إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ.. الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا

إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ.. الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا

 ((إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ..

الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَنْزِلَةُ الْعَقْلِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

فَقَدْ مَيَّزَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْإِنْسَانَ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَأَسَاسُ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَلَقَدْ نَعَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَنْ أَهْمَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَلَمْ يُعْطُوهَا حَقَّهَا؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

فَكَانُوا -أَيِ: الْيَهُودُ- يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ -أَيِ: التَّوْرَاةَ-، فَاسْتَفْهَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اسْتِفْهَامَ تَوْبِيخٍ، وَالْغَرَضُ الْبَلَاغِيُّ مِنْهُ: التَّقْرِيرُ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فَيُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حِلْيَتَهُ فَهُوَ مِنْ غَيْرِ أُولِي النُّهَى، وَمِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ؛ أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟!!

وَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَا جَاءَ بِهَا مِنَ التَّعَالِيمِ وَهُمْ يُخَالِفُونَ، وَكَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ وَفِيهَا يَقَعُونَ!!

فَهَذِهِ صِفَتُهُمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

 وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْجَاهِلُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ؟!! أَفَقَدْتُمْ مَا وَهَبْنَاكُمْ مِنْ عَقْلٍ؛ فَلَا تَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ؟!!

 

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

وَمَدَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَعْقِلُ مَا يُنَزِّلُهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ السَّامِيَةُ فِي أُسْلُوبِهَا وَدَلَالَاتِهَا نُبَيِّنُهَا لِلنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ إِقْنَاعِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمَا يَعْقِلُ دَلَالَاتِهَا الْعَمِيقَةَ وَيَتَمَسَّكُ بِمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا، وَيَفْهَمُونَ الْغَايَةَ مِنْهَا، أَمَّا الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ فِيهِمْ، وَيَضَعُونَ الْأَغْشِيَةَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَعُقُولِهِمْ؛ فَلَيْسُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْقِلُوهَا، أَوْ يَفْهَمُوا الْغَايَةَ مِنْهَا، أَوْ يَعْمَلُوا بِهِدَايَاتِهَا إِذَا هُمْ فَهِمُوا مَعَانِيَهَا.

وَمِنْ دَلَائِلِ أَهَمِّيَّةِ الْعَقْلِ: الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِاسْتِخْدَامِهِ وَإِعْمَالِهِ فِي حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-؛ ((فَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الَّتِي تَأْمُرُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَاسْتِعْمَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، مِنْهَا:

اسْتِعْمَالُ الْبَصَرِ مَعَ الْعَقْلِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20].

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19].

{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 17-18].

*وَمِنْهَا: مَا وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ السَّمْعِ مَعَ الْعَقْلِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46].

*وَأَيْضًا وَرَدَ اسْتِعْمَالُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَعَ الْعَقْلِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

*وَكَذَلِكَ وَرَدَ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِ وَسَائِلِ الْمُشَاهَدَةِ مَعَ الْعَقْلِ: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185].

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ تَحُضُّ الْإِنْسَانَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَمَا إِلَيْهَا مِنْ طُرُقِ الْمُشَاهَدَةِ الصَّحِيحَةِ بِجَمِيعِ أَسَالِيبِ الْحَضِّ، ثُمَّ هِيَ مَعَ ذَلِكَ تُؤَدِّبُهُ مِنْ حَيْثُ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْمَوَاهِبِ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ؛ فَفِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}؛ تَنْهَاهُ الْآيَةُ مِنْ نَاحِيَةٍ أَنْ يَجْرِيَ مَعَ الْوَهَمِ وَالظَّنِّ، وَتَدُلُّهُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَى مَا لَيْسَ بِوَهَمٍ وَلَا ظَنٍّ، أَيْ: إِلَى الْيَقِينِ وَالْحَقِّ عَنْ طَرِيقِ إِحْسَانِ اسْتِعْمَالِ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا})).

عِبَادَ اللهِ! اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ فَمَتَى فُقِدَ فُقِدَ التَّكْلِيفُ ثَمَّةَ.

وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا إِلَّا وَهُوَ حَاضِرُ الْعَقْلِ، وَإِلَّا إِذَا كَانَ مُنْتَظِمَ التَّفْكِيرِ وَالْفِكْرِ، وَأَمَّا إِذَا مَا غَابَ عَنْهُ عَقْلُهُ لِعَارِضٍ يَزُولُ أَوْ لِعَارِضٍ لَا يَزُولُ؛ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ -حِينَئِذٍ- يَرْتَفِعُ، وَالْمُؤَاخَذَةَ تَمْتَنِعُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ ظُلْمٌ عَلَى عَبْدٍ فِي كَوْنِ اللهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا حَكَمَ بِهِ هُوَ الْعَدْلُ، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

رَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّكْلِيفَ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَيَعْقِلَ وَيُمَيِّزَ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ إِنْ كَانَ يَوْمًا مَا مُحَصِّلًا لِعَقْلٍ مَا؛ وَإِلَّا فَإِنَّ التَّكْلِيفَ عَنْهُ قَدِ ارْتَفَعَ، وَالْمُؤَاخَذَةَ عَنْهُ تُمْتَنَعُ؛ وَحِينَئِذٍ يَأْتِي الْعَدْلُ عَلَى سَوَائِهِ.

فَلِلْعَقْلِ احْتِرَامُهُ، وَلَهُ قَدْرُهُ؛ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَارِبًا فِي كُلِّ مَجَالٍ آخِذًا فِي كُلِّ سَبِيلٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودٍ حَدَّدَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ يَحْتَرِمُ الْعَقْلَ؛ بَلْ إِنَّهُ يَقُودُ الْقَلْبَ بِزِمَامِ الْعَقْلِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى جَادَّةِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالتَّسْلِيمِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِذَنْ؛ الْعَقْلُ لَهُ أَهَمِّيَّتُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((حِيَاطَةُ الشَّرْعِ لِلْعَقْلِ))

إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ إِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَخْلُقْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبَثًا، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي الْبَاطِلِ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة : 195].

 حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَبَائِثَ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْمِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

 وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَأْكُلَ وَأَنْ يَشْرَبَ وَأَنْ يَنْتَفِعَ وَأَنْ يَزْدَانَ بِمَا خَلَقَ اللهُ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمُتَعِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

فَأَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُضْوٍ مِنْهُ.

وَلِأَنَّ لِلْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالْإِدْرَاكِ مَكَانَةً عَالِيَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فَقَدْ أَحَاطَ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ الْعَقْلَ بِسِيَاجَاتِ حِفْظٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَحَرَّمَ كُلَّ مَا يَضُرُّ بِالْعَقْلِ أَوْ يُغَيِّبُهُ عَنِ الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْخَمْرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُفَتِّرَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُخَدِّرَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بِسِوَاهَا.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الدِّينِ، وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ.

وَلَا صَلَاحَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِالْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الضَّرُورَاتِ، وَمَا وَرَاءَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ.

((أَهَمِّيَّةُ الْفَهْمِ فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَسَلَامَةَ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ؛ بَلْ هُمَا أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَصِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ؛ عَلَيْهِمَا يَقُومُ، وَعَلَيْهِمَا يَرْتَكِزُ.

وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ يُنَجِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْ سَبِيلِ الضَّالِّينَ، وَأَمَّا بِسَلَامَةِ الْقَصْدِ فَيُنَجِّيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.

وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ وَسَلَامَةِ الْقَصْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ، وَهَدَاهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَسْأَلَهُ بِأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، نَطْلُبُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ.

صِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدِهِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ، وَثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ، وَمِنَّةٌ وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبِهَا تَفَاوَتَتْ سُبُلُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ؛ فَعُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدٍ.

وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، وَهِيَ مِنَّةٌ مَمْنُونَةٌ وَنِعْمَةٌ مُنْعَمٌ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يُنْعِمَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ عُمَرَ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يُقَرِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ مَجْلِسَهُ الْخَاصَّ -مَجْلِسَ مَشُورَتِهِ مَعَ الْأَشْيَاخِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ-، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: هَذَا مِثْلُ أَبْنَائِنَا؛ فَكَيْفَ يَدْخُلُ مَعَنَا، وَيَجْلِسُ فِي مِثْلِ مَجْلِسِنَا؟!!

وَعَلِمَ ذَلِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا: احْضُرْ مَجْلِسَنَا.

قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ.

فَلَمَّا اسْتَتَمَّ الْمَجْلِسُ وَفِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَقْبَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَشْيَاخِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟

فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَمِنْ سَاكِتٍ لَا يَنْبِسُ بِبِنْتِ شَفَةٍ.

قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟

قَالَ: قُلْتُ: هُوَ نَعْيُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ إِعْلَامٌ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، أَخْبَرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ وَأَعَزَّهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى دُنُوِّ أَجَلِهِ وَاقْتِرَابِ نِهَايَةِ عُمُرِهِ.

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمْتَ)).

لَا أَعْلَمُ مِنْهَا سِوَى مَا عَلِمْتَ.. لَا عِلْمَ لِي بِشَيْءٍ فَوْقَ الَّذِي قُلْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَمِنْ أَيْنَ أَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِهَذَا الْفَهْمِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا بَاطِنَةٍ عَلَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْفَهْمِ فِي قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1-3]؟!!

لَيْسَ فِي الْآيَاتِ فِي ظَاهِرِهَا مَا يَدُلُّ دَلَالَةً خَاصَّةً عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ مِنْ فَهْمِهِ بِالنُّورِ الَّذِي قَذَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ.. مِنْ صِحَّةِ الْفَهْمِ وَجَوْدَتِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْمَمْنُونَةِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ.

وَصَدَّقَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.. مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ بَلْ إِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي الْآيَاتِ فَوْقَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَيْئًا.

وَأَمَّا الصَّحَابَةُ الْآخَرُونَ -وَهُمْ أَطْوَلُ مُلَازَمَةً لِلنَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ-؛ فَلَمْ يَقْذِفْ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا قَذَفَ فِي قَلْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا- تِجَاهَ مَا سَأَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ تَأْوِيلٍ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشَرَّفَاتِ فِي سُورَةِ النَّصْرِ.

صِحَّةُ الْفَهْمِ؛ وَهَذَا الْفَهْمُ لَهُ أَدَوَاتٌ بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

فَذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفُؤَادَ، وَالْقُرْآنُ جَارٍ عَلَى ذِكْرِ الْفُؤَادِ وَالْقَلْبِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمَعُ الْإِدْرَاكِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنَاطُ الْفَهْمِ والْمَعْرِفَةِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَنْ رَسُولِهِ ﷺ.

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَسْتَوُونَ؛ عَالِمَهُمْ وَجَاهِلَهُمْ، وَكَاتِبَهُمْ وَقَارِئَهُمْ، وَأُمِّيَّهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا الْمَبَالِغَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّثَبُّتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَمَنْ كَانَ بَالِغًا الْمَدَارِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَضِدِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مَخْرَجًا وَاحِدًا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} جَمِيعًا.

ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَمَا مَيَّزَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ، وَوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ، وَطَرَائِقِ الْمَعْرِفَةِ؛ فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُكَلِّفَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّكْرَ يَرْتَكِزُ عَلَى أُمُورٍ بِأَرْكَانٍ إِذَا مَا أَتَى بِهَا الْمَرْءُ عُدَّ شَاكِرًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا جَمِيعِهَا عُدَّ جَاحِدًا؛ وَإِلَّا فَنَقْصٌ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ.

فَأَمَّا مَدَارُ أَرْكَانِ الشُّكْرِ؛ فَهِيَ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ:

أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا.

وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا.

ثُمَّ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحُيُودِ عَنْ شُكْرِ رَبِّنَا الْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمٍ مُتَوَالِيَاتٍ لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا عَدَّ؛ وَلَكِنْ لَا تُصَرَّفُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ؛ فَلَا يَصِيرُ الشُّكْرُ -حِينَئِذٍ- إِلَّا جُحُودًا وَنُكْرَانًا وَاتِّهَامًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَحَالًا بِأَنَّهُ مَا أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَانَ.

لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعْتَرِفًا بِهَا بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَهَا فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ وَأَسْدَاهَا إِلَيْهِ.

فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَلَهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِهَا بِالنُّطْقِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يُصَرِّفِ النِّعْمَةَ فِي شُكْرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِيهِ؛ فَهُوَ جَاحِدٌ نَاكِرٌ غَيْرُ شَاكِرٍ.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَأَنْتُمْ لَمْ تَشْكُرُوا إِلَّا مَنِ اعْتَرَفْتُمْ بِوُجُودِهِ بَدْءًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْكُمْ ثَانِيًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِأُلُوهِيَّتِهِ لَكُمْ بِتَصْرِيفِ عِبَادَتِكُمْ لَهُ وَقَصْرِهَا عَلَيْهِ ثَالِثًا؛ ثُمَّ إِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ مُسْتَحْوِذًا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا.

وَإِذَنْ؛ فَهَذَا تَوْحِيدٌ خَالِصٌ يَجْعَلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْفَذَّةِ الْمُفْرَدَةِ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وَشُكْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى (السَّمْعِ) بِأَنْ يَعْتَرِفَ الْمَرْءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا ظَاهِرًا بِالنُّطْقِ لِسَانًا، ثُمَّ أَنْ يُصَرِّفَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ قَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَرْعِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ (الْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ).

إِنَّ الْوَعْيَ بِالْمَخَاطِرِ يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي كَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الْإِنْسَانَ؛ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ: انْظُرُوا بِقُلُوبِكُمْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَذَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ.. مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَإِذَا نَظَرْتُمْ هَذَا النَّظَرَ التَّدَبُّرِيَّ تَحَقَّقْتُمْ مِنْ صِدْقِ رَسُولِكُمْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنْ رَبِّكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36].

لَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَدَيْهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَسْمَعُوا سَمَاعًا وَاعِيًا وَاصِلًا إِلَى مَدَارِكِهِمْ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْجَاهِلُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ؟!! أَفَقَدْتُمْ مَا وَهَبْنَاكُمْ مِنْ عَقْلٍ فَلَا تَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ؟!!

وَحَثَّ اللهُ عَلَى الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11-12].

وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ -الَّذِينَ عَاقَبَهُمُ اللهُ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ-: قَوْمُ نُوحٍ؛ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ حِينَ طَغَى الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَعَلَا عَلَى مَوَاضِعِهَا الرَّفِيعَةِ.

وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَهُمْ أَنْ حَمَلَهُمْ {فِي الْجَارِيَةِ} -وَهِيَ السَّفِينَةُ- فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمُ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ.

فَاحْمَدُوا اللَّهَ، وَاشْكُرُوا الَّذِي نَجَّاكُمْ حِينَ أَهْلَكَ الطَّاغِينَ، وَاعْتَبِرُوا بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِنَجْعَلَهَا} أَيِ: الْجَارِيَةَ، وَالْمُرَادُ: جِنْسُهَا، {لَكُمْ تَذْكِرَةً} تُذَكِّرُكُمْ أَوَّلَ سَفِينَةٍ صُنِعَتْ، وَمَا قِصَّتُهَا، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ؛ فَإِنَّ جِنْسَ الشَّيْءِ مُذَكِّرٌ بِأَصْلِهِ.

{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ: يَعْقِلُهَا أُولُوا الْأَلْبَابِ، وَيَعْرِفُونَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا، وَوَجْهَ الْآيَةِ بِهَا؛ وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ، وَأَهْلِ الْبَلَادَةِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمُ انْتِفَاعٌ بِآيَاتِ اللَّهِ؛ لِعَدَمِ وَعْيِهِمْ عَنِ اللَّهِ، وَلِعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ.

وَفِي مُقَابِلِ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ يَسْتَخْدِمُ أَدَوَاتِ الْوَعْيِ وَالْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ يُخْبِرُنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَّنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِيمَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا، وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَخْدَمَ فِيهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

وَأَعْيُنٌ لَا تَرَى.. {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، فَفَارِقٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْإِبْصَارِ.

أَمَّا النَّظَرُ فَمُطْلَقٌ، يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ نَاظِرٍ.. مِنْ شَاخِصٍ إِلَى شَيْءٍ؛ وَإِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا عَنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدْرِكٍ لِحَقِيقَتِهِ.

النَّظَرُ شَيْءٌ، وَالْإِبْصَارُ شَيْءٌ آخَرُ بِنَصِّ الْآيَةِ الْمُكَرَّمَةِ، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ..} شَاخِصِينَ بِأَبْصَارِهِمْ مُهْطِعِينَ؛ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}: سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَفُؤَادٌ.. هَذِهِ أَدَوَاتُ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ، وَالَّذِينَ لَا يُصَرِّفُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أَيْ: خَلَقْنَا وَأَنْشَأْنَا.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}؛ فَذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ.. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ كَلَّفَهُ وَقَبِلَ تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ).. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِدْرَاكَ وَالْفَهْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِأَدَوَاتِهِ، ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ مِنْ عَقْلٍ يُدْرِكُ وَقَلْبٍ يَعِي، وَمِنْ بَصَرٍ يُبْصِرُ، لَا يَنْظُرُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فَيُبْصِرُ، وَمِنْ أُذُنٍ تَسْمَعُ فَتَعِي، وَلَا تَسْمَعُ ثُمَّ لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ.

بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَلَا يُعَدُّ الْمَرْءُ شَاكِرًا رَبَّهُ عَلَيْهَا.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ.

يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}.. أَنْشَأْنَا وَخَلَقْنَا وَكَوَّنَّا لِجَهَنَّمَ {كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}.

هَلْ خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّارِ بَدْءًا مِنْ غَيْرِ مَا إِعْطَاءِ إِدْرَاكٍ بِفَهْمٍ وَوَعْيٍ وَاخْتِيَارٍ؟! مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْتَارُوا بَعْدَمَا بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَطَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، وَطَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَطَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ لَعُدَّ ظُلْمًا -وَحَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَدَوَاتِ الْإِدْرَاكِ وَوَسَائِلَ الْفَهْمِ لَا يَسْتَخْدِمُونَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمُوهَا فِيهِ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُونَ دُخُولَ النَّارِ، فَكَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ بِسَابِقِ عِلْمِهِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ صِفَةُ انْكِشَافٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.

فَهَذَا الْغُلَامُ غُلَامُ الْخَضِرِ وَغُلَامُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ((الصَّحِيحِ))؛ إِذْ قَلَعَ رَأْسَهُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ-، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ صَنِيعِ الْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا.

هُوَ مَا زَالَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بَعْدُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا مَا كَبُرَ، وَإِذَا مَا وَصَلَ إِلَى الْحُلُمِ، وَإِذَا مَا شَبَّ فَاسْتَوَى عَلَى سَاقَيْهِ؛ سَيَكُونُ ضَالًّا يُرْهِقُ أَبَوَيْهِ عُدْوَانًا وَكُفْرَانًا وَإِثْمًا وَظُلْمًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْدِلَهُمَا خَيْرًا مِنْهُ إِيمَانًا، وَأَقْرَبَ إِلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ رَحِمًا وَقُرْبَةً وَقُرْبًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذَا الْغُلَامِ أَلَّا تَسْتَمِرَّ بِهِ حَيَاةٌ، فَأَمَرَ الْخَضِرَ بِأَنْ يَقْلَعَ رَأْسَهُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

هَذَا عِلْمُ مَا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَحْدُثْ فِي وَاقِعِ النَّاسِ وَفِي دُنْيَا اللهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.

فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا}؛ قُلُوبٌ نَابِضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْقِطَعِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ اللَّحْمِيَّةِ، تَدُقُّ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ مَا تَدُقُّ مُنْذُ الْمَرْحَلَةِ الْجَنِينِيَّةِ إِلَى حِينِ السُّكُوتِ بِهُمُودِ الْوَفَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدُ تُرَابًا، وَفِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَجَاوَزَتْ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ لَا تَجِدُ هَذَا الْقَلْبَ النَّابِضَ الْحَيَّ الْمُتَحَرِّكَ يَذْكُرُ شَيْئًا وَلَا يَعِي أَمْرًا، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَفَكِّرًا.

{وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} سَمَاعًا، لَيْسُوا بِأَصَمِّينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ؛ وَلَكِنَّهُ سَمَاعٌ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، لَا يَسْمَعُونَ بِهَا سَمَاعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، يَفْقَهُونَ بِهِ الرُّشْدَ، يَقْتَرِبُونَ بِهِ مِنْ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي خَلَقَهَا سَائِمَةً فِي أَرْضِهِ، سَارِحَةً فِي كَوْنِهِ.. جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَمِنَ الْغَرِيزَةِ مَا تَسْعَى بِهِ لِنَفْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُؤَدِّيَ الْوَظِيفَةَ الَّتِي نَاطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ أَعْنَاقَهَا، فَهِيَ مُؤَدِّيَةٌ لِلْوَظِيفَةِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى النَّحْوِ، وَآتِيَةٌ بِالْوَظِيفَةِ عَلَى الْوَجْهِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَهُمْ لِوَظِيفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَمَاذَا صَنَعُوا؟!

عَطَّلُوا وَسَائِلَ الْإِدْرَاكِ، وَنَفَوْا وَسَائِلَ الْفَهْمِ وَأَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ جَانِبًا؛ فَصَارُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَضَلَّ مِنْهَا، فَيَأْتِي الْبَيَانُ الدَّامِغُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} يُضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْوَصْفِ بِالتَّشْبِيهِ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ أَحَطُّ مِنْ دَرَكَةِ الْأَنْعَامِ.

{أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الَّذِينَ غَفَلُوا عَمَّا يُصْلِحُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ فَائِدَتُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ حَيَاتُهُمُ الْحَقِيقِيَّةُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَنْهَجِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ، وَعَلَى مَنْهَجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

ثُمَّ أَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدُومُ حَسَرَاتُهُمْ، وَيُعْلِنُونَ نَدَمَهُمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10-11].

وَقَالُوا يَعْنِي: الَّذِينَ كَفَرُوا- مُعْتَرِفِينَ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ فَنَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ طُرُقَ الْهُدَى، وَهِيَ: السَّمْعُ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْعَقْلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَيُوقِفُهُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ كُلِّ مَا عَاقِبَتُهُ ذَمِيمَةٌ؛ فَلَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ.

وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ وَأَرْبَابِ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُمْ أَيَّدُوا إِيمَانَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَسَمِعُوا مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَجَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا، وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَالْحَسَنِ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ، وَهُمْ -فِي الْإِيمَانِ- بِحَسَبِ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخَيْرِ.

قَالَ -تَعَالَى- عَنْ هَؤُلَاءِ الدَّاخِلِينَ النَّارَ، الْمُعْتَرِفِينَ بِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أَيْ: بُعْدًا لَهُمْ وَخَسَارَةً وَشَقَاءً، فَمَا أَشْقَاهُمْ وَأَرْدَاهُمْ؛ حَيْثُ فَاتَهُمْ ثَوَابُ اللَّهِ، وَكَانُوا مُلَازِمِينَ لِلسَّعِيرِ الَّتِي تَسْتَعِرُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ!!

إِذَنْ؛ صِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْإِدْرَاكِ هُمَا الرَّكِيزَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا يَقُومُ سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَإِذَا مَا أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِحَّةِ الْفَهْمِ عَلَى عَبْدِهِ؛ فَقَدِ اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ.

((الْحَثُّ عَلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ))

إِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ أَطْيَبِ الْخِصَالِ، وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ:

مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

((يَقُولُ تَعَالَى -مُنَبِّهًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعًا لِقِتَالِ عَدُوِّهُمْ؛ فَإِنَّهُ تَحْصُلُ عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةُ بِذَلِكَ، وَيَفُوتُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَى؛ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} أَيْ: مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْقَبَائِلِ وَالْأَفْخَاذِ طَائِفَةٌ تَحْصُلُ بِهَا الْكِفَايَةُ وَالْمَقْصُودُ لَكَانَ أَوْلَى.

ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ فِي إِقَامَةِ الْمُقِيمِينَ مِنْهُمْ وَعَدَمِ خُرُوجِهِمْ مَصَالِحَ لَوْ خَرَجُوا لَفَاتَتْهُمْ، فَقَالَ: {لِيَتَفَقَّهُوا} أَيِ: الْقَاعِدُونَ {فِي الدِّينِ} {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أَيْ: لِيَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ، وَيَعْلَمُوا مَعَانِيَهُ، وَيَفْقَهُوا أَسْرَارَهُ، وَلِيُعَلِّمُوا غَيْرَهُمْ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ.

فَفِي هَذَا فَضِيلَةُ الْعِلْمِ؛ وَخُصُوصًا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ، وَأَنَّهُ أَهَمُّ الْأُمُورِ، وَأَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَعَلَيْهِ نَشْرُهُ وَبَثُّهُ فِي الْعِبَادِ، وَنَصِيحَتُهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّ انْتِشَارَ الْعِلْمِ عَنِ الْعَالِمِ مِنْ بِرْكَتِهِ وَأَجْرِهِ الَّذِي يُنَمَّى لَهُ.

وَأَمَّا اقْتِصَارُ الْعَالِمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَدَمُ دَعْوَتِهِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَتَرْكُ تَعْلِيمِ الْجُهَّالِ مَا لَا يَعْلَمُونَ؛ فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ؟!! وَأَيُّ نَتِيجَةٍ نَتَجَتْ مِنْ عِلْمِهِ؟!! وَغَايَتُهُ أَنْ يَمُوتَ؛ فَيَمُوتَ عِلْمُهُ وَثَمَرَتُهُ، وَهَذَا غَايَةُ الْحِرْمَانِ لِمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَمَنَحَهُ فَهْمًا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ -أَيْضًا- دَلِيلٌ وَإِرْشَادٌ وَتَنْبِيهٌ لَطِيفٌ لِفَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ؛ وَهِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا لِكُلِّ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَيُوَفِّرُ وَقْتَهُ عَلَيْهَا، وَيَجْتَهِدُ فِيهَا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا؛ لِتَقُومَ مَصَالِحُهُمْ، وَتَتِمَّ مَنَافِعُهُمْ، وَلِتَكُونَ وُجْهَةُ جَمِيعِهِمْ وَنِهَايَةُ مَا يَقْصِدُونَ قَصْدًا وَاحِدًا، وَهُوَ قِيَامُ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَلَوْ تَفَرَّقَتِ الطُّرُقُ وَتَعَدَّدَتِ الْمَشَارِبُ، فَالْأَعْمَالُ مُتَبَايِنَةٌ وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ، وَهَذِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ النَّافِعَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ بِإِجْمَالٍ.. الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فِي لِسَانِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ يَشْمَلُ الْفَهْمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ، لَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ، وَالْعِبَادَةَ، وَالْمُعَامَلَةَ، وَيَشْمَلُ الْأَخْلَاقَ وَالسُّلُوكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

رَتَّبَ النَّبِيُّ ﷺ الْخَيْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، وَعِظَمِ شَأْنِهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا». هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«إِذَا فَقِهُوا»: إِذَا صَارُوا فُقَهَاءَ.

فَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمَةٌ، وَدَرَجَتُهُ فِي الثَّوَابِ كَبِيرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَفَقَّهَ فِي أُمُورِ دِينِهِ، وَعَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ وَوَاجِبَاتٍ، إِذَا تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَرَفَ ذَلِكَ؛ عَبَدَ رَبَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَيُوَفَّقُ لِلْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَاسْتِخْدَامِ الْعَقْلِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا، وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).

فَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى الْحِفْظِ السَّلِيمِ، وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْكَلَامِ بنَصِّهِ، ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى صَاحِبِ الْفَهْمِ الضَّعِيفِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ، وَأَنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ قَدْ يَسْتَنْبِطُ مِمَّا سَمِعَ مَا لَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الرَّاوِي الَّذِي نَقَلَ الْكَلَامَ.

هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

((مَجَالَاتُ الْعَقْلِ وَمَوْقِعُهُ مِنَ الْوَحْيِ))

الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَغْنُوا عَنِ الْوَحْيِ بِالْعَقْلِ يَظْلِمُونَ الْعَقْلَ ظُلْمًا كَبِيرًا، وَيُبَدِّدُونَ طَاقَةَ الْعَقْلِ فِي غَيْرِ مَجَالِهَا.

إِنَّ لِلْعَقْلِ اخْتِصَاصَهُ، وَمَيْدَانَهُ، وَطَاقَتَهُ، فَإِذَا اشْتَغَلَ خَارِجَ اخْتِصَاصِهِ جَانَبَهُ الصَّوَابُ، وَحَالَفَهُ الشَّطَطُ وَالتَّخَبُّطُ، وَإِذَا أُجْرِيَ فِي غَيْرِ مَيْدَانِهِ كَبَا وَتَعَثَّرَ، وَإِذَا كُلِّفَ فَوْقَ طَاقَتِهِ كَانَ نَصِيبُهُ الْعَجْزَ وَالْكَلَالَ.

إِنَّ الْعَالَمَ الْمَادِّيَّ الْمَحْسُوسَ أَوْ عَالَمَ الطَّبِيعَةِ مَيْدَانُ الْعَقْلِ الْفَسِيحُ الَّذِي يَصُولُ فِيهِ وَيَجُولُ، فَيَسْتَخْرِجُ مَكْنُونَاتِهِ، وَيَرْبِطُ بَيْنَ أَسْبَابِهِ وَعِلَلِهِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ، فَيَكْشِفُ وَيَخْتَرِعُ، وَيَتَبَحَّرُ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ فِي مُخْتَلِفِ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ، وَتَسِيرُ عَجَلَةُ التَّقَدُّمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى أَمَامَ، أَمَّا إِذَا كُلِّفَ النَّظَرَ خَارِجَ اخْتِصَاصِهِ، أَيْ: مَا وَرَاءَ حُدُودِ الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَالْعَنَاءِ بِمَا لَا يَرْوِي غَلِيلًا، وَلَا يَشْفِي عَلِيلًا، بَلْ يَرْجِعُ بِسَخَافَاتٍ وَشَطَحَاتٍ.

وَأَمَّا مَوْقِعُ الْعَقْلِ مِنَ الْوَحْيِ؛ فَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْوَحْيَ يُلْغِي الْعَقْلَ، وَيَطْمِسُ نُورَهُ، وَيُورِثُهُ الْبَلَادَةَ وَالْخُمُولَ، وَهَذَا زَعْمٌ كَاذِبٌ لَيْسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ نَصِيبٌ؛ فَالْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ وَجَّهَ الْعُقُولَ إِلَى النَّظَرِ فِي الْكَوْنِ، وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ، وَحَثَّ الْإِنْسَانَ عَلَى اسْتِعْمَارِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَاسْتِثْمَارِهَا، وَفِي مَجَالِ الْعُلُومِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ وَظِيفَةُ الْعَقْلِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا لِيَسْتَوْثِقَ مِنْ صِحَّةِ نِسْبَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ وَحْيَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَخْدِمَ الْعَقْلَ الَّذِي وَهَبَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي فَهْمِ وَتَدَبُّرِ الْوَحْيِ، ثُمَّ يَجْتَهِدَ فِي التَّطْبِيقِ وَالتَّنْفِيذِ.

وَالْوَحْيُ مَعَ الْعَقْلِ كَنُورِ الشَّمْسِ أَوِ الضَّوْءِ مَعَ الْعَيْنِ، فَإِذَا حُجِبَ الْوَحْيُ عَنِ الْعَقْلِ لَمْ يَنْتَفِعِ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُبْصِرَ لَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنَيْهِ إِذَا عَاشَ فِي ظُلْمَةٍ، فَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ وَانْتَشَرَ ضَوْؤُهَا انْتَفَعَ بِنَاظِرَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، إِذَا أَشْرَقَ الْوَحْيُ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ أَبْصَرَتْ وَاهْتَدَتْ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

الْعَقْلُ يَعْمَلُ فِي إِثْبَاتِ النَّصِّ، فَإِذَا وُثِّقَ الْخَبَرَ وَثَبَتَ فَلَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ -حِينَئِذٍ-، لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ مَا ثَبَتَ، وَاعْتِقَادِ مَا ثَبَتَ، هَذَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِيمَانِ، يَعْنِي: عِنْدَمَا يَثْبُتُ النَّصُّ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، الْعَقْلُ يَعْمَلُ فِي إِثْبَاتِ النَّصِّ، فَإِذَا ثَبَتَ؛ لَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ، لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ -حِينَئِذٍ- وَكَيْفَ؟ وَهَلْ يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ؟ أَوْ تَكُونُ السَّمَاءُ تُظِلُّهُ؟ أَمْ تَكُونُ الْأُخْرَى تُقِلُّهُ؟!! مَا هَذَا الْكَلَامُ؟!! هَذَا لَا يُقَالُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ.

فَما يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ؛ الْعَقْلُ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي إِثْبَاتِ النَّصِّ أَوْ فِي تَزْيِيفِهِ، فَمَا زُيِّفَ رُدَّ، وَمَا صَحَّ وَثَبَتَ قُبِلَ، وَمَا ثَبَتَ لَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ.

فَمَنْهَجُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِلْمِ هُوَ -وَبِهِ سَبَقُوا-: ((إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ)).

((إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ))؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَقْلِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِالنَّقْلِ، فَمَهْمَا أَتَانَا إِنْسَانٌ بِنَقْلٍ نُطَالِبُهُ بِالصِّحَّةِ، يَعْنِي: بِصِحَّةِ الْمَنْقُولِ-، وَمَهْمَا أَتَانَا إِنْسَانٌ بِمَعْقُولٍ نُطَالِبُهُ بِالدَّلِيلِ، هَذَا قَانُونُ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَفِي تَلَقِّيهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِهِ، وَفِي نَشْرِهِ، وَبِهِ قَامَتْ وَعَلَيْهِ الْحَضَارَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي أَزْهَى عُصُورِهَا الْعِلْمِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُمْ.

فَهَذَا الْإِيمَانُ الصِّدِّيقِيُّ هُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، عَقْلُكَ يَعْمَلُ فِي إِثْبَاتِ النَّصِّ، فَإِذَا ثَبَتَ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّكَ تُرَاجِعُ إِيمَانَ الْقِمَّةِ مَرَّةً أُخْرَى، يَعْنِي: أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ قَادِرًا وَمُقْتَدِرًا وَقَدِيرًا، وَمِنْ صِفَاتِهِ: الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا حُدُودَ لَهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ تَسْتَغْرِبُهُ أَوْ تُنْكِرُهُ: تُجْمَعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ، ثُمَّ يُطْرَحُ بِهِمَا فِي النَّارِ، قَدْ يَقُولُ إِنْسَانٌ: كَيْفَ هَذَا؟!!

هَذَا يَسْتَغْرِبُهُ عَقْلُكَ أَنْتَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَنُوطًا بِالْقُدْرَةِ؛ فَكَيْفَ تَسْتَغْرِبُهُ؟!!

مَنِ الَّذِي سَيَفْعَلُ ذَلِكَ؟

اللهُ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِذَا قُلْتَ: كَيْفَ وَتَوَقَّفْتَ؛ فَأَنْتَ تُرَاجِعُ إِيمَانَ الْقِمَّةِ، أَنْتَ تُرَاجِعُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِيمَنْ آمَنْتَ بِهِ، كَأَنَّكَ تُنْكِرُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، هَذَا خَطَأٌ، فَمُرَاجَعَةُ إِيمَانِ الْقِمَّةِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ عِنْدَ كُلِّ نَصٍّ يُسْتَغْرَبُ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْحَتْ بِهَذَا الِاسْتِغْرَابَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَفِي أَزْمِنَةٍ قَبْلَهُ.. هَذَا مُرَاجَعَةٌ لِإِيمَانِ الْقِمَّةِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ وَعَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ إِيمَانٌ صَحِيحٌ.

الْعَقْلُ يَعْمَلُ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ فَقَطْ، فَإِذَا ثَبَتَ النَّصُّ فَمَا هُوَ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالتَّسْلِيمُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصِّدِّيقِيُّ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ عَادَ وَفِرَاشُهُ لَمْ يَزَلْ دَافِئًا بَعْدُ.

فَوَثَّقَ النَّصَّ، قَالَ: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَا، بَلْ قَالَ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ ﷺ.

إِذَنْ أَمْرَانِ:

*الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: تَوْثِيقُ النَّصِّ: ((أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ))، قَالُوا: ((لَا، بَلْ قَالَ))، فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

*الْأَمْرُ الثَّانِي: إِذَا ثَبَتَ النَّصُّ فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِلْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ، هَذَا قَانُونُ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا هُوَ الْقَانُونُ الْعِلْمِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا: ((إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ))، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَصَاغَ ذَلِكَ بِصِيَاغَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: ((الْعِلْمُ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ))، فَهَذَا النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ هُوَ الشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْمَقُولَةِ: عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، دَعْوَى مُحَقَّقَةٌ، وَنَقْلٌ مُصَدَّقٌ.

فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ.

تَوْثِيقُ الْخَبَرِ وَتَوْثِيقُ النَّصِّ هُوَ عَمَلُ الْعَقْلِ.

فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ، وَأَنْتَ لَا يَنْفُذُ بَصَرُكَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ، وَإِنَّمَا بَصَرُكَ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تُطْلَقُ لَهُ الرُّؤْيَةُ إِلَى الْمَدَى، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودٍ؛ فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ فَلِلْعَقْلِ مَجَالٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ.

فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَيُعْمِلُ الْعَقْلَ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ.

يَقُولُ: ((أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ)).

قَالُوا: ((لَقَدْ قَالَ)).

فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِحَقٍّ.

قَالَ: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

وَإِذَنْ؛ يَأْتِي الْعَامِلُ الثَّانِي مِنَ الرَّكِيزَتَيْنِ وَالْعَامِلَيْنِ الْأَسَاسِيَّيْنِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ، قَالُوا: ((سَمِعْنَا)) بِتَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ، فَإِذَا مَا ثَبَتَ النَّقْلُ، وَإِذَا مَا تَوَثَّقَ النَّصُّ؛ فَلَيْسَ إِلَّا الطَّاعَةُ، وَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)).

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَضَعُ الْمَنْهَجَ لِلنَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ، أَمَّا أَنْ يَثْبُتَ النَّصُّ، ثُمَّ يَدْخُلَ الْعَقْلُ لَا فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا فِي فَلْسَفَةِ النَّصِّ!! وَفِي تَجَاوُزِ حُدُودِ النَّصِّ!! وَفِي تَفْجِيرِ النَّصِّ مِنْ دَاخِلٍ، كَمَا يَقُولُ الْعَلْمَانِيُّونَ عِنْدَمَا يُرِيدُونَ تَفْجِيرَ اللُّغَةِ مِنَ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَيُرِيدُونَ هَدْمَ الْقُرْآنِ -وَهَيْهَاتَ- عَلَى رُؤُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَيْهَاتَ!!

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَفِظَهُ، وَسَيَظَلُّ بِحِفْظِ اللهِ مَحْفُوظًا حَتَّى يَرْفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَمَا يَنَامُ النَّاسُ النَّوْمَةَ قَبْلَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُونَ وَلَيْسَ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْقُلُوبِ وَلَا فِي الْعُقُولِ وَلَا فِي الْقَرَاطِيسِ مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ مِنْ أَجْلِ هَدْمِهِ، وَأَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ مِنْ أَجْلِ تَفْرِيغِهِ مِنْ مُحْتَوَاهُ؛ فَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُفْلِحًا فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ الْأَخْسَرِينَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كُلُّ عَاقِلٍ يُقِرُّ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ حُدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُهَا، وَإِذَا تَعَدَّاهَا فَإِنَّ الْخَلْطَ يَتَأَتَّى إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.

فَمِنَ الْعَقْلِ أَلَّا يُتَجَاوَزَ بِالْعَقْلِ حَدُّهُ، هَذَا مِنَ الْعَقْلِ، وَأَنْ يُوقَفَ الْعَقْلُ عِنْدَ حَدِّهِ، فَهَذَا مِنَ الْعَقْلِ.

((هَدْمُ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ))

عِبَادُ اللهِ! مِنَ الْقَوَاعِدِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي كَانَ لَهَا أَثَرٌ سَيِّءٌ عَلَى عَقَائِدِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاعِدَةُ تَقْدِيمِ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ فِي حَالَةِ التَّعَارُضِ، وَالتَّعَارُضُ مُتَوَهَّمٌ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ بِتَعَارُضٍ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَاعِدَةٌ بَاطِلَةٌ، مِمَّنْ رَدَّهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا: شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: ((دَرْءُ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ))، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-، قَالَ: ((إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَدْلُولَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَرَفْعُهُمَا رَفْعٌ لِلنَّقِيضَيْنِ مَعًا)).

تَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ، وَوُجُوبِ قَبُولِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ -فَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ-، فَلَوْ أَبْطَلْنَا النَّقْلَ لَكُنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ، وَإِذَا أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلنَّقْلِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُوجِبًا عَدَمَ تَقْدِيمِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ.

((فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِدْقِ السَّمْعِ وَصِحَّتِهِ، وَأَنَّ خَبَرَهُ مُطَابِقٌ لِمَخْبَرِهِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةُ بَاطِلَةً لِبُطْلَانِ النَّقْلِ؛ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا صَحِيحًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَّبَعَ بِحَالٍ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ؛ فَصَارَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ قَدْحًا فِي الْعَقْلِ بِانْتِفَاءِ لَوَازِمِهِ وَمَدْلُولِهِ، وَإِذَا كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى النَّقْلِ يَسْتَلْزِمُ الْقَدْحَ فِيهِ، وَالْقَدْحُ فِيهِ يَمْنَعُ دَلَالَتَهُ، وَالْقَدْحُ فِي دَلَالَتِهِ يَقْدَحُ فِي مُعَارَضَتِهِ؛ كَانَ تَقْدِيمُهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ مُبْطِلًا لِلْمُعَارَضَةِ؛ فَامْتَنَعَ تَقْدِيمُهُ عَلَى النَّقْلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ)).

رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً، إِنَّمَا حَارَبَهُمْ بِأَسْلِحَتِهِمْ فَأَرْدَاهُمْ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً.

وَقَالَ: ((وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ الْعَالِمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَارِضَ خَبَرَهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ؛ كَانَ هَذَا الْعَقْلُ شَاهِدًا بِأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ خَبَرَ الرَّسُولِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ جَمِيعًا شَهِدَا بِبُطْلَانِ الْعَقْلِ الْمُخَالِفِ لِلسَّمْعِ)).

هَذَا مَا تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي إِلَيْهَا يَحْتَكِمُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى تَقْدِيمِ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ، فَمَهْمَا أَتَاهُمْ مِمَّا لَا يُعْجِبُهُمْ مِنَ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً؛ فَيَقُومُونَ بِتَأْوِيلِهَا رُكُونًا إِلَى مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ جَهْلِيَّاتٌ، فَمَثَلًا: إِذَا جَاءَهُمْ مُتَوَاتِرًا: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؛ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَقْلَ يَنْفِي هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُسْتَوٍ حَقِيقَةً عَلَى عَرْشِهِ، ثُمَّ يُكُرُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النُّصُوصِ، النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهَا وَجَحْدَهَا يُؤَوِّلُونَهَا، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُبْطِلُونَهُ وَيَجْحَدُونَهُ.

وَالْأَمْرُ يَسِيرٌ -كَمَا مَرَّ-، وَكَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ، أَتَتْهُمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الصِّفَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَوْصُوفِ، وَأَنَّ الْمُسْنَدَ عَلَى حَسَبِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَرَبُّهُمْ -جَلَّ وَعَلَا- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ فَمَهْمَا وُصِفَ بِهِ مِنْ صِفَةٍ فَلَيْسَ كَمِثْلِهَا صِفَةٌ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوُا التَّحَاكُمَ إِلَى الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ صُدُورَهُمْ حَرِجَتْ مِنْ مِثْلِ هَذَا الَّذِي أَخَذَ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَوَقَعُوا أَوَّلًا فِي التَّشْبِيهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَفِرُّوا مِنَ التَّشْبِيهِ فَوَقَعُوا فِي التَّعْطِيلِ، فَكُلُّ مُعَطِّلٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشَبِّهًا، مَا الَّذِي يُلْجِئُهُ إِلَى النَّفْيِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ؟! أَنَّهُ مُشَبِّهٌ أَوْ مُمَثِّلٌ، فَوَقَعَ فِي خَاطِرِهِ مَا يَسُوءُ عِنْدَمَا سَمِعَ النَّصَّ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ تَحَمُّلَهُ فَرَّ مِنَ الرَّمْضَاءِ إِلَى النَّارِ، فَعَطَّلَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ كَمَالَاتِهِ وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

 وَلَا نُحَكِّمُ فِي النَّصِّ الْعُقُولَ وَلَا = نَتَائِجَ الْمَنْطِقِ الْمَمْحُوقِ نَعْتَمِدُ

إِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كَثِيرًا مَا أُتُوا مِنْ قِبَلِ تَحْكِيمِهِمْ لِلْعَقْلِ فِي تَقْرِيرِ مَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ، مَعَ رَدِّهِمْ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِدَعْوَى تَنَاقُضِهَا مَعَ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ، وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الِانْحِرَافِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَقَدِيَّةِ، وَالْوُصُولِ فِيهَا إِلَى نَتَائِجَ مُخَالِفَةٍ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، الْأَمْرُ الَّذِي أَدَّى بِدَوْرِهِ إِلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي لَا عِصْمَةَ مِنْهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

تَحَدَّثَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الِاعْتِصَامِ)) عَنْ بَعْضِ مَظَاهِرِ الِانْحِرَافِ فِي طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ، فَذَكَرَ مِنْهَا: «رَدَّهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ، وَغَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عِنْدَهُمْ».

أَدَّى هَذَا الْمَنْهَجُ الْمُنْحَرِفُ إِلَى رَدِّ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالطَّعْنِ عَلَى رُوَاتِهَا وَإِنْ كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ-، أَوْ مَنِ اتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ.

وَعِنْدَمَا تَرَكَ أَهْلُ الْبِدَعِ الِاعْتِصَامَ بِنُصُوصِ الْوَحْيِ، وَاحْتَكَمُوا إِلَى عُقُولِهِمْ؛ انْحَرَفُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَتَعَدَّدَتْ بِعَدَدِ عُقُولِهِمُ الَّتِي تَفَاوَتَتْ تَفَاوُتًا كَبِيرًا، وَعَدَدِ أَفْهَامِهِمُ الَّتِي تَبَايَنَتْ وَتَنَاقَضَتْ؛ وَبِذَلِكَ ازْدَادَتْ هُوَّةُ الْخِلَافِ غَوْرًا، وَضَرَبَ التَّفَرُّقُ بِجِرَانِهِ، وَتَعَمَّقَتْ جُذُورُهُ.

مَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُ لَا دَوْرَ لَهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَسَائِلِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَحْيُ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ يُعَدُّ إِقْحَامًا لَهُ فِي أُمُورٍ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا.

أَهْلُ الْبِدَعِ يَدَّعُونَ إِمْكَانِيَّةَ حُدُوثِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَارَضَ نَقْلٌ صَحِيحٌ مَعَ عَقْلٍ صَرِيحٍ، فَإِذَا مَا وَقَعَ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ فَإِمَّا أَنَّ النَّقْلَ لَا يَثْبُتُ، وَإِمَّا أَنَّ الْعَقْلَ قَدْ ضَلَّ وَهَامَ.

هُمْ يُضِيفُونَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْبَاطِلِ أَصْلًا آخَرَ أَشَدَّ بُطْلَانًا؛ وَهُوَ: وُجُوبُ تَقْدِيمِ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَ حُدُوثِ هَذَا التَّعَارُضِ الْمَزْعُومِ.

الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ دَائِمًا يُوَافِقُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ، قَدْ تَقْصُرُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ وَلِذَلِكَ قَدْ تَتَوَهَّمُ هَذِهِ الْعُقُولُ الْقَاصِرَةُ حُدُوثَ نَوْعِ تَعَارُضٍ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَ تَوَهُّمِ هَذَا التَّعَارُضِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ مِنْهُمَا.

أَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فَيَقُولُونَ: إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ، أَوِ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ، أَوِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَوِ الظَّوَاهِرُ النَّقْلِيَّةُ وَالْقَوَاطِعُ الْعَقْلِيَّةُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَدَّا جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ السَّمْعُ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ النَّقْلِ، فَلَوْ قَدَّمْنَاهُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النَّقْلِ، وَالْقَدْحُ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ قَدْحٌ فِيهِ؛ فَكَانَ تَقْدِيمُ النَّقْلِ قَدْحًا فِي النَّقْلِ وَالْعَقْلِ جَمِيعًا، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ، ثُمَّ النَّقْلُ إِمَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ، وَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ، وَأَمَّا إِنْ تَعَارَضَا تَعَارُضَ الضِّدَّيْنِ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَمْتَنِعِ ارْتِفَاعُهُمَا.

هَذِهِ شُبْهَتُهُمْ، وَقَدْ مَرَّ رَدُّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي ((دَرْءِ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ)) عَلَى هَذَا الْهُرَاءِ الْكَاذِبِ، وَقَدْ نَسَفَهُ نَسْفًا -رَحِمَهُ اللهُ- بِاسْتِخْدَامِ الطُّرُقِ عَيْنِهَا الَّتِي يَلْجَئُونَ إِلَيْهَا مِمَّا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنِ التَّسْلِيمِ بِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

الْكِتَابُ مِنْ أَعْظَمِ مَا كُتِبَ فِي تَارِيخِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْإِنْسَانِيِّ، وَهَذَا بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُهْتَمِّينَ بِآثَارِ تُرَاثِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ، وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَابِ الصَّحِيحِ.. أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ مِثْلُهُمَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ، أَنَّ ((الدَّرْءَ)) لَمْ يُكْتَبْ مِثْلُهُ، فَرَحِمَ اللهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنْ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي قُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى التَّوَغُّلِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّفْرِ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّهُ كَالْبَحْرِ الْخِضَمِّ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِلدُّخُولِ فِيهِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ بِالْفَائِدَةِ الْمَرْجُوَّةِ.

وَلَا نُحَكِّمُ فِي النَّصِّ الْعُقُولَ وَلَا = نَتَائِجَ الْمَنْطِقِ الْمَمْحُوقِ نَعْتَمِدُ

أَفْتَى الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ -رَحِمَهُ اللهُ- فَتْوَاهُ الْمَشْهُورَةَ بِتَحْرِيمِ الْمَنْطِقِ، قَالَ فِيهَا: «وَلَيْسَ الِاشْتِغَالُ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِعُ وَلَا اسْتَبَاحَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ».

وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى فِي كِتَابِهِ ((صَوْنِ الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ))، وَبَيَّنَ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَزَادَ أَقْوَالًا أُخْرَى كَثِيرَةً لِلْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِ الْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ».

عِلْمُ الْمَنْطِقِ هُوَ طَرِيقُ الْفَلْسَفَةِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: «أَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ، وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ؛ حَتَّى رَأَيْتُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ».

وَأَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِتَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ، وَقَالَ: «هُوَ مَدْخَلُ الْفَلْسَفَةِ، وَمَدْخَلُ الشَّرِّ شَرٌّ، وَلَيْسَ الِاشْتِغَالُ بِتَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِعُ، وَلَا اسْتَبَاحَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَسَائِرِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ أَعْلَامِ الْأُمَّةِ وَسَادَتِهَا، وَأَرْكَانِ الْأُمَّةِ وَقَادَتِهَا، قَدْ بَرَّأَ اللهُ الْجَمِيعَ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَأَدْنَاسِهِ، وَطَهَّرَهُمْ مِنْ أَوْضَارِهِ)).

لَقَدْ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَالنُّورِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، فَبَيَّنَ لِلنَّاسِ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ  فِي الْأَحْكَامِ وَالِاعْتِقَادِ، وَمَا كَتَمَ ﷺ شَيْئًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْتَحِقْ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى تَرَكَ الْأُمَّةَ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ؛ فَلَا شَيْءَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَعَلَّمَهُ أَصْحَابَهُ، وَنَقَلُوهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَلَالَةٍ وَلَا شُبْهَةٍ إِلَّا وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدْحَضُهَا وَيُبْطِلُهَا، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا.

وَأَعْظَمُ مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَبَلَّغَهُ أُمَّتَهُ، وَأَعْظَمُ مَا كَانَ يَحْرِصُ أَصْحَابُهُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ هُوَ: مَعْرِفَةُ اللهِ -تَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ سَائِرُ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، وَلَا يَبْلُغُونَهَا بِعُلُومِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْحَقِّ فِيهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ.

وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْإِسْلَامِ ضَلُّوا السَّبِيلَ، وَالْتَمَسُوا الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ يَبْحَثُ فِي غَيْرِهِمَا عَمَّا يَعْتَقِدُهُ فِي رَبِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ ابْتُلِيَ بِأَهْلِ الْفَلْسَفَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُنْقَرِضَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ وَيُدَافِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ؛ لَكِنْ بِغَيْرِ مَنْهَجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَخَذَ يُجَادِلُ بِالْعَقْلِ، وَيُدَافِعُ بِالْهَوَى، وَيَرُدُّ بَعْضَ الدِّينِ لِيُدَافِعَ عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَيُنْكِرُ شَيْئًا لِيُثْبِتَ شَيْئًا.

كَمَا وَجَدَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَالْمَقَالَاتِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَاتِ وَسِيلَةً لِدَعْمِ بِدَعِهِمْ وَآرَائِهِمْ، وَكَانَتِ الْفَلْسَفَةُ الْيُونَانِيَّةُ الْوَثَنِيَّةُ مَعْرُوفَةً فِي الدَّوْلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْأَقَالِيمِ التَّابِعَةِ لَهَا؛ كَبِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَقَدْ فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْبِلَادَ، وَدَخَلَ أَهْلُهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ رَوَاسِبِهَا عَنْ جَهْلٍ أَوْ قَصْدٍ، وَالْفَلْسَفَاتُ الْيُونَانِيَّةُ اتِّجَاهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَالْخَوْضُ فِيمَا لَا تَبْلُغُهُ الْعُقُولُ، وَقَدْ كَانَ فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ مِنْ أَمْثَالِ أَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَثَنِيِّينَ بَعِيدِينَ عَنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَقَدْ لَقِيَتْ رَوَاسِبُ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ رَوَاجًا عِنْدَ الْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ؛ كَالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ الصِّفَاتِ، وَكَذَا عِنْدَ تِلْمِيذِهِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مُؤَسِّسِ الْجَهْمِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ مُؤَسِّسِ الِاعْتِزَالِ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَتَوَسَّعُوا فِي نَقْلِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ، وَأَعْرَضُوا عَنْ مَنْهَجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي عَرْضِ الْعَقِيدَةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا، وَالدِّفَاعِ عَنْهَا، وَوَضَعُوا قَوَاعِدَ مَا سُمِّيَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ.

وَلَمَّا كَانَ عَصْرُ الْمَأْمُونِ أَنْشَأَ دَارًا لِلتَّرْجَمَةِ، وَاسْتَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ، وَاعْتَنَقَ هُوَ بِدْعَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَقَرَّبَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ، فَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ، وَانْتَشَرَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ، وَمُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَخَذَتْ بِدْعَةُ الْكَلَامِ تَرُوجُ، وَتَتَسَرَّبُ إِلَى الْعُلُومِ الْأُخْرَى؛ حَتَّى أَصْبَحَ فِي الْعُصُورِ الْأَخِيرَةِ يُسَمَّى (عِلْمَ التَّوْحِيدِ)!!

وَقَدْ وَقَفَ لَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْمِرْصَادِ، وَأَعْظَمُ مَنْ نَقَضَهُ وَنَسَفَ أُصُولَهُ وَقَوَاعِدَهُ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَفِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ يَتَعَرَّضُ عِلْمُ الْكَلَامِ لِلِانْهِيَارِ نَتِيجَةَ عَامِلَيْنِ مُهِمَّيْنِ:

الْأَوَّلُ: انْهِيَارُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا رَأْيُ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَدِيثَ أَثْبَتَ بُطْلَانَ أَكْثَرِ مَا قَرَّرَتْهُ مِنْ أُمُورٍ؛ بَلْ إِنَّ الْغَرْبِيِّينَ أَنْفُسَهُمْ لَا يَذْكُرُونَ أَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأَمْثَالَهُمَا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّارِيخِ.

الثَّانِي: النَّهْضَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمُعَاصِرَةُ الَّتِي اتَّجَهَتْ فِي غَالِبِهَا إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَشْتَمِلَانِ عَلَى الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ، أَكْثَرُ الْعُقُولِ قُوَّةً وَكَمَالًا هِيَ أَكْثَرُهَا فَهْمًا لِتِلْكَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَاسْتِنْبَاطًا مِنْهَا، لَيْسَ دِينُ الْإِسْلَامِ مُجَرَّدَ أَخْبَارٍ مَرْوِيَّةٍ وَلَا بُرْهَانَ فِيهَا يَتَنَاقَلُهَا النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ كَمَا يَظُنُّ بَلْ يَعْتَقِدُ الْمُتَكَلِّمُونَ.

قَدْ نَاظَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ أَصْنَافَ الْكُفَّارِ بِالْقُرْآنِ، فَقَهَرُوهُمْ وَأَفْحَمُوهُمْ، وَسَارَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ، فَأَقَامُوا الْحُجَّةَ، وَقَطَعُوا الْخُصُومَ دُونَ اسْتِعَانَةٍ بِمَصْدَرٍ آخَرَ سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ، فَأَغْنَانَا اللهُ -تَعَالَى- عَنْ هَذَا كُلِّهِ.

لَكِنْ لَنَا نَصُّ آيَاتِ الْكِتَابِ وَمَا = عَنِ الرَّسُولِ رَوَى الْأَثْبَاتُ مُعْتَمَدُ

((لَنَا نَصُّ آيَاتِ الْكِتَابِ))؛ يَعْنِي: الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، ((وَمَا عَنِ الرَّسُولِ رَوَى الْأَثْبَاتُ مُعْتَمَدُ))؛ يَعْنِي: سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ بِأَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ: الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْرِيرِيَّةِ.

قَالَ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)). رَوَاهُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْمُوَطَّأِ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ.

وَلَا نُصِيخُ لِعَصْرِيٍّ يَفُوهُ بِمَا = يُنَاقِضُ الشَّرْعَ أَوْ إِيَّاهُ يَعْتَقِدُ

«(يُصِيخُ) مِنْ (أَصَاخَ لَهُ يُصِيخُ إِصَاخَةً)؛ أَيِ: اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ لِصَوْتٍ»، وَالْمَعْنَى: لَا نَسْتَمِعُ لِكَلَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ.

فَلَا نَلْتَفِتُ لِأَيِّ قَوْلٍ يُصْدِرُهُ مُعَاصِرٌ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يُصَادِمُ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ مَوْجُودٌ فِي النُّصُوصِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتُ، وَالْهِدَايَةُ كُلُّهَا فِيهَا.

فَكُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِمَّا يُنَاقِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ، فَهُوَ مُجَرَّدُ هُرَاءٍ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، فَكَلِمَةُ (عَصْرِيٍّ) تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَصْرِيُّ الْمَقْصُودُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ؛ (لِعَصْرِيٍّ)؛ يَعْنِي: لِأَيِّ عَصْرِيٍّ.. لِكُلِّ دُعَاةِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

الْعَصْرَانِيَّةُ: «مَذْهَبٌ فِكْرِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالثَّقَافَةَ الْمُعَاصِرَةَ يَسْتَلْزِمَانِ إِعَادَةَ تَأْوِيلِ التَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي ضَوْءِ الْمَفَاهِيمِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ السَّائِدَةِ.

الْعَصْرَانِيَّةُ: هِيَ الْحَرَكَةُ الَّتِي سَعَتْ إِلَى تَطْوِيعِ مَبَادِئِ الدِّينِ لِقِيَمِ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ وَمَفَاهِيمِهَا، وَالَّتِي هِيَ رَبِيبَةٌ لِلثَّقَافَةِ الْيُونَانِيَّةِ، يَسْعَوْنَ إِلَى إِخْضَاعِ الدِّينِ لِتَصَوُّرَاتِهَا وَوُجْهَةِ نَظَرِهَا فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ».

زَعَمَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّجْدِيدَ لِتَنْهَضَ الْأُمَّةُ مِنْ كَبْوَتِهَا، فَيُرِيدُونَ إِعَادَةَ كِتَابَةِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ خِلَالِ طَرْحِ الْعَدِيدِ مِنَ الْدِّرَاسَاتِ وَالْأَبْحَاثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتُّرَاثِ، إِلَّا أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى إِحْيَاءِ وَتَمْجِيدِ الِاتِّجَاهَاتِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ وَعَرْضِهَا فِي إِطَارٍ عَقْلَانِيٍّ تَحْتَ مِظَلَّةِ الِانْتِمَاءِ إِلَى التُّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ، ثُمَّ قَامُوا بِطَرْحِ الْعَدِيدِ مِنَ الشِّعَارَاتِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ مَفْهُومِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمَارْكسِيَّةِ، أَوِ الْقَوْمِيَّةِ وَالِاشْتِرَاكِيَّةِ، أَوْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ.

الْعَصْرَانِيَّةُ: «حَرَكَةُ تَحْدِيثٍ وَاسِعَةٍ نَشِطَتْ فِي دَاخِلِ الْأَدْيَانِ الْكُبْرَى؛ دَاخِلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَدَاخِلَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَدَاخِلَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْحَرَكَةُ عُرِفَتْ فِي الْفِكْرِ الدِّينِيِّ الْغَرْبِيِّ بِاسْمِ الْعَصْرَانِيَّةِ، وَكَلِمَةُ (عَصْرَانِيَّة) هُنَا لَا تَعْنِي مُجَرَّدَ الِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ، وَلَكِنَّهَا مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ»؛ إِذْ تَعْنِي الْعَصْرَانِيَّةَ فِي الدِّينِ.

مِنْ أَفْكَارِ الْعَصْرَانِيِّينَ: دَعْوَى تَطْوِيرِ الدِّينِ لِيُسَايِرَ بِزَعْمِهِمُ الْحَضَارَاتِ الْوَافِدَةَ، فَدَأَبَ هَؤُلَاءِ عَلَى مُحَاوَلَاتِ تَطْوِيعِ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ حَتَّى تُسَايِرَ مُعْطَيَاتِ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَاتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ آرَاءَ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَسَارَ عَلَى نَهْجِ الْعَصْرَانِيَّةِ الْمُتَحَرِّرَةِ عَدَدٌ مِنْ كُتَّابِ الْمُسْلِمِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ مُؤَلَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ فِي هَذَا الْمَجَالِ.

مِنْ أَفْكَارِ الْعَصْرَانِيِّينَ: تَقْدِيسُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا عَلَى خُطَى مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَيْثُ إِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْعَقْلَ مَبْدَأَ أُصُولِ الْعِلْمِ، وَجَعَلُوا الْوَحْيَ تَابِعًا لَهُ، بَلْ حَكَّمُوا الْعَقْلَ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ، فَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهَا إِلَّا مَا أَيَّدَهُ الْعَقْلُ وَوَافَقَهُ، وَيَرْفُضُونَ مِنْهَا مَا عَارَضَهُ وَخَالَفَهُ، وَيَتَّفِقُ أَصْحَابُ الِاسْتِنَارَةِ عَامَّةً عَلَى إِعْلَاءِ دَوْرِ الْعَقْلِ، وَافْتِرَاضِ الصِّرَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّقْلِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ تَنْفِيذِ رَغْبَتِهِمْ فِي تَطْوِيرِ الشَّرِيعَةِ أَوْ تَجَاوُزِ نُصُوصِهَا.

مِنْ أَفْكَارِ الْعَصْرَانِيِّينَ: «الدَّعْوَةُ إِلَى التَّجْدِيدِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَيَرَى الْعَصْرَانِيُّونَ أَنَّهُ فِي ضَوْءِ الظُّرُوفِ الْجَدِيدَةِ وَتَوَسُّعِ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّفَاسِيرِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْخُرَافَاتِ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي فَهْمُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ مِنْ خِلَالِ مَعْرِفَتِنَا وَتَجَارِبِنَا الذَّاتِيَّةِ»؛ لِذَلِكَ يَرُدُّونَ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَآرَاءِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ.

وَدَعَا الْعَصْرَانِيُّونَ إِلَى التَّجْدِيدِ فِي قَضَايَا تَفْسِيرِ كِتَابِ اللهِ انْطِلَاقًا مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَاقِعِ الْمُعَاصِرِ.

مِنْ أَفْكَارِ الْعَصْرَانِيِّينَ: الدَّعْوَةُ إِلَى تَطْوِيرِ أُصُولِ الْحَدِيثِ، وَعَدَمِ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي مَجَالِ الْمُعَامَلَاتِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الشَّرِيفَةَ تَقِفُ حَجَرَ عَثْرَةٍ أَمَامَ رَغْبَتِهِمْ فِي تَطْوِيرِ الشَّرِيعَةِ لِيَتَجَاوَزُوا مَا خَلَّفَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ تُرَاثٍ فِقْهِيٍّ عَظِيمٍ.

وَمِنْ مُحَاوَلَاتِهِمُ الْمَشْبُوهَةِ خِلَالَ التَّشْكِيكِ فِي السُّنَّةِ وَالسَّعْيِ لِلِابْتِعَادِ عَنِ الْأَخْذِ بِحُجِّيَّتِهَا فِي الْأَحْكَامِ: «أَنَّهُمْ قَسَّمُوهَا إِلَى سُنَّةٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَسُنَّةٍ غَيْرِ تَشْرِيعِيَّةٍ»، كَذَلِكَ مَوْقِفُهُمُ الْمُرِيبُ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَخَبَرِ الْآحَادِ، فَهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى ضَرُورَةِ انْسِجَامِ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَعَ عُقُولِهِمْ مَهْمَا عَلَتْ مَرْتَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ.

لَقَدْ رَدَّ هَؤُلَاءِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِ وَالْجِنِّ وَأَخْبَارِ الْآخِرَةِ، كَمَا رَدَّهَا قَبْلَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَرِجَالُ الْمَدْرَسَةِ الْإِصْلَاحِيَّةِ.

مِنْ مُحَاوَلَاتِهِمْ: رَدُّهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ.

وَكَذَلِكَ مِنْ مُحَاوَلَاتِهِمُ: الدَّعْوَةُ إِلَى تَطْوِيرِ أُصُولِ الْفِقْهِ، خَاصَّةً فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَسِيَاسَةِ الْحُكْمِ، وَشُئُونِ الْمُجْتَمَعِ.

وَهَذِهِ الْمُحَاوَلَاتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّرَاثِ وَبِالسُّنَّةِ خَاصَّةً، ظَهَرَ لَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، كُلُّهُمْ يَدْعُو إِلَى هَدْمِ السُّنَّةِ وَتَجَاوُزِهَا، وَيَدَّعُونَ الِاكْتِفَاءَ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، أَوْ أَنَّهُ مُفَكِّرٌ يُعْمِلُ الْفِكْرَ فِي النُّصُوصِ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ يُرَدِّدُونَ كَالْبَبَّغَاوَاتِ مَا لَقَّنَهُمْ إِيَّاهُ أَسَاتِذَتُهُمْ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ وَالْحَقَدَةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

هَذَا تَيَّارٌ مُمَنْهَجٌ مَدْرُوسٌ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ -إِذَا بَدَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ- إِلَى الْمَأْمُولِ عِنْدَهُمْ مِنْ نَسْفِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالتَّشْكِيكِ فِيهَا، كَمَا قَدْ سَمِعْتَ وَرَأَيْتَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُشَكِّكُونَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ بَدْءًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا الْمُوَطَّأُ، وَانْتِهَاءً بِمَا دَوَّنَهُ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ فِي كُتُبِهِمْ.

مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَنَا فِي هَذَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، عِلْمُنَا الْمُسْتَطِيلُ (حَدَّثَنَا فُلَانٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ... إِلَى آخِرِ السَّنَدِ)، هَذَا الْعِلْمُ لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ جَمِيعًا سِوَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ بِهِ، لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ يَتَعَلَّقُ بِنَسَبِهِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَعْتَدُّونَهَا فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ أَقْرَبَ كُتُبِهِمْ الْمُقَدَّسَةِ إِلَى مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ يَبْعُدُ صَاحِبُ الْكِتَابِ عَمَّنْ يُسْنِدُ إِلَيْهِ بِسَبْعِينَ عَامًا، لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَسْمَعْهُ وَلَمْ يُعَاصِرْهُ، بَلْ جَاءَ بَعْدَهُ بِسَبْعِينَ عَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ!!

وَأَمَّا نَحْنُ فَمَهْمَا حَاوَلَ الْمُشَكِّكُونَ أَنْ يُشَكِّكُوا فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي النِّهَايَةِ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ، الَّذِي أَرَادُوهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ وَأَمَّا أَهْلُ الْعَقْلِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ، فَيَقُولُونَ: أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي أَشْرَفِ مَا عِنْدَنَا، وَيُسَفِّهُونَ مَا شَادَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْعَظِيمِ، عِلْمِ نَقْدِ الْحَدِيثِ.

وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عُلَمَاؤُنَا عِنْدَ نَقْدِ السَّنَدِ، بَلْ نَظَرُوا فِي الْمَتْنِ -أَيْضًا-، وَرُبَّمَا رُدَّ الْحَدِيثُ لِعِلَّةٍ فِي مَتْنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّنَدُ نَظِيفًا، وَلَكِنْ لِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فِي مَتْنِهِ يُرَدُّ بِمِثْلِهَا الْحَدِيثُ؟ يُرَدُّ، مَا عِنْدَنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرُّوَاةِ نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الْعَالَمَ كُلَّهُ إِيَّاهُ؛ الْمَوَالِيدُ، وَالْوَفَيَاتُ، وَالرِّحْلَاتُ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْرَادِ، عُلَمَاؤُنَا مِنْ عُلَمَاءِ الرِّجَالِ هُمُ الَّذِينَ صَنَعُوا ذَلِكَ وَدَوَّنُوهُ.

فَهَذَا الَّذِي عِنْدَنَا نُقِرُّ بِأَنَّ فِيهِ مَا يَشُوبُ، وَنَحْنُ الَّذِينَ نَدْعُو أَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- هُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى تَنْقِيَتِهِ بِالْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الصَّحِيحِ، لَا بِالْهَوَى، وَلَا بِالتَّعَسُّفِ وَالتَّهَوُّرِ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، مَا أَطْلَقَهُ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنَ التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، التَّصْفِيَةُ هِيَ تَنْقِيَةُ كُلِّ الْمَصَادِرِ مِنَ التَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ وَمَا أَشْبَهَ، تَنْقِيَةُ تِلْكَ الْمَصَادِرِ كُلِّهَا مِمَّا شَابَهَا وَعَلِقَ بِهَا بِالْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي وَضَعَهُ الْمُحَدِّثُونَ، وَأَمَّا مَا تَسْمَعُ وَتَرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

مِنْ أَفْكَارِ الْعَصْرَانِيِّينَ أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الثَّوْرَةِ عَلَى الْحِجَابِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ، وَاعْتَبَرَ الْعَصْرَانِيُّونَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ مِنْ سِمَاتِ عَصْرِ الْإِقْطَاعِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْحِجَابَ الشَّرْعِيَّ قَيْدٌ يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَأَبَاحُوا الِاخْتِلَاطَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْعَجِيبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُونَ الْمَرْأَةَ عَشِيقَةً وَمَبْذُولَةً، وَلَا يَقْبَلُونَهَا زَوْجَةً، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ يَدُلُّ عَلَى ارْتِكَاسِ الْفِطْرَةِ وَانْتِكَاسِهَا.

رَفَضُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ؛ كَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ أَوِ الرَّجْمَ مَا هُوَ إِلَّا قَسْوَةٌ وَوَحْشِيَّةٌ لَا تُنَاسِبُ الْعَصْرَ الْحَاضِرَ.

زَعَمُوا أَنَّ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ لَا تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، كَمَا دَعَوْا إِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَتِلْكَ الْقَوَانِينِ؛ أَيْ أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَيَدْعُونَ إِلَى عَلْمَانِيَّةٍ مَصْبُوغَةٍ بِمَفْهُومِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.

مِنْ مُحَاوَلَاتِهِمْ: الْعَبَثُ بِالتَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ وَتَمْجِيدُ الشَّخْصِيَّاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَطَمْسُ مَعَالِمِ الصَّفْحَاتِ الْمُضِيئَةِ مِنْ تَارِيخِنَا الْإِسْلَامِيِّ، وَهُمْ يُمَجِّدُونَ الْحَرَكَاتِ الْهَدَّامَةَ وَالْفِرَقَ الضَّالَّةَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي تَارِيخِ الْمُسْلِمِينَ، مَجَّدُوا الْخَوَارِجَ وَاعْتَبَرُوا أَنَّهُمْ حِزْبُ الْعَدَالَةِ وَالْجُمْهُورِيَّةِ وَالْقِيَمِ الثَّوْرِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ -كَمَا يَزْعُمُونَ-.

اعْتَبَرُوا أَنَّ الْقَرَامِطَةَ هُمُ الْجِنَاحَ الْيَسَارِيَّ فِي الْحَرَكَةِ الشِّيعِيَّةِ، بَلْ كَانُوا حَرَكَةً ثَوْرِيَّةً ضِدَّ الْإِقْطَاعِ، مَجَّدُوا الْمُعْتَزِلَةَ، وَأُعْجِبُوا بِمَنْطِقِهِمْ وَفَلْسَفَتِهِمْ، كَمَا أُعْجِبُوا بِالْقَدَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَمَجَّدُوا الدَّوْلَةَ الْعُبَيْدِيَّةَ، وَثَوْرَةَ الزَّنْجِ، مَجَّدُوا الشَّخْصِيَّاتِ الْمُنْحَرِفَةَ، مَجَّدُوا غُلَاةَ الصُّوفِيَّةِ؛ كَابْنِ عَرَبِيٍّ، وَالْحَلَّاجِ، وَأَمْثَالِهِمَا.

مَدَحُوا أَصْحَابَ الْحَرَكَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ؛ كَإِخْوَانِ الصَّفَا، وَالْحَشَّاشِينَ، وَالْقَرَامِطَةِ، وَمَجَّدُوا انْحِرَافَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرِجَالَاتِهِمْ؛ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَيُشِيدُونَ بِالْجَوَانِبِ الْمُظْلِمَةِ مِنْ مَسِيرَةِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَفْغَانِيِّ، وَيُمَجِّدُونَ الشَّيْخَ عَلِي عَبْد الرَّازِقِ عَلَى خِدْمَاتِهِ الرَّائِعَةِ فِي هَدْمِ الشَّرِيعَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَنَائِسِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي كِتَابِهِ ((الْإِسْلَامُ وَأُصُولُ الْحُكْمِ))، وَهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ الْأَدْيَانِ.

إِنَّ مِنَ الثَّمَرَاتِ المُرَّةِ لِتَقْدِيمِ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ: الِانْحِرَافَ عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ؛ فَإِنَّ طُرُقَ الزَّيْغِ عَنْ سَبِيلِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إِنَّمَا تَنْتَهِي إِلَى أَحَدِ سَبِيلَيْنِ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَهَذَانِ السَّبِيلَانِ هُمَا جِمَاعُ سُبُلِ الضَّلَالِ، وَإِلَيْهِمَا تَرْجِعُ مَسَالِكُ الِابْتِدَاعِ، وَطَرَائِقُ الِانْحِلَالِ عَنْ طَرِيقِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ وَصَحْبِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

*أَحَدُ هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ: هُوَ طَرِيقُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنْصَارِ الْعَقْلِ.

*وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ طَرِيقُ الْمُتَصَوِّفَةِ أَرْبَابِ الْعَاطِفَةِ.

وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ سِمَاتٌ وَخَصَائِصُ تَرْجِعُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: الْعَقْلِ، وَالْعَاطِفَةِ.

فأما الْمُتَكَلِّمُونَ: فَإِنَّهُمْ غَلَّبُوا الْعَقْلَ، وَسَارُوا وَرَاءَ مَا تَخَيَّلُوهُ.

فَالْمُتَكَلِّمُونَ تُوحِي إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ!!

أَمَّا الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَأَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ؛ فَلَا يَكَادُونَ يُقِيمُونَ لَهُ أُسًّا، وَلَا يَرْفَعُونَ لَهُ رَأْسًا.

قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((السِّيَرِ)) (4/ 472): ((وَإِذَا رَأَيْتَ المُتَكَلِّمَ المُبْتَدِعَ يَقُولُ: دَعْنَا مِنَ الكِتَابِ وَالأَحَادِيثِ الآحَادِ، وَهَاتِ العَقْلَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ السَّالِكَ التَّوْحِيدِيَّ يَقُولُ: دَعْنَا مِنَ النَّقْلِ وَمِنَ العَقْلِ، وَهَاتِ الذَّوْقَ وَالوَجْدَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِبْلِيسُ قَدْ ظَهَرَ بِصُورَةِ بَشَرٍ، أَوْ قَدْ حَلَّ فِيهِ، فَإِنْ جَبُنْتَ مِنْهُ فَاهْرُبْ؛ وَإِلَّا فَاصْرَعْهُ، وَابْرُكْ عَلَى صَدْرِهِ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ آيَةَ الكُرْسِيِّ، وَاخْنُقْهُ)).

وَمِنْ سِمَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ: تَقْدِيمُهُمُ الْعَقْلَ عَلَى النَّقْلِ، وَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يُبَيِّنْ أُصُولَ الدِّينِ الِاعْتِقَادِيَّةَ بِأَدِلَّتِهَا الْعَقْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ لِانْشِغَالِهِمْ بِالْفُتُوحِ، أَوْ لِطَلَبِهِمُ السَّلَامَةَ؛ حَتَّى إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ مَنْهَجَ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَأَمَّا مَنْهَجُ الْخَلَفِ فَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ!!

وَقَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ آثَرُوا السَّلَامَةَ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الْمَضَايِقِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ انْشَغَلُوا بِالْفُتُوحِ عَنِ النَّظَرِ، وَعَنْ إِعْمَالِ الْعَقْلِ.

وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَتَصَدَّوْا لِهَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ، وَتَهَيَّئُوا لَهُ، وَأَحْكَمُوا هَذَا الْبَابَ الْخَطِيرَ الَّذِي قَصَّرَ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ -بِزَعْمِهِمْ-، وَعَجَزَ السَّلَفُ جَمِيعًا -كَمَا يَدَّعُونَ- عَنْهُ!!

وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَ بُطْلَانُهَا فِي نَفْسِهَا؛ فَكَيْفَ وَقَدْ عَارَضَتْ رَكَائِزَ الدِّينِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ؟!!

وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ أَدَّتْ أُصُولُهُمْ إِلَى ظُهُورِ الْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَبُرُوزِ الْمَذَاهِبِ الْمُنْحَرِفَةِ فِي الْعَقِيدَةِ؛ مِنْ مَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ، إِلَى مَقَالَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِلَى مَقَالَاتِ الْأَشَاعِرَةِ، إِلَى مَقَالَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالِانْحِرَافِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا الْعَقْلَ عَلَى النَّقْلِ، وَهَذَا مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ.

قَالَ الرَّازِيُّ -وَهُوَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ- مُبَيِّنًا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَـــــالُ      =      وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَــلَالُ    

وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا    =       وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَــالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمُرِنَا    =       سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا

لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي))).

((بَيَانُ بُطْلَانِ إِعْمَالِ الْعَقْلِ وَالْهَوَى دُونَ الدَّلِيلِ))

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَهَذَا الْعِلْمُ مِيرَاثٌ يُورَثُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ))، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَا يَتَّصِلُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، كُلُّ عِلْمٍ لَا يَتَّصِلُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَا يَكُونُ أَصْلُهُ مَوْجُودًا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ.

((يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ)) فِي كُلِّ طَبَقَةٍ ((عُدُولُهُ))، فَعُدُولُ الْأُمَّةِ: هُمُ الْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)): تَأْوِيلُ الْجَاهِلِينَ هُنَا يُرَادُ بِهِ: تَفْسِيرُ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهَذَا مَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ جَاهِلٌ؛ وَإِنْ سُمِّيَ دَاعِيَةً، وَإِنْ سُمِّيَ شَيْخًا، وَإِنْ عُمِّمَ وَأُلْبِسَ الْعِمَامَةَ، مَا دَامَ أَنَّهُ يُفَسِّرُ النُّصُوصَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا فَهُوَ جَاهِلٌ.

وَقَدِ ابْتُلِينَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِأَقْوَامٍ لَا يَرُدُّونَ النُّصُوصَ؛ وَلَكِنْ يَحْمِلُونَهَا عَلَى غَيْرِ

مَعَانِيهَا الَّتِي حَمَلَهَا عَلَيْهَا السَّلَفُ، وَيُحْدِثُونَ مَعَانِيَ جَدِيدَةً، فَيُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالنُّصُوصِ، وَلَا يُعَارِضُونَ النُّصُوصَ!

وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يَتَمَسَّكُونَ بِالنُّصُوصِ، وَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِآرَائِهِمْ، وَيُفَسِّرُونَ النُّصُوصَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهَؤُلَاءِ خَطَرٌ عَلَى الْحَقِّ وَخَطَرٌ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ بِضَاعَتَهُمْ تَرُوجُ عَلَى النَّاسِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ظَاهِرَهَا الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ، وَحَقِيقَتُهَا تَعْطِيلُ النُّصُوصِ.

((وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)) يَعْنِي: الَّذِينَ يَنْسِبُونَ إِلَى الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ إِمَّا بِذِكْرِ نُصُوصٍ تُنْسَبُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يَقُلْهَا، وَإِمَّا بِنِسْبَةِ أَحْكَامٍ إِلَى الدِّينِ لَمْ تَأْتِ بِهَا الْأَدِلَّةُ.

وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْطِلُونَ -أَهْلُ بَاطِلٍ-؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَحِلُ الْبَاطِلَ إِلَّا مُتَعَمِّدٌ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَاطِلٍ وَمُبْطِلُونَ.

((وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ)): الْغُلَاةُ: الَّذِينَ يُنَزِّلُونَ النُّصُوصَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَا نَرَى مِنْ خَوَارِجِ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِينَ يُنَزِّلُونَ نُصُوصَ التَّكْفِيرِ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّفُونَ بِهَذَا النُّصُوصَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَا يَقُولُونَ بِنُصُوصٍ يَحُرِّفُونَهَا عَنْ غَيْرِ وَجْهِهَا.

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا وَجَدْتَ أَنَّ الْخَلَلَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ:

*إِمَّا تَأْوِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ.

*وَإِمَّا كَذِبٌ يُنْسَبُ إِلَى الدِّينِ.

*وَإِمَّا تَحْرِيفٌ لِلنُّصُوصِ.

وَأَنَّ الشَّرَّ إِنَّمَا يَأْتِي هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ:

-الْجَهَلَةُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ، الْجَاهِلُ الَّذِي يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا سَعَى فِي

أَنْ يَتَعَلَّمَ، هَذَا لَا يَضُرُّ الْأُمَّةَ الضَّرَرَ الْعَامَّ؛ لَكِنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ.. هَذَا الْجَاهِلُ الْمُرَكَّبُ، هَذَا يُدْخِلُ الْفَسَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ.

-وَالصِّنْفُ الثَّانِي: هُمُ الْمُبْطِلُونَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الْأُمَّةِ بِالْبَاطِلِ، وَرَدِّ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ بِالْأَلْقَابِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمَاكِرَةِ.

-وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: هُمُ الْغُلَاةُ، الْغُلَاةُ فِي كُلِّ بَابٍ هُمْ أَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ، كُلُّ بَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ مَنْ جَنَحَ فِيهِ إِلَى الْغُلُوِّ فَقَدِ انْحَرَفَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُدْخِلُ الْفَسَادَ عَلَى الْأُمَّةِ.

هَذَا الْحَدِيثُ مُلِئَ حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَفِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ لِلْأُمَّةِ فِي لُزُومِ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ يَدُلُّونَ الْأُمَّةَ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَسُدُّونَ عَنْهَا أَبْوَابَ الشَّرِّ، وَمَاذَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ إِلَّا هَذَا؟!! أَنْ يَعْرِفَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ، وَأَنْ تُسَدَّ عَنْهُ أَبْوَابُ الشَّرِّ.

كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُحَرِّفِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ عُقُولَهُمُ الْقَاصِرَةَ وَأَهْوَاءَهُمُ الْمَرِيضَةَ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، مُدَّعِينَ الِاجْتِهَادَ بِغَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَلَا عَلَى فَهْمِ السَّلَفِ لَهَا، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» يَعْنِي: أَنَّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ -أَيْضًا- إِثْمًا.

وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَهَذَا الضَّابِطُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ إِنْسَانًا قَدْ يَقُولُ: مَهْمَا أَفْتَانِي مَنْ أَفْتَانِي؛ فَأَنَا لَا آخُذُ الْفَتْوَى إِلَّا مِنْ قَلْبِي، وَيَكُونُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالزَّيْغِ، فَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يَرْكَنُ قَلْبُهُ إِلَى مَا يَأْلَفُهُ مِنْ زَيْغِهِ وَضَلَالِهِ.

وَلِأَنَّنَا لَوْ أَعَدْنَا الْأَمْرَ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْقُلُوبِ مَا وُجِدَتْ شَرِيعَةٌ وَلَا قَامَ دِينٌ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ قُلَّبٌ لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى قَرَارٍ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا..

مَسْأَلَةُ إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ: إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

أَمَّا إِذَا أَتَاهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى وَإِنْ وَجَدَ النُّفْرَةَ فِي قَلْبِهِ؛ فَهَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ أَيْ: هَذَا الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ بِإِزَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ-.

فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتِي بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إِلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ، وَهَذَا كَالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ مِثْلُ الْفِطْرِ فِي السَّفْرِ، وَالْمَرَضِ، وَكَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ.

لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَهُ: رَخَّصَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكَ فِي السَّفَرِ أَنْ تُفْطِرَ، فَلَا تُعَذِّبْ نَفْسَكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي النِّهَايَةِ الَّتِي بِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ وَالصَّوْمِ فِيهِ؛ الْقَاعِدَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِ الْمَشَقَّةِ.

فَإِنْ كَانَ الصَّائِمُ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ بِصِيَامِهِ فِي السَّفَرِ؛ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُفْطِرَ.

وَإِذَا كَانَ الصَّائِمُ لَا يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي السَّفَرِ؛ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ أَوْ لَا يُفْطِرُ.

وَكَانَ ﷺ يَكُونُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مُفْطِرِينَ وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ صَائِمِينَ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَانَاةِ عَلَى الصَّائِمِينَ مَا فِيهِ- فَقَامَ الْمُفْطِرُونَ بِخِدْمَةِ الصَّائِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ)).

فَهَذِهِ الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَقْبَلُهَا، وَيَقُولُ: بَلْ أَنَا آخُذُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا، فَإِذَا أَفْتَاهُ مَنْ أَفْتَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبِمَا وَرَدَ مِنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لَهُ؛ لِجَهْلِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْيَانًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا تَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ بَعْضِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَرِهُوهُ، -وَذَكَرُوا كَلَامًا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ-، وَكَرِهَ الصَّحَابَةُ مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ.

وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِن رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ مَرْوَانَ بِهِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا؛ فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ وَالرِّضَا بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65].

وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إِلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ -يَعْنِي: بِلَا دَلِيلٍ- وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ، بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى؛ فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إِلَى مَا حَكَّ فِي صَدْرِهِ؛ وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتُونَ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْإِثْمُ: حَوَّازُ الْقُلُوبِ)).

وَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَحَزَّازَ الْقُلُوبِ، فَمَا حَزَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ)).

بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، فَهَذَا هُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الشُّبْهَةِ الَّتِي رُبَّمَا أَلْقَاهَا بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِسَبَبِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((استَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُونَ)).

وَالْحَزُّ وَالْحَكُّ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: مَا أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ ضِيقًا وَحَرَجًا، وَنُفُورًا وَكَرَاهِيَةً.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ -هَاهُنَا- بِالرُّجُوعِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ؛ حَيْثُ كَانَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ بَلْ إِلَى مُجَرَّدِ رَأْيٍ وَذَوْقٍ، كَمَا كَانَ يُنْكِرُ الْكَلَامَ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَالرُّجُوعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ؛ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ.

الْمَدَارُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، لَا عَلَى مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَالنَّاسُ قَدْ يُشْتَهَرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَيُفْتُونَ بِهِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ دَائِمًا أَنْ يُطَالِبَ بِالدَّلِيلِ، إِذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ العَامِيَّ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا طَالَبَ بِالدَّلِيلِ فَأُعْطَى الدَّلِيلَ فَهَذَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَبِيعَ دِينَهُ، خَاصَّةً أَنَّهُ يَبِيعُهُ رَخِيصًا، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى آخِرَتِهِ؛ حَتَّى تَسْتَقِيمَ لَهُ دُنْيَاهُ.

((مَنْزِلَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يُحْفَظُ بِهَا الدِّينُ: عِلْمَ الْفِقْهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ أَصْحَابَهُ.

ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ بَرَزَ فُقَهَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ عُرِفُوا بِسَعَةِ الْفَتْوَى، وَالتَّحْقِيقِ فِي الْفِقْهِ، مِنْهُمُ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ).

وَلِذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِلُزُومِ سُنَّتِهِمْ، وَمِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمِنْهُمْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِنْهُمْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمِنْهُمْ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَمِنْهُمُ: الْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

فَبَرَزَ هَؤُلَاءِ، وَعُرِفُوا بِالْفِقْهِ وَالْفُتْيَا، ثُمَّ جَاءَ عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ، وَبَرَزَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ فِي

الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا، فَبَرَزَ فِي الْمَدِينَةِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذَا اللَّقَبِ؛ وَهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،

وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

وَزِدْ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبَا بَكْرٍ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، وَفِي مَكَّةَ الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَفِي الْيَمَنِ -يَمَنِ الْحِكْمَةِ- طَاوُوسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَفِي الْبَصْرَةِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَفِي الشَّامِ مَكْحُولٌ.

وَهَكَذَا بَرَّزَ عُلَمَاءُ فِي الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا إِلَى أَنْ مَنَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الْأُمَّةِ بِالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَتْبُوعِينَ: (أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا-)، فَقَرَّرُوا الْفِقْهَ، وَكَرَّرُوهُ وَبَيَّنُوهُ، وَعَلَّمُوا تَلَامِيذَ، فَكَانَ لَهُمْ تَلَامِيذُ كِبَارٌ حَمَلُوا فِقْهَهُمْ وَأُصُولَهُمْ.

ثُمَّ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ وَمَا بَعْدَهُ ضَعُفَتْ هِمَمُ الْعُلَمَاءِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ فِي ذَاكَ الزَّمَانِ مَنْقُولًا عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَكَانَ عِلْمُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَفِقْهُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَبْثُوثًا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ.

فَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى تَقْلِيدِهِمْ، وَجَمْعِ آرَائِهِمْ، وَالتَّدْلِيلِ لَهَا، وَالِانْتِصَارِ لَهَا، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا إِلَى زَمَانِنَا؛ وَإِنْ كُنْتَ تَجِدُ عُلَمَاءَ يَجْتَهِدُونَ فِي دَاخِلِ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَيُرَجِّحُونَ أَحْيَانًا غَيْرَ الْمَذْهَبِ؛ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا فِي تَارِيخِ الْفِقْهِ، كَمَا أَنَّكَ تَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ عُلَمَاءَ يَجْتَهِدُونَ فِي الْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ، وَيَسْتَخْرِجُونَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَكَانَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ أَعْظَمِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَانْتَشَرَ فِقْهُهُمْ فِي أَمْصَارِ الْأُمَّةِ.

إِنَّ النَّاظِرَ بِتَجَرُّدٍ وَبَصِيرَةٍ يُدْرِكُ أَنَّ أَعْدَلَ النَّاسِ فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَفِقْهِهِمْ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ.

((حَوْلَ حَيَاةِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

*نَسَبُهُ، وَمَوْلِدُهُ، وَنَشْأَتُهُ:

أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ: النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ الْأَحْرَارِ, يَنْتَسِبُ إِلَى أُسْرَةٍ شَرِيفَةٍ فِي قَوْمِهِ, أَصْلُهُ مِنْ (كَابُول)، وَهِيَ عَاصِمَةُ أَفْغَانِسْتَانَ, أَسْلَمَ جَدُّهُ الْمَرْزُبَانُ أَيَّامَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَتَحَوَّلَ إِلَى (الْكُوفَةِ)، وَاتَّخَذَهَا سَكَنًا.

وُلِدَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِـ(الْكُوفَةِ) سَنَةَ ثَمَانِينَ (80هـ) -عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ- فِي أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ؛ رَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ الْأَحْرَارِ: ((وَاللهِ! مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِقٌّ قَطُّ، وُلِدَ جَدِّي سَنَةَ ثَمَانِينَ (80هـ)، وَذَهَبَ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ صَغِيرٌ, فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو مِنَ اللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَكُونَ اسْتَجَابَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ)).

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كِدَامٍ: ((وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ؛ حَيْثُ جَعَلَ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ وَمُلُوكَ الْآفَاقِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ، وَعَالَةً عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ)).

وَقَدْ نَشَأَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بِـ(الْكُوفَةِ) فِي أُسْرَةٍ مُسْلِمَةٍ صَالِحَةٍ غَنِيَّةٍ كَرِيمَةٍ، وَيَبْدُو أَنَّهُ كَانَ وَحِيدَ أَبَوَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ خَزَّازًا يَبِيعُ الْأَثْوَابَ فِي دُكَّانٍ لَهُ  بِـ(الْكُوفَةِ)، وَقَدْ خَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَبَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الدُّكَّانِ.

*طَلَبُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لِلْعِلْمِ:

حَفِظَ الْقُرْآنَ فِي صِغَرِهِ شَأْنَ أَمْثَالِهِ مِنْ ذَوِي النَّبَاهَةِ وَالصَّلَاحِ، وَيَبْدُو أَنَّهُ لَمْ يَعْلَقْ بِسَمَاعِ دُرُوسِ الْعُلَمَاءِ، وَحُضُورِ حَلْقَاتِهِمْ, بَلْ كَانَ يَكُونُ مَعَ وَالِدِهِ فِي دُكَّانِهِ إِلَى أَنْ وَافَقَ لِقَاءً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّعْبِيِّ؛ كَانَ فَاتِحَةَ خَيْرٍ عَظِيمٍ فِي حَيَاةِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((مَرَرْتُ يَوْمًا عَلَى الشَّعْبِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ، فَدَعَانِي وَقَالَ: إِلَامَ تَخْتَلِفُ؟

فَقُلْتُ: أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ.

قَالَ: لَمْ أَعْنِي إِلَى السُّوقِ، عَنَيْتُ الِاخْتِلَافَ إِلَى الْعُلَمَاءِ.

فَقُلْتُ لَهُ: أَنَا قَلِيلُ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِمْ.

فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ فِي الْعِلْمِ، وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنِّي أَرَى فِيكَ يَقَظَةً وَحَرَكَةً.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْ قَوْلِهِ, فَتَرَكْتُ الِاخْتِلَافَ -أَيْ: إِلَى السُّوقِ-، وَأَخَذْتُ فِي الْعِلْمِ, فَنَفَعَنِي اللهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ)).

كَانَ أَوَّلَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ، وَمُنَاقَشَةِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالِ، دَخَلَ (الْبَصْرَةَ) أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَرَّةً يُنَاقِشُ ثَمَّةَ وَيُجَادِلُ، وَيَرُدُّ الشُّبُهَاتِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَيَدْفَعُ عَنْهَا مَا يُرِيدُ إِلْصَاقَهُ بِهَا أَهْلُ الضَّلَالِ, فَنَاقَشَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَجَادَلَ الْمَلَاحِدَةَ حَتَّى أَقَرَّهُمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ, كَمَا نَاظَرَ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْخَوَارِجَ فَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ، وَجَادَلَ غُلَاةَ الشِّيعَةِ فَأَقْنَعَهُمْ، وَهُوَ مَعَ قَضَائِهِ زَمَنًا يُجَادِلُ وَيُنَاظِرُ فِي أُصُولِ الدِّينِ كَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ بَعْدُ وَالْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ عَنِ الْجَدَلِ.

وَقَدْ رَأَى وَلَدَهُ حَمَّادًا الَّذِي أَصْبَحَ بَعْدُ قَاضِيًا فَاضِلًا وَعَابِدًا وَرِعًا.. رَآهُ يُنَاظِرُ فِي الْكَلَامِ فَنَهَاهُ, فَقَالَ حَمَّادٌ: ((رَأَيْنَاكَ تُنَاظر فِيهِ، وَتَنْهَانَا عَنْهُ؟!!)).

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ((كُنَّا نُنَاظِرُ وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ مَخَافَةَ أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُنَا، وَأَنْتُمْ تُنَاظِرُونَ وَتُرِيدُونَ زَلَّةَ صَاحِبِكُمْ)).

كَانَ سَبَبُ تَوَجُّهِهِ إِلَى الْفِقْهِ: مَا رَوَى زُفَرُ عَنْهُ قَالَ: ((سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى بَلَغْتُ فِيهِ مَبْلَغًا يُشَارُ إِلَيَّ فِيهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ بِالْقُرْبِ مِنْ حَلْقَةِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ يَوْمًا فَقَالَتْ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ؛ كَمْ يُطَلِّقُهَا؟

قَالَ: فَأَمَرْتُهَا أَنْ تَسْأَلَ حَمَّادًا، ثُمَّ تَرْجِعَ فَتُخْبِرَنِي, فَسَأَلَتْ حَمَّادًا، فَقَالَ: يُطَلِّقُهَا وَهِيَ طَاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْجِمَاعِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْضَةِ الْأُولَى، فَهِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ, فَإِذَا اغْتَسَلَتْ فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ.

فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْنِي, فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْكَلَامِ، وَأَخَذْتُ نَعْلِي، فَجَلَسْتُ إِلَى حَمَّادٍ أَسْمَعُ مَسَائِلَهُ, فَأَحْفَظُ قَوْلَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهَا مِنَ الْغَدِ فَأَحْفَظُ وَيُخْطِئُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: لَا يَجْلِسُ فِي صَدْرِ الْحَلْقَةِ بِحِزَائِي غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ)).

انْتَقَلَ أَبُو حَنِيفَةَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى شَيْخِهِ حَمَّادٍ وَعِلْمِهِ فِي الْفِقْهِ حَتَّى فَاقَ أَقْرَانَهُ، وَتَجَاوَزَ أَمْثَالَهُ وَسَابِقِيهِ فِي حَلْقَةِ شَيْخِهِ؛ لِحِفْظِهِ وَأَدَبِهِ؛ حَتَّى أَدْنَاهُ مِنْهُ شَيْخُهُ، فَجَعَلَهُ فِي صَدْرِ حَلْقَتِهِ.

وَكَانَ أَدَبُهُ مَعَ شَيْخِهِ مَوْضِعَ الْعَجَبِ؛ فَلَقَدْ كَانَ يَقْصِدُهُ فِي بَيْتِهِ يَنْتَظِرُهُ عِنْدَ الْبَابِ حَتَّى يَخْرُجَ لِصَلَاتِهِ وَحَاجَتِهِ فَيَسْأَلُهُ وَيَصْحَبُهُ، وَكَانَ إِذَا احْتَاجَ شَيْخُهُ إِلَى شَيْءٍ قَامَ هُوَ عَلَى خِدْمَتِهِ، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَا يَمُدُّ رِجْلَيْهِ جِهَةَ بَيْتِ شَيْخِهِ حَمَّادٍ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى دَعَا لِشَيْخِهِ حَمَّادٍ مَعَ وَالِدَيْهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الصُّحْبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى مَاتَ حَمَّادٌ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ حَلْقَةِ الدَّرْسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي دَرْسِهِ, فَكَانَ خَيْرَ خَلَفٍ لِخَيْرِ سَلَفٍ.

مِنْ شُيُوخِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنْتَشِرُ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ مِنَ الْخَامِسَةِ, رَوَى عَنْهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمِسْعَرٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُهُمْ.

وَمِنْ شُيُوخِهِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ، ثِقَةٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ كَثِيرًا، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((مُقَدِّمَتِهِ عَلَى شَرْحِ مُسْلِمٍ)): ((تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَسَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَسَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى، وَعَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ، وَقَيْسَ بْنَ عَابِدٍ، وَأَبَا جُحَيْفَةَ)).

مِنْ شُيُوخِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ الْبَصْرِيُّ, ثِقَةٌ حُجَّةٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْعُبَّادِ, قَالَ شُعْبَةُ: ((مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ، وَكَانَ سَيِّدَ الْفُقَهَاءِ))، خَرَّجَ لَهُ السِّتَّةُ.

وَمِنْ شُيُوخِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو هِنْدٍ، خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((مُسْنَدِ عَلِيٍّ)).

وَمِنْ شُيُوخِهِ: رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، ثِقَةٌ فَقِيهٌ مَشْهُورٌ، قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ: ((ثِقَةٌ)).

وَمِنْ شُيُوخِهِ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ, كَانَ ثَبْتًا عَابِدًا فَاضِلًا.

مِنْ شُيُوخِ أَبِي حَنِيفَةَ: سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ وَالِدُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ ثِقَاتِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ الْهِلَالِيُّ الْمَدَنِيُّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعَاصِمُ بْنُ كُلَيْبِ بْنِ شِهَابٍ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ صَدُوقٌ، خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزٍ الْأَعْرَجُ الْمَدَنِيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ عَالِمٌ، خَرَّجَ لَهُ السِّتَّةُ.

وَمِنْ شُيُوخِهِ: عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الْهِلَالِيُّ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُكْثِرٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، خَرَّجَ لَهُ السِّتَّةُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثِقَةٌ عَابِدٌ، خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَابْنُ مَاجَه فِي التَّفْسِيرِ.

*جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَلْقِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ:

كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ مَعَ مَيْلٍ إِلَى بَيَاضٍ، رَبْعَةً مِنَ النَّاسِ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ, جَمِيلَ الصُّورَةِ، مَهِيبَ الطَّلْعَةِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَقُورًا، يَتَأَنَّقُ فِي ثِيَابِهِ وَعِمَامَتِهِ وَنَعْلَيْهِ، حَسَنَ الْمَنْطِقِ، حُلْوَ النَّغْمَةِ, فَصِيحًا, كَثِيرَ التَّطَيُّبِ يُعْرَفُ بِهِ إِذَا ذَهَبَ وَإِذَا جَاءَ، نَحِيفًا، مَا أَبْقَى عَلَيْهِ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- وَطُولُ مُرَاقَبَتِهِ، وَكَثْرَةُ عِبَادَتِهِ.. مَا أَبْقَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَضْلًا مِنْ لَحْمٍ؛ بَلْهَ الشَّحْمِ.

رَوَى الصَّيْمَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي يُوسُفَ قَالَ: ((كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ مَنْطِقًا، وَأَحْلَاهُمْ نَغْمَةً، وَأَبْيَنَهُمْ عَمَّا يُرِيدُ, أَسْنَدَ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ جَمِيلًا حَسَنَ الْوَجْهِ, حَسَنَ اللِّحْيَةِ، حَسَنَ الثَّوْبِ وَالنَّعْلِ، وَالْبِرِّ وَالْمُوَاسَاةِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَطَافَ بِهِ)).

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ((فَكَانَ حَسَنَ السَّمْتِ, حَسَنَ الْوَجْهِ, حَسَنَ الثَّوْبِ، وَلَقَدْ كُنَّا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَوَقَعَتْ حَيَّةٌ, فَسَقَطَتْ فِي حِجْرِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهَرَبَ النَّاسُ سِوَاهُ, قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ زَادَ عَلَى أَنْ نَفَضَ الْحَيَّةَ، وَجَلَسَ مَكَانَهُ)).

وَرَوَى الْمُوَفَّقُ الْمَكِّيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ((ذُكِرَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانَ وَرِعًا, ضُرِبَ عَلَى الْقَضَاءِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَوْطًا فَأَبَى)).

وَرَوَى الْمُوَفَّقُ الْمَكِّيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى مِسْعِرِ بْنِ كِدَامٍ قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَطَأَ عَلَى رِجْلِ صَبِيٍّ لَمْ يَرَهُ, فَقَالَ الصَّبِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ: يَا شَيْخُ! أَلَا تَخَافُ الْقَصَاصَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!

فَغُشِيَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: فَأَقَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاقَ, فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ! مَا أَشَدَّ مَا أَخَذَ قَلْبَكَ قَوْلُ هَذَا الصَّبِيِّ!!

فَقَالَ: أَخَافُ أَنَّهُ لُقِّنَ)).

وَرَوَى الْمُوَفَّقُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: ((قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَا أَبْعَدَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْغِيبَةِ! مَا سَمِعْتُهُ يَغْتَابُ عَدُوًّا لَهُ, قَالَ: وَاللهِ! هُوَ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى حَسَنَاتِهِ مَا يَذْهَبُ بِهَا)).

وَرَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: ((كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ.. رَأَيْتُ آثَارَ الْبُكَاءِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَخَدَّيْهِ)).

((وَمِنْ جَمِيلِ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَمِنْ حِكَمِهِ: قَوْلُهُ: ((عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ مِنْ عَمَلِهِ بِشَيْءٍ لَا يَرَاهُ النَّاسُ وَاجِبًا)).

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُوَفَّقًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلْيَحْرِصْ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا عَنْ عُمُومِ النَّاسِ.

طَالِبُ الْعِلْمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَعَامَّةِ النَّاسِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى

الْعِبَادَةِ؛ لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَإِذَا زَادَ الْإِيمَانُ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ، وَطَالِبُ

الْعِلْمِ بِحَاجَةٍ إِلَى نُورِ الْقَلْبِ.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَكِيًّا حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي عِبَادَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ.

وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- رَجُلًا حَلِيمًا خَلُوقًا، كَرِيمًا؛ بَلْ عُرِفَ بِالسَّخَاءِ، فَكَانَ شَدِيدَ السَّخَاءِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَكَانَ مِنْ صِفَاتِهِ: أَنَّهُ لَا يَخُوضُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا إِذَا سُئِلَ، يَعْنِي: إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ مَعَ النَّاسِ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا إِذَا سُئِلَ؛ وَإِلَّا كَانَ صَامِتًا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

قَالَ لَهُ رَجُلٌ مَرَّةً: ((اتَّقِ اللهَ! فَانْتَفَضَ -رَحِمَهُ اللهُ- وَاصْفَرَّ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مِثْلَ هَذَا))؛ اتَّقِ اللهَ!

وَكَانَ أَمِينًا، فَمِنْ صِفَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ: أَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْأَمَانَةِ؛ حَتَّى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُودِعُونَ عِنْدَهُ الْوَدَائِعَ.

وَلَمَّا مَاتَ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَ أَصْحَابُهَا غَائِبِينَ، يَعْنِي: بَعْضُ الْوَدَائِعِ كَانَ أَصْحَابُهَا مَوْجُودِينَ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ، وَبَعْضُ الْوَدَائِعِ كَانَ أَصْحَابُهَا غَائِبِينَ، فَأَخَذَهَا ابْنُهُ إِلَى الْقَاضِي لِيَسْتَلِمَهَا الْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: ((دَعْهَا عِنْدَكَ فَإِنَّكَ أَهْلٌ)) يَعْنِي: قَالَ لِابْنِ أَبِي حَنِيفَةَ: دَعْهَا عِنْدَكَ فَإِنَّكَ أَهْلٌ لِلْأَمَانَةِ.

فَقَالَ لِلْقَاضِي: ((اقْبِضْهَا؛ حَتَّى تَبْرَأَ مِنْهَا ذِمَّةُ الْوَالِدِ، ثُمَّ افْعَلْ مَا تَشَاءُ)).

فَفَعَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ، قَالُوا: ((وَبَقِيَ أَيَّامًا فِي قَبْضِهَا وَحِسَابِهَا)).

مِنْ كَثْرَتِهَا بَقِيَ الْقَاضِي أَيَّامًا يُحْصِيهَا حَتَّى يَضْبِطَهَا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمَانَةِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- الشَّدِيدَةِ، وَثِقَةِ النَّاسِ بِهِ.

وَقَدِ ابْتُلِيَ -رَحِمَهُ اللهُ- فَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَأَبَى، وَضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَسُجِنَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَوَقَعَتْ قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ لَمَّا أُمِرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((قِيلَ: دَفَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى صَاحِبِ شُرْطَتِهِ لِيَسْجُنَهُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ: يَا شَيْخُ -يَسْتَفْتِيهِ- إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْفَعُ إِلَيَّ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: اقْتُلْهُ، أَوِ اقْطَعْهُ -اقْطَعْ يَدَهُ مَثَلًا، أَوْ رِجْلَهُ-، أَوِ اضْرِبْهُ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِقِصَّتِهِ -أَنَا مَا أَدْرِي لِمَاذَا-؛ فَمَاذَا أَفْعَلُ؟)).

فَقَالَ لَهُ: ((هَلْ يَأْمُرُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرٍ قَدْ وَجَبَ، أَوْ بِأَمْرٍ لَمْ يَجِبْ؟)).

هَلْ يَأْمُرُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا بِأَمْرٍ قَدْ وَجَبَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ قَاضِيهِ، أَوْ لَمْ يَجِبْ؟

قَالَ: ((بَلْ بِأَمْرٍ وَجَبَ)).

قَالَ: ((فَبَادِرْ إِلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ)).

سُبْحَانَ اللهِ! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ أَنْ ضَرَبَهُ دَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لِيَسْجُنَهُ، ثُمَّ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ يَسْتَفْتِيهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ؛ فَمَا قَالَ لَهُ؟ قَالَ لَهُ بِلَقَبِهِ (أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ): بِمَا يَأْمُرُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ بِأَمْرٍ وَجَبَ أَوْ لَمْ يَجِبْ؟

فَلَمَّا قَالَ لَهُ: بِأَمْرٍ وَجَبَ؛ مَا قَالَ لَهُ: دَعْكَ مِنْ هَذَا، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ تَقْبِضُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: ((فَبَادِرْ إِلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ))، وَهُوَ فِي يَدِهِ لِيَسْجُنَهُ؛ لِكَنَّهُمْ قَوْمٌ تَجَرَّدُوا لِلْحَقِّ، مَا عِنْدَهُمْ أَهْوَاءٌ، مَا عِنْدَهُمْ حِزْبِيَّاتٌ، مَا عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ وَضَلَالَاتٌ فِي قُلُوبِهِمْ)).

*ثَنَاءُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّهَادَةُ لَهُ بِالْإِمَامَةِ فِي الْفِقْهِ:

((أَبُو حَنِيفَةَ إِمَامٌ فِي الْفِقْهِ بِالْإِجْمَاعِ، قَدِ اتُّفِقَ عَلَى إِمَامَتِهِ فِي الْفِقْهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي الْخِلَافِ، وَلَمْ يَرُدَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْفِقْهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ ذَكَرَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ يَذْكُرُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ التِّرْمِذِيُّ فِي ((سُنَنِهِ))، ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كُتُبِهِ؛ كَـ((الْإِقْنَاعِ))، وَ((الْأَوْسَطِ))، وَ((الْإِجْمَاعِ)) يَذْكُرُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، النَّوَوِيُّ فِي ((مَجْمُوعِهِ)) يَذْكُرُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، ابْنُ قُدَامَةَ فِي ((مُغْنِيهِ)) يَذْكُرُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَكُلُّ مَنْ يَعْتَنِي بِذِكْرِ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ يَذْكُرُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَالْعُلَمَاءُ قَدْ أَثْنَوْا عَلَى فِقْهِهِ، وَأَطْبَقُوا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ أَثْنَى عَلَيْهِ: شَيْخُهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- سَأَلَ حَمَّادًا مَرَّةً عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّلَاقِ، فَأَجَابَهُ حَمَّادٌ بِمَا يَعْلَمُ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يُنَازِعُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيُرَاجِعُهُ مُرَاجَعَةَ التِّلْمِيذِ لِشَيْخِهِ -وَهَذَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ-، وَمَا زَالَ يُرَاجِعُهُ حَتَّى سَكَتَ حَمَّادٌ، فَلَمَّا قَامَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ حَمَّادٌ عَنْ تِلْمِيذِهِ: ((هَذَا مَعَ فِقْهِهِ يُحْيِي اللَّيْلَ وَيَقُومُهُ)).

يَعْنِي: شَهِدَ لَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِي الْأُمَّةِ: ((الْفِقْهُ، وَأَنَّهُ مِنَ الْعُبَّادِ الْمُخْلِصِينَ)؛ لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ دَأْبُ الصَّالِحِينَ الْمُخْلِصِينَ، فَقَالَ: ((هَذَا مَعَ فِقْهِهِ يُحْيِي اللَّيْلَ وَيَقُومُهُ)).

وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ -وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَ اللهُ الْجَمِيعَ- عِنْدَمَا بَلَغَهُ مَوْتُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ قال: ((لَقَدْ ذَهَبَ مَعَهُ فِقْهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ)).

وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَفْقَهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَنِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ -وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ فِي (مَرْو)، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَعْرِفُهَا -سَأَلَ، مَا وَجَدَ مَنْ يُجِيبُهُ-، فَقَالَ: فَجِئْتُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ -وَهُوَ فَقِيهٌ كَبِيرٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ-، فَقَالَ لِي: يَا حُسَيْنُ! لَا أَعْرِفُهَا، بَعْدَ أَنْ أَطْرَقَ سَاعَةً)).

وَهَكَذَا هُمُ الْعُلَمَاءُ؛ لَا يَتَرَدَّدُونَ عَنْ قَوْلِ: ((لَا أَدْرِي)) أَبَدًا، وَمَا أَحْوَجَنَا لِأَنْ نُرَبَّى عَلَى مَنْهَجِ الْعُلَمَاءِ، الْيَوْمَ يَتَسَابَقُ صِغَارُ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي الْفَتْوَى فِي قَضَايَا الْأُمَّةِ الْكُبْرَى؛ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكَّامِهَا، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجُيُوشِهَا، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَتِهَا، وَهُمْ غَيْرُ مُؤَهَّلِينَ لَهَا أَصْلًا، فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى أَنْ نَتَرَبَّى عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ.

قَالَ: قُلْتُ لَهُ: ((لَا تَعْرِفُهَا وَأَنْتَ إِمَامٌ؟!!)).

أَنْتَ إِمَامٌ وَتَقُولُ لِي: لَا أَدْرِي؟!!

قَالَ سُفْيَانُ: ((أَقُولُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَدْرِهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي)).

وَهَكَذَا هُمْ عُلَمَاءُ السَّلَفِ؛ يَتَأَسَّوْنَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، وَيَتَأَدَّبُونَ بِأَدَبِهِمْ.

قَالَ: ((فَأَتَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَأَفْتَانِي فِيهَا، فَذَكَرْتُ جَوَابَهُ لِسُفْيَانَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ سَكَتَ سَاعَةً: يَا حُسَيْنُ! هُوَ عَلَى مَا قَالَ لَكَ أَبُو حَنِيفَةَ)).

فَصَوَّبَ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَعْجَزَتْ عُلَمَاءَ فِي زَمَنِهِ، وَهَذَا الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فِقْهِهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ -وَهُوَ مُعَاصِرٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ فَهِمًا، إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ يَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ)).

وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا، يَقُولُ: ((كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ فَهِمًا -يَعْنِي: فَقِيهًا-، وَكَانَ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ يَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ)).

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ -وَهُوَ إِمَامٌ- أَنَّ مَالِكًا -وَهُوَ إِمَامٌ- سُئِلَ: ((هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيفَةَ وَهُوَ إِمَامٌ-؟)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلًا لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ)).

وَهَذَا ثَنَاءٌ مِنَ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَلَيْهِ بِقُوَّةِ الْحُجَّةِ، وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ بَعْضَ الْمُبْغِضِينَ لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَلَبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَجَعَلَهَا مِنْ كَوْنِهَا ثَنَاءً.. جَعَلَهَا قَدْحًا فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَقَالَ: هَذَا يَقْصِدُ أَنَّهُ جَدَلِيٌّ -صَاحِبُ جَدَلٍ-.

وَهَكَذَا -سُبْحَانَ اللهِ- صَاحِبُ الْقَلْبِ الْمُبْغِضِ تَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الْحَقَّ وَيَظْهَرُ لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ((مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ)) يَعْنِي: أَنَّ الْفِقْهَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ فَهُوَ بِحَاجَةٍ لِأَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنْ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: ((وَأَمَّا الْفِقْهُ وَالتَّدْقِيقُ فِي الرَّأْيِ وَغَوَامِضِهِ؛ فَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى يَعْنِي: إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ-، وَالنَّاسُ عِيَالٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- أَعْنِي: الذَّهَبِيَّ-: ((الْإِمَامَةُ فِي الْفِقْهِ وَدَقَائِقِهِ مُسَلَّمَةٌ إِلَى هَذَا الْإِمَامِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ)).

فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ فَقِيهًا فَهِمًا، مِنْ فُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْدُودِينَ الَّذِينَ تُعْتَبَرُ آرَاؤُهُمْ فِي الْفِقْهِ)).

مِنْ مَعَالِمِ تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ لِطُلَّابِهِ: مَا يَلِي:

-الْحِرْصُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِفَادَةِ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

-التَّفَرُّغُ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ.

-الْحِرْصُ عَلَى الْوَقْتِ.

-الْإِخْلَاصُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.

-تَكْرِيمُ الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِهِ.

-حُسْنُ الْمُجَالَسَةِ لِلْأَصْحَابِ، وَمُوَاسَاتُهُمْ.

-مُلَاطَفَةُ الطَّلَبَةِ، وَمُرَاعَاتُهُمْ.

- الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الطُّلَّابِ مَعَ النُّصْحِ لَهُمْ.

-بَذْلُ الْعِلْمِ لِمَنْ يَحْرِصُ عَلَيْهِ.

-احْتِرَامُ الْعِلْمِ، وَالتَّأَدُّبُ مَعَ الْعُلَمَاءِ.

-التَّحْذِيرُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- بِلَا عِلْمٍ.

((الرَّدُّ عَلَى بَعْضِ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ حَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

((لَقَدْ تَكَلَّمَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْضُ أَقْرَانِهِ مِنْ جِهَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ جِهَةِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْعَقَدِيَّةِ.

إِنَّ الْكَلَامَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا إِمَامَتُهُ فِي الْفِقْهِ مُسَلَّمَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْقَضِيَّةُ مِنْ جِهَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ جِهَةِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْعَقَدِيَّةِ.

إِنَّ مَنْ دَرَسَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ مُعَاصِرِيهِ، أَوِ الْقَرِيبِينَ مِنْ زَمَنِهِ، وَاشْتَدَّ كَلَامُهُمْ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ كَلَامُهُمْ لِلزَّجْرِ عَنْ بَعْضِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ الَّتِي رَاجَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

وَكَانَ أَصْحَابُهَا يُرَوِّجُونَهَا بِنِسْبَتِهَا وَبِنَقْلِ بَعْضِ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَأَرَادَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ الزَّجْرَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْمُخَالِفَةِ لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ، فَاشْتَدَّ كَلَامُهُمْ فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

ثُمَّ لَمَّا ذَهَبَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ؛ أَعْرَضَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَبْرَ الْقُرُونِ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهَذَا مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ.

ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَلَّا يَنْقُلُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَعَلَى أَلَّا يَذْكُرُوا أَبَا حَنِيفَةَ إِلَّا بِالْخَيْر الْجَمِيلِ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمَشْهُورِينَ كُلَّهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ للهِ -تَعَالَى-، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، هَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ؛ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ)).

وَالْعَقِيدَةُ الطَّحَاوِيَّةُ الَّتِي أَلَّفَهَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُقَدِّمَتِهَا: ((هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ)).

إِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى مَذْهَبِهِ .

قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَإِنَّمَا هي مِنَ الْأَصْحَابِ؛ فَإِنَّ غَالِبَهَا سَاقِطٌ لَا يَرْتَضِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ)).

وَقَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ هُمْ عَلَى الْخَطِّ السَّلَفِيِّ؛ إِلَّا إِنَّهُ لَا بُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ لَهُ زَلَّةٌ؛ لَكِنَّ الْأَتْبَاعَ فِي وَادٍ، وَالْأَئِمَّةَ أَنْفُسَهُمْ فِي وَادٍ)).

((وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَفَضْلُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْفِقْهِ لَا يُنْكَرُ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ إِمَامٌ فِيهِ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَلْزَمَ طَرِيقَةَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَأَنْ نَعْرِفَ لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فَضْلَهُ فِي الْفِقْهِ، وَإِمَامَتَهُ فِي الْفِقْهِ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَإِنَّهُ يُنْصَرُ وَيَظْهَرُ؛ وَلَوْ خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ، لَكِنْ لَا يُطْعَنُ فِي الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ

أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَسُلِّمَتْ لَهُمُ الرَّايَةُ)).

 ((الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ: تَقْدِيمِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ عَلَى الدَّلِيلِ))

((لَقَدْ عُرِفَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِكَثْرَةِ الْقِيَاسِ؛ حَتَّى كَانَ يُقَالُ لَهُ: ((فَقِيهُ أَهْلِ الرَّأْيِ)).

وَالْمَقْصُودُ بِالرَّأْيِ هُنَا: الْقِيَاسُ؛ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ فِي زَمَنِهِ وَفِي مَكَانِهِ؛ لِقِلَّةِ الْآثَارِ فِي أَيْدِي النَّاسِ فِي مَكَانِهِ؛ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ.

وَقَدْ كَانَ مُجِيدًا فِي الْقِيَاسِ؛ حَتَّى ذُكِرَ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا أَعْرِفُ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْفِقْهِ وَيَسَعُهُ أَنْ يَقِيسَ وَيَسْتَخْرِجَ فِي الْفِقْهِ أَحْسَنَ مَعْرِفَةً مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ)).

مَعْنَاهُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ يَتَعَاطَوْنَ الْفِقْهَ وَيَتَكَلَّمُونَ الْفِقْهَ يَسَعُهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقِيسَ وَيَسْتَخْرِجَ الْمَعَانِيَ وَيَسْتَنْبِطَ أَحْسَنَ مَعْرِفَةً مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَمْ يَكُنْ يَرْضَى عَنْ كُلِّ قِيَاسٍ، وَيُفْرِطُ فِي الْقِيَاسِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ جَاءَ عَنْهُ قَوْلُهُ: ((الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِنْ بَعْضِ الْقِيَاسِ)).

الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ قَبِيحٌ وَفَضِيحَةٌ، كَوْنُ الْإِنْسَانِ يَأْتِي وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَيَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَسْتَقْبِحُهُ الْكُلُّ، وَفَضِيحَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ: ((الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ أَحْسَنُ مِنْ بَعْضِ الْقِيَاسِ)).

فَبَعْضُ الْقِيَاسِ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ.

وَهُنَا قَضِيَّتَانِ فِي أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَعَ الْخَطَأُ فِي فَهْمِهِمَا.. مِمَّا جَعَلَ بَعْضَ النَّاسِ

يَجْرُؤُنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

الْقَضِيَّةُ الْأُولَى: هَلْ يَصِحُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَرَى تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؟

وَالْجَوَابُ: بَعْدَ دِرَاسَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَسَائِلِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ دِرَاسَةً عِلْمِيَّةً؛ ظَهَرَ بِجَلَاءٍ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَا يَثْبُتُ عَنْهُ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ عَلَى حَدِيثٍ صَحِيحٍ، بَلِ الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ لَا يَعْدُوهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا.

الثَّابِتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي نُصُوصِهِ وَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعُدُولِ فِي زَمَانِهِ: أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَبِالتَّالِي لَا يُسَاوِي الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى الْخَبَرِ الصَّحِيحِ!!)).

وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ ((الِانْتِقَاءِ)) لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: ((أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: آخُذُ بِكِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَإِنْ لَمْ أَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَإِنْ لَمْ أَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ أَخَذْتُ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ, آخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْتُ، وَأَدَعُ قَوْلَ مَنْ شِئْتُ، وَلَا أَخْرُجُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ, فَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ أَوْ جَاءَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَدَّدَ رِجَالًا؛ فَقَوْمٌ اجْتَهَدُوا, فَأَجْتَهِدُ كَمَا اجْتَهَدُوا)).

وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى- قَالَ: ((الْعِلْمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ النَّاطِقِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمَا كَانَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَأْثُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَمَا كَانَ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَلَى جَمِيعِهِمْ, فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ فِيهِ عَلَى قَوْلٍ فَهُوَ عِلْمٌ نَقِيسُ عَلَيْهِ مَا أَشْبَهَهُ، وَمَا اسْتَحْسَنَهُ فُقَهَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَكَانَ نَظِيرًا لَهُ، وَلَا يَخْرُجُ الْعِلْمُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ)).

قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ شَدِيدَ الْفَحْصِ عَنِ النَّاسِخِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْمَنْسُوخِ، فَيَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ عَارِفًا بِحَدِيثِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَفِقْهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ بِبَلَدِهِ، وَقَالَ: كَانَ يَقُولُ: إِنَّ لِكِتَابِ اللهِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَإِنَّ لِلْحَدِيثِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَكَانَ حَافِظًا لِفِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأَخِيرِ الَّذِي قُبِضَ عَلَيْهِ مِمَّا وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ)).

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ((كَذَبَ -وَاللهِ- وَافْتَرَى عَلَيْنَا مَنْ يَقُولُ: إِنَّنَا نُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ!! وَهَلْ يُحْتَاجُ بَعْدَ النَّصِّ إِلَى قِيَاسٍ؟!!)).

وَنُقِلَ عَنْهُ -أَيْضًا- قَوْلُهُ: ((نَحْنُ لَا نَقِيسُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّنَا نَنْظُرُ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا قِسْنَا -حِينَئِذٍ- مَسْكُوتًا عَلَى مَنْطُوقٍ بِهِ)).

وَذُكِرَ عَنْهُ -أَيْضًا- قَوْلُهُ: ((مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ بِأَبِي وَأُمِّي، وَلَيْسَ لَنَا مُخَالَفَتُهُ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ تَخَيَّرْنَا، وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِمْ فَهُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((إِعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ)): ((أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ)).

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ((جَمِيعُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ)).

لَيْسَ الرَّأْيُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- رَدُّ النُّصُوصِ, لَكِنِ اعْتِبَارُهَا وَفَهْمُهَا وَالْفَهْمُ عَنْهَا, وَقَدْ كَانَ فِي هَذَا الْبَابِ إِمَامًا لَا يُجَارَى.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((مُقَدِّمَةِ الْفَتْحِ)): ((وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُقْبَلْ جَرْحُ الْجَارِحِينَ فِي الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَرَحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ الْقِيَاسِ)).

وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْحَنَفِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ (أَهْلِ الرَّأْيِ) فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَرَاعَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْفَهْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ.

((هُنَاكَ قَضِيَّتَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-:

الْقَضِيَّةُ الْأُولَى: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ.. هَلْ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، أَوْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟

الْخَبَرُ الضَّعِيفُ الَّذِي لَمْ يَتَنَاهَ فِي الضَّعْفِ.. هَلْ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، أَوْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟

لِمَاذَا؟

لِأَنَّا وَجَدْنَا فِي مَسَائِلِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَسَائِلَ قَدَّمَ فِيهَا الْقِيَاسَ عَلَى الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَوَجَدْنَا لَهُ مَسَائِلَ قَدَّمَ فِيهَا الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالَّذِي ظَهَر -وَاللهُ أَعْلَمُ- بَعْدَ التَّمَعُّنِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْعِبْرَةَ هُنَا بِقُوَّةِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ الْحَدِيثِ.

فَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ قَوِيًّا، وَكَانَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا ضَعْفًا لَيْسَ مُحْتَمَلًا؛ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ.

وَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَكَانَ ضَعْفُ الْحَدِيثِ مُحْتَمَلًا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا؛ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْحَدِيثُ.

وَلِهَذَا لَا تَنَاقُضَ هُنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، الْمُشْكِلَةُ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ قَبْلَ أَنْ يَدْرُسَ، بَلْ أُصُولُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مُنْضَبِطَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ سَوَاءً أَصَابَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَوْ لَمْ يُصِبْ.

الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يُرَجِّحُ خَبَرًا عَلَى خَبَرٍ بِالْقِيَاسِ، قَدْ يَتَعَارَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ فِي الظَّاهِرِ -كَمَا تَعْرِفُونَ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ النُّصُوصِ أَوِ التَّعَارُضَ بَيْنَ النُّصُوصِ لَيْسَ حَقِيقِيًّا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَارَضَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَعَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ؛ فَكَيْفَ يَتَعَارَضُ؟!! لَكِنْ فِي نَظَرِ الْفَقِيهِ قَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ- فَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَعَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يُعْضُدُهُ قِيَاسٌ عَلَى مَسَائِلَ شَرْعِيَّةٍ، وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعْضُدُهُ قِيَاسٌ؛ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يُعَابُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- )).

((قَصْدُ السَّلَفِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالْأَحَادِيثِ، وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُ غَالِبًا عَلَى الْقِيَاسِ؛ هَذَا مَأْخَذُ مَنْ أَخَذَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَنَّهُ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ لَا شَكَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْأَدِلَّةِ: ((الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ))؛ لَكِنِ الْأَئِمَّةُ لَا يَصِيرُونَ إِلَى الْقِيَاسِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، إِذَا لَمْ يَجِدُوا دَلِيلًا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا مِنَ الْإِجْمَاعِ؛ يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ.

أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقَدْ تَوَسَّعَ فِي الْقِيَاسِ؛ هَذَا الَّذِي أَخَذُوهُ عَلَيْهِ وَعَابُوهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِأَنَّهُ كَانَ يَعِيشُ فِي الْعِرَاقِ وَقْتَ الْفِتَنِ وَالْكَذِبِ، اشْتَدَّ الْكَذِبُ وَوَضْعُ الْأَحَادِيثِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَصَارَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْقِيَاسِ خَوْفًا مِنَ الْوَضَّاعِينَ وَالْكَذَّابِينَ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ انْتَشَرَ فِي الْعِرَاقِ، خِلَافَ الْحِجَازِ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَهُمْ أَهْلُ رِوَايَةٍ وَأَهْلُ حَدِيثٍ وَإِتْقَانٍ، أَمَّا فِي الْعِرَاقِ فَلَمَّا كَثُرَتِ الْفِرَقُ، وَكَثُرَ الْوَضْعُ وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ اعْتَمَدَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى الْقِيَاسِ، هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يَعْتَمِدُ وَيَتَوَسَّعُ فِي الْقِيَاسِ.

وَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ بِلَا شَكٍّ، وَهُوَ أَقْدَمُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، أَخَذَ عَنِ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: أَخَذَ عَنِ الصَّحَابَةِ؛ فَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ، مَا فِيهِ كَلَامٌ مِنْ نَاحِيَةِ عَقِيدَتِهِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ دِينِهِ، إِنَّمَا أَخَذُوا عَلَيْهِ تَوَسُّعَهُ بِالْقِيَاسِ، هَذَا الْمَأْخَذُ عَلَيْهِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ فَشَا الْكَذِبُ وَالْوَضْعُ؛ لَاسِيَّمَا فِي الْعِرَاقِ، فَهُوَ تَحَاشَى هَذَا الشَّيْءَ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ نَحْنُ نُحِبُّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِمَامٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلَا نَطْعَنُ فِيهِ أَبَدًا)).

((الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ: تَقْدِيمِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- الِاسْتِحْسَانَ عَلَى الدَّلِيلِ))

((الْأَمْرُ الثَّانِي: فِي أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَحْتَاجُ أَنْ نَشْرَحَهُ وَنَتَوَقَّفَ عِنْدَهُ: الِاسْتِحْسَانُ:

وَالِاسْتِحْسَانُ وَقَعَ فِي فَهْمِهِ خَبْطٌ وَخَلْطٌ، وَالِاسْتِحْسَانُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لَكِنْ مَا الِاسْتِحْسَانُ؟

لِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ مَوْقِفَانِ:

الْمَوْقِفُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْفَقِيهُ بِرَأْيِهِ بِلَا دَلِيلٍ، أَنْ يَحْكُمَ الْفَقِيهُ بِرَأْيِهِ، يَعْنِي: مِنْ نَفْسِهِ بِلَا دَلِيلٍ.. لَا يَسْتَنِدُ عَلَى أَيِّ دَلِيلٍ، لَكِنْ يَقُولُ: أَسْتَحْسِنُ كَذَا!!

وَهَذَا قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ: ((مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ)).

وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبَرِينَ.. هَذَا الْمَعْنَى لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبَرِينَ، فَلَا يَقُولُ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَمِمَّا يُظْهِرُ لَكَ هَذَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ الَّذِي قَالَ: ((مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ)) كَثُرَ ثَنَاؤُهُ عَلَى فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَلَوْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَأْخُذُ بِالِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لَمَا أَثْنَى عَلَى فِقْهِهِ، كَمَا أَنَّ دِرَاسَتَنَا لِمَسَائِلِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- تُبَيِّنُ هَذَا.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ الْعُدُولُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا؛ لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَخَذَ بِهِ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ: هَلْ يُسَمَّى اسْتِحْسَانًا، أَوْ لَا يُسَمَّى اسْتِحْسَانًا؟!!

وَقَدِ اشْتُهِرَ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَعَ أَخْذِ الْعُلَمَاءِ بِهِ؛ لِمَاذَا اشْتُهِرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الِاسْتِحْسَانِ دُونَ بَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ؟

الْجَوَابُ: لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- عُرِفَ بِالْقِيَاسِ، فَكَثُرَ الِاسْتِحْسَانُ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ إِلَى الْقِيَاسِ يَقُولُ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَا؛ لَكِنْ أَسْتَحْسِنُ كَذَا؛ لِدَلِيلِ كَذَا.

فَاشْتُهِرَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِهَذَا مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ يَأْخُذُونَ بِهَذَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ؛ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ وَتَرْكِ الْقِيَاسِ،

فَالِاسْتِحْسَانُ الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ: الْعُدُولُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا؛ لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، دَلِيلٌ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

فَلَا عَيْبَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْأَخْذِ بِالِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى)).

*مَوْتُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-:

رَوَى الْمُوَفَّقُ الْمَكِّيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: ((غَسَّلَ الْحَسَنُ بْنُ عِمَارَةَ أَبَا حَنِيفَةَ، وَكُنْتُ أَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُ جِسْمَهُ جِسْمًا نَحِيفًا قَدْ أَذَابَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْجُهْدِ، فَلَمَّا فَرَغَ الْحَسَنُ مِنْ غَسْلِهِ مَدَحَ أَبَا حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ بَعْضَ خِصَالِهِ، وَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ أَبْكَى الْجَمِيعَ, فَلَمَّا رُفِعَتْ جِنَازَتُهُ لَمْ أَرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ)).

رَوَى الْمُوَفَّقُ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي يُوسُفَ قَالَ: ((مَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ (150هـ) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-)).

((الْمَوْقِفُ الصَّحِيحُ مِنَ التَّمَذْهُبِ))

عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَأْصِيلِيَّةٌ عَظِيمَةٌ كَثُرَ فِيهَا كَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ، وَهِيَ قَضِيَّةُ التَّمَذْهُبِ، وفِي مَسْأَلَةِ التَّمَذْهُبِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ:

-الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَوْقِفُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى-.

قَالَ الشَّيْخُ الشِّنْقِيطِيُّ: ((اعْلَمْ أَنَّ مَوْقَفَنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَوْقِفَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ: هُوَ مُوَالَاتُهُمْ، وَمَحَبَّتُهُمْ، وَتَعْظِيمُهُمْ، وَإِجْلَالُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَاتِّبَاعُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى رَأْيِهِمْ، وَتَعَلُّمُ أَقْوَالِهِمْ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَتَرْكُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْهَا.

أَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَالصَّوَابُ النَّظَرُ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ اتِّبَاعُ اجْتِهَادِهِمْ أَصْوَبَ مِنَ اجْتِهَادِنَا لِأَنْفُسِنَا؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَتَقْوَى مِنَّا، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ وَنَحْتَاطَ لِأَنْفُسِنَا فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إِلَى رِضَا اللهِ وَأَحْوَطِهَا وَأَبْعَدِهَا عَنِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا قَالَ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ))، وَقَالَ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)))).

وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ الْفَصْلِ فِي الْأَئِمَّةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ, فَكُلُّ مَا أَصَابُوا فِيهِ فَلَهُمْ فِيهِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَمَا أَخْطَأُوا فِيهِ فَهُمْ مَأْجُورُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ, مَعْذُورُونَ فِي خَطَئِهِمْ, وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ وَلَا عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ حَاكِمَانِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَقْوَالِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى.

فَلَا تَغْلُو فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِد     =      كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ

فَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَذُمُّهُمْ، وَيَنْتَقِصُهُمْ، وَلَا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَقْوَالَهُمْ مُغْنِيَةً عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ أَوْ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِمْ.

فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخِرِ:

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: النَّصِيحَةُ للهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِدِينِهِ، وَتَنْزِيهُ هَذَا الدِّينِ عَنِ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ.

الثَّانِي: مَعْرِفَةُ فَضْلِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَمَقَادِيرِهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ، وَمَرَاتِبِهِمْ.

فَالنَّصِيحَةُ لِدِينِ اللهِ تُوجِبُ رَدَّ بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ، وَتَرْكَ جُمْلَةٍ مِنَ اجْتِهَادَاتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنَقُّصٌ لَهُمْ، وَلَا إِهْدَارٌ لِمَكَانَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ لَا يُوجِبُ قَبُولَ كُلِّ مَا قَالُوهُ.

فَهَذَانِ طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنِ الْقَصْدِ، وَقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُمَا.

الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ بِعِصْمَةِ الْأَئِمَّةِ وَأَنَّهُمْ لَا يُخْطِئُونَ، وَقَبُولُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ خَالَفَتِ الْحَقَّ.

الطَّرَفُ الثَّانِي: تَأْثِيمُ الْأَئِمَّةِ، وَالْوَقِيعَةُ بِهِمْ، وَإِهْدَارُ جَمِيعِ أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ وَافَقَتِ الْحَقَّ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- -بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ مَا مَضَي-: ((وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَتَنَافِيَانِ عِنْدَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: جَاهِلٍ بِمِقْدَارِ الْأَئِمَّةِ وَفَضْلِهِمْ, أَوْ جَاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ.

وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ، قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ, وَفِيهَا مَعْذُورٌ، بَلْ مَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَذْهُبِ وَهُوَ مَوْقِفُنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً.

الْأَمْرُ الثَّانِي: حُكْمُ الْتِزَامِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَلْ يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ لَا؟

فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ, قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ؛ إِذْ لَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُوجِبِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذَهْبِ رَجُلٍ مِنَ الْأُمَّةِ، فَيُقَلِّدَهُ دِينَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدِ انْطَوَتِ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ مُبَرَّأٌ أَهْلُهَا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ, فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِسَابَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ, هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.

إِلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْعَبْدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ دِينَهُ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْتِزَامِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَفْعُ فَسَادٍ عَظِيمٍ لَا يَتَحَقَّقُ دَفْعُهُ إِلَّا بِذَلِكَ.

فَالضَّابِطُ لِجَوَازِ الْتِزَامِ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ النَّظَرُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ, فَإِنْ كَانَ فِي الِالْتِزَامِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ تَحْقِيقٌ لِمَصَالِحَ عُظْمَى جَازَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْجَوَازُ -أَيْضًا- لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ضَوَابِطَ.

إِذَا جَازَ الِالْتِزَامُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ شُرُوطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ وَهِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ جَاهِلًا عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.

الثَّانِي: أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ عُرِفَ بِالْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ.

الثَّالِثُ: أَلَّا يَتَبَيَّنَ لِلْمُقَلِّدِ الْحَقُّ، وَأَلَّا يَظْهَرَ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ أَرْجَحُ لَهُ مِنْ قَوْلِ مُقَلِّدِهِ, أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ عَرَفَ الْحَقَّ وَفَهِمَ الدَّلِيلَ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ وَالْحَالَةُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ, بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا تَبَيَّنَتْ صِحَّتُهُ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلَّا يَكُونَ فِي التَّقْلِيدِ مُخَالَفَةٌ وَاضِحَةٌ لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلَّا يُقَلِّدَ مَذْهَبَ إِمَامٍ بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ الْمَسَائِلِ, بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ، وَيَتَّبِعَ الْأَقْرَبَ لِلصَّوَابِ وَيَتَّقِي اللهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَعَلَيْهِ فِي الْمُقَابِلِ أَلَّا يَتَنَقَّلَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ تَتَبُّعًا لِلرُّخَصِ، وَبَحْثًا عَنِ الْأَسْهَلِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَقْرَبِ لِهَوَاهُ.

وَيُضَافُ لِجَوَازِ الِالْتِزَامِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ هَذِهِ الضَّوَابِطُ:

الضَّابِطُ الْأَوَّلُ: أَلَّا يَكُونَ هَذَا الِالْتِزَامُ سَبِيلًا لِاتِّخَاذِ هَذَا الْمَذْهَبِ دَعْوَةً يُدْعَى إِلَيْهَا، وَيُوَالَى وَيُعَادَى عَلَيْهَا, مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَفْرِيقِ وِحْدَةِ صَفِّهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ هُمُ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ لَهُمْ شَخْصًا أَوْ كَلَامًا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيُوَالُونَ وَيُعَادُونَ عَلَيْهِ؛ أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَّا إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، فَهَذِهِ أُصُولٌ مَعْصُومَةٌ دُونَمَا سِوَاهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ تَنَازُعُهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ, كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ تَنَازُعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ.

فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ الْأَوَّلُ مِنْ ضَوَابِطِ جَوَازِ الْتِزَامِ الْمُسْلِمِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ.

الضَّابِطُ الثَّانِي: أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ دُونَ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ, فَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا, بَلْ غَايَةُ مَا يُقَالُ: أَنَّهُ يَسُوغُ أَوْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَيْدٍ وَلَا عَمْرٍو.

الضَّابِطُ الثَّالِثُ مِنْ ضَوَابِطِ جَوَازِ الِالْتِزَامِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ دِينَهُ وَشَرْعَهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الطَّاعَةُ الْمُطْلَقَةُ الْعَامَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلٍ أَوْ يَعْتَقِدَهُ لِكَوْنِهِ قَوْلَ إِمَامِهِ, بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.

الضَّابِطُ الرَّابِعُ مِنْ ضَوَابِطِ جَوَازِ الِالْتِزَامِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ: أَنْ يَحْتَرِزَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَحَاذِيرِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا بَعْضُ الْمُتَمَذْهِبِينَ؛ وَمِنْهَا: التَّعَصُّبُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَمِنْهَا: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْوَحْيِ، وَمِنْهَا: الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا: الِانْتِصَارُ لِلْمَذْهَبِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَمِنْهَا: تَنْزِيلُ الْإِمَامِ الْمَتْبُوعِ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي أُمَّتِهِ.

فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ, كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ بِضَوَابِطِهِ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى-.

لَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ وَالْأَقْوَالُ عَنِ الْأَئِمَّةِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَرْكِ أَقْوَالِ الْمُخَالِفِينَ لَهَا.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنَ الْمُفِيدِ أَنْ نَسُوقَ هُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ لِلْأَئِمَّةِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ أَقْوَالِهِمْ هُمُ الَّتِي تُخَالِفُ السُّنَّةَ- قَالَ: نَسُوقُ هُنَا مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْهَا أَوْ بَعْضَهَا، لَعَلَّ فِيهِ عِظَةً وَذِكْرَى لِمَنْ يُقَلِّدُهُمْ, بَلْ يُقَلِّدُ مَنْ دُونَهُمْ بِدَرَجَاتٍ تَقْلِيدًا أَعْمَى، وَيَتَمَسَّكُ بِمَذَاهِبِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ, كَمَا لَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ, وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

أَوَّلُهُمُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ -رَحِمَهُ اللهُ- رَوَى عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَقْوَالًا شَتَّى وَعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةً, كُلُّهَا تُؤَدِّي إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ، وَتَرْكِ تَقْلِيدِ آرَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ, قَالَ: ((إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي)).

وَقَالَ: ((لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِنَا مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ أَخَذْنَاهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((حَرَامٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلِي أَنْ يُفْتِيَ بِكَلَامٍ)).

زَادَ فِي رِوَايَةٍ: ((إِنَّنَا بَشَرٌ نَقُولُ الْقَوْلَ الْيَوْمَ وَنَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا)).

وَفِي أُخْرَى: ((وَيْحكَ يَا يَعْقُوبُ -هُوَ أَبُو يُوسُفَ- لَا تَكْتُبْ كُلَّ مَا تَسْمَعْ مِنِّي؛ فَإِنِّي قَدْ أَرَى الرَّأْيَ الْيَوْمَ وَأَتْرُكُهُ غَدًا، وَأَرَى الرَّأْيَ غَدًا وَأَتْرُكُهُ بَعْدَ غَدٍ)).

قَالَ: ((إِذَا قُلْتُ قَوْلًا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى- وَخَبَرَ الرَّسُولِ ﷺ فَاتْرُكُوا قَوْلِي)).

مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ, فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلَُّ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ)).

وَقَالَ: ((لَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا النَّبِيَّ ﷺ )).

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((سَمِعْتُ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ, فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.

قَالَ: فَتَرَكْتُهُ حَتَّى خَفَّ النَّاسُ, فَقُلْتُ لَهُ: عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ.

فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟

قُلْتُ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ لَهِيعَةَ  وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو الْمُعَافِرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيِّ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُدْلُكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ.

فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ نَاقِلًا عَنْهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ، وَمَا سَمِعْتُ بِهِ قَطُّ إِلَّا السَّاعَةَ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْأَلُ فَيَأْمُرُ بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ)).

أَمَّا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فَالنُّقُولُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، وَأَتْبَاعُهُ أَكْثَرُ عَمَلًا بِهَا وَأَسْعَدُ, فَمِنْهَا: ((مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَعْزُبُ عَنْهُ, فَمَهْمَا قُلْتَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْتَ مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ خِلَافُ مَا قُلْتُ, فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ قَوْلِي)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ)).

وَقَالَ: ((إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَدَعُوا مَا قُلْتُ -وَفِي رِوَايَةٍ-: فَاتَّبِعُوهَا وَلَا تَلْتَفِتُوا لِقَوْلِ أَحَدٍ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- يُخَاطِبُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي, فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَأَعْلِمُونِي بِهِ, أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُلُّ مَسْأَلَةٍ صَحَّ فِيهَا الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْتُ, فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا رَأَيْتُمُونِي أَقُولُ قَوْلًا وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ خِلَافُهُ, فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ)).

وَقَالَ: ((كُلُّ مَا قُلْتُ فَكَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ خِلَافُ قَوْلِي مِمَّا يَصِحُّ فَحَدِيثُ النَّبِيِّ أَوْلَى, فَلَا تُقَلِّدُونِي)).

وَقَالَ: ((كُلُّ حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ قَوْلِي وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي)).

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ جَمْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَمَسُّكًا بِهَا, حَتَّى كَانَ يَكْرَهُ وَضْعَ الْكُتُبِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى التَّفْرِيعِ وَالرَّأْيِ, وَلِذَلِكَ قَالَ: ((لَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَلَا الثَّوْرِيَّ, وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا تُقَلِّدْ دِينَكَ أَحَد مِنْ هَؤُلَاءِ، مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ, ثُمَّ التَّابِعِينَ بَعْدُ الرَّجُلُ فِيهِ مُخَيَّرٌ)).

وَقَالَ مَرَّةً: ((الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتَّبِعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَنْ أَصْحَابِهِ, ثُمَّ هُوَ مِنَ بَعْدُ لِلتَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ)).

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((رَأْيُ الْأَوْزَاعِيِّ وَرَأْيُ مَالِكٍ وَرَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّهُ رَأْيٌ, وَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْآثَارِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ رَدَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ)).

قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تِلْكَ هِيَ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ، وَالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ دُونَ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ مِنَ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ جَدَلًا وَلَا تَأْوِيلًا, وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ -وَلَوْ خَالَفَ بَعْضَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ- لَا يَكُونُ مُبَايِنًا لِمَذْهَبِهِمْ، وَلَا خَارِجًا عَنْ طَرِيقَتِهِمْ, بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لَهُمْ جَمِيعًا، وَمُتَمَسِّكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهَا لِقَوْلِهِمْ, بَلْ هُوَ بِذَلِكَ عَاصٍ لَهُمْ، وَمُخَالِفٌ لِأَقْوَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُ الرَّسُولِ ﷺ وَعَرَفَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلْأُمَّةِ، وَيَنْصَحَ لَهُمْ، وَيَأْمُرَهُمْ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ رَأْيَ عَظِيمٍ مِنَ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحَقُّ أَنْ يُعَظَّمَ وَيُقْتَدَى بِهِ مَنْ رَأْيِ أَيِّ مُعَظَّمٍ قَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ خَطَأً، وَمِنْ هُنَا رَدَّ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ سُنَّةً صَحِيحَةً، وَرُبَّمَا أَغْلَظُوا فِي الرَّدِّ, لَا بُغْضًا لَهُ، بَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُمْ, مُعَظَّمٌ فِي نُفُوسِهِمْ, لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ، وَأَمْرُهُ فَوْقَ أَمْرِ كُلِّ مَخْلُوقٍ, فَإِذَا تَعَارَضَ أَمْرُ الرَّسُولِ ﷺ وَأَمْرُ غَيْرِهِ فَأَمْرُ الرَّسُولِ أَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ وَيُتَّبَعَ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ, بَلْ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ الْمَغْفُورُ لَهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ يُخَالَفَ أَمْرُهُ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِخِلَافِهِ)).

قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَيْفَ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ؛ إِذِ الْأَئِمَّةُ أَمَرُوا بِهِ أَتْبَاعَهُمْ -كَمَّا مَرَّ-، وَشَدَّدُوا أَنْ يَتْرَكُوا أَقْوَالَهُمُ الْمُخَالِفَةَ لِلسُّنَّةِ, بَلْ إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَنْسُبُوا السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَا أَوْ أَخَذَ بِخِلَافِهَا, لِذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ -رَحِمَهُ اللهُ- الْمَسَائِلَ الَّتِي خَالَفَ مَذْهَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِيهَا انْفِرَادًا أَوِ اجْتِمَاعًا.. لَمَّا جَمَعَهُ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ, قَالَ فِي أَوَّلِهِ: إِنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ حَرَامٌ, يَعْنِي مَا وَقَعُوا فِيهِ أَوْ وَقَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ, قَالَ: نِسْبَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مُحَادِّينَ فِيهِ السُّنَّةَ.. نِسْبَتُهُ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ حَرَامٌ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ مَعْرِفُتُهَا؛ لِئَلَّا يَعْزُوهَا إِلَيْهِمْ فَيَكْذِبُوا عَلَيْهِمْ, لِأَنَّكَ رُبَّمَا تَجِدُ فِي الْمَذَاهِبِ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الظَّاهِرَةَ الْوَاضِحَةَ، وَيُقَالُ: هَذَا مَذْهَبُ فُلَانٍ؛ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، مَذْهَبُ أَحْمَدَ مَعَ الْمُخَالَفَةِ, فَيُقَالُ: نِسْبَةُ هَذَا لِلْإِمَامِ لَا تَصِحُّ، كُلُّهُمْ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَإِذَا جَاءَكَ -فِي سُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ- إِذَا جَاءَكَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ قَوْلِي فَاضْرِبْ بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَلَا الثَّوْرِيَّ, وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا, فَأَفْضَى هَذَا إِلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ)).

فَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- أَنَّنَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلْمَعْصُومِ ﷺ، وَإِهْدَارِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَإِلْغَائِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ تَجْرِيدَ الْمُتَابَعَةِ أَلَّا تُقَدِّمَ عَلَى قَوْلِهِ ﷺ قَوْلَ أَحَدٍ وَلَا رَأْيَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ, بَلْ تَنْظُرُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَوَّلًا, فَإِذَّا صَحَّ لَكَ نَظَرْتَ فِي مَعْنَاهُ ثَانِيًا, فَإِذَا تَبَيَّنَ لَكَ فَلَا تَعْدِلُ عَنْهُ وَلَوْ خَالَفَكَ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

وَمَعَاذَ اللهِ! أَنْ تَتَّفِقَ الْأُمَّةُ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهَا, بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ قَالَ بِهِ, وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْهُ، فَلَا تَجْعَلْ جَهْلَكَ بِالْقَائِلِ حُجَّةً عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ, بَلِ اذْهَبْ إِلَى النَّصِّ وَلَا تَضْعُفْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ قَطْعًا، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، هَذَا مَعَ حِفْظِ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ، وَمُوَالَاتِهِمْ، وَاعْتِقَادِ حُرْمَتِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَاجْتِهَادِهِمْ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَضَبْطِهِ, فَهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْأَجْرَيْنِ وَالْمَغْفِرَةِ, لَكِنْ لَا يُوجِبُ هَذَا إِهْدَارَ النُّصُوصِ، وَتَقْدِيمَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهَا بِشُبْهَةِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكَ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى النَّصِّ أَعْلَمُ مِنْكَ؛ فَهَلَّا وَافَقْتَهُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا!

فَمَنْ عَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَى النُّصُوصِ وَوَزَنَهَا بِهَا وَخَالَفَ مِنْهَا مَا خَالَفَ النَّصَّ لَمْ يُهْدِرْ أَقْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَهْضِمْ جَانِبَهُمْ، بَلِ اقْتَدَى بِهِمْ, فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَمَرُوا بِذَلِكَ، فَمُتَّبِعُهُمْ حَقًّا مَنِ امْتَثَلَ مَا أَوْصَوْا بِهِ, لَا مَنْ خَالَفَهُمْ, فَخِلَافُهُمْ فِي الْقَوْلِ الَّذِي جَاءَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَمَرُوا بِهَا وَدَعُوا إِلَيْهَا مِنْ تَقْدِيمِ النَّصِّ عَلَى أَقْوَالِهِمْ.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ فِي كُلِّ مَا قَالَ، وَبَيْنَ الِاسْتِعَانَةِ بِفَهْمِهِ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ عِلْمِهِ, فَالْأَوَّلُ يَأْخُذُ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِيهِ، وَلَا طَلَبٍ لِدَلِيلِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, بَلْ يَجْعَلْ ذَلِكَ كَالْحَبْلِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي عُنُقِهِ يُقَلِّدُهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَقْلِيدًا, بِخِلَافِ مَنِ اسْتَعَانَ بِفَهْمِهِمْ، وَاسْتَضَاءَ بِنُورِ عِلْمِهِمْ فِي الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ, فَإِنَّهُ يَجْعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ, فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ اسْتَغْنَى بِدَلَالَتِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِهِ, فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنَّجْمِ عَلَى الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ إِذَا شَاهَدَهَا لَمْ يَبْقَ لِاسْتِدْلَالِهِ بِالنَّجْمِ مَعْنًى.

فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنِ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ فَفِي ذَلِكَ الْعِصْمَةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعْصُومَانِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا إِذَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ؛ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي)).

((ثَمَرَاتُ إِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي مَجَالَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ لِلْإِسْلَامِ مَنْهَجًا يَنْزِعُ إِلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ وَإِلَى الْأَخْذِ بِيَدِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى قَانُونِ الْعَقْلِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ نَاظِرًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَتَّى فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا إِعْمَالٌ لِلْعَقْلِ بِإِزَاءِ النَّصِّ -حَاشَا وَكَلَّا- وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيمٌ لِلْعَقْلِ عَلَى النَّصِّ؛ أَبَدًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا مُسَاوَاةٌ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ حَدَّدَهُ الْعُلَمَاءُ بَدْءًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْلَ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعَقْلُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، فَالنَّائِمُ يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَهْلِيَّةَ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْؤُولٌ، وَكَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ -بَعْدُ- صَغِيرًا فَهَذَا رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ وَلَا أَهْلِيَّةَ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَسْؤُولٌ، وَالْمَجْنُونُ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يُفُيِقَ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذَا الْعَقْلُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا مَا رُفِعَ الْعَقْلُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، هُمَا أَمْرَانِ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَا مَعًا، وَإِلَّا فَإِنَّهُمَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا.

وَإِذَنْ؛ فَلَهُ أَهَمِّيَّتُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَفِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي تَتَعَرَّضُ فِيهِ الثَّوَابِتُ -ثَوَابِتُ الْإِسْلَامِ- إِلَى الْهُجُومِ الشَّرِسِ، ثَوَابِتُ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا تَتَزَعْزَعُ بِحَالٍ أَبَدًا، كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ، وَمَنْهَجُهُ، وَفَضَائِلُهُ، وَسِيرَتُهُ، وَهَدْيُهُ، وَسَمْتُهُ، وَدَلُّهُ، وَشَرْعُهُ، وَدِينُهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ ثَوَابِتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَزَعْزَعَ بِحَالٍ أَبَدًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي وَجْهِ تِلْكَ الْأَعَاصِيرِ الْهُوجِ مِنْ مَوْجَاتِ الْإِلْحَادِ وَالشَّكِّ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ مُنْذُ جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يُغَيِّبَ الْمُسْلِمُ عَقْلَهُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يُعْمِلَ الْمُسْلِمُ عَقْلَهُ، وَحِينَئِذٍ فَإِنَّهُ يَفِيءُ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَفِيءُ -حِينَئِذٍ- إِلَى أَصْلٍ أَصِيلٍ وَرُكْنٍ رَكِينٍ وَحِصْنٍ شَدِيدٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَزِيغَ أَبَدًا وَلَا أَنْ يَضِلَّ، وَأَمَّا أَنْ يَدَعَ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةَ الْمُنْضَبِطَةَ، وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ مُهْمَلًا، وَأَمَّا أَلَّا يَنْظُرَ فِي الْأُمُورِ عَلَى مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِ الْفِطْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَرَكَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّلَ إِلَى ضَمِيرِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ، وَهَذَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ لَا يَخْشَى شَيْئًا أَبَدًا، وَدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ لَيْسَ فِيهِ غُمُوضٌ وَلَيْسَ فِيهِ لَبْسٌ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاطِقِ الَّتِي لَا يُحَوِّمُ حَوْلَهَا إِنْسَانٌ بِعَقْلِهِ، ثُمَّ يَسْقُطُ فِي الشَّكِّ بَعِيدًا عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَهَا تَفْسِيرًا وَلَا يَجِدُ لَهَا مَعْنًى، وَلَا يَجِدُ لَهَا تَأْوِيلًا، لَيْسَ كَذَلِكَ.

هَذَا الدِّينُ دِينٌ يَحْتَرِمُ الْعَقْلَ، بَلْ إِنَّهُ يَقُودُ الْقَلْبَ بِزِمَامِ الْعَقْلِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى جَادَّةِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالتَّسْلِيمِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَذَا الدِّينُ يُعْطِي -دَائِمًا- الْعَقْلَ فُرْصَةً لِلنَّظَرِ، وَيُعْطِي الْمَنْطِقَ الْفِطْرِيَّ الْعَقْلِيَّ فُرْصَةً لِلتَّفَكُّرِ وَالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، دَائِمًا دِينُ اللهِ كَذَلِكَ.

لَا يَهْتَزُّ مُسْلِمٌ أَبَدًا بِشَكٍّ مَهْمَا عَلَتْ مَوْجَةُ الْإِلْحَادِ وَالشَّكِّ؛ أَبَدًا، إِنَّمَا يَهْتَزُّ الْفَارِغُونَ، نَعَمْ.. الْمُجَوَّفُ الَّذِي لَا قَرَارَ وَلَا جِذْرَ يَمْتَدُّ بِهِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ هَزَّةُ الرِّيحِ تُمِيلُهُ وَرُبَّمَا قَصَمَتْهُ، نَعَمْ.

شَجَرَةُ الْبَاطِلِ تَهِيجُ.. شَجَرَةَ الْخِرْوَعِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تَعْلُو الْبَيْتَ بِالطَّبَقَاتِ وَالطَّوَابِقِ، وَأَمَّا النَّخْلَةُ فَتَنْمُو عَلَى هِينَةٍ تَمْتَدُّ جُذُورُهَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِذَا هِيَ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، لَا تَصْنَعُ مَعَهَا هُوجُ الرِّيَاحِ شَيْئًا، وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي هَاجَتْ فَمَاجَتْ فَعَلَتْ فَسَمَقَتْ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مَا أَصْلٍ وَلَا قَرَارَ، هَبَّةُ الرِّيحِ تَجْعَلُهَا مُنْجَعِفَةً مُنْكَسِرَةً وَإِذَا هِيَ كَالْهَبَاءِ وَالْعَدَمِ، لَمْ يُعْمِلُوا الْعَقْلَ.

وَنَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ يُحِبُّ الَّذِينَ يُعْمِلُونَ الْعَقْلَ الْفِطْرِيَّ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ حَتَّى يَنْمَحِقَ الشَّكُّ وَيَزُولَ الْوَهْمُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَظَلَّ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ رَاسِخًا، نَعَمْ.

وَدَوْرُ الْعَقْلِ مُنْحَسِمٌ مُنْحَصِرٌ فِي قَانُونٍ إِنَّهُ يَعْمَلُ فِي الْقَضِيَّةِ الْأُولَى عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَسْلَمْتَ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ إِسْلَامِكَ وَإِيمَانِكَ وَتَسْلِيمِكَ أَنْ تُعْمِلَ الْعَقْلَ فِي النُّصُوصِ قَبُولًا وَرَدًّا، لِلْعَقْلِ مَجَالُهُ، فَإِذَا مَا سَلَّمَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاجِعَ، وَإِلَّا فَلَوْ رَاجَعَ الْعَقْلُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ التَّسْلِيمِ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَاجَعَ فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ، تَنَاقُضٌ، لَا يَجُوزُ، أَنْتَ سَلَّمْتَ وَأَنْتَ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

الْأَمْرُ وَاضِحٌ كَالشَّمْسِ فِي رَائِعَةِ الضُّحَى مِنْ غَيْرِ مَا غَيْمٍ وَلَا سَحَابٍ تُدْرِكُهَا الْأَعْيُنُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مِنْ عُشُوٍّ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ عَمًى وَلَا دُونَهَا ضَبَابٌ، هَذِهِ الْأَعْيُنُ الَّتِي لَيْسَتْ بِرُمْدٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَجْلِيَ حَقِيقَةَ الدِّينِ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا عَلَى الْفِطْرَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ.

وَعَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ يَخْتَارُ الْمَرْءُ طَرِيقَهُ، هُمَا طَرِيقَانِ وَهَدَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ النَّجْدَيْنِ، طَرِيقَ الْحَقِّ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، طَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، فَإِذَا مَا سِرْتَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَاخْتَرْتَهُ فَكَيْفَ تُرَاجِعُ مَرَّةً أُخْرَى فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ.. فِي أَصْلِ الِاخْتِيَارِ؟!! هَذَا تَنَاقُضٌ لَا يَحْسُنُ بِالْعُقَلَاءِ وَلَا يَجْمُلُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَ عَاقِلٍ أَبَدًا..

إِعْمَالُ الْعَقْلِ -عِبَادَ اللهِ- أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْحَظَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ نَبْحَثَ فِيهِ، وَأَنْ نُفَتِّشَ فِي أَطْوَائِهِ، هُوَ لَيْسَ وِرَاثَةً تُورَثُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ يُؤَدَّى، لَيْسَ وِرَاثَةً تُورَثُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ يُؤَدَّى.. يُؤَدَّى إِلَى الْمُسْتَحِقِّ.

وَأَنْتَ عَلِيمٌ أَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]؛ فَكُلُّ سَفِيهٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ نَاظِرٌ فِي هَذَا الدِّينِ فَأَيُّ مِيرَاثٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبْعَدٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِيرَاثِهِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْمَلَ أَمَانَةَ الدِّينِ؛ حَتَّى لَا يَشُكَّ شَاكٌّ وَلَا يَزِيغَ زَائِغٌ، وَلَا يَضِلَّ ضَالٌّ، وَأَمَّا شَبَابُنَا -عِبَادَ اللهِ- فَهُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ عُلَمَائِنَا، هُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ دُعَاتِنَا، هُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِهِمْ خَوَاءٌ كَالرِّيحِ تَعْوِي فِي تِلْكَ الصَّافِرَاتِ مِنَ الشِّعَابِ الصُّمِّ بِوَحْيٍ كَوَحْيِ الْجِنِّ، وَلَا يَقُومُ هُنَاكَ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ.

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَبْحَثَ فِي الدِّينِ -وَحِينَئِذٍ- يَتَأَتَّى الْيَقِينُ بِإِذْنِ اللهِ.

اللهم اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ.

اللهم اهْدِنَا إِلَى الْحَقِّ وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:

((إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ النَّصِّ..

الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَدْرَسَتُهُ الْفِقْهِيَّةُ أُنْمُوذَجًا))

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  الشِّتَاءُ.. أَحْكَامٌ وَآدَابٌ وَمَحَاذِير
  النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ مُعَلِّمًا وَمُرَبِّيًا
  صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  السَّمَاحَةُ عَقِيدَةً وَسُلُوكًا
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  أَهْلُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  فِقْهُ التَّعَامُلِ مَعَ الرِّيَاحِ وَالْأَمْطَارِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان