مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى))

فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} [طه: 1-3].

((أَيْ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْوَحْيِ، وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْكَ، وَشَرْعِ الشَّرِيعَةِ، لِتَشْقَى بِذَلِكَ، وَيَكُونُ فِي الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفٌ يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَتَعْجِزُ عَنْهُ قُوَى الْعَامِلِينَ، وَإِنَّمَا الْوَحْيُ وَالْقُرْآنُ وَالشَّرْعُ شَرَعَهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ، وَجَعَلَهُ مُوصِلًا لِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ، وَسَهَّلَهُ غَايَةَ التَّسْهِيلِ، وَيَسَّرَ كُلَّ طُرُقِهِ وَأَبْوَابِهِ، وَجَعَلَهُ غِذَاءً لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَرَاحَةً لِلْأَبْدَانِ، فَتَلَقَّتْهُ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَالْعُقُولُ الْمُسْتَقِيمَةُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ؛ لِعِلْمِهَا بِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

{إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}: إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ؛ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا الْعِبَادَ؛ لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ)).

لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ اجْتِهَادَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعِبَادَةِ؛ قَالُوا: مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ -يَا مُحَمَّدُ- إِلَّا لِشَقَائِكَ، فَنَزَلَتْ: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ} أَيْ: لِتُعَنَّى وَتَتَعْبَ -وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْعَنَاءُ-.

{إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}: لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ عِظَةً لِمَنْ يَخْشَى.

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ وَهُدًى وَنُورٌ))

((لَقَدْ وَصَفَ اللهُ كِتَابَهُ بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ عَظِيمَةٍ تَنْطَبِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، وَتَدُلُّ أَكْبَرَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْفُنُونِ الْمُرْشِدَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَصَفَهُ بِالْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَالْفُرْقَانِ، وَأَنَّهُ مُبِينٌ وَتِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى، وَيَهْدِي الْخَلْقَ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى كُلِّ طَرِيقٍ نَافِعٍ، وَيُفَرِّقُ لَهُمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَبَيْنَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِذِكْرِ أَوْصَافِ الْفَرِيقَيْنِ.

وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِذِكْرِ أَدِلَّتِهَا النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ عَنْهَا شَيْءٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَقَيَّدَ هِدَايَتَهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِعِدَّةِ قُيُودٍ: قَيَّدَ هِدَايَتَهُ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَيَتَفَكَّرُونَ، وَلِمَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ -تَعَالَى- لِشَرْطِ هِدَايَتِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَعَامِلًا، فَلَا بُدَّ لِهِدَايَتِهِ مِنْ عَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ وَتَدَبُّرٍ لِآيَاتِهِ؛ فَالْمُعْرِضُ الَّذِي لَا يَتَفَكَّرُ وَلَا يَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَمَنْ لَيْسَ قَصْدُهُ الْحَقَّ، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الرَّشَادِ، بَلْ قَصْدُهُ فَاسِدٌ، وَقَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، لَيْسَ لَهُ مِنْ هِدَايَتِهِ نَصِيبٌ؛ فَالْأَوَّلُ حُرِمَ هِدَايَتَهُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي لِوُجُودِ الْمَانِعِ؛ فَأَمَّا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهِ، وَتَدَبَّرَهَا بِحُسْنِ فَهْمٍ، وَحُسْنِ قَصْدٍ، وَسَلِمَ مِنَ الْهَوَى؛ فَإِنَّهُ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَيَنَالُ بِهِ كُلَّ غَايَةٍ جَلِيلَةٍ وَمَرْغُوبٍ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ، وَهِيَ الْخَيْرُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ اهْتِدَاءً بِهِ؛ فَلَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ؛ وَذَلِكَ لِبَيَانِهِ وَتَوْضِيحِهِ الْعُلُومَ النَّافِعَةَ، وَالْمَعَانِيَ الْكَامِلَةَ، وَأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ جَمِيعِ الظُّلُمَاتِ -ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَالْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي، وَالشَّقَاءِ- إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَالْيَقِينِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ، وَالرَّشَادِ الْمُتَنَوِّعِ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ؛ فَالْقُرْآنُ يُوَضِّحُ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ وَيُشَخِّصُهَا، وَيُرْشِدُ الْعِبَادَ إِلَى كُلِّ وَسِيلَةٍ يَحْصُلُ بِهَا زَوَالُهَا وَشِفَاؤُهَا، فَيَذْكُرُ لَهُمْ أَمْرَاضَ الْجَهْلِ وَالشُّكُوكِ وَالْحَيْرَةِ، وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى قَلْعِهَا بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْيَقِينِ الصَّادِقِ، وَسُلُوكِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الْمُزِيلَةِ لِهَذِهِ الْعِلَلِ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ أَمْرَاضَ الشَّهَوَاتِ وَالْغَيِّ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْبَابَهَا وَعَلَامَاتِهَا وَآثَارَهَا الضَّارَّةَ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ مَا بِهِ تُعَالَجُ؛ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالتَّذَكُّرِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْأُمُورِ، وَتَرْجِيحِ مَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، وَكُلَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْحُسْنِ، وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ، مُحْكَمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

فَأَمَّا وَصْفُهُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّهُ كُلَّهُ مُحْكَمٌ؛ فَلِبَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ التَّامِّ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى غَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي تَنْزِيلِ الْأُمُورِ مَنَازِلَهَا، وَوَضْعِهَا مَوَاضِعَهَا، وَأَنَّهُ مُتَّفِقٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

وَأَمَّا حُسْنُهُ؛ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ التَّامِّ لِجَمِيعِ الْحَقَائِقِ، وَلِأَنَّهُ بَيَّنَ أَحْسَنَ الْمَعَانِي النَّافِعَةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، فَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَآثَارُهَا أَحْسَنُ الْآثَارِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُثَنَّاةِ فِي الْقُرْآنِ يَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ؛ فَالْمُتَشَابِهَاتُ هِيَ الَّتِي يَقَعُ الْإِشْكَالُ فِي دَلَالَتِهَا؛ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْعِبَارَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَأَمَرَ اللهُ بِرَدِّهَا إِلَى الْمُحْكَمَاتِ الْوَاضِحَةِ، بَيِّنَةِ الْمَعَانِي، الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُرَادِ؛ فَإِذَا رُدَّتِ الْمُتَشَابِهَاتُ إِلَى الْمُحْكَمَاتِ؛ صَارَتْ كُلُّهَا مُحْكَمَاتٍ، وَزَالَ الشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ، وَحَصَلَ الْبَيَانُ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاحٌ، وَيَهْدِي إِلَى الْإِصْلَاحِ، وَإِلَى أَقْوَمِ الْأُمُورِ وَأَرْشَدِهَا، وَأَنْفَعِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ دُونِ اسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ الْمُحِيطُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ إِصْلَاحٌ لِلْعَقَائِدِ وَالْقُلُوبِ، وَلِلْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَهْدِي إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ؛ بِحَيْثُ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ، وَتَعْتَدِلُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُتَنَوِّعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالْإِرْشَادِ إِلَى كُلِّ وَسِيلَةٍ نَافِعَةٍ تُؤَدِّي إِلَى الْمَقَاصِدِ وَالْغَايَاتِ الْمَطْلُوبَةِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَّا بِسُلُوكِ الطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَحَثَّ الْعِبَادَ عَلَيْهَا.

إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ كِتَابُ تَعْلِيمٍ يُزِيلُ الْجَهَالَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ، وَكِتَابُ تَرْبِيَةٍ يُقَوِّمُ الْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ، فَهُوَ يُعَلِّمُ، وَيُقَوِّمُ، وَيُهَذِّبُ، وَيُؤَدِّبُ بِأَعْلَى مَا يَكُونُ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِلْحُكَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ أَنْ يَقْتَرِحُوا مِثْلَهَا، وَلَا مَا يُقَارِبُهَا)).

((مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ التَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ المُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ.

إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.

وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.

وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ، مِنْ قَوَاعِدِهَا:

* رَفْعُ الْحَرَجِ.

* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.

* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.

* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.

((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((التَّيْسِيرُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجٌ وَحَيَاةٌ))

إِنَّ التَّيْسِيرَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ وَنَبَوِيٌّ، وَحَيَاةٌ قَائِمَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا تَوَافَرَتْ لَدَيْهَا شُرُوطُ التَّكْلِيفِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي إِمْكَانِهَا وَحُدُودِ اسْتِطَاعَتِهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا ضِيقٍ، بِحَيْثُ لَا تَسْتَطِيعُ الْأَمْرَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَجَهْدٍ.

فَعَلَى مِقْدَارِ الْهِبَةِ تَكُونُ دَرَجَةُ التَّكْلِيفِ وَالْمَسْئُولِيَّةِ، وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ مَسْئُولِيَّاتِ الْمُكَلَّفِينَ بِحَسَبِ هِبَاتِ اللهِ لَهُمْ؛ لِتَحْقِيقِ كَمَالِ الْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ التَّسْهِيلَ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].

يُرِيدُ اللهُ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكُمْ فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ؛ إِحْسَانًا وَتَفَضُّلًا مِنْهُ.

وَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَلَّا يَقْنُطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ, عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَمِّلُوا فِي رَوْحِ اللهِ، وَأَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ وَسِيعِ رَحْمَتِهِ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِوَسِيعِ كَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَيَحْثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَلَّا يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ.

فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.

{لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا، وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا، وَلَا سَبِيلٌ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ.

وَلَكِنِ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: أَيْ وَصْفُهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا أَبَدًا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسِحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ.

وَلَكِنْ لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا، بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ؛ الْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ، وَالتَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَجَلِّ، وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ.

وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِا، فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بِقُلُوبِكُمْ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بِجَوَارِحِكُمْ.

إِذَا أُفْرِدَتِ الْإِنَابَةُ دَخَلَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْمَعْنَى كَمَا مَرَّ.

وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ شَيْئًا.

{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ} مَجِيئًا لَا يُدْفَعُ، {ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ الْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَمَا جُزْئِيَّاتُهَا وَأَعْمَالُهَا؟

فَأَجَابَ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} مِمَّا أَمَرَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ؛ كَمَحَبَّةِ اللهِ، وَخَشْيَتِهِ، وَخَوْفِهِ، وَرَجَائِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَمَحْبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَتَرْكِ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا.

فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُنِيبُ الْمُسْلِمُ، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].

وَكُلُّ هَذَا حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ)).

((وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].

فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي)).

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).

((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((مَبْنَى الْعِبَادَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى التَّيْسِيرِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ ((اللَّهَ -تَعَالَى- يُرِيدُ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْكُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضْوَانِهِ أَعْظَمَ تَيْسِيرٍ، وَيُسَهِّلُهَا أَشَدَّ تَسْهِيلٍ، وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ فِي أَصْلِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الْمُوجِبَةِ لِثِقْلِهِ سَهَّلَهُ تَسْهِيلًا آخَرَ؛ إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهَا جَمِيعُ الشَّرْعِيَّاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ)).

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

قَالَ أَحَدُهُمْ: ((أَمَّا أَنَا؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا)).

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

* مِنْ مَظَاهِرِ التَّيْسِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ: التَّيْسِيرُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَاءِ؛ فَشَرَعَ اللهُ لِلْأُمَّةِ التَّيَمُّمَ، ((وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ: ((يَا فُلَانُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟)).

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ.

فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيِدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ».

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟

قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ! فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ.

قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ».

فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».

التَّيَمُّمُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.. اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْحَرَجَ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ وَأُمَّتِهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَالْمُسْلِمُونَ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ؛ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَكَرَمًا وَامْتِنَانًا؛ أَنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ كَانَ لَا يُطَهِّرُهُمْ إِلَّا الْمَاءُ، هَذِهِ الْأُمَّةُ جُعِلَ التُّرَابُ -لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ- طَهُورًا، وَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ فَاقِدًا لَهُ حُكْمًا؛ كَأَنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ بَلْ يَعْجِزُ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرَرٍ يُصِيبُهُ، فَهُوَ فَاقِدٌ الْمَاءَ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -امْتِنَانًا مِنْهُ وَرَحْمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ- التُّرَابَ حِينَ فَقْدِ الْمَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، جَعَلَهُ طَهُورًا.

وَمِنْ مَظَاهِرِ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوِ الْجَوْرَبَيْنِ:

الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالْجَوْرَبَيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ، وَاللَّفَائِفِ، وَالتَّسَاخِينِ؛ مِنَ الرُّخَصِ الدَّالَّةِ عَلَى يُسْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهَا -وَلِلهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ-.

وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ تُؤْتَى، وَمِنْ تَسْهِيلَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ.

عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ ﷺ: ((دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ))، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الشَّرِيعَةِ: فَرْضُ الصَّلَوَاتِ خَمْسًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، رَاجَعَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَسْأَلَ اللهَ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ؛ قَالَ ﷺ: ((فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟

قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ؛ وَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.

قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((قَالَ اللهُ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ)).

لَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ بَعْضَ الرُّخَصِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ، مِنْ تِلْكَ الرُّخَصِ: إِبَاحَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ -فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ الَّتِي يَجِدُ فِيهَا الْمُسْلِمُ الْمَشَقَّةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ-، أُبِيحَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَبَيْنَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا.

وَبَابَ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ مِنْ أَبْوَابِ فِقْهِ الصَّلَاةِ الْمُهِمَّةِ، وَقَدْ خَفَّفَ الشَّارِعُ عَنْهُمْ -أَيْ عَنْ أَهْلِ الْأَعَذْارِ-، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُصَلُّوا حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَهَذَا مِنْ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَسَمَاحَتِهَا، وَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).

هَذَا كُلُّهُ مِنْ سَمَاحَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيُسْرِهَا، وَهُوَ فَضْلُ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِئَلَّا يَجْعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ تَيْسِيرِ الشَّرِيعَةِ فِي الْعِبَادَاتِ: التَّيْسِيرُ فِي تَشْرِيعِ الصَّوْمِ وَأَحْكَامِهِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183-184].

((فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا أَيَّامًا مُقَدَّرَاتٍ قَلِيلَاتٍ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْكُمْ صِيَامًا شَاقًّا مُضْنِيًا، يَأْخُذُ قِسْطًا كَبِيرًا مِنْ عُمُرِكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَتَى بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ أَوِ انْقَطَعَ مِنْ سَفَرِهِ صِيَامُ أَيَّامٍ بِعَدَدِ مَا أَفْطَرَ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ.

وَعَلَى الَّذِينَ يَتَكَلَّفُونَ الصِّيَامَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ -كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ السِّنِّ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ- فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ، وَهِيَ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ أَوْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.

وَصِيَامُكُمْ -لَوْ تَحَمَّلْتُمْ فِي الصِّيَامِ مَشَقَّةً كَبِيرَةً غَيْرَ ضَارَّةٍ بِصِحَّتِكُمْ- صِيَامُكُمْ حِينَئِذٍ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللهُ لَكُمْ مِنْ أَجْرٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِلصَّائِمِينَ)).

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

وَقْتُ صِيَامِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا خِلَالَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْوَقَائِعِ.

وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ هُدًى لِلنَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَطَرِيقِ نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَهَذَا الْهُدَى جَاءَ فِي آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ كَاشِفَاتٍ وَجْهَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ، وَهَذَا الْهُدَى فَارِقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَقَعَ فِي الِالْتِبَاسِ، وَتَدَاخَلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَقَارِبَاتُ.

فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مُقِيمًا فَأَدْرَكَهُ الشَّهْرُ بِظُهُورِ هِلَالِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ فَلْيَصُمْ فِي أَيَّامِهِ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ فِي النَّفْسِ أَوْ زِيَادَةِ عِلَّةٍ وَاشْتِدَادِ وَجَعٍ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا سَفَرًا مُبَاحًا مَسَافَةَ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَيُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.

يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ التَّسْهِيلَ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَمِنْهَا الصَّوْمُ، وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ مُرَادَهُ فَأَنْزَلَ أَحْكَامَ التَّيْسِيرِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَشَرَعَ لَكُمْ فَرِيضَةَ الصِّيَامِ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ أَيَّامِ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا تَنْقُصُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَلِتُكْمِلُوا -أَيْضًا- عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرْتُمْ فِيهَا بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ وَلِتُعَظِّمُوهُ فِي نُفُوسِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَوَفَقَّكُمْ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَا مَنَحَكُمْ مِنْ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَلِكَيْ تُقَدِّمُوا بِالصِّيَامِ -الَّذِي تَصُومُونَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا- بَعْضَ الشُّكْرِ لَهُ -تَعَالَى- عَلَى جَلَائِلِ نِعَمِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ -لِمَرَضٍ أَوْ عَارِضٍ أَلَمَّ- أَنْ يَصُومَ، وَالْمَرَضُ مَرَضَانِ: مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَمَرَضٌ عَارِضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ فَإِذَا أَلَمَّ مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ -أَيْ: لَا يُرْجَى كَشْفُهُ وَذَهَابُهُ وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ مِنْهُ- فَهَذَا يُفْطِرُ الْمَرْءُ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَكَانَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا كَبِرَ يُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ جَمَعَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ وَجْبَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ.

وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.

وَيُحَصِّلُ هُوَ بِنِيَّتِهِ ثَوَابَ صِيَامِهِ؛ إِذْ قَطَعَهُ عَنْهُ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَهُ عِبَادَةٌ فَقَطَعَهُ عَنْهَا مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ؛ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

مَنْ كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ.. مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ وَتِلَاوَةٌ بِالنَّهَارِ.. مَنْ كَانَ لَهُ صِيَامٌ وَقِيَامٌ، وَصِلَةُ رَحِمٍ، وَسَعْيٌ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ لِلْإِصْلَاحِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصُوَرِهِ؛ فَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ لَا يُدْفَعُ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ؛ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.

فَالْمَرَضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُطْعَمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ مِسْكِينٌ وَجْبَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ الْمَرْءُ أَهْلَهُ.

وَأَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَهَذَا يُقْضَى عِنْدَ الشِّفَاءِ مِنْهُ.

* وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا مَعَالِمُ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ: عِبَادَةُ الْحَجِّ؛ فِفِي يَوْمِ الْعِيدِ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ لِلنَّاسِ يُعَلِّمُهُمْ وَقَدْ بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا وَمُنْذِرًا وَبَشِيرًا ﷺ، مَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: ((افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، افْعَلْ وَلَا حَرَجَ)).

لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَيَسْعَى الْمُتَمَتِّعُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ إِذَا كَانَ أَخَّرَ السَّعْيَ فَلَمْ يُلْحِقْهُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَيَسْعَى حِينَئِذٍ أَيْضًا.

طَافَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَظَلَّ هُنَالِكَ إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ، وَسُنَّتُهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ﷺ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَكِنْ لَوْ تَدَافَعَ الْحَجِيجُ كُلُّهُمْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ.

وَلِذَلِكَ نَبِيُّكُمْ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ لَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ: ((وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ))، وَلَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ ﷺ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ قَالَ: ((وَقَفْتُ هَاهُنَا وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُعَسِّرْ عَلَيْنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ إِنْ أَخَذْنَا بِسُنَّتِهِ وَلَمْ نَتَجَاوَزْ، وَلَمْ نَقَعْ دُونَهَا، وَجَدْنَا الْيُسْرَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا الْعُسْرُ حَيْثُ ظَنَّ النَّاسُ الْيُسْرَ مُخَالِفِينَ شَرْعَ اللهِ وَهَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((الصَّلَاةُ بَيْنَ التَّخْفِيفِ وَضَرُورَةِ الْإِتْمَامِ))

إِنَّ مِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ التَّيْسِيرِ فِي شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ: أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بِتَخْفِيفِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلَكِنْ بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِحَقِّ الْعِبَادَةِ فِي صِحَّتِهَا أَوْ كَمَالِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  ﷺ  قَالَ: ((إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: ((ذَا الْحَاجَةِ))، وَعِنْدَهُ ((الْكَبِير)).

وفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  فَقَالَ: ((إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا)).

قَالَ: ((فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ)).

فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ سِوَى ((الصَّغِير))، فَإِنَّهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظ: ((الضَّعِيف)).

يُخْبِرُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَرَ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِمَامًا أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ، وَلَا يَتَجَاوَزَ الْمَشْرُوعَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى مَنْ وَرَاءَهُ؛ فَإِنَّ وَرَاءَهُ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، وَالْمَرِيضَ، وَصَاحِبَ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُحْتَاجُونَ إِلَى التَّخْفِيفِ، أَمَّا مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ فِي الصَّلَاةِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَى أَحَدٍ بِذَلِكَ.

فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: يُخْبِرُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَشْكُو إِمَامَهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ بِهِمْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ هَذَا الرَّجُلُ الشَّاكِي عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِ تَطْوِيلِ إِمَامِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ لِذَلِكَ، وَوَعَظَ النَّاسَ مَوْعِظَةً مَا رَآهُ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنَفِّرُونَ عِبَادَ اللهِ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ.

ثُمَّ أَمَرَ مَنْ كَانَ إِمَامًا فِي النَّاسِ أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ، فَلَا يَتَجَاوَزُ الْمَشْرُوعَ فِي الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ كَبِيرَ السِّنِّ، وَضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، وَصَاحِبَ الْحَاجَةِ.

فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ:

- وُجُوبُ تَخْفِيفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِتْمَامِ، وَغَضَبُهُ ﷺ عَلَى الْمُثْقِلِينَ، وَعَدُّهُ هَذَا مِنَ الْفِتْنَةِ.

- وَجَوَازُ تَطْوِيلِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ مَا شَاءَ، وَقُيِّدَ بِأَلَّا يَخْرُجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ ذَلِكَ كَيْ لَا تَصْطَدِمَ مَصْلَحَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ كَمَالِ الصَّلَاةِ مَعَ مَفْسَدَةِ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا.

- فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ مُرَاعَاةِ الْعَاجِزِينَ وَأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمَأْمُومِينَ يَنْحَصِرُ، وَآثَرُوا هُمُ التَّطْوِيلَ.

وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَ الْخَيْرِ، وَيُحَبِّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّأْلِيفِ وَمِنَ الدِّعَايَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.

- فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي مُرَاعَاةُ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَمِنْ مُرَاعَاتِهِمْ: أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي فِي وَقْتٍ رَاتِبٍ، فَلَا يَتَقَدَّمُ عَنْ عَادَتِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ؛ إِمَّا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ وَسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: ((إِنَّهُ مُنَافِقٌ)).

فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَنَحْوَهَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُؤَسَّسُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا: دَعْوَتُهُ لِكَيْ يَبْنِيَ مُجْتَمَعًا  مُكَوَّنًا مِنْ عَنَاصِرَ مُخْتَلِفَةٍ تُكَوِّنُ مُجْتَمَعًا شَامِخًا وَصَرْحًا مَتِينًا يَسْتَعْصِي عَلَى قُوَّةِ التَّفْرِقَةِ وَالتَّبْدِيدِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ: التَّأْلِيفُ، وَالتَّيْسِيرُ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَعْسِيرٌ فِي أُمُورِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى تَكُونَ فِي نَظَرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ صَعْبَةً بَعِيدَةً عَنْ مُتَنَاوَلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الدِّينِ.

إِلَّا أَنَّ التَّأْلِيفَ لَا يَجُوزُ أَوْ يُسْتَحَبُّ إِلَّا بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِحَقِّ الْعِبَادَةِ فِي صِحَّتِهَا أَوْ كَمَالِهَا، أَمَّا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ التَّطْوِيلُ عَنِ الْوَقْتِ.

مَعْرِفَةُ التَّخْفِيفِ الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ مِنَ الصُّعُوبَةِ يَنْتَابُهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ؛ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ ثَقِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ قَوْمٍ، خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ آخَرِينَ.

إِذَا نَظَرْتَ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ غَضِبَ عَلَى مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ التَّطْوِيلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقِرَاءَةُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ؛ لَا سِيَّمَا إِذَا قَرَنْتَهُ بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي وَصَفَتْهَا السُّنَّةُ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِئَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَانَ يَقُومُ فِي الظُّهْرِ بِقَدْرِ مَا يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ  بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ -يَعْنِي: الْأَعْرَافَ-، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بـ ((الْمُؤْمِنُون))، وَفِي الْمَغْرِبِ أَيْضًا بـ: ((الطُّور)) ((وَالْمُرْسَلَات))، وَفِي الظُّهْرِ أَيْضًا بـ ((لُقْمَان)) وَ((السَّجْدَة))، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَعِنْدَمَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَالِ الصَّحَابَةِ وَحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ تَعْرِفُ أَنَّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ تَخْفِيفًا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ الْيَوْمَ تَطْوِيلًا.

فَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، فَيُطَوِّلُ تَطْوِيلًا لَا يَخْرُجُ إِلَى حَدِّ التَّنْفِيرِ تَارَاتٍ، وَيُخَفِّفُ تَخْفِيفًا لَا يَخْرُجُ إِلَى حَدِّ الْإِخْلَالِ بِحَقِّ الصَّلَاةِ تَارَاتٍ، وَيُغَلِّبُ جَانِبَ التَّخْفِيفِ عَلَى جَانِبِ التَّطْوِيلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَمَشِّيًا طَوْعَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْوَقْتُ وَتُمْلِيهَا الْمُنَاسَبَاتُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَحْوَالِ الْمَأْمُومِينَ.

الْخَلَلُ وَاقِعٌ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَرَضِ عَلَى أَنَّهُ مَرَضٌ وَاقِعٌ، النَّاسُ لَا يَقْدُرُونَ الصَّلَاةَ قَدْرَهَا، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدُرُونَ كِتَابَ اللهِ قَدْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّطْوِيلِ فِي الْجُمْلَةِ فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَتَسْمَعُ مِنْ هَذَا وَفِي هَذَا الْعَجَبَ، وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي يُسْرِعُ فِيهَا وَيُخَفِّفُ الْإِمَامُ تَخْفِيفًا يُخِلُّ بِالصَّلَاةِ؛ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَطْمَئِنَّ فِي صَلَاتِهِ، لَا فِي رُكُوعِهِ وَلَا سُجُودِهِ، نَاهِيكَ عَمَّا يَأْتِي بِهِ حَالَ قِيَامِهِ.

الصَّلَاةُ لَا تُقْدَرُ  بِقَدْرِهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّ، وَهِيَ أَرْكَنُ وَأَثْبَتُ وَأَسْمَى وَأَعْظَمُ مَا فِي هَذَا الدِّينِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ، وَإِيمَانُ الْمَرْءِ عَلَى قَدْرِ صَلَاتِهِ، وَحَالُهُ عِنْدَ اللهِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فِي صَلَاتِهِ.

((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ...)): فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَحْرِيمُ مَشَقَّةِ الْإِمَامِ بِالْمَأْمُومِينَ، وَاسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِحَاجَاتِهِمْ.

كَمَا قُلْتُ: الْمَرَضُ وَاقِعٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّلَطُّفِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرَفُّقِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَدُّدِ؛ فَمَاذَا تَصْنَعُ؟! وَإِلَّا نَفَرُوا مِنَ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِهِ -أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ إِلَى الْحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا-.

فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْمُسْتَحَبَّاتِ؛ مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِحَاجَاتِهِمْ، فَتَرْكُ  تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ مَعَ اسْتِحْبَابِهِ مِنْ أَجْلِ مُرَاعَاةِ حَالِ الضَّعِيفِ وَالسَّقِيمِ وَذِي الْحَاجَةِ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ.

قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّطْوِيلِ وَالتَّخْفِيفِ: أَحْوَالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَصَلَاةُ النَّبِيِّ ﷺ مُعْتَدِلَةٌ، وَلَا تُسَمَّى طَوِيلَةً.

هَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي اعْتِبَارِ التَّطْوِيلِ وَالتَّخْفِيفِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إِلَى أَعْرَافِ النَّاسِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ حُكِمَ بِأَنَّهُ طَوِيلٌ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اتِّبَاعُ مَنْهَجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْإِسْلَامِ:

الْوَسَطِيَّةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَالْبُعْدُ عَنِ الْغُلُوِّ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ، وَالاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي وَصَّانَا اللهُ -تَعَالَى- بِاتِّبَاعِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الجَائِرَةِ.

لَكِنَّ الجَوْرَ قَدْ يَكُونُ جَوْرًا عَظِيمًا عَنِ الصِّرَاطِ، وَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا كَالطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ السَّالِكَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجُورُ جَوْرًا فَاحِشًا، وَقَدْ يَجُورُ دُونَ ذَلِكَ.

فَالْمِيزَانُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالجَوْرِ عَنْهُ: هُوَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ.

وَالجَائِرُ عَنْهُ إِمَّا مُفَرِّطٌ ظَالِمٌ، أَوْ مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ، أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ، كَمَا أَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ الْمِلَلِ، وَلَمْ يُصِبِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مُتَوَرِّطٌ فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْهُمَا.

قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الْغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

قَالَ: ((ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ..

وَسَطًا فِي الأَنْبِيَاءِ: بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ كَالنَّصَارَى، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ كَاليَهُودِ، بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.

وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ: لَا تَشْدِيدَاتِ اليَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.

وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ: لَا كَالْيَهُودِ الَّذِين لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ ودَرَجَ.

بَلْ طَهَارَتُهُمْ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ.

فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا، وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهُمْ، فَلِهَذَا كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا}، كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ.

لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ)).

* وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ؛ ((فَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا: كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْي.

وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ: كَقِيامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).

فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْعَجِيبِ أَنَّهُ يَشَامُّ النَّفْسَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّ القُوَّتَيْنِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا: أَقُوَّةُ الْإِقْدَامِ، أَمْ قُوَّةُ الِانْكِفَافِ وَالْإِحْجَامِ وَالْمَهَانَةِ، وَقَدْ وَقَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا أَقَلَّ القَلِيلِ فِي هَذَيْنِ الْوَادِيَيْنِ: وَادِي التَّقْصِيرِ، وَوَادِي الْمُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي.

وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ جِدًّا الثَّابِتُ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ الْوَسَطُ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْفَرْقُ بَيْنَ الِاقْتِصَادِ وَالتَّقْصِيرِ: أَنَّ الِاقْتِصَادَ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَهُ طَرَفَانِ هُمَا ضِدَّانِ لَهُ، وَهُمَا تَقْصِيرٌ وَمُجَاوَزَةٌ.

فَالْمُقْتَصِدُ قَدْ أَخَذَ بِالْوَسَطِ وَعَدَلَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [االأعراف:31].

وَالدِّينُ كُلُّهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ، بَلِ الْإِسْلَامُ قَصْدٌ بَيْنَ الْمِلَلِ، وَالسُّنَّةُ قَصْدٌ بَيْنَ الْبِدَعِ، وَدِينُ اللهِ قَصْدٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، وَالْغُلُوُّ: مُجَاوَزَتُهُ وَتَعَدِّيهِ.

وَمَا أَمَرَ اللهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: فَإِمَّا إِلَى غُلُوٍّ وَمُجَاوَزَةٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ.. وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ كَانَ وَسَطًا عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ يَسِيرُ.

وَالْغُلُوُّ وَالْمُجَاوَزَةُ، وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ، آفَتَانِ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ إِلَّا مَنْ مَشَى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَرَكَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، لَا مَنْ تَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِأَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ وَمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!

وَهَذَانِ الْمَرَضَانِ الْخَطِرَانِ قَدِ اسْتَوْلَيَا عَلَى أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ؛ وَلِهَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْهُمَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَخَوَّفُوا مَنْ بُلِيَ بِأَحَدِهِمَا بِالْهَلَاكِ.

وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، يَكُونُ مُقَصِّرًا مُفَرِّطًا فِي بَعْضِ دِينِهِ، غَالِيًا مُتَجَاوِزًا فِي بَعْضِهِ، وَالمَهْدِيُّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).

فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ، الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ.

وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى.

وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.

وَالْحَيَاةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ -مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْوَحْي الْمَعْصُومِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ الْبُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.

فَلَا تُفَرِّطْ وَلَا تُفْرِطْ وَكُنْ وَسَطًا = وَمِثْلَ مَا أَمَرَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَقِمِ

سَدِّدْ وَقَارِبْ وَأَبْشِرْ وَاسْتَعِنْ بِغُدُوٍّ = وَالرَّوَاحِ وَأَدْلِجْ قَاصِدًا وَدُمِ

فَمِثْلَ مَا خَانَتِ الْكَسْلَانَ هِمَّتُهُ = فَطَالَمَا حُرِمَ الْمُنْبَتُّ بِالسَّأَمِ

((الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ سَبِيلَا التَّطَرُّفِ وَالتَّشَدُّدِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْجَهْلَ بِدِينِ اللهِ -خَاصَّةً بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْوَاجِبِ تَعَلُّمُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا-، وَالْكِبْرَ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ أَكْبَرِ سُبُلِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ رَبِّهِ، وَفِي الْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِيهِ الْهِدَايَةُ وَالِاهْتِدَاءُ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ فِيهِ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَمَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ=مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ

فَمِنْ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَالِانْحِرَافِ عَنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ: الْجَهْلُ، الْجَهْلُ بَمَعَانِي وَدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ عُلَمَاءِ وَجَهَابِذَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ الْخَوَارِجَ، وَوَصَفَ عِبَادَتَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، فَلَا يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَيَفْقَهُونَهُ، فَيَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.

وَوَاقِعُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يَفْرِضُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ فِيهِ بِدِقَّةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ وَأَنَاةٍ.

إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ تَتَوَرَّطُ فِي أُمُورٍ مِنْ أُمُورِ مُخَالَفَاتِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي تُنْذِرُ بِأَسْوَأِ الْمَآلَاتِ فِي الْآخِرَةِ!

إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَكَادُ تُحَقِّقُ مِنَ الْعَقِيدَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْجُوَ بِدِينِهِ وَعِرْضِهِ سَالِمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الْمَعَابَةِ وَالتَّأْثِيمِ، وَالْوُلُوغِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَتَّى مِنْ مُسْلِمٍ صَحِيحِ الِاعْتِقَادِ!

إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَا زَالَتْ تَطْلُبُ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اللهِ، لَا مِنَ الْأَحْيَاءِ، بَلْ مِنَ الْأَمْوَاتِ!

إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَا تَزَالُ جَاهِلَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَسْمَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ مَنْ يَقُولُ مُعْتَقِدًا بِيَقِينٍ: إِنَّ اللهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ!! يُرِيدُ: بِذَاتِهِ!

مَا أَكْثَرَ مَا يَتَوَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ فِي مُخَالَفَةِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ!

إِنَّ الْجَمَاهِيرَ الَّتِي هِيَ كَالْقُطْعَانِ الشَّارِدَةِ تَؤُمُّ الرِّمَمَ الْبَالِيَةَ، تَقْصِدُهَا بِالطَّلَبِ، وَتَسْتَغِيثُ عِنْدَهَا بِمَا لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إِلَّا بِاللهِ، وَمَا أَكْثَرَ الْخُرُوقَاتِ الَّتِي تَعْتَرِضُ وَتَلْحَقُ بِنَسِيجِ الْعَقِيدَةِ، حَتَّى صَارَ مُتَهَرِّئًا لَا يَكَادُ يَقُومُ، وَلَا يَكَادُ يَقِفُ عِنْدَهُ الْبَصَرُ لَا يَنْزَلِقُ عَلَيْهِ!

تَنْقِيَةُ الْعَقِيدَةِ مِنَ الْغَبَشِ، وَمِمَّا لَحِقَ بِهَا عَلَى مَرِّ الْقُرُونِ وَتَطَاوُلِ السِّنِينَ أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ الدَّاعِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْخِنْصَرَ عِنْدَ بَدْئِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-.

هَذَا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ؛ يُلَخِّصُونَ الدَّعْوَةَ فِي كَلِمَتَيْنِ: فِي التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ.

تَأَمَّلْ! إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يَنْفِي عَنِ الْعُقُولِ خُرَافَاتِهَا، وَعَنِ الْقُلُوبِ شَعْوَذَاتِهَا، وَيَنْفِي عَنِ الْجَوَارِحِ خَطَأَهَا، وَيُقِيمُ الْأَبْدَانَ وَالْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَنْفُسَ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، مِنْ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ قَالَ الصَّحَابَةُ، هَذَا هُوَ الْعِلْمُ.

مِنْ أَسْبَابِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: تَصَدُّرُ الْجُهَّالِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَوَعْظِهِمْ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَانْظُرْ حَوْلَكَ وَاسْمَعْ تُوقِنْ وَتَقْنَعْ.

هَذَا النَّصُّ الَّذِي ذَكَرَهُ نَبِيُّنَا يَتَنَاوَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَيَانِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: «اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَدِ اجْتَهَدُوا أَنْ يُدْخِلُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ شَيْئًا مِنْ بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِذَبِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَدَفْعِ الْبَاطِلِ، حَتَّى ظَفِرُوا بِقَوْمٍ فِي آخِرِ الْوَقْتِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِلْعِلْمِ، وَلَا عِلْمَ لَهُ، وَلَا فَهْمَ لَهُ، وَيَسْتَنْكِفُ وَيَتَكَبَّرُ أَنْ يَتَفَهَّمَ وَأَنْ يَتَعَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُتَصَدِّرًا مُعَلِّمًا -بِزَعْمِهِ-، فَيَرَى بِجَهْلِهِ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَارًا وَغَضَاضَةً، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَبَبًا إِلَى ضَلَالِهِ وَضَلَالِ جَمَاعَتِهِ مِنَ الْأُمَّةِ ((حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ: «لَا شَيْءَ أَوْجَبُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلرِّيَاسَةِ فِي الْعِلْمِ؛ فَمِنَ الْإِخْلَالِ بِهَا يَنْتَشِرُ الشَّرُّ، وَيَكْثُرُ الْأَشْرَارُ، وَيَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ التَّظَاهُرُ وَالتَّنَافُرُ، وَلَمَّا تَرَشَّحَ قَوْمٌ لِلزَّعَامَةِ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَحْدَثُوا بِجَهْلِهِمْ بِدَعًا اسْتَغْنَوْا بِهَا عَامَّةً، وَاسْتَجْلَبُوا بِهَا مَنْفَعَةً وَرِيَاسَةً، فَوَجَدُوا مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعَدَةً بِمُشَارَكَةٍ لَهُمْ، وَقُرْبِ جَوْهَرِهِمْ مِنْهُمْ.

وَفَتَحَوُا بِذَلِكَ طُرُقًا مُنْسَدَّةً، وَرَفَعُوا بِهِ سُتُورًا مُسْبَلَةً، وَطَلَبُوا مَنْزِلَةَ الْخَاصَّةِ، فَوَصَلُوهَا بِالْوَقَاحَةِ، وَبِمَا فِيهِمْ مِنَ الشَّرَهِ، فَبَدَّعُوا الْعُلَمَاءَ، وَجَهَّلُوهُمُ اغْتِصَابًا لِسُلْطَانِهِمْ، وَمُنَازَعَةً لِمَكَانِهِمْ، فَأَغْرَوْا بِهِمْ أَتْبَاعَهُمْ؛ حَتَّى وَطَئُوهُمْ بِأَظْلَافِهِمْ وَأَخْفَافِهِمْ، فَتَوَلَّدَ بِذَلِكَ الْبَوَارُ وَالْجَوْرُ الْعَامُّ وَالْعَارُ».

تَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ، وَانْظُرْ فِي حَالِ النَّاسِ حَوْلَكَ.

«مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مَا حَلَّ؛ مِنِ انْحِرَافِ بَعْضِ الشَّبَابِ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَظُهُورِ بَوَادِرِ الْفِتَنِ، وَتَجَرُّؤِ الصِّغَارِ عَلَى كِبَارِ الْأَئِمَّةِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ مَعَ مَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمَوَاقِعِ الْمَصْلَحَةِ؛ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مَا حَلَّ مِنْ هَذَا إِلَّا لِاخْتِلَالِ الْمِيزَانِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ الْعُلَمَاءُ، وَارْتِقَاءِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ إِلَى مَصَافِّ الْكِبَارِ زُورًا وَظُلْمًا وَبُهْتَانًا، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى!!».

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٍ سُؤَّالُهُ، كَثِيرٍ مُعْطُوهُ». هَذَا حَالٌ.

وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَائِدًا لِلْهَوَى، «وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْهَوَى فِيهِ قَائِدٌ لِلْعَمَلِ؛ اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ الْعَمَلِ». أَخْرَجَ مَالِكٌ هَذَا الْأَثَرَ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِذْكَارِ»: «هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ حِسَانٍ مُتَوَاتِرَةٍ».

قَالَ: «وَالْعِيَانُ يَعْنِي: الْمُشَاهَدَةَ- فِي هَذَا الزَّمَانِ أَيْ: فِي زَمَانِهِ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْهِجْرِيِّ؛ فَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ 463هـ- عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَالْبُرْهَانِ».

يَقُولُ: «لَقَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ». فَكَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الْمُشَاهَدَةِ كَالْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ فَمَا نَقُولُ فِي زَمَانِنَا؟!

قَالَ رَسُولُ اللهِ : «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قَالُوا: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى: «الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

وَفِي بَعْضِهَا: «مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».

وَعَلَيْهِ؛ فَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْفَشَلِ الذَّرِيعِ؛ فَهَذَا اجْتِهَادُ أَقْوَامٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.

لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِمَآلَاتِ الْأَحْوَالِ.

لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِهَذَا الْوَاقِعِ الْمَنْظُورِ الْمُشَاهَدِ؛ وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَهُ.

وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَهُ.

وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ.

وَإِنَّمَا لَا يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ إِلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ: مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، فَالطِّفْلُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ، وَالْحَيَوَانُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ أَوْ لَا يَتَعَلَّمُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ.

مِنْ أَسْبَابِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالْكِبْرُ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: 43].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 50].

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلرَّسُولِ، وَذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَوًى، وَالْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ: إِمَّا اتِّبَاعُ الرَّسُولِ ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رَآهُ قَبِيحًا تَرَكَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ».

«إِذَا حَكَمَ الْهَوَى؛ اسْتُغْلِقَ الْعَقْلُ، وَسُدَّتْ مَنَافِذُ التَّفْكِيرِ، فَلَا نَظَرَ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَا إِلَى الدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ؛ لِأَنَّ الْهَوَى يَرُدُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ»، فَيُصْبِحُ الْمَرْءُ أَسِيرًا لِسُلْطَانِ الْهَوَى، تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الدُّرُوبُ، وَتُظْلِمُ فِي طَرِيقِهِ سُبُلُ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ.

مِنْ مَوَانِعِ قَبُولِ الْحَقِّ: الْحَسَدُ أَوِ الْكِبْرُ؛ فَهَذَا مَانِعٌ قَائِمٌ فِي الْقَلْبِ، يَمْنَعُ نَفَاذَ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَلْبِ لِتُبَدِّدَ أَنْوَارُ الْحَقِّ ظُلْمَتَهُ، وَهُوَ: إِمَّا حَسَدٌ أَوْ كِبْرٌ، وَذَلِكَ مَانِعُ إِبْلِيسَ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ، وَهُوَ دَاءُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ-، وَبِهِ تَخَلَّفَ الْإِيمَانُ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَعَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ، وَاتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ.

وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَبِهِ تَخَلَّفَ الْإِيمَانُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرْتَابُونَ فِي صِدْقِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ؛ لَكِنْ حَمَلَهُمُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ عَلَى الْكُفْرِ.

وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْكِبْرِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- قَارُونَ وَمَا أُوتِيَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَالُوا: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ رَغَّبَ -تَعَالَى- فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ بِالسَّبَبِ الْمُوصِلِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كُتُبِهِ، وَأَخْبَرَتْ بِهَا رُسُلُهُ، الَّتِي قَدْ جَمَعَتْ كُلَّ نَعِيمٍ، وَانْدَفَعَ عَنْهَا كُلُّ مُكَدِّرٍ وَمُنَغِّصٍ، {نَجْعَلُهَا} دَارًا وَقَرَارًا {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ إِرَادَةٌ؛ فَكَيْفَ الْعَمَلُ لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْحَقِّ؟! {وَلا فَسَادًا}: وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، فَإِذَا كَانُوا لَا إِرَادَةَ لَهُمْ فِي الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَا الْفَسَادِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ إِرَادَتُهُمْ مَصْرُوفَةً إِلَى اللَّهِ، وَقَصْدُهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَحَالُهُمُ التَّوَاضُعَ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.

وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْعَاقِبَةُ} أَيْ: حَالَةُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَمِرُّ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ -تَعَالَى-، وَغَيْرُهُمْ -وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ بَعْضُ الظُّهُورِ وَالرَّاحَةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطُولُ وَقْتُهُ، وَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ.

وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْفَسَادَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، وَلَا لَهُمْ مِنْهَا نَصِيبٌ)).

وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].

(({وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أَيْ: كِبْرًا وَتِيهًا وَبَطَرًا، مُتَكَبِّرًا عَلَى الْحَقِّ، وَمُتَعَاظِمًا عَلَى الْخَلْقِ؛ {إِنَّكَ} فِي فِعْلِكَ ذَلِكَ {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} فِي تَكَبُّرِكَ، بَلْ تَكُونُ حَقِيرًا عِنْدَ اللهِ، وَمُحْتَقَرًا عِنْدَ الْخَلْقِ، مَبْغُوضًا مَمْقُوتًا، قَدِ اكْتَسَبْتَ أَشَرَّ الْأَخْلَاقِ، وَاكْتَسَيْتَ أَرْذَلَهَا مِنْ غَيْرِ إِدْرَاكٍ لِبَعْضِ مَا تَرُومُ)).

وقال تَعَالَى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

(({وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أَيْ: لَا تُمِلْهُ وَتَعْبَسْ بِوَجْهِكَ النَّاسَ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَتَعَاظُمًا.

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أَيْ: بَطَرًا؛ فَخْرًا بِالنِّعَمِ، نَاسِيًا الْمُنْعِمَ، مُعْجَبًا بِنَفْسِكَ؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} فِي نَفْسِهِ وَهَيْئَتِهِ وَتَعَاظُمِهِ {فَخُورٍ} بِقَوْلِهِ)).

وَكَمَا حَذَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْكِبْرِ فِي كِتَابِهِ حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ، وَرَهَّبَ مِنْهُ، وَنَفَّرَ عَنْهُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَعَرَّفَهُ، وَحَدَّدَهُ؛ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُسَامِحُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ؛ لَنْ يُدْخِلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَ((مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)): شَيْءٌ يَسِيرٌ، شَيْءٌ قَلِيلٌ، شَيْءٌ لَا وَزْنَ لَهُ؛ وَلَكِنَّهُ إِنْ دَخَلَ الْقَلْبَ أَفْسَدَهُ، وَاسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ النَّارَ.

((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْأَمْرَ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً))، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُفَسِّرًا، وَمُوَضِّحًا، وَمُبَيِّنًا: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))؛ يَعْنِي: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا إِنْ قُصِدَ بِهِ أَنْ يَعْلُوَ النَّاسُ بِهِ النَّاسَ، فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اسْتَكْبَرَ بِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ مَا إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَلَا عُجْبٍ؛ فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

((بَطَرُ الْحَقِّ)): دَفْعُهُ، وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهِ؛ إِمَّا لِاخْتِلَافِ مَذْهَبِهِ، وَإِمَّا لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَإِمَّا لِحَقَارَةِ أَصْلِهِ، وَإِمَّا لِفَقْرِهِ، الْمُهِمُّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

رَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَأْمُونُ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ فَقِيرًا، وَلِأَنَّهُ ﷺ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَشْيَاخِهِمْ صَغِيرًا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: 31]، لَيْسَ إِلَّا هَذَا؟! هُوَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ!!

يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، فَرَدُّوا الْحَقَّ عَلَيْهِ.

رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ مُهْلِكٌ، وَالنَّاسُ فِي رَدِّ الْحَقِّ طَبَقَاتٌ:

* مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهُ.

أَبُو جَهْلٍ وَقَدْ حَارَبَ الرَّسُولَ ﷺ حَرْبَهُ، فَلَمَّا مَكَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ فِي بَدْرٍ -وَكَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ-؛ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا رَآهُ مُجَنْدَلًا وَفِيهِ حَيَاةٌ قَالَ: ((عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ!))، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدَنِهِ قِلَّةٌ، لَمَّا رَآهُ الْأَصْحَابُ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِسِوَاكٍ مِنْ شَجَرَةِ أَرَاكٍ، فَانْكَشَفَتْ رِجْلُهُ، انْكَشَفَتْ سَاقُهُ، فَضَحِكَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَضْحَكُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَحُمُوشَةِ رِجْلَيْهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُمَا لَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)).

فَلَمَّا وَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ صَعِدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ -سَيْفَ نَفْسِهِ-، وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَزَّ عُنُقَهُ؛ لِيَأْتِيَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمَّا أَنْ قَعَدَ عَلَى صَدْرِ أَبِي جَهْلٍ؛ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!)).

كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ؛ حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالِ!!

كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا الْآنَ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ، وَأَعَزَّهُ، وَأَعَزَّ دِينَهُ...؛ وَلَكِنْ.. كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ إِلَّا بِطُلُوعِ رُوحِهِ!! ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!))، ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ لِنَفْسِهِ أَنْ يُذْبَحَ بِسَيْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: ((أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ خُذْ سَيْفِي فَاحْتَزَّ بِهِ رَقَبَتِي!!))، فَكَانَ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَّبِعَهُ، لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ، وَلَا الْأَجْدَادُ، وَلَا مَا نَشَأْتَ عَلَيْهِ فِي بِيئَتِكَ، وَلَا مَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى الْخَطَأِ وَالْبَاطِلِ، لَا عَلَى الصَّوَابِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ فِي قَوْمٍ مُشْرِكِينَ، يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَيُقَدِّسُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَكْفُرُونَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَكَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّ الرَّأْيَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي عَلَى صَوَابٍ؟!!

كَانَ الرَّأْيُ الْعَامُّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ!!

وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ؛ فَكَانُوا قِلَّةً، وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَلَّمُوا عِلْمَ الْكِتَابِ السَّابِقِ -كَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ-؛ فَكَانُوا لَا يُعَدُّونَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قِلَّتِهِمْ.

فَهَلْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِهَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِحُجَّتِهِمْ: نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا -أَيْ: مَا وَجَدْنَا- عَلَيْهِ آبَاءَنَا؟! هَلَ سَلَّمَ لَهُمْ؟! كَانَ آبَاؤُهُمْ مُشْرِكِينَ، كَانُوا جَهَلَةً كَافِرِينَ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَجَرَّدَ، وَقَدْ دَعَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى ذَلِكَ، نَبِيُّكُمْ رَسُولُ اللهِ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ؛ لَمَّا أَنْ حَارَبُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ؛ كَانَتْ أَمَانَاتُهُمْ عِنْدَهُ، يَأْتَمِنُونَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيَثِقُونَ فِي عَقْلِهِ؛ وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُونَ لَهُ فِي دِينِهِ، يَقُولُونَ: يَعِيبُ آلِهَتَنَا وَدِينَ آبَائِنَا، وَيُسَفِّهُ حُلُومَنَا وَحُلُومَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا!!

كِبْرٌ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّسُولُ ﷺ عِنْدَهُمْ هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، مَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَلِكَ رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَتَاهُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ، كَذَّبُوهُ؛ لِلْعَصَبِيَّةِ: أَنَتْبَعُ هَذَا؟! أَنَسِيرُ وَرَاءَهُ؟! مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَاتِ فِي عِنَادِهِمْ، وَكِبْرِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ.

نَصَحَهُمُ اللهُ؛ لِأَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ هَذِهِ النَّصِيحَةَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46]، هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ!! تَقُولُونَ: مَجْنُونٌ!! لَقَدْ ظَلَّ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِيكُمْ، وَهُوَ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ؛ فَمَا الَّذِي جَدَّ؟!!

النَّبِيُّ ﷺ.. عَانَدُوهُ، وَحَارَبُوهُ، فَاحْذَرْ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي الْكِبْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ)): إِيَّاكَ أَنْ تَدْفَعَ الْحَقَّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ -مِنْ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ-، إِذَا رَدَدْتَهُ؛ فَأَنْتَ عَلَى خَطَرٍ كَبِيرٍ، لَا تَرُدُّهُ إِلَّا كِبْرًا!!

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)): احْتِقَارُهُمْ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمْ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، وَعَدُّهُمْ هَبَاءً لَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَمَا يَعْلَمُ التَّقِيَّ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا اللهُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ الْإِكْرَامُ عِنْدَ اللهِ: تَقْوَى اللهِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ.. يَنْصَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِهِ، وَعَانَدُوهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}؛ دَعُوكُمْ مِنَ الْجَمْعِ، لَا تُفَكِّرُوا فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّ التَّفْكِيرَ الْجَمَاعِيَّ تَفْكِيرٌ كَتَفْكِيرِ الْقَطِيعِ.

وَأَنْتَ تَجِدُ الْقَطِيعَ يَسِيرُ لَا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَسِيرُ!! وَإِنَّمَا حَيْثُ يَقُودُهُ قَائِدُهُ، مِنَ الْأَنْعَامِ، مِنَ التُّيُوسِ، أَوْ مِنَ الْحَمِيرِ، أَوِ الْبِغَالِ!! هُوَ قَطِيعٌ يَسِيرُ!!

لَا تُفَكِّرْ تَفْكِيرًا جَمَاعِيًّا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ نَهَاكَ عَنْ ذَلِكَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.

ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَكْثَرَ؛ يَعْنِي: إِنْ كُنْتَ مُنْغَمِسًا فِي شَيْءٍ، فَلَنْ تَرَى سِوَاهُ، فَإِذَا ابْتَعَدْتَ عَنْهُ قَلِيلًا، تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَاهُ.

هَذِهِ الْوَرَقَةُ فِيهَا كَلَامٌ مَكْتُوبٌ، لَوْ أَنِّي جَعَلْتُهَا هَكَذَا مُلْصَقَةً بِعَيْنَيَّ؛ فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْرَأَهَا، وَلَوِ ابْتَعَدْتُ عَنْهَا قَلِيلًا، رَأَيْتُهَا رُؤْيَةً حَسَنَةً؛ فَابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَفْضَلَ، أَمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْغَمِسًا، تُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْقَطِيعُ؛ هَذَا حَرَامٌ، هَذَا لَا يَجُوزُ، تَدْمِيرٌ لِلْأُمَّةِ، وَعَبَثٌ بِمُقَدَّرَاتِهَا وَبِمُسْتَقْبَلِهَا.

الْحَقُّ فِي: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ.

هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ، وَهَذَا هُوَ الدِّينُ، وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْعِصْمَةَ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

((الْإِسْلَامُ سَمَاحَةٌ وَيُسْرٌ كُلُّهُ))

عِبَادَ اللهِ! دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالْيُسْرِ كُلِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ-: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أَيْ: دِينُ الْإِسْلَامِ ذُو يُسْرٍ، مَوْصُوفٌ بِالْيُسْرِ وَصَاحِبُ يُسْرٍ.

أَوْ سُمِّيَ الدِّينُ يُسْرًا، فَهُوَ يُسْرٌ كُلُّهُ؛ مُبَالَغَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ تَوْبَةَ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا كَانَتْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَوْبَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، بَلْ حَظَرَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ مِنَّا ذَلِكَ.

الْأَفْضَلُ الْأَرْفَقُ فِي شَرِيعَةِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ، شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، الَّتِي لَا يَقْدُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْرَهَا، وَوَاللهِ مَا مِنْ سَعَادَةٍ كَانَتْ وَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ.

الَّذِي يَعْرِفُ السُّنَّةَ يَسْتَرِيحُ؛ يَسْتَرِيحُ قَلْبُهُ، وَيَسْتَرِيحُ بَدَنُهُ، وَيَسْتَرِيحُ بَالُهُ، وَيَسْتَقِيمُ مِنْهَاجُهُ، وَالْمَشَقَّةُ تَأْتِي مِنْ مُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

الْمَشَقَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِالِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحَرَجُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ جَاءَ بِرَفْعِ الحَرَجِ، وَبِنَفْيِ الْمَشَقَّةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

((حُرْمَةُ أَذِيَّةِ السَّائِحِينَ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِصْمَةُ كُلِّ نَفْسٍ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِالْأَمَانِ))

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ.

 فَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْأَمَانِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 93].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ، لَا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

فَإِذَا كَانَ الذِّميُّ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَّةُ وَالْكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الْجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعْظَمَ، وَإِنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ؛ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺكَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ الْقَاتِلِ الْجَنَّةَ.

قَتْلُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأمَنِ حَرَامٌ؛ فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ هَكَذَا «فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ: بَابُ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ» ، وَأَوْرَدَهُ فِي «كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي بَابِ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ»  وَلَفْظُهُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».

وَأَمَّا قَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأً، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].

((حُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْأَجَانِبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ

فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ))

*هَلْ تُعَدُّ تَأْشِيرَةُ الدُّخُولِ إِلَى الْبَلَدِ عَقْدَ أَمَانٍ؟

تَأْشِيرَةُ الدُّخُولِ الَّتِي يُشْتَرَطُ تَوَفُّرُهَا لِدُخُولِ أَيِّ أَجْنَبِيِّ لِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ، تُمَثِّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عَقْدًا يُشْبِهُ عَقْدَ الْأَمَانِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، لَا سِيِّمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ التَّأْشِيرَةُ صَادِرَةً بِنَاءً عَلَى دَعْوَةٍ مُقَدَّمَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِزِيَارَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلْعَمَلِ بِهَا.

وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السَّائِحَ أَوِ الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَمَا يُقْبِلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ, عِنْدَمَا يَحْصُلُ عَلَى تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ, وَلَا يُتَصَوَّرُ قَبُولُهُ لِلْمَجِيءِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّأْشِيرَةَ لَا تَعْنِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ -أَيْ: مِنْ تَأْمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ-.

وَالْأَمَانُ هُوَ: عَهْدٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى؛ بِأَنْ تُؤَمِّنَ غَيْرَكَ أَوْ أَنْ يُؤَمِّنَكَ غَيْرُكَ، وَهُوَ تَعَهُّدٌ بِعَدَمِ لُحُوقِ الضَّرَرِ مِنْ جِهَتِكَ إِلَيْهِ, وَلَا مِنْ جِهَتِهِ إليْكَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عَقْدٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ عَلَى الْحَصَانَةِ مِنْ لُحُوقِ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَلَا مِمَّنْ وَرَاءَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ.

وَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التَّوْبَة: 6].

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» .

وَمَنْحُ الْأَمَانِ مِنْ حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا, فَيَصِحُّ مِنَ الْإِمَامِ, وَمِنْ آحَادِ النَّاسِ رَجُلًا كَانَ أَوِ اِمْرَأَةً, وَفِي صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ, وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْأَمَانِ مِنْ مَجْنُونٍ وَنَحْوِهِ.

يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : «وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمَانَ إِذَا أُعْطِيَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ، وَيَصِحُّ -يَعْنِي: عَقْدَ الْأَمَانِ- مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى, حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.

وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ كَالصَّبِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَقْدِيمِ مَصْلَحَتِهِمْ.

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ  أَنَّهُ قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ».

يَعْنِي إِذَا اسْتَقْدَمَ صَاحِبُ عَمَلٍ فَرْدًا كَانَ أَوْ شَرِكَةً بَعْضَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَلِ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ دَخَلَ بِتَأْشِيرَةٍ لِلدُّخُولِ صَحِيحَةٍ؛ فَهَذَا عَقْدُ أَمَانٍ، فَمَنْ أَخْفَرَ ذِمَّتَهُ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجَرْتُ أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ.

فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، إنَّمَا يُجْيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ دُونَ قُيُودٍ، أَمَّا آحَادُ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَانُهُمْ لِلْوَاحِدِ، أَوَ لِلْعَشَرَةِ، أَوْ لِلْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ : «وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَللْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ; لِأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي مرَّ حَدِيثُهُ؛ وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ».

إِذَا انْعَقَدَ الْأَمَانُ صَارَتْ لِلْحَرْبِيِّ –لِلْمُقَاتِلِ، لِلْمُحَارِبِ-؛ إِذَا انْعَقَدَ لَهُ الْأَمَانُ صَارَتْ لَهُ حَصَانَةٌ مِنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ، سَوَاءٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَمَّنَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الذِّمِّيِّينَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا» .

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : «الْأَمَانُ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ».

فَعِنْدَمَا نَنْظُرُ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمَانِ؛ نَجِدُ تَشَابُهًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ، سَوَاءٌ فِي تَحْدِيدِ الْجِهَةِ الَّتِي يُمْكِنُ صُدُورُ أَيٍّ مِنْهَا عَنْهَا، أَوْ فِي حُدُودِ حَقِّ كُلِّ جِهَةٍ فِي مَنْحِ الْأَمَانِ أَوِ التَّأْشِيرَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ؛ مِنْ عِصْمَةِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْحَصَانَةِ، وَمِنْ تَعَمُّدِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِمَنْ صَدَرَ بِحَقِّهِ الْأَمَانُ، أَوْ حَصَلَ عَلَى التَّأْشِيرَةِ.

أَمَّا كَوْنُ تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ الْيَوْمَ تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أَمَانٍ تَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْأَجَانِبِ وَالسُّيَّاحِ -يَعْنِي: حَتَّى لَوْ قَالُوا: لَا يُعَدُّ أَمَانًا!-، فَيُقَالُ: شُبْهَةُ أَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ نَفْسُهُ، فَالْعِبْرَةُ فِي انْعِقَادِ الْأَمَانِ بِمَا يَفْهَمُهُ مَنْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ.

* لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ وَالسَّائِحِ إِذَا دَخَلَ الْبِلَادَ بِأَمَانٍ غَيْرِ صَحِيحٍ:

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ وَالسَّائِحِ إِذَا دَخَلَ الْبِلَادَ بِأَمَانٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْأَجْنَبِيُّ أَوِ السَّائِحُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ يَظُنُّهُ صَحِيحًا وَهُوَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَإنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، أَوْ أنْ يُقِرَّ الْإِمَامُ مِثْلَ هَذَا الْأَمَانِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصِحُّ قَتْلُهُ.

فَإِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ تَأْشِيرَةَ الدُّخُولِ لَا تُمَثِّلُ أَمَانًا صَحِيحًا فَعَلَى كُلِّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ: لَا يَصِحُّ قَتْلُ الْأَجَانِبِ وَالسُّيَّاحِ الَّذِينَ دَخَلُوا بِهَا الْبِلَادَ -أَيْ بِتِلْكَ التَّأْشِيرَةِ-، وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْنُوحَةً لَهُمْ مِمَّنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ أَوْ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ.

وَبِنَاءً عَلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ: فَإِنَّ اعْتِبَارَ تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ بِمَثَابَةِ الْأَمَانِ أَوْ تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أَمَانٍ يَمْنَعُ اسْتِهْدَافَ الْأَجَانِبِ بِالقَتْلِ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ؛ انْطِلَاقًا مِنْ كَوْنِهَا أَكْثَرَ دَلَالَةٍ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الفُقَهَاءُ دَلِيلًا عَلَى انْعِقَادِ الْأَمَانِ.

بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي انْعِقَادِ الْأَمَانِ بِمَا يَفْهَمُهُ الْأَجْنَبِيُّ, وَإِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ تَأْشِيرَةَ الدُّخُولِ لَا تُعَدُّ أَمَانًا صَحِيحًا، فَالْوَاجِبُ الرَّاجِحُ رَدُّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ.

((حُرْمَةُ قَتْلِ الْمَدَنِيِّينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ)):

إِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْقِفَ الْإِسْلَامِ مِنَ امْتِدَادِ الْحَرْبِ، وَالْقِتَالِ لِغَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ أَدْرَكْتَ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ وَعُمْقَ سَمَاحَتِهِ، فَعِنْدَمَا يَأْتِي النَّهِيُ الْقَاطِعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ  وَمِنْ خُلَفَائِهِ عَنِ اسْتِهْدَافِ: «النِّسَاءِ، وَالْوُلْدَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى -يَعْنِي: أَصْحَابَ الْعَاهَاتِ-، وَالرُّهْبَانَ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَالْأُجَرَاءَ» ؛ تَعْلَمُ عِنْدَئِذٍ الْمَوْقفَ الْحَقِيقِيَّ لِلْإِسْلَامِ مِنَ اِسْتِهْدَافِ «الْمَدَنِيِّينَ» بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ: «النِّسَاءَ، الْوِلْدَانَ، الشُّيُوخَ، الْمَعْتُوهِينَ، الْأُجَرَاءَ، الْفَلَّاحِينَ، الرُّهْبَانَ، الْعَبِيدَ، الْوُصَفَاءَ»، إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ؛ أَدْرَكْتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي مَجْمُوعِهِمْ يُمَثِّلُونَ مَنْ لَا يَنْتَصِبُونَ لِلْقِتَالِ، وَلَا يُشَارِكُونَ فِي وَقَائِعِهِ؛ وَهَلْ تَعْبِيرُ «الْمَدَنِيِّينَ» الْيَوْمَ لَهُ دَلَالَةٌ سِوَى هَذَا؟!

وَمِنْ هُنَا جَاءَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

 وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ اسْتِهَدَافِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُقَاتَلةِ وَالْمُمَانَعَةِ لَمْ يَأْتِ نَتِيجَةَ اخْتِيَارٍ فِقْهِيٍّ، وَلَا تَرْجِيحٍ مَصْلَحِيٍّ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ اسْتِهَدَافِ أَغْلَبِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِبَيَانٍ نَبَوِيٍّ وَوَحْيٍّ إِلَهِيٍّ، مِمَّا يَرْفَعُ دَرَجَةَ هَذَا النَّهْيِ فِي نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحَذَرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ  عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .

وَعَنِ ابْنِ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ؛ فَبَعَثَ رَجُلًا، فَقَالَ: «انْظُرْ: عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟», فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ».

قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. قَالَ: فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ: قَالَ: «حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَالْعَسِيفُ: هُوَ الْأَجِيرُ .

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَجْتَهِدَ فِي نُصْرَةِ دِينِنَا، لَا فِي خِذْلَانِهِ، لَا فِي مُحَارَبَتِهِ، يَنْبَغِي أَنْ نَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَمِنْ أَوْلِيَاءِ رَسُولِ اللهِﷺ، وَأَلَّا نَكُونَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِهِﷺ، وَأَلَّا نَصُدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.

((الْمُعَامَلَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ

وَالْعَدْلِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ))

1*مُعَامَلَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى:

قَالَ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المُمْتَحَنَة: 8].

لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَنْ تَصِلُوهُمْ، وَتَعْدِلُوا فِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْبِرِّ بِهِمْ؛ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى عَدْلِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المُمْتَحَنَة: 9].

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَصْدَقَاءَ وَأَنْصَارَ.

وَمَنْ يَتَّخِذُهُمْ أَنْصَارًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَحِبَّاءَ، فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ؛ حَيْثُ وَضَعُوا الْوَلَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ الشّدِيدِ.

فَمُوَادَّةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِمُعَادِي اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمُعْلِنِي الْحْرَبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَضِيَّةٌ تُنَاقِضُ الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ مُعَادَاةَ مَنْ عَادَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَحَارَبَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ غَيْرُ قَضِيَّةِ مُعَامَلَةِ الْكَافِرِينَ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ سَبَبٌ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَتَحْبِيبِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ؛ حُبًّا فِي دِينِ اللهِ، وَإِعْجَابًا بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا أَتْبَاعُهُ.

2*مُعَامَلَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَسُنَّتِهِ:

قَالَ فِي ((مُهَذَّبِ زَادِ الْمَعَادِ فِي بَابِ: هَدْيِ النَّبِيِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ)): كَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ  فِي مُعَامَلَةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ: الِاسْتِجَابَةَ التَّامَّةَ لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ صَبْرِ نَفْسِهِ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَأَلَّا تَعْدُو عَيْنَاهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَهْجُرَ مَنْ عَصَاهُ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى بِمُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، شَرِيفُهُمْ وَضَعِيفُهُمْ.

وَكَانَ  لَا يُوَالِي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ، وَبِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ؛ هَدْيًا لِأُمَّتِهِ، وَاهْتِدَاءً بِهَدْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].

فَهَذَا كَانَ هَدْيُهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ الشَّرْعِيَّيْنِ.

وَأَمَّا فِي الْعَادَاتِ: فَكَانَ يُعَامِلُ الْجَمِيعَ بِإِحْسَانٍ؛ يَشْتَرِي مِنْهُمْ، وَيَسْتَعِيرُ، وَيَعُودُ مَرِيضَهُمْ، وَيَقْبَلُ هَدِيَّتَهُمْ، وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِأَمْرِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِنَهْيِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
  تفجيرات بروكسل بين الغدر والخيانة
  مصر بين حاضر الكفايات وماضي المجاعات
  إِيمَانُ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ
  ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
  عُلُوُّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان