تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِشُرُوطِهِ قَضِيَّةُ أَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ

تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِشُرُوطِهِ قَضِيَّةُ أَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ

((تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِشُرُوطِهِ قَضِيَّةُ أَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَطْفَالُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَقُرَّةُ عَيْنٍ لِلْأَبَوَيْنِ))

فَالْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ لِلْعَبْدِ وَلَدًا صَالِحًا فِي الدُّنْيَا يَتَأَتَّى مِنْهُ دُعَاءٌ صَالِحٌ فِي الْآخِرَةِ، يَصِلُ إِلَيْهِ فِيهَا أَجْرُهُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ -مِنْهَا-: أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو اللهَ لَهُ)).

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ بِالدُّعَاءِ لِأَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا هُوَ اسْتِمْرَارٌ لِحَيَاتِهِ هُوَ؛ كَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.

فَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِلْمَرْءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَزُخْرًا لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفْعًا فِي الدَّرَجَاتِ.

وَهَذَا زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا ذَكَرًا صَالِحًا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ وَلِيًّا مِنْ بَعْدِهِ، وَيَكُونُ نَبِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَوْلَادِ.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ: أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صَالِحًا جَامِعًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَامِدِ الشِّيَمِ، فَرَحِمَهُ رَبُّهُ، وَاسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ.

فَبَشَّرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى يَدِ الْمَلَائِكَةِ بِيَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَمَّاهُ اللَّهُ لَهُ (يَحْيَى)، وَكَانَ اسْمًا مُوَافِقًا لِمُسَمَّاهُ: يَحْيَا حَيَاةً حِسِّيَّةً، فَتَتِمُّ بِهِ الْمِنَّةُ، وَيَحْيَا حَيَاةً مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 4-7].

قَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَإِنِّي خِفْتُ أَقَارِبِي وَعَصَبَتِي أَلَّا يُحْسِنُوا خِلَافَتِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، فَيُفْسِدُوا فِي مَرَاكِزِ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا أَجِدُ فِيهِمْ رَجُلًا صَالِحًا مُؤَهَّلًا لِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا مُحَافِظًا عَلَى شَرَائِعِ الدِّينِ وَتَعْلِيمَاتِهِ.

وَكَانَتِ امْرَأَتِي فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ؛ فَأَعْطِنِي مِنْ مَحْضِ فَضْلِكَ الْوَاسِعِ وَقُدْرَتِكَ الْبَاهِرَةِ وَارِثًا مِنْ ذُرِّيَّتِي، وَمُعِينًا يَتَوَلَّانِي، يَرِثُ الْعِلْمَ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الدِّينِ مِنْ بَعْدِي، وَيَرِثُ -مِنْ بَعْضِ آلِ يَعْقُوبَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ بَرًّا تَقِيًّا كَثِيرَ الرِّضَا عَنْكَ فِيمَا تَجْرِي بِهِ مَقَادِيرُكَ، مَرْضِيًّا عِنْدَكَ قَوْلًا وَفِعْلًا.

فَاسْتَجَابَ اللهُ -تَعَالَى- دُعَاءَهُ؛ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا! إِنَّا لِعَظِيمِ رُبُوبِيَّتِنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ اسْمُهُ يَحْيَى، لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ قُرَنَائِنَا -مِنْ أَصْحَابٍ وَزَوْجَاتٍ- وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ -أَيْ: تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا-.

دُعَاءٌ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فِي صَلَاحِهِمْ؛ فَإِنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوا ذَلِكَ هِبَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: هَبْ لَنَا.

بَلْ دُعَاؤُهُمْ يَعُودُ إِلَى نَفْعِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ بِصَلَاحِ مَنْ ذُكِرَ يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَيَنْتَفِعُ بِهِمْ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجُهُمْ وَذُرِّيَّاتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.

وَبِذَلِكَ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ سُرُورًا، وَيَكُونُونَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيَطْمَحُونَ إِلَى الِارْتِقَاءِ إِلَى دَرَجَاتِ الْأَبْرَارِ وَالْمُحْسِنِينَ؛ حَتَّى يَكُونُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى.

الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْعِبَادَ مِنَ الْأَوْلَادِ مَا يَشَاءُ.

فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَهَبُ لَهُ إِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهَبُ لَهُ ذُكُورًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَوِّجُهُ -أَيْ: يَجْمَعُ لَهُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا-، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49].

مِنْ خَلْقِ اللهِ: خَلْقُ الذُّرِّيَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ ضِمْنَ نِظَامِ التَّنَاسُلِ.

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا؛ فَلَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ؛ فَلَا يُولَدُ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].

دَعَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ.

فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ، وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَمِنْ دَلَائِلِ عِظَمِ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ: اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ؛ فَهَذَا الدِّينُ فِيهِ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ!!

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ فِيهِ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ.

فِي هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ وَكُلِّ مَا هُوَ خَيْرٌ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: } يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:}فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:}قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: }فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39].

فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ الَّتِي هِيَ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَيُشْرَعُ لِلْمُبَشَّرِ أَنْ يُهْدِيَ لِلْمُبَشِّرِ شَيْئًا، كَمَا أَهْدَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لِلرَّجُلِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِالتَّوْبَةِ رِدَاءَهُ وَقَمِيصَهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) -.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِنَا، وَأَنْ نَسْعَى بِالْبِشَارَةِ لِمَنْ رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَيْرٍ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِزْقًا حَسَنًا.

وَمِنَ الدَّلَائِلِ -أَيْضًا- عَلَى أَنَّ الْأَوْلَادَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَهِبَةٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِلْوَلَدِ، وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ فِيهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي؛ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَنَا: «أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ»؟

وَذَاكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: فَأَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟

فَقَالَ: جَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ؟

ثُمَّ صَلَّى بِنَا، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ! خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ.

فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، كَانَ فِي آخِرِ دُعَائِهِ أَنْ قَالَ ﷺ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

«فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ» أَيْ: فِي غَيْرِ وَقْتِ فَرِيضَةٍ.

«فَأَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟» يَعْنِي: لَمَّا كَانُوا مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ.

«وَأُمِّي»: هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ.

«خُوَيْدِمُكَ»: صُغِّرَ؛ تَلَطُّفًا، وَطَلَبًا لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ لِصِغَرِهِ، وَلَمْ يُصَغَّرْ تَحْقِيرًا.

هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ ﷺ؛ فَقَدْ أَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ لِأَنَسٍ خُوَيْدِمِهِ، قَالَ أَنَسٌ: «فَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَنِّي قَدْ رُزِقْتُ مِنْ صُلْبِي بِضْعًا وَتِسْعِينَ، وَمَا أَصْبَحَ فِي الْأَنْصَارِ رَجُلٌ أَكْثَرَ مِنِّي مَالًا». أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

وَفِي لَفْظٍ: «وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَتَهُ الْكُبْرَى أَمِينَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ دُفِنَ مِنْ صُلْبِهِ إِلَى مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ نَيِّفٌ عَلَى عِشْرِينَ وَمِئَةٍ»، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنْ وَلَدِ وَلَدِهِ عِشْرُونَ وَمِئَةٌ مِمَّنْ مَاتَ إِلَى مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَبَقِيَ لَهُ عَقِبٌ، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ فِي دُعَائِهِ لِأَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَالْوَلَدُ قُرَّةُ الْعَيْنِ، أَيْ: سَبَبُ سُرُورٍ وَفَرَحٍ.

وَقَوْلُ الْعَرَبِ: «أَقَرَّ اللهُ عَيْنَيْكَ» أَيْ: أَبْرَدَ اللهُ دَمْعَةَ عَيْنَيْكَ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بَارِدَةٌ، وَأَنَّ دَمْعَةَ الْحُزْنِ سَخِينَةٌ، فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ: «أَقَرَّ اللهُ عَيْنَيْكَ»، وَفِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ: «أَسْخَنَ اللهُ عَيْنَيْكَ».

وَالدَّمْعُ هُوَ الدَّمْعُ، وَدَرَجَةُ حَرَارَتِهِ لَا شَكَّ- وَاحِدَةٌ؛ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ دَمْعِ الْفَرَحِ وَدَمْعِ الْحُزْنِ.

وَقِيلَ: «أَقَرَّ اللهُ عَيْنَيْكَ» أَيْ: بَلَّغَكَ اللهُ أُمْنِيَّتَكَ حَتَّى تَرْضَى نَفْسُكَ، وَتَسْكُنَ عَيْنُكَ؛ فَتَقَرُّ مِنَ الْقَرَارِ لَا مِنَ الْبُرُودَةِ، حَتَّى تَسْكُنَ عَيْنُكَ فَلَا تَسْتَشْرِفَ إِلَى غَيْرِ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ.

وَالْوَلَدُ الَّذِي تَقَرُّ بِهِ الْعَيْنُ هُوَ الْوَلَدُ الصَّالِحُ، لَيْسَ كُلُّ وَلَدٍ بِقُرَّةِ عَيْنٍ.

((الْأَوْلَادُ زِينَةٌ وَابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!))

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ زِينَةُ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ يَحْمِلُكُمْ عَلَى كَسْبِ الْمُحَرَّمِ، وَمَنْعِ حَقِّ اللهِ -تَعَالَى-، فَلَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ.

فَأَمَرَ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الرِّبْحَ وَالْفَلَاحَ، وَالْخَيْرَاتِ الْكَثِيرَةَ.

وَنَهَاهُمْ أَنْ تَشْغَلَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهَا أَكْثَرُ النُّفُوسِ، فَتُقَدِّمُهَا عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} {الكهف: 46}.

الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ الْمَرْضِيَّاتُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ذَاتُ الْآثَارِ الْبَاقِيَاتِ الْمُسْعِدَاتِ لِفَاعِلِهَا هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا مِنْ كُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ زِينَةٌ لَهُ، وَهِيَ خَيْرٌ أَمَلًا.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

يَا أَيُّهَا الَّذيِنَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَاتَّبَعُوا شَرْعَهُ! إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يَصُدُّونَكُمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَقَدْ يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، وَارْتِكَابِ الْآثَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي؛ فَاحْذَرُوا أَنْ تُطِيعُوهُمْ، وَلَا تَأْمَنُوا غَوَائِلَهُمْ وَشَرَّهُمْ، وَلَا يَعْظُمُ فِي نُفُوسِكُمْ وَيَصْعُبُ عَلَيْكُمْ مُكَافَآتُهُمْ عَلَى إِحْسَانِكُمْ بِالْإِسَاءَةِ، وَالْجُحُودِ، وَنُكْرَانِ الْجَمِيلِ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: }إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].

مَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ إِلَّا بَلَاءٌ، وَاخْتِبَارٌ، وَشُغُلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُبَاشِرُوا الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تُؤْثِرُوهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ رَبِّكُمْ، وَاللهُ عِنْدَهُ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي الْجَنَّةِ لِمَنْ آثَرَ طَاعَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ! لَا تَشْغَلْكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَّصِلُ بِاللهِ سُبْحَانَهُ؛ مِنْ عَقَائِدَ إِيمَانِيَّةٍ، وَوَاجِبَاتٍ أَمَرَ اللهُ بِهَا، وَمُحَرَّمَاتٍ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، كَمَا أَلْهَتِ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ الْمُنَافِقِينَ.

وَمَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ؛ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ مَرَاتِبِ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي تِجَارَتِهِمْ، الَّذِينَ خَسِرُوا رَأْسَ مَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ: عُمُرُهُمُ الْمَحْدُودُ، وَمَنْ خَسِرَ ذَاتَهُ كَانَ الْخَاسِرَ الْأَكْبَرَ.

إِنَّ الْوَلَدَ يَحْمِلُ أَبَاهُ عَلَى الْبُخْلِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْجُبْنِ؛ فَإِنَّهُ يَتَقَاعَدُ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا بِسَبَبِ حُبِّ الْأَوْلَادِ، وَيُمْسِكُ مَالَهُ لَهُمْ!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه»-: «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ».

«مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» أَيْ: مَا يَحْمِلُ عَلَى الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، مَظِنَّةٌ لِلْبُخْلِ، مَظِنَّةٌ لِلْجُبْنِ.

وَالْوَلَدُ حَبِيبٌ إِلَى الْقَلْبِ، قَرِيبٌ إِلَى النَّفْسِ؛ فَالْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ، وَفِلْذَةُ الْكَبِدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مَا تُنْتِجُهُ الشَّجَرَةُ، وَالْوَلَدُ يُنْتِجُهُ الْأَبُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا: «وَاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ».

فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ، فَقَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟

فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ». الْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: «أَعَزُّ عَلَيَّ» أَيْ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجَلٌ أَعَزُّ عَلَيَّ.

«وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ» أَيْ: أَلْصَقُ بِالْقَلْبِ، وَأَحَبُّ إِلَى النَّفْسِ.

«فقُلْتُ لَهُ» أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَهُ.

فَخَرَجَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ رَجَعَ، فَسَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَمَّا قَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟

فقُلْتُ لَهُ -أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَ-، فقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ؛ مَحَبَّةً، وَتَمَنِّيًا لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَوْسَعِهِمْ رِزْقًا.

((تَنْظِيمُ النَّسْلِ فِي مِيزَانِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ عِزٌّ لَهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

 فَإِيَّاكَ وَقَوْلَ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ تُوجِبُ الْفَقْرَ وَالْبَطَالَةَ.

فَكَثْرَةُ الْأُمَّةِ عِزٌّ؛ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَتْ أَرْضُهُمْ قَابِلَةً لِلْحِرَاثَةِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالصِّنَاعَةِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهَا مَوَادُّ خَامٍ لِلصِّنَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ -وَاللهِ- كَثْرَةُ الْأُمَّةِ سَبَبًا لِلْفَقْرِ وَالْبَطَالَةِ أَبَدًا!!

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ تَبْقَى زَوْجَتِي شَابَّةً، فَلَا أُحِبُّ أَنْ تَلِدَ!!

فَنَقُولُ: هَذَا غَرَضٌ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لَكِنَّ الْوِلَادَةَ أَوْ كَثْرَةَ الْأَوْلَادِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أُنَظِّمَ النَّسْلَ، بِمَعْنَى: أَنْ أَجْعَلَ امْرَأَتِي تَلِدُ كُلَّ سَنَتَيْنِ مَرَّةً؛ فَهَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟

هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْزِلُونَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَالْعَزْلُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْحَمْلِ غَالِبًا.

((تَنْظِيمُ النَّسْلِ لَيْسَ بِيَدِ الْإِنْسَانِ، بَلْ هُوَ بِيَدِ مَنْ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،  كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49].

وَقَالَ: }أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:50].

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْعَزْلِ: «لَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا مَنَعْتَهُ)).

فَالْأَمْرُ بِيَدِ اللهِ)).

((إِنَّ تَنْظِيمَ النَّسْلِ: هُوَ الْعِنَايَةُ لِأَسْبَابِ الْحَمْلِ فِي وَقْتِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ الْمَرْأَةَ، وَلَا يُسَبِّبُ لَهَا مَتَاعِبَ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْحَمْلَ فِي وَقْتٍ مَا لِمَصْلَحَةِ الْحَمْلِ، أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَتِهِمَا جَمِيعًا، فَهَذَا يُسَمَّى تَنْظِيمَ النَّسْلِ؛ بِتَعَاطِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى تَنْظِيمِ النَّسْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً لَا تَتَحَمَّلُ الْحَمْلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى تَقْتَضِي عَدَمَ حَمْلِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ يُقَرِّرُهَا الْأَطِبَّاءُ، أَوْ تَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا؛ كُلَّمَا خَرَجَتْ مِنَ النِّفَاسِ حَمَلَتْ بِإِذْنِ اللهِ، فَيَشُقُّ عَلَيْهَا تَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَالْعِنَايَةُ بِشُؤُونِهِمْ؛ فَتَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى لَا تَحْمَلَ إِلَّا بَعْدَ وَقْتٍ؛ كَأَنْ تَحْمَلَ بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ أَجْلِ مُرَاعَاةِ الْأَطْفَالِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، وَالْعِنَايَةِ بِشُؤُونِهِمْ.

وَهَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ مَذْكُورَةٍ؛ بِأَنْ تَكُونَ تَحْمَلُ هَذَا عَلَى هَذَا، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ لِيَكُونَ هُنَاكَ فَصْلٌ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ؛ كَسَنَةٍ، أَوْ سَنَتَيْنِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ؛ حَتَّى تَسْتَطِيعَ الْقِيَامَ بِالتَّرْبِيَةِ الْمَطْلُوبَةِ.

كَمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا لِلْمَصْلَحَةِ.

وَهَكَذَا تَعَاطِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ يَضُرُّهَا الْحَمْلُ لِمَرَضٍ بِهَا، أَوْ بِرَحِمِهَا، فَيُقَرِّرُ الطَّبِيبُ الْمُخْتَصُّ أَوِ الْأَطِبَّاءُ أَوِ الطَّبِيبَاتُ الْمُخْتَصَّاتُ بِأَنَّ حَمْلَهَا كُلَّ سَنَةٍ أَوْ كُلَّ سَنَتَيْنِ يَضُرُّهَا، فَقَدْ تَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا تَحْمَلُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ أَوْ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَرَضِ)).

((فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَدْ تُضْطَرُّ الْمَرْأَةُ إِلَى تَأْجِيلِ الْحَمْلِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ؛  كَمَرَضِهَا، أَوْ ضَعْفِهَا، أَوْ عَجْزِهَا عَنِ الْقِيَامِ بِحَضَانَةِ أَوْلَادِهَا، فَهَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تَتَّخِذَ مَا يُؤَجِّلُ الْحَمْلَ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَا الزَّوْجِ، أَمَّا الْجَنِينُ إِذَا حَمَلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13]، لَا يَجُوزُ إِنْزَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْذُ كَانَ نُطْفَةً ابْتَدَأَ تَكْوِينُهُ، فَلَا يَجُوزُ إِنْزَالُ الْحَمْلِ مُنْذُ تَكْوِينِهِ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ الْأُمِّ لَا تَتَحَمَّلُ الْحَمْلَ؛ لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهَا، أَوْ فِي صِحَّتِهَا، أَوْ فِي بَطْنِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْزِلُ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَيْ: إِلَى أَنْ تُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ أَبَدًا بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ صَارَ إِنْسَانًا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ)).

((تَنْظِيمُ النَّسْلِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ لِكَوْنِهَا ذَاتَ أَطْفَالٍ كَثِيرِينَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا التَّرْبِيَةُ، أَوْ لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ، أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى رَآهَا الْأَطِبَّاءُ الثِّقَاتُ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّنْظِيمِ بِأَنْ تَمْنَعَ الْحَمْلَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهَكَذَا؛ حَتَّى تَسْتَطِيعَ تَرْبِيَةَ أَطْفَالِهَا، أَوْ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهَا الْمَرَضُ.

أَمَّا بِدُونِ حَاجَةٍ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَخْذُ الْحُبُوبِ، وَلَا يَنْبَغِي مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- شَرَعَ لَنَا أَسْبَابَ تَكْثِيرِ النَّسْلِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ يَأْتِي بِرِزْقِهِ، وَفِي تَرْبِيَتِهِ وَالتَّعَبِ عَلَيْهِ أَجْرٌ كَثِيرٌ مَعَ صَلَاحِ النِّيَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَخْذِ الْحُبُوبِ وَلَا إِلَى التَّنْظِيمِ إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ وَحَاجَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ كَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَمَشَقَّةِ التَّرْبِيَةِ، أَوْ مَا يَعْتَرِي الْأُمَّ مِنَ الْمَرَضِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْوَجِيهَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِالْحُبُوبِ، أَوْ بِاللَّوْلَبِ، أَوْ بِإِبَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ تَنْظِيمِ الْحَمْلِ.

أَمَّا مَنْعُهُ؛ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا لِعِلَّةٍ؛ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى حَيَاةِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْحَمْلَ لَوْ فِيهِ خَطَرٌ عَلَيْهَا؛ فَلَا بَأْسَ بِمَنْعِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا يُمْنَعُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَعَاطِي مَنْعِهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَاطِي مَنْعِ الْحَمْلِ إِلَّا لِعِلَّةٍ لَا حِيلَةَ فِيهَا، وَهِيَ الْخَوْفُ عَلَى الْأُمِّ مِنَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى حَيَاتِهَا)).

((إِنَّ مَنْعَ الْحَمْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَحْدِيدَ النَّسْلِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَجَاوَزُ أَوْلَادُهُ مِنْ ذُكُورٍ أَوْ إِنَاثٍ هَذَا الْقَدْرَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَدْرِي هَذَا الْمُحَدِّدُ لِنَسْلِهِ؛ فَلَعَلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ يَمُوتُونَ، فَيَبْقَى لَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ!!

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَنْعُ الْحَمْلِ لِتَنْظِيمِ النَّسْلِ، بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَثِيرَةَ الْإِنْجَابِ، وَتَتَضَرَّرُ فِي بَدَنِهَا أَوْ فِي شُؤُونِ بَيْتِهَا، وَتُحِبُّ أَنْ تُقَلِّلَ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ مِثْلُ أَنْ تُنَظِّمَ حَمْلَهَا فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مَرَّةً، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْعَزْلَ الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَفْعَلُونَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ.

وَمَوْضُوعُ تَحْدِيدِ النَّسْلِ أَوْ تَنْظِيمِهِ لِلْخَوْفِ مِنَ الرِّزْقِ؛ هَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَذَيْنِ الْمَحْظُورَيْنِ، وَهُمَا:

*سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

*وَالثَّانِي: مُشَابَهَةُ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا رَزَقَهُ أَوْلَادًا؛ فَسَيَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابًا مِنَ الرِّزْقِ حَتَّى يَقُومَ بِشُؤُونِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ وَرِزْقِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَقُولُ: أَنَا لَا أُحَدِّدُ النَّسْلَ أَوْ لَا أُنَظِّمُهُ مِنْ خَوْفِي ضِيقَ الرِّزْقِ، وَلَكِنْ مِنْ خَوْفِ الْعَجْزِ عَنْ  تَأْدِيبِهِمْ وَتَوْجِيهِهِم، وَهَذَا -أَيْضًا- خَطَأٌ؛ فَإِنَّ تَأْدِيبَهُمْ وَتَوْجِيهَهُمْ كَرِزْقِهِمْ، الْكُلُّ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَمَا أَنَّكَ تَعْتَمِدُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- فِي رِزْقِ أَوْلَادِكَ؛ كَذَلِكَ -أَيْضًا- يَجِبُ أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي أَدَبِ أَوْلَادِكَ وَهِدَايَتِهِمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الْهَادِي -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ-، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي.

وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يُنَظِّمُ نَسْلَهُ أَوْ يُحَدِّدُهُ خَوْفًا مِنْ غِوَايَتِهِمْ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ هُوَ -أَيْضًا- مُسِيءٌ لِلظَّنِّ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَإِلَّا فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِيَدِهِ الْأُمُورُ.

وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا مِمَّا يُقَلِّلُ الْأَوْلَادَ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ لِذَلِكَ أَوِ الضَّرُورَةُ.

ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ وَكَثْرَةَ النَّسْلِ مِنْ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَلِهَذَا فشُعَيْبٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذَكَّرَ قَوْمَهُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وَكَذَلِكَ مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ حَيْثُ قَالَ: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].

فَكَثْرَةُ الْأُمَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا سَبَبٌ لِعِزَّتِهَا، وَقِيَامِهَا بِنَفْسِهَا، وَاكْتِفَائِهَا بِمَا لَدَيْهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَرُبَّمَا لِكَثْرَتِهَا تَكُونُ سَبَبًا لِفَتْحِ مَصَادِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الرِّزْقِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا بِأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا.

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الدُّوَلِ غَزَتْ دُوَلًا أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَشَدَّ مِنْهَا قُوَّةً بِسَبَبِ فَقْرِ أَفْرَادِهَا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَحُونَ الْمَعَامِلَ وَالْمَصَانِعَ، وَيُنْتِجُونَ إِنْتَاجًا بَالِغًا؛ لِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ مُحَاوَلَةَ تَحْدِيدِ النَّسْلِ أَوْ تَنْظِيمِهِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ كَيْدِ أَعْدَائِنَا بِنَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَرْمِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَلِمَا يَوَدُّهُ مِنْ تَكْثِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاتِهِ ﷺ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ)).

((مَا قَدْ يُفَسَّرُ بِهِ تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِأَنْ تَتَعَاطَى الْمَرْأَةُ أَدْوِيَةً تَمْنَعُ الْحَمْلَ بَعْدَ وَلَدَيْنِ، أَوْ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ، أَوْ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ؛ هَذَا لَيْسَ بِتَنْظِيمٍ، وَلَكِنَّهُ قَطْعٌ لِلنَّسْلِ، وَحِرْمَانٌ لِلزَّوْجَيْنِ مِنَ النَّسْلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْكَامِلَةَ جَاءَتْ بِالْحَثِّ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوِلَادَةِ، وَكَثْرَةِ النَّسْلِ لِلْأُمَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: ((تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وَفِي لَفْظٍ: ((الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

فَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النَّسْلِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَتَكْثِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَتَكْثِيرِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَيَدْعُوهُ، وَيَسْتَغِيثُ بِهِ، وَيُبَادِرُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ، فَهَذَا لَا يُسَمَّى تَنْظِيمًا، وَلَكِنَّهُ قَطْعٌ لِلنَّسْلِ؛ فَلَا يَجُوزُ.

وَهَكَذَا تَعَاطِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْوَلَدَ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْقَطْعَ، وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ؛ مِنْ مَرَضِهَا، أَوْ مَرَضِ رَحِمِهَا، أَوْ حَمْلِهَا هَذَا عَنْ هَذَا حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ التَّرْبِيَةَ، هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَقْتَضِي التَّنْظِيمَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ)).

قَالَ شَيْخُ الْأَزْهَرِ الْأَسْبَقُ الشَّيْخُ: جَادُ الْحَقِّ عَلي جَادُ الْحَق -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَنْظِيمُ النَّسْلِ جَائِزٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، مَا دَامَ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَضْرَارِ كَثْرَةِ الْحَمْلِ، أَوْ تَهْيِئَةَ الْجَوِّ الْمُنَاسِبِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ تَرْبِيَةً سَلِيمَةً صَحِيحَةً)).

وَقَدْ((أَجَازَ فُقَهَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَزْلَ كَوَسِيلَةٍ لِمَنْعِ الْحَمْلِ بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَعَدَمِ وُقُوعِ الضَّرَرِ، وَإِذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى لَمْ يَذْكُرُوا وَسِيلَةً أُخْرَى؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَزْلَ كَانَ هُوَ الطَّرِيقَ الْمَعْرُوفَ فِي وَقْتِهِمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَا يَمْنَعُ قِيَاسَ مَثِيلِهِ عَلَيْهِ مَا دَامَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَزْلِ هُوَ مَنْعُ الْحَمْلِ، فَلَا ضَيْرَ مِنْ سَرَيَانِ إِبَاحَةِ مَنْعِ الْحَمْلِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ حَدِيثَةٍ تَمْنَعُهُ مُؤَقَّتًا دُونَ تَأْثِيرٍ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاحِيَةِ لِلْإِنْجَاب.

لَا فَرْقَ إِذَنْ بَيْنَ الْعَزْلِ بِاعْتِبَارِهِ سَبَبًا وَبَيْنَ وَضْعِ حَائِلٍ يَمْنَعُ وُصُولَ مَاءِ الرَّجُلِ إِلَى دَاخِلِ رَحِمِ الزَّوْجَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحَائِلُ يَضَعُهُ الرَّجُلُ أَوْ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا كَذَلِكَ وَبَيْنَ أَيِّ دَوَاءٍ يَقْطَعُ الطَّبِيبُ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْحَمْلَ مُؤَقَّتًا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْجَابِ مُسْتَقْبَلًا، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ تَنَاوَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ طُرُقًا لِمَنْعِ الْحَمْلِ غَيْرَ الْعَزْلِ، وَأَبَاحُوهَا قِيَاسًا عَلَى الْعَزْلِ، وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا يُؤَخِّرُ الْحَمْلَ مُدَّةً.

عَلَى هَذَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ لِمَنْعِ الْحَمْلِ مُؤَقَّتًا، أَوْ تَأْخِيرِهِ مُدَّةً؛ كَاسْتِعْمَالِ أَقْرَاصِ مَنْعِ الْحَمْلِ، أَوِ اسْتِعْمَالِ اللَّوْلَبِ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَبْقَى مَعَهَا الزَّوْجَانِ صَالِحَيْنِ لِلْإِنْجَابِ؛ بَلْ إِنَّ هَذِهِ الْوَسَائِلَ أَوْلَى مِنَ الْعَزْلِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا يَكُونُ الِاتِّصَالُ الْجِنْسِيُّ بِطَرِيقٍ طَبِيعِيٍّ، أَمَّا الْعَزْلُ؛ فَقَدْ كَانَ فِي اللُّجُوءِ إِلَيْهِ أَضْرَارٌ كَثِيرَةٌ لِلزَّوْجَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأَقَلِّ)).

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْزَقْ وَلَدًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دُعَاءِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْوَلَدَ الصَّالِحَ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ؛ فَقَدْ أَصْلَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-  الْمَرْأَةَ الْعَقِيمَ الَّتِي لَا تَلِدُ، وَرَزَقَ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُظَنُّ أَلَّا يُنْجِبَ.

وَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَابْتَهَلَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِدُعَاءِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10-12].

فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.

((حُقُوقُ الْأَطْفَالِ فِي الْإِسْلَامِ))

عِبَادَ اللهِ! اعْلَمُوا أَنَّ لِأَوْلَادِكُمْ عَلَيْكُمْ حُقُوقًا كَمَا أَنَّ لَكُمْ عَلَيْهِمْ حُقُوقًا، فَأَدُّوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ لِيُؤَدُّوا لَكُمْ حُقُوقَكُمْ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدِ اعْتَنَى بِالذَّرَارِيِّ وَالْأَوْلَادِ عِنَايَةً تَامَّةً؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ وَالذَّرَارِيَّ هُمْ أَبْنَاءُ الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ آبَاءَهُمْ، وَيَقُومُونَ بِالْمُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَلِذَلِكَ يَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِمْ مِنْ قِبَلِ وَالِدِيهِمْ، وَمِنْ قِبَلِ وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ حَتَّى يَنْشَئُوا عَلَى الْخَيْرِ، وَيَتَرَبَّوْا عَلَى الْبِرِّ، وَيَكُونُوا خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُمْ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وَقَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ حُصُولَ الذُّرِّيَّةِ فَقَطْ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ الذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ.

 *فَلِلْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ حُقُوقٌ عَظِيمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، مِنْهَا: اخْتِيَارُ الْأُمِّ الصَّالِحَةِ لَهُ؛ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى وَلَدِه أَنْ يَبَرَّهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ -هُوَ أَيْضًا- أَنْ يَبَرَّ ابْنَهُ؛ بِأَنْ يُحْسِنَ اخْتِيَارَ أُمِّهِ.

هَذَا مِنْ حَقِّ الوَلَدِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ صِفَاتِ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»، «الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».

هَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.

المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا سَرَّتْهُ، وَلَيْسَ السُّرُورُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا دَلِيلًا عَلَى التَّأنُّقِ في المَظْهَرِ مِن المَلْبَسِ والزِّينَةِ، وَإِنَّمَا أَنْ تَكُونَ طَيِّبَةً، طَيِّبَةً فِي مَلْبَسِهَا، طَيِّبَةً فِي كَلَامِهَا، طَيِّبَةً فِي نَفْسِهَا، طَيِّبَةً فِي حَرَكَتِهَا، طَيِّبَةً فِي سَكَنَاتِهَا، طَيِّبَةً فِي إِشَارَاتِهَا.

فَالطِّيبَةُ لَيْسَتَ بِالظَّاهِر، وإنَّما الطِّيبَةُ طِيبَةُ البَاطِن، فَتَنْعَكِسُ طِيبَةُ البَاطِنِ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَصِيرَ طَيِّبًا، فَيَصِيرُ الظَّاهِرُ طَيِّبًا في اللفْظِ، طَيِّبًا في الإِشَارَةِ، طَيِّبًا في الكَلَامِ، طَيِّبًا في الحَرَكَةِ، طَيِّبًا فِي السُّكُونِ، طَيِّبًا في القِيَامِ، طَيِّبًا في القُعُودِ، يَصيرُ طَيِّبًا في كُلِّ شَيْءٍ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

التَّرَبُ: اللَّصَقُ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ هُنَا دُعَاءٌ بِمَعْنَى: أَصَبْتَ خَيْرًا.

فَالدَّيِّنَةُ تُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَتُصْلِحُ مَنْ يَتَرَبَّى عَلَى يَدَيْهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَتَحْفَظُ بَيْتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الدَّيِّنَةِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَضُرُّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ» .

فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّينِ جَمَالٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ؛ فَذَلِكَ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَارَ الدَّيِّنَةُ.

*وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الرَّضَاعَةُ؛ فَالْمُتَأَمِّلُ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَجِدُ أَنَّهَا أَوْلَتْ إِعْدَادَ الْإِنْسَانِ عِنَايَةً خَاصَّةً، بِدَايَةً مِنْ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ مُرُورًا بِمَرَاحِلِ الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعَةِ، فَكَفَلَتْ لَهُ حَقَّهُ فِي الرَّضَاعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ؛ حَتَّى يَنْمُوَ فِي صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ؛ فَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ }وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.{

وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ بِأَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَامِلِ، وَعَلَى مُعْظَمِ الْحَوْلِ؛ قَالَ: كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.

فَإِذَا تَمَّ لِلرَّضِيعِ حَوْلَانِ؛ فَقَدْ تَمَّ رَضَاعُهُ، وَصَارَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَغْذِيَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، لَا يُحَرِّمُ.

قَالَ تَعَالَى: }وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ، وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

 *مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: رِعَايَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: }يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ.. } الْآيَةَ. [البقرة: 215].

يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟

قُلْ لَهُمْ: مَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ فَأَنْفِقُوهُ فِي هَذِهِ؛ وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْهَا:

* الْوَالِدَانِ؛ لِمَا لَهُمَا مِنْ فَضْلِ الْوِلَادَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّرْبِيَةِ.

*وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ أَهْلِكُمْ وَذَوِي أَرْحَامِكُمْ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِزَوْرِكَ-أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

فَاعْلَمْ أَنَّ إِطْعَامَكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ.

وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مَطْعَمِهِ، وَفِي مَشْرَبِهِ، وَفِي مَلْبَسِهِ، وَفِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِزْوْجِهِ، وَليَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ.

 *مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: رِعَايَةُ صِحَّتِهِ الْجَسَدِيَّةِ؛ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِصِحَّةِ الْأَطْفَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، فَفِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصِّحَّةِ وَفَضْلِ الْعَافِيَةِ، وَجَلَالِ ذَلِكَ؛ لِجَمِيلِ أَثَرِهِ، وَلِعَظِيمِ قَدْرِهِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ.

لَمَّا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَالُوتَ مَلِكًا مَبْعُوثًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْقَوْمُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَلَيْنَا بِكَثِيرِ مَالٍ، ولا بِشَيْءٍ، فَقَالَ تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البَقَرَة: 247].

فجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَيزَةَ مَحْفُوظَةً لَدَيْهِ بِأَنْ آتَاهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، وَبَسْطَةً فِي الْجِسْمِ.

وَفِي فَضْلِ الْعَافِيَةِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَةُ وَالْفَرَاغُ)).

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأَعْرَاف: 31].

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، وَلَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.

وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ؛ فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ، وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا آدَابَ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْأَكْلِ قَبْلَ الشِّبَعِ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي التُّخَمَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْبِطَنَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْفِطْنَةِ.

فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ». وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَلِّمَ الأَطْفَالَ السُّنَنَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ؛ مِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى صِحَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَمْرَاضِنَا هِيَ مُخَالَفَةٌ لِلسُّلُوكِيَّاتِ الصَّحِيحَةِ، أَمْرَاضُنَا فِي جُمْلَتِهَا سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ مُخْطِئَةٌ!!

وَمِنْ حُقُوقِ الْأَبْنَاءِ: رِعَايَةُ صِحَّتهِمُ النَّفْسِيَّةِ.. إِنَّ أَمْرَاضَنَا النَّفْسِيَّةَ فِي جُمْلَتِهَا سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

يَقُولُ النَّفْسِيُّونَ الْمُحْدَثُون: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ)).

يَعْنِي: الْإِنسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَابَ بِالْمَرَضِ النَّفْسِيِّ فِي كِبَرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتَ أُصُولُ هَذَا الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ.

وَحَدَّدَهَا زَعِيمُ هَؤُلَاءِ (سِيجْمُونْدُ فُرُويِد) بِسِتِّ سَنَوَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السِّتَّ سَنَوَاتِ الْأُولَى خَطِيرَةٌ جِدًّا فِي حَيَاةِ أَيِّ طِفْلٍ.

عِنْدَمَا تَأْتِي القَسْوَةُ، وَيَأْتِي الضَّرْبُ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْبَاكِرَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ ﷺ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».

لَمْ يَأْتِ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ -وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ فِي دِينِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ-.

وَتَرْكُ الصَّلَاةِ هُوَ أَكْبَرُ كَبِيرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ هِيَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ يُقِرُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ.

وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجَسَدِ، لَيْسَ هُنَاكَ خَطَأٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الطِّفْلُ - وَهُوَ دُونَ العَاشِرَةِ- أَكْبَرَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ بِالضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ إِلَّا عِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ.

يَقُولُ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ)): مُجَرَّدُ أَمْرٍ، مَعَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ التَّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ.

وَلَكِنَّ الضَّرْبَ هَاهُنَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ بِنَصِّ حَدِيثِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ))، ثُمْ: ((وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)).

يَأْتِي هَذَا الرَّجُلُ -وَهُوَ ضَالٌّ مُنْحَرِفٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ (سِيجْمُونْد فُرُويِد)- يَقُولُ: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ))، وَيُحَدِّدُ السِّتَّ سَنَواتٍ الأُولَى.     

نَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ قَدِ اهْتَدَيْتَ لِهَذَا، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْفِطْرَةِ أَوْ بِوَسَائِلِ الْعِلْمِ الحَدِيثِ، فَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِئَةِ سَنَةٍ ﷺ.       

إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدمَا يُحَدِّدُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ إِنَّمَا يَحْمِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْبَوَادِرِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذِهِ الْقَسْوَةُ الْمُفْرَطُ فِيهَا، وَهَذِهِ السُّلُوكِيَّاتُ الْخَاطِئَةُ تُؤَثِّرُ عَلَى النَّفْسِيَّاتِ الْغَضَّةِ الطَّرِيَّةِ، ثُمَّ يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَرَضُ النَّفْسِيُّ.

وَإِذَنْ؛ فَأَمْرَاضُنَا النَّفْسِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

 *مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ: الرِّفْقُ وَالرَّحْمَةُ بِهِ؛ فقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ رَحِيمًا شَفِيقًا بِالْأَطْفَالِ؛ وَمِنْ تَوَاضُعِهِ ﷺ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ؛ أَنَّهُ كَانَ يُضَاحِكُهُمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ.

فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ.

ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِي الْحَدِيثِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!-؛ لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ-.

*وَمِنَ الرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ: تَقْبِيلُهُمْ، وَمُدَاعَبَتُهُمْ؛ فَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«أَوَأَمْلِكُ لَكَ»: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجْعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِكَ، وَاللَّهُ نَزَعَهَا مِنْكَ، هَذَا عَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ»، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْكَسْرِ، فَمَعْنَاهُ: إِنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَضَعَهَا فِيهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 *مِنْ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ فِي الْإِسْلَامِ: الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ دِينُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى النَّاسِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ مُؤَسَّسَةً عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النَّفَقَةِ وَالْهِبَاتِ؛ فَيَجِبُ مُعَامَلَةُ الْأَبِ أَوْلَادَهُ بِالْعَدْلِ فِي الْهِبَةِ لَهُمْ.

فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَهُ نِحْلَةً، فَقَالَتْ أُمُّ النُّعْمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.

فَذَهَبَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَخْبَرَهُ؛ لِيُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ((أَلَكَ بَنُونَ؟)).

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: ((أَنَحْلْتَهُمْ مِثْلَ هَذَا؟)).

قَالَ: لَا.

قَالَ ﷺ: «لَا أَشْهَدُ، أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟».

قَالَ: نَعَمْ.

 فَرَجَعَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ النُّعْمَانَ.

«نَحَلْتُ»؛ أَيْ: وَهَبْتُ، أَعْطَيْتُ بِلَا عِوَضٍ.

فَإِذَا كَانَ يَسُرُّكَ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي الْبِرِّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضِ فِي الْعَطِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ الْمَرْءُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْهِبَةِ.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: اسْتِحْبَابُ التَّأْلِيفِ بَيْنِ الْإِخْوَةِ، وَاسْتِحْبَابُ تَرْكِ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الشَّحْنَاءَ، أَوْ يُورِثُ الْعُقُوقَ لِلْآبَاءِ.

وَفِيهِ: إِمْكَانِيَّةُ مَيْلِ الْقَلْبِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ، أَوْ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ:

أَمَّا الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِيهَا.

وَأَمَّا مَيْلُ الْقَلْبِ فَهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى صَرْفِهِ أَوِ اسْتِجْلَابِهِ.

*وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: تَهْيِئَةُ بِيئَةٍ طَيِّبَةٍ لَهُ: وَيَبْدَأُ ذَلِكَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ فَبَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ بَابٌ عَظِيمٌ تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَطْبِيقَهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ تَدُومُ بِهِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْيَا بِهِ الزَّوْجَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً.

وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتِ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ، وَإِذَا ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ ازْدَادَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ يَكُونُ الْأَوْلَادُ، فَالْمُعَاشَرَةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ.

قَالَ تَعَالَى: }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

وَهَذَا أَمْرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.

وَقَالَ تَعَالَى: }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

فَأَثْبَتَ أَنَّ عَلَيْهِنَّ عِشْرَةً، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ.

الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ.

وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً.

ثُمَّ هَذَا -أَيْضًا- يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ، فَالْأَوْلَادُ إِذَا رَأَوْا الْمَشَاكِلَ بَيْنَ أُمِّهِمْ وَأَبِيهِمْ سَوْفَ يَتَأَلَّمُونَ وَيَنْزَعِجُونَ، وَإِذَا رَأَوْا الْأُلْفَةَ فَسَيُسَرُّونَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ لِتَوْفِيرِ بِيئَةٍ طَيِّبَةٍ لِلْأَطْفَالِ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ فِي الْبَيْتِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَذِكْرُ اللهِ هُوَ عِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ، وَبِهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْكُدُورَاتُ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْأَفرَاحُ وَالْمَسَرَّاتُ، وَهُوَ عِمَارَةُ الْقُلُوبِ الْمُقْفِرَاتِ، كَمَا أَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّاتِ.

وَهُوَ مُوصِلٌ لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى، وَمِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُسْتَقْصَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].

اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مُنِيرَةً مُتَلَأْلِئَةً مُشْرِقَةً بِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) .

فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُدَاوِمُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيٌّ، حَيٌّ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذِكْرًا كَثِيرًا، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهُوَ مَيِّتٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ: يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

إِذَا مَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْصُولًا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا الذِّكْرُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ مَسَاجِدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَتَتَرَاءَى لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لَنَا أَهْلَ الْأَرْضِ)) .

إِنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ تَبْدُو لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مُنِيرَةً مُتَلَأْلِئَةً مُشْرِقَةً كَمَا تَبْدُو لَنَا النُّجُومُ فِي صَفْحَةِ السَّمَاءِ بِاللَّيْلِ.

يَتَرَبَّى الْأَبْنَاءُ فِي الْبِيئَةِ الصَّحِيحَةِ السَّلِيمَةِ الْمُحَافِظَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ نَشْءٌ يُوَحِّدُ اللهُ، وَيَتَّبِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.

*مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: تَأْدِيبُهُ وَتَهْذِيبُ خُلُقِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَبٍ مَسْؤُولٌ عَنْ أَبْنَائِهِ فِي التَّرْبِيَةِ الْقَوِيمَةِ، وَالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ، وَالتَّنْشِئَةِ السَّوِيَّةِ؛ لِيَكُونَ عُضْوًا نَافِعًا لِدِينِهِ وَوَطَنِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تُحْسِنُ تَعْلِيمَ أَبْنَائِهَا وَإِعْدَادَهُمْ وَتَأْهِيلَهُمْ أُمَمٌ تَتَقَدَّمُ وَتَرْتَقِي.

لَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى ضَرُورَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ خَبْرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ: ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.

وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ.

إِنَّ رِعَايَةَ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتَهُ وَتَأْدِيبَهُ كَمَنْ يَزْرَعُ؛ لِيَحْصُدَ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: قَالَ دَاوُدُ: «اعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ». وَهَذَا الْأَثَرُ صَحِيحٌ.

هَذِهِ مِنَ الْحِكَمِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا مَلِيًّا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَائِمًا شِعَارَهُ وَرَائِدَهُ.

«وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ»: فَإِنَّهُ لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.

كَمَا يَزْرَعُ الزَّارِعُ يَحْصُدُ الثَّمَرَةَ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَالْجَزَاءُ عِنْدَ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، مَنْ بَذَرَ الْخَيْرَ حَصَدَ خَيْرًا جَزَاءً حَسَنًا مِنَ اللهِ، وَمَنْ بَذَرَ الشَّرَّ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَبِدْعَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُدُ إِلَّا النَّارَ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَغَضَبَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَرْعَى وَلَدَهُ وَيُؤَدِّبَهُ؛ فَعَنْ أَسْمَاءِ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ سِيرِينَ: عِنْدِي يَتِيمٌ.

قَالَ: «اصْنَعْ بِهِ مَا تَصْنَعُ بِوَلَدِكَ، اضْرِبْهُ مَا تَضْرِبُ وَلَدَكَ» . وَالْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

«عِنْدِي يَتِيمٌ»؛ يَعْنِي: مَاذَا أَصْنَعُ مَعَهُ؟

«اضْرِبْهُ»؛ أَيْ: كَيْ لَا يَفْسُدَ؛ لِأَنَّكَ لَا تَضْرِبُ وَلَدَكَ إِلَّا وَتَرَى فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً وَمَصْلَحَةً لِوَلَدِكَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَافْعَلْ هَذَا مَعَ يَتِيمِكَ.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَرْعَى وَلَدَهُ.

الْإِنْسَانُ رُبَّمَا يُعَامِلُ وَلَدَهُ كَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ فَيَدَعُهُ فِي غَيِّهِ، وَلَا يُحَاسِبُهُ عَلَى شَيْءٍ أَتَاهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَإِنَّمَا تُعَلِّقُ سَوْطَكَ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ «عَلِّقْ سَوْطَكَ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ» ؛ لِأَنَّ مَنْ أَمِنَ الْعُقُوبَةَ أَسَاءَ الْأَدَبَ.

إِنَّ أَفْضَلَ مَا أَعْطَاهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَوَرَّثَهُ لِوَلَدِهِ الْأَدَبُ الْحَسَنُ، أَنْ يُؤَدِّبَهُ أَدَبًا حَسَنًا؛ لِكَي يَسْتَقِيمَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ، وَلِكَي يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الدِّينِ، قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَرِيبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى.

على الرَّجُلِ أَلَّا يَفْحُشَ، وَلَا يُعَاقِبَ بِعِقَابٍ مُرِيعٍ، وَلَا يَضْرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْحَزْمَ، فَيَأْتِيَ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَيَلِينَ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَيَأْتِيَ بِالْحَسْمِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَامِلَ وَلَدَهُ كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ الشَّرِيعَةُ.

 ((إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ فِي كَفَالَةِ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّ الْمُرَبِّيَ وَالْكَافِلَ لَهُ الْأَثَرُ الْأَعْظَمُ فِي حَيَاةِ الْمَكْفُولِ وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ الْمُرَبِّينَ بِالتَّرْبِيَةِ الطَّيِّبَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ)).

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ-؛ ((فَقَدْ كَانَتْ أُمُّهَا -زَوْجَةُ عِمْرَانَ؛ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَذَوِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ عِنْدَهُمْ- نَذَرَتْ حِينَ ظَهَرَ حَمْلُهَا أَنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَكُونُ خَادِمًا لِبَيْتِ اللهِ، مُعَدًّا لِعِبَادَةِ اللهِ؛ ظَنًّا أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا ذَكَرٌ.

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ -مُعْتَذِرَةً إِلَى اللهِ، شَاكِيَةً إِلَيْهِ الْحَالَ-: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى{

أَيْ: أَنَّ الذَّكَرَ الَّذِي لَهُ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ مِنَ الْقِيَامِ بِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

}وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [ آل عمران: 36 ].

فَحَصَّنْتُهَا بِاللهِ مِنْ عَدُوِّهَا هِيَ وَذُرِّيَّتَهَا، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ حِفْظٍ وَحِمَايَةٍ مِنَ اللهِ لَهَا، وَلِهَذَا اسْتَجَابَ اللهُ لَهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}؛ أَيْ: أَنَّ اللهَ جَبَرَ أُمَّهَا، وَصَارَ لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا مِنَ الْقَبُولِ أَعْظَمَ مِمَّا لِلذُّكُورِ {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [ آل عمران: 37 ].

فَجَمَعَ اللهُ لَهَا بَيْنَ التَّرْبِيَةِ الْجَسَدِيَّةِ وَالتَّرْبِيَةِ الرُّوحِيَّةِ، حَيْثُ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ كَافِلُهَا أَعْظَمَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَإِنَّ أُمَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهَا لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ رَئِيسِهِمْ، فَاقْتَرَعُوا وَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ، فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ زَكَرِيَّا؛ رَحْمَةً بِهِ وَبِمَرْيَمَ.

فَكَفَّلَهَا أَحْسَنَ كَفَالَةٍ، وَأَعَانَهُ عَلَى كَفَالَتِهَا بِكَرَامَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُ، فَكَانَتْ قَدْ نَشَأَتْ نَشْأَةَ الصَّالِحَاتِ الصِّدِّيقَاتِ، وَعَكَفَتْ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهَا، وَلَزِمَتْ مِحْرَابَهَا))

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْإِسْلَامِ: الْبُلُوغُ مَعَ الرُّشْدِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَكِنْ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يُرَاعُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي صِغَرِهِمْ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَنْشَئُوا عَلَى حُبِّهَا، وَيُدَاوِمُوا عَلَيْهَا.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ».

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُومُونَ بِتَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ عَلَى الْأَدَبِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ- فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ؛ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ -تَعْنِي: اللُّعْبَةَ- حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).

فَهَكَذَا تَرْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ رَبَّى الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَبْنَاءَهُمْ، فَخَرَجَتْ أَجْيَالٌ مُسْلِمَةٌ تَنْشُرُ الْخَيْرَ فِي رُبُوعِ الْأَرْضِ، وَعَاشَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَفِي الدُّعَاءِ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُوَحِّدِينَ؛ فقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ، خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ.

وَدَعَوَا اللهَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ وَالْمُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِهِ.

وَوَصَّى إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ، وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ لِلَّهِ، وَخُضُوع الْقَلْب وَالْجَوَارِح لَهُ.

فَعَهِدَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إلَى بَنِيهِ بِذَلِكَ -أَيْ: بِالْإِسْلَامِ-، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَوَصَّى بِذَلِكَ -أَيْضًا- يَعْقُوب بَنِيهِ.

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الَّذِي قَدْ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ، {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: فَاتَّقُوا اللَّه أَنْ تَمُوتُوا إلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا بِتَوْفِيقِكَ لَنَا وَهِدَايَتِنَا مُخْلِصَيْنِ مُطِيعَيْنِ خَاضِعَيْنِ لَكَ، رَبَّنَا وَاجْعَلْ بَعْضَ أَوْلَادَنَا بِحِكْمَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ جَمَاعَةً خَاضِعَةً مُنْقَادَةً لَكَ.

رَبَّنَا وَعَلِّمْنَا وَبَصِّرْنَا شَرَائِعَ دِينِنَا، وَأَعْمَالَ حَجِّنَا، وَالْأَمَاكِنَ الْخَاصَّةَ الَّتِي جَعَلْتَهَا لِعِبَادَتِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنَّا بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَتَقَبَّلْ مِنَّا تَوْبَتَنَا، وَارْحَمْنَا؛ إِنَّكَ أَنْتَ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِكَ، الدَّائِمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

وَوَصَّى إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَالِاسْتِسْلَامِ الْكَامِلِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ -وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا، أَحَدُهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- بِمِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَكُلٌّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- قَالَ لِبَنِيهِ فِي وَصِيَّتِهِ لَهُمْ: يَا أَبْنَائِي! إِنَّ اللهَ اخْتَارَ لَكُمْ عَقَائِدَ الدِّينِ، وَشَرَائِعَهُ، وَأَحْكَامَهُ، فَاسْتَخْلَصَ لَكُمْ أَحْسَنَهَا، وَكَلَّفَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِهَا، وَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا.

وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِي قِيَادَتِكُمْ فِي مَسِيرِةِ حَيَاتِكُمْ إِلَيْهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، تُطِيعُونَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَتُؤَدُّونَهُ، وَتُطِيعُونَهُ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَتَجْتَنِبُونَهُ.

فَالْتَزِمُوا بِإِسْلَامِكُمْ لَهُ كُلَّ أَزْمَانِ حَيَاتِكُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَكُمُ الْمَوْتُ الَّذِي لَا تَعْلَمُونَ وَقْتَ نُزُولِهِ بِكُمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا مُمْتَحَنُونَ، جَاءَكُمْ حِينَئِذٍ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، مُسْتَسْلِمُونَ، مُنْقَادُونَ، مُطِيعُونَ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ لِتَكُونُوا مِنَ النَّاجِينَ وَالْفَائِزِينَ بِالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَقَدْ كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.

وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِنَا حِينَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَاعِيًا رَبَّهُ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ: رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ، يَأْمَنُ كُلُّ مَنْ فِيهَا، وَأَبْعِدْنِي وَأَبْعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.

{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أَيْ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.

فَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

قَالَ إِبْرَاهِيمُ النُّخَعِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!)).

 

عَلِّمُوا أَبنَاءَكُم!

عَلِّمُوا ذَوِيكُم!

عَلِّمُوا أَهلِيكُم!

عَلِّمُوا الدُّنيَا كُلَّهَا؛ أُصُولَ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَة!

عَلِّمُوهُم كَيفَ يَأخُذُونَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمِنهَاجِ النُّبُوَّة، بِفَهمِ الصَّحَابَةِ وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ!

وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالمِينَ فِي دِينِكُم، وَاحذَرُوا أَنْ تُضَيِّعُوهُ؛ فَإِنَّ الفُرصَةَ لَا تَسْنَحُ كُلَّ حِين!!

لَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَلِّمُونَ الْأَطْفَالَ فِقْهَ الْعِبَادَاتِ، وَيُعَوِّدُونَهُمْ عَلَى أَدَائِهَا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

فَكَانَ صِيَامُهُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَانْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ-، قَالَ ﷺ: «أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ».

وَفِي رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- : «فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ الْمَنْفُوشِ-، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا سَأَلُونَا -تَعْنِي الصِّبْيَانَ- الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ، حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُم».

وَهَذَا كُلُّهُ لِتَعْظِيمِ صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ.

وَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ صَارَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مُسْتَحَبًّا، غَيْرَ وَاجِبٍ.

فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الرُّبَيِّعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ)).

وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ نُعَلِّمَهَا أَوْلَادَنَا، وَنَأْمُرَهُمْ بِهَا: الصَّلَاةُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: }رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

رَبِّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِأَرْكَانِهَا، وَيُحَافِظُ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهَا.

رَبَّنَا وَاسْتَجِبْ دُعَائِي بِفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ، وَاجْعَلْهُ مَقْبُولًا عِنْدَكَ.

وَقَالَ تَعَالَى: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وَأْمُرْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ حَامِلٍ لِرِسَالَتِهِ مِنْ أُمَّتِكَ أَهْلَكَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَاصْبِرْ صَبْرًا كَثِيرًا عَلَى أَدَائِهَا، وَعَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الصَّلَوَاتِ النَّوَافِلِ، وَلَا سِيَّمَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.

لَا نُكَلِّفُكَ أَنْ تَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِنًا، وَلَا أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ، بَلْ نَحْنُ نُهَيِّئُ لَكَ رِزْقَكَ الَّذِي يَكْفِيكَ وَيَكْفِي أُسْرَتَكَ؛ لِتَتَفَرَّغَ لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِ رِسَالَةِ رَبِّكَ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَهْلِ التَّقْوَى.

وَقَالَ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ)).

مُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا -اصْطَبِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، لَا عَلَى الْأَهْلِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَهَذَا أَمْرُ اللهِ-.

فَعَلَى مَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى أَهْلِهِ بِالرِّعَايَةِ بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَأَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي صِيَامِهِمْ، وَأَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهَا فُرْقَانًا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْغَايَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ نَسْعَى إِلَيْهَا فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ؛ فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) .

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ أَنَّ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ كَانَ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

 عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ.

أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.

وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

 ((تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حَمْلِ أَمَانَةِ دِينِهِ وَأُمَّتِهِ))

عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يُرَاعُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي صِغَرِهِمْ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَنْشَئُوا عَلَى حُبِّهَا، وَيُدَاوِمُوا عَلَيْهَا.

فَعَلَيْنَا أَنْ نُرَبِّيَ أَبْنَاءَنَا عَلَى الِانْتِمَاءِ لِدِينِهِمُ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ دِينًا مَنْصُورٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ، حَفَظَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْرِيفٌ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ تَلْحَقَهُ هَزِيمَةٌ أَوْ يَحُطُّ بِسَاحَتِهِ انْكِسَارٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ اللهِ فِيهِ.

إِنَّ مِنَ الْآفَـاتِ الْعَظيمَةِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِينَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- عَـدْمَ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً سَلِيمَةً مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْمَبَادِئِ الدَّخِيلَةِ عَلَيْنَا مِنْ أَعْدَاءِ الْأُمَّةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ الْأُمَّ الْمُسْلِمَةَ قَدْ تَتَسَاهَلُ فِي شِرَاءِ مَلَابِسِ أَطْفَالِهَا، تَشْتَرِي لِلْبَنَاتِ الْمَلَابِسَ الْقَصِيرَةَ أَوِ الَّتِي تَحْمِلُ كَلِمَاتٍ أَجْنَبِيَّةً قَدْ تَكُونُ ضِدَّ الْإِسْلَامِ، وَضِدَّ تَعَالِيمِهِ.

وَتَجِدُ هَذَا شَائِعًا، وَيَشْتَرِيهِ الْجُهَّـالُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةِ، يَذْهَبُونَ إِلَى الْأَسْوَاقِ وَيَشْتَرُونَ الْمَلَابِسَ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ الْأَجْنَبِيَّةُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاُت كُفْرًا -وَقَدْ تَكُونُ-.

وَقَدْ تَكُونُ زِرَايَةً بِلَابِسِهَا؛ يَعْنِي مُمْكِنٌ إِذَا مَا تَرْجَمَهَا مُتَرْجِمٌ أَنْ يَجِدَهَا مَثَلًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ: خُذُوا الْحِمَارَ.. خُذُوا الْحِمَارَ!! وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَغْلٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا!! لَا يَدْرِى شَيْئًا!!

وَأَحْيَانًا يَأْتُونَ بِالْمَلَابِسِ الَّتِي عَلَيْهَا شِعَارُ النَّصَارَى كَالصَّلِيبِ!!

وَكَذَلِكَ تُقِيمُ الْأُمُّ احْتِفَالًا عِنْدَ إِكْمَالِ وَلَدِهَا الْعَامَ مِنْ تَارِيخِ وِلَادَتِهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِـ ((عِيدِ مِيلَادِ الطِّفْلِ))!!، أَوْ أَنْ تَطْلُبَ الْأُمُّ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ يُلْحِقَ وَلَدَهُمَا بِمَدَارِس تَعْلِيمِ الْمُوسِيقَى أَوْ مَا أَشْبَهَ، أَوِ الرَّقْصِ أَوِ الْبَالِيه.

وَمِنْ صُوَرِ عَدَمِ مُبَالَاةِ الْأُمِّ فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهَا: حِلَاقَةُ شَعْرِ وَلَدِهَا بِأَشْكَالٍ غَريبةٍ مُؤسِفَةٍ تُشْبِهُ الْكُفَّارَ!!

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَحْرِصَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى تَنْشِئَةِ أَوْلَادِهَا كَمَا نَشَأَ أَوْلَادُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، حَيْثُ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِاللهِ.

وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحُثَّ أَوْلَادَهَا عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنْ تَرْبِطَ هَمَّهُم بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ تَصْرفَهُمْ عَنْ تَوَافِهِ الْأُمُورِ؛ لِتُسْهِمَ فِي إِنْشَاءِ الْجِيلِ الَّذِي يُعيِدُ لِلْأُمَّةِ مَجْدَهَا الْمَفْقودَ، وَعِزَّتَهَا الْمَسْلُوبَةَ.

إِنَّ الْغَزْوَ الْفِكْرِيَّ الْعَقَدِيَّ دَمَّرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَوَانِبَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ، وَغَيَّبَ شَرِيعَتَهُمْ، وَجَعَلَ نَظَرَهُمْ إِلَى تُرَاثِهِمْ وَمَاضِيهِمْ وَتَارِيخِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ نَظَرَ الْمُحْتَقِرِ؛ لِأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلَامِ قَدْ أَفْهَمُوا الشُّعُوبَ الَّتِي فُرِّغَتْ ثَقَافِيًّا مِنْ تُرَاثِهَا وَدِينِهَا وَعَقِيدَتِهَا أَنَّ هَذَا الْمَاضِيَ هُوَ الَّذِي أَخَّرَهُمْ تَمَامًا!!

فَأَنْ نَتْرُكَ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَفِي مَنَابِتِ السُّوءِ، يَنْشَئُونَ عَلَى الْفَاسِدِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالذَّمِيمِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَشْتَدُّ عُودُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُشْحَنُ قُلُوبُهُمْ وَتُشْغَلُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُرِيدُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ سِنَّ الرُّشْدِ مُسْلِمِينَ، يَعْمَلُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَنَا، وَلَا يُلْقُونَ بَالًا لِأَوَامِرِنَا وَحَدِيثِنَا، وَيَكُونُ مَثَلُنَا كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْنِيَ مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبَ!! وَنَقْضِي الْوَقْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَسْرَةِ وَالْنَّدَمِ.

إِذَا ابْتَعَدَ شَبَابُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَظَلُّوا فِي مُنْحَنَيَاتِ الطَّرِيقِ؛ فَالْحَقُّ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ عَنْ بُعْدِ الشَّبِيبَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ هُمُ: الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَأَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ.

وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنْ يَبْحَثَ الْأَبُ لِأَبْنَائِهِ عَنْ خَيْرِ لِبَاسٍ، وَأَفْضَلِ طَعَامٍ، وَأَهْنَأِ سَكَنٍ، ثُمَّ لَا يَبْحَثُ لَهُمْ عَنِ الْمُرَبِّي الْفَاضِلِ، وَلَا يُلَقِّنُهُمُ الصَّحِيحَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ؛ جَاهِلًا أَوْ مُتَجَاهِلًا أَنَّهُ بِذَلِكَ يُلْقِي بِفِلْذَةِ كَبِدِهِ فِي نَارٍ مُسْتَعِرَةٍ لَا يَخْبُو إِوَارُهَا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، فَأَيْنَ الرَّحْمَةُ فِي قُلُوبِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؟!!

وَأَيْنَ الشَّفَقَةُ؟!!

وَأَيْنَ الْحَنَانُ؟!!

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

الْجِيلُ الَّذِي نُعِدُّهُ لِلْغَدِ الْمُبْهَمِ، الْمَمْلُوءِ بِالْمَخَاطِرِ الَّتِي غَرَسَهَا الْيَهُودُ لَهُ فِي كُلِّ شِقٍّ، وَتَحْتَ مَوْضِعِ كُلِّ قَدَمٍ؛ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى أَنْ يَفْتَحَ صَفْحَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي تَدُلُّهُ عَلَى طَرَائِقِ بِنَاءِ الْمَعْرِفَةِ، وَكَيْفَ اسْتَنْبَتَ الْعُلَمَاءُ عُلُومَهُمْ، وَكَيْفَ اسْتَخْرَجُوهَا مِنَ النَّوَاةِ الْمَطْرُوحَةِ نَخْلَةً سَامِقَةً، وَكَيْفَ عَرَفُوا الْبُذُورَ الَّتِي تَطْوِي فِي ضَآلَتِهَا الشَّجَرَ الطَّيِّبَ.

لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَقْلُ هَذَا الْجِيلِ مِنَ السِّرْدَابِ الضَّيِّقِ الْعَفِنِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ رِجَالٌ لَمْ يَتَّقُوا اللهَ فِيهِ، حِينَ أَقْنَعُوهُ بِأَنَّ تَطَوُّرَهُ، وَتَقَدُّمَهُ، وَنُهُوضَهُ، وَتَنْوِيرَهُ، وَتَجْدِيدَهُ؛ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَخْذِهِ عَنِ الْآخَرِينَ، وَعَلَى اصْطِنَاعِهِ عُلُومَهُمْ وَمَنَاهِجَهُمْ، وَصَرَفُوهُ عَنِ اسْتِنْبَاطِ الْمَعْرِفَةِ وَصِنَاعَتِهَا.

وَأَقْنَعُوهُ بِأَنَّ عُلُومَهُ عُلُومٌ قَدِيمَةٌ وَمُفْرَغَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا عَطَاءٌ، وَقَدْ دَخَلْنَا هَذَا السِّرْدَابَ الْخَانِقَ وَنَحْنُ مُغْتَبِطُونَ بِذَلِكَ، وَمُعْتَقِدُونَ أَنَّنَا حِينَ نَنْقُلُ عُلُومَ الْآخَرِينَ وَمَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنْهَا؛ فَقَدْ تَطَوَّرْنَا، وَتَنَوَّرْنَا، وَعِشْنَا زَمَانَنَا الَّذِي صَنَعَهُ غَيْرُنَا!!

وَهَكَذَا بَقِيَ الْعَقْلُ الْعَرَبِيُّ مَكْفُوفًا عَنِ الْجِدِّ وَالْكَدْحِ وَالْقَدْحِ، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَنْتَظِرَ رَيْثَمَا يَفْرُغُ الْآخَرُونَ مِنْ تَحْرِيرِ أَفْكَارِهِمْ وَنَظَرِيَّاتِهِمْ، ثُمَّ يَقْبِسُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُطِيقُ قَبْسَهُ، وَيُسَمِّي هَذَا الْمُقْتَبَسَ إِبْدَاعًا!!

جَهِلْنَا مَنَاهِجَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ مَنَاهِجُنَا، وَهِيَ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَهَذِهِ أُصُولُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهَجَ الْفِقْهِيَّ غَلَبَ عَلَى عُلُومِنَا، وَهُوَ مَنْهَجٌ يَجِبُ فِيهِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: التَّجْدِيدُ الدَّائِمُ؛ لِأَنَّ الْأَقْضِيَةَ تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ وَتَخْتَلِفُ، وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْ مُوَاكَبَتِهَا، وَتَحْلِيلِهَا -يَعْنِي الْأَقْضِيَةَ الْمُتَجَدِّدَةَ-، ثُمَّ تَوْصِيفِهَا، وَتَحْدِيدِ مَوْقِفِهَا مِنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.

ثُمَّ هُوَ مُطَالَبٌ فِي هَذِهِ الْمُوَاكَبَةِ السَّرِيعَةِ بِالْحَذَرِ الشَّدِيدِ.

وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لَيْسَ لَهُمَا مَصْدَرٌ إِلَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.

وَهَذَا الْمَنْهَجُ الْمُنْطَوِي عَلَى التَّجْدِيدِ الدَّائِمِ، وَالْحَذَرِ الشَّدِيدِ الْمُغْرِي بِالتَّوَقُّفِ هُوَ الَّذِي تَأَسَّسَتْ عَلَيْهِ عُلُومُنَا وَحَضَارَتُنَا الَّتِي مَلَئَتِ الْأَرْضَ خَيْرًا وَبِرًّا.

وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْرِفَ جَوْهَرَ هَذَا الْمَنْهَجِ إِذَا كُنْتَ لَمْ تُكَابِدْ مَشَقَّةَ مُتَابَعَةِ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَاللُّغَوِيِّينَ، وَكَيْفَ كَانَ كَلَامُهُمْ مُنْطَوِيًا عَلَى هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ الْمُتَدَافِعَتَيْنِ:

ضَرُورَةِ وُجُودِ الْفِقْهِ الْجَدِيدِ الْمُوَاكِبِ لِحَرَكَةِ الْحَيَاةِ الْمُتَسَارِعَةِ، وَضَرُورَةِ الْحَذَرِ الشَّدِيدِ؛ حَتَّى لَا يَخْرُجَ هَذَا الْفِقْهُ مِنْ ضَوَابِطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَقَدْ جَهِلَ الْجِيلُ هَذِهِ الْمَنَاهِجَ كَمَا جَهِلَ حَقَائِقَ التَّارِيخِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ بَقِيَتْ زَمَانًا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِلَّا حَضَارَةُ الْإِسْلَامِ، وُعُلُومُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ تَجْرِبَةَ هَذِهِ الْحَضَارَةِ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ كَانَتْ أَعْظَمَ التَّجَارِبِ، وَأَنْبَلَهَا، وَأَشْرَفَهَا.

وَقَدْ وَصَفَهَا مَنْ عَرَفَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا بِمَا يَجْهَلُهُ أَهْلُهَا!!

فَإِذَا كَانَ كُتَّابُنَا وَرُوَّادُنَا وَنُخْبَتُنَا يَصِفُونُ عُلُومَنَا بِأَنَّهَا عُلُومٌ مَيِّتَةٌ، قَدِيمَةٌ مُفْرَغَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا عَطَاءٌ، وَيُرَبُّونَ أَجْيَالَنَا عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ مُلْحِدًا غَرْبِيًّا هُوَ (فِريدْرِيك نِيتْشَه) -وَهُوَ أَلْمَانِيٌّ- يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ((لَقَدْ وَقَعْتُمْ فِي خَطَأٍ كَبِيرٍ حِينَ غَيَّبْتُمْ حَضَارَةَ الْمُسْلِمِينَ وَشَوَّهْتُمُوهَا، وَقَدْ بَلَغَتْ شَأْوًا لَا تُقَاسُ بِهِ حَضَارَتُكُمْ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ)).

فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: ((لَا تُقَاسُ بِهِ))؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجَاوَزَتْ مُنْجَزَاتِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَتَهَيَّأَتْ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ لِدُخُولِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ.

وَأَعْظَمُ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَمِ كَانُوا قَبْلَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، وَرِجَالُ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ الْبَارِزِينَ هُمْ تَلَامِيذُ الرِّجَالِ الَّذِينَ لَا تُقَاسُ حَضَارَتُهُمْ بِحَضَارَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَغِبْ عَنْ هَذَا الْأَعْجَمِ الْمُنْصِفِ فِي هَذَا؛ غَابَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِبَارِ مُفَكِّرِي الْعَرَبِ وَهُوَ (زَكِي نَجِيب مَحْمُود)، مَعَ مَكَانَتِهِ عِنْدَ الْقَوْمِ؛ ذَكَرَ أَنَّهُ جَهِلَ عُلُومَنَا جَهْلًا مُطْبَقًا، حَتَّى حَسِبَ أَنَّهُ مِنْ أُمَّةٍ لَا عِلْمَ لَهَا!!

فَهَكَذَا غُيِّبَتْ عَنَّا عُلُومُنَا، وَالْبَلْوَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَهِلُوا هَذَا التَّارِيخَ وَهَذِهِ الْعُلُومَ لَمْ يُمْسِكُوا أَلْسِنَتَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرْسَلُوهَا بِالْقَدْحِ وَالزِّرَايَةِ وَالْحَطِّ فِي هَذَا الَّذِي جَهِلُوهُ، وَرُبِّيَ الْجِيلُ عَلَى ذَلِكَ!! وَصَارَ مِنْهُمْ أَسَاتِذَةٌ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مُتُونَ عُلُومِهِمْ، وَلَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ إِلَّا مُقْتَبَسَاتٌ لَا تَهُزُّ عَقْلًا، وَلَا تُرَبِّي نَفْسًا، وَلَا تُصَفِّي رُوحًا.

وَهَذَا هُوَ سَبَبُ انْهِيَارِ التَّعْلِيمِ فِي جَامِعَاتِنَا، وَأَنَّهَا صَارَتْ كَفُصُولِ مَحْوِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي فَشِلَتْ فِي أَدَاءِ مُهِمَّتِهَا؛ لِأَنَّنَا سِرْنَا عَكْسَ الْفِطْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ تَقُولُ: إِنَّ عُلُومَ الْآخَرِينَ صَالِحَةٌ لِتَرْبِيَةِ أَجْيَالِهِمْ، وَأَنَّ عُلُومَنَا صَالِحَةٌ لِتَرْبِيَةِ أَجْيَالِنَا.

 ((نَصِيحَةٌ غَالِيَةٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ))

إِنَّ قُلُوبَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَمْتَلِئُ سُرُورًا إِذَا كَانَتْ ذُرِّيَّاتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَيَكُونُوا قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

إِنَّ الْوَلَدَ الصَّالِحُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَلْمَرْءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَزُخْرًا لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفْعًا فِي الدَّرَجَاتِ.

فَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ!

وَاتَّقِ اللهَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نَفْسِكَ!

وَاتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيمَنْ تَحْتَ يَدِكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ.

فَإِذَا سَأَلَكَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فَجَهِّزْ لِلسُّؤَالِ جَوابًا.

إِذَا قَالَ لَكَ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ؟ فَأَحْضِرْ لِهَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا صَوَابًا.

اتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيمَنْ تَعُولُ، وَاتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِكَ، خُذْهُمْ بِالشِّدَّةِ عَلَى أَمْرِ اللهِ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ حَالُهُمْ، وَحَتَّى تَنْضَبِطَ خُطُوَاتُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِشُرُوطِهِ قَضِيَّةُ أَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ الشَّهَادَةِ وَوَاجِبُنَا نَحْوَ أُسَرِ الشُّهَدَاءِ
  حسْنُ الْعِشْرَةِ وَحِفْظُهَا
  السعي في حاجة الآخرين
  إِيمَانُ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ
  الحرب بالفواحش !!
  رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ وَدُرُوسٌ مِنْ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان