَلَا يَجْهَلُ، فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ، وَلَا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَى، وَلَا يَبْغِي، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِمُ غَيْظَهُ لِيُرْضِيَ رَبَّهُ، وَيَغِيظَ عَدُوَّهُ، مُتَوَاضِعٌ فِي نَفْسِهِ، إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقُّ قَبِلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، مَاقِتًا لِلْكِبْرِ، خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لَا يَتَأَكَّلُ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ تُقْضَى لَهُ بِهِ الْحَوَائِجُ، وَلَا يَسْعَى بِهِ إِلَى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلَا يُجَالِسُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ لِيُكْرِمُوهُ، إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا الْكَثِيرَ بِلَا فِقْهٍ وَلَا بَصِيرَةٍ؛ كَسَبَ هُوَ الْقَلِيلَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ، إِنْ لَبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الْفَاخِرَ، لَبِسَ هُوَ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ، يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُطْغِيهِ.

يَتَّبِعُ وَاجِبَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَأْكُلُ الطَّعَامَ بِعِلْمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيَنَامُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْحَبُ إِخْوَانَهُ بِعِلْمٍ، وَيَزُورُهُمْ بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاوِرُ جَارَهُ بِعِلْمٍ، يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِرَّ وَالِدَيْهِ، فَيَخْفِضُ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفِضُ لِصَوْتِهِمَا صَوْتَهُ، وَيَبْذُلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالرَّحْمَةِ، يَدْعُو لَهُمَا بِالْبَقَاءِ، وَيَشْكُرُ لَهُمَا عِنْدَ الْكِبَرِ، لَا يَضْجَرُ بِهِمَا، وَلَا يَحْقِرُهُمَا، إِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةٍ أَعَانَهُمَا، وَإِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَرَفَقَ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُمَا، أَيْ: عِنْدَمَا يَرْفُضُ طَاعَتَهُمَا فِي الْمَعْصِيَةِ؛ فَلْيَكُنِ الرَّفْضُ بِأَدَبٍ وَرِفْقٍ، بِحُسْنِ الْأَدَبِ؛ لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَا مِمَّا لَا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُهُ.

يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَكْرَهُ الْقَطِيعَةَ، مَنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فِيهِ أَطَاعَ اللهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمٍ، وَيُجَالِسُهُمْ بِعِلْمٍ، مَنْ صَحِبَهُ نَفَعَهُ، حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفَقَ بِهِ، لَا يُعَنِّفُ مَنْ أَخْطَأَ، وَلَا يُخَجِّلُهُ، رَفِيقٌ فِي أُمُورِهِ، صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْخَيْرِ، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرَحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا، مُؤَدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ لَهُ مُؤَدِّبَانِ، يَحْزَنُ بِعِلْمٍ، وَيَبْكِي بِعِلْمٍ، وَيَصْبِرُ بِعِلْمٍ، وَيَتَطَهَّرُ بِعِلْمٍ، وَيُصَلِّي بِعِلْمٍ، وَيُزَكِّي بِعِلْمٍ، وَيَتَصَدَّقُ بِعِلْمٍ، وَيَصُومُ بِعِلْمٍ، وَيَحُجُّ بِعِلْمٍ، وَيُجَاهِدُ بِعِلْمٍ، وَيَكْتَسِبُ بِعِلْمٍ، وَيُنْفِقُ بِعِلْمٍ، وَيَنْبَسِطُ فِي الْأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَيَنْقَبِضُ عَنْهَا بِعِلْمٍ، قَدْ أَدَّبَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، يَتَصَفَّحُ الْقُرْآنَ لِيُؤَدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرَضَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِجَهْلٍ، قَدْ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ دَلِيلَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ.

إِذَا دَرَسَ الْقُرْآنَ فَبِحُضُورِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، هِمَّتُهُ إِيقَاعُ الْفَهْمِ لِمَا أَلْزَمَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتُمُ السُّورَةَ، هِمَّتُهُ مَتَى أَسْتَغْنِي بِاللهِ عَنْ غَيْرِهِ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَاشِعِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّادِقِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَائِفِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنَ الرَّاجِينَ، مَتَى أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، مَتَى أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ، مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ الْمُتَوَاتِرَةَ، مَتَى أَشْكُرُ عَلَيْهَا، مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللهِ -جَلَّتْ عَظَمَتُهُ- الْخِطَابَ، مَتَى أَفْقَهُ مَا أَتْلُو، مَتَى أَغْلِبُ نَفْسِي عَلَى مَا تَهْوَى، مَتَى أُجَاهِدُ فِي اللهِ -تَعَالَى- حَقَّ الْجِهَادِ، مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي، مَتَى أَغُضُّ طَرْفِي، مَتَى أَحْفَظُ فَرْجِي، مَتَى أَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، مَتَى أَشْتَغِلُ بِعَيْبِي، مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي، مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي، مَتَى أَتَزَوَّدُ لِيَوْمِ مَعَادِي، مَتَى أَكُونُ عَنِ اللهِ رَاضِيًا، مَتَى أَكُونُ بِاللهِ وَاثِقًا.

مَتَى أَكُونُ بِزَجْرِ الْقُرْآنِ مُتَّعِظًا، مَتَى أَكُونُ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مُشْتَغِلًا، مَتَى أُحِبُّ مَا أَحَبَّ، مَتَى أُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ، مَتَى أَنْصَحُ للهِ، مَتَى أُخْلِصُ لَهُ عَمَلِي، مَتَى أُقَصِّرُ أَمَلِي، مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلِي، مَتَى أَعْمُرُ قَبْرِي، مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمَوْقِفِ وَشِدَّتِهِ، مَتَى أُفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي، مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمُنْقَلَبِ، مَتَى أَحْذَرُ مِمَّا حَذَّرَنِي مِنْهُ رَبِّي؛ مِنْ نَارٍ حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَغَمُّهَا طَوِيلٌ، لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا فَيَسْتَرِيحُوا، وَلَا تُقَالُ عَثْرَتُهُمْ، وَلَا تُرْحَمُ عَبْرَتُهُمْ، طَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ، وَشَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

نَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَعَضُّوا عَلَى الْأَيْدِي أَسَفًا عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَرُكُونِهِمْ لِمَعَاصِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].

وَقَالَ قَائِلٌ: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100].

وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}.

وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ وَوُجُوهُهُمْ تَتَقَلَّبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}.

فَهَذِهِ النَّارُ -يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ- حَذَّرَهَا اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفَلُوا عَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ أَلَّا يُضَيِّعُوهُ، وَأَنْ يَحْفَظُوا مَا اسْتَرْعَاهُمْ مِنْ حُدُودِهِ، وَلَا يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِهِ فَعَذَّبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ.

فَالْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ؛ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ -أَيْ: عَرَضَهُ عَلَى حَالِهِ-، فَكَانَ كَالْمِرْآةِ، يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا قَبُحَ مِنْهُ، فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ حَذِرَهُ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ، وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ.

فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ؛ فَقَدْ تَلَا الْقُرْآنَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسًا وَحِرْزًا، وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ؛ نَفَعَ نَفْسَهُ، وَنَفَعَ أَهْلَهُ، وَعَادَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: ((مَرَّتِ امْرَأَةٌ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَتْ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ، وَلِثَدْيٍ رَضَعْتَ مِنْهُ، فَقَالَ عِيسَى: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ»؛ يُرِيدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْوَحْيَ.

((الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ))

عِبَادَ اللهِ! الحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَتْلُو كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا كَانَ لَا يَتْلُو كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلَاوَةً صَحِيحَةً، فَيَجْلِسُ إِلَى مَنْ يُحْسِنُ التِّلَاوَةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفِيَّةَ التِّلَاوَةِ، فَإِنْ كَانَ مُتْقِنًا مُحْسِنًا لِلتِّلَاوَةِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَقَلِّ مَرَّةً فِي الشَّهْرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي: فِي الْقِيامِ- يَسْمَعُهُ مِنَ الْإِمَامِ؛ فَذَلِكَ؛ وَإِلَّا فَلْيَجْتَهِدْ هُوَ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي قِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ أَخْبَرَ أَنَّ ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، وَكَذَلِكَ ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))؛ فَنَصَّ عَلَى فَضْلِ الصِّيَامِ، وَعَلَى فَضْلِ الْقِيَامِ.

بَشَّرَنَا النَّبِيُّ فِي الْقِيَامِ بِبُشْرَى عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: ((مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ))، يَعْنِي: لَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُخَفِّفُ فِي التِّلَاوَةِ وَفِي الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُ  السُّنَّةَ، يُرَاعِي أَحْوَالَ المُصَلِّينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ : ((صَلِّ بِصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ))، فَيُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، ((مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ))، فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ.

يَتَبَقَّى بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتٌ لَمْ يُنْفَقْ فِي الصَّلَاةِ -فِي القِيَامِ-، فَلْيُنْفِقْهُ هُوَ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي الذِّكْرِ، فِي الدُّعَاءِ، فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِنَابَةِ، وَالخُشُوعِ، وَالرَّجَاءِ، أَلْوَانُ الْعِبَادَاتِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَهُوَ عِبَادَةٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يُثَابُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.

لِيَكُنْ مِنْ وُكْدِكُمْ عِنْدَ تِلَاوَتِكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ أَنْ تَتَدَبَّرُوهُ، عَيْبٌ كَبِيرٌ أَنْ نَعْكُفَ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ لَا نَدْرِي الْمَقَاصِدَ، وَلَا نُحِيطُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي، وَلَا نَتَّعِظُ بِوَاعِظٍ، وَلَا نَنْزَجِرُ بِزَاجِرٍ، وَلَا نَتَأَمَّلُ وَلَا نَتَدَبَّرُ فِي آيَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمَا أَنْزَلَهَا إِلَّا لِتُتَدَبَّرَ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِصِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ وَقِيَامِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنَّا، حَتَّى يَنْسَلِخَ عَنَّا الشَّهْرُ إِنْ أَحْيَانَا اللهُُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقَدْ غَفَرَ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ)).

فَمَنْ خَرَجَ مِنْ رَمَضَانَ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَهُ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ ((رَغِمَ أَنْفُهُ)): يَعْنِي: الْتَصَقَ بِالرَّغَامِ، يَعْنِي: بِالتُّرَابِ، وَالْأَنْفُ يَشْمَخُ بِهِ الْعَبْدُ، وَهُوَ مَحَطُّ عِزَّتِهِ وَشُمُوخِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي التُّرَابِ؛ فَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ، الَّذِي كَانَ يَدْعُو هُوَ جِبْرِيلُ، وَالَّذِي أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ الرَّسُولُ ((رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ))؛ فَاحْذَرْ هَذِهِ؛ لِأَنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ مِنْ رَمَضَانَ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَكَ؛ نَزَلَ بِالْأَبْعَدِ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَقْبِلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ بِقُلُوبٍ خَاشِعَةٍ، وَنُفُوسٍ ذَلِيلَةٍ لِرَبِّهَا، عَلَيْهِ مُقْبِلَةٌ، عَنْ سِوَاهُ مُدْبِرَةٌ، وَاللهُ يَرْعَاكُمْ، وَيُسَدِّدُ خُطَاكُمْ، وَيَنْفَعُكُمْ بِكِتَابِهِ دُنْيَا وَآخِرَةً.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُيَسِّرَ لَنَا تِلَاوَةَ وَفَهْمَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ التَّالِينَ لَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، الْعَامِلِينَ بِهِ، الثَّابِتِينَ عَلَيْهِ، الدَّاعِينَ إِلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:

رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ

دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عَظَمَةِ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-


 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  داء الخوارج ودواؤهم
  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ وَأَثَرُهَا فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَبِنَاءِ الدُّوَلِ
  خُطْبَةُ عِيدِ الْفِطْرِ 1444هـ
  المد الشيعي في مصر
  مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  إرهاب الطابور الخامس
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) الدَّرْسُ الرَّابِعُ ((فِي كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ))
  الرد على الملحدين:دليل العناية على وجود الله عز وجل
  مصر وحروب الجيل الرابع
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان