حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ

حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ

((حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَإِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا؛ بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36].

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)﴾ [الإسراء: 23-24].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ، وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.

فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا، وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ.

فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).

وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ الْأُمُّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَتَكَرَّرَ حَقُّ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِكَوْنِهَا تَحَمَّلَتِ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَمِنْ أَسْرَارِ التَّكْرَارِ كُلَّمَا سَأَلَهُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ: مَنْ أَبَرُّ؟ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أُمَّك»؛ أَيْ: بِرَّ أُمَّكَ، فَكَرَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ لِحِكْمَةٍ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا تَتَحَمَّلُ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ.

وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ -أَيْضًا- لِتَهَاوُنِ النَّاسِ فِي حَقِّ الْأُمِّ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَخْفِيًّا بِعَكْسِ حَقِّ الْأَبِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّ تَكُونُ فِي بَيْتِهَا، فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ تَقْصِيرُهُ، فَحَقُّهَا يَكُونُ مَخْفِيًّا، بِعَكْسِ الْأَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا.

وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا لِضَعْفِ الْمَرْأَةِ، وَقِلَّةِ تَحَمُّلِهَا، فَقَدْ يُغْضِبُهَا فَلَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ فَتَدْعُوَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِبِرِّهَا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ))، وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.

فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ))

* إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟

قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».

قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ».

قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؟

«أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؛ أَيْ: يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَيَرْضَى بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى، اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ الْمُطْلَقِ لَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ؛ وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ أَوْ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.

فَقَدْ يَتَكَرَّرُ السُّؤَالُ بِعَيْنِهِ، وَتَخْتَلِفُ الْإِجَابَةُ، وَلَكِنْ يُجِيبُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.

قَالَ ﷺ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»؛ الْمُرَادُ بِالْوَقْتِ هُنَا: الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ.

قَالَ عَبْدُاللَّهِ: «قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ؟»؛ يَعْنِي: ثُمَّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»؛ يَعْنِي: الْأَبَ وَالْأُمَّ، وَالْبِرُّ ضِدُّ الْعُقُوقِ، وَالْعُقُوقُ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهِمَا.

قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟

قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»؛ الْجِهَادُ: مُحَارَبَةُ الْكُفَّارِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَبِكُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ.

قَوْلُهُ: «لَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»؛ أَيْ: لَوِ اسْتَفْسَرْتُهُ عَنْ مَرَاتِبِ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّها عُنْوَانٌ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَمَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.

وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ مَعَ عِظَمِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ، فَهُوَ لِغَيْرِهِمَا أَقَلُّ بِرًّا، وَمَنْ قَعَدَ عَنْ جِهَادِ الْكَافِرِينَ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ، فَهُوَ أَشَدُّ قُعُودًا عَنِ الْجِهَادِ لِغَيْرِهِمْ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَحْفَظُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَعْظَمُ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ.

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ[الإسراء: ٢٤]، قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ في ((الأدب المفرد))، وَالطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ فِي «الزُّهْدِ»، وَالْأَصْبَهَانِيُّ فِي «التَّرْغِيبِ».

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّوَاضُعِ وِلِينِ الْجَانِبِ.

وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا وَتَذَلَّلْ، فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالْعُلُوَّ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَرَفَعَهُمَا لِيَرْتَفِعَ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ خَفَضَهُمَا، وَإِذَا رَأَى الطَّائِرُ جَارِحًا لَصِقَ بِالْأَرْضِ وَأَلْصَقَ جَنَاحَيْهِ، وَهِيَ غَايَةُ خَوْفِهِ وَتَذَلُّلِـهِ.

قَوْلُهُ: «لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ»؛ أَيْ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ تَنْفِيذِ أَمْرِهِمَا، لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْصِيَةٍ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: الِاهْتِمَامُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَوُجُوبُ تَحْقِيقِ رَغَبَاتِ الْوَالِدَيْنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَوْلَادِ.

وَأَنَّ مِنْ مَعَانِي «الْبِرِّ»: التَّوْقِيرَ، وَالتَّعْظِيمَ، وَالتَّوَاضُعَ لِلْوَالِدَيْنِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِالْأَخَصِّ الْأُمُّ؛ لِمَا لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ، إِذَا كَانَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ أَحْسِنْ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَإِنَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ صِلَةَ الْأَقَارِبِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا، وَالدُّعَاءَ لَهُمَا بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُمَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَأَدَاءَ الْحَجِّ وَالْعُمُرَةِ عَنْهُمَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْوَلَدِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَإِكْرَامَ صَدِيقِهِمَا.

وَحَقًّا أَقُولُ: إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ قُمْتَ بِحُقُوقِ وَالِدَيْكِ، وَأَرْضَيْتَ رَبَّكَ، وَكَسَبْتَ أَجْرًا جَزِيلًا يَمْنَحُكَ اللهُ إِيَّاهُ فِي دُنْيَاكَ وَبَرْزَخِكَ وَأُخْرَاكَ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

((احْذَرُوا أَنْ تُؤْتَوْا مِنْ ثَغْرِ الْعُقُوقِ!!))

لَقَدْ تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي؛ فَخَلَصْتُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ- بِقَاعِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَفَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا اخْتَلَطَتْ أَحْوَالُهُ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَصَعُبَتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا بِسَبَبِ خَلْطٍ يَخْلِطُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَإِنْ ظَنَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ-.

وَهَذَا الْخَلْطُ قَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْقَلْبِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ اللِّسَانِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْبَدَنِ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينِ.

تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي، فَوَجَدْتُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ خَارِجًا عَلَى مَنْهَجِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِكِتَابِهِ -سُبْحَانَهُ- أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ الْمَرْءُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُفَتِّشُ عَنْهُ، وَلَا يَأْبَهُ لَهُ، بَلْ لَعَلَّهُ لَوْ بَحَثَ فِيهِ، فَدُلَّ عَلَيْهِ لَاسْتَنْكَرَهُ جِدًّا!!

الْمَرْءُ تَتَعَسَّرُ أُمُورُهُ، وَتَنْسَدُّ فِي وَجْهِهِ سُبُلُ الرَّشَادِ وَالْخَيْرِ، وَتَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ، وَتَصْعُبُ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ يَتَأَمَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ؟!!

وَلَا يَدْرِي الثَّغْرَ الَّذِي مِنْهُ نَفَذَ الشَّيْطَانُ إِلَى تَعْسِيرِ أُمُورِهِ عَلَيْهِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ- وَلَوْ أَنَّهُ عَرَضَ جُمْلَةَ أَحْوَالِهِ وَدَقَائِقَهَا عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، لَدَلَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْمَنْحَى الَّذِي عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِمَّا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ، الَّتِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إِنْسَانٌ إِلَّا إِذَا عَصَمَهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَلَّنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ..)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا -كَمَا بَيَّنَ الْحَدِيثُ- قَدْ بُنِيَتْ مِنَ اللَّبِنِ وَمِنَ الطِّينِ، فَأَوَى إِلَيْهَا الرَّجُلُ مُتَعَبِّدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالُهُ قَدِ انْتَشَرَتْ بِذِكْرِهَا الْحَسَنِ الطَّيِّبِ، حَتَّى اسْتَشْرَتْ فِي النَّاسِ وَاسْتَفَاضَتْ.

ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَذَاكَرُوهُ بَعْدَ حِينٍ -كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُنَا ﷺ- ((فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي -جَاءَتْ أُمُّ جُرَيْجٍ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا لَهَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَزُورَهُ، فَوَجَدَتْهُ فِي صَلَاتِهِ -فِي صَلَاةِ نَفْلٍ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ!

وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يُنَاجِي رَبَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ -وَوَدَعَ أُمَّهُ تَارِكًا إِيَّاهَا- فَانْصَرَفَتْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).

إِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِأَبِيهِ أَوْ بِأُمِّهِ إِلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْإِغْضَابِ، بِهَا يَدْعُوَانِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ دَعْوَةً مُلَازِمَةً، تَتَعَسَّرُ بِسَبَبِهَا أَحْوَالُهُ، حَتَّى يَلْقَى وَجْهَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَاضِبًا عَلَيْهِ، سَاخِطًا عَلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً!!

وَيُفَتِّشُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ تَعَسَّرَتْ عَلَيَّ أَحْوَالِي؟!!

وَمِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ صَعُبَتْ عَلَيَّ مَعِيشَتِي؟!!

وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ تَوَرَّطَ فِي عُقُوقٍ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ، أَوْ فِي إِغْضَابٍ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، حَتَّى دَعَوَا أَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا اللهَ عَلَيْهِ دَعْوَةً كَانَتْ مُلَازِمَةً فُتِّحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ؛ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ مُحَذِّرًا: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ أَنْ تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ، فَيُسْتَجَابَ لَكُمْ فِيهِمْ)) .

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا بِحِفْظِهِ أَجْمَعِينَ.

((قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).

ثُمَّ إِنَّهَا قَدِ اخْتَارَتْ لَهُ حَالَةً مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي تَتَنَاقَضُ تَمَامًا مَعَ أَحْوَالِهِ، هَذَا رَجُلٌ يُقْبِلُ عَلَى صَلَوَاتِهِ مُتَحَنِّثًا، وَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَتِهِ مُتَحَنِّثًا.

ثُمَّ إِنَّهَا تَأْتِي إِلَيْهِ بِبَغِيٍّ تَتَمَنَّى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهَا أَلَّا يَمُوتَ حَتَّى يَرَى وَجْهَهَا، وَهُوَ عَلَى نَقِيضِ الْحَالِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَرَكَ أُمَّهُ.

وَيَا لَهَا مِنْ دَعْوَةٍ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْهَا أَجْمَعِينَ-.

((فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ -لَمَّا رَأَتْهُمْ يَتَذَاكَرُونَهُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَحَلَاوَةِ السُّلُوكِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا.

فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ.

فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟

قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ!

فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟

فَجَاؤُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ.. فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ! مَنْ أَبُوكَ؟

قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي!!

قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ -عِنْدَئِذٍ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ يُقَبِّلُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ فِيمَا يَتَصَوَّرُ الْمَرْءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ -يَسْتَرْضُونَهُ-: مُرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ، وَسَوْفَ تَجِدُنَا عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِنَا- وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.

قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ.. فَفَعَلُوا)).

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَظِيمٌ عَلَى صَبْرِ هَذَا الرَّجُلِ؛ إِذْ صَبَرَ عَلَى مَا أَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ؛ بِسَبَبِ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ -صَلَاةِ النَّفْلِ-، أَمَّا الْفَرْضُ فَلَا يَقْطَعُهُ الْمَرْءُ أَبَدًا مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ.

وَأَمَّا النَّفْلُ.. فَإِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، وَدَعَاكَ أَبُوكَ أَوْ دَعَتْكَ أُمُّكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْهُمَا سَعَةَ الْأُفُقِ، وَتَرَى مِنْهُمَا رَحَابَةَ الصَّدْرِ، وَجَوْدَةَ التَّفْكِيرِ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تُجِيبَ، وَإِنَّما عَلَيْكَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حَالِكَ؛ بِأَنْ تَتَنَحْنَحَ، أَوْ تَرْفَعَ صَوْتَكَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالذِّكْرِ وَأَنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، أَوْ تَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ، وَمِنْ رَحَابَةِ الْأُفُقِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَا مِنْ كَزَازَةِ الطَّبْعِ بِمَكَانٍ، فَلَيْسَ لَكَ أَبَدًا أَنْ تَظَلَّ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ وَأَبُوكَ أَوْ أُمُّكَ يَدْعُوَانِكَ أَوْ يَدْعُوكَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ تُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا تُجِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ الصَّلَاةَ عِنْدَئِذٍ -صَلَاةَ النَّفْلِ-، وَتُجِيبَ أَبَاكَ أَوْ تُجِيبَ أُمَّكَ.

أَمَّا جُرَيْجٌ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَخْبَرَ نَبِيُّنَا ﷺ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يُجِبْ أُمَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَكَرِّرَاتٍ، حَتَّى دَعَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ غَاضِبَةً.

إِنَّ الْإِنْسَانَ أَحْيَانًا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَرُبَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَسَالِكُهُ، وَرُبَّمَا تَضِيقُ بِهِ سُبُلُ الْحَيَاةِ، وَرُبَّمَا يَجِدُ مِنَ الْعُسْرِ وَالْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ فِي الْحَيَاةِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ عَاصٍ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا مَعًا.

أَمَّا الثَّالِثُ فِي الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ فِيمَا أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ -وَالصَّبِيُّ رَضِيعٌ، لَا يَفْقَهُ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ كَلَامًا بِبِنْتِ شَفَةٍ- فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا! فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ)).

قَالَ -يَعْنِي رَاوِي الْحَدِيثِ-: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.

قَالَ: ((وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ! سَرَقْتِ! وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!

فَقَالَتْ أُمُّهُ -دَاعِيَةً لِابْنِهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ-: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا! فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا -وَعِنْدَئِذٍ أَقْبَلَ الْغُلَامُ لَمَّا دَعَتْ أُمُّهُ أَلَّا يَجْعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَهَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا!

فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ -أَيْ هَذَا الرَّضِيعُ وَأُمُّهُ- فَقَالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ -أَيْ لِرَضِيعِهَا هَذَا: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ! وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا!!

قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ.. وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ.. وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا».

الْمَرْءُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَأَنْ تَتَبَدَّلَ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ يَعْصِي بِهِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ!!

وَهَذَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ -كَمَا أَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَوَّامِ -رَحِمَهُ اللهُ-- يَقُولُ: نَزَلْتُ مَرَّةً حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَبِجِوَارِ الْحَيِّ مَقْبَرَةٌ، فَلَمَّا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ انْشَقَّ قَبْرٌ هُنَالِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُ رَأْسُ حِمَارٍ عَلَى جَسَدِ إِنْسَانٍ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ، ثُمَّ انْطَبَقَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ.

فَقَالَتْ امْرَأَةٌ فِي الْحَيِّ: تَرَى هَذِهِ الْعَجُوزَ الَّتِي تَجْلِسُ هُنَالِكَ، وَهِيَ تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ قَالَ صُوفًا.

قَالَ: مَا شَأْنُهَا؟

قَالَتْ: تِلْكَ أُمُّ ذَلِكَ.

فَقَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّتِهِ؟

فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ إِذَا مَا رَاحَ إِلَيْهَا مَخْمُورًا، وَقَدْ عَبَثَتِ الْخَمْرُ بِرَأْسِهِ، تَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ! إِلَى مَتَى تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْرِ، أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَدَعُ هَذِهِ الْخَمْرَ؟

فَيَقُولُ لَهَا: إِنَّمَا أَنْتِ تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

فَلَمَّا مَاتَ -وَقَدْ مَاتَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ- وَغُيِّبَ فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ، مَا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَّا انْشَقَّ الْقَبْرُ عَنْهُ، فَخَرَجَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتَ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ كَمَا كَانَ يَقُولُ لِأُمِّهِ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ إِنَّمَا تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

فَعَاقَبَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِهَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.

الرَّأْسُ رَأْسُ حِمَارٍ وَالصَّوْتُ صَوْتُهُ، وَالْجَسَدُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَالْهَيْئَةُ هَيْئَتُهُ، وَالْقَبْرُ يَنْشَقُّ فِي سَاعَةِ الْمَمَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيَخْرُجُ الْحِمَارُ الْإِنْسِيُّ أَوِ الْإِنْسَانُ الْحِمَارِيُّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ بِمَسْمَعٍ مِنْ أُمِّهِ وَمَرْأَى!!

الْمَرْأَةُ تَسْمَعُ نَهِيقَ ابْنِهَا الَّتِي كَانَ يَنْبِزُهَا قَبْلُ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْهَقُ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

هِيَ إِذَنْ -كَمَا رَأَيْتَ- نَتَائِجُ قَدْ رُتِّبَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا، وَالْآيَةُ كُلُّ الْآيَةِ تَدُورُ عَلَى هَذَا الْمِحْوَرِ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ: لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ.

الطَّاعَةُ فِيمَا لَا تُحِبُّ حَيًّا وَمَيِّتًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ بِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ تَمَامًا كَالْبِرِّ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُغَيَّبُوا فِي بَاطِنِهَا.

وَلَقَدْ تُؤْتَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي.

إِذَا مَا أَمَرَا؛ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ التَّعَسُّفِيَّةِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي إِسْلَامٍ -فَسَمْعًا وَطَاعَةً-.

 ((الْبِرُّ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَبَوَيْنِ))

قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبِرَّ بِالْأَبَوَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا وَافَقَ الْهَوَى؛ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَرَهُ أَبُوهُ أَوْ أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِأَمْرٍ يُوَافِقُ هَوَاهُ هُوَ، فَإِنَّهُ -عِنْدَئِذٍ- بِرًّا بِهِمَا يَفْعَلُ مَا وَافَقَ هَوَاهُ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ أَمْرِ أُمِّهِ.

وَالشَّأْنُ فِي الْبِرِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي بِرِّ الْأَبَوَيْنِ أَنْ تَكُونَ لَهُمَا طَائِعًا فِيمَا تَكْرَهُهُ، لَا فِيمَا تَرْضَاهُ، أَمَّا فِيمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ فَلَيْسَ بِرًّا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ بِرًّا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّكَ تَأْتِي بِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُكَ، وَيُحِبُّهُ فُؤَادُكَ.

وَأَمَّا الْبِرُّ الصَّحِيحُ فَأَنْ تُؤْمَرَ بِأَمْرٍ تُبْغُضُهُ نَفْسُكَ، وَتَكْرَهُهُ ذَاتُكَ، وَيَأْبَاهُ فُؤَادُكَ، ثُمَّ عِنْدَئِذٍ تَنْزِلُ عَنْ عَلْيَاءِ هَوَاكَ بِذِرْوَتِهِ إِلَى طَاعَةِ أَبِيكَ أَوْ طَاعَةِ أُمِّكَ، وَهَذَا هُوَ الْبِرُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ﷺ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى فِي قُرْآنِهِ الْعَظِيمِ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَضَتْ سُنَّتُهُ لِخَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَدُلَّهُمْ بِالْأَمْثَالِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا خَفِيَ عَنْهُمْ، وَغَمُضَ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَضْرِبُ لَنَا الْأَمْثَالَ، إِذَا كَانَ أَبُوكَ وَأُمُّكَ هُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِكِ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ تُحِسُّهَا بِحَوَاسِّكَ، وَتَجِدُهَا بِجَوَارِحِكَ، ثُمَّ أَنْتَ تَكْفُرُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنْتَ تَسْتَعْصِي عَلَى أَمْرِهِمَا، فَأَنْتَ لِلسَّبَبِ الْغَيْبِيِّ الْخَفِيِّ الَّذِي لَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ تَكُونُ أَشَدَّ عِصْيَانًا.

وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالشُّكْرِ لِلْوَالِدِينَ مَعًا: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14]؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبًا ظَاهِرًا فِي وُجُودِكَ، وَفِي النِّعْمَةِ عَلَيْكَ، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَيْكِ وَالْبِرِّ بَكَ، فَإِذَا كُنْتَ كَافِرًا بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فَأَنْتَ لِمَا وَرَاءَهَا أَكْفَرُ!!

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّنَا ﷺ قَالَ: ((أَطِعْ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ)) .

يَعْنِي: لَا تَخْرُجْ مِنْ دُنْيَاكَ بِمَعْنَى أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ -حَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- وَلَكِنْ إِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَمِنْ كُلِّ مَا أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ، حَتَّى الثَّوْبِ الَّذِي لَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ.

((أَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ))؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَمِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَلَصَ عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَرِضْوَانُهُ- إِلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا؛ وَهِيَ: ((أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْوَالِدَانِ أَوْ نَهَيَا عَنْهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْأَبْنَاءِ)).

يَعْنِي: إِذَا أَمَرَكَ أَبُوكَ أَوْ أَمَرَتْكَ أُمُّكَ بِأَمْرٍ مَا دَامَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْكَ؛ يَعْنِي لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُنَاقِشَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُسَوِّفَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤَخِّرَهُ، وَإِنَّمَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْكَ أَنْ تُطِيعَ، وَأَنْ تَلْتَزِمَ بِمَا أَمَرَا بِهِ كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَنَبِيُّهُ الْأَمِينُ ﷺ.

بَلْ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَلَّنَا عَلَى أَمْرٍ عَجَبٍ؛ فَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بِالْأَبِ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ- أَلَّا تَمْشِي أَمَامَهُ.. لَا تَمْشِ أَمَامَ أَبِيكَ، وَلَا تَجْلِسْ فِي مَكَانٍ يَعْلُو عَنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَا تُنَادِهِ بِاسْمِهِ))، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَسِيرَ خَلْفَهُ كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ، إِلَّا إِذَا كُنْتَ مُوَطِّئًا لَهُ الطَّرِيقَ.

وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا يُفَرِّقُ فِي السَّيْرِ وَلَا فِي الْمَجْلِسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّكَ بَعْضٌ مِنْهُ، فَلَا تَجْعَلِ الْبَعْضَ مَفْصُولًا عَنْ بَعْضِهِ، وَإِنَّمَا تَجْلِسُ مُلَاصِقًا لِأَبِيكَ، مُتَأَخِّرًا عَنْهُ شَيْئًا، وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَدَبِ الَّتِي كَانَ يُعَلِّمُنَا إِيَّاهَا آبَاؤُنَا فِي الزَّمَانِ الْقَدِيمِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنَّكَ لَنْ تَجْنِيَ مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبَ!!.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْلِّمَنَا وَأَنْ يُسَلِّمَ مِنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((بِرُّ الْأَبَوَيْنِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

عَبْدَ اللهِ! خُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ رَسُولُنَا ﷺ، ثُمَّ قِسْ عَلَيْهِ حَالَكَ، وَعِنْدَئِذٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ إِذَا مَا دَعَوْتَ فِي الشِّدَّةِ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَكَ؛ مِنْ أَيِّ بَابٍ أُتِيتَ، وَلِمَاذَا سُدَّتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكُ، وَلِمَاذَا خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ حَتَّى تَشَعَّبَتْ بِكَ الظُّنُونُ وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْكَ الْأَحْوَالُ، وَنَاشَتْكَ سِهَامُ الْأَعْدَاءِ وَرِمَاحُهُمْ حَتَّى تَنَصَّلَ اللَّحْمُ وَتَنَاثَرَتِ الْعِظَامُ بَيْنَ ذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنَا أَجْمَعِينَ-.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ -وَالْغَارُ: كُوَّةٌ فِي الْجَبَلِ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا سُدَّتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ مُعَرَّضًا -لِعَدَمِ التَّهْوِيَةِ، لَا لِجَوْدَتِهَا؛ أَنْ يَمُوتَ اخْتِنَاقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا-.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَقَالُوا: -فِيمَا يَرْوِيهِ لَنَا رَسُولُنَا ﷺ- إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلَا مَالًا..)).

أَمَّا الْغَبُوقُ: فَهُوَ سَقْيُ الْعَشِّيِّ، يَعْنِي كَانَ يَرُوحُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ بِغَنَمِهِ أَوْ بِإِبِلِهِ أَوْ بِبَقَرِهِ، فَيَحْلِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَسْقِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ؛ لَا زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا -يَعْنِي: وَلَا رَقِيقًا- حَتَّى يَسْقِيَ أَبَوَيْهِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ؛ يَعْنِي بَلَغَ بِهِمَا كِبَرُ السِّنِّ مَبَالِغَهُ.

قَالَ: ((فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ..)).

وَقَعَ الرَّجُلُ لِجَوْدَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَلِعِظَمِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْفِكْرِ الْمُسْتَقِيمِ.. وَقَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُحَيِّرَيْنِ جِدًّا، إِمَّا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ أَبَوَيْهِ، فَيُخَالِفَ الْمَأْلُوفَ مِنْ عَادَتِهِ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَا وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ!

وَضَعْ نَفْسَكَ مَكَانَهُ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانٍ، يُؤَرَّقَانِ كَثِيرًا كَحَالِ كِبَارِ السِّنِّ فِي لَيْلِهِمَا الَّذِي يَطُولُ أَحْيَانًا كَأَنَّمَا شُدَّتْ نُجُومُهُ بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ!!

أَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ يَأْرَقُ فِي لَيْلِهِ فَلَا يَجِدُ ابْنَهُ قَدْ أَتَى بِالْغَبُوقِ، فَيَظُنُّ بِهِ الظُّنُونَ، أَوْ رُبَّمَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ لِمَكْرُوهٍ أَصَابَهُ، وَالرَّجُلُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّعَهُمَا.

ثُمَّ -أَيْضًا- إِنَّ وَرَاءَ هَذَا الرَّجُلِ أَهْلًا وَوُلْدًا مِنَ الصِّغَارِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ بَعْدَ حِينٍ: وَالصِّغَارُ يَتَضَاغَوْنَ -يَعْنِي يَبْكُونَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ-.

قَالَ: ((فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

انْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا لَا يَسَعُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنَ الْغَارِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ فَرَجًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبِحَسَنَةٍ جَلِيلَةٍ، فَفُرِّجَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، حَتَّى فَكَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَهُمْ، وَأَطْلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَيْدَهُمْ.

الْآنَ قِسْ نَفْسَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ، هَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى أَبَوَيْهِ بِاللَّبَنِ عَشِيًّا، فَيَجِدُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، وَأَنْ يَأْتِيَ الصِّغَارَ مِنْ وُلْدِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَفَطَّرُ الْكَبِدُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَيَنْصَدِعُ الْفُؤَادُ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَضَاغَوْنَ -كَمَا قَالَ- عِنْدَ رِجْلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ!!

وَأَمَّا هُوَ فَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ أَبَوَيْهِ النَّائِمَيْنِ، يَحْمِلُ اللَّبَنَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنَّ الْيَدَ لَتَكِلُّ -تَصَوُّرًا- أَنْ تَحْمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَقَدَّمَ اللَّبَنَ إِلَيْهِمَا لَمَّا اسْتَيْقَظَا، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا مَالًا وَلَا وَلَدًا.

وَالْآنَ قِسْ حَالَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الطَّائِعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَكَ -عَافَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِيَّايَّ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ- وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَهُ عِنْدَمَا تَقَعُ فِي أَمْرٍ تَكْرَهُهُ، ثُمَّ تَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَعِنْدَكَ مِثْلُ هَذَا الْبِرِّ الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ عِنْدَكَ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأُمِّ، بَلْ تَقْدِيمُ مَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاحِبِ وَالرَّفِيقِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.

((لَنْ تُوَفِّيَ أَبَوَيْكَ حَقَّهُمَا!!))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ وَعَلَى سَبِيلِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ حَقَّهُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَمَا تَقُولُ فِي الْأُمِّ؟!!

وَرَجُلٌ كَانَ يَحْمِلُ أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ، فَلَمَّا عَرَضَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ -يَعْنِي: يَا ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- أَتَرَى أَنِّي بِذَلِكَ قَدْ وَفَّيْتُهَا حَقَّهَا؟

قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ، وَهِيَ انْقِبَاضَاتُ الرَّحِمِ بِعَضَلَاتِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ، وَتَكُونُ مُعْتَصِرَةً جِدًّا لِمَا فِي الدَّاخِلِ، وَهُوَ أَمْرٌ يُحْدِثُ أَلَمًا لَا يَعْلَمُ مَدَاهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

حَتَّى إِنَّكَ لَوْ حَمَلْتَ أُمَّكَ عَلَى عَاتِقَيْكَ وَطُفْتَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَفِي سَوْرَةِ الْهَجِيرِ، ثُمَّ إِنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تُوَافِيَ بَيْنَ مَا جِئْتَ وَمَا جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْدِلُ.. قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ الَّتِي عَانَتْ فِيهَا مَا عَانَتْ.

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)).

وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ.

خُذْ إِلَيْكَ رَفْعَ الصَّوْتِ -مَثَلًا- فِي حَضْرَتِهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

خُذْ إِلَيْكَ نَظَرَ الشَّزْرِ وَإِحْدَادَ الْبَصَرِ إِلَيْهِمَا؛ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَضْلًا عَنْ عِصْيَانِ أَمْرِهِمَا، فَضْلًا عَنِ الْبَطَرِ عَلَيْهِمَا، فَضْلًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمَا بِاللَّعْنِ مِنْ وَرَائِهِمَا حِينًا وَمِنْ خَلْفِ ظَهْرَيْهِمَا أَحْيَانًا كَثِيرَةً، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟

قَالَ: ((يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَلْعَنُ أَبَاهُ وَيَلْعَنُ أُمَّهُ)).

كَمَا قَالَ رَسُولُنَا ﷺ فِي سَبِّ الْوَالِدَيْنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبًّا مُبَاشِرًا، أَمَّا فِي السَّبَبِ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّكَ لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا مَحْضًا لَوَجَدْتَ أَنَّكَ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُوَفِّيَ أَبَوْيَكَ وَلَا أَحَدَهُمَا شَيْئًا مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي لَهُمَا عِنْدَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا مَا خَدَمْتَهُمَا مَا خَدَمْتَهُمَا عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِمَا وَكِبَرِ أَعْمَارِهِمَا وَبُلُوغِهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ الْمَبَالِغَ، فَإِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ خِدْمَتِكَ -وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِي قَرَارَةِ نَفْسِكَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمَا، أَوْ وَأَنْتَ تَسْتَاءُ مِنْهُمَا.

لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَهُمَا يَفْعَلَانِ مَعَكَ الشَّيْءَ نَفْسَهُ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا يَتَمَنَّيَانِ لَكَ الْحَيَاةَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِمَا جِدًّا أَنْ يَجِدَاكَ فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَلَوْ كَانَتْ حَالَةً يَسِيرَةً، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَلْبِ الْأَبَوَيْنِ.

وَمِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُوصِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْأَبَوَيْنِ بِأَوْلَادِهِمَا، لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كُلِّهِ -فِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا تَجِدُ وَصِيَّةً صَرِيحَةً يُوصِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا الْوَصِيَّةَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْإِلْزَامِ لِلْأَبْنَاءِ بِالْآبَاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرَّحْمَةَ مَغْرُوسَةً وَجَعَلَهَا مَرْكُوزَةً فِي طِبَاعِ الْأَبَوَيْنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الِابْنَ بَضْعَةٌ -أَيْ جُزْءٌ- مِنْ أَبِيهِ، وَدَائِمًا الْأَصْلُ يَحِنُّ لِمَا هُوَ فَرْعٌ مِنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْصِيَةِ.

وَأَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَالْوَصِيَّةُ تَشْمَلُنَا بِأَبَوَيْنَا.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِيَّاهُمَا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا وَإِيَّاهُمَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

إِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ -لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا- أَنْ تُوَازِنَ بَيْنَ مَا تَأْتِي أَنْتَ بِهِ لِأَبَوَيْكَ وَبَيْنَ مَا قَدَّمَاهُ هُمَا لَكَ.

بَلْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِيهَا قَانُونًا عَظِيمًا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ -وَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَقَالَ: ((إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ))-: مِنَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبِي يَأْكُلُ مَالِي.

فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

قَالَ: أَنَا أَعْمَلُ مَا أَعْمَلُ أُحَصِّلُ الْمَالَ، ثُمَّ آتِي بِهِ إِلَى أَبِي، فَهُوَ يُنْفِقُهُ وَيُبَدِّدُهُ بِدَدًا وَيُمَزِّقُهُ مِزَقًا.

فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ)).

وَذَهَبَ الْوَلَدُ لِكَيْ يَسْتَدْعِي أَبَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِذَا جَاءَكَ الرَّجُلُ فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ جَالَ فِي خَاطِرِهِ، وَاعْتَمَلَ فِي صَدْرِهِ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ -يَعْنِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ هُوَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَتَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ هُوَ؛ أَيْ: أُذُنَا الرَّجُلِ-.

فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ، وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ ابْنَكَ يَدَّعِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَأْكُلُ مَالَهُ)).

فَقَالَ الرَّجُلُ -وَالْأَسَى يَعْتَصِرُهُ-: يَا رَسُولَ اللهِ! سَلْهُ هَلْ أُنْفِقُهُ إِلَّا عَلَى نَفْسِي أَوْ عَلَى أُمِّهِ أَوْ عَلَى إِحْدَى بَنَاتِي -أَيْ: أَخَوَاتِهِ- أَوْ إِخْوَانِهِ أَوْ أُنْفِقُهُ عَلَى إِحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَحَدِّثْنِي عَنْ شَيْءٍ دَارَ فِي نَفْسِكَ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ)).

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا زَالَ اللهُ يَزِيدُنَا عَلَيْكَ يَقِينًا يَا رَسُولَ اللهِ وَبِكَ ﷺ، وَوَاللهِ مَا تَكَلَّمْتُ بِذَلِكَ قَطُّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ فِي نَفْسِي مَقُولَةً أَعْتِبُ بِهَا عَلَى وَلَدِي هَذَا؛ قُلْتُ:

غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعُلْتُكَ يَافِعًا=تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتَنْهَلُ

إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ=لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي= إِلَيْهَا مَدَى ما كُنْت فيكَ أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً=كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي=فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَتِفَيِ الْوَلَدِ، وَأَخَذَ يَقُولُ لَهُ -نَافِضًا إِيَّاهُ-: ((أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)) .

وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمَةٌ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُؤْتَى بِتَعْسِيرِ أُمُورِهِ، وَبِتَخْلِيطٍ فِي أَحْوَالِ حَيَاتِهِ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُتِيَ، وَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ، فَأَوْصِدُوهُ إِيصَادًا وَأَحْكِمُوهُ رِتَاجًا -عِبَادَ اللهِ- بِالْبِرِّ بِالْأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَإِلَّا فَإِنَّ الذُّلَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِالْعَاقِّ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ مَنْ بَلَغَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

فَدَعَا بِالذِّلَّةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِكُلِّ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ.

 ((حَالُ السَّلَفِ فِي بِرِّهِمْ بِوَالِدِيهِمْ))

فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «تُبْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».

قَالَ عَطَاءٌ: فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».

لِأَنِّي لَا أَجِدُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا يَعْدِلُ فِي الْفَضْلِ وَفِي الْأَجْرِ الْبِرَّ بِالْأُمِّ.

وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْهُ- حَرِيصًا غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى أُمِّهِ، كَانَ لَهُ أَرْضٌ بِـ (الْعَقِيقِ)، فَكَانَ إِذَا مَا دَخَلَ أَرْضَهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمِّي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

تَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا وَلَدِي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

فَيَقُولُ لَهَا: جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا عَنِّي بِمَا رَبَّيْتِينِي صَغِيرًا.

تَقُولُ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْرًا بِمَا بَرَرْتَنِي بِهِ كَبِيرًا)).

أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَتْ أُمُّهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ مُشْرِكَةً كَافِرَةً، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ، فَتَرُدُّهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ يَوْمًا، فَسَمِعَ مِنْهَا فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ مَا يَكْرَهُ، فَبَكَى خَوْفًا عَلَيْهَا، وَإِشْفَاقًا مِنَ الْحَالِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا؛ أَنْ يُصِيبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَسْفٍ أَوْ مَسْخٍ أَوْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

وَمَضَى مُسْرِعًا يَبْكِي مُتَفَطِّرَ الْقَلْبِ مِنَ الْأَسَى، مُتَصَدِّعَ الْفُؤَادِ مِنَ الشَّجَنِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَى أُمِّي الْإِسْلَامَ فَتَأْبَاهُ وَتَرْفُضُهُ، وَإِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهَا الْيَوْمَ الْإِسْلَامَ، فَسَمِعْتُ مِنْهَا فِي حَقِّكَ كَلَامًا شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللهِ، فَادْعُ اللهَ لَهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)).

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ انْقَلَبْتُ إِلَى الْبَيْتِ، فَوَجَدْتُ الْبَابَ مُجَافًى -يَعْنِي قَدْ أُوصِدَ شَيْئًا مَا، قَالَ: وَسَمِعَتْ هِيَ خَشْفَ نَعْلِي -يَعْنِي: سَمِعَتْ صَوْتَ نَعْلَيْهِ يَصِرَّانِ مُقْبِلًا-.

قَالَ: وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ خَشْفَ نَعْلِي وَحِسِّي مُقْبِلًا، قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! مَكَانَكَ.

ثُمَّ إِنَّهَا أُعْجِلَتْ -أَخَذَتْ دِرْعَهَا وَوَضَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا وَأُعْجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، ثُمَّ فَتَحَتِ الْبَابَ وَقَالَتْ: أَقْبِلْ.

فَدَخَلَ، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

أَصَابَتْهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ.

فَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتَبَدَّلُ حَالُهُ، هُوَ مُنْذُ قَلِيلٍ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَيْنُهُ سُخْنَةٌ، وَأَمَّا الْآنَ فَيُقْبِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَرِيرَ الْعَيْنِ بَارِدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ دُمُوعَ الْحُزْنِ تَكُونُ سَاخِنَةً، وَأَنَّ دُمُوعَ الْفَرَحِ تَكُونُ بَارِدَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ -مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ- يَعْنِي يَدْعُونَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ فَرِحًا إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا بَاكِيًا بِدُمُوعِ الْفَرَحِ الْبَارِدَةِ، قَرِيرَ الْعَيْنِ كَمَا يَقُولُونَ.

أَبُو هُرَيْرَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُنْذُ قَلِيلٍ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَاكِيًا -عَلَى لَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ- بُكَاءً مَرِيرًا سَاخِنَ الْعَيْنِ -كَمَا مَرَّ-.

وَالْآنَ هُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَاكِيًا -أَيْضًا- وَلَكِنَّهُ يَبْكِي بُكَاءَ الْفَرَحِ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَبْشِرْ..! اسْتَجَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعْوَتَكَ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ أُمُّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَادْعُ اللهَ لِي وَلَهَا يَا رَسُولَ اللهِ.

فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّهِ أَنْ يُحَبِّبَهُمَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ.

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لِذَا لَنْ تَجِدَ مُؤْمِنًا أَبَدًا إِلَّا وَهُوَ مُحِبٌّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَأَنَا أُشْهِدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنِّي أُحِبُّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَكُمْ لَهُمَا مِنَ الْمُحِبِّينَ.

الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا وَجَدَ مِنْ حَدَبِهِ وَمِنْ بِرِّهِ بِأُمِّهِ مَا وَجَدَ دَعَا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَهَا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا مَا كَانَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

وَعَلَامَةٌ فَارِقَةٌ مُضِيئَةٌ تَجِدُهَا فِي سُنَّةِ الْمَعْصُومِ ﷺ؛ النَّبِيُّ ﷺ يُوصِي عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْفَارُوقَ وَيُوصِي الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِذَا مَا جَاءَتْكُمْ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ فَسَوْفَ يَأْتِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَرَنِيُّ، مِنْ (مُرَادٍ) ثُمَّ مِنْ (قَرَنٍ)، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ فِي شِفَائِهِ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يُبْرَأْ بِحَالٍ أَبَدًا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا قَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَرْفَعَهُ عَنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ.

طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ فِي جِلْدِهِ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْبَرَصِ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِيهِ وَحَتَّى لَا يَنْسَاهُ؛ لِيَعْلَمَ مُجَدَّدًا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا اللهَ، فَبَرِئَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ)).

النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَأْتِي بِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مُهِمة، يَقُولُ: ((لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)).

فَلَمَّا جَاءَ أُوَيْسٌ وَلَقِيَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرِئْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

لَكَ وَالِدَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي.

يَسْتَغْفِرُ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!!

وَمِنْ حَيْثِيَّاتِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَجُلُ صِدْقٍ أَنَّهُ بَارٌّ بِأُمِّهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((وَصَّانِي النَّبِيُّ ﷺ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ..))؛ مِنْهَا: قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا تُشْرِكْ بِاللهِ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ)).

إِنَّنَا لَفِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، قَدْ يُؤْتَى الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى، وَيَكُونُ حِصْنُهُ أَضْعَفَ مَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمَنْطِقَةِ بِذَاتِهَا، وَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ -وَتَأَمَّلْهَا مَلِيًّا، وَاجْعَلْهَا بِإِزَاءِ قَلْبِكَ، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53]، تَأَمَّلْهَا مَلِيًّا- قَالَ: ((مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ)) ، ((مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ أَبَوَيْهِ)) .

مَلْعُونٌ: مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحْمَةِ!!

وَانْظُرْ إِلَى الْمَطْرُودِ خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ، خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ لَا تُدْرِكُهُ وَلَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ!!

انْظُرْ إِلَيْهِ مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمَلْعُونُ؟!!

أَلَا إِنَّ الذُّنُوبَ بِآثَارِهَا، وَإِنَّ الْآثَامَ بِنَتَائِجِهَا فَاعِلَةٌ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ، فَاعِلَةٌ فِي الرُّوحِ الْحَيَّةِ، فَاعِلَةٌ فِي دُنْيَا اللهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا وَأُمَمًا وَعَالَمًا.

وَالْعَالَمُ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبُّكَ.

فَاللَّهُمَّ اغْفَرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

 ((الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ

وَرَحِمُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ))

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الِالْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ عَلَى عَقِيدَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَاءِ الْقُلُوبِ عَلَى عَاطِفَةٍ دِينِيَّةٍ وَأَهْدَافٍ غَائِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَائِهِمْ عَلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ، وَقِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَنَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً، فَقَالَﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

لَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِائْتِلَافِ، وَلِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ التَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ إِلَى الْعَوْدَةِ اللهِ وَحْدَهُ مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ، مُتَآلِفَةً قُلُوبُهُمْ، عَائِدَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّتِهَا، وَبِكُلِيَّتِهَا كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَى.

* سَتْرُ الْمُسْلِمِ، وَوَحْدَةُ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ:

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ)) عَنْ مَكْحُولٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ، جَاءَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلى مِصْرَ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَوَّابِ كَلَامٌ، فَسَمِعَ مَسْلَمَةُ صَوْتَهُ مِنْ بَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَهُمَا: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلى مِصْرَ عَلى ظَهْرِ نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِهَا، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَوَّابِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، فَسَمِعَ مَسْلَمَةُ صَوْتَهُ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ، تَفَضَّلْ.

فَقَالَ: إِنِّي مَا جِئْتُكَ زَائِرًا؛ وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ مَعِي.

فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟

فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ عَلِمَ مِنْ أَخِيهِ سَيِّئَةً فَسَتَرَهَا، سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَلَى.

فَقَالَ: سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَفَلَ عُقْبَةُ رَاجِعًا إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ)).

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﷺ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَنَّهُ جَاءَ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ فِي مِصْرَ أَيْضًا، جَاءَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَنَادَى عَلَيْهِ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ أَنْزِلَ إِلَيْكَ، وَإِمَّا أَنْ تَصْعَدَ إِلَيَّ.

فَقَالَ: لَا تَنْزِلْ وَلَا أَصْعَدُ؛ وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لِحَدِيثٍ عِنْدَكَ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً».

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السِّتْرَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْزِي مَنْ يَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَيُعَاقِبُ الَّذِينَ يَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِ النَّاسِ بِفَضِيحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَسْتُرَنَا دُنْيَا وَآخِرَةً.

عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبَهُ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ يَنْفِي كَمَالَ الْإِيمَانِ عَنِ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِهِمْ، عَنِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا ظَنَّ السُّوءِ بِإِخْوَانِهِمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

وَمَفْهُومُ هَذَا النَّصِ، أَنَّ مَنْ فَضَحَ مُسْلِمًا، فَضَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَنَّ مَنْ هَتَكَ سِتْرَ مُسْلِمٍ، هَتَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سِتْرَهُ دُنْيَا وَآخِرَةً.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِبِنَاءِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي يَرْتَكِزُ عَلَيْهَا أَسَاسُ بُنْيَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

الرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ نُجَابِهَ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ، وَأَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَبُنْيَانُنَا وَحُصُونُنَا مُتَصَدِّعَةٌ مِنَ الدَّاخِلِ.

لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَكُونَ الْقَاعِدَةُ الدَاخِلِيَّةُ مُتَهَرِّئَةً، ثُمَّ تَحْتَمِلُ الْجَبْهَةُ الْخَارِجِيَّةُ مُجَابَهَةً، وَلَا مُجَالَدَةً، وَلَا صِدَامًا، وَلَا كِفَاحًا، وَلَا نِزَالًا، وَلَا مُعَارَكَةً، وَلَا مُهَارَشَةً، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ النَّبِيُّ ﷺ بِتَوْحِيدِ الصَّفِّ، وَيَأْمُرُ الرَّسُولُ ﷺ بِتَمَاسُكِ الْبُنْيَانِ.

* خُطُورَةُ الْهَجْرِ وَالْخِصَامِ عَلَى تَمَاسُكِ بُنْيَانِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ:

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا حَرَّمَ مِنْ أُمُورِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَجَعَلَ الْكَبَائِرَ بَارِزَاتٍ وَاضِحَاتٍ، جَعَلَ مِنْهَا هَذَا التَّدَابُرَ وَالتَّنَاحُرَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»، يَعْنِي: الَّذِي يُخَاصِمُ أَخَاهُ سَنَةً هُوَ فِي الذَّنْبِ وَالْوِزْرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَالَّذِي يَقْتُلُهُ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ».

النَّبِيُّ ﷺ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا النَّارَ، «فَمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ».

وَيُوَضِّحُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ هَذَا الْهَجْرَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ النِّزَاعَ وَالْخِلَافَ وَالْخِصَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فِي اللهِ -أَوْ قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ- فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا».

يَعْنِي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَحَبَّ أَخَاهُ فِي اللهِ، وَإِذَا وَدَّ أَخَاهُ فِي اللهِ، وَإِذَا أَحَبَّ أَخَاهُ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الْجَفْوَةُ بَعْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فَمَا هَذَا إِلَّا لِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ.

الرَّسُولُ ﷺ يُشَدِّدُ هَا هُنَا جِدًّا مِنْ هَذَا الْخِصَامِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يُرَخِّصْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)).

ثُمَّ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا نَفْسِيًّا يَعْتَرِي النَّاسَ عِنْدَمَا لَا يَكْسِرُونَ حِدَّةَ الْبَشَرِيَّةِ الْمُوغِلَةِ فِي الطِّينِيَّةِ فِيهِمْ، فَيَتَرَفَّعُ الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، عِنْدَمَا يَلْقَاهُ وَهُوَ لَهُ مُخَاصِمٌ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)).

النَّبِيُّ ﷺ يَرْعَى هَذَا الْجَانِبَ النَّفْسِيَّ فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ثُمَّ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَجَاءَ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ مُتَّسِقًا مَعَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا قِيدَ أُنْمُلَةٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ النَّاسُ عَلَى أَمْرِ الْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ رَبُّهُمْ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ أَمْرَ الْخِصَامِ قَدْ يَكُونُ مُتَفَشِّيًا، وَيَكُونُ مُتَأَصِّلًا فِي بَعْضِ الصُّدُورِ، مُتَغَلْغِلًا فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، فَمَا الْحَلُّ إِذَا عَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ؟

يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ، فَيَقُولُ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ -أَيْ: فَلْيُقَابِلْهُ- فَلْيُلْقِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَإِنْ أَجَابَهُ -يَعْنِي: فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ- وَإِلَّا فَقَدْ بَرِئَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ)).

فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثةٌ عَلَى مُتَخَاصِمَيْنِ، ثُمَّ لَقِيَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَخْرُجَ مِنَ الْهِجْرَةِ الْمَذْمُومَةِ -أَيْ: مِنْ هَجْرِهِ لِأَخِيهِ- إِلَّا أَنَّ الْآخَرَ قَدْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَقَادَهُ شَيْطَانُهُ إِلَى مَهَاوِي الضَّلَالِ وَالْعِنَادِ وَالزَّيْغِ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ أَخُوهُ فَيُلْقِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، إِنْ رَدَّ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ أَمْرِ الْهِجْرَةِ وَمِنْ أَمْرِ الْخِصَامِ، وَإِنْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَأَبَى إِلَّا الْخِصَامَ وَالْمُخَاصَمَةَ وَالْعِنَادَ وَالْمُعَانَدَةَ، فَإِنَّ الَّذِي سَلَّمَ -أَيْ: الْمُسَلِّمُ- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَرِئَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَا يُعَدُّ هَاجِرًا، وَبَاءَ الْآخَرُ بِالذَّنْبِ.


((أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ))

الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ هَذَا الْخِصَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّمُ الْهِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمُرُ بِالتَّوَاصُلِ وَبِالتَّوَادِّ، وَبِالتَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ يُضِيِّقُ الدَّائِرَةَ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ تَضْيِيقًا مِنْ بَعْدِ تَضْيِيقٍ، فَيُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْهَجْرِ هَذَا الْهَجْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.

فَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ بَيَّنَ فِيمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ أَرْحَامَهُمْ وَيَهْجُرُونَ إِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، هَؤُلَاءِ لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].

فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ -أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ- عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ وَأَصْحَابَ الْقُوَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِخَرَابِ الْعُمْرَانِ الْحَضَارِيِّ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَفْكَارِهِمْ وَمَفْهُومَاتِهِمْ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ؛ لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضِكُمُ الشَّخْصِيَّةِ وَمَصَالِحِكُمُ الدُّنْيَوِيَّةِ.

* نِدَاءُ اللهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ: اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا:

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! احْذَرُوا أَمْرَ رَبِّكُمْ أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، الَّذِي خَلَقَ السُّلَالَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا مُشْتَقَّةً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَخَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، وَنَشَرَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالتَّلَازُمِ رِجَالًا كَثِيرًا، وَنِسَاءً كَثِيرَاتٍ.

وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُهُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا فَلَا تَصِلُوهَا.

* صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21].

فَمِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مُنْقَطِعًا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ إِلَّا وَصَلُوهُ؛ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأُخُوَّةِ فِي اللهِ، وَصِلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَكُلِّ ذِي رُوحٍ.

* أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحَقِّ الرَّحِمِ:

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

وذَوُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ، فَأَحْكَامُ الْمُوَالَاةِ الْعَامَّةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ أَوْلَوِيَّةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَصْحَابُ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَمِنْهَا أَحْكَامُ التَّوَارُثِ.

* وَمِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْجَامِعِ: إِيتَاءُ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ مِنَ الْأَقَارِبِ:

قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177].

الْبِرُّ الْجَامِعُ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللهِ، وَالْمُؤَدِّيَةِ إِلَى جَنَّتِهِ بِرُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِمَرْتَبَةِ التَّقْوَى أَوَّلًا، وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.

* صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْحَسَنِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا:

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ:

* الْأَوَّلُ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ بِتَوْحِيدِهِ، وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ، وَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ؛ بِمَنْعِهَا مِمَّا فِيهَا هَلَاكُهَا وَفَسَادُهَا، وَالْعَدْلُ مَعَ الْخَلْقِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

* الثَّانِي: الْإِحْسَانُ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَعِبَادَتِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَمَعَ الْخَلْقِ؛ بِأَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَبِإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَإِكْمَالِهِ.

* الثَّالِثُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُمُ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ مِنْكَ، فَتُسْتَحَبُّ صِلَتُهُمْ بِمَا فَضُلَ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ إِيَّاهُ.


((أَمْرُ النَّبِيِّ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَتَرْغِيبُهُ فِيهَا))

* النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

وَالرَّحِمُ: الْمُرَادُ بِهَا مَنْ يَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ أَوِ الْأُمُومَةِ؛ فَكُلُّ قَرِيبٍ لِلشَّخْصِ يُعْتَبَرُ رَحِمًا لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ.

* وَالرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ:

1- عَامَّةٌ: وَهِيَ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

2- خَاصَّةٌ: وَهِيَ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِ الرَّحِمِ، وَتَزِيدُ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ، مَعَ تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ.

وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي «صِلَةِ الرَّحِمِ» هُوَ: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

* اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَصِلُ مَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ، وَيَقْطَعُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَنْ قَطَعَهَا؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وَالْحَدِيثُ «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

وَالْمَعْنَى: «قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، «وَاشْتَقَقْتُ»: أَيْ أَخْرَجْتُ وَأَخَذَتُ اسْمَهَا «مِنَ اسْمِي»: الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ، «فَمَنْ وَصَلَهَا»: رَاعَى حُقُوقَهَا «وَصَلْتُهُ»: رَاعَيْتُ حُقُوقَهُ وَوَفَّيْتُ ثَوَابَهُ، «وَمَنْ قَطَعَهَا»: وَمَنْ قَطَعَ الرَّحِمَ «قَطَعْتُهُ»: مِنْ رَحْمَتِي الْخَاصَّةِ.

«وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»: وَالْبَتُّ الْقَطْعُ، فَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ تَعْظِيمُ شَأْنِ الرَّحِمِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ وَصْلِهَا، وَعِظَمِ الْإِثْمِ بِقَطِيعَتِهَا.

* تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ:

أَخْبَرَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِهِ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا».

«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ»: مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالصِّهْرِيَّةِ، وَتَعَرَّفُوا أَسْمَاءَ أَقَارِبِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْكُمْ وَالْأَقَارِبَ.

وَكَمْ مِنْ رَحِمٍ مَقْطُوعَةٍ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ!

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُعْتَدَى عَلَيْهِ لَا يَحْسَبُ الْمَرْءُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ رَحِمًا! وَمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاعْتِدَاءُ؛ وَمَا صَارَ فِيهِ فِي غَلَوَائِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِالرَّحِمْ الَّتِي عِنْدَهُ.

فَيَقُولُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ، وَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَقَدْ صَحَّ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».

لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَحْفَظْ نَسَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ، وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَيْسَتْ عِنْدَ أُمَّةٍ سِوَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ أَنْسَابَهَا، وَيُمْكِنُ لِلْعَرَبِيِّ -إِنْ كَانَ وَاعِيًا مُتَتَبِّعًا- أَنْ يَرْجِعَ بِنَسَبِهِ إِلَى أَسْلَافِهِ وَأَجْدَادِهِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْعَرَبِ فَأَنْسَابُهُمْ مَقْطُوعَةٌ وَمُخْتَلِطَةٌ، وَلَا يَحُطُّ هَذَا مِنْ قَدْرِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَضَّلَهَا اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا أَيْضًا- يَأْمُرُنَا بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».

فَإِذَنْ؛ «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ».

«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ -أَيْ: مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ-؛ لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ -أَيْ: لَكَفَّهُ وَمَنَعَهُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِدَاخِلَةِ الرَّحِمِ- عَنِ انْتِهَاكِهِ -أَيْ: عَنْ نَقْضِهِ عَهْدَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الْعَرَبُ الْمُتَقَدِّمُونَ: «فَعَطَفَتْهُ عَلَيْهِ الرَّحِمُ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ:

الْحَثُّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْأَقَارِبِ؛ لِتَسْهِيلِ سُبُلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا حَقَّ الرَّحِمِ.

بَيَانُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فِي كَلَامِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِهِ» فَمَعْرِفَةُ الْأَنْسَابِ مَدْعَاةٌ لِصَلَةِ الْأَرْحَامِ.

فَالرَّحِمُ عَلَاقَةُ جَذْبٍ تُقَرِّبُ الْعَلَاقَةَ الْبَعِيدَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْقَرِيبُ يَكُونُ بَعِيدًا -إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ- وَالْبَعِيدُ تُقَرِّبُهُ الرَّحِمُ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا.

وَالرَّحِمُ تَنْطِقُ وَتَشْهَدُ لِلْوَاصِلِ، وَتَشْهَدُ وَتَنْطِقُ بِالْقَطِيعَةِ عَلَى الْقَاطِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَكَمَا خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُنْطِقُهَا!

وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّمَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَلَّمَتَاهُ، وَيُخْبِرُنَا اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: أَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ، وَتَنْطِقُ الْجُلُودُ وَالْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ، فَهِيَ تَنْطِقُ بِلِسَانٍ مُبِينٍ وَهِيَ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ.

بَلْ إِنَّ الْأَرْضَ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَنْطِقُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَتَأْتِي الرَّحِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ صَاحِبِهَا -إِنْ كَانَ وَاصِلًا- تَشْهَدُ لَهُ بِالصِّلَةِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَطِيعَةِ.


((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ))

* حَضَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنْ نَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا:

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ.

قَالَ ﷺ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ».

وَ«الْمَلَّ»: بِفَتْحِ الْمِيمِ الرَّمَادُ الْحَارُّ.

«تُسِفُّهُمُ»: تَطْرَحُ لَهُمْ كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلُ الرَّمَادِ الْحَارِّ مِنَ الْأَلَمِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى هَذَا الْمُحْسِنِ، بَلْ يَنَالُهُمُ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ وَإِدْخَالِهِمُ الْأَذَى عَلَيْهِ.

«وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ»: أَيْ: مُعِينٌ وَنَصِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِحْسَانِكَ وَإِسَاءَتِهِمْ.

الْأَصْلُ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ: الْإِحْسَانُ وَالصَّبْرُ وَطَلَبُ الْمَعَاذِيرِ، وَلَا يَكُونُ مُعَامَلَةَ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، هَذَا لَيْسَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.

وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ سَبَبُ عَوْنِ اللهِ، وَتَأْيِيدِهِ وَتَوفِيقِهِ: «وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ..»، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ أَلَمٌ وَعَذَابٌ فِي الدُّنْيَا «كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ» -وَهُوَ التُّرَابُ الْحَارُّ- وَسَبَبُ خِزْيٍ وَنَدَامَةٍ فِي الْآخِرَةِ.

فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَحْتَسِبَ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَغَيْرِهِمْ، فَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ، كَهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ» هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ وَإِنَّمَا هَذَا يَطْلُبُ مُقَابِلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّلَةُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَظِرَ مَعْرُوفًا مِنْ أَحَدٍ؛ أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ، قُلْ كَلِمَتَكَ وَامْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ، أَحْسِنْ وَلَا عَلَيْكَ مِنْ إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ؛ يَعْنِي: إِذَا ابْتُلِيتَ بِمُهَارِشٍ مُهَارِجٍ مُخَاصِمٍ مُعَانِدٍ فَأَنْتَ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيُسِيءُ إِلَيْكَ، فَلَقِيتَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمْتَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ- لَا يَضُرُّكَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْكَ وَالرَّدَّ عَلَيْهِ هُوَ لَا عَلَيْكَ، فَإِذَا لَمْ يَرُدَّ فَقَدْ ضَرَّ نَفْسَهُ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مُحَارِبٍ لِدِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَوَبَالُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَعَاقِبَةُ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ إِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ، وَحَاصِلَتُهَا رَاجِعَةٌ عَلَيْهِ.

فَالْإِنْسَانُ يُحْسِنُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ، كَمَا قَالَ هَذَا الصَّحَابِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، قَالَ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».

إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْقَطِيعَةَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

لَيْسَ الْوَاصِلُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بَلْ يُعْطِي مَنْ مَنَعَهُ مِنْ مَعْرُوفِهِ.

وَالْمُكَافِئُ: مَنْ يَصِلُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَأْخُذُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَصِلُ كَمَا يُوصَلُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِي كَمَا أَخَذَ.

فَهَذَا مُكَافِئٌ: مَنْ زَارَهُ زَارَهُ، ومَنْ أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ، ومَنْ بَرَّهُ بَرَّهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي تِلْكَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ الَّتِي يُحَصِّلُهَا وَاصِلُ الرَّحِمِ.

قَوْلُهُ ﷺ: «الْوَاصِلُ»: «الْ» لِلْجنْسِ، فَالْمُكَافِئُ لَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ وَاصِلِ الرَّحِمِ وَإِنَّمَا هَذَا مُكَافِئٌ.

فَإِذَنْ؛ وَاصِلُ الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي يَصِلُ مَا قُطِعَ مِنْهُ، لَا الَّذِي يُكَافِئُ عَلَى الْوَصْلِ يُوصَلُ هُوَ بِهِ وَإِنَّمَا تُقْطَعُ رَحِمُهُ فَيَصِلُهَا هُوَ، فَهَذَا هُوَ وَاصِلُ الرَّحِمِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَأَ فِي صِلَةِ أَرْحَامِه وَيَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يُقَابِلُوا صَنِيعَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْوَصْلِ.

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ، فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَوامِرِ اللهِ وَأَوَامِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَثَوَابًا مِنْ أَحَدٍ، كَلَّفَهُ اللهُ وأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ فَهُوَ يَصِلُهَا.

كَمَا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، وَأُعْطِيهِمْ وَيَحْرِمُونَنِي، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.

لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَإِنَّمَا الْوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا.

قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَظْفَارَ حِقْدِهِ* * * بِحِلْمِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حِلْمُ

يُحَاوِلُ رَغْمِي لَا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ* * وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أَنْ يَحِلَّ بِهِ الرُّغْمُ

وَيَشْتُمُ عِرْضِي في الْمُغَيَّبِ جَاهِدا* * وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ

إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي* * قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ

فَمَا زِلْتُ فِي لِينِي لَهُ وَتَوَدُّدِي* * عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى الْوَلَدِ الأُمُّ

لأَسْتَلَّ مِنْهُ الضِّغْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ * وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ بِهِ الْحِلْمُ

فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْطَعَ الْخَيْرَ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، أَوْ عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْلِصُ حَقًّا.


((فَضَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ))

لِصِلَةِ الرَّحِمِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ وَمِنْهَا:

* أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي زِيَادَةِ الرِّزْقِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

وَمَعْنَى: «أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ»: أَيْ: أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، «وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ»: أَيْ: يُؤَخَّرُ لَهُ فِي أَجَلِهِ وَعُمُرِهِ؛ يَعْنِي بِهِ: الزِّيَادَةَ فِي الْعُمُرِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، نَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْوَاصِلِينَ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنَ الْقَاطِعِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْبَرَرَةِ الْبَارِّينَ.

«يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ»: الْأَثَرُ: بَقِيَّةُ الْعُمُرِ، وَسُمِّيَ أَثَرًا؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمُرَ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مَشْيِهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ حَرَكَةٌ فَلَا يَبْقَى لِقَدَمِهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَثَرٍ.

الْإِنْسَانُ رُبَّمَا اسْتَشْكَلَ فَقَالَ:

كَيْفَ يُدْعَى بِطُولِ الْعُمُرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُمُرَ ثَابِتٌ لَا يَزِيدُ، وَلَا يَنْقُصُ؟!

جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَجَلًا، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ، وَجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَجَلًا، وَهَذَا الْأَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِأَسْبَابٍ يَأْخُذُ بِهَا الْعَبْدُ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ عِنْدَ رَبِّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- وَكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ.

وَلَكِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ لِذَلِكَ أَسْبَابًا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَقِيًّا وَيَكُونُ سَعِيدًا، وَذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ -وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا- مِنْ غَيْرِ مَا جَبَرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَلَا آخِذًا بِأْسَبَابِ الشَّقَاوَةِ، بَلْ يُيَسِّرُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِهَذَا وَهَذَا، وَإِذَا أَخَذَ فِي أَحَدِهِمَا وَمَضَى فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى نَتِيجَتِهِ.

فَصِلَةُ الْأَرْحَامِ سَبَبٌ لِبَسْطِ الرِّزْقِ وَسَعَتِهِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَزِيَادَتُهُ بِالطَّاعَةِ وَنُقْصَانُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَكَذَلِكَ الْعُمُرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ فَهَذَا لَا يُنَافِي مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْآثَارِ الْمَوقُوفَةِ أَنَّ الدُّعَاءَ يُطِيلُ الْعُمُرَ.

* وَفِي «الْمُسْنَدِ» وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ». الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

وَكُلُّ ذَلِكَ -أَيْ: مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ فِي الْمُنْتَهَى- مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَا يَتَعَدَّاهُ أَحَدٌ بِحَالٍ.

* اللهُ لَا يُخْزِي وَاصِلَ الرَّحِمِ، وَلَا يُصِيبُهُ بِشَرٍّ:

عَنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ)).

قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِِعَ السُّوءِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ.

فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ)).

إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.

* وَصِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ فِي حُبِّ الْأَهْلِ:

فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «مَنِ اتَّقَى رَبَّهُ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، نُسِئَ فِي أَجَلِهِ، وَثَرَى مَالُهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُهُ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الصِّلَةِ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا مُجَامَلَةَ النَّاسِ، بَلْ تَقْوَى اللهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَصَلَ أَهْلَهُ، أَيْ: قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ فَفَازَ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْهَا الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، فَيَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ مَكْفِيًّا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ.

وَبَارَكَ اللهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَفِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّهُ أَهْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاصِلِينَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْوَاصِلِينَ بِالْأَقْدَامِ وَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِفْسَارِ عَنِ الْأَحْوَالِ، وَمُشَارَكَتِهِمْ فَرَحَهُمْ وَحُزْنَهُمْ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا فِي أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسِيَهُمْ، وَلَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَلَا تَرَكَهُمْ، وَإِنَّمَا وَصَلَ؛ احْتِسَابًا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجَاءً لِهَذَا الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَخَوْفًا مِنَ الْقَطِيعَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عُقُوبَاتٌ عَاجِلَةٌ وَعُقُوبَاتٌ آجِلَةٌ، وَكَفَى بِهَذِهِ النُّصُوصِ تَرْغِيبًا فِي الصِّلَةِ، وَتَرْهِيبًا مِنَ الْقَطِيعَةِ.

عِبَادَ اللهِ! تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ الْمُمَزَّقَةَ، وَارْفَعُوا الْخُصُومَاتِ، وَعُودُوا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ كُلَّ الْعَبْدِ الَّذِي يَذِلُّ لِكِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَيَقُولُ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَأَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأَمَّا الَّذِي يَرُدُّ أَمْرَ اللهِ وَيَرُدُّ أَمْرَ نَبِيِّهِ ﷺ فَلَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ، ((لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).


((الْحَثُّ على بِرِّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الأَرْحَامِ))

* الْأَوْلَى مِنْكَ بِالْجَمِيلِ وَالْمَعْرُوفِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ:

فَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

* بِرُّ الْمُسْلِمِ بِوَالِدَيْهِ، وَصِلَتُهُ بِهِمْ أَوْلَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ:

هَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ أَوْلَى الْقَرَابَةِ مِنْكَ بِالْجَمِيلِ وَإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ الْأَبَوَانِ، وَالْأُمُّ أَكْثَرُ؛ لِمَا تَحَمَّلَتْ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَصَاعِبِ الَّتِي وَاجَهَتْهَا، مِنْ حِينِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى عَلَقَةٍ، إِلَى مُضْغَةٍ، إِلَى أَنْ يَكُونَ جَنِينًا، فَتَحْمِلُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبًا، فَتَضَعُ وَتُقَاسِي مِنْ أَلَمِ الْوَضْعِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَدَى الْعُقَلَاءِ، ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الرَّضَاعَةِ فِي حَوْلَيْنِ، ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْحَضَانَةِ فِي عِدَّةِ سَنَوَاتٍ، وَهَكَذَا تَبْقَى الْأُمُّ مُتَعَلِّقَةً بِابْنِهَا وَإِنْ كَبُرَ سِنُّهُ.

إِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا!! بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا!! وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبٍ خَاطِرٍ.

فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).

وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ؛ فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ)). وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.

فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «ثُمَّ يُوصِيكُمْ -اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-- بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ»؛ أَيْ: كَذَلِكَ يَنْتَقِلُ الْبِرُّ إِلَى أَقْرَبِ شَخْصٍ كَالْبِرِّ بِالْأَبْنَاءِ، ثُمَّ الْبِرِّ بِالْإِخْوَةِ، ثُمَّ بِالْأَعْمَامِ، وَالْبِرِّ بِالْأَخْوَالِ؛ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَهَكَذَا يَمْتَدُّ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ إِلَى كُلِّ مَنْ تَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ، وَيَتَّفِقُونَ مَعَكَ فِي النَّسَبِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.

* بِرُّ الْمُسْلِمِ بِزَوْجِهِ، وَأَوْلَادِهِ:

* إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

* وَإِطْعَامُكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ: فَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ.


((وَسَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ))

وَالصِّلَةُ لِلرَّحِمِ تَكُونُ:

* بِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ: وَذَلِكَ عِنْدَ قُدْرَةِ الْوَاصِلِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَحَاجَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى التَّعْلِيمِ، وَهُوَ خَيْرُ مَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ بِهِ رَحِمَهُ؛ أَيْ: قَرَابَتَهُ.

* وَصْلُهُ بِالْمَالِ: عِنْدَ الْقُدْرَةِ مِنَ الْوَاصِلِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ مِنَ الْمَوْصُولِ.

* وَصْلُهُ بِالْأَقْدَامِ، وَبِالْمُخَاطَبَاتِ وَالْمُكَاتَبَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ بِالْأَقْدَامِ، لَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ بِالْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ، كَالْهَاتِفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ رَحِمَهُ، وَيَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ فِي الْوُصُولِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.

وَهَذِهِ الصِّلَةُ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْمُبَارَكَةِ تُقَابِلُهَا الْقَطِيعَةُ، فَالصِّلَةُ مِنَ الْبِرِّ، وَالْقَطِيعَةُ مِنَ الْإِثْمِ، فَلْيُحَاوِلِ الْإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ وَاصِلًا لِأَقَارِبِهِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ، طَالَمَا هُوَ يَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ، وَهُمْ كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَرْحَامٌ أَوْجَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صِلَتَهُمْ، وَنَهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، وَعَدَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ[محمد: 22 - 23].

قَدْ يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَرْحَامِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَإِذَا وَاجَهَ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ، وَالِاسْتِمْرَارِ فِي الصِّلَةِ وَعَدَمِ الْقَطِيعَةِ، وَيَنْسَى حُظُوظَ النَّفْسِ؛ حَتَّى يُغَيِّرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْأَحْوَالَ، مِنْ حَالِ الْقَطِيعَةِ إِلَى حَالِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ.

* وَمِنْ مَعَانِي صِلَةِ الرَّحِمِ: إِنْذَارُ الْأَقَارِبِ مِنَ النَّارِ، وَحَثُّهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تَنْفَعُ الْقَرَابَةُ وَالنَّسَبُ فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[الشعراء: ٢١٤]، قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَنَادَى: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهُمَا بِبِلَالِهَا». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ فِي «الصَّحِيحِ».

* وَمِنْ مَعَانِي صِلَةِ الرَّحِمِ: رَدُّ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي شَاعَتْ بَيْنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ: أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَكُونُ شَفِيعًا وَخَيْرَ وَسِيلَةٍ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَبِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ نَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ، فَالْحَدِيثُ يَرُدُّ ذَلِكَ.


((عُقُوبَاتٌ شَدِيدَةٌ لِقَاطِعِ الرَّحِمِ))

إِنَّ الْقَطِيعَةَ لِلرَّحِمِ أَمْرُهَا عَظِيمٌ وَإِثْمُهَا كَبِيرٌ، وَالصِّلَةُ فَضْلُهَا كَبِيرٌ وَأَجْرُهَا عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

* مِنْ عُقُوبَاتِ قَطْعِ الرَّحِمِ: أَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ:

فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ سُلَيْمَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا» فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ثَلَاثًا، فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، مَا جَاءَ بِكَ؟

قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.

قَالَتِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ: لِمَ قَالَ ذَاكَ؟

قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

«فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا»: أَيْ: هَجَرَهَا وَقَطَعَ حَبْلَ وِصَالِهَا وَتَرَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْهِجْرَانِ؟

قَوْلُهُ ﷺ: «تُعْرَضُ»: مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقْرَأُ الصُّحُفَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَرَّجَ -أَيْ: أَوْقَعَ فِي الضِّيقِ وَالْإِثْمِ- عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

* وَمِنَ الْعُقُوبَاتِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ:

أَخْبَرَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَأْوِيلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ قَطْعَ الرَّحِمِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا فَهَذَا كَافِرٌ مُرْتَدٌ. فَهَذَا تَأْوِيلٌ، وَهَذَا يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ.

الثَّانِي: لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ أَوَّلَ الْأَمْرِ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَانٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عَدَمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يُحْمَلُ تَارَةً عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطِيعَةَ َهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ- وَأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ.

* عُقُوبَةُ قَاطِعِ الرَّحِمِ فِي الدُّنْيَا:

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

«أَحْرَى»؛ أَيْ: أَجْدَرُ وَأَوْلَى.

«مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»؛ أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.

وَاشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَيَانِ إِثْمَيْنِ عَظِيمَيْنِ، هُمَا:

* قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِثْمِهِ وَحُكْمِهِ.

* وَالْبَغْيُ، الَّذِي هُوَ ظُلْمُ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ دَمِهِ.

وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ عَدَمُ صِلَتِهَا كَمَا مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ.

فَالْقَاطِعُ وَالْبَاغِي يَجْمَعُ اللهُ لَهُمَا بَيْنَ عُقُوبَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِخَطَرِ مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الذَّنْبِ، فَمَنْ قَطَعَ أَرْحَامَهُ وَبَغَى عَلَى النَّاسِ بِدُونِ حَقٍّ وَبِدُونِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبَهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَكُلُّ هَذَا فِيهِ تَرْهِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبَغْيِ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ حَقٍّ، بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَدِّي؛ إِمَّا بِالْوُقُوعِ فِي الْعِرْضِ؛ كَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ، وَإِمَّا بِسَفْكِ الدَّمِ كَالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ، وَإِمَّا بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْغِشِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْغِشِّ فِي الْعَمَلِ الْوَظِيفِيِّ، كُلُّ هَذَا يُعْتَبَرُ بَغْيًا، أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ عَلَى شَخْصٍ فَيُظْلَمُ، كُلُّ هَذَا مِنَ الْبَغْيِ.

وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاطِعَ وَالْبَاغِيَ عَلَى الْغَيْرِ عُقُوبَتُهُمَا مُعَجَّلَةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبَغْيِ الْمُشِينِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَذَابِ الْمُهِينِ.

 ((آثَارُ التَّفْرِيطِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

* مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ يَتَبَيَّنُ:

أَنَّنَا نُفَرِّطُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُصُولِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْخَبْطِ وَالْخَلْطِ وَالتَّعَثُّرِ إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبٍ لَا نَدْرِيهَا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ، وَقَامَ فِي قُلُوبِهِمُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَّا مَنْ وَصَلَهُ، وَأَنْ مَنْ قَطَعَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْدَأَهُ بِإِحْسَانِهِ، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ بذَلِكَ مِمَّنْ يَصِلُ الرَّحِمَ، فَإِذَا رُوجِعَ يَقُولُ: أَنَا أَصِلُهُ وَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ الزِّيَارَةَ إِلِيَّ، وَأَنَا أُعْطِيهِ وَهُوَ يَحْرِمُنِي، فَحِينَئِذٍ انْقَطَعْتُ عَنْهُ.

هَذَا كَمَا تَرَى إِنَّمَا يُرِيدُ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يُرِيدُ الصِّلَةَ؛ لِأَنَّهُ «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».

وَهَذِهِ الصِّلَةُ لِلْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا أَثِمَ، بَلْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، بَلْ أَتَتْهُ الْعُقُوبَةُ سَرِيعةً فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ فِي الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ».

وَهُوَ سَبَبٌ لِعَدَمِ نُزُولِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْجَدْبِ وَالْمَصَائِبِ بِالْأُمَّةِ، إِذَا تَفَشَّتْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، فَهَذَا كُلُّهُ -كَمَا تَرَى- مِنَ الْأُصُولِ الْجَلِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

* قَدْ يَحْسَبُ الْمَرْءُ أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَهُوَ مُسِيءٌ؛ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُحْسِنٌ عِنْدَمَا يَنْظُرُ إِلَى الْأُمُورِ بِالنَّظْرَةِ الَّتِي لَا تَمُتُّ إِلَى الشَّرْعِ بِصِلَةٍ، فَيُدْخِلُ عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَيَحْسَبُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ هِيَ الْمُكَافَأَةُ، وَأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ ذَا رَحِمٍ فَلَمْ يَصِلْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ هَذَا رَجُلٌ مُكَافِئٌ، هَذَا يُرِيدُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا.

الْوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

* أَيْضًا: نُفَرِّطُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ بِتَتَبُّعِ الْقَرَابَاتِ، وَأَنْ نَحْفَظَ الْأَنْسَابَ، وَأَنْ نَبْحَثَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي وَصْلِ تِلْكَ الْأَرْحَامِ الَّتِي قُطِّعَتْ.

وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْأَصْهَارُ أَيْضًا؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْفُرُوعِ، وَتَكُونُ فِي الْأُصُولِ، وَتَكُونُ فِي الصِّهْرِيَّةِ أَيْضًا، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِوَصْلِهِ، فَقَطَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَيُرِيدُونَ -مَعَ ذَلِكَ- أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُوَفَّقًا فِي الْحَيَاةِ: فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ تَحْصِيلِ رِزْقٍ، أَوْ عَافِيَةٍ بِبَدَنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُهُ، وَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

فَإِذَا ضُيِّقَ عَلَى الْإِنْسَانِ في الرِّزْقِ فَلْيَتَتَبَّعْ أَرْحَامَهُ بِالصِّلَةِ يُوَسِّعِ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، بَلْ وَيَنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.


((آثَارُ صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

* وَمِنَ الْآثَارِ الْحَمِيدَةِ لِصِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ.

وَأَنَّ مَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ؛ وَصَلَهُ اللهُ -يَعْنِي: رَاعَى حُقُوقَهُ وَوَفَّاهُ ثَوَابَهُ.

وَأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ.

وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِبَسْطِ الرِّزْقِ وَسَعَتِهِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُصِيبُ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ بِشَرٍّ، وَلَا يُخْزِيهِ أَبَدًا كَمَا فِي قَوْلِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَوَصَلَ أَهْلَهُ، أَيْ: قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ فَازَ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْهَا: الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، فَيَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ مَكْفِيًّا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ.

وَمنها: بَارَكَ اللهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَفِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّهُ أَهْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاصِلِينَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، كَمَا مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ.

* صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ فِي سَعَادَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَتَمَاسُكِ بُنْيَانِهِ:

عِبَادَ اللهِ!! بِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ.

فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.

وَقَدْ قِيلَ: اصْبِرْ وَصَابِرْ تُدْرِكِ الْمَكَارِمَ.


 

((نِدَاءٌ إِلَى أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ: صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَتَحَابُّوا!))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِتَمَاسُكِ الصُّفُوفِ...

الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ التَّدَابُرَ، وَيُحَرِّمُ التَّقَاطُعَ، وَيُحَرِّمُ التَّشَاجُرَ...

النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ...

وَيَأْمُرُنَا النَّبِيُّ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ الْأَمَسِّ الْأَقْرَبِ، فَيَأْمُرُ النَّبِيُّ ﷺ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَيَنْهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْعُقُوقِ.

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا عِظَمَ حَقِّ الْأُمِّ عَلَى الْعَبْدِ...

عِبَادَ اللهِ! كَمْ مِنْ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ نَتَوَرَّطُ فِيهَا تَوَرُّطًا وَنَقْتَحِمُهَا اقْتِحَامًا، ثُمَّ نَرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَى السَّمَاءِ طَالِبِينَ النَّصْرَ مِنَ اللهِ، وَأَيْدِينَا مُلَوَّثَةٌ بِمَعَاصِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّصْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا شَائِبَةٌ، إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ قَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].

فَمَنْ نَصَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ نَصَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَنَصْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

أَمَّا إِذَا مَا خَذَلْنَا دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَانَدْنَا سُنَّةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَشَاقَقْنَا رَسُولَهُ الْأَمِينَ، ثُمَّ طَلَبْنَا النَّصْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحِيلُ بِعَيْنِهِ!!

وَلَيُسَلِّطَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْحَمُنَا حَتَّى نَعُودَ إِلَى دِينِنَا.

فَعُودُوا إِلَى اللهِ عَوْدًا حَمِيدًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِنَوَاصِيكُمْ -وَهُوَ بِهَا آخِذٌ-، فَيُقِيمُكُمْ قَهْرًا عَلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ مَعَ مَا يَمَسُّكُمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ.

عُودُوا إِلَى اللهِ عَوْدًا حَمِيدًا، تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ، وَبِرُّوا أُمَّهَاتِكُمْ، وَدَعُوا الشِّجَارَ وَالْخِصَامَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِكُمْ.

آتُوا أَصْحَابَ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وَرُدُّوا إِلَى مَنْ ظَلَمْتُمُوهُمْ مَا ظَلَمْتُمُوهُمْ إِيَّاهُ.

تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَعُودُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ.

عِنْدَئِذٍ، وَعِنْدَ صِدْقِ النِّيَّةِ مَعَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يُسَلِّطُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تَسْتَقِيمُ الْمَوَازِينُ فِي دُنْيَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، لَا يَخَافُونَ كَلَامَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ أَفْعَالَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ أَعْرَافَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مُوَاضَعَاتِ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مَوَازِينَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمِيزَانٍ، وَلَا قِيمَةَ لِعُرْفٍ، وَلَا قِيمَةَ لِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ يُحَادُّ مَنْهَجَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبَالِي، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَّا إِلَى مَا أَثْبَتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مِنْهَاجِهِ الْمُسْتَقِيمِ.

{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}: يُيَمِّمُونَ صَوْبَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لَا يَلْتَفِتُونَ، وَإِنَّمَا إِلَى أَمَامِ أَمَامِ، لَا يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، لَا يُعَوِّلُونَ عَلَى شَيْءٍ، أَقْدَامُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ ثَابِتَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ بِالْحَقِّ مَوْصُولَةٌ، وَأَلْسِنَتُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذَاكِرَةٌ، فَأَعْضَاؤُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَامِدَةٌ، وَحَيَاتُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَصْرُوفَةٌ، وَأَمْوَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنْفَقَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِسَاقِ الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَنَّونَ الشَّهَادَةَ مُصْبِحِينَ وَمُمْسِينَ، ((وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بُلِّغَهَا وَلَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)) كَمَا قَالَ الْكَرِيمُ ﷺ.

تُوبُوا إِلَى اللهِ -عِبَادَ اللهِ- وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَارْجِعُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَنْصُرَنَا نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَأَنْ يَكْبِتَ أَعْدَاءَنَا بِقُدْرَتِهِ وَحَوْلِهِ وَطَوْلِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.


لَوْ أَخَذْنَا بِتَعَالِيمِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخْلَاقِهِ لَاسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ

النَّبِيُّ ﷺ يُرْشِدُنَا إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ التَّعَالِيمِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْضَبِطَ الْعَلَاقَاتُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَتَّى نَخْرُجَ -إِذَا مَا أَخَذْنَا بِهَا- مِنْ هَذِهِ الْحَيْرَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَمِنْ هَذَا الْجُلْمُودِ الأَصَمِّ مِنَ الْهَمِّ؛ حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَعُودَ بَشَرًا أَسْوِيَاءَ كَمَا خَلَقَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَحَتَّى تَعُودَ الْعَلَاقَاتُ السَّوِيَّةُ بَيْنَنَا كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيْنَنَا، الْعَلَاقَاتُ السَّوِيَّةُ عَلَى مُقْتَضَى الْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَالْمَوَدَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا خَيرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

«مِنْ دَرْسِ: السَّعْيُ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْآخَرِينَ».

فَاللَّهُمَّ خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَرُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا.

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا.

اللَّهُمَّ ارْفَعِ الْخِصَامَ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ ارْفَعِ الْهِجْرَانَ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْهُمْ إِخْوَةً مُتَحَابِّينَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَصِلُونَ الْأَرْحَامَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صِلَةَ الْأَرْحَامِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمعِينَ.

 

المصدر:حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  رَمَضَانُ شَهْرُ الِانْتِصَارَاتِ وَقَضِيَّةُ فِلَسْطِينَ قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ
  الرد على الملحدين:دليل العناية، وبيان ما يتعلق بهداية بعض الحيوان
  إلى أهل السودان الشقيق
  وا خوفاه على مصر !!
  التَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ فِي الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  بل انتصر الإسلام على السيف
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 2
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  فَضَائِلُ الْعَشْرِ وَمَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان