مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ

مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ

((مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حُسْنُ الْخُلُقِ مَقْصِدُ إِرْسَالِ النَّبِيِّ ﷺ ))

فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ ﷺ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ؛ فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .

حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ (إِنَّمَا)، وَحَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَقْصِدَ إِرْسَالِهِ فِي إِتْمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ ﷺ.

وَمَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَصَفَ النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ الَّتِي قَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ، وَيُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ اسْتَفْتَحَ بِدُعَاءِ اسْتِفْتَاحِ الْقِيَامِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ -وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ قِيَامُ اللَّيْلِ لَيْلَةً وَاحِدَةً حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ﷺ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا بِلَيْلٍ؛ صَلَّى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَتَهَجَّدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ﷺ-، مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَكْمَلَ نَبِيَّهُ ﷺ، وَأَدَّبَهُ، وَحَسَّنَ أَخْلَاقَهُ حَتَّى صَارَ ذَهَبًا صِرْفًا مَحْضًا؛ بَلْ صَارَ كَمِثْلِهِ الذَّهَبُ الصِّرْفُ الْمَحْضُ ﷺ؛ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ يَقُولُ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

فِي دُعَاءٍ عَظِيمٍ يَسْتَفْتِحُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ ظَرْفَ الْمُنَاجَاةِ لِلْعَلِيِّ الْأَعْلَى ذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ إِذَا مَا صَفَّ الْقَدَمَيْنِ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((اللهم لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)).

وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ شَفِيفَةٌ تَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ وَسَاطَةِ لِسَانٍ، إِنَّمَا هِيَ لُغَةُ الْقَلْبِ الْحَيِّ، وَلُغَةُ الْقَلْبِ النَّابِضِ، وَلُغَةُ الدَّمِ الْمُتَأَجِّجِ الْمُشْتَعِلِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَدْعُو النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعْرِفُ أَعْدَاؤُهُ قَبْلَ أَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَبْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا لَهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﷺ؛ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَصِفُهُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةُ الْمُتَفَرِّدَةُ، وَلَهُ الْجَنَابُ الْأَعْلَى، وَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى، وَهُوَ اللهُ ذُو الْقُوَى وَالْقُدَرِ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْغَايَةِ وَفَوْقَ الْمُنْتَهَى ﷺ، وَشَهِدَ لَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُعَلِّمُنَا: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ..

((مَعْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ))

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ((الْأَخْلَاقُ: غَرَائِزُ كَامِنَةٌ تَظْهَرُ بِالِاخْتِيَارِ، وَتُقْهَرُ بِالِاضْطِرَارِ)).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الْخُلُقُ: عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ لِلنَّفْسِ رَاسِخَةٍ يَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْهَيْئَةُ بِحَيْثُ يَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْجَمِيلَةُ عَقْلًا وَشَرْعًا بِسُهُولَةٍ؛ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ خُلُقًا حَسَنًا، وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ مِنْهَا الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ؛ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ ذَلِكَ خُلُقًا سَيِّئًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ بَذْلُ الْمَالِ عَلَى النُّدُورِ بِحَالَةٍ عَارِضَةٍ؛ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السَّخَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ)).

قَالَ الْقَزْوِينِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَعْنَى حُسْنِ الْخُلُقِ: سَلَامَةُ النَّفْسِ نَحْوَ الْأَرْفَقِ الْأَحْمَدِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ)).

أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَهُوَ: ((أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِأَوَامِرِ اللهِ -تَعَالَى- وَنَوَاهِيهِ، يَفْعَلُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، طَيِّبَ النَّفْسِ بِهِ، سَلِسًا نَحْوَهُ، وَيَنْتَهِي عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ، رَاضِيًا بِهِ، غَيْرَ مُتَضَجِّرٍ مِنْهُ، وَيَرْغَبُ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرِ، وَيَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ لِوَجْهِهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ- إِذَا رَأَى أَنَّ تَرْكَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ مِنْ فِعْلِهِ، مُسْتَبْشِرًا لِذَلِكَ، غَيْرَ ضَجِرٍ مِنْهُ، وَلَا مُتَعَسِّرٍ بِهِ)).

فَهَذَا حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ.

وَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ -وَهُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ-؛ فَهُوَ: ((أَنْ يَكُونَ سَمِحًا لِحُقُوقِهِ، لَا يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِهَا، وَيُوفِي مَا يَجِبُ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَإِنْ مَرِضَ وَلَمْ يُعَدْ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَمْ يُزَرْ، أَوْ سَلَّمَ فَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، أَوْ ضَافَ فَلَمْ يُكْرَمْ، أَوْ شَفَعَ فَلَمْ يُجَبْ، أَوْ أَحْسَنَ فَلَمْ يُشْكَرْ، أَوْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ فَلَمْ يُمَكَّنْ، أَوْ تَكَلَّمَ فَلَمْ يُنْصَتْ لَهُ، أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَى صَدِيقٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، أَوْ خَطَبَ فَلَمْ يُزَوَّجْ، أَوِ اسْتَمْهَلَ الدَّيْنَ فَلَمْ يُمْهَلْ، أَوِ اسْتَنْقَصَ مِنْهُ فَلَمْ يُنْقَصْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَغْضَبْ، وَلَمْ يُعَاقِبْ، وَلَمْ يَتَنَكَّرْ مِنْ حَالٍ حَالُهُ، وَلَمْ يَسْتَشْعِرْ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ حَفِيَ وَأُوحِشَ، وَأَنَّهُ لَا يُقَابِلُ كُلَّ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يُضْمِرُ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ وَأَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَشْبَهُ بِمَا يُحْمَدُ وَيُرْضَى.

ثُمَّ يَكُونُ فِي إِيفَاءِ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ كَهُوَ فِي حِفْظِ مَا يَكُونُ لَهُ، فَإِذَا مَرِضَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ عَادَهُ، وَإِنْ جَاءَ فِي شَفَاعَةٍ شَفَّعَهُ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَمْهَلَهُ، وَإِنِ احْتَاجَ مِنْهُ إِلَى مَعُونَتِهِ أَعَانَهُ، وَإِنِ اسْتَسْمَحَهُ فِي بَيْعٍ سَمَحَ لَهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعَامِلُهُ كَيْفَ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ إِيَّاهُ فِيمَا خَلَا، وَكَيْفَ يُعَامِلُ النَّاسَ، إِنَّمَا يَتَّخِذُ الْأَحْسَنَ إِمَامًا لِنَفْسِهِ، فَيَنْحُو نَحْوَهُ، وَلَا يُخَالِفُهُ)).

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ يَكُونَ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، طَلْقَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ)).

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ، وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ».

وَعَنِ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ، وَالْبَذْلَةُ، وَالِاحْتِمَالُ».

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ: «هُوَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى».

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ».

 وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَلَّا تَغْضَبَ، وَلَا تَحْقِدَ)).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: كَظْمُ الْغَيْظِ للهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إِقَامَةً لِحَدٍّ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرًا لِمُنْكَرٍ، أَوْ أَخْذًا بِمَظْلِمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ».

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((كِتَابِ الْإِيمَانِ)): «مَا هَمَّ الْعَبْدُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ فَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ؛ وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي الْهَمِّ».

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ تَقْوَى اللهِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ لِأَنَّ تَقْوَى اللهِ تُصْلِحُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَيُصْلِحُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَتَقْوَى اللهِ تُوجِبُ لَهُ مَحَبَّةَ اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَدْعُو النَّاسِ إِلَى مَحَبَّتِهِ».

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ: التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ».

قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((الْخُلُقُ الدَّنِيُّ، وَاللِّسَانُ البَذِيُّ)).

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ)).

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا، وَتَعْظِيمِ الْمُتَّصِفِ بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا؛ فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ، وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِهَا، وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلِّقِ بِهَا، وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا، وَالِاعْتِدَالِ إِلَى غَايَتِهَا ﷺ )).

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: «الْحَسَنُ الْخُلُقِ مِنْ نَفْسِهِ فِي رَاحَةٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ، وَالسَّيِّءُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ)).

الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ؛ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).

وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).

وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).

((فَضَائِلُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَثَمَرَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَفِيهِ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَهَذَا عَطَاءُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ تَلَاهُ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْقَرِيبَ مِنْكُمْ، الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ لَهُ وَظَائِفُ كُبْرَى، مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ وَيُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ سُلُوكٍ بَشَرِيٍّ، وَيُبَشِّرُ الْقُرْآنُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ.

((لَقَدْ أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَدَعَا إِلَيْهَا الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ، مَعَ التَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَعَدَّ لِمَنْ حَادَ عَنْهَا وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا دَارَ الْهَوَانِ، وَهِيَ النَّارُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.

وَالْأَخْلَاقُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، أَوْ أَمَرَ بِهَا رَسُولُهُ الْكَرِيمُ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، أَوْ مَدَحَ أَهْلَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ وَالْفَوْزَ الْكَبِيرَ)).

وَهَذِهِ بَعْضُ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ فِيهَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْخِصَالِ الْفَاضِلَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [البقرة: 83].

(({وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: هَذَا مِنْ قَسْوَتِهِمْ؛ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ أُمِرُوا بِهِ اسْتَعْصَوْا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ إِلَّا بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ وَالْعُهُودِ الْمُوَثَّقَةِ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}: هَذَا أَمْرٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَنَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ بِهِ، وَهَذَا أَصْلُ الدِّينِ، فَلَا تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَسَاسَهَا، فَهَذَا حَقُّ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ إِحْسَانٍ قَوْلِيٍّ وَفِعْلِيٍّ مِمَّا هُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، أَوْ عَدَمِ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِحْسَانُ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ.

وَلِلْإِحْسَانِ ضِدَّانِ: الْإِسَاءَةُ، وَهِيَ أَعْظَمُ جُرْمًا، وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ بِدُونِ إِسَاءَةٍ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ؛ لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي صِلَةِ الْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَتَفَاصِيلُ الْإِحْسَانِ لَا تَنْحَصِرُ بِالْعَدِّ، بَلْ تَكُونُ بِالْحَدِّ.

ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، فَقَالَ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.

وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَسَعُ النَّاسَ بِمَالِهِ؛ أَمَرَ بِأَمْرٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ: النَّهْيُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ لِلنَّاسِ؛ حَتَّى لِلْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وَمِنْ أَدَبِ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ نَزِيهًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، غَيْرَ فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ، وَلَا شَاتِمٍ، وَلَا مُخَاصِمٍ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَ الْخُلُقِ، وَاسِعَ الْحِلْمِ، مُجَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ، صَبُورًا عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، وَالزَّكَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ}.

((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمُ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.

وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي ضِدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا؛ فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنْ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْمُجَادِلِ، أَوْ بِغَيْرِ قَاعِدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، وَأَلَّا يُجَادِلُوا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِحُسْنِ خُلُقٍ، وَلُطْفٍ، وَلِينِ كَلَامٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى الْحَقِّ وَتَحْسِينِهِ، وَرَدٍّ عَنِ الْبَاطِلِ وَتَهْجِينِهِ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ لِذَلِكَ، وَأَلَّا يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ، بَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ بَيَانَ الْحَقِّ وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ؛ إِلا مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِهِ وَحَالِهِ أَنَّهُ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاغَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، فَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِي جِدَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ضَائِعٌ.

{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أَيْ: وَلْتَكُنْ مُجَادَلَتُكُمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَأُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِكُمْ وَرَسُولِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَا تَكُنْ مُنَاظَرَتُكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الْقَدْحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ، يَقْدَحُ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْوَاجِبِ وَآدَابِ النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَرُدَّ مَا مَعَ الْخَصْمِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَقْبَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَرُدَّ الْحَقَّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ بِنَاءَ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِيهِ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُتُبُ، وَتَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ، وَثَبَتَتْ حَقَائِقُهَا عِنْدَهُمَا، وَكَانَتِ الْكُتُبُ السَّابِقَةُ وَالْمُرْسَلُونَ مَعَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ ﷺ قَدْ بَيَّنَتْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّصْدِيقُ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَالرُّسُلِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.

فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: نُؤْمِنُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ دُونَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي صَدَّقَ مَا قَبْلَهُ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَهَوًى، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ بِالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْقُرْآنَ الدَّالَّ عَلَيْهَا، الْمُصَدِّقَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ؛ فَإِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ أَيِّ نَبِيٍّ كَانَ فَإِنَّ مِثْلَهَا وَأَعْظَمَ مِنْهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكُلَّ شُبْهَةٍ يُقْدَحُ بِهَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّ مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا إِلَى نُبُوَّةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُهَا فِي غَيْرِهِ فَثُبُوتُ بُطْلَانِهَا فِي حَقِّهِ ﷺ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ.

وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ: مُنْقَادُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَآمَنَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَانْقَادَ لِلَّهِ، وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ؛ فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنِ انْحَرَفَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ الشَّقِيُّ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 33-35].

((هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُتَقَرِّرِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا -أَيْ: كَلَامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً- مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، وَوَعْظِ الْغَافِلِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْمُبْطِلِينَ، بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَتَحْسِينِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالزَّجْرُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْبِيحُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوجِبُ تَرْكَهُ؛ خُصُوصًا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَحْسِينِهِ، وَمُجَادَلَةِ أَعْدَائِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا يُضَادُّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: تَحْبِيبُهُ إِلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ نِعَمِهِ، وَسَعَةِ جُودِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذِكْرِ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.

وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: التَّرْغِيبُ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَيْهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَعْظُ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الْمَوَاسِمِ، وَالْعَوَارِضِ، وَالْمَصَائِبِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَالَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرِّ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: مَعَ دَعْوَتِهِ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بَادَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُرْضِي رَبَّهُ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَمَامُهَا لِلصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْوِرَاثَةُ التَّامَّةُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ قَوْلًا: مَنْ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الضَّالِّينَ السَّالِكِينَ لِسُبُلِهِ.

وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ارْتَفَعَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَنَزَلَتِ الْأُخْرَى إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ مَرَاتِبُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّهَا مَعْمُورَةٌ بِالْخَلْقِ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} ؟!

ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ، وَتَرَكَ خِطَابَكَ؛ فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ، وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصَلَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ؛ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!

فَإِذَا صَبَرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعِ قَدْرِهِ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)).

وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ أَخْلَاقِ وَخِصَالِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76].

((الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ نَوْعَانِ: عُبُودِيَّةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْخَلْقِ؛ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ، فَكُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ، مَرْبُوبُونَ مُدَبَّرُونَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.

وَعُبُودِيَّةٌ لِأُلُوهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا؛ وَلِهَذَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ (الرَّحْمَن)، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ صِفَاتِهِمْ أَكْمَلُ الصِّفَاتِ، وَنُعُوتَهُمْ أَفْضَلُ النُّعُوتِ، فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ: سَاكِنِينَ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ وَالْخَلْقِ، فَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} أَيْ: خِطَابَ جَهْلٍ؛ بِدَلِيلِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ وَإِسْنَادِهِ لِهَذَا الْوَصْفِ {قَالُوا سَلامًا} أَيْ: خَاطَبُوهُمْ خِطَابًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَاهِلِ بِجَهْلِهِ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ بِالْحِلْمِ الْكَثِيرِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَرَزَانَةِ الْعَقْلِ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ.

{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أَيْ: يُكْثِرُونَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، مُخْلِصِينَ فِيهَا لِرَبِّهِمْ، مُتَذَلِّلِينَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أَيِ: ادْفَعْهُ عَنَّا بِالْعِصْمَةِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمَغْفِرَةِ مَا وَقَعَ مِنَّا مِمَّا هُوَ مُقْتَضٍ لِلْعَذَابِ {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أَيْ: مُلَازِمًا لِأَهْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وَهَذَا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّضَرُّعِ لِرَبِّهِمْ، وَبَيَانِ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ فِي طَاقَتِهِمُ احْتِمَالُ هَذَا الْعَذَابِ، وَلِيَتَذَكَّرُوا مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ صَرْفَ الشِّدَّةِ بِحَسَبِ شِدَّتِهَا وَفَظَاعَتِهَا يَعْظُمُ وَقْعُهَا، وَيَشْتَدُّ الْفَرَحُ بِصَرْفِهَا.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ {لَمْ يُسْرِفُوا} بِأَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْحَدِّ فَيَدْخُلُوا فِي قِسْمِ التَّبْذِيرِ، وَلَمْ يَقْتُرُوا فَيَدْخُلُوا فِي بَابِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، وَإِهْمَالِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ، بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ {قَوَامًا} يَبْذُلُونَ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَفِيمَا يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا ضِرَارٍ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِمْ وَاقْتِصَادِهِمْ.

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} بَلْ يَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ، {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}: وَهِيَ نَفْسُ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ {إِلا بِالْحَقِّ}؛ كَقَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَقَتْلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالْكَافِرِ الَّذِي يَحِلُّ قَتْلُهُ، {وَلا يَزْنُونَ} بَلْ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أَيِ: الشِّرْكَ بِاللَّهِ، أَوْ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ الزِّنَا؛ فَسَوْفَ {يَلْقَ أَثَامًا}، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ} أَيْ: فِي الْعَذَابِ {مُهَانًا}؛ فَالْوَعِيدُ بِالْخُلُودِ لِمَنْ فَعَلَهَا كُلَّهَا ثَابِتٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَكَذَلِكَ الْوَعِيدُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِكَوْنِهَا إِمَّا شِرْكٌ، وَإِمَّا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

وَأَمَّا خُلُودُ الْقَاتِلِ وَالزَّانِي فِي الْعَذَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْخُلُودُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ سَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَخْلُدُ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَلَوْ فَعَلَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا فَعَلَ، وَنَصَّ -تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؛ فَالشِّرْكُ فِيهِ فَسَادُ الْأَدْيَانِ، وَالْقَتْلُ فِيهِ فَسَادُ الْأَبْدَانِ، وَالزِّنَا فِيهِ فَسَادُ الْأَعْرَاضِ.

{إِلا مَنْ تَابَ} عَنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَغَيْرِهَا بِأَنْ أَقْلَعَ عَنْهَا فِي الْحَالِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا مَضَى لَهُ مِنْ فِعْلِهَا، وَعَزَمَ عَزْمًا جَازِمًا أَلَّا يَعُودَ، {وَآمَنَ} بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، {وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أَيْ: تَتَبَدَّلُ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمُ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ.. تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، فَيَتَبَدَّلُ شِرْكُهُمْ إِيمَانًا، وَمَعْصِيَتُهُمْ طَاعَةً، وَتَتَبَدَّلُ نَفْسُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا، ثُمَّ أَحْدَثُوا عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْهَا تَوْبَةً وَإِنَابَةً وَطَاعَةً؛ تَتَبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي حَاسَبَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ، فَعَدَّدَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَبْدَلَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَقَالَ: ((يَا رَبِّ! إِنَّ لِي سَيِّئَاتٍ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا))، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِمَنْ تَابَ، يَغْفِرُ الذُّنُوبَ الْعَظِيمَةَ، {رَحِيمًا} بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بَعْدَ مُبَارَزَتِهِ بِالْعَظَائِمِ، ثُمَّ وَفَّقَهُمْ لَهَا، ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُمْ.

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أَيْ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى اللَّهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ؛ فَلْيُخْلِصْ فِيهَا، وَلْيُخَلِّصْهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: الْحَثُّ عَلَى تَكْمِيلِ التَّوْبَةِ، وَإِيقَاعِهَا عَلَى أَفْضَلِ الْوُجُوهِ وَأَجَلِّهَا؛ لِيَقْدَمَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَيُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ بِحَسَبِ كَمَالِهَا.

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَيْ: لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، أَيِ: الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ، فَيَجْتَنِبُونَ جَمِيعَ الْمَجَالِسِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوِ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ؛ كَالْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَالْجِدَالِ الْبَاطِلِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالسَّبِّ، وَالْقَذْفِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَفُرُشِ الْحَرِيرِ، وَالصُّوَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانُوا لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ؛ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يَقُولُوهُ وَيَفْعَلُوهُ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الزُّورِ، تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ.

{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ}: وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ؛ كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ وَنَحْوِهِمْ؛ {مَرُّوا كِرَامًا} أَيْ: نَزَّهُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَكْرَمُوهَا عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْخَوْضَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا إِثْمَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَنَقْصٌ لِلْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمُرُوءَةِ، فَرَبَؤُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ.

وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ حُضُورَهُ وَلَا سَمَاعَهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُصَادَفَةِ الَّتِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ يُكْرِمُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ.

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الَّتِي أَمَرَهُمْ بِاسْتِمَاعِهَا، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا؛ {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أَيْ: لَمْ يُقَابِلُوهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالصَّمَمِ عَنْ سَمَاعِهَا، وَصَرْفِ النَّظَرِ وَالْقُلُوبِ عَنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا وَلَمْ يُصَدِّقْ، وَإِنَّمَا حَالُهُمْ فِيهَا وَعِنْدَ سَمَاعِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}: يُقَابِلُونَهَا بِالْقَبُولِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ لَهَا، وَتَجِدُ عِنْدَهُمْ آذَانًا سَامِعَةً، وَقُلُوبًا وَاعِيَةً، فَيَزْدَادُ بِهَا إِيمَانُهُمْ، وَيَتِمُّ بِهَا إِيقَانُهُمْ، وَتُحْدِثُ لَهُمْ نَشَاطًا، وَيَفْرَحُونَ بِهَا سُرُورًا وَاغْتِبَاطًا.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أَيْ: قُرَنَائِنَا؛ مِنْ أَصْحَابٍ، وَأَقْرَانٍ، وَزَوْجَاتٍ {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أَيْ: تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا، وَإِذَا اسْتَقْرَأْنَا حَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ عَرَفْنَا مِنْ هِمَمِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى يَرَوْهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، عَالِمِينَ عَامِلِينَ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فِي صَلَاحِهِمْ فَإِنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا جَعَلُوا ذَلِكَ هِبَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: {هَبْ لَنَا}؛ بَلْ دُعَاؤُهُمْ يَعُودُ إِلَى نَفْعِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ بِصَلَاحِ مَنْ ذُكِرَ يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَنْتَفِعُ بِهِمْ.

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أَيْ: أَوْصِلْنَا يَا رَبَّنَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالْكُمَّلِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، يُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُطْمَئَنُّ لِأَقْوَالِهِمْ، وَيَسِيرُ أَهْلُ الْخَيْرِ خَلْفَهُمْ، فَيَهْدُونَ وَيَهْتَدُونَ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِبُلُوغِ شَيْءٍ دُعَاءٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ -دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ- لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، فَهَذَا الدُّعَاءُ يَسْتَلْزِمُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّامِّ الَّذِي يُوصِلُ صَاحِبَهُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ خَيْرًا كَثِيرًا وَعَطَاءً جَزِيلًا، وَأَنْ يَكُونُوا فِي أَعْلَى مَا يُمْكِنُ مِنْ دَرَجَاتِ الْخَلْقِ بَعْدَ الرُّسُلِ.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هِمَمُهُمْ وَمَطَالِبُهُمْ عَالِيَةً؛ كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَازَاهُمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَاتِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أَيِ: الْمَنَازِلَ الرَّفِيعَةَ، وَالْمَسَاكِنَ الْأَنِيقَةَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ مَا يُشْتَهَى وَتَلَذُّهُ الْأَعْيُنُ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ نَالُوا مَا نَالُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}؛ وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} مِنْ رَبِّهِمْ، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الْكِرَامِ، وَمِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْمُكَدِّرَاتِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَلِعِبَادِهِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، وَالْحِلْمِ، وَسِعَةِ الْخُلُقِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةِ إِسَاءَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَالْخَوْفِ مِنَ النَّارِ، وَالتَّضَرُّعِ لِرَبِّهِمْ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنْهَا، وَإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فِي النَّفَقَاتِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي ذَلِكَ -وَإِذَا كَانُوا مُقْتَصِدِينَ فِي الْإِنْفَاقِ الَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّفْرِيطِ فِيهِ أَوِ الْإِفْرَاطِ؛ فَاقْتِصَادُهُمْ وَتَوَسُّطُهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى-، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَالِاتِّصَافِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْعِفَّةِ عَنِ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالتَّوْبَةِ عِنْدَ صُدُورِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ وَالْفُسُوقِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَلَا يَفْعَلُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَتَنَزَّهُونَ مِنَ اللَّغْوِ، وَالْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مُرُوءَتَهُمْ، وَإِنْسَانِيَّتَهُمْ، وَكَمَالَهُمْ، وَرِفْعَةَ أَنْفُسِهِمْ عَنْ كُلِّ خَسِيسٍ قَوْلِيٍّ وَفِعْلِيٍّ، وَأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ آيَاتِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ لَهَا، وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهَا، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا، وَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ -تَعَالَى- بِأَكْمَلِ الدُّعَاءِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ صَلَاحِ أَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: سَعْيُهُمْ فِي تَعْلِيمِهِمْ، وَوَعْظِهِمْ، وَنُصْحِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَرَصَ عَلَى شَيْءٍ، وَدَعَا اللَّهَ بِهِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَسَبِّبًا فِيهِ، وَأَنَّهُمْ دَعَوُا اللَّهَ بِبُلُوغِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَهُمْ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ.

فَلِلَّهِ! مَا أَعْلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَرْفَعَ هَذِهِ الْهِمَمَ، وَأَجَلَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ، وَأَزْكَى تِلْكَ النُّفُوسَ، وَأَطْهَرَ تِلْكَ الْقُلُوبَ، وَأَصْفَى هَؤُلَاءِ الصَّفْوَةَ، وَأَتْقَى هَؤُلَاءِ السَّادَةَ!

وَلِلَّهِ! فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَنِعْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ الَّتِي جَلَّلَتْهُمْ، وَلُطْفُهُ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَنَازِلِ!

وَلِلَّهِ! مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ أَوْصَافَهُمْ، وَنَعَتَ لَهُمْ هَيْئَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ هِمَمَهُمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ أُجُورَهُمْ؛ لِيَشْتَاقُوا إِلَى الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِهِمْ، وَيَبْذُلُوا جُهْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَيَسْأَلُوا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ، الَّذِي فَضْلُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَنْ يَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَاهُمْ، وَيَتَوَلَّاهُمْ بِتَرْبِيَتِهِ الْخَاصَّةِ كَمَا تَوَلَّاهُمْ.

فَاللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا نَقْدِرُ عَلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْخَيْرِ إِنْ لَمْ تُيَسِّرْ ذَلِكَ لَنَا؛ فَإِنَّا ضُعَفَاءُ عَاجِزُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، نَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ وَكَلْتَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ وَكَلْتَنَا إِلَى ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَخَطِيئَةٍ، فَلَا نَثِقُ يَا رَبَّنَا إِلَّا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي بِهَا خَلَقْتَنَا، وَرَزَقْتَنَا، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِمَا أَنْعَمْتَ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَصَرَفْتَ عَنَّا مِنَ النِّقَمِ، فَارْحَمْنَا رَحْمَةً تُغْنِينَا بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ؛ فَلَا خَابَ مَنْ سَأَلَكَ وَرَجَاكَ)).

وَهَذِهِ وَصَايَا وَصَّى بِهَا لُقْمَانُ ابْنَهُ، تَجْمَعُ أُمَّهَاتِ الْحِكَمِ، وَتَسْتَلْزِمُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ يُقْرَنُ بِهَا مَا يَدْعُو إِلَى فِعْلِهَا إِنْ كَانَتْ أَمْرًا، وَإِلَى تَرْكِهَا إِنْ كَانَتْ نَهْيًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].

يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي وَالْحَبِيبَ لِي! إِنِّي أُوصِيكَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّمَانِيَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْصَيْتُكَ بِعَهْدٍ مُؤَكَّدٍ مُشَدَّدٍ أَلَّا تُشْرِكَ بِاللهِ:

*الْوَصِيَّةُ الْأُولَى: أَدِّ الصَّلَاةَ تَامَّةً بِأَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا.

الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الرَّابِعَةُ: وَسَيُصِيبُكَ أَذًى مِنَ الَّذِينَ تَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ؛ إِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى مَا يُصِيبُ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَاجُ إِرَادَةً قَوِيَّةً رَفِيعَةً هِيَ مِنْ مُسْتَوَى الْعَزْمِ الَّذِي يَدْفَعُ أَصْحَابَهُ إِلَى تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ تَحَمُّلُ أَشَدِّ الصُّعُوبَاتِ، وَتَحَمُّلُ أَعْظَمِ الْآلَامِ.

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

*الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةُ: وَلَا تَتَكَبَّرْ؛ فَتَحْقِرَ النَّاسَ، وَتُعْرِضَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِبْرِ.

*الْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا فِي مِشْيَتِكَ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مَشْيِهِ، مُسْتَكْبِرٍ عَلَى النَّاسِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ، مُبَالِغٍ فِي الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَسَبٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ ذَكَاءٍ، أَوْ جَمَالِ وَجْهٍ وَحُسْنِ طَلْعَةٍ.

وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللهُ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِعِقَابِهِ.

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ: وَلْتَكُنْ فِي مِشْيَتِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّأَنِّي، فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.

الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ: وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ؛ إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ؛ فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهَقُ فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.

يَا بُنَيَّ! إِنَّ السَّيِّئَةَ أَوِ الْحَسَنَةَ مَهْمَا كَانَتْ صَغِيرَةً مِثْلَ وَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَكَانَتْ فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، أَوْ كَانَتْ فِي أَيِّ مَكَانٍ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ عَلَيْهَا.

إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.

يَا بُنَيَّ! أَقِمِ الصَّلَاةَ بِأَدَائِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَالَكَ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي ذَلِكَ؛ إِنَّ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَزَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ؛ فَلَا خِيرَةَ لَكَ فِيهِ.

وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.

وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ، مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ.

وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.

وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَعَلَى أَدَبٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ أَدَبُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَدَّبَهُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3-4].

((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا عَظِيمًا -كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ- غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ؛ وَذَلِكَ لِمَا أَسْلَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أَيْ: عَلِيٌّ بِهِ، مُسْتَعْلٍ بِخُلُقِكَ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِهِ.

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ((لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللهِ)).

وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.

وَحَاصِلُ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ: مَا فَسَّرَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِمَنْ سَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).

وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- لَهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} الْآيَةَ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الْحَاثَّاتِ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؛ فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا.

فَكَانَ ﷺ سَهْلًا لَيِّنًا، قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْهُ أَمْرًا؛ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ.

وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ؛ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.

وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةً وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ عَلَيْهِ فِي مَقَالِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ )) .

لَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ)).

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَوْلَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ:

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُتِيَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟

قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ.

فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَهَا فَقَالَ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَتْ: ((أَلَيْسَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ».

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَالْمُتَشَدِّقُ: الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَهْقِ، وَهُوَ الِامْتِلَاءُ. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الْبِرَّ: هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِرِّ، وَالْإِثْمِ؟

فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).

فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمَ حَوَّازُ الصُّدُورِ، أَيْ: مَا يَحِيكُ فِيهَا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ، وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، وَالْإِثْمَ حَوَّازُ الصُّدُورِ، وَمَا حَاكَ فِيهَا وَاسْتَرَابَتْ بِهِ، وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: (({خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ يَعْنِي: هَذِهِ الْآيَةَ- إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ)).

وَعَنْهُ -أَيْضًا- قَالَ: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ)) أَوْ كَمَا قَالَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟

فَقَالَ: «تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟

فَقَالَ: «الْفَمُ، وَالْفَرْجُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي)).

فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ: ((رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ)). الْحَدِيثَ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ)).

قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْه وَهُوَ يَضْحَكُ)).

فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ! اذْهَبْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ».

قُلْتُ: ((نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((وَاللهِ! لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟».

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ -وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: ((وَاللهِ! مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟!)).

فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».

فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا إِخْوَتَاهُ! آغْضَبْتُكُمْ؟)).

قَالُوا: ((لَا، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخَيَّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ؛ الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ -أَيْ: يُعْطِيَكَ-، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا؛ قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ، وَيَصْطَبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ..} [آل عمران: 186] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا..} [البقرة: 109] الْآيَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ..)). الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَ((لَا يَفْرَكُ)) أَيْ: لَا يُبْغِضُهَا بُغْضًا مُصْمَتًا يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ! لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا».

((نُصُوصٌ جَامِعَةٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))

عِبَادَ اللهِ! قَوْلُ اللهِ -تَعَالَى-: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات: 40-41] جَامِعٌ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ؛ لِأَنَّ نَهْيَ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَى هُوَ رَدْعُهَا عَنِ الطَّبْعِ الْغَضَبِيِّ وَالطَّبْعِ الشَّهْوَانِيِّ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا وَاقِعٌ تَحْتَ مُوجِبِ الْهَوَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِعْمَالُ النَّفْسِ الْمَنْطِقَ الْمَوْضُوعَ فِيهَا، الَّذِي بِهِ بَانَتْ عَنِ الْبَهَائِمِ، وَالْحَشَرَاتِ، وَالسِّبَاعِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِلَّذِي اسْتَوْصَاهُ: ((لَا تَغْضَبْ))، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَمْرُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) جَامِعَانِ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ؛ لِأَنَّ فِي نَهْيِهِ عَنِ الْغَضَبِ رَدْعَ النَّفْسِ ذَاتِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ عَنْ هَوَاهَا، وَفِي أَمْرِهِ ﷺ ((بِأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) رَدْعُ النَّفْسِ عَنِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَجَمْعٌ لِأَزِمَّةِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ فَائِدَةُ النُّطْقِ الْمَوْضُوعِ فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ.

وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ سُلُوكُهُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ، فَأَمَرَ -تَعَالَى- بِأَخْذِ {الْعَفْو}: وَهُوَ مَا سَمَحَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَسَهُلَتْ بِهِ أَخْلَاقُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ بَلْ يَقْبَلُ مَا سَهُلَ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا تَسْمَحُ بِهِ طَبَائِعُهُمْ، وَلَا مَا لَا يُطِيقُونَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَا قَابَلَهُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَخُلُقٍ جَمِيلٍ، وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ نَقْصِهِمْ، وَعَمَّا أَتَوْا بِهِ وَعَامَلُوهُ بِهِ مِنَ النَّقْصِ، وَلَا يَتَكَبَّرَ عَلَى صَغِيرٍ لِصِغَرِهِ، وَلَا نَاقِصِ الْعَقْلِ لِنَقْصِهِ، وَلَا الْفَقِيرِ لِفَقْرِهِ، بَلْ يُعَامِلُ الْجَمِيعَ بِاللُّطْفِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ الْحَاضِرَةُ، وَبِمَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ، وَيُوَقِّرُ الْكَبِيرَ، وَيَحْنُو عَلَى الصَّغِيرِ، وَيُجَامِلُ النَّظِيرَ.

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}: وَهُوَ كُلُّ قَوْلٍ حَسَنٍ، وَفِعْلٍ جَمِيلٍ، وَخُلُقٍ كَامِلٍ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ فَاجْعَلْ مَا يَأْتِي إِلَى النَّاسِ مِنْكَ: إِمَّا تَعْلِيمَ عِلْمٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ نَصِيحَةً، أَوْ حَثًّا لَهُمْ عَلَى خَيْرٍ؛ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ رَأْيٍ مُصِيبٍ، أَوْ مُعَاوَنَةٍ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، أَوْ زَجْرٍ عَنْ قَبِيحٍ، أَوْ إِرْشَادٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ تَحْذِيرٍ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَذِيَّةِ الْجَاهِلِينَ لَهُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ أَمَرَ اللهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ مُقَابَلَةِ الْجَاهِلِينَ بِجَهْلِهِمْ، فَمَنْ آذَاكَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ فَلَا تُؤْذِهِ، وَمَنْ حَرَمَكَ فَلَا تَحْرِمْهُ، وَمَنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَمَنْ ظَلَمَكَ فَاعْدِلْ فِيهِ، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَكَ مِنَ الثَّوَابِ مِنَ اللهِ، وَمِنْ رَاحَةِ الْقَلْبِ وَسُكُونِهِ، وَمِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَمِنَ انْقِلَابِ الْعَدُوِّ صَدِيقًا، وَمِنَ التَّبَوُّءِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَعْلَاهَا أَكْبَرُ حَظٍّ وَأَوْفَرُ نَصِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [ فصلت: 34-35].

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ.

((الْمَثَلُ التَّطْبِيقِيُّ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي حَيَاةِ نَبِيِّنَا ﷺ يَجِدُ أَنَّهَا تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ لِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَقِيَمِهِ السَّامِيَةِ الَّتِي تَتَّسِقُ، وَالْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ؛ فَتَقُولُ فِيهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِتَصِفَ خُلُقَهُ عِنْدَمَا قِيلَ: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟

تَقُولُ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ﷺ )).

الَّذِي يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى غَايَتِهِ عَلَى حَسَبِ تَخَلُّفِهِ بِأَخْذِهِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.

الْإِسْلَامُ قِيَمٌ وَمُثُلٌ وَأَخْلَاقٌ وَمَبَادِئُ عِظَامٌ فِي السَّمَاءِ؛ بَلْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُحْيِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوَاتَ الْأَنْفُسِ.

النَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَكُلُّ دَاعٍ إِلَى هَذَا كُلِّهِ بِجُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ يَقَعُ دُونَ الْغَايَةِ عَلَى حَسَبِ تَخَلُّفِهِ عَنِ الْأَخْذِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَمِنْ مَبَادِئِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ جَاءَ بِالْمَنْهَجِ وَهُوَ فِي عَيْنِ الْوَقْتِ هُوَ الْمَنْهَجُ ﷺ.

وَلِذَا تَعْجَبُ الْعَجَبَ كُلَّهُ عِنْدَمَا تَتَأَمَّلُ فِي مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْكُبْرَى، وَفِي آيَتِهِ الْعُظْمَى: فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى الدَّهْرِ، هُوَ الْآيَةُ الْخَالِدَةُ عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ، لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تُحَرَّفُ، وَلَا تُشَوَّهُ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَلَا يُزَادُ فِيهَا.

تَعْجَبُ! كُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ يَأْتِي بِمَنْهَجٍ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمُعْجِزَةٍ تَقُومُ بُرْهَانًا عَلَى مَنْهَجِهِ؛ إِلَّا مُحَمَّدًا يَأْتِي بِمَنْهَجٍ هُوَ عَيْنُ الْمُعْجِزَةِ، وَبِمُعْجِزَةٍ هِيَ عَيْنُ الْمَنْهَجِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ ﷺ.

مُعْجِزَتُهُ الْكُبْرَى مَنْهَجُهُ، وَمَنْهَجُهُ الْأَعْظَمُ مُعْجِزَتُهُ الْكُبْرَى، مَنْهَجٌ فِي مُعْجِزَةٍ، وَمُعْجِزَةٌ فِي مَنْهَجٍ، وَالرَّسُولُ قَائِمٌ بِالْمُعْجِزَةِ وَالْمَنْهَجِ فِي شَخْصِهِ وَذَاتِهِ فِي آنٍ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.

عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَنَهْ سَنَهْ)).

قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ.

قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي -أَيْ: نَهَرَنِي وَزَجَرَنِي- أَبِي.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((دَعْهُ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي».

قَالَ عَبْدُ اللهِ: ((فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، يَعْنِي: مِنْ بَقَائِهَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا)).

قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا: ((السَّامُ عَلَيْكُمْ))، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ.

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللهُ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ)).

قَالَ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ».

قَالَتْ: ((أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!)).

قَالَ: «أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَضَعَ صَبِيًّا فِي حِجْرِهِ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ -أَيْ: رَجَعَ- رَسُولُ اللهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ -يَعْنِي: وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ- فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ.

فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي -أَيْ: سَلَّهُ مِنْ غِمْدِهِ- وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا -أَيْ: مُنْجَرِدًا-».

فَقَالَ: ((مَا يَمْنَعُكَ مِنِّي؟)).

فَقُلْتُ: «اللهُ» ثَلَاثًا، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَهْدَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ حِمَارًا وَحْشِيًّا بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِـ(وَدَّانَ)، فَرَدَّهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَأَىَ مَا فِي وَجْهِي قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَمْلَةٌ.

فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا.

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا.

فَقَالَ: ((نَعَمْ)).

فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ ﷺ لَامَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعُهُ.

فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ؛ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَدَمْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، وَلَا مَسِسْتُ خَزًّا قَطُّ وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا قَطُّ وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ النَّبِيِّ ﷺ ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَ بَعْضَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَ بَعْضَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ صَلَاةَ الْأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، قَالَ: وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي، فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَالْجُؤْنَةُ: الْإِنَاءُ الَّذِي يُعَدُّ فِيهِ الطِّيبُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا.

فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ -قَالَ: أَحْسَبُهُ فَطِيمًا-، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟».

نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِنَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالنُّغَيْرُ: طَائِرٌ صَغِيرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ.

وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مَا شَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ فِيهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ((سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ؟)).

قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَ((مِهْنَةُ أَهْلِهِ)) يَعْنِي: الصَّنْعَةَ، وَالْمُرَادُ: كَانَ فِي شُغُلِ أَهْلِهِ وَحَوَائِجِهِمْ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ؛ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا للهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ)).

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ؛ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي يَنْزِعُ، وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ﷺ وَكَذَا كَانَ أَصْحَابُهُ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ؛ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا.

فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي! لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ؛ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ.

قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ.

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ.

فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ))، وَاللهِ! مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ».

((حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَأَرْكَانُهُ))

((حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ: أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ نَفْسُهُ، وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَلْقِ لِصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَهَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ.

وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ؛ وَلِذَا تَكَرَّرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مَدْحِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَذَمِّ سُوئِهِ)).

وَقَالَ أَحَدُهُمْ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَكُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ اللهِ يُوجِبُ شُكْرًا، فَلَا تَزَالُ شَاكِرًا لَهُ، مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ، سَائِرًا إِلَيْهِ بَيْنَ مُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ وَشُهُودِ عَيْبِ نَفْسِكَ وَأَعْمَالِكَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ، وَجِمَاعُهُ أَمْرَانِ: بَذْلُ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَكَفُّ الْأَذَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ: الْعِلْمُ، وَالْجُودُ، وَالصَّبْرُ، وَطِيبُ الْعُودِ، وَصِحَّةُ الْإِسْلَامِ.

أَمَّا الْعِلْمُ؛ فَلِأَنَّهُ يُعَرِّفُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَسَفْسَافَهَا، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذَا وَيَتَحَلَّى بِهِ، وَيَتْرُكَ هَذَا وَيَتَخَلَّى عَنْهُ.

وَأَمَّا الْجُودُ؛ فَسَمَاحَةُ نَفْسِهِ وَبَذْلُهَا، وَانْقِيَادُهَا لِذَلِكَ إِذَا أَرَادَهُ مِنْهَا.

وَأَمَّا الصَّبْرُ؛ فَلِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى احْتِمَالِ ذَلِكَ، وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ؛ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ.

وَأَمَّا طِيبُ الْعُودِ؛ فَأَنْ يَكُونَ اللهُ -تَعَالَى- خَلَقَهُ عَلَى طَبِيعَةٍ مُنْقَادَةٍ سَهْلَةِ الِانْقِيَادِ، وَسَرِيعَةِ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْخَيْرَاتِ.

وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِسْلَامِ؛ فَهِيَ جِمَاعُ ذَلِكَ، وَالْمُصَحِّحُ لِكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ؛ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَتَصْدِيقِهِ بِالْجَزَاءِ، وَحُسْنِ مَوْعُودِ اللهِ وَثَوَابِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، وَيَلَذُّ لَهُ الِاتِّصَافُ بِهِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.

اعْلَمْ‏ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَأَنَّ الْأَخْلَاقَ السَّيِّئَةَ سُمُومٌ قَاتِلَةٌ تَنْخَرِطُ بِصَاحِبِهَا فِي سِلْكِ الشَّيْطَانِ، وَأَمْرَاضٌ تُفَوِّتُ جَاهَ الْأَبَدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْرِفَ الْعِلَلَ، ثُمَّ تُشَمِّرَ فِي مُعَالَجَتِهَا.

وَاعْلَمْ‏ أَنَّ النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مُتَعَرِّضِينَ لِثَمَرَتِهِ، لَا لِحَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ ثَمَرَاتِهِ، بَلْ ذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا حَضَرَ فِي ذِهْنِهِ.

وَكَشْفُ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ‏: كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ، فَيُقَالُ‏: فُلَانٌ حَسَنٌ بِالْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، أَيْ: حَسَنُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ:‏ الصُّورَةُ الظَّاهِرَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْخُلُقِ:‏ الصُّورَةُ الْبَاطِنَةُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ وَنَفْسٍ.

‏فَالْجَسَدُ مُدْرَكٌ بِالْبَصَرِ، وَالنَّفْسُ مُدْرَكَةٌ بِالْبَصِيرَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَيْئَةٌ وَصُورَةٌ؛ إِمَّا جَمِيلَةٌ، وَإِمَّا قَبِيحَةٌ، وَالنَّفْسُ الْمُدْرَكَةُ بِالْبَصِيرَةِ أَعْظَمُ قَدْرًا مِنَ الْجَسَدِ الْمُدْرَكِ بِالْبَصَرِ؛ وَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَمْرَهُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 71-72‏]‏.

فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ مَنْسُوبٌ إِلَى الطِّينِ، وَالرُّوحَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

فَالْخُلُقُ: عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ لِلنَّفْسِ رَاسِخَةٍ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ جَمِيلَةً؛ سُمِّيَتْ خُلُقًا حَسَنًا، وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ سُمِّيَتْ خُلُقًا سَيِّئًا.

((بَيَانُ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ))

((رُبَّمَا جَاهَدَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَتَّى تَرَكَ الْفَوَاحِشَ وَالْمَعَاصِيَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ مَجْمُوعُ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- فَقَالَ‏:‏ {‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 2-4]‏.

وَقَالَ‏ تَعَالَى:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 112‏]‏.

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ: ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ‏}‏ ‏[‏ المؤمنون‏:‏ 1-10‏]‏.

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا‏}‏ ‏[‏ الفرقان‏:‏ 63‏]‏ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَالُهُ؛ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ، فَوُجُودُ جَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَامَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَقْدُ جَمِيعِهَا عَلَامَةُ سُوءِ الْخُلُقِ، وَوُجُودُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ فَلْيَشْتَغِلْ بِحِفْظِ مَا وَجَدَهُ، وَتَحْصِيلِ مَا فَقَدَهُ‏.

وَقَدْ وَصَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمُؤْمِنَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَشَارَ بِهَا إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ:‏ ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ‏))‏‏. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِيهِمَا أَيْ: فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَيْضًا- مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ‏)).

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا‏: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا)).‏

وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ:‏ احْتِمَالُ الْأَذَى؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَذَبَ رِدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عَاتِقِهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ‏: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ.

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ‏)).‏ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا آذَاهُ قَوْمُهُ قَالَ‏:‏ ‏((‏اللهم اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏)).

وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- إِذَا رَمَاهُ الصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ يَقُولُ‏: ((يَا إِخْوَتَاهُ! إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ‏ فَارْمُونِي بِالصِّغَارِ؛ لِئَلَّا تُدْمُوا سَاقِي فَتَمْنَعُونِي مِنَ الصَّلَاةِ‏)).‏

 وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى بَعْضِ الْبَرَارِي، فَاسْتَقْبَلَهُ جُنْدِيٌّ، فَقَالَ:‏ ((أَيْنَ الْعُمْرَانُ‏؟‏ فَأَشَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ؛ جَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ.

فَقَالَ‏: إِنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ رَأْسِي سَأَلْتُ اللهَ لَهُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنِّي أُوجَرُ بِضَرْبِهِ إِيَّايَ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَكُونَ نَصِيبِي مِنْهُ الْخَيْرَ، وَنَصِيبُهُ مِنِّي الشَّرَّ)).

 ((وَاجْتَازَ بَعْضُهُمْ فِي سِكَّةٍ -أَيْ: فِي طَرِيقٍ-، فَطُرِحَ عَلَيْهِ رَمَادٌ مِنَ السَّطْحِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَكَلَّمُونَ‏ -يَعْنِي: يَسْتَنْكِرُونَ-.

فَقَالَ‏: مَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ فَصُولِحَ عَلَى الرَّمَادِ؛ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَغْضَبَ‏!!)).

فَهَذِهِ نُفُوسٌ ذُلِّلَتْ بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، فَاعْتَدَلَتْ أَخْلَاقُهُمْ، وَنُقِّيَتْ عَنِ الْغِشِّ بَوَاطِنُهُمْ، فَأَثْمَرَتِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ نَفْسِهِ بَعْضَ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي وَجَدَهَا هَؤُلَاءِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوِمَ الْمُجَاهَدَةَ لِيَصِلَ؛ فَإِنَّهُ -بَعْدُ- مَا وَصَلَ))‏.‏

وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَقَالَ: «هُوَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ، قَلِيلَ الْأَذَى، كَثِيرَ الصَّلَاحِ، صَدُوقَ اللِّسَانِ، قَلِيلَ الْكَلَامِ، كَثِيرَ الْعَمَلِ، قَلِيلَ الزَّلَلِ، قَلِيلَ الْفُضُولِ، بَرًّا وَصُولًا وَقُورًا، صَبُورًا شَكُورًا، رَضِيًّا حَلِيمًا، رَفِيقًا عَفِيفًا شَفِيقًا، لَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا، وَلَا نَمَّامًا، وَلَا مُغْتَابًا، وَلَا عَجُولًا، وَلَا حَقُودًا وَلَا بَخِيلًا، وَلَا حَسُودًا، بَشَّاشًا هَشَّاشًا، يُحِبُّ فِي اللهِ، وَيُبْغِضُ فِي اللهِ، وَيَرْضَى فِي اللهِ، وَيَغْضَبُ فِي اللهِ، فَهَذَا هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ».

((سُبُلُ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ))

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِتَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ أَسْبَابٌ يَنْبَغِي أَنْ تُسْلَكَ وَيُؤْخَذَ بِهَا لِتَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْإِخْلَاصُ؛ فَلِلْإِخْلَاصِ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْأَخْلَاقِ، فَهُوَ يُمِدُّ قَلْبَ صَاحِبِهِ بِقُوَّةٍ تَجْعَلُهُ يَنْهَضُ لِلْمَكَارِمِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْلَاقَ عِبَادَةٌ يُكَمِّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إِيمَانَهُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَوُادَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

 وَلَنْ يُسْتَكْمَلَ إِيمَانُ الْمَرْءِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ، صَوَابًا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُحَصِّلُ بِهَا الْمَرْءُ حُسْنَ الْخُلُقِ: الْعِلْمُ؛ فَالْعِلْمُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ يُثْمِرُ التَّدَيُّنَ الصَّحِيحَ؛ فَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَقْرَأُهَا فَتُرَقِّقُ قَلْبَكَ لِلْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ؟! وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ تَتَخَلَّقُ بِهِ مَعَ النَّاسِ يَجْلِبُ لَكَ مَحَبَّةَ اللهِ، ثُمَّ مَحَبَّةَ النَّاسِ؟!

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْفَعَةُ الْعِلْمِ فِي اسْتِعْمَالِ الْفَضَائِلِ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ حُسْنَ الْفَضَائِلِ فَيَأْتِيهَا وَلَوْ فِي النُّدْرَةِ، وَيُعَلِّمُ قُبْحَ الرَّذَائِلِ فَيَجْتَنِبُهَا وَلَوْ فِي النُّدْرَةِ، وَيُسَمِّعُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فَيُرَغِّبُ فِي مِثْلِهِ، وَالثَّنَاءَ الرَّدِيءَ فَيُنَفِّرُ مِنْهُ)).

فَعَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ حِصَّةٌ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَلِلْجَهْلِ حِصَّةٌ فِي كُلِّ رَذِيلَةٍ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ؛ فَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ أَصْلُ الْأَخْلَاقِ وَمَصْدَرُهَا، فَإِذَا ثَبَتَتْ وَاسْتَقَرَّتْ؛ أَثْمَرَتِ الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ، فَالْإِصْلَاحُ مَبْدَأُهُ مِنَ الْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ الْفَسَادُ، ثُمَّ يَتَّسِعُ لِيَشْمَلَ إِرَادَةَ الْإِنْسَانِ وَأَفْعَالَهُ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((وَآدَابُ الظَّوَاهِرِ عُنْوَانُ آدَابِ الْبَوَاطِنِ، وَحَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ ثَمَرَاتُ الْخَوَاطِرِ، وَالْأَعْمَالُ نَتِيجَةُ الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابُ رَشْحُ الْمَعَارِفِ، وَسَرَائِرُ الْقُلُوبِ هِيَ مَغَارِسُ الْأَفْعَالِ وَمَنَابِعُهَا، وَأَنْوَارُ السَّرَائِرِ هِيَ الَّتِي تُشْرِقُ عَلَى الظَّوَاهِرِ فَتُزَيِّنُهَا وَتُجَلِّيهَا، وَتُبَدِّلُ الْمَحَاسِنَ بِمَكَارِمِهَا وَمَسَاوِيهَا، وَمَنْ لَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ لَمْ تَخْشَعْ جَوَارِحُهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَدْرُهُ مِشْكَاةَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لَمْ يُفِضْ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَالَ الْآدَابِ النَّبَوِيَّةِ)).

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصَّلُ بِهَا مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ: النَّظَرُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَكِتَابُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- جَمَعَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ خَيْرَ جَمْعٍ، فَمَنْ أَرَادَ الْأَخْلَاقَ فَلْيُحَاوِلْ جَاهِدًا أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ جَهِلَ الْفَضَائِلَ فَلْيَعْتَمِدْ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ الْفَضَائِلِ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ أَرَادَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحِكْمَةَ الدُّنْيَا، وَعَدْلَ السِّيرَةِ، وَالِاحْتَوَاءَ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا، وَاسْتِحْقَاقَ الْفَضَائِلِ بِأَسْرِهَا؛ فَلْيَقْتَدِ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلْيَسْتَعْمِلْ أَخْلَاقَهُ وَسِيَرَهُ مَا أَمْكَنَهُ، أَعَانَنَا اللهُ عَلَى الِاتِّسَاءِ بِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْسِينِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الدُّعَاءُ؛ فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِنَيْلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرَ الضَّرَاعَةِ إِلَى رَبِّهِ أَنْ يَرْزُقَهُ حُسْنَ الْخُلُقِ، فَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ فَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَبْعَثَانِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُمَا النِّظَامُ الدَّاخِلِيُّ الَّذِي يُقَوِّمُ أَخْلَاقَ الْمَرْءِ وَيُوَجِّهُهَا.

وَإِنِّي لَيُثْنِينِي عَنِ الْجَهْلِ وَالْخَنَا    =      وَعَنْ شَتْمِ ذِي الْقُرْبَى خَلَائِقُ أَرْبَعُ

حَيَاءٌ وَإِسْلَامٌ وَتَقْوَى وَطَاعَةٌ         =       لِرَبِّي وَرَبِّي مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الرُّفْقَةُ الصَّالِحَةُ، فَالرُّفْقَةُ الصَّالِحَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ عَلَى قَدْرِ مَنْ يُصَاحِبُ؛ فَلْيَنْظُرْ مَنْ يُصَاحِبُ، فَإِنْ صَاحَبَ الصَّالِحِينَ صَارَ مِنْهُمْ، وَإِنْ صَاحَبَ سِوَاهُمْ صَارَ مِثْلَهُمْ، وَقَدِيمًا قِيلَ: قُلْ لِي مَنْ تُصَاحِبُ أُخْبِرْكَ مَنْ أَنْتَ!

أَنْتَ فِي النَّاسِ تُقَاسُ    =   بِالَّذِي اخْتَرْتَ خَلِيلَا

فَاصْحَبِ الْأَخْيَارَ تَعْلُو   =   وَتَنَلْ ذِكْرًا جَمِيلَا

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْمُحَاسَبَةُ؛ فَزَكَاةُ النَّفْسِ وَطَهَارَتُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا؛ ((لِيَحْسُنَ تَعَاهُدُكَ لِنَفْسِكَ بِمَا تَكُونُ بِهِ لِلْخَيْرِ أَهْلًا؛ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ؛ أَتَاكَ الْخَيْرُ يَطْلُبُكَ كَمَا يَطْلُبُ الْمَاءُ السَّيْلَ إِلَى الْحُدُورِ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْمُجَاهَدَةُ؛ فَالْأَخْلَاقُ مِنْهَا مَا هُوَ طَبْعٌ يَتَفَضَّلُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ، فَيَجْبِلُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ حُرِمَ الْخُلُقَ عَلَى سَبِيلِ الطَّبْعِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَبُّعِ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ، وَحَمْلِهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:

وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا   =   وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ

((وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْبَطَالَةُ فَاسْتَثْقَلَ الرِّيَاضَةَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَا يُتَصَوَّرُ تَغْيِيرُهَا، كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَغْيِيرُ صُورَةِ الظَّاهِرِ.‏

وَالْجَوَابُ‏: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْأَخْلَاقُ لَا تَقْبَلُ التَّغْيِيرَ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوَاعِظِ وَالْوَصَايَا مَعْنًى، وَكَيْفَ يُنْكَرُ تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ وَنَحْنُ نَرَى الصَّيْدَ الْوَحْشِيَّ يُسْتَأْنَسُ، وَالْكَلْبَ يُعَلَّمُ تَرْكَ الْأَكْلِ، وَالْفَرَسَ تُعَلَّمُ حُسْنَ الْمَشْيِ وَجَوْدَةَ الِانْقِيَادِ؟!! إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الطِّبَاعِ سَرِيعَةُ الْقَبُولِ لِلصَّلَاحِ، وَبَعْضَهَا مُسْتَصْعَبَةٌ‏.

وَأَمَّا خَيَالُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَا فِي الْجِبِلَّةِ -أَيِ: الْخِلْقَةِ-  لَا يَتَغَيَّرُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ قَمْعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مِنَ الرِّيَاضَةِ رَدُّ الشَّهْوَةِ إِلَى الِاعْتِدَالِ الَّذِي هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَأَمَّا قَمْعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا، كَيْفَ وَالشَّهْوَةُ إِنَّمَا خُلِقَتْ لِفَائِدَةٍ ضَرُورِيَّةٍ فِي الْجِبِلَّةِ، وَلَوِ انْقَطَعَتْ شَهْوَةُ الطَّعَامِ لَهَلَكَ الْإِنْسَانُ، أَوْ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لَانْقَطَعَ النَّسْلُ، وَلَوِ انْعَدَمَ الْغَضَبُ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَدْفَعِ الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:‏ {‏أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وَلَا تَصْدُرُ الشِّدَّةُ إِلَّا عَنِ الْغَضَبِ، وَلَوْ بَطَلَ الْغَضَبُ لَامْتَنَعَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: {‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏، وَلَمْ يَقُلِ:‏ الْفَاقِدِينَ الْغَيْظَ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ فِي شَهْوَةِ الطَّعَامِ الِاعْتِدَالُ دُونَ الشَّرَهِ وَالتَّقَلُّلِ‏، قَالَ تَعَالَى:‏ {‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا‏}‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 31‏]‏.

إِلَّا أَنَّ مَنْ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ إِذَا رَأَى لِلْإِنْسَانِ مَيْلًا إِلَى الْغَضَبِ أَوِ الشَّهْوَةِ؛ حَسَنٌ أَنْ يُبَالِغَ فِي ذَمِّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِيُرَدَّ هَذَا الْغَالِي إِلَى التَّوَسُّطِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرِّيَاضَةِ الِاعْتِدَالُ: أَنَّ السَّخَاءَ خُلُقٌ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّقْتِيرِ وَالتَّبْذِيرِ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ‏: ‏‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏‏.

وَهَذَا الِاعْتِدَالُ‏ تَارَةً يَحْصُلُ بِكَمَالِ الْفِطْرَةِ مِنْحَةً مِنَ الْخَلْقِ، فَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُخْلَقُ صَادِقًا سَخِيًّا حَلِيمًا، وَتَارَةً يَحْصُلُ بِالِاكْتِسَابِ، وَذَلِكَ بِالْمُعَانَاةِ وَالرِّيَاضَاتِ، وَهِىَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْجَالِبَةِ لِلْخُلُقِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ خُلُقِ الْجُودِ فَلْيَتَكَلَّفْ فِعْلَ الْجَوَادِ مِنَ الْبَذْلِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ طَبْعًا لَهُ‏، ‏وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ التَّوَاضُعَ تَكَلَّفَ أَفْعَالَ الْمُتَوَاضِعِينَ.

وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ؛ فَإِنَّ لِلْعَادَةِ أَثَرًا فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا؛ تَعَاطَى فِعْلَ الْكِتَابَةِ، أَوْ فَقِيهًا؛ تَعَاطَى فِعْلَ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّكْرَارِ؛ حَتَّى تَنْعَطِفَ عَلَى قَلْبِهِ صِفَةُ الْفِقْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ تَأْثِيرَ ذَلِكَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ مَعَ الدَّوَامِ، كَمَا لَا يَطْلُبُ فِي النُّمُوِّ عُلُوَّ الْقَامَةِ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلِلدَّوَامِ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ.‏

وَكَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَهَانَ بِقَلِيلِ الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّ دَوَامَهَا يُؤَثِّرُ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَهَانُ بِقَلِيلٍ مِنَ الذُّنُوبِ‏، وَكَمَا أَنَّ تَعَاطِيَ أَسْبَابِ الْفَضَائِلِ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَيُغَيِّرُ طَبْعَهَا؛ فَكَذَلِكَ مُسَاكَنَةُ الْكَسَلِ -أَيْضًا- يَصِيرُ عَادَةً، فَيُحْرَمُ بِسَبَبِهِ كُلَّ خَيْرٍ.‏

وَقَدْ تُكْتَسَبُ الْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّ الطَّبْعَ لِصٌّ يَسْرِقُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.

يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((‏الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ‏)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ)).

((قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي الْأَخْلَاقِ هُوَ الصِّحَّةُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَيْلَ عَنْ الِاعْتِدَالِ سُقْمٌ وَمَرَضٌ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ مِثَالَ النَّفْسِ فِي عِلَاجِهَا كَالْبَدَنِ فِي عِلَاجِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ لَا يُخْلَقُ كَامِلًا، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْغِذَاءِ؛ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ تُخْلَقُ نَاقِصَةً قَابِلَةً لِلْكَمَالِ، وَإِنَّمَا تَكْمُلُ النَّفْسُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّغْذِيَةِ بِالْعِلْمِ‏.

‏َوَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا فَشَأْنُ الطَّبِيبِ الْعَمَلُ عَلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَشَأْنُهُ جَلْبُ الصِّحَّةِ إِلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ إِذَا كَانَتْ زَكِيَّةً طَاهِرَةً مُهَذَّبَةَ الْأَخْلَاقِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى بِحِفْظِهَا وَجَلْبِ مَزِيدِ الْقُوَّةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَدِيمَةَ الْكَمَالِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى بِجَلْبِ ذَلِكَ إِلَيْهَا.‏

‏َوَكَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِمَرَضِ الْبَدَنِ لَا تُعَالَجُ إِلَّا بِضِدِّهَا، إِنْ كَانَتْ مِنْ حَرَارَةٍ فَبِالْبُرُودَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبُرُودَةِ فَبِالْحَرَارَةِ؛ فَكَذَلِكَ الْأَخْلَاقُ الرَّذِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ مَرَضِ الْقَلْبِ.. عِلَاجُهَا بِضِدِّهَا، فَيُعَالَجُ مَرَضُ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ، وَمَرَضُ الْبُخْلِ بِالسَّخَاءِ، وَمَرَضُ الْكِبْرِ بِالتَّوَاضُعِ، وَمَرَضُ الشَّرَهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْمُشْتَهَى.

‏َوَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ احْتِمَالِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ، وَشِدَّةِ الصَّبْرِ عَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ لِصَلَاحِ الْأَبْدَانِ الْمَرِيضَةِ؛ فَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنَ احْتِمَالِ الْمُجَاهَدَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مُدَاوَاةِ مَرَضِ الْقَلْبِ؛ بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّ مَرَضَ الْبَدَنِ يُخْلَصُ مِنْهُ بِالْمَوْتِ، وَمَرَضَ الْقَلْبِ عَذَابٌ يَدُومُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَبَدًا.

وَيَنْبَغِي لِلَّذِي يُطِبُّ نُفُوسَ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ بِالرِّيَاضَةِ فِي فَنٍّ مَخْصُوصٍ حَتَّى يَعْرِفَ أَخْلَاقَهُمْ وَأَمْرَاضَهُمْ؛ إِذْ لَيْسَ عِلَاجُ كُلِّ مَرِيضٍ وَاحِدًا، فَإِذَا رَأَى جَاهِلًا بِالشَّرْعِ عَلَّمَهُ، وَإِذَا رَأَى مُتَكَبِّرًا حَمَلَهُ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّوَاضُعَ، أَوْ رَأَى شَدِيدَ الْغَضَبِ أَلْزَمَهُ الْحِلْمَ‏.

وَأَشَدُّ حَاجَةِ الرَّائِضِ لِنَفْسِهِ قُوَّةُ الْعَزْمِ -يَعْنِي: أَنَّ أَشَدَّ مَا يَحْتَاجُهُ الَّذِي يُرَوِّضُ نَفْسَهُ حَتَّى تَسْتَقِيمَ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ؛ أَشَدُّ مَا يَحْتَاجُهُ: قُوَّةُ الْعَزْمِ-، فَمَتَى كَانَ مُتَرَدِّدًا بَعْدَ فَلَاحِهِ، وَمَتَى أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ ضَعْفَ الْعَزْمِ؛ تَصَبَّرَ، فَإِذَا نَقَصَتْ عَزِيمَتُهَا عَاقَبَهَا لِئَلَّا تُعَاوِدَ، كَمَا قَالَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ‏: تَتَكَلَّمِينَ فِيمَا لَا يَعْنِيكِ؟‏!! لَأَعُاقِبَنَّكِ))، فَيُعَاقِبُهَا بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ بِمَا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الطَّاعَاتِ، فَيُلْزِمُهَا بَعْضَ ذَلِكَ؛ حَتَّى تَسْتَقِيمَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ -أَيْضًا- عَلَى الضِّدِّ مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ النَّقَائِصِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ؛ فَالْمُتَدَبِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْإِسْلَامُ يَجِدُ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ غَايَاتِهَا: الِارْتِقَاءَ بِالْأَخْلَاقِ وَتَهْذِيبَهَا؛ فَمَا مِنْ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا وَلَهَا أَثَرٌ أَخْلَاقِيٌّ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِهَا وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].

مِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ بِالصَّلَاةِ مِنْ إِنَابَةٍ إِلَى اللهِ، وَحُضُورٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَاسْتِنَارَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَصَلَاحٍ فِي الْأَحْوَالِ، فَلَا يَزَالُ طَعْمُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا هَمَّ بِمُنْكَرٍ أَوْ فَحْشَاءَ تَذَكَّرَ تِلْكَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَابْتَعَدَ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].

((قَالَ -تَعَالَى- لِرَسُولِهِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ، آمِرًا لَهُ بِمَا يُطَهِّرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُتَمِّمُ إِيمَانَهُمْ‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏}:‏ وَهِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ‏{‏تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا‏} أَيْ‏:‏ تُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ‏.‏

‏{‏وَتُزَكِّيهِمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ تُنَمِّيهِمْ، وَتَزِيدُ فِي أَخْلَاقِهِمُ الْحَسَنَةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَتَزِيدُ فِي ثَوَابِهِمُ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَتُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ)).‏

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.

وَفِيهِ تَنْشِيطٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُنَافِسُوا غَيْرَكُمْ فِي تَكْمِيلِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى صَالِحِ الْخِصَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي [خُصِّصْتُمْ] بِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ -تَعَالَى- حِكْمَتَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ، فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ، وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ وَهِيَ: ((شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ تُسْتَوْفَى فِيهَا، وَتُؤْخَذُ الْأُهْبَةُ لَهُ فِيهَا، وَيُحْرَمُ بِهِ -أَيْ بِالْحَجِّ فِيهَا-، فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا فِي الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ الْحَجَّ بِالْإِحْرَامِ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي وَالْمِرَاءُ وَالْمُخَاصَمَةُ، فَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ تَنَزَّهَتُمْ فِي حَجِّكُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ اجْتَمَعْتُمْ لِعَمَلِ الْخَيْرِ، فَتَنَافَسُوا فِيهِ، وَتَبَادَلُوا النَّفْعَ، وَاعْمَلُوا عَلَى مَا يُقَوِّي جَمْعَكُمْ، وَيُزِيلُ الضُّرَّ عَنْكُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ كَيْدَ الْكَائِدِينَ.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ هُوَ اسْتِصْغَارُ مَا دُونَ النِّهَايَةِ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ، وَتَعْلُو أَخْلَاقُ الْمَرْءِ وَتَسْمُو بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَمَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ وَخَشَعَتْ نَفْسُهُ اتَّصَفَ بِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَمَنْ دَنَتْ هِمَّتُهُ وَطَغَتْ نَفْسُهُ اتَّصَفَ بِكُلِّ خُلُقٍ رَذِيلٍ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْآخَرِينَ؛ فَاللَّبِيبُ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُخَالِطُهُ، سَوَاءٌ كَانَ نَاقِصًا أَمْ كَانَ كَامِلًا، وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَتَعَلَّمُونَ الْمَكَارِمَ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَضْدَادِهَا.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَعَلَّمُ الْمُرُؤَةَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَضْدَادِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ سَيِّءُ الْخُلُقِ فَظٌّ غَلِيظٌ لَا يُنَاسِبُهُ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ -عَنْ إِمْسَاكِهِ إِيَّاهُ-.

فَقَالَ: إِنِّي أَدْرُسُ عَلَيْهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَهَذَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي ضِدِّ أَخْلَاقِهِ، وَيَكُونُ بِتَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ: النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ سُوءِ الْخُلُقِ؛ فَسَيِّءُ الْخُلُقِ مَذْكُورٌ بِالذِّكْرِ الْقَبِيحِ، يَمْقُتُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيُبْغِضُهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَيُبْغِضُهُ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ مَشَارِبِهِمْ.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ أَسْوَؤُكُمْ أَخْلَاقًا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

((الْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ هِيَ السُّمُومُ الْقَاتِلَةُ، وَالْمُهْلِكَاتُ الدَّامِغَةُ، وَالْمَخَازِي الْفَاضِحَةُ، وَالرَّذَائِلُ الْوَاضِحَةُ، وَالْخَبَائِثُ الْمُبْعِدَةُ عَنْ جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمُنْخَرِطَةُ بِصَاحِبِهَا فِي سِلْكِ الشَّيَاطِينِ، وَهِيَ الْأَبْوَابُ الْمَفْتُوحَةُ إِلَى نَارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)).

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْحِكَمِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَحْصِيلِ حُسْنِ الْخُلُقِ:

لَا تَبْذُلْ نَفْسَكَ إِلَّا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ذَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فِي دُعَاءٍ إِلَى حَقٍّ، وَفِي حِمَايَةِ الْحَرِيمِ، وَفِي دَفْعِ هَوَانٍ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْكَ خَالِقُكَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَفِي نَصْرِ مَظْلُومٍ.

وَبَاذِلٌ نَفْسَهُ فِي عَرَضِ دُنْيَا كَبَائِعِ الْيَاقُوتِ بِالْحَصَى!

وَلَا مُرُوءَةَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ!

وَالْعَاقِلُ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ ثَمَنًا إِلَّا الْجَنَّةَ!

وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ الْعَقْلِ وَالرَّاحَةِ: وَهُوَ اطِّرَاحُ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِ النَّاسِ، وَاسْتِعْمَالُ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِ الْخَالِقِ -عَزَّ وَجَلَّ-، بَلْ هَذَا بَابُ الْعَقْلِ كُلِّهِ وَالرَّاحَةِ كُلِّهَا،  وَمَنْ قدر أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنْ طَعْنِ النَّاسِ وَعَيْبِهِمْ فَهُوَ مَجْنُونٌ.

*مَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ وَرَاضَ نَفْسَهُ عَلَى السُّكُونِ إِلَى الْحَقَائِقِ وَإِنْ آلَمَتْهَا فِي أَوَّلِ صَدْمَةٍ كَانَ اغْتِبَاطُهُ بِذَمِّ النَّاسِ إِيَّاهُ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ مِنَ اغْتِبَاطِهِ بِمَدْحِهِمْ إِيَّاهُ، بَلْ مَدْحُهُمْ إِيَّاهُ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ، وَبَلَغَهُ مَدْحُهُمْ لَهُ؛ أَسْرَى ذَلِكَ فِيهِ الْعُجْبَ، فَأَفْسَدَ بِذَلِكَ فَضَائِلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِبَاطِلٍ، فَبَلَغَهُ فَسُرَّ؛ فَقَدْ صَارَ مَسْرُورًا بِالْكَذِبِ، وَهَذَا نَقْصٌ شَدِيدٌ.

وَأَمَّا ذَمُّ النَّاسِ إِيَّاهُ؛ فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ فَبَلَغَهُ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى تَجَنُّبِهِ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ، وَهَذَا حَظٌّ عَظِيمٌ لَا يَزْهَدُ فِيهِ إِلَّا نَاقِصٌ، وَإِنْ كَانَ بِبَاطِلٍ فَبَلَغَهُ فَصَبَرَ؛ اكْتَسَبَ فَضْلًا زَائِدًا بِالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَانِمًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ حَسَنَاتِ مَنْ ذَمَّهُ بِالْبَاطِلِ، فَيَحْظَى بِهَا فِي دَارِ الْجَزَاءِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى النَّجَاةِ بِأَعْمَالٍ لَمْ يَتْعَبْ فِيهَا وَلَا تَكَلَّفَهَا، وَهَذَا حَظٌّ عَظِيمٌ، لَا يَزْهَدُ فِيهِ إِلَّا مَجْنُونٌ.

وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَدْحُ النَّاسِ إِيَّاهُ؛ فَكَلَامُهُمْ وَسُكُوتُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ذَمُّهُمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ غَانِمٌ لِلْأَجْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بَلَغَهُ ذَمَّهُمْ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ.

وَلَوْلَا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ: ((ذَلِكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)) -وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلَ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ  -وَفِي رِوَايَةٍ: وَيُحِبُّهُ- النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: ((تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ-؛ لَوَجَبَ أَنْ يَرْغَبَ الْعَاقِلُ فِي الذَّمِّ بِالْبَاطِلِ أَكْثَرَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْمَدْحِ بِالْحَقِّ، وَلَكِنْ إِذْ جَاءَ هَذَا الْقَوْلُ فَإِنَّمَا تَكُونُ الْبُشْرَى بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّمَا تَجِبُ الْبُشْرَى بِمَا فِي الْمَمْدُوحِ لَا بِنَفْسِ الْمَدْحِ.

*لَيْسَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ وَلَا بَيْنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي إِلَّا نِفَارُ النَّفْسِ وَأُنْسُهَا فَقَطْ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَنِسَتْ نَفْسُهُ بِالْفَضَائِلِ وَالطَّاعَاتِ، وَنَفَرَتْ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي، وَالشَّقِيُّ مَنْ أَنِسَتْ نَفْسُهُ بِالرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي وَنَفَرَتْ عَنِ الْفَضَائِلِ وَالطَّاعَاتِ، وَلَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا صُنْعُ اللهِ -تَعَالَى- وَحِفْظُهُ.

*طَالِبُ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ مُتَشَبِّهٌ بِالْمَلَائِكَةِ، وَطَالِبُ الشَّرِّ مُتَشَبِّهٌ بِالشَّيَاطِينِ، وَطَالِبُ الصِّيتِ وَالْغَلَبَةِ مُتَشَبِّهٌ بِالسِّبَاعِ، وَطَالِبُ اللَّذَّاتِ مُتَشَبِّهٌ بِالْبَهَائِمِ، وَطَالِبُ الْمَالِ لِعَيْنِ الْمَالِ لَا لِيُنْفِقَهُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ الْمَحْمُودَةِ أَسْقَطُ وَأَرْذَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ شَبَهٌ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْغُدْرَانَ -جَمْعُ الْغَدِيرَةِ: وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ النَّبَاتِ- الَّتِي فِي الْكُهُوفِ فِي الْمَوَاضِعِ الْوَعِرَةِ، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مَا قَلَّ مِنَ الطَّائِرِ، ثُمَّ تُجَفِّفُ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، كَذَلِكَ يُجْتَاحُ الْمَالُ الَّذِي لَا يُنْفَقُ فِي مَعْرُوفٍ.

*الْعَاقِلُ لَا يَغْتَبِطُ بِصِفَةٍ يَفُوقُهُ فِيهَا سَبُعٌ أَوْ بَهِيمَةٌ أَوْ جَمَادٌ، وَإِنَّمَا يَغْتَبِطُ بِتَقَدُّمِهِ فِي الْفَضِيلَةِ الَّتِي أَبَانَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا عَنِ السِّبَاعِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، وَهِيَ التَّمْيِيزُ الَّذِي يُشَارِكُ فِيهِ الْمَلَائِكَةَ.

فَمَنْ سُرَّ بِشَجَاعَتِهِ الَّتِي يَضَعُهَا فِي غَيْرِ حَقِّهَا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ النَّمِرَ أَجْرَأُ مِنْهُ، وَأَنَّ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ وَالْفِيلَ أَشْجَعُ مِنْهُ!

وَمَنْ سُرَّ بِقُوَّةِ جِسْمِهِ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْبَغْلَ وَالثَّوْرَ وَالْفِيلَ أَقْوَى مِنْهُ جِسْمًا!

وَمَنْ سُرَّ بِحَمْلِهِ الْأَثْقَالَ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْحِمَارَ أَحْمَلُ مِنْهُ!

وَمَنْ سُرَّ بِسُرْعَةِ عَدْوِهِ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْكَلْبَ وَالْأَرْنَبَ أَسْرَعُ عَدْوًا مِنْهُ!

 وَمَنْ سُرَّ بِحُسْنِ صَوْتِهِ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الطَّيْرِ أَحْسَنُ صَوْتًا مِنْهُ، وَأَنَّ أَصْوَاتَ الْمَزَامِيرِ أَلَذُّ وَأَطْرَبُ مِنْ صَوْتِهِ!

فَأَيُّ فَخْرٍ وَأَيُّ سُرُورٍ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ هَذِهِ الْبَهَائِمُ مُتَقَدِّمَةً لَهُ؟!!

وَلَكِنْ مَنْ قَوِيَ تَمْيِيزُهُ، وَاتَّسَعَ عِلْمُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ؛ فَلْيَغْتَبِطْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ وَخِيَارُ النَّاسِ.

*إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ -تَعَالَى- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ- يَتَعَجَّلُونَ الشَّقَاءَ وَالْهَمَّ وَالتَّعَبَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْتَقِبُونَ عَظِيمَ الْإِثْمِ الْمُوجِبِ لِلنَّارِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا لَا يَحْظَوْنَ مَعَهُ بِنَفْعٍ أَصْلًا؛ مِنْ نِيَّاتٍ خَبِيثَةٍ يَضِبُّونَ عَلَيْهَا -أَيْ: يُضْمِرُونَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ- مِنْ تَمَنِّي الْغَلَاءِ الْمُهْلِكِ لِلنَّاسِ وَلِلصِّغَارِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَتَمَنِّي أَشَدَّ الْبَلَاءِ لِمَنْ يَكْرَهُونَهُ، وَقَدْ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ النِّيَّاتِ الْفَاسِدَةَ لَا تُعَجِّلُ لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا يَتَمَنَّوْنَهُ أَوْ يُوجِبُ كَوْنَهُ، وَأَنَّهُمْ لَوْ صَفَّوْا نِيَّاتِهِمْ وَحَسَّنُوهَا؛ لَتَعَجَّلُوا الرَّاحَةَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَفَرَّغُوا بِذَلِكَ لِمَصَالِحِ أُمُورِهِمْ، وَلَاقْتَنَوْا بِذَلِكَ عَظِيمَ الْأَجْرِ فِي الْمَعَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُونَهُ أَوْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ؛ فَأَيُّ غَبْنٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا، وَأَيُّ سَعْدٍ أَعْظَمُ مِنَ الَّتِي دَعَوْنَا إِلَيْهَا؟!!

*مَنْ أَسَاءَ إِلَى أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ فَهُوَ أَسْقَطُهُمْ، وَمَنْ كَافَأَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُكَافِئْهُمْ بِإِسَاءَتِهِمْ فَهُوَ سَيِّدُهُمْ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَمَنْ أَرَادَ خَيْرَ الْآخِرَةِ، وَحِكْمَةَ الدُّنْيَا، وَعَدْلَ السِّيرَةِ، وَالِاحْتِوَاءَ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا، وَاسْتِحْقَاقَ الْفَضَائِلِ بِأَسْرِهَا؛ فَلْيَقْتَدِ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلْيَسْتَعْمِلْ أَخْلَاقَهُ وَسِيَرَهُ مَا أَمْكَنَهُ -أَعَانَنَا اللهُ عَلَى الِاتِّسَاءِ بِهِ بِمَنِّهِ- آمِين.

((تَرْبِيَةُ الصِّبْيَانِ وَتَنْشِئَتُهُمْ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَا هُنَا -أَيْضًا- مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا شَيْءٌ يَحْتَاجُهُ الْآبَاءُ وَتَحْتَاجُهُ الْأُمَّهَاتُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِيَاضَةِ الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ النُّشُوءِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلُوا حُسْنَ الْخُلُقِ، وَيُجَانِبُوا سُوءَ الْخُلُقِ.

((الصَّبِيُّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ جَوْهَرَةٌ سَاذَجَةٌ، وَهِيَ قَابِلَةٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ نَشَأَ عَلَيْهَ، وَشَارَكَهُ أَبَوَاهُ وَمُؤَدِّبُهُ فِي ثَوَابِهِ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي عُنُقِ وَلِيِّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَيُهَذِّبَهُ، وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ، وَلَا يُحَبِّبَ إِلَيْهِ أَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيَضِيعَ عُمُرُهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبُرَ‏؛ لِأَنَّهُ اعْتَادَهَا فِي الصِّغَرِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَهُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ، فَلَا يَسْتَعْمِلُ فِي رَضَاعَتِهِ وَحَضَانَتِهِ إِلَّا امْرَأَةً صَالِحَةً مُتَدَيِّنَةً تَأْكُلُ الْحَلَالَ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنَ الْحَرَامِ لَا بَرَكَةَ فِيهِ.

فَإِذَا بَدَتْ فِيهِ -أَيْ: فِي الصَّبِيِّ- مَخَايِلُ التَّمْيِيزِ وَأَوَّلُهَا الْحَيَاءُ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ النَّجَابَةِ، وَهِىَ مُبَشِّرَةٌ بِكَمَالِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْبُلُوغِ؛ فَهَذَا يُسْتَعَانُ عَلَى تَأْدِيبِهِ بِحَيَائِهِ‏.

وَأَوَّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ شَرَهُ الطَّعَامِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ آدَابَ الْأَكْلِ، وَيُعَوِّدُهُ أَكْلَ الْخَبْزِ وَحْدَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لِئَلَّا يَأْلَفَ الْإِدَامَ فَيَرَاهُ كَالْحَتْمِ، وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ؛ بِأَنْ يُشَبَّهُ الْكَثِيرُ الْأَكْلِ بِالْبَهَائِمِ، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ دُونَ الْمُلَوَّثَةِ، وَيُقَرِّرُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ وَالْمُخَنَّثِينَ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَطَةِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ عُوِّدُوا التَّنَعُّمَ، ثُمَّ يَشْغَلُهُ فِي الْمَكْتَبِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَحَادِيثِ الْأَخْيَارِ؛ لِيَغْرِسَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الصَّالِحِينَ، وَلَا يُعَلِّمُهُ حِفْظَ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِشْقِ‏.‏

وَمَتَى ظَهَرَ مِنَ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ، وَيُجَازَى بِمَا يَفْرَحُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أن يُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ تُغُوفِلَ عَنْهُ وَلَا يُكَاشَفُ، فَإِنْ عَادَ عُوتِبَ سِرًّا وَخُوِّفَ مِنَ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَلَا يُكْثِرُ عَلَيْهِ الْعِتَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْمَلَامَةِ، وَلْيَكُنْ حَافِظًا هَيْبَةَ الْكَلَامِ مَعَهُ‏.‏

وَيَنْبَغِي لِلْأُمِّ أَنْ تُخَوِّفَهُ بِالْأَبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ النَّوْمَ نَهَارًا؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْكَسَلَ، وَلَا يُمْنَعَ النَّوْمَ لَيْلًا، وَلَكِنَّهُ يُمْنَعُ الْفُرُشَ الْوَطِيئَةَ لِتَتَصَلَّبَ أَعْضَاؤُهُ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ الْخُشُونَةَ فِي الْمَفْرَشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ‏، وَأَنْ يُعَوَّدُ الْمَشْيَ وَالْحَرَكَةَ وَالرِّيَاضَةَ؛ لِئَلَّا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ‏، وَيَنْبَغِي أَنْ‏ يُمْنَعَ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى أَقْرَانِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ أَبَوَاهُ، أَوْ بِمَطْعَمِهِ أَوْ مَلْبَسِهِ‏، وَأَنْ يُعَوَّدَ التَّوَاضُعَ وَالْإِكْرَامَ لِمَنْ يُعَاشِرُهُ‏.

‏َويُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ صَبِيٍّ مِثْلِهِ، وَيُعَلَّمَ أَنَّ الْأَخْذَ دَنَاءَةٌ، وَأَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الْإِعْطَاءِ‏، ‏وَيُقَبَّحُ عِنْدَهُ حُبُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ‏، وَيُعَوَّدَ أَلَّا يَبْصُقَ فِي مَجْلِسِهِ وَلَا يَتَمَخَّطُ، وَلَا يَتَثَاءَبُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ، وَلَا يَضَعُ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ، وَيُمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَاِم‏، وَيُعَوَّدُ أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا جَوَابًا، وَأَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ إِذَا تَكَلَّمَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَنْ يَقُومَ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ‏.

وَيُمْنَعُ مِنْ فُحْشِ الْكَلَامِ، وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَأْتِي مِنْهُ فُحْشُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ أَصْلَ حِفْظِ الصِّبْيَانِ حِفْظُهُمْ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ‏.

وَيَحْسُنُ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَكْتَبِ فِي لَعِبٍ جَمِيلٍ؛ لِيَسْتَرِيحَ بِهِ مِنْ تَعَبِ التَّأْدِيبِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ رَوِّحِ الْقُلُوبَ تَعِ الذِّكْرَ‏.‏

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِهِ وَتَعْظِيمَهُمْ‏، وَإِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، وَلَمْ يُسَامَحْ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ لِيَتَعَوَّدَ، وَيُخَوَّفُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ الْأُمُورُ.‏

وَاعْلَمْ‏ أَنَّ الْأَطْعِمَةَ أَدْوِيَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَقْوِيَةُ الْبَدَنِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَا بَقَاءَ لَهَا، وَأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نَعِيمَهَا، وَهُوَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَأَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ تَزَوَّدَ لِآخِرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ نُشُوؤُهُ صَالِحًا ثَبَتَ هَذَا فِي قَلْبِهِ كَمَا يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ‏)).

((الْأَخْلَاقُ مِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ))

إِنَّ الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ مِنْ أَهَمِّ رَكَائِزِ قِيَامِ الدُّوَلِ وَالْحَضَارَاتِ، وَاسْتِقْرَارُ الدُّوَلِ وَدَوَامُهَا يَعُودُ إِلَى مَدَى تَمَسُّكِهَا بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ سَجَّلَ التَّارِيخُ بِحُرُوفٍ مِنْ نُورٍ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ الَّذِي اشْتُهِرَ بِالْعَدْلِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ فَلَمَّا حَلَّ الْأَذَى بِسَاحَةِ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ بِهَا مَلِكًا عَادِلًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ.

فَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَنْ هَاجَرَ، ثُمَّ سَعَتْ قُرَيْشٌ سِعَايَتَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَرُدَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَتِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ؛ فَثَبَّتَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّجَاشِيَّ -طَيَّبَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثَرَاهُ وَأَحْسَنَ فِي الْجَنَّةِ مَثْوَاهُ-، إِذْ أَسْلَمَ بَعْدُ قَلْبَهُ وَزِمَامَهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَبِعَ النَّبِيَّ الْأَمِينَ ، فَثَبَّتَهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَمْ تَبْلُغْ قُرَيْشٌ مِنْ ذَلِكَ مَبْلَغًا.

وَقَدْ أَسَّسَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ حَضَارَةٍ فِي التَّارِيخِ لِخَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُثُلِ السَّامِيَةِ؛ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حَدِيثِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ فِي مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ.

فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ صِدْقَهُ وَنَسَبَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ؛ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ.

وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ.

وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قال: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.

إِنَّ الْأُمَمَ وَالْحَضَارَاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبْنَى بِنَاءً سَدِيدًا إِلَّا إِذَا اعْتَمَدَتْ فِي أُسُسِ بِنَائِهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَلَا تَتَقَدَّمُ أُمَّةٌ بِدُونِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ بُنْيَانُهَا بِدُونِ الِانْضِبَاطِ السُّلُوكِيِّ، وَلَا تَقْوَى بِدُونِ التَّآخِي وَالتَّآلُفِ وَالتَّكَاتُفِ؛ فَالْأُمَّةُ الْوَاحِدَةُ تُشْبِهُ الْجَسَدَ الْوَاحِدَ الَّذِي يَتَعَاوَنُ أَعْضَاؤُهُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَسَلَامَتِهِ، وَلَا يَكْتَمِلُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِالتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ وَالتَّعَاوُنِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

فَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.

وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ وَتَمَاسَكَهُ وَتَرَاصَّهُ، بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلَ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.

أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ؛ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاء؟! فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!

وَيَقُولُ ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ، إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدِ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَيَقُولُ ﷺ: «وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».

لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

إِنَّ التَّحَلِّيَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ صِمَامُ أَمَانِ الْمُجْتَمَعَاتِ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالْفَوْضَى وَالضَّيَاعِ، وَبِزَوَالِهَا تَسْقُطُ الْأُمَمُ، فَكَمْ مِنْ حَضَارَاتٍ انْهَارَتْ بِتَرَدِّي أَخْلَاقِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ نَمَاذِجَ لِأُمَمٍ هَلَكَتْ بِسَبَبِ بُعْدِهَا عَنِ الْأَخْلَاقِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46].

وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ اللهُ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا نُوحًا (سلم)، وَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ اللهِ؛ فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْمَاءِ الْمُنْهَمِرِ، فَأَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى [عَنْ آخِرِهِمْ]، وَلَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، وَهَذِهِ عَادَةُ اللهِ وَسُنَّتُهُ فِيمَنْ عَصَاهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15-16].

((هَذَا تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ؛ عَادٍ، وَثَمُودَ، فَأَمَّا عَادٌ فَكَانُوا -مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَجَحْدِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكُفْرِهِمْ بِرُسُلِهِ- مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرِينَ لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، ظَالِمِينَ لَهُمْ، قَدْ أَعْجَبَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} فَلَوْلَا خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ لَمْ يُوجِدُوا، فَلَوْ نَظَرُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ نَظَرًا صَحِيحًا، لَمْ يَغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ عُقُوبَةً، تُنَاسِبُ قُوَّتَهُمُ، الَّتِي اغْتَرُّوا بِهَا.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}؛ أَيْ: رِيحًا عَظِيمَةً مِنْ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا، لَهَا صَوْتٌ مُزْعِجٌ كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، نَحِسَاتٍ فَدَمَّرَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَالَ هُنَا: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الَّذِي اخْتَزُوا بِهِ وَافْتَضَحُوا بَيْنَ الْخَلِيقَةِ، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}؛ أَيْ: لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَنْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ)).

وَيَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 28-35].

((أَرْسَلَ اللَّهُ لُوطًا إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فِي الذُّكُورِ وَتَقْطِيعِ السَّبِيلِ، وَفُشُوِّ الْمُنْكَرَاتِ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَنَصَحَهُمْ لُوطٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ قَبَائِحَهَا فِي نَفْسِهَا، وَمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ، فَلَمْ يَرْعَوُوا وَلَمْ يَذَّكَّرُوا، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

فَأَيِسَ مِنْهُمْ نَبِيُّهُمْ، وَعَلِمَ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَابَ، وَجَزِعَ مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَ{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَأَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ لِإِهْلَاكِهِمْ، فَمَرُّوا بِإِبْرَاهِيمَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبَشَّرُوهُ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ يُرِيدُونَ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ، فَجَعَلَ يُرَاجِعُهُمْ وَيَقُولُ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا}، فَقَالُوا لَهُ: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}.

ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوْا لُوطًا، فَسَاءَهُ مَجِيئُهُمْ، وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ، وَظَنَّ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الضُّيُوفِ، فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا لَهُ: {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ}، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا}؛ أَيْ: عَذَابًا {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، فَأَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مُتَتَابِعَةً حَتَّى أَبَادَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، فَصَارُوا سَمَرًا مِنَ الْأَسْمَارِ، وَعِبْرَةً مِنَ الْعِبَر..

{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ أَيْ: تَرَكْنَا مِنْ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ آثَارًا بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الْعِبَرَ بِقُلُوبِهِمْ، فَيَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ})).

((ضَرُورَةُ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَتَحْصِيلِهِ))

عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ.. مِنْ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ الْعِظَامِ وَمِنْ أُسُسِهَا الْكِبَارِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

وَبَيَّنَ أَنَّ حَسَنَ الْخُلُقِ يَنَالُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا يَنَالُ الصَّائِمُ الْقَائِمُ، وَأَنَّ أَعْظَمَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ؛ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ ذِكْرُهُ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَكَيْفِيَّةِ تَحْصِيلِهِ وَحِيَازَتِهِ.

وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُمَرِّنَ أَنْفُسَنَا عَلَى تَحْسِينِ أَخْلَاقِنَا وَالْخُرُوجِ مِنْ مَسَاوِيهَا، مَعَ طَلَبِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّنَا بِإِلْحَاحِ دُعَاءٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَمَذَلَّةٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ اللهم آتِنَا مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَاهْدِنَا إِلَيْهَا لَا يَهْدِي لِأَحَاسِنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَقِنَا سَيِّءَ الْأَخْلَاقِ لَا يَقِي مِنْ سَيِّئِهَا إِلَّا أَنْتَ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَهُوَ الَّذِي حَسَّنَ اللهُ -تَعَالَى- خُلُقَهُ وَتَمَّمَهُ وَكَمَّلَهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ عَلَى الْغَايَةِ وَمِنْهُ فِي نِهَايَةٍ- كَمَا كَانَ يَسْأَلُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُعَلِّمَنَا كَيْفَ نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.

وَيَنْبَغِي عَلَى أَتْبَاعِ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ عَلَى أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يُعْرَفُوا بَيْنَ النَّاسِ بِحُسْنِ الْخُلُقِ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الْخَلْقِ مِنَ الدَّاعِي النَّاسَ إِلَى الدِّينِ بِمَقَالِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْفَعَالِ أَبْلَغُ أَثَرًا مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْمَقَالِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ تَطْبِيقَ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الْفِعْلُ عَنِ الْقَوْلِ كَانَ صَدًّا عَنْ سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَيَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُتَّبِعٍ لِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، سَالِكًا مَنْهَجَ السَّلَفِ، سَائِرًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، مُتَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، مُتَأَثِّرًا أَثَرَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.. يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حِيَازَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ.

أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ، وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا سَيِّئَهَا وَمَرْذولَهَا بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يُدِيمَنَا عَلَيْهَا وَأَنْ يُدِيمَهَا عَلَيْنَا، حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهَا، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

المصدر:مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان