فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ

فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ

((فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((بِنَاءُ الدَّوْلَةِ وَالِاسْتِخْلَافُ فِي الْأَرْضِ

 فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

فَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَنَّ الصَّالِحِينَ يُمَكِّنُ اللهُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَيُولِّيهِمْ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَمَّا حَتَمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِيهَا، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.

وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ.

فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

حَتَّى وَقَفَ وَاقِفُهُمْ مِنْ مُجَاهِدِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ يُخَاطِبُ أَمْوَاجَهُ، وَيُنَاجِي مَا هُنَالِكَ مِنْ مِيَاهِهِ، وَيَقُولُ: ((أَمَا وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَوْمًا لَا يَعْبُدُونَ اللهَ؛ لَخُضْتُكَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِي هَذَا، وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)).

«هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ».

إِذَنْ؛ مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!!

صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

مَنْ أَقَامَ الشَّرْعَ عَلَى نَفْسِهِ كَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، رُبُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ، احْتَرَقَتْ بِدَايَاتُهُمْ، فَأَنَارَتْ نِهَايَاتُهُمْ، وَكَانُوا بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مُسْتَقِيمِينَ، مُوَحِّدِينَ، مُتَسَنِّنِينَ، وَكَذَا كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

وَالْوَعْدُ قَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

«لَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَيُدَالُ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ».

وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ -التَّمْكِينِ وَالسَّلْطَنَةِ التَّامَّةِ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَفَسَقُوا؛ فَلَمْ يُصْلِحُوا الصَّالِحَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ الْإِيمَانَ فِي حَالِ عِزِّهِ وَقَهْرِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ، يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ وَخُبْثِ طَوِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُ لِتَرْكِ الدِّينِ إِلَّا ذَلِكَ، إِلَّا خُبْثُ النِّيَّةِ وَسُوءُ الطَّوِيَّةِ!!

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

وَأُقْسِمُ مُؤَكِّدًا أَنَّنَا كَتَبْنَا فِي كِتَابِ الزَّبُورِ الَّذِي آتَيْنَاهُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَعْدِ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبْنَا فِيهِ هَذَا النَّبَأَ الْخَبَرِيَّ الْمُسْتَقْبَلِيَّ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي كُنَّا قَدْ وَعَدْنَا بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمَّا فَسَدُوا سَلَبْنَاهَا مِنْهُمْ، وَأَوْرَثْنَاهَا عِبَادَنَا الصَّالِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ الْخَاتِمَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِ شَرِيعَةِ اللهِ وَيَعْبُدُونَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ شَيْئًا.

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ مَكَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّينَ مِمَّنْ أَعْلَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَهُمْ وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 54-57].

هَذَا التَّمْكِينُ الَّذِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِيُوسُفَ كَانَ لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّة لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ حَيْثُ قَالَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40].

دَعْوَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.. يُمَكِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ.  

وَأَمَّا النَّمَوذُجُ الْعَمَلِيُّ لِتَأْسِيسِ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَتَأْسِيسُ أَوَّلِ دَوْلَةٍ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ شَرَعَ فِي تَنْظِيمِ أُمُورِ الْمُجْتَمَعِ وَبِنَاءِ مُؤَسَّسَاتِهِ الْإِدَارِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَضْمَنُ لَهُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا.

وَشَرَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنْذُ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي تَثْبِيتِ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ عَلَى قَوَاعِدَ مَتِينَةٍ وَأُسُسٍ رَاسِخَةٍ؛ فَكَانَتْ أُولَى خُطُوَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ الِاهْتِمَامَ بِبِنَاءِ دَعَائِمِ الْأُمَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْحُبِّ فِي اللهِ، وَإِصْدَارِ الْوَثِيقَةِ الَّتِي يُنَظِّمُ بِهَا الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَمُشْرِكِي الْمَدِينَةِ، وَإِعْدَادِ جَيْشٍ لِحِمَايَةِ الدَّوْلَةِ وَالسَّعْيِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا، وَالْعَمَلِ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْجَدِيدِ، وَتَرْبِيَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ كَافَّةً.

فَقَدِ اسْتَمَرَّ الْبِنَاءُ التَّرْبَوِيُّ وَالتَّعْلِيمِيُّ، وَاسْتَمَرَّ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ يَتَحَدَّثُ فِي الْمَدِينَةِ عَنْ عَظَمَةِ اللهِ، وَحَقِيقَةِ الْكَوْنِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْجَنَّةِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ النَّارِ، وَيُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ لِتَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ، وَدَعْمِ مُقَوِّمَاتِ الدَّوْلَةِ الَّتِي سَتَحْمِلُ نَشْرَ دَعْوَةِ اللهِ -تَعَالَى- بَيْنَ النَّاسِ قَاطِبَةً، وَتُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَكَانَتْ مَسِيرَةُ الْأُمَّةِ الْعِلْمِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ تَتَطَوَّرُ مَعَ تَطَوُّرِ مَرَاحِلِ الدَّعْوَةِ وَبِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ وَتَأْسِيسِ الدَّوْلَةِ، وَعَالَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْأَزْمَةَ الِاقْتِصَادِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خِلَالِ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، وَاسْتَمَرَّ الْبِنَاءُ التَّرْبَوِيُّ؛ فَفُرِضَ الصِّيَامُ، وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ، وَأَخَذَ الْمُجْتَمَعُ يَزْدَهِرُ وَالدَّوْلَةُ تَتَقَوَّى عَلَى أُسُسٍ ثَابِتَةٍ وَقَوِيَّةٍ.

 ((أَعْظَمُ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ

تَعَلُّمُ التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ))

إِنَّ أَعْظَمَ دَعَائِمِ وَأُسُسِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ: تَعَلُّمُ التَّوْحِيدِ وَتَعْلِيمُهُ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ؛ فَالتَّوْحِيدُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذَا مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ وَكَمُلَ تَوْحِيدُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؛ فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ.

قَالَ اللهُ تَعَالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ تَدْعُوهُمْ لِلِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَتِكَ: هَذِهِ طَرِيقِي الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا -وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ وَدِينُ الْإِسْلَامِ- عَلَى عِلْمٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَحُجَجٍ بُرْهَانِيَّةٍ قَاطِعَةٍ، أَنَا وَمَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَنَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الْعِلْمِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الَّذِي هُوَ فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ بِمَثَابَةِ الْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ.

فَلَسْنَا مُجْبِرِينَ وَلَا مُكْرِهِينَ أَحَدًا عَلَى الْإِيمَانِ، إِنَّمَا نَحْنُ دُعَاةٌ فَقَطْ، وَلَا نَنْصُرُ الْحَقَّ الرَّبَّانِيَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالْأَكَاذِيبِ.

وَأُنَزِّهُ اللهَ -تَعَالَى- عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.

وَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَا أَنَا وَلَا كُلُّ مَنْ آمَنَ وَاتَّبَعَنِي اتِّبَاعًا صَحِيحًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ غَيْرَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إِلَهِيَّتِهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لِأَهَمِّيَّةِ التَّوْحِيدِ مَكَثَ الرَّسُولُ فِي مَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا يَدْعُو إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُفْرَضْ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتَقَرَّ إِلَّا فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ.

قَبْلَ ذَلِكَ كَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بالْعَشِيِّ، وَحَتَّى بَعْدَمَا فُرِضَتْ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَذَانٌ بِمَكَّةَ، إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الْقِصَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَالرُّؤْيَا الَّتِي عُلِّمَ فِيهَا الصَّحَابِيُّ الْأَذَانَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.

الزَّكَاةُ: مَا كَانُوا يَمْلِكُونَ فِي الْجُمْلَةِ شَيْئًا، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الشِّعْبَ أَكَلُوا لِحَاءَ الشَّجَرِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَتَبَوَّلُ لَيْلَةً فِي أَثْنَاءِ الْحِصَارِ فِي الشِّعْبِ، فَسَمِعَ تَحْتَ وَقْعِ الْبَوْلِ صَوْتًا غَيْرَ مَعْهُودٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ نَظَرَ فَإِذَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَهَا فَغَسَلَهَا، ثُمَّ عَالَجَهَا بِالنَّارِ ثُمَّ اسْتَفَّهَا!

فَأَكَلُوا أَوْرَاقَ الشَّجَرِ وَلِحَاءَ الشَّجَرِ، ووَجَدُوا عَنَتًا عَظِيمًا؛ حَتَّى فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُمْ.

الصِّيَامُ: فُرِضَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.

كَذَلِكَ الْقِتَالُ مُنِعُوا مِنْهُ فِي مَكَّةَ، وَلَمْ تُطْلَقْ أَيْدِيهِمْ بِالْقِتَالِ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَمَاذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي مَكَّةَ؟

كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ، يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ، كَانُوا ثَابِتِينَ عَلَى التَّوْحِيدِ، لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ إِلَّا إِيمَانٌ صَرِيحٌ أَوْ كُفْرٌ صَرِيحٌ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ، وَإِنَّمَا جَدَّ النِّفَاقُ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ رُسُلَهُ بِتَعْلِيمِ النَّاسِ التَّوْحِيدَ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي أَيِّ بَلَدٍ جَدِيدٍ يَفْتَحُهُ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ   لِمَا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، -وَفِي رِوَايَةٍ-: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَفَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)). أَخْرَجَاهُ .

فَالنَّبِيُّ   لَمَّا وَجَّهَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى الْيَمَنِ دَاعِيًا إِلَى اللهِ وَمُعَلِّمًا، وَضَعَ لَهُ الطَّرِيقَةَ الَّتِي يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي دَعْوَتِهِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ سَيُوَاجِهُ قَوْمًا أَهْلَ عِلْمٍ وَجَدَلٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ لِيَكُونَ عَلَى أُهْبَةٍ لِمُنَاظَرَتِهِمْ وَرَدِّ شُبَهِهِمْ.

ثُمَّ لِيَبْدَأَ فِي دَعْوَتِهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى إِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلًا؛ فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ، فَإِذَا انْقَادُوا لِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْوَاجِبَاتِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ، فَإِذَا أَقَامُوهَا أَمَرَ أَغْنِيَاءَهُمْ بِدَفْعِ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى فُقَرَائِهِمْ؛ مُوَاسَاةً لَهُمْ وَشُكْرًا لِلهِ.

ثُمَّ حَذَّرَ مِنْ أَخْذِ جَيِّدِ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْوَسَطُ، ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى الْعَدْلِ وَتَرْكِ الظُّلْمِ؛ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ، وَدَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ.

فَأَوَّلُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَعْنَاهَا: تَوْحِيدُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.

التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الدُّعَاةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)).

فَالتَّوْحِيدُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يُقْبَلُ أَيُّ عَمَلٍ بِدُونِهِ، هُوَ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.

عِبَادَ اللهِ! أَصْلُ الْإِسْلَامِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ مُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ بِجِهَادِهِمْ هِدَايَةَ الْخَلْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ، فَوَ اللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ». كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ؛ ادْعُهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، إِلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَهَذَا الْجِهَادُ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَالنَّبِيُّ بَيَّنَ لَهُ كَيْفَ يَدْعُوهُمْ؛ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَيَجِبُ دَعْوَتُهُمْ قَبْلَ قِتَالِهِمْ.

وَقَدْ أَمَر النَّبِيُّ عَلِيًّا: إِنْ هُمْ أَجَابُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا يَجِبُ مِنْ شَرَائِعِهِمُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

عَلَيْنَا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى هِدَايَةِ الْكُفَّارِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالشَّقَاءِ وَالضَّيَاعِ وَالضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا؛ وَفِي هَذَا أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ حَلَفَ النَّبِيُّ تَرْغِيبًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ فَقَالَ: ((فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))؛ أَيْ: هِدَايَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى يَدَيْكَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْإِبِلِ الْحُمْرُ؛ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهَا لِأَنَّهَا أَنْفَسُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى الْأَذْهَانِ؛ وَإِلَّا فَنَعِيمُ الْآخِرَةِ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا.

لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.

فَعَلَيْنَا أَنْ نُقَدِّرَ التَّوْحِيدَ قَدْرَهُ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَفِي التَّحَقُّقِ بِهِ، وَأَنْ نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَنَا نَقِيضَهُ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.

وَمَا بَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرُّسُلَ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ؛ فَكُلُّ رَسُولِ كَانَ يَبْدَأُ قَوْمَهُ بِقَوْلِهِ: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وهَذَا هُوَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، هُوَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَاتِّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَاتَّقِ اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِكَ الْحَقِّ، يَعْنِي فِي آخِرَتِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ مَهْمَا طَالَتْ فَهِيَ مُنْتَهِيَةٌ وَهِيَ فَانِيَةٌ، وَأَمَّا الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ فِي الْآخِرَةِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ أي: لَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقَّةُ.

وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْكَافِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ مَا كَانَ  يُنْكِرُهُ وَيُكَذِّبُهُ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، وَهَذِهِ الَّتِي كُنْتَ فِيهَا أَلَمْ تَكُنْ حَيَاةً؟!!

إِنَّ التَّوْحِيدَ أَعْظَمُ دَعَائِمِ وَرَكَائِزِ وَأُسُسِ بِنَاءِ الدُّوَلِ؛ فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتَهُ؛ وَضَعَ أَسَاسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِأَسَاسِ بَيْتِهِ، وَلَا بِقَوَاعِدِ بِنَائِهِ؛ فَمَهْمَا شَيَّدَ وَجَمَّلَ، وَحَسَّنَ وَنَمَّقَ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَيَكُونُ خَطَرًا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي لَمْ يُشَيَّدْ عَلَى أَسَاسٍ.

كَذَلِكَ الدِّينُ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَسَاسٍ سَلِيمٍ، وَتَوْحِيدٍ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتَنْزِيهٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَإِبْعَادٍ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوْطِنِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ يَكُونُ وَاهِيًا سَرْعَانَ مَا يَتَهَاوَى.

إِنَّهُ لَا يَجْمَعُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَحِّدُ صُفُوفَهُمْ، وَلَا يُعْلِي شَأْنَهُمْ؛ إِلَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.

وَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحُلُّ الِاسْتِقْرَارُ؛ إِلَّا إِذَا اسْتَقَرَّ التَّوْحِيدُ.

فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ؛ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ.

وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ، كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا؛ إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.

إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

 ((مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ

الِاهْتِمَامُ بِدَوْرِ الْمَسْجِدِ وَرِسَالَتِهِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأُسُسِ الثَّابِتَةِ وَالدَّعَائِمِ الْقَوِيَّةِ لِبِنَاءِ الدَّوْلَةِ: الِاهْتِمَامَ بِدَوْرِ الْمَسْجِدِ الْعَظِيمِ وَرِسَالَتِهِ السَّامِيَةِ؛ فَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَا قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ بِالْمَدِينَةِ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ؛ وَذَلِكَ لِتَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا حُورِبَتْ، وَلِتُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تَرْبِطُ الْمَرْءَ بِرَبِّهِ -تَعَالَى-، وَتُنَقِّي الْقَلْبَ مِنْ أَدْرَانِ الْأَرْضِ وَأَدْنَاسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أَوَّلُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ بَعْدَ نُزُولِهِ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.

 شُغِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوَّلَ مُسْتَقَرِّهِ بِالْمَدِينَةِ بِوَضْعِ الدَّعَائِمِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ رِسَالَتِهِ، وَتَبْيِينِ مَعَالِمِهَا كَمَا اتَّضَحَ ذَلِكَ فِي صِلَةِ الْأُمَّةِ بِاللهِ، وَصِلَّةِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَصِلَةِ الْأُمَّةِ بِالْأَجَانِبِ عَنْهَا مِمَّنْ لَا يَدِينُونَ دِينَهَا.

((فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَادَرَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ؛ لِتَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا حُورِبَتْ، وَلِتُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تَرْبِطُ الْمَرْءَ بِرَبِّهِ، وَتُنَقِّي الْقَلْبَ مِنْ أَدْرَانِ الْأَرْضِ وَدَسَائِسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».

أَمَّا عَنِ الْأَمْرِ الثَّانِي: فَهُوَ صِلَةُ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضِهَا الْآخَرِ؛ فَقَدْ أَقَامَهَا الرَّسُولُ ﷺ عَلَى الْإِخَاءِ الْكَامِلِ.. الْإِخَاءِ الَّذِي تُمْحَى فِيهِ كَلِمَةُ (أَنَا)، وَيَتَحَرَّكُ الْفَرْدُ فِيهِ بِرُوحِ الْجَمَاعَةِ وَمَصْلَحَتِهَا وَآمَالِهَا، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ كِيَانًا دُونَهَا، وَلَا امْتِدَادًا إِلَّا فِيهَا.

وَمَعْنَى هَذَا الْإِخَاءِ: أَنْ تَذُوبَ عَصَبِيَّاتُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا حَمِيَّةَ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنْ تَسْقُطَ فَوَارِقُ النَّسَبِ وَاللَّوْنِ وَالْوَطَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ أَوْ يَتَقَدَّمُ إِلَّا بِمُرُوءَتِهِ وَتَقْوَاهُ.

وَقَدْ جَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ عَقْدًا نَافِذًا لَا لَفْظًا فَارِغًا، وَعَمَلًا يَرْتَبِطُ بِالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، لَا تَحِيَّةً تُثَرْثِرُ بِهَا الْأَلْسِنَةُ وَلَا يَقُومُ لَهَا أَثَرٌ.

وَكَانَتْ عَوَاطِفُ الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُؤَانَسَةِ تَمْتَزِجُ فِي هَذِهِ الْأُخُوَّةِ، وَتَمْلَأُ الْمُجْتَمَعَ الْجَدِيدَ بِأَرْوَعِ الْأَمْثَالِ!!)) .

((أَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ: وَهُوَ صِلَةُ الْأُمَّةِ بِالْأَجَانِبِ عَنْهَا، الَّذِينَ لَا يَدِينُونَ بِدِينِهَا؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَدْ سَنَّ فِي ذَلِكَ قَوَانِينَ السَّمَاحِ وَالتَّجَاوُزِ، الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي عَالَمٍ مَلِيءٍ بِالتَّعَصُّبِ وَالتَّعَالِي)) .

لَقَدْ بَلَغَ مِنَ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَسْجِدِ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِضْعَةِ أَيَّامٍ، وَسَاهَمَ فِي بِنَاءِ كِلَا الْمَسْجِدَيْنِ، وَارْتَجَزَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ هَذَا الْبَيْتَ وَهُوَ يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ، أَوْ يُرْسِي الْقَوَاعِدَ، أَوْ يَرْفَعُ الْجُدُرَ:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرَّسُولُ يَعْمَلُ = فَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

وَرُبَّمَا أَنْشَدُوا يُرَوِّحُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ:

لَاهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة = فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة

وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَبْلَغِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْمَسْجِدِ، وَبَالِغِ مَكَانَتِهِ فِيهِ؛ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ أَعْمَالِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ، فَالْمَسْجِدُ بُؤْرَةُ التَّوْحِيدِ، وَمَرْكَزُ الْإِشْعَاعِ الرُّوحِيِّ، وَمُنْطَلَقُ التَّوْجِيهِ الدِّينِيِّ، فَهُوَ الْمُجْتَمَعُ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْإِسْلَامِ الْكُبْرَى وَشَعِيرَتِهِ الْأُولَى، وَهُوَ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي تُتَلَقَّى فِيهَا التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ.

وَهُوَ الْمَصْنَعُ الَّذِي تُصَاغُ فِيهِ الْأَمْثِلَةُ التَّطْبِيقِيَّةُ الصَّحِيحَةُ النَّمُوذَجِيَّةُ لِلْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْمِصْفَاةُ تَجْلُو صَدَأَ الْقُلُوبِ، وَتَنْفِي عَنْهَا أَدْرَانَ الدُّنْيَا وَخَبَثَ الْمَادَّةِ، وَهُوَ مَرَاحُ الْأَرْوَاحِ، فِيهِ غِذَاءُ الْعُقُولِ وَجِلَاءُ الْأَفْهَامِ، وَمَنَارُ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِعْرَاجُ لِمَنْ يَشَاءُ الصِّلَةَ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ.

إِنَّ الْمَسْجِدَ مَهْوَى أَفْئِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُتَرَدَّدُ الْمُصَلِّينَ، وَمَعْلَمَةُ هَذَا الدِّينِ، يَتَلَقَّى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ دُرُوسًا عَمَلِيَّةً فِي الْمُسَاوَاةِ الرَّفِيعَةِ، وَالطَّاعَةِ الْمُثْلَى، وَالِانْقِيَادِ الْخَاضِعِ الْخَاشِعِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَفِيهِ تَشِيعُ الْمَحَبَّةُ الْمُخْلِصَةُ الْمُتَرَفِّعَةُ عَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْحُطَامِ، وَتَنْعَقِدُ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تُفَجِّرُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُصَلِّينَ التَّرَاحُمَ، وَتُدَفِّقُ فِيهِمْ مَعَانِيَ الْإِيثَارِ، وَتُوَطِّدُ عُرَى التَّنَاصُرِ وَالتَّآلُفِ، فَيَعْرِفُ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ حَقَّهُ، وَيَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وَيُوَاسِيهِ فِي مِحْنَتِهِ، وَيَمْنَحُهُ بِرَّهُ، وَيَبْذُلُ لَهُ الْكَثِيرَ مِنْ مَالِهِ وَوَلَائِهِ وَمَوَدَّتِهِ.

مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْحَيَوِيَّةِ النَّبِيلَةِ حَرَصَ الْإِسْلَامُ عَلَى إِقَامَةِ الْمَسَاجِدِ، وَبَثَّهَا الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مِصْرٍ إِسْلَامِيٍّ؛ حَتَّى كَانَتْ رَمْزَ الْإِسْلَامِ وَعَلَامَةَ التَّوْحِيدِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ.

 ((وَلَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَتَوْجِيهَاتِهِ، وَمُنْتَدًى تَلْتَقِي فِيهِ الْعَنَاصِرُ الْقَبَلِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزْعَاتُ الْجَاهِلِيَّةُ وَحُرُوبُهَا، وَقَاعِدَةً لِإِدَارَةِ جَمِيعِ الشُّئُونِ، وَبَثِّ الِانْطِلَاقَاتِ، وَبَرْلَمَانًا لِعَقْدِ الْمَجَالِسِ الِاسْتِشَارِيَّةِ وَالتَّنْفِيذِيَّةِ)) ؛ كَمَا فِي لِسَانِ أَهْلِ الْعَصْرِ.

كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ أُمُورَ دِينِهِمْ، وَكَان مَكَانًا لِإِنْشَادِ الشِّعْرِ ذَبًّا عَنِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَقَدِ اتَّخَذَ حَسَّانُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْبَرًا كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيُنْشِدُ شِعْرَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَخِلَافَتِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ شَزْرًا، فَقَالَ: ((إِلَيْكَ عَنِّي يَا عُمَرُ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ!!)).

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((صَدَقْتَ!!))، وَتَوَلَّى عَنْهُ.

كَانَ الْمَسْجِدُ  مَكَانًا لِعَقْدِ أَلْوِيَةِ جُيُوشِ وَسَرَايَا الْمُجَاهِدِينَ.

وَكَانَ مَكَانًا لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِقَائِدِهِمْ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: احْتِكَاكُ الْقَائِدِ بِالرَّعِيَّةِ عَنْ قُرْبٍ، وَدِرَاسَةُ أَحْوَالِهِمْ، وَبَثُّ الرَّعِيَّةِ شُجُونَهُمْ لِقَائِدِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: احْتِكَاكُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَتَآلُفُ قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ غَابَ هَذَا الْفَهْمُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا هَذَا!!

((كَانَ الْمَسْجِدُ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اللَّاجِئِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أَهْلٌ، وَلَا بَنُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُجَالِسُهُمْ وَيَأْنَسُ بِهِمْ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الصُّفَّةِ، وَالصُّفَّةُ: مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ.

هَذَا الْبِنَاءُ الْمُتَوَاضِعُ هُوَ الَّذِي رَبَّى مَلَائِكَةَ الْبَشَرِ، وَمُؤَدِّبِي الْجَبَابِرَةِ، وَرَبَّى مُلُوكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ.

إِنَّ مَكَانَةَ الْمَسْجِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، تَجْعَلُهُ مَصْدَرَ التَّوْجِيهِ الرُّوحِيِّ وَالْمَادِّيِّ، فَهُوَ سَاحَةٌ لِلْعِبَادَةِ، وَمَدْرَسَةٌ لِلْعِلْمِ، وَنَدْوَةٌ لِلْآدَابِ، وَقَدِ ارْتَبَطَتْ بِفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ وَصُفُوفِهَا أَخْلَاقٌ وَتَقَالِيدُ هِيَ لُبَابُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ».

 ((مِنْ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ الْقَوِيَّةِ: تَحْقِيقَ الْإِيمَانِ وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْمُجَمَّعَاتِ السَّكَنِيَّةِ الْمُهْلَكَةِ؛ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَاتَّقَوْا عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ بَرَكَاتٍ كَثِيرَاتٍ، وَزِيَادَةِ خَيْرَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَمَادِّيَّةٍ تَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَرْضِ؛ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْأَرْزَاقِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ.

 ((مِنْ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

الصَّالِحُونَ الْمُصْلِحُونَ))

إِنَّ مِنْ دَعَائِمِ قُوَّةِ الدُّوَلِ: وُجُودَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ؛ فَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ؛ أَيْ: مُقِيمُونَ عَلَى الصَّلَاحِ، مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهُمْ إِلَّا إِذَا ظَلَمُوا وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللهِ.

فَفِي الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ حِفْظُ الْأَفْرَادِ وَرُقِيُّ الْمُجْتَمَعَاتِ وَتَقَدُّمُهَا؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].

وَمَا كَانَ رَبُّكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- لِيُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمُ الْكَبِيرِ، وَالْحَالُ أَنَّ لَدَى كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِأَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ طَرِيقِ إِرَادَاتِهِمْ إِلَى الصَّلَاحِ، بِإِصْلَاحٍ مِنْهُمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ وَإِفْسَادٍ.

وَمِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الدُّوَلِ: مُوَاجَهَةُ الْمُصْلِحِينَ، وَمُحَارَبَةُ الْقِيَمِ:

{لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13].

{أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].

وَغُرْبَةُ النَّاصِحِينَ، وَتَشْوِيهِهِمْ:

{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)} [الشعراء: 53].

{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 24-25].

وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ مَرَضَ أُمَّةٍ مَا هُوَ مَرَضُ مَوْتِهَا الِاسْتِغْنَاءُ بِالْإِمْكَانَاتِ الْمَادِيَّةِ قَولُه تَعالى:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35].

((مِنْ أَعْظَمِ أُسُسِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ:

إِعْلَاءُ الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدُّوَلِ: إِعْلَاءَ الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وأَبُوَ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

«الْخُلُقُ»: الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَةُ الْخُلُقِ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا، بِمَنْزِلَةِ الْخَلْقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَجِدُهَا الْعَبْدُ فِي مِيْزَانِ حَسَنَاتِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: «خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«الْفُحْشُ»: مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ.

وَ«الْفَاحِشُ»: الْآتِي بِعِبَارَاتٍ وَكَلَامٍ فَاحِشٍ صَرِيحٍ.

وَ«الْمُتَفَحِّشُ»: الَّذِي يَتَكَلَّفُ الْفُحْشَ وَيَتَعَمَّدُهُ لِفَسَادِ حَالِهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَتَحَاشَى الْكَلِمَاتِ النَّابِيَةَ، وَالْعِبَارَاتِ الْفَاحِشَةَ -قَصْدًا، أَوْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ- ﷺ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى الصَّحِيحِ لِغَيْرِهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْبِشَارَةُ لِصَاحِبِ الْخُلُقِ الْأَحْسَنِ أَنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَيُّ بِشَارَةٍ هَذِهِ؟!

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ((وَيَدْخُلُ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ، وَالدَّينُ وَالْفَضْلُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْعَدْلُ، فَبِذَلِكَ بُعِثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِيُتِمَّهُ))؛ أَيْ: لِيُبْلِغَهُ نِهَايَتَهُ؛ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ بِمَجْمُوعِهَا لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دِينِ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ.

وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: «لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».

«لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»؛ أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ أُكْمِلَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، وَأَنْ أَجْمَعَهَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ ﷺ.

 ((مِنْ أَعْظَمِ دَعَائِمِ تَأْسِيسِ الدَّوْلَةِ:

الْبُعْدُ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ الْقَوِيَّةِ الْمُتَمَاسِكَةِ: مُجَانَبَةَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُفْسِدُ الرُّوحَ وَهِيَ سَمُّ الرُّوحِ - وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ بِضَمِّ السِّينِ: سُمُّ الرُّوحِ-، كَمَا أَنَّ الْبَدَنَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَرَضِ بِأَسْبَابِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ وَعِلَلِهِ؛ فَيَمْرَضُ؛ فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَانُونِ الصِّحَّةِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ بِهِ الْحَيَاةُ, فَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ تَدْخُلُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَعَلَى الْقُلُوبِ، ثُمَّ هِيَ عَامِلَةٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ وَعَلَى مُسْتَوَى الْمَجْمُوعِ.

أُمَمٌ يُذِلُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَخْسِفُ بِهَا الْأَرْضَ، وَأُمَمٌ يُغْرِقُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأُمَمٌ يُمَزِّقُهَا رَبُّكَ بِالصَّيْحَةِ حَتَّى تَتَقَطَّعَ فِي الصُّدُورِ نِيَاطُ الْقُلُوبِ.

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.

وَإِلَّا؛ فَحَدِّثْنِي بِرَبِّكَ: مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، مِنْ دَارِ السُّرُورِ وَالْهَنَاءِ وَالْحُبُورِ وَالرَّخَاءِ إِلَى دَارِ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ وَالذُّلِّ وَالشَّقَاءِ؟!!

مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَبْدَلَهُمَا حَالًا مِنْ بَعْدِ حَالٍ؟!!

إِنَّمَا أَخْرَجَتْهُمَا الْمَعْصِيَةُ.

وَمَا الَّذِي أَبْلَسَ إِبْلِيسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَآيَسَهُ مِنْ ظِلِّ رَحْمَةِ رَبِّهِ -وَإِنَّهَا لَتَسَعُ وَتَسَعُ-، مَا الَّذِي آيَسَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَأَبْلَسَهُ، وَأَبْدَلَ ظَاهِرَهُ أَقْبَحَ مَنْظَرٍ وَأَشْأَمَهُ -وَبَاطِنُهُ أَقْبَحُ مِنْ ظَاهِرِهِ-، وَأَبْدَلَهُ مِنْ هَزَجِ التَّسْبِيحِ وَزَجَلِ التَّهْلِيلِ رِعْدَةَ النَّغَمَاتِ الْفَاسِقَاتِ وَالْكُفْرَانِ وَالْعِصْيَانِ؟!!

مَا الَّذِي أَبْدَلَ إِبْلِيسَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ؟!!

إِنَّمَا صَنَعَ بِهِ ذَلِكَ شُؤْمُ الْمَعْصِيَةِ.

مَا الَّذِي أَغْرَقَ الْأَرْضَ وَأَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ، حَتَّى عَلَتْ الْمِيَاهُ فِي الْأَرْضِ, فَغَطَّتْ رُءُوسَ الْجِبَالِ؟!!

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.

لِمَاذَا أَهْلَكَتِ الرِّيحُ قَوْمَ عَادٍ فَصَيَّرَتْهُمْ -كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ- كَـ {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]، {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]؟!!

يَصِفُهَا رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنَّهَا {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ثُمَّ يُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ: {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50-51].

وَأَمَّا ثَمُودُ، فَبِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ؛ فَتَمَزَّقَتِ الْقُلُوبُ فِي الْأَجْوَافِ؛ فَصَارُوا كَالرِّمَمِ الْبَالِيَاتِ.

مَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ إِلَى مُسْتَوًى تَسْمَعُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَأَمْطَرَهُمُ الْحِجَارَةَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ؛ فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ فِي الْأَرْضِ قَطُّ؟!!

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].

مَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ فَسَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، بِقَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ، وَالْإِذْلَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ؟!!

كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ -الْإِمَامُ- فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ-، قَالَ: «لَـمَّـا فَتَحَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قُبْرُسَ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَجَلَسَ أَبُو الدَّرْدَاءِ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ نَاحِيَةً يَبْكِي.

قَالَ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! تَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْإسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَنَصَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ جُنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ؟!!

فَقَالَ: وَيْحَكَ -يَا جُبَيْرُ-! مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ؛ بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ قَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، إِذْ عَصَوْا أَمْرَ اللهِ؛ فَصَيَّرَهُمُ اللهُ إِلَى مَا تَرَى».

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-: أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَـمَّـا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلَهُ: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، فَقَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ», فَلَمَّا نَزَلَتْ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65], قَالَ: «هَاتَانِ أَهْوَنُ، -أَوْ أَيْسَرُ-».

وَلَوْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا لَرَفَعَهَا، إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَنَعَهُ مِنْهُ سَلَفًا ﷺ.

فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) : «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ ﷺ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ -أَيْ: بِالْمَجَاعَةِ- فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا».

وَفِي حَدِيثٍ: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ -أَيْ: بِمَجَاعَةٍ عَامَّةٍ-، وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا».

فَأَبَى ربُّكَ إِلَّا أنْ يَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ.

كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فِي النَّظَرِ إِلَى مَرِيضِهِ الْمَطْرُوحِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُنْطَرِحِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ بِنَفَاذِ بَصَرٍ وَنُفُوذِ بَصِيرَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُشَخِّصَ الدَّاءَ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَيَسْتَطِيعَ تَبَعًا أَنْ يَصِفَ الدَّوَاءَ صَحِيحًا.

فَلْنَنْظُرْ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؛ عَسَى أنْ يَدُلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ هِيَ عَامِلَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهَا أَنْجَحَ وَأفلَحَ، وَمَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَى دَرْبِهَا وَتَنَكَّبَهَا مُسْتَدْبِرًا إِيَّاهَا؛ تَرَدَّى فِي نَتَائِجِهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّكَ قَدَرًا مَقْدُورًا.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي وَصْفِ مَصَارِعِ الْغَابِرِينَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

إنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، وَأَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِيَضْرِبَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عَلَى قَرْيَةٍ لَا يُهِمُّ بِحَالٍ أَنْ نَعْرِفَ اسْمَهَا وَلَا رَسْمَهَا؛ وَإِنَّمَا فَحْوَى الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا دَلَالَةُ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ سَارِيَةٌ فِي كَوْنِ اللهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالِاطْمِئْنَانِ، ثُمَّ يَأْتِيهَا الرِّزْقُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَالَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:66].

انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}، وَلَكِنَّهُمْ -وَاأسَفَاهُ !!- أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأَخَذَهُمْ رَبُّكَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا!!

قَرْيَةٌ مَضْرُوبَةٌ مَثَلًا: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ}، وَانْظُرْ لَا مُفَسِّرًا وَلَا مُؤَوِّلًا؛ وَإِنَّمَا مُصْغِيًا بِسَمْعِ الْقَلْبِ لِجَرْسِ كَلِمَةِ (الرَّغَدِ): {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَضْرِبُ لَنَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ تِلْوَ الْمَثَلِ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:68].

لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا رَبَّ النَّاسِ عَلَى يَدِ خَيْرِ النَّاسِ ﷺ؛ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَأَتَاهُمُ الرِّزْقُ {رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ}.

إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَبْدَلُوا النِّعْمَةَ كُفْرَانًا، وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالشُّكْرَانِ؛ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ السُّخْطَ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ يَأْتِي عَنْ سَبِيلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

وَانْظُرْ عَنِ النَّبَأِ الْمَضْرُوبِ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأُمَّةٍ ظَاهِرَةٍ قَاهِرَةٍ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15].

{كَانَ لِسَبَإٍ}، وَسَبَأٌ هَذَا أَبُو عَشِيرَةٍ مِنَ الْعَشَائِرِ الْعَظِيمَةِ, انْتَشَرَتْ فِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا بَعْدُ، مِنْهُمُ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي يَثْرِبَ -فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، فَهُوَ أَبُوهُمُ الْأَعْلَى، وَمِنْهُمْ: غَسَّانُ فِي الشَّامِ، وَمِنْهُمْ: خُزَاعَةُ فِي تِهَامَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ جُذَامَ وَعَامِلَةَ وَلَخْمٍ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.

كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي جَنُوبَيِ الْيَمَنِ، يَضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بِهِمُ الْمَثَلَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ -كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- جَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ؛ لِكَيْ يَتَنَاقَلَ النَّاسُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ جِيلًا مِنْ بَعْدِ جِيلٍ؛ لِيَرَوُا الْعِبْرَةَ، وَلِيَتَلَمَّسُوا الْمَوْعِظَةَ, وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَطَاعُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ كَفَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَتَاهُمُ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِذَا كَفَرُوا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -بِمَا قَدَّمَتِ الْأَيْدِي- ذُلًّا، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَعَذَابًا، وَتَقْتِيرًا، وَقُوتًا لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْكَدِّ وَالْكَدْحِ وَالنَّصَبِ، وَرُبَّمَا لَا يَأْتِي بِحَالٍ! -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} فِي جَنُوبَيِ الْيَمَنِ {آيَةٌ}؛ أَيْ: عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ وَادٍ مُتَّسِعٌ، وَعَلَى فَمِ الْوَادِي جَبَلَانِ عَظِيمَانِ، وَكَانَ السَّيْلُ يَنْزِلُ غَزِيرًا مِدْرَارًا؛ فَيَسِيرُ مِنْ بَيْنِ السَّدَّيْنِ، حَتَّى إِذَا مَا أَتَى إِلَى الْوَادِي تَشَتَّتَ؛ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ شَيْئًا، فَهُدُوا -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَى إِقَامَةِ سَدٍّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ هُوَ: سَدُّ مَأْرِبَ, كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ النِّعْمَةَ الظَّاهِرَةَ: {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَذَاكَ، عَلَى سَفْحِهِ، وَحَوَالَيْهِ، وَعَلَى قِمَّتِهِ، وَفِي بَطْنِ الْوَادِي.

وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} مُوَحِّدِينَ لِلَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، {وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ}.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} كَلَامٌ طَوِيلٌ لَا يَفْرُغُ بِحَالٍ.

فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَلْدَةَ كَانَ منَاخُهَا مُعْتَدِلًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُرَى فِيهَا ذُبَابٌ وَلَا بَعُوضٌ وَلَا بَرَاغِيثُ وَلَا هَوَامُّ فِي الْأَرْضِ بِحَالٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمنَاخَ أَعْدَلُ مَا يَكُونُ، وَأَجْلَى مَا يَكُونُ، وَأَصْفَى مَا يَكُونُ، كَأَنَّمَا أَتَتْ ذَلِكَ الْمَكَانَ - بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَفْحَةٌ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ, بِنَسِيمٍ وَهَوَاءٍ وَخُضْرَةٍ وَاخْضِرَارٍ، ثُمَّ بِخُلُوٍّ مِنْ كُلِّ مَا يُنَغِّصُ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَأْخُذُ مِكْتَلًا أَوْ زِنْبِيلًا عَلَى رَأْسِهَا مِمَّا تُجْنَى فِيهِ الثِّمَارُ، ثُمَّ تَسِيرُ بِهَذَا الْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا تَحْتَ الْأَشْجَارِ لَا تُكَلِّفُ نَفْسَهَا مَؤُونَةَ قَطْفٍ وَلَا بَحْثٍ عَلَى قِطَافٍ؛ وَإِنَّمَا تَسِيرُ تَحْتَ الْأَشْجَارِ فَتَتَسَاقَطُ الْأَثْمَارُ, فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي أَوْ خَرَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ وَجَدَتْ مِكْتَلَهَا قَدْ أَرْبَى وَزَادَ عَلَى مِلْئِهِ بِمَا لَا يُوصَفُ وَلَا يُقَدَّرُ؛ بِعَطَاءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، وَالْعَبْدُ مَهْمَا وَصَلَ وَمَهْمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِالذَّنْبِ؛ فَيَأْتِي قَوْلُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَرَبٌّ غَفُورٌ}، غَفُورٌ لَكُمْ إِذَا مَا وَقَعْتُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ بِغَلَبَةِ نَفْسٍ، وَأُخْذَةِ شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ، ثُمَّ عُدْتُمْ وَرَجَعْتُمْ وَنَدِمْتُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، عِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُوا رَبَّكُمْ غَفُورًا رَحِيمًا كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

فَمَاذَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ؟!! {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].

{فَأَعْرَضُوا}؛ فَانْظُرْ مَاذَا صَنَعَ رَبُّكَ بِهِمْ: سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْجُرُذَ، سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الْفِئْرَانَ؛ فَأَخَذَتِ الْفِئْرَانُ تَنْخُبُ فِي أَصْلِ هَذَا السَّدِّ التُّرَابِيِّ، ثُمَّ جَاءَ السَّيْلُ -{سَيْلَ الْعَرِمِ}- بِمَا يَحْمِلُ مِنْ حِجَارَةٍ, وَبِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَانْدِفَاعٍ؛ فَأَطَاحَ وَأَذْهَبَ بَقِيَّةَ السَّدِّ مِمَّا لَمْ تَقْوَ عَلَيْهِ الْفِئْرَانُ؛ فَأَغْرَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ وَادِيَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ انْحَسَرَ، ثُمَّ إِنَّ مَنْسُوبَهُ انْحَدَرَ؛ فَلَمْ يَبْلُغْ قِمَّةَ جَبَلٍ وَلَا سَفْحَهُ، وَعَادَتِ الْجَنَّتَانِ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي التَّبْدِيلِ.

حَتَّى مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ -رَبُّنَا سُبْحَانَهُ- فِي هَذَا التَّبْدِيلِ مِنْ شَيْءٍ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ عِنْدَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَا وَقَعَ قَلَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}، شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ ثَمَرٍ، وَالْأَثْلُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الطُّرَفَاءُ، وَأَمَّا السِّدْرُ فَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَعْدَلُ وَأَحْلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّبْدِيلِ.

وَانْظُرْ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي غُيِّرَتْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَشْكُرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَدَاءَ عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.

{وَشَيْءٍ}، وَهَكَذَا بِهَذَا التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ التَّقْلِيلَ وَالتَّحْقِيرَ، {وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ}، وَهَذَا التَّبْعِيضُ الَّذِي يَأْتِي قَبْلَ قَوْلِهِ: {سِدْرٍ}، {مِّنْ سِدْرٍ}، {وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ}، ثُمَّ أَتَى بِالتَّقْلِيلِ؛ فَيَا لَلَّهِ مِنْ هَذَا التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

إِنَّ أَقْوَامًا يَغْتَرُّونَ بِالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْحَالَ يَدُومُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا وَهْمٌ وَكَذِبٌ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَمُتُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِنَسَبٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ -تَعَالَى وَتَنَزَّهُ سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ-.

الْكُلُّ عَبِيدٌ عَلَى قَانُونِ الْعُبُودِيَّةِ يَسِيرُونَ، فَإِنْ أَتَوْا بِقَانُونِهَا وَلَوَازِمِهَا وَمَلْزُومَاتِهَا؛ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفَضْلَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَمْلَى لَهُمْ ظَاهِرًا، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُمْ لَمْ يُفْلِتْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِـمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَـمْ يُفْلِتْهُ» كَمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.

بَلْ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَـهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَانُونِهِ الْكَوْنِيِّ وَمِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَامِلَةِ فِي دُنْيَا النَّاسِ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْعَبْدَ يُعْطَى النِّعْمَةَ فَلَا يَزِيدُ عَلَى النِّعْمَةِ إِلَّا مَعْصِيَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ أَخْذَهُ آتٍ وَشِيكٌ لَا مَحَالَةَ - نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ -.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى عَلَى فَمِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ حَدِيثًا مِنْ أَحَادِيثِهِ الْعَظِيمَةِ -وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ عَظِيمَةٌ ﷺ- يُشَخِّصُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ثَوْبَانُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((السُّنَنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى قَصْعَتِهَا-» هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الطَّعَامِ.

فَالْأُمَمُ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ لَكَفَى وَشَفَى، وَقَادَ قُلُوبَ أَقْوَامٍ بِأَزِمَّتِهَا إِلَى سَوَاءِ الْإِيمَانِ, وَإِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ عُقُودٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ الْكَرِيمُ مُتَحَدِّرًا فِي ظِلَالٍ وَنَدًى يَطْرُقُ سَمْعَ الزَّمَانِ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ-: «يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أَوْ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».

أَكَلَةٌ وَضَعُوا قَصْعَةً بِطَعَامٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى الطَّعَامِ الْهَنِيءِ.. وَالنَّاسُ يَأْتُونَ إِلَى هَذَا الْأَكْلِ الَّذِي يُسَاغُ أَوْ لَا يُسَاغُ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي لَنَا بِالْمَثَلِ الْمَحْسُوسِ: الْأُمَمُ سَتَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ -يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ!- كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا؛ فَتَصِيرُونَ فَرِيسَةً -كَمَا قالَ النَّبِيُّ ﷺ- فَرِيسَةً لِأَكَلَةٍ يَتَدَاعَوْنَ، يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَكْفِي أَنْ يُلِمَّ أَحَدُهُمْ بِمَائِدَتِهِ فَيَأْكُلَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ مُكْتَفِيًا بِمَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الزَّادِ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَمْ كَانَ حَرَامًا؛ وَإِنَّمَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى هَذَا الطَّعَامِ.

فَتُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَرِيسَةً ﷺ، كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَقَالَ قَائِلٌ: «أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟

فَقَالَ: ((لَا؛ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، وَالْغُثَاءُ: هُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْمَاءُ إِذَا مَا جَرَى مِمَّا يَجْرِفُهُ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ الْمُتَطَايِرِ، وَمِنْ قَشِّ الْأَرْضِ وَحَصَاهَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْبَحَ هَكَذَا صَافِيًا مُتَأَرْجِحًا مَعَ نَغَمَاتِ مَاءٍ مُنْسَابٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُثَاءُ، بَلْ إِنَّ الْغُثَاءَ يَحْمِلُ فِيمَا يَحْمِلُ جِيَفَ حَيَوَانَاتٍ نَفَقَتْ وَرِمَمَ وَجُثَثَ قِطَطٍ وَكِلَابٍ أُزْهِقَتْ أَرْوَاحُهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُحْمَلُ غُثَاءً يَحْمِلُهُ السَّيْلُ.

«أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ مِنْ قُلُوبِ أَعْدَائِكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ)).

قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا»، أَوْ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».

وَالْحَدِيثُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُطَبَّقٌ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ؛ فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ.

يَقُولُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ» وَكَأَنَّهُ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِكُلِّ مُعَامَلَةٍ رِبَوِيَّةٍ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ فِي أَصْنَافِ الْمُعَامَلَاتِ.. «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَأَخْذَتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».

وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ مَا قَالَ، الْأَمْرُ كَمَا وَصَفَ الْمُخْتَارُ ﷺ، وَمَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى رَفْعِ الذُّلِّ عَنِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْقَانُونِ الْعَظِيمِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}.

انْظُرْ إِلَى الْمُؤَكِّدَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ بِالْقَسَمِ الْمُضْمَرِ وَالْإِتْيَانِ بِوَاوِهِ: {وَلَيَنصُرَنَّ}.

ثُمَّ بِإِدْخَالِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ، ثُمَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُثَقَّلَةِ الَّتِي تَأْتِي لِتَوْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدِهِ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}.

ثمَّ انْظُرْ إِلَى التَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ فَهَذَا مُؤَكِّدٌ مَعْنَوِيٌّ: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، مَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ لَا مَحَالَةَ.

ثُمَّ انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}.

لَمْ يَقُلِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا مَسَارِحَ الْفَنِّ, وَدُورَ الْبَطَالَةِ, وَمَشَارِبَ الْخُمُورِ!!

لَمْ يَقُلِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ عَاثُوا فِيهَا فَسَادًا!!

وَإِنَّمَا شَخَّصَ رَبُّكَ وَوَصَفَ مَعَ التَّشْخِيصِ دَوَاءَ الدَّاءِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّذْيِيلِ فِي قَوْلِ رَبِّك -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ لِأنَّهُ رُبَّمَا قَالَ إِنْسَانٌ: كَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضَعْفٍ وَمِنْ قِلَّةٍ وَمِنْ فَقْرِ ذَاتِ يَدٍ أَنْ نُقَاوِمَ أُمَمَ الْأَرْضِ مِمَّنْ أُوتُوا بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ؟

فَتْحًا عَلَيْهِمْ، لَا فَتْحًا بِهِمْ، وَلَا فَتْحًا لَهُمْ؛ وَإِنَّمَا فَتْحًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَتَمَّ لَهُمُ الْأَمْرُ ظَاهِرًا أَخَذَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا!!

رُبَّمَا أَتَى هَذَا الْخَاطِرُ فِي خَاطِرِ إِنْسَانٍ يَسْبَحُ فِيهِ وَيَجُولُ؛ فَيَأْتِي التَّذْيِيلُ فِي الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر : 31].

فَمَا عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ لِيُغْرِقَ أَهْلَهَا -رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا-.

عَلَى الْمُسْتَوَى الْقَلِيلِ الْيَسِيرِ تَجِدُ الرَّجُلَ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الْعَنَاءَ لِكَيْ يَشْهَدَ جُمُعَةً مِنَ الْجُمَعِ؛ فَيَجْلِسُ فِي الْحَرِّ، وَيَجْلِسُ فِي الزِّحَامِ، يَجْلِسُ مُتَضَايِقًا مِنْ مَرَضٍ رُبَّمَا أَلَمَّ بِهِ أَوْ لَمْ يُلِمَّ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْجُمُعَةِ بِشَيْءٍ!!

إِمَّا أَنْ يَضْحَكَ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا!! وَإِمَّا أَنْ يَعْبَثَ مَعَ هَذَا أَوْ يُكَلِّمَ ذَاكَ!!

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: « قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ -يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ- فَقَدْ لَغَوْتَ»، بَلْ يَقُولُ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا».

(فَشَلٌ) عَلَى الْمُسْتَوَى الْيَسِيرِ، وَ(فَشَلٌ) عَلَى الْمُسْتَوَى الْكَبِيرِ؛ حَتَّى تُسَلَّطَ عَلَى الْأُمَّةِ عِصَابَةٌ هِيَ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، هِيَ أَحْقَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ؛ بِمَا قَدَّمَتِ الْأَيْدِي، وَبِمَا اجْتَرَحَتِ الضَّمَائِرُ، وَبِمَا اعْتَمَلَ مِنْ سُوءٍ فِي النِّيَّاتِ.

تُوبُوا لِلَّهِ، وَأَحْدِثُوا لِلَّهِ تَوْبَةً، وَإِلَّا فَإِنَّ الْكُلَّ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَيَغْرَقُ الْجَمْعُ كُلُّهُ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَمْعَ بِرَحْمَتِهِ؛ فَاللَّهُمَّ تَدَارَكْنَا جَمِيعًا بِرَحْمَتِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 ((مِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ:

احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ احْتِرَامَ النِّظَامِ الْعَامِّ لِلدَّوْلَةِ مِنْ أَعْظَمِ رَكَائِزِ بِنَائِهَا وَمِنْ أَكْبَرِ دَعَائِمِ قُوَّتِهَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْرَمَنَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ دِينُ الْتِزَامٍ وَنِظَامٍ، لَا مَدْخَلَ لِلْفَوْضَى فِيهِ بِحَالٍ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؛ لِتَضْبِطَ حَرَكَةَ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مُنْذُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ إِلَى أَنْ يَنَامَ بِانْضِبَاطٍ كَامِلٍ لَا مُيُوعَةَ فِيهِ وَلَا فَوْضَى تَحْتَوِيهِ وَلَا تَعْتَرِيهِ.

النَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.

لِذَلِكَ فَإِنَّ احْتِرَامَ النِّظَامِ الْعَامِّ مَطْلَبٌ دِينِيٌّ وَوَطَنِيٌّ، وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ احْتِرَامِ النِّظام الْعَامِّ فِي الدَّوْلَةِ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُكَّامِ؛ فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ احْتِرَامِ النَّظَامِ الْعَامِّ: احْتِرَامُ قَوَاعِدِ الطَّرِيقِ وَآدَابِهِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ مُرَاعَاةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَنِظَامِهِ الَّذِي أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ: الِالْتِزَامُ بِقَوَاعِدِ الْمُرُورِ وَضَوَابِطِهِ، وَذَلِكَ بَعَدَمِ السَّيْرِ عَكْسَ الِاتِّجَاهِ، أَوْ بِزِيَادَةِ السُّرْعَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْتَبَرُ تَعَدِّيًّا عَلَى حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَعَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَالَّتِي قَدْ تَتَسَبَّبُ فِي إِزْهَاقِ رُوحِهِ أَوْ أَرْوَاحِ غَيْرِهِ أَوْ إِصَابَتِهِمْ وَتَرْوِيعِهِمْ.

فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ، قَالَ تَعَالَى:  {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ احْتِرَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى نَظَافَةِ الشَّوَارِعِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ؛ فَالْأَمْرُ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.

فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَحَمَّلَ كُلُّ فَرْدٍ فِي الْوَطَنِ مَسْئُولِيَّتَهُ؛ لِتَتَحَقَّقَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَحْصُدُ ثِمَارَهَا الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيِّتِهِ)).

 ((مِنْ أَهَمِّ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ:

الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ))

إِنَّ الِاقْتِصَادَ الْقَوِيَّ مِنْ أَهَمِّ دَعَائِمِ الدَّوْلَةِ وَرَكَائِزِهَا الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي لَا تَقُومُ وَلَا تُبْنَى إِلَّا بِهَا.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ وَأَفْضَلِ الْوَسَائِلِ لِتَنْمِيَةِ الِاقْتِصَادِ الْقَوْمِيِّ: الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ مَعَ الْإِتْقَانِ وَالِابْتِكَارِ، فَالْعَمَلُ وَالْإِنْتَاجُ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ وَوَاجِبٌ وَطَنِيٌّ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ عَقِبَ أَدَاءِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].

يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ، عَامِلِينَ بِقَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ؛ هُمَا: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ، وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:

*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.

*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.

وَمِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الِاقْتِصَادِ الْقَوِيِّ فِي هَذِهِ الْحِقْبَةِ: سَعْيُ رِجَالِ الْأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الْوَطَنِيِّينَ لِاسْتِثْمَارِ أَمْوَالِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ، وَتَوْفِيرِ فُرَصِ الْعَمَلِ لِأَبْنَاءِ هَذَا الْوَطَنِ الْجَمِيلِ.

إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].

وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟

قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

 ((مِنْ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

بِنَاءُ الْوَعْيِ الدِّينِيِّ وَالثَّقَافِيِّ وَالْعِلْمِيِّ))

إِنَّ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَسَلَامَةَ الْقَصْدِ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدِهِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ، وَثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَثَّ عَلَى الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11-12].

وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ -الَّذِينَ عَاقَبَهُمُ اللهُ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ- قَوْمُ نُوحٍ؛ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ حِينَ طَغَى الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَعَلَا عَلَى مَوَاضِعِهَا الرَّفِيعَةِ.

وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمَوْجُودِينَ بِعْدَهُمْ أَنْ حَمَلَهُمْ {فِي الْجَارِيَةِ} -وَهِيَ السَّفِينَةُ- فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمُ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ.

فَاحْمَدُوا اللَّهَ، وَاشْكُرُوا الَّذِي نَجَّاكُمْ حِينَ أَهْلَكَ الطَّاغِينَ، وَاعْتَبِرُوا بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِنَجْعَلَهَا}؛ أَيِ: الْجَارِيَةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُهَا، {لَكُمْ تَذْكِرَةً} تُذَكِّرُكُمْ أَوَّلَ سَفِينَةٍ صُنِعَتْ، وَمَا قِصَّتُهَا، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ، فَإِنَّ جِنْسَ الشَّيْءِ مُذَكِّرٌ بِأَصْلِهِ.

{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}؛ أَيْ: يَعْقِلُهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَيَعْرِفُونَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَوَجْهَ الْآيَةِ بِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ وَأَهْلِ الْبَلَادَةِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمُ انْتِفَاعٌ بِآيَاتِ اللَّهِ لِعَدَمِ وَعْيِهِمْ عَنِ اللَّهِ، وَلِعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ.

وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَالْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ؛ قَالَ ﷺ: ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى الْحِفْظِ السَّلِيمِ وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْكَلَامِ بنَصِّهِ، ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى صَاحِبِ الْفَهْمِ الضَّعِيفِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ, وَأَنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ قَدْ يَسْتَنْبِطُ مِمَّا سَمِعَ مَا لَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الرَّاوِي الَّذِي نَقَلَ الْكَلَامَ.

هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْوَعْيَ بِقِيمَةِ الْوَطَنِ، وَبِالتَّحَدِّيَاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا، وَبِالْمَخَاطِرِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ أَمْرٌ لَا غِنَى عَنْهُ، خَاصَّةً وَنَحْنُ فِي مَرْحَلَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرَجِ فِي تَارِيخِ وَطَنِنَا.

لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ جَمِيعًا فِي يَقَظَةٍ وَوَعْيٍ وَحَيْطَةٍ وَحَذَرٍ، وَفِي التَّارِيخِ عِبْرَةٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.

هَذَا إِذَا جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلنَّاسِ بَقِيَّةً مِنْ عَقْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْصِمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَشْمَلُهُمْ، وَإِلَّا عِنَايَتُهُ تَعُمُّهُمْ، يَهْدِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَذْعَنُوا لِلْحَقِّ، وَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ؛ خُذُوا أُهْبَتَكُمْ، وَاحْتَرِزُوا مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَتَيَقَّظُوا لَهُ، وَلَا تُمَكِّنُوهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.

عِبَادَ اللهِ! مَنْ نَظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً, وَفِي التَّارِيخِ عَامَّةً؛ يَعْلَمُ يَقِينًا مَا لِلشَّائِعَاتِ مِنْ خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَأَثَرٍ بَلِيغٍ، فَالشَّائِعَاتُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَشْخَاصِ.

وَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ, وَحَطَّمَتْ عُظَمَاءَ، وَهَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ، وَهَدَمَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ, وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَأَخَّرَتْ مِنْ سَيْرِ أَقْوَامٍ!!

إِنَّ الشَّائِعَاتِ تُخِلُّ بِالْأَمْنِ، وَتَجْلِبُ الْوَهَنَ، وَتُحَقِّقُ مُرَادَ الْأَعْدَاءِ فِي تَرْكِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِضْعَافِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَيْئِيسِهِمْ، وَقَتْلِ رُوحِ الْمُقَاوَمَةِ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَعَلَى كُلٍّ مِنَّا فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدِ مَنْ يَعْبَثُ بِمُسْتَقْبَلِ الْوَطَنِ فِي حُدُودِ دِينِنَا وَمَسْئُولِيَّتِهِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)).

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ, قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؟! فَإِنْ يَتَرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، وَلَفْظُهُ فِيهِ: ((مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ؛ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟!

قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي، وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَوْا جَمِيعًا، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ، وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ)).

قَالَ الْحَافِظُ : ((مَثَلُ الْمُدْهِنِ)): الْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرَائِي، وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ، وَلَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ.

((اسْتَهَمُوا سَفِينَةً)): أَيِ اقْتَرَعُوهَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمًا؛ أَيْ: نَصِيبًا مِنَ السَّفِينَةِ بِالْقُرْعَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَالتَّعْذِيبُ الْمَذْكُورُ إِذَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ، أَوْ يَرْفَعُ اللهُ لَهُ بِهِ دَرَجَتَهُ.

إِنَّ هَذِهِ السَّفِينَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؛ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُخَرِّبَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ لِيَنْجُوا جَمِيعًا, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا هَلَكُوا جَمِيعًا.

هَكَذَا دِينُ اللهِ؛ إِذَا أَخَذَ الْعُقَلَاءُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَلَى الْجُهَّالِ وَالسُّفَهَاءِ نَجَوْا جَمِيعًا, وَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي سَفِينَةِ الْوَطَنِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ مَعَاوِلَهُمْ وَفُئُوسَهُمْ؛ لِيَخْرِقُوا السَّفِينَةَ لِيُغْرِقُوهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدُوا أَحَدًا يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ لِلْعُقَلَاءِ: ((فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا, وَإِنْ تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا وَهَلَكُوا جَمِيعًا))

فَعَلَى كُلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَنْتَبِهَ، وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ؛ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ أَقْلَامَهُمْ أَوْ فُئُوسَهُمْ أَوْ يُهَرِّفُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَضْرِبُ بَيْنَ أَشْدَاقِهِمْ بِكُلِّ مَا يَضُرُّ الْوَطَنَ وَمَصْلَحَتَهُ, وَبِكُلِّ مَا يَعْبَثُ بِالْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ لِهَذَا الْبَلَدِ.

((مِنْ دَعَائِمِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

قُوَّةُ الْبِنَاءِ الِاجْتِمَاعِيِّ))

إِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى.

وَقَدْ حَرَصَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيم عَلَى قُوَّةِ الرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» كَمَا قَالَ الرَّسُولُ , لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ))؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

وَجَاءَ كَمَا عَنِدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ)) .


((مِنْ أَهَمِّ رَكَائِزِ بِنَاءِ الدَّوْلَةِ:

التَّمَاسُكُ الْأُسَرِيُّ))

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الزَّوَاجَ -وَهُوَ أَسَاسُ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ- لِلِاسْتِمْتَاعِ، يَسْتَمْتِعُ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فِي حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَتُقْضَى الشَّهْوَةُ، وَيُحْفَظُ النَّسْلُ، وَيَتَرَبَّى الْأَبْنَاءُ فِي الْبِيئَةِ الصَّحِيحَةِ السَّلِيمَةِ الْمُحَافِظَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ نَشْءٌ يُوَحِّدُ اللهُ وَيَتَّبِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.

فَيَحْصُلُ فِي اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ قِيَامُ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ، الَّذِي هُوَ نَوَاةُ قِيَامِ الْمُجْتَمَعِ وَصَلَاحِهِ.

فَالزَّوْجُ يَكِدُّ وَيَكْدَحُ وَيَتَكَسَّبُ، فَيُنْفِقُ وَيَعُولُ.

وَالْمَرْأَةُ تُدَبِّرُ الْمَنْزِلَ، وَتُنَظِّمُ الْمَعِيشَةَ، وَتُرَبِّي الْأَطْفَالَ، وَتَقُومُ بِشُئُونِهِمْ. وَبِهَذَا تَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ، وَتَنْتَظِمُ الْأُمُورُ.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا عَمَلًا كَبِيرًا، لَا يَقِلُّ عَنْ عَمَلِ الرَّجُلِ فِي خَارِجِهِ، وَأَنَّهَا إِذَا أَحْسَنَتِ الْقِيَامَ بِمَا نِيطَ بِهَا فَقَدْ أَدَّتِ لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ خَدَمَاتٍ كَبِيرَةً جَلِيلَةً.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ لِتَرَابُطِ الْأُسَرِ وَصَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وَالْحَدِيثُ «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

بِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ، فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.

وَقَدْ قِيلَ: اصْبِرْ وَصَابِرْ تُدْرِكِ الْمَكَارِمَ.

((نِدَاءٌ مُتَجَدِّدٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ!!))

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا، وَاحْذَرُوا أَنْ تُفْلِتَ فُرْصَتُكُمُ الدَّانِيَةُ الْقَرِيبَةُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَقَدْتُمُوهَا لَنْ تُدْرِكُوهَا!!

فَلَا تَتَّبِعُوا كلَّ مُخرِّبٍ خَائِنٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُضَ عُرَى دَوْلَتِكُمْ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُمُوعَكُمْ، تَتَكَفَّفُونَ الدُّوَلَ وَالْمُنَظَّمَاتِ الَّتِي تَرْعَى الْحَيَوَانَاتِ وَلَا تَرْعَى الْبَشَرَ، وَتَأْسَى عَلَى الْكِلَابِ الضَّالَّةِ وَالْقِطَطِ الشَّارِدَةِ، فَتُوَفِّرُ مَأْوًى وَغِذَاءً وَدَوَاءً، وَتُبِيدُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ مُدُنًا -بَلْ دُوَلًا- قَتْلًا بِدَمٍ بَارِدٍ، أَوْ وَأْدًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي رِمَالِ الِاحْتِقَارِ، وَصَحْرَاوَاتِ النَّفْيِ مِنْ حَيَاةِ الْبَشَرِ؛ لِيُعَامَلَ الْمَرْءُ أَدْنَى مِنْ مُعَامَلَةِ الْحَيَوَانِ!!

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اتَّقُوا اللهَ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.

تَمَاسَكُوا، وَتَعَاضَدُوا، وَاجْعَلُوا الْغَايَاتِ الصَّغِيرَةَ، وَالْأَهْدَافَ الرَّخِيصَةَ، وَالِاهْتِمَامَاتِ الزَّائِفَةَ.. تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَاحْرِصُوا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِوَطَنِكُمْ.

فَاسْتِقْرَارُ وَطَنِكُمُ اسْتِقْرَارٌ لِدِينِكُمْ، وَتَقَدُّمُهُ تَمْكِينٌ لِأُصُولِهِ وَمَبَادِئِهِ؛ لِيُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْعَمَ النَّاسُ بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ فِي أَفْيَائِهِ وَشَرَائِعِهِ.

دَرْسٌ مُهِمٌّ مِنْ دُرُوسِ التَّارِيخِ يَجِبُ حِفْظُهُ، الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.

الْإِنْسَانُ يَعِيشُ فِي جَمَاعَةٍ.. وَالْفِيلُ أَيْضًا، وَيَتَمَتَّعُ بِالذَّكَاءِ.. وَالثَّعْلَبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَمْتَلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَلَامِ.. وَالْبَبَّغَاءُ قَدْ يَبْدُو كَذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ.. وَقَدْ يُفَكِّرُ الْكَلْبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَضْحَكُ.. وَقَدْ يَبْدُو الْقِرْدُ ضَاحِكًا، وَلَكِنَّ فَارِقًا فَارِقٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى؛ وَهُوَ التَّارِيخُ.

الْإِنْسَانُ كَائِنٌ لَهُ تَارِيخٌ، يَسْتَفِيدُ مِنْ أَخْطَائِهِ، يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا.

إِنَّ الْفَأْرَ يَقَعُ فِي الْمَصْيَدَةِ مُنْذُ آلَافِ السِّنِينِ بِقِطْعَةِ الْجُبْنِ الشَّهِيَّةِ ذَاتِهَا دُونَ تَغْيِيرٍ.

وَمُنْذُ وَقَعَ أَوَّلُ أَسَدٍ فِي شَبَكَةِ أَوَّلِ صَيَّادٍ وَحَفَدَةُ الْأَسَدِ يَقَعُونَ فِي الشَّبَكَةِ ذَاتِهَا دُونَ تَعَلُّمٍ، وَيَسْهُلُ جَرْجَرَةُ فِيلٍ إِلَى حَدِيقَةِ حَيَوَانٍ بِقَلِيلٍ مِنَ الْخُضْرَةِ كَمَا حَدَثَ مَعَ جَدِّهِ الْأَوَّلِ دُونَ خِبْرَةٍ.

أَمَّا الْإِنْسَانُ؛ فَكُلُّ تَجْرِبَةٍ تَمُرُّ بِهِ تُكْسِبُهُ مَعْرِفَةً، وَكُلُّ مَأْسَاةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا يَجِبُ أَلَّا يُكَرِّرَهَا، وَكُلُّ جُحْرٍ لُدِغَ مِنْهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا إِذَا كَانَ حَيَوَانًا، مُنْتَهَى الْإِهَانَةِ لِلْحَيَوَانِ!!

الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.. وَالْمِصْرِيُّونَ أَذْكِيَاءُ، وَلَنْ يُكَرِّرُوا أَخْطَاءَهُمْ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--، وَلَنْ يَدَعُوا أَحَدًا يُرِيدُ الْعَبَثَ بِعُقُولِهِمْ وَالتَّأْثِيرَ عَلَى قَرَارِهِمْ.

إِنَّ مِصْرَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ حَقِيقِيَّةٍ، يَخُوضُهَا الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ الْبَاسِلُ فِي جَبَهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَظْهَرُهَا أَرْضُ الْفَيْرُوزِ -شِبْهُ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ- وَمَا تَمُوجُ بِهِ مِنَ التَّحَدِيَاتِ وَالْمَخَاطِرِ، وَمَا تَزْخَرُ بِهِ مِنْ صُنُوفِ الْحَاقِدِينَ عَلَى مِصْرَ وَجَيْشِهَا وَأَمْنِهَا، وَشَعْبِهَا وَقِيَادَتِهَا، فِي مُحَاوَلَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ مُسْتَمِيتَةٍ لِإِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بُنْيَانِهَا، وَهَدْمِ بِنَائِهَا.

حَافِظُوا عَلَى بَلَدِكُمْ!

حَافِظُوا عَلَى وَطَنِكُمْ!

صُونُوا مُنْشَآتِكُمْ فَإِنَّهَا مِلْكٌ لَكُمْ، لَا تَدَعُوا أَحَدًا يُخَرِّبُهَا، لَا تَدَعُوا أَحَدًا يُدَمِّرُهَا، لَا تَدَعُوا أَحَدًا يَحُومُ حَوْلَهَا، فَهِيَ مِلْكٌ لَكُمْ، مِلْكٌ لِأَبْنَائِكُمْ، مِلْكٌ لِحَفَدَتِكُمْ.

اتَّقُوا اللهَ فِي وَطَنِكُمْ!

اتَّقُوا اللهَ فِي أَعْرَاضِكُمْ!

اتَّقُوا اللهَ فِي دِينِكُمْ!

اتَّقُوا اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ؛ خَاصَّةً فِي الْمَنْطِقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.

عَيْبٌ كَبِيرٌ أَنْ تُغَامِرُوا بِمُسْتَقْبَلِكُمْ، بِأَعْرَاضِكُمْ، بِشَرفِكُمْ، بِعِزِّكُمْ، بِتَارِيخِكُمْ، بِتُرَاثِكُمْ، بِدِينِكُمْ، عَيْبٌ كَبِيرٌ!!

اتَّقُوا اللهَ وَأَفِيقُوا!

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ
  الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ رِسَالَةُ سَلَامٍ لِلْإِنْسَانِيَّةِ
  كيف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
  سوء الظن وكهف المطاريد !!
  دروس من الهجرة
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ التَّاسِعُ: دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
  أَكْلُ الْحَلَالِ
  ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
  مذابح اليهود
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان