لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْهُوِيَّةِ

لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْهُوِيَّةِ

((لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْهُوِيَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَمَنْزِلَتُهَا فِي الدِّينِ))

فَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ الْمُجَاهِدَةَ هِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَهِيَ لُغَةُ النُّبُوَّةِ الْخَاتِمَةِ، وَهِيَ سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ، وَهِيَ السَّابِقَةُ بِالْوُصْلَةِ، الْمُحَافِظَةُ عَلَى خَصَائِصِ اللُّغَةِ السَّامِيَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَفَرَّعَتْ عَنْهَا اللُّغَاتُ السَّامِيَةُ الْمُخْتَلِفَةُ.

وَالْعَرَبِيَّةُ هِيَ الْآخِرَةُ بِالنُّبُوَّةِ، بِمَا نَزَلَ بِهَا الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ الْعَصِيُّ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، الْمَعْصُومُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، الْمَحْفُوظُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الرِّسَالَةِ)): ((فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ؛ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَاللُّغَةُ -كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ-: هِيَ صُورَةُ وُجُودِ الْأُمَّةِ بِأَفْكَارِهَا وَمَعَانِيهَا وَحَقَائِقِ نُفُوسِهَا وُجُودًا مُتَمَيِّزًا قَائِمًا بِخَصَائِصِهِ.

وَمَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا انْحَطَّتْ إِلَّا كَانَ أَمْرُهُ فِي ذَهَابٍ وَإِدْبَارٍ.

((الْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ))

لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ آيَةً بَاقِيَةً لِرَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ، يَتَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَجْمَعِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

((وَاللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَاللُّغَاتُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُونَ)).

وَقَدِ اخْتَارَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَرَبَ لِيَصْطَفِيَ مِنْهُمْ رَسُولَهُ الْخَاتَمَ ﷺ، وَيُنَزِّلَ بِلِسَانِهِمْ كِتَابَهُ الْمُعْجِزَ، الْمُتَعَبَّدَ بِتِلَاوَتِهِ، الْمُتَحَدَّى بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ فِيهِ.

وَعَلَى قَدْرِ المَعْرِفَةِ بِلُغَةِ العَرَبِ تَكُونُ المَعْرِفَةُ بِفَضْلِ القُرْآنِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَنْطِقُونَ، وَلَيْسَ أَعْجَمِيًّا، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ}: وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَلْسِنَةِ، بِلُغَةِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، وَبَاشَرَ دَعْوَتَهُمْ أَصْلًا، اللِّسَانُ الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ.

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ الْفَاخِرَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ، نَزَلَ بِهِ أَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَفْضَلِ الْخَلْقِ، عَلَى أَفْضَلِ بَضْعَةٍ فِيهِ وَهِيَ قَلْبُهُ، عَلَى أَفْضَلِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، بِأَفْضَلِ الْأَلْسِنَةِ وَأَفْصَحِهَا وَأَوْسَعِهَا؛ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَإِيضَاحِهِ: أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، أَشْرَفِ الْأَلْسِنَةِ وَأَبْيَنِهَا، الْمُبِينِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].

قَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَيَّنَ -جَلَّ وَعَلَا- كَذِبَهُمْ وَتَعَنُّتَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أَيْ : كَيْفَ يَكُونُ تَعَلُّمُهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَشَرَ أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فَصِيحٌ، لَا شَائِبَةَ فِيهِ مِنَ الْعُجْمَةِ؟!!

هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ .

وَبَيَّنَ شِدَّةَ تَعَنُّتِهِمْ -أَيْضًا- بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيًّا لَكَذَّبُوهُ -أَيْضًا- وَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ عَرَبِيٌّ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: أَقُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ؟!!

فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَعْجَمِيٌّ وَالرَّسُولَ عَرَبِيٌّ، وَلَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ الْمَزْعُومَ أَعْجَمِيٌّ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَزْعُومَ تَعْلِيمُهُ لَهُ عَرَبِيٌّ؟!!

كَمَا بَيَّنَ تَعَنُّتَهُمْ -أَيْضًا- بِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ عَلَى أَعْجَمِيٍّ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ عَرَبِيًّا لَكَذَّبُوهُ -أَيْضًا-، مَعَ ذَلِكَ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ; لِشِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198-199].

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يُلْحِدُونَ} أَيْ: يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ.

وَالْمَعْنَى: لِسَانُ الْبَشَرِ الَّذِي يُلْحِدُونَ -أَيْ: يُمِيلُونَ قَوْلَهُمْ عَنِ الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ- أَعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، أَيْ: ذُو بَيَانٍ وَفَصَاحَةٍ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].

 

 

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

فَبَيَّنَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أُنْزِلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبِلِسَانِهِمْ، وَدَعَا إِلَى تَدَبُّرِهِ، وَالنَّظَرِ فِي مَعَانِيهِ، وَاسْتِجْلَاءِ مَرَامِيهِ.

فَاجْتَمَعَ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَدَبُّرِهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مَا تَزَالُ قَائِمَةً.

وَعَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ.

((وَإِنَّمَا يَعْرِفُ فَضْلَ القُرْآنِ مَنْ عَرَفَ كَلَامَ العَرَبِ، فَعَرَفَ عِلْمَ اللُّغَةِ، وَعِلْمَ العَرَبِيَّةِ، وَعِلْمَ البَيَانِ، وَنَظَرَ فِي أَشْعَارِ العَرَبِ وَخُطَبِهَا وَمُقَاوَلَاتِهَا: فِي مَوَاطِنِ افْتِخَارِهَا، وَرَسَائِلِهَا، وَأَرَاجِيزِهَا، وَأَسْجَاعِهَا، فَعَلِمَ مِنْهَا تَلْوِينَ الخِطَابِ وَمَعْدُولَهُ، وَفُنُونَ البَلَاغَةِ، وَضُرُوبَ الفَصَاحَةِ، وَأَجْنَاسَ التَّجْنِيسِ، وَبَدَائِعَ البَدِيعِ، وَمَحَاسِنَ الحِكَمِ وَالأَمْثَالِ.

فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَنَظَرَ فِي هَذَا الكِتَابِ العَزِيزِ، وَرَأَى مَا أَوْدَعَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِيهِ مِنَ البَلَاغَةِ وَالفَصَاحَةِ وَفُنُونِ البَيَانِ؛ فَقَدْ أُوتِيَ العَجَبَ العُجَابَ، وَالقَوْلَ الفَصْلَ اللُّبَابَ، وَالبَلَاغَةَ النَّاصِعَةَ الَّتِي تُحَيِّرُ الأَلْبَابَ، وَتُغْلَقُ دُونَهَا الأَبْوَابُ.

فَكَانَ خِطَابُهُ لِلْعَرَبِ بِلِسَانِهِمْ لِتَقُومَ بِهِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَمُجَارَاتُهُ لَهُمْ فِي مَيْدَانِ الفَصَاحَةِ ليُسْبِلَ رِدَاءَ عَجْزِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَيُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِطَابِهِمْ لَدَيْهِمْ؛ فَعَجَزَتْ عَنْ مُجَارَاتِهِ فُصَحَاؤُهُمْ، وَكَلَّتْ عَنِ النُّطْقِ بِمِثْلِهِ أَلْسِنَةُ بُلَغَائِهِمْ.

وَبَرَزَ فِي رَوْنَقِ الجَمَالِ وَالجَلَالِ فِي أَعْدَلِ مِيزَانٍ مِنَ المُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِدَالِ؛ وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي النُّفُوسِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ مِنَ الرَّوْعَةِ مَا يَمْلَأُ القُلُوبَ هَيْبَةً، وَالنُّفُوسَ خَشْيَةً، وَتَسْتَلِذُّهُ الأَسْمَاعُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ بِالحَنِينِ الطِّبَاعُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ فَاهِمَةً لِمَعَانِيهِ أَوْ غَيْرَ فَاهِمَةٍ، عَالِمَةً بِمَا يَحْتَوِيهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمَةٍ، كَافِرَةً بِمَا جَاءَ بِهِ أَوْ مُؤْمِنَةً)).

وَلَقَدْ كَانَتِ العَرَبِيَّةُ مُهَيَّأةً عِنْدَ نُزولِ القُرْآنِ لِنُزُولِهِ بِهَا، وَلَا رَيبَ أنَّ القُرْآنَ لَمَّا جَاءَ بِهَذَا اللِّسَانِ خَارِجًا عَنْ سَنَنِ كَلَامِ النَّاسِ؛ أَخْرَجَ هَذَا اللِّسَانَ نَفْسَهُ عَنْ سَنَنِ لُغَاتِ النَّاسِ، وَهَذا الَّذِي أَحْدَثَهُ القُرْآنُ فِي العَرَبيَّةِ، لَيسَ فِي غَيرِهَا مِنْ لُغَاتِ الأرْضِ، وَمَا عَرَفَ التَّارِيخُ لُغَةً عَاشَتْ فِي أفْوَاهِ أجيَالِ البَشَرِ عُمُرًا مَدِيدًا كَهَذَا اللِّسَانِ.

وَلَقَدْ دَلَّ نُزُولُ القُرْآنِ بِهَذَا اللِّسَانِ العَرَبيِّ عَلَى بُلُوغِ العَرَبِيَّةِ مَرْتَبَةً أعْلَى؛ مِنْ حَيثُ تَوفُّرُ وَسَائِلِهَا، وَثَرَاءُ طَاقَاتِهَا المُتَمَثِّلةِ فِي أحْوَالِهَا، وَخَصَائِصُهَا التِي تَقَعُ عَلَيهَا صُوَرُ سَبْـكِهَا مِنْ حَيثُ المُفْرَدَاتُ وَالتَّرَاكِيبُ.

لَقَدْ بَلَغَتِ العَرَبيَّةُ حِينَ نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ حَدَّ الكَمَالِ اللُّغَويِّ، وَلَا رَيبَ أنَّ إتْقَانَ اللُّغَةِ، وَتَرَقِّيَ وسَائِلِ أدَائِهَا، وتَنَوُّعَهَا إنَّمَا هُوَ انْعِكَاسٌ لِمَا فِي فِطرَةِ الأجْيَالِ التِي عَكَفَتْ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ، وَصَقَلَتْهَا فَصَقَلَتْهُم، وهَذَّبَتْهَا فَهَذَّبَتْهُم، وأَحْكَمَتْها فأحكَمَتْهُم، وَأوْدَعُوهَا دَقَائِقَ نُفُوسِهم؛ فَكَانَتْ فِي اكتِمَالِ بَيَانِهَا صُورَةً لاكتِمَالِ سَلَائِقِهِم.

وَكَانَ الجِيلُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ القُرْآنُ أقْدَرَ الأجْيَالِ عَلَى تَمْييزِ أصنَافِ الكَلَامِ وَنَقْدِهِ، وَمَعْرِفَةِ طَبَقَاتِهِ، وَرَأَتْ آذَانُهُم فِي القُرْآنِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ فِي تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، وسَوْقِ السَّحَابِ المُسَخَّرِ، وتَحْلِيقِ الطَّيرِ فِي أجْوَاءِ السَّماءِ صَافَّاتٍ وَيَقبِضْنَ، مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا الرَّحْمَنُ؛ اسْتَيْقَنَ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالقُرْآنِ وَمَنْ كَفَرَ بِهِ.

وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ القُرْآنِ العَظِيمِ وَالوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ لُغَةِ العَرَبِ، وَمَعْرِفَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ زَمَنَ النُّزُولِ مِنَ الفَصَاحَةِ وَالبَلَاغَةِ وَالبَيَانِ وَاللَّسَنِ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ دِرَايَةٌ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ إِقْبَالٌ؛ فَشَأْنُهُ شَأْنُ الأَعْجَمِيِّ الَّذِي يَعْرِفُ الإِعْجَازَ فِي القُرْآنِ مِنْ عَجْزِ العَرَبِ الأَقْدَمِينَ عَنِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.

قَالَ البَاقِلَّانِيُّ -عَفَا اللهُ عَنْهُ-: ((قَدْ بَيَّنَّا أنَّهُ لَا يَتَهيَّأُ لِمَنْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ العَرَبِيَّةِ مِنَ العَجَمِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا إِعْجَازَ القُرْآنِ إِلَّا بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ العَرَبَ قَدْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، فَإذَا عَرَفُوا هَذَا -بِأَنْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ تُحُدُّوا إلَى أنْ يَأتُوا بِمِثْلِهِ، وَقُرِّعُوا عَلَى تَرْكِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَأتُوا بِهِ-؛ تَبَيَّنُوا أَنَّهُم عَاجِزُونَ عَنْهُ، وَإِذَا عَجَزَ أَهْلُ ذَلِكَ اللِّسَانِ فَهُمْ عَنْهُ أَعْجَزُ.

 وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ -إِلَّا إِنَّهُ لَيْسَ يَبْلُغُ فِي الفَصَاحَةِ الحَدَّ الَّذِي يَتَنَاهَى إِلَى مَعْرِفَةِ أَسَالِيبِ الكَلَامِ، وَوُجُوهِ تَصَرُّفِ اللُّغَةِ، وَمَا يَعُدُّونَهُ فَصِيحًا بَلِيغًا بَارِعًا مِنْ غَيْرِهِ-؛ فَهُوَ كَالأَعْجَمِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ إِعْجَازَ القُرْآنِ إِلَّا بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّا أَنْ يَعْرِفَ بِه الفَارِسِيُّ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، وَهُوَ وَمَنْ لَيسَ مِنْ أهْلِ اللِّسَانِ سَوَاءٌ)).

 

إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ حَتَّى يُفْهَمَ عَلَى وَجْهِهِ، وَحَتَّى تُدْرَكَ مَقَاصِدُهُ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَدَّى الثَّقَلَيْنِ إِلَّا بِمُعْجِزَةٍ عَظِيمَةٍ قَاهِرَةٍ.

((العَرَبِيَّةُ لُغَةُ النُّبُوَّةِ الخَاتِمَةِ))

((مَنْ أَحَبَّ اللهَ -تَعَالَى- أَحَبَّ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَمَنْ أَحَبَّ الرَّسُولَ العَرَبِيَّ أَحَبَّ العَرَبَ، وَمَنْ أَحَبَّ العَرَبَ أَحَبَّ العَرَبِيَّةَ الَّتِي بِهَا نَزَلَ أَفْضَلُ الكُتُبِ عَلَى أَفْضَلِ العَجَمِ وَالعَرَبِ، وَمَنْ أَحَبَّ العَرَبِيَّةَ عُنِيَ بِهَا، وَثَابَرَ عَلَيْهَا، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهَا.

وَمَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلْإِسْلَامِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ، وَآتَاهُ حُسْنَ سَرِيرَةٍ فِيهِ؛ اعْتَقَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَيْرُ الرُّسُلِ، وَالإِسْلَامَ خَيْرُ المِلَلِ، وَالعَرَبَ خَيْرُ الأُمَمِ، وَالعَرَبِيَّةَ خَيْرُ اللُّغَاتِ وَالأَلْسِنَةِ، وَالإِقْبَالَ عَلَى تَفَهُّمِهَا مِنَ الدِّيَانَةِ؛ إِذْ هِيَ أَدَاةُ العِلْمِ، وَمِفْتَاحُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَسَبَبُ إِصْلَاحِ المَعَاشِ وَالمَعَادِ.

ثُمَّ هِيَ لِإِحْرَازِ الفَضَائِلِ، وَالِاحْتِوَاءِ عَلَى المُرُوءَةِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ المَنَاقِبِ؛ كَاليَنْبُوعِ لِلْمَاءِ، وَالزَّنْدِ لِلنَّارِ.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الإِحَاطَةِ بِخَصَائِصِهَا، وَالوُقُوفِ عَلَى مَجَارِيهَا وَمَصَارِفِهَا، وَالتَّبَحُّرِ فِي جَلَائِلِهَا وَدَقَائِقِهَا إِلَّا قُوَّةُ اليَقِينِ فِي إِعْجَازِ القُرْآنِ، وَزِيَادَةُ البَصِيرَةِ فِي إِثْبَاتِ النُّـبُـوَّةِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ الإِيمَانِ؛ لَكَفى بِهِمَا فَضْلًا يَحْسُنُ فِيهِمَا أَثَرُهُ، وَيَطِيبُ فِي الدَّارَيْنِ ثَمَرُهُ فَكَيْفَ وَأَيْسَرُ مَا خَصَّهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ مِنْ ضُرُوبِ المَمَادِحِ يُكِلُّ أقْلَامَ الكَتَبَةِ، وَيُتْعِبُ أَنَامِلَ الحَسَبَةِ؟!!

وَلَمَّا شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى -عَزَّ اسْمُهُ- وَعَظَّمَهَا، وَرَفَعَ خَطَرَهَا وَكَرَّمَهَا، وَأَوْحَى بِهَا إِلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهَا لِسَانَ أَمِينِهِ عَلَى وَحْيِهِ، وَخُلَفَائِهِ فِي أَرْضِهِ، وَأَرَادَ بَقَاءَهَا وَدَوَامَهَا؛ حَتَّى تَكُونَ فِي هَذِهِ العَاجِلَةِ لِخِيَارِ عِبَادِهِ؛ قَيَّضَ لَهَا حَفَظَةً وَخَزَنَةً مِنْ خَوَاصِّهِ، مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، وَأَعْيَانِ الفَضْلِ، وَأَنْجُمِ الأَرْضِ، تَرَكُوا فِي خِدْمَتِهَا الشَّهَوَاتِ، وَجَابُوا الفَلَوَاتِ، وَنَادَمُوا لِاقْتِنَائِهَا الدَّفَاتِرَ، وَسَامَرُوا القَمَاطِرَ وَالمَحَابِرَ، وَكَدُّوا فِي حَصْرِ لُغَاتِهَا طِبَاعَهُمْ، وَأَشْهَرُوا فِي تَقْيِيدِ شَوَارِدِهَا أَجْفَانَهُمْ، وَأَجَالُوا فِي نَظْمِ قَلَائِدِهَا أَفْكَارَهُمْ، وَأَنْفَقُوا عَلَى تَخْلِيدِ كُتُبِهَا أَعْمَارَهُمْ؛ فَعَظُمَتِ الفَائِدَةُ، وَعَمَّتِ المَصْلَحَةُ، وَتَوَفَّرَتِ العَائِدَةُ، وَكُلَّمَا بَدَأَتْ مَعَارِفُهَا تَتَنَكَّرُ، أَوْ كَادَتْ مَعَالِمُهَا تَتَسَتَّرُ، أَوْ عَرَضَ لَهَا مَا يُشْبِهُ الفَتْرَةَ؛ رَدَّ اللهُ -تَعَالَى- لَهَا الكَرَّةَ، فَأَهَبَّ رِيحَهَا، وَنَفَّقَ سُوقَهَا)).

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اللِّسَانُ العَرَبِيُّ شِعَارُ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَاللُّغَاتُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الأُمَمِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُونَ)).

وَقَالَ: ((اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ هِيَ شِعَارُ الإِسْلَامِ، وَلُغَةُ القُرْآنِ)).

وَقَالَ: ((نَفْسُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ)).

وَقَالَ -وَقَدْ ذَكَرَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ، وَتَعَلُّمِ الشَّرِيعَةِ-: ((وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ فِقْهِ العَرَبِيَّةِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ يَجْمَعُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ فِيهِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ، فَفِقْهُ العَرَبِيَّةِ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى فِقْهِ أَقْوَالِهِ، وَفِقْهُ السُّنَّةِ هُوَ فِقْهُ أَعْمَالِهِ)).

وَهَذِهِ اللُّغَةُ الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ، وَتَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْسَعُ اللُّغَاتِ مَدًى، وَأَبْسَطُهَا لِسَانًا، وَأَصْفَاهَا بَيَانًا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لِسَانُ العَرَبِ أَوْسَعُ الأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيءٌ عَلَى عَامَّتِهَا؛ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ.

وَالعِلْمُ بِهِ -أَيْ: بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ- عِنْدَ العَرَبِ كَالعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الفِقْهِ، لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيءٌ.

فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جَهْدُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَا ازْدَادَ مِنَ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِسَانَ مَنْ خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ آخِرَ كُتُبِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ فِيهَا، وَيَأْتِيَ الْبَيْتَ وَمَا أُمِرَ بِإِتْيَانِهِ، وَيَتَوَجَّهَ لِمَا وُجِّهَ لَهُ، وَيَكُونَ تَبَعًا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ وَنُدِبَ إِلَيْهِ، لَا مَتْبُوعًا)).

مَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنَ الْعِلْمِ بِاللّسَانِ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

((لِمَاذَا نَهْتَمُّ بِالعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى؟))

((لِلْعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى ظَرْفٌ خَاصٌّ لَمْ يَتَوَفَّرْ لِأَيَّةِ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ، وَهَذَا الظَّرْفُ يَجْعَلُنَا نَرْفُضُ مَا يُنَادِي بِهِ بَعْضُ الغَافِلِينَ وَالمُغْرِضِينَ مِنْ تَرْكِ الحَبْلِ عَلَى الغَارِبِ لِلْعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى؛ لِكَيْ تَتَفَاعَلَ مَعَ العَامِّيَّاتِ، تَأْخُذُ مِنْهَا وَتُعْطِي، كَمَا يَحْدُثُ فِي اللُّغَاتِ كُلِّهَا!!

حَقًّا إِنَّ اللُّغَةَ كَائِنٌ حَيٌّ، تَتَطَوَّرُ عَلَى أَلْسِنَةِ المُتَكَلِّمِينَ بِهَا، فَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا التَّطَوُّرِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ لُغَةِ عَصْرٍ وَالعَصْرِ الَّذِي سَبَقَهُ، وَهُنَا يَحْدُثُ الصِّرَاعُ بَيْنَ أَنْصَارِ الشَّكْلِ القَدِيمِ وَأَنْصَارِ الشَّكْلِ الجَدِيدِ.

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ يُصْبِحُ قَدِيمًا مَا كَانَ بِالأَمْسِ جَدِيدًا، فَيَتَصَارَعُ مَعَ جَدِيدٍ آخَرَ، وَتَضْمَحِلُّ لُغَةُ العَصْرِ الأَسْبَقِ أَوْ تَنْدَثِرُ.

غَيْرَ أَنَّ كُلَّ جَدِيدٍ لَا يَظْهَرُ فَجْأَةً، وَلَا يُقْضَى عَلَى القَدِيمِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بَلْ يَظَلُّ الصِّرَاعُ بَيْنَهُمَا لِفَتْرَةٍ قَدْ تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ؛ غَيْرَ أَنَّ الِانْتِصَارَ يَكُونُ فِي النِّهَايَةِ لِلشَّكْلِ الجَدِيدِ، تِلْكَ سُنَّةُ الحَيَاةِ، وَتَارِيخُ اللُّغَاتِ جَمِيعِهَا يَشْهَدُ بِهَذَا، وَلَا نَعْرِفُ لُغَةً عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ جَمَدَتْ عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ مِئَاتِ السِّنِينَ.

غَيْرَ أَنَّ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى لَهَا ظَرْفٌ لَمْ يَتَوَفَّرْ لِأَيَّةِ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ؛ ذَلِكَ أَنَّهَا ارْتَبَطَتْ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَدُوِّنَ بِهَا التُّرَاثُ العَرَبِيُّ الضَّخْمُ الَّذِي كَانَ مِحْوَرُهُ هُوَ القُرْآنَ الكَرِيمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ.

وَقَدْ كَفَلَ اللهُ لَهَا الحِفْظَ مَا دَامَ يَحْفَظُ دِينَهُ، فَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وَلَوْلَا أَنْ شَرَّفَهَا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَأَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ، وَقَيَّضَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَتْلُوهُ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَوَعَدَ بِحِفْظِهِ عَلَى تَعَاقُبِ الأَزْمَانِ؛ لَوْلَا كُلُّ هَذَا لَأَمْسَتِ العَرَبِيَّةُ الفُصْحَى لُغَةً أَثَرِيَّةً تُشْبِهُ اللَّاتِينِيَّةَ أَوِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةَ، وَلَسَادَتِ اللَّهْجَاتُ العَرَبِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ فِي نَوَاحِي الأَرْضِ العَرَبِيَّةِ، وَازْدَادَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ بُعْدًا عَنِ الأَصْلِ الَّذِي انْسَلَخَتْ مِنْهُ.

هَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي يَجْعَلُنَا لَا نَقِيسُ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى بِمَا يَحْدُثُ فِي اللُّغَاتِ الحَيَّةِ المُعَاصِرَةِ؛ فَإِنَّ أَقْصَى عُمْرِ هَذِهِ اللُّغَاتِ فِي شَكْلِهَا الحَاضِرِ لَا يَتَعَدَّى قَرْنَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ، فَهِيَ دَائِمَةُ التَّطَوُّرِ وَالتَّغَيُّرِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّفَاعُلِ مَعَ اللُّغَاتِ المُجَاوِرَةِ، تَأْخُذُ مِنْهَا وَتُعْطِي، وَلَا تَجِدُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَرَجًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْتَبِطْ فِي فَتْرَةٍ مِنْ فَتَرَاتِ حَيَاتِهَا بِكِتَابٍ كَرِيمٍ كَمَا هِيَ الحَالُ فِي العَرَبِيَّةِ.

فَاهْتِمَامُنَا بِالعَرَبِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَابِعًا مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ؛ وَهُوَ ارْتِبَاطُهَا بِالدِّينِ الإِسْلَامِيِّ وَالتُّرَاثِ العَرَبِيِّ.

وَإِذَا أَصْبَحَ هَذَا المُنْطَلَقُ وَاضِحًا فِي أَذْهَانِ القَائِمِينَ عَلَى تَعْلِيمِ العَرَبِيَّةِ؛ لَمْ يَجْنَحْ بِهِمُ الخَيَالُ يَوْمًا إِلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ إِجَادَةَ تَعْلِيمِ هَذِهِ اللُّغَةِ سَيَقْضِي عَلَى لُغَةِ الحَدِيثِ اليَوْمِيِّ تَمَامًا، فَلَيْسَ مِنَ اللَّازِمِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ النَّاسُ جَمِيعًا هَذِهِ اللُّغَةَ الأَدَبِيَّةَ فِي أَحَادِيثِهِمْ؛ بَلْ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَكَادُ يَكُونُ مُسْتَحِيلًا، وَلَمْ يَحْدُثْ فِي أَيِّ عَصْرٍ مِنَ العُصُورِ.

فَمِنَ القَوَاعِدِ المُقَرَّرَةِ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى مَجْمُوعَةٍ بَشَرِيَّةٍ تَعِيشُ فِي مِسَاحَةٍ أَرْضِيَّةٍ شَاسِعَةٍ أَنْ تَصْطَنِعَ فِي حَدِيثِهَا اليَوْمِيِّ لُغَةً مُوَحَّدَةً تَخْلُو مِنَ اخْتِلَافٍ صَوْتِيٍّ أَوْ دَلَالِيٍّ، أَوِ اخْتِلَافٍ فِي البِنْيَةِ أَوِ التَّرَاكِيبِ)).

((إِنَّ ارْتِبَاطَ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ هُوَ السِّرُّ فِي تَمَسُّكِنَا بِالعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى القَدِيمَةِ، وَدَعْوَتِنَا إِلَى دِرَاسَتِهَا دِرَاسَةً مُسْتَفِيضَةً؛ لِكَيْ نَفْهَمَ بِهَا القُرْآنَ الكَرِيمَ وَمَا دَارَ حَوْلَهُ مِنْ دِرَاسَاتٍ، وَكَذَلِكَ الشِّعْرُ العَرَبِيُّ القَدِيمُ الَّذِي يُلْقِي أَضْوَاءً عَلَى المَعَانِي القُرْآنِيَّةِ، وَيُفِيدُ فِي تَوْضِيحِ القُرْآنِ الكَرِيمِ.

فَهَذِهِ العَرَبِيَّةُ الفُصْحَى الَّتِي اسْتَمَرَّتْ حَيَّةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَالَّتِي سَتَسْتَمِرُّ فِي حَيَاتِهَا إِلَى مَا شَاءَ اللهُ تَسْتَمِدُّ مِنَ ارْتِبَاطِهَا بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ عُنْصُرَ الحَيَاةِ)).

إِنَّ ارْتِبَاطَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالإِسْلَامِ ذَلِكَ الِارْتِبَاطَ الوَثِيقَ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ جَعَلَ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مَكَانَةً تَسْمُو عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا التَّارِيخُ.

((وَالقُرْآنُ الكَرِيمُ بِحُكْمِ أَنَّهُ لِسَانُ الإِسْلَامِ النَّاطِقُ، وَمُعْجِزَتُهُ البَاقِيَةُ؛ هُوَ الَّذِي حَفِظَ العَرَبِيَّةَ مِنَ الضَّيَاعِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى وَجْهٍ تَحَدَّى بِهِ العَرَبَ تَحَدِّيًا صَارِخًا، فَذَلُّوا وَاسْتَكَانُوا، فَحَرَصَ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى أَلْفَاظِهِ؛ احْتِفَاظًا بِالمُعْجِزَةِ، وَتَعَبُّدًا بِتِلَاوَتِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ جَاءَ كَمَا جَاءَ غَيْرُهُ مِنَ الكُتُبِ مُجَرَّدًا عَنِ الإِعْجَازِ؛ لَمَا كَانَ حَتْمًا عَلَى  النَّاسِ أَنْ يُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ تَعَهُّدَهَا، وَالتَّعَرُّفَ إِلَيْهَا.

بَلْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا فِيهِ مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنْقُلُوهُ إِلَى لُغَاتِهِمْ، فَتُضْطَرُّ العَرَبِيَّةُ أَنْ تَقِفَ وَحْدَهَا فِي مُعْتَرَكِ الحَيَاةِ، فَلَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إِلَى التَّجْدِيدِ حَتَّى تُصْبِحَ فِي مَبْدَئِهَا وَنِهَايَتِهَا لُغَتَيْنِ أَوْ لُغَاتٍ مُتَبَايِنَةً، أَوْ تَمْشِي إِلَى المَوْتِ، وَتَدُبُّ إِلَى الفَنَاءِ حَتَّى تُصْبِحَ فِي ذِمَّةِ التَّارِيخِ)).

إِنَّمَا نَهْتَمُّ بِالعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى لِأَنَّ عَامَّةَ الخَطَأِ فِي الدِّينِ يَأْتِي مِنْ سُوءِ الفَهْمِ لِأَلْفَاظِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِذْ إِنَّ الدِّينَ هُوَ التَّسْلِيمُ لِلْكِتَابِ عَلَى مُرَادِ اللهِ -تَعَالَى-، وَلِلسُّنَّةِ عَلَى مُرَادِ الرَّسُولِ ﷺ؛ وَلَكِنْ يَأْتِي آتٍ فَيَأْخُذُ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمُقْتَضَى فَهْمِهِ؛ فَيَكُونُ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ آخِذًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُتَشَبِّثًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ مُجَافٍ لِلْكِتَابِ، مُجَانِبٌ لِلسُّنَّةِ، مُوغِلٌ فِي البُعْدِ عَنِ الصَّوَابِ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا بُدَّ فِي تَفْسِيرِ الْقُـرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الأَلْفَاظِ، وَكَيْفَ يُفْهَمُ كَلَامُهُ، فَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي خُوطِبْنَا بِهَا مِمَّا يُعِينُ عَلَى أَنْ نَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي؛ فَإِنَّ عَامَّةَ ضَلَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ بِهَذَا السَّبَبِ؛ فَإِنَّهُمْ صَارُوا يَحْمِلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ)).

وَكُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ المُسْلِمِ بِأَلْفَاظِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَامَّةً؛ كَانَ فهْمُهُ لِمُرَادِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَامًّا؛ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الزَّيغِ عَنِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَدْرِ مَا صَرَفَ أَلْفَاظَهُمَا إِلَيْهِ مِنْ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ.

((وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ، وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ؛ وَإِلَّا حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَنْشَأُ عَلَى اصْطِلَاحِ قَوْمِهِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ رَسُولِهِ، أَوِ الصَّحَابَةِ، فَيَظُنُّ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوِ الصَّحَابَةِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا يُرِيدُهُ بِذَلِكَ أَهْلُ عَادَتِهِ وَاصْطِلَاحِهِ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ)).

((إِنَّ اللُّغَةَ هِيَ الَّتِي تَبْعَثُ قُوَى الخَوَاطِرِ وَالأَفْكَارِ، وَبِمِقْدَارِ تَمَكُّنِكَ مِنَ اللُّغَةِ تَكُونُ قُوَّةُ خَوَاطِرِكَ وَقُوَّةُ أَفْكَارِكَ، وَهَذَا مَعْنَاهُ: أَنَّ قُوَّةَ الفِكْرِ وَضَعْفَهُ فِي اللُّغَةِ.

وَبِمِقْدَارِ تَمَكُّنِ الأُمَّةِ مِنْ لُغَتِهَا تَكُونُ قُوَّةُ خَوَاطِرِهَا وَأَفْكَارِهَا، وَبِمِقْدَارِ ضَعْفِ الأُمَّةِ وَتَهَافُتِهَا فِي لُغَتِهَا يَكُونُ ضَعْفُ خَوَاطِرِهَا وَتَهَافُتُ أَفْكَارِهَا.

النَّشَاطُ الفِكْرِيُّ فِي الأُمَّةِ هُوَ ابْنُ اللُّغَةِ، وَهُوَ مِنَ اللُّغَةِ، يَقْوَى بِقُوَّتِهَا، وَيَضْعُفُ بِضَعْفِهَا، وَاللُّغَةُ هِيَ الَّتِي تَضْمَنُ بَقَاءَ الإِدْرَاكِ الإِنْسَانيِّ الحَيِّ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ الإِنْسَانُ فِي مَرْتَبَةِ الجَمَادِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ أَنْ نَقُولَ: اللُّغَةُ هِيَ الفِكْرُ؛ لِأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ اللُّغَةَ هِيَ الإِنْسَانُ، وَأَنَّ إِنْسَانِيَّةَ الإِنْسَانِ تَحْيَا بِحَيَاةِ اللُّغَةِ، وَتَمُوتُ بِمَوْتِهَا.

وَاللُّغَةُ هِيَ مَدْخَلُ تَغْيِيرِ الإِنْسَانِ، يَعْنِي: هِيَ بَوَّابَةُ هَذَا الإِنْسَانِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ بِهَذَا الإِنْسَانِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّهْضَةُ لَا تَقُومُ إِلَّا بِارْتِقَاءِ العِلْمِ وَالعَقْلِ وَالثَّقَافَةِ؛ فَمِنْ بَاطِلِ الأَبَاطِيلِ أَنْ تَدْخُلَهَا مِنْ غَيْرِ بَوَّابَةِ اللُّغَةِ)).

((تَعَلُّمُ العَرَبِيَّةِ وَتَعْلِيمُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ))

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِنَّ نَفْسَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ فَهْمَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ، وَلَا يُفْهَمُ إِلَّا بفَهْمِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الأَعْيَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الكِفَايَةِ)).

((لِلْعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى ظَرْفٌ خَاصٌّ لَمْ يَتَوَفَّرْ لِأَيَّةِ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ؛ ذَلِكَ أَنَّهَا ارْتَبَطَتْ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وَدُوِّنَ بِهَا التُّرَاثُ العَرَبِيُّ الضَّخْمُ الَّذِي كَانَ مِحْوَرُهُ هُوَ القُرْآنَ الكَرِيمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ)).

العَرَبِيَّةُ لُغَةُ القُرْآنِ، وَلُغَةُ الإِسْلَامِ، وَلَيْسَتْ كَأَيَّةِ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ اللُّغَةِ فِي أَكْثَرِ الأُمَمِ يُبْقِيهَا بِجَمِيعِ مُقَوِّمَاتِهَا غَيْرَ أَلْفَاظِهَا؛ وَلَكِنَّ زَوَالَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لَا يُبْقِي لِلْعَرَبِيِّ وَلَا لِلْمُسْلِمِ قَوَامًا يُمَيِّزُهُ مِنْ سَائِرِ الأَقْوَامِ، وَلَا يَعْصِمُهُ أَنْ يَذُوبَ فِي غِمَارِ الأُمَمِ؛ فَلَا تَبْقَى لَهُ بَاقِيَةٌ مِنْ بَيَانٍ، وَلَا عُرْفٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ، وَلَا إِيمَانٍ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ: ((مَعْلُومٌ أَنَّ تَعَلُّمَ العَرَبِيَّةِ وَتَعْلِيمَهَا فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ، وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى اللَّحْنِ.

فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَنْ نَحْفَظَ القَانُونَ العَرَبِيَّ، وَنُصْلِحَ الأَلْسُنَ المَائِلَةَ عَنْهُ، فَيُحْفَظَ لَنَا طَرِيقَةُ فَهْمِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالعَرَبِ فِي خِطَابِهَا؛ فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى لَحْنِهِمْ كَانَ نَقْصًا وَعَيْبًا)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اللِّسَانُ الَّذِي اخْتَارَهُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لِسَانُ العَرَبِ، فَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ العَزِيزَ، وَجَعَلَهُ لِسَانَ خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ وَلِهَذَا نَقُولُ: يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا اللِّسَانُ الأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مَرْغُوبًا فِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ بِأَعْجَمِيَّةٍ)).

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَ قَوْمًا يَتَكَلَّمُونَ بِالفَارِسِيَّةِ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ المَجُوسِيَّةِ بَعْدَ الحَنِيفِيَّةِ؟!!)).

وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ((لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأَعَاجِمِ، وَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِم كَنَائِسَهُم؛ فَإِنَّ السَّخَطَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم)).

وَقَدْ نَقَلَ شَيْخُ الإِسْلَامِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَرَاهَةَ الرِّطَانَةِ، وَتَسْمِيَةِ الشُّهُورِ بِالأَسْمَاءِ الأَعْجَمِيَّةِ.

وَالوَجْهُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ: ((كَرَاهَةَ أَنْ يَتَعَوَّدَ الرَّجُلُ النُّطْقَ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ)).

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الرَّطَانَةُ -بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا-، وَالتَّرَاطُنُ: كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ الجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوَاضَعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَالعَرَبُ تَخُصُّ بِهِ غَالِبًا كَلَامَ العَجَمِ)).

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ كَلَامَ الإِمَامِ أَحْمَدَ: ((لِأَنَّ اللِّسَانَ العَرَبِيَّ شِعَارُ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَاللُّغَاتُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الأُمَمِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُونَ)).

وَإِذَا كَانَتِ اللُّغَاتُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الأُمَمِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُونَ -كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ-؛ فَإِنَّ الأُمَّةَ العَزِيزَةَ الظَّاهِرَةَ تَعْتَزُّ بِلُغَتِهَا، وَتَحْرِصُ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا اللُّغَوِيِّ كَمَا تَحْرِصُ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا العَسْكَرِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ سَوَاءً، وَتَحْتَرِمُ قَوَانِينَهَا اللُّغَوِيَّةَ، وَتَتَمَسَّكُ بِهَا.

وَالأُمَّةُ الذَّلِيلَةُ تُفَرِّطُ فِي لُغَتِهَا حَتَّى تُصْبِحَ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَيهَا، وَيُنْتَهَكَ عِرْضُهَا اللُّغَوِيُّ بِرِضًا مِنْهَا، أَوْ بِسَعْيٍ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ -غَفَرَ اللهُ لَهُ-: ((اللُّغَةُ هِيَ صُورَةُ وُجُودِ الأُمَّةِ بِأَفْكَارِهَا وَمَعَانِيهَا وَحَقَائِقِ نُفُوسِهَا، وُجُودًا مُتَمَيِّزًا قَائِمًا بِخَصَائِصِهِ، تَتَّحِدُ بِهَا الأُمَّةُ فِي صُوَرِ التَّفْكِيرِ، وَأَسَالِيبِ أَخْذِ المَعْنَى مِنَ المَادَّةِ.

وَالدِّقَّةُ فِي تَرْكِيبِ اللُّغَةِ دَلِيلٌ عَلَى دِقَّةِ المَلَكَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَعُمْقُهَا هُوَ عُمْقُ الرُّوحِ، وَدَلِيلُ الحِسِّ عَلَى مَيْلِ الأُمَّةِ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي الأَسْبَابِ وَالعِلَلِ.

وَكَثْرَةُ مُشْتَقَّاتِهَا بُرْهَانٌ عَلَى نَزْعَةِ الحُرِّيَّةِ وَطِمَاحِهَا؛ فَإِنَّ رُوحَ الِاسْتِعْبَادِ ضَيِّقٌ لَا يَتَّسِعُ، وَدَأْبُهُ لُزُومُ الكَلِمَةِ وَالكَلِمَاتِ القَلِيلَةِ.

وَإِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ، وَكَانَتْ أُمَّتُهَا حَرِيصَةً عَلَيْهَا، نَاهِضَةً بِهَا، مُتَّسِعَةً فِيهَا، مُكْبِرَةً شَأْنَهَا؛ فَمَا يَأْتِي ذَلِكَ إِلَّا مِنْ رُوحِ التَّسَلُّطِ فِي شَعْبِهَا، وَالمُطَابَقَةِ بَيْنَ طَبِيعَتِهِ وَعَمَلِ طَبِيعَتِهِ، وَكَوْنِهِ سَيِّدَ أَمْرِهِ، وَمُحَقِّقَ وُجُودِهِ، وَمُسْتَعْمِلَ قُوَّتِهِ، وَالآخِذَ بِحَقِّهِ.

فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْهُ التَّرَاخِي وَالإِهْمَالُ، وَتَرْكُ اللُّغَةِ لِلطَّبِيعَةِ السُّوقِيَّةِ، وَإِصْغَارُ أَمْرِهَا، وَتَهْوِينُ خَطَرِهَا، وَإِيثَارُ غَيْرِهَا بِالحُبِّ وَالإِكْبَارِ؛ فَهَذَا شَعْبٌ خَادِمٌ لَا مَخْدُومٌ، تَابِعٌ لَا مَتْبُوعٌ، ضَعِيفٌ عَنْ تَكَالِيفِ السِّيَادَةِ، لَا يُطِيقُ أَنْ يَحْمِلَ عَظَمَةَ مِيرَاثِهِ، مُجْتَزِئٌ بِبَعْضِ حَقِّهِ، مُكْتَفٍ بِضَرُورَاتِ العَيْشِ، وَيُوضَعُ لِحُكْمِهِ القَانُونُ الَّذِي أَكْثَرُهُ لِلْحِرْمَانِ، وَأَقَلُّهُ لِلْفَائِدَةِ الَّتِي هِيَ كَالحِرْمَانِ.

لَا جَرَمَ كَانَتْ لُغَةُ الأُمَّةِ هِيَ الهَدَفَ الأوَّلَ للمُستَعْمِرِينَ؛ فَلَنْ يَتَحَوَّلَ الشَّعْبُ أَوَّلَ مَا يَتَحَوَّلُ إِلَّا مِنْ لُغَتِهِ؛ إِذْ يَكُونُ مَنْشَأُ التَّحَوُّلِ مِنْ أَفْكَارِهِ وَعَوَاطِفِهِ وَآمَالِهِ، وَهُو إِذَا انقَطَعَ مِن نَسَبِ لُغَتِهِ انقَطَعَ مِن نَسَبِ مَاضِيهِ، وَرَجَعَتْ هُوِيَّتُهُ صُورَةً مَحفُوظَةً فِي التَّارِيخِ، لَا صُورَةً مُحَقَّقَةً فِي وُجُودِهِ، فَلَيْسَ كَاللُّغَةِ نَسَبٌ للعَاطِفَةِ وَالفِكْرِ؛ حَتَّى إِنَّ أَبْنَاءَ الأبِ الوَاحِدِ لَوِ اخْتَلَفَتْ أَلسِنَتُهُم فَنَشَأَ مِنهُم نَاشِئٌ عَلَى لُغَةٍ، وَنَشَأَ الثَّانِي عَلَى أُخرَى، وَالثَّالِثُ عَلَى لُغَةٍ ثَالِثَةٍ؛ لَكَانُوا فِي العَاطِفِةِ كَأبنَاءِ ثَلَاثَةِ آبَاءٍ.

وَمَا ذَلَّتْ لُغَةُ شَعْبٍ إِلَّا ذَلَّ، وَلَا انْحَطَّتْ إِلَّا كَانَ أَمْرُهُ فِي ذَهَابٍ وَإِدْبَارٍ.

وَمِنْ هَذَا يَفْرِضُ الأَجْنَبِيُّ المُسْتَعْمِرُ لُغَتَهُ فَرْضًا عَلَى الأُمَّةِ المُسْتَعْمَرَةِ، وَيَرْكَبُهُمْ بِهَا، وَيُشْعِرُهُمْ عَظَمَتَهُ فِيهَا، وَيَسْتَلْحِقُهُم مِنْ نَاحِيَتِهَا؛ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ:

أَمَّا الأَوَّلُ: فَحَبْسُ لُغَتِهِمْ فِي لُغَتِهِ سِجْنًا مُؤَبَّدًا.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَالحُكْمُ عَلَى مَاضِيهِمْ بِالقَتْلِ مَحْوًا وَنِسْيَانًا.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَتَقْيِيدُ مُسْتَقْبَلِهِمْ فِي الأَغْلَالِ الَّتِي يَصْنَعُهَا، فَأَمْرُهُمْ مِنْ بَعْدِهَا لِأَمْرِهِ تَبَعٌ.

فَاللُّغَاتُ تَتَنَازَعُ الهُوِيَّةَ، وَلَهِيَ -وَاللهِ- احْتِلَالٌ عَقْلِيٌّ فِي الشُّعُوبِ الَّتِي ضَعُفَتْ عَصَبِيَّتُهَا، وَإِذَا هَانَتِ اللُّغَةُ الأَصْلِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا؛ أَثَّرَتِ اللُّغَةُ الأَجْنَبِيَّةُ فِي الخُلُقِ الأَصْلِيِّ مَا يُؤَثِّرُ الجَوُّ الأَجْنَبِيُّ فِي الجِسْمِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ فِيهِ.

أَمَّا إِذَا قَوِيَتِ العَصَبِيَّةُ، وَعَزَّتِ اللُّغَةُ، وَثَارَتْ لَهَا الحَمِيَّـةُ؛ فَلَنْ تَكُونَ اللُّغَاتُ الأَجْنَبِيَّةُ إِلَّا خَادِمَةً يُرْتَفَقُ بِهَا، وَيُرْجَعُ شِبْرُ الأَجْنَبِيِّ شِبْرًا لَا مِتْرًا...)).

وَاعْلَمْ أَنَّ شَخْصِيَّةَ الأُمَّةِ تَبْدُو جَلِيَّةً عِنْدَ اعْتِيَادِهَا الأَخْذَ بِلُغَةِ الكِتَابِ العَزِيزِ، وَأَنَّ تَرْكَ اللُّغَةِ مَضْيَعَةٌ لِشَخْصِيَّةِ الأُمَّةِ وَامِّحَاءٌ لَهَا، وَذَوَبَانٌ لِتِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ فِي كِيَانِ الأُمَمِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ الأُمَّةُ لُغَاتِهَا، فَإِنْ تَرَكَتِ الأُمَّةُ لُغَةَ كِتَابِ رَبِّهَا إِلَى لُغَةِ أَعْدَائِهَا الَّذِينَ يُبَيِّتُونَ وَيُظْهِرُونَ عَدَاءَهَا، تَعْتَدُّ بِلُغَتِهِمْ وَتَحْفِلُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا أَصْبَحَتْ أُمَّةً لَا شَخْصِيَّةَ لَهَا، وَعُدَّ شَخْصِيَّتَهَا فِي المَوْتَى، وَكَبِّرْ عَلَيْهَا أَرْبَعًا.

لَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِتَمَامِ وَعْيِهِمْ وَكَمَالِ عِلْمِهِمْ شَدِيدِي الْحِرْصِ عَلَى لُغَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ، فَأَمَرُوا بِالْحِفَاظِ عَلَيْهَا، وَعَاقَبُوا لِمُخَالَفَتِهَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ نَهَجَ نَهْجَهُمْ، وَسَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ.

أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ((أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ عَلَى اللَّحْنِ)).

وَأَخْرَجَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ)).

وَرَوَى عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تَعَلَّمُوا اللَّحْنَ وَالْفَرَائِضَ فَإِنَّهُ مِنْ دِينِكُمْ)).

رَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ الْعَنْبَرِيِّ، قَالَ: ((حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ)).

وَعَنْ حَمَّادِ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَلَا يَعْرِفُ النَّحْوَ مَثَلُ الْحِمَارِ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَا شَعِيرَ فِيهَا)).

وَرَوَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِسَنَدِهِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى طَالِبِ الْحَدِيثِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ النَّحْوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))؛ لِأَنَّهُ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ حَدِيثًا وَلَحَنْتَ فِيهِ؛ كَذَبْتَ عَلَيْهِ)).

وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي ((الْكِفَايَةِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: ((أَعْرِبُوا الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا)).

وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((النَّحْوُ فِي الْعِلْمِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ)).

وَرَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الطَّلْحِيِّ: ((أَنَّ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَضْرِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى اللَّحْنِ)).

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: ((أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَضْرِبَانِ أَوْلَادَهُمَا عَلَى اللَّحْنِ)).

 

إِنَّ مَعْرِفَةَ اللِّسَانِ العَرَبيِّ مِنَ الدِّينِ، وَضَبْطَهُ ضَبْطٌ للدِّينِ، وَإِمْرَاضَ اللُّغَةِ مَرَضٌ فِي الدِّينِ.

قَالَ شَيْخُ الإسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إنَّ اللهَ لمَّا أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ العَرَبِيِّ، وَجَعَلَ رَسُولَهُ مُبَلِّغًا عَنْهُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ بِلِسَانِهِ العَرَبِيِّ، وَجَعَلَ السَّابِقِينَ إلَى هَذَا الدِّينِ مُتَكَلِّمِينَ بِهِ؛ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى ضَبْطِ الدِّينِ وَمَعْرِفَتِهِ إلَّا بِضَبْطِ اللِّسَانِ، وَصَارَتْ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الدِّينِ، وَصَارَ اعْتِيَادُ التَّكَلُّمِ بِهِ أسْهَلَ عَلَى أهْلِ الدِّينِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ اللهِ، وَأَقْرَبَ إلَى إقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَأقرَبَ إلَى مُشَابَهَتِهِم لِلسَّابِقِينَ الأوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ فِي جَمِيعِ أمُورِهِم.

وَاللِّسَانُ تُقَارِنُهُ أمُورٌ أُخْرَى مِنَ العُلُومِ وَالأخْلَاقِ؛ فَإنَّ العَادَاتِ لَهَا تَأثِيرٌ عَظِيمٌ فِيمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَفِيمَا يَكْرَهُهُ؛ فَلِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِلُزُومِ عَادَاتِ السَّابِقِينَ فِي أقْوَالِهِم وَأعْمَالِهِم، وَكرَاهةِ الخُروجِ عَنْهَا إلَى غَيرِهَا مِنْ غَيرِ حَاجَةٍ)).

وَذَكَرَ شَيخُ الإسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللُّغَةِ فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ لأنَّ فَهْمَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيهِ إِلَّا بِفَهْمِ العَرَبيَّةِ؛ فَكَانَ تَعَلُّمُهَا فَرْضًا وَاجِبًا.

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ نَفْسَ اللُّغَةِ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتَهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ فَهْمَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ، وَلَا يُفْهَمُ إِلَّا بِفَهْمِ العَرَبيَّةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

ثُمَّ مِنْهَا مَا هُو وَاجِبٌ عَلَى الأعْيَانِ، وَمِنْهَا مَا هُو وَاجِبٌ عَلَى الكِفَايَةِ)).

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ ((إبطَالُ الاستِحْسَانِ)): ((وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا إلَّا مَتَى يَجْمَعُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عِلْمَ الْكِتَابِ، وَعِلْمَ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وخَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَأَدَبِهِ، وَعَالِمًا بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَعَالِمًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، عَاقِلًا يُمَيِّزُ بين الْمُشْتَبِهِ، وَيَعْقِلُ الْقِيَاسَ)).

وَقَالَ ابنُ حَزْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وأمَّا مَنْ وَسَمَ نَفْسَهُ بِاسْمِ العِلْمِ وَالفِقْهِ وَهُوَ جَاهِلٌ لِلنَّحْوِ وَاللُّغَةِ؛ فَحَرَامٌ عَلَيهِ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللهِ بِكَلِمَةٍ، وَحَرَامٌ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَفْتُوه؛ لأنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِاللِّسَانِ الَّذِي خَاطَبَنَا اللهُ بِهِ)).

قَالَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ -أَيْ: فِي الشَّرِيعَةِ؛ فِي أُصُولِهَا، وَفِي فُرُوعِهَا- حَتَّى يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ كَالْعَرَبِيِّ فِي كَوْنِهِ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بَالِغًا فِيهِ مَبَالِغَ الْعَرَبِ أَوْ مَبَالِغَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ كَالْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَدَانَاهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا كَحِفْظِهِمْ وَجَامِعًا كَجَمْعِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَصِيرَ فَهْمُهُ عَرَبِيًّا فِي الْجُمْلَةِ، وَبِذَلِكَ امْتَازَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَنِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ إِذْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّقْلِيدُ، وَأَلَّا يُحَسِّنَ ظَنَّهُ بِفَهْمِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ.

وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ، وَيُصْلِحَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ! فَلْيَتَعَلَّمْهَا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ الْآيَةَ فَيَعْيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ)).

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَتَأَوَّلُونَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ)) )).

وَالْيَوْمَ يَنْتَصِبُ أَقْوَامٌ لِيُعَلِّمُوا، وَلِيُنَظِّرُوا، وَلِيُقَعِّدُوا، وَلِيُفْتُوا فِي النَّوَازِلِ الَّتِي لَوْ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ، بَلْ وَلِأَقَلَّ مِنْهَا، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَعْجَمِيٌّ فِي تَصَوُّرِهِ، أَعْجَمِيٌّ فِي لِسَانِهِ، لَا يَفْقَهُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كِتَابَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَفْهَمُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى قَانُونِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَا يُحْسِنُ النَّظَرَ فِي تُرَاثِ الْأَسْلَافِ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-، وَإِذَا نَظَرَ لَمْ يَفْهَمْ، ثُمَّ يَنْتَصِبُ لِلْأُمَّةِ إِمَامًا وَمُرْشِدًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ ضَوَائِقِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَوْ كَانَ أَثَارَةٌ مِنْهَا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ -فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى-.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ، فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ؛ إِذْ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ بَعْضُ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا)).

انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّحَفُّظِ، لَيْسَ جَدِيرًا بِالنَّظَرِ وَحْدَهُ.

وَخُلَاصَةُ القَوْلِ: أَنَّ العَرَبيَّةَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهَا لِفَهْمِ مَقَاصِدِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قُرْبَةٌ مِنْ أَجَلِّ القُرُبَاتِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يُقِيمُ بِهِ المُسْلِمُ فَرْضَهُ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَيهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: ((يَجَبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ)).

وَقَولُ المَاوَرْدِيِّ: ((وَمَعْرِفَةُ لِسَانِ العَرَبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِن مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِهِ)).

وَقَوْلُ شَيْخِ الإسْلَامِ: ((اللُّغَةُ مِنَ الدِّينِ، وَمَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ؛ فَإِنَّ فَهْمَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضٌ، وَلَا يُفْهَمُ إِلَّا بِفَهْمِ العَرَبيَّةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ))

((اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ))

أَمَّا سِيَادَةُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِلُغَاتِ العَالَمِ كُلِّهِ؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ الكِتَابَ الخَاتَمَ نَزَلَ بِهَا، وَتَكَفَّلَ اللهُ  -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِفْظِهِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ فَالعَرَبِيَّةُ لُغَةٌ مَحْفُوظَةٌ.

وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ المُحْدَثُونَ أَنَّ اللُّغَاتِ الَّتِي يُظَنُّ بِهَا السِّيَادَةُ اليَوْمَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا عَادِيَةَ التَّغَيُّرِ حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا لُغَةٌ جَدِيدَةٌ، وَأَنَّ أَقْصَى عُمُرٍ لِأَيِّ لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ الحَيَّةِ المُعَاصِرَةِ هُوَ قَرْنَانِ مِنَ الزَّمَانِ.

أَمَّا العَرَبِيَّةُ فَارْتِبَاطُهَا بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ جَعَلَ لَهَا ظَرْفًا خَاصًّا لَمْ يُتَحْ لِأَيَّةِ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ كُلِّهَا.

وَقَدْ كَفَلَ اللهُ لَهَا الحِفْظَ مَا دَامَ يَحْفَظُ دِينَهُ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

وَلَوْلَا أَنْ شَرَّفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَأَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ، وَقَيَّضَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَتْلُوهُ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَوَعَدَ بِحِفْظِهِ عَلَى تَعَاقُبِ الأَزْمَانِ؛ لَوْلَا كُلُّ هَذَا لَأَمْسَتِ العَرَبِيَّةُ الفُصْحَى لُغَةً أَثَرِيَّةً تُشْبِهُ اللَّاتِينِيَّةَ أَوِ السِّنْسِكْرِيتِيَّةَ، وَلَسَادَتِ اللَّهْجَاتُ العَرَبِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ فِي نَوَاحِي الأَرْضِ العَرَبِيَّةِ، وَازْدَادَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ بُعْدًا عَنِ الأَصْلِ الَّذِي انْسَلَخَتْ مِنْهُ.

هَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي يَجْعَلُنَا لَا نَقِيسُ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى بِمَا يَحْدُثُ فِي اللُّغَاتِ الحَيَّةِ المُعَاصِرَةِ؛ فَإِنَّ أَقْصَى عُمُرِ هَذِهِ اللُّغَاتِ فِي شَكْلِهَا الحَاضِرِ لَا يَتَعَدَّى قَرْنَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ، فَهِيَ دَائِمَةُ التَّطَوُّرِ وَالتَّغَيُّرِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّفَاعُلِ مَعَ اللُّغَاتِ المُجَاوِرَةِ، تَأْخُذُ مِنْهَا وَتُعْطِي، وَلَا تَجِدُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَرَجًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْتَبِطْ فِي فَتْرَةٍ مِنْ فَتَرَاتِ حَيَاتِهَا بِكِتَابٍ كَرِيمٍ كَمَا هِيَ الحَالُ فِي العَرَبِيَّةِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ -غَفَرَ اللهُ لَهُ-: ((إِنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ بُنِيَتْ عَلَى أَصْلٍ يَجْعَلُ شَبَابَهَا خَالِدًا عَلَيْهَا، فَلَا تَهْرَمُ وَلَا تَمُوتُ؛ لِأَنَّهَا أُعِدَّتْ مِنَ الأَزَلِ فَلَكًا دَائِرًا لِلنَّيِّرَيْنِ العَظِيمَيْنِ: كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ فِيهَا قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ مِنَ الِاسْتِهْوَاءِ؛ كَأَنَّهَا أُخْذَةُ السِّحْرِ، لَا يَمْلِكُ مَعَهَا البَلِيغُ أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ)).

وَلَمَّا كَانَ: (( الْبَيَانُ هُوَ نِعْمَةَ اللهِ الْكُبْرَى الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ وَلَوْنٍ، وَكَذَلِكَ عَلَّمَنَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ- إِذْ قَالَ: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4].

فَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْكَلِمَةِ فَقَدِ اسْتَهَانَ بِأَفْضَلِ آلَاءِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى الَّتِي أَخْرَجَتْهُ مِنْ حَدِّ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ)).

لَمَّا كَانَ الْبَيَانُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ بِخَاصَّةِ الْإِبَانَةِ، أَوْ بِخَاصَّةِ التَّعْبِيرِ أَجَلَّ مَا يَكُونُ الْإِنْعَامُ؛ فَهِيَ اللُّغَةُ الْمُعَبِّرَةُ.

((اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي طَلِيعَةِ اللُّغَاتِ الْمُعَبِّرَةِ بَيْنَ لُغَاتِ الْعَالَمِ الشَّرْقِيَّةِ أَوِ الْغَرْبِيَّةِ، فَلَا يَعْرِفُ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ لُغَةَ قَوْمٍ تَتَرَاءَى لَنَا صِفَاتُهُمْ وَصِفَاتُ أَوْطَانِهِمْ مِنْ كَلِمَاتِهِمْ وَأَلْفَاظِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَى أَطْوَارُ الْمُجْتَمَعِ الْعَرَبِيِّ مِنْ مَادَّةِ أَلْفَاظِهِ وَمُفْرَدَاتِهِ فِي أُسْلُوبِ الْوَاقِعِ وَأُسْلُوبِ الْمَجَازِ)).

((اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةٌ مُيَسَّرَةٌ))

عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى الْمُؤَامَرَةِ الَّتِي حِيكَتْ خُيُوطُهَا مِنْ أَجْلِ حَرْفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ لِسَانِ كِتَابِ رَبِّهَا وَلِسَانِ نَبِيِّهَا ﷺ، وَكَيْفَ أَشَاعُوا وَأَذَاعُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ عَسِرَةٌ، وَأَنَّ فِيهَا مَا فِيهَا مِنَ الصُّعُوبَةِ وَالْخُشُونَةِ، وَأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ، وَكَذَبُوا -وَاللهِ-؛ فَالْعَرَبِيَّةُ لُغَةٌ مُيَسَّرَةٌ، بَلْ هِيَ أَيْسَرُ اللُّغَاتِ طُرًّا، وَذَلِكَ بِالدَّلَالَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي حَقِّهِ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

فَقَرَّرَ رَبُّنَا فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَنَّهُ يَسَّرَ الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، وَالْقُرْآنُ أُنْزِلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبِلِسَانِهِمْ، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا اعْوِجَاجَ، وَلَا عُجْمَةَ تَلْحَقُهُ، وَلَا هُجْنَةَ تَعْتَرِيهِ.

إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُيَسَّرًا، وَلُغَتُهُ لُغَةُ الْعَرَبِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا الْكِتَابَ سَهْلَةً مُيَسَّرَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ.

وَكُلُّ نَاظِرٍ فِي لُغَاتِ الْأَقْوَامِ يَعْلَمُ جَلَالَ هَذِهِ اللُّغَةِ، أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ فِي كُلِّ الْأُمَمِ سَلَفًا وَخَلَفًا؛ مِنْ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، وَمِنْ فَاسِقٍ وَبَرٍّ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ لِهَذِهِ اللُّغَةِ بِالسِّيَادَةِ وَبِالثَّبَاتِ، وَبِالْيُسْرِ وَنَفْيِ الْوَحْشِيَّةِ وَالْحُوشِيَّةِ عَنْ أَكْنَافِهَا.

وَكَيْفَ لَا وَقَدْ حَفِظَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ اللُّغَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ حَفِظَ كِتَابَهُ، وَكِتَابُهُ بِهَا، فَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَافِظًا، فَحَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ اللُّغَةَ، وَاللُّغَاتُ فِي احْتِكَاكَاتِهَا تَتَطَوَّرُ، فَكُلُّ لُغَةٍ كَائِنٌ حَيٌّ، وَهَذِهِ الْعَرَبِيَّةُ الشَّرِيفَةُ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا كِتَابَهُ، وَقَامَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَمَنْ تَشَعَّبَ مِنْ سَبِيلِ اللُّغَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ.. فَقَدْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ مِنَ اللُّغَوَيِّينَ؛ كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَكَالْكِسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، إِنَّمَا كَانُوا حُذَّاقًا بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ، مِنَ الْجَامِعِينَ لَهَا، الْحَائِزِينَ لِأَطْرَافِهَا، لَمَّا ضَبَطُوا الْمَخَارِجَ وَالصِّفَاتِ انْضَبَطَ الْأَمْرُ.

وَمَا مِنْ لُغَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ يَزِيدُ عُمُرُهَا عَلَى مِائَتَيْ عَامٍ -بِلَا اسْتِثْنَاءٍ- إِلَّا لُغَةَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، فَهِيَ هِيَ كَمَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا الْكِتَابَ وَنَطَقَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ الْخِطَابَ، لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَمْ تَتَبَدَّلْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ إِذَا اجْتَمَعُوا مِنْ أَقْطَارِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ.. إِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَكَانٍ وَكَانُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ الْوَاعِينَ، وَتَكَلَّمَ كُلٌّ بِلَهْجَتِهِ؛ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، كَأَنَّمَا يَتَرَاطَنُونَ بِلُغَاتٍ أَعْجَمِيَّةٍ، فَإِذَا نَطَقُوا بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ  -لُغَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتُرَاثِ الْأُمَّةِ- فَهِمَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.

لَقَدْ أَرْجَفَ دُعَاةُ العَامِّيَّةِ بِأَكَاذِيبِهِمْ، وَأَجْلَبَ أَعْدَاءُ الفُصْحَى بِخَيْلِهِمْ وَرَجْلِهِمْ، فَاسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ اسْتِقْرَارَ العَقِيدَةِ فِي القُلُوبِ أَنَّ العَرَبِيَّةَ لُغَةٌ صَعْبَةٌ، تَنْدَقُّ دُونَ تَحْصِيلِهَا الأَعْنَاقُ، وَتَنْقَطِعُ دُونَ بُلُوغِ الغَايَةِ مِنْهَا المَطَايَا.

وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى صَعْبَةُ المُرْتَقَى، عَصِيَّةُ المَنَالِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ طَيِّعَةً كُلَّ الطَّوَاعِيَةِ، وَلَا مَرِنَةً كُلَّ المُرُونَةِ لِمُلَاءَمَةِ حَاجَاتِ الحَيَاةِ فِي تَطَوُّرِهَا الدَّؤُوبِ.

وَمَنْزِلَةُ العَرَبِيَّةِ قَضَتْ أَنْ يُسَيَّجَ حَوْلَهَا بِسِيَاجٍ مِنَ الأَحْكَامِ وَالقَوَاعِدِ الشَّدِيدَةِ، وَشَأْنُ العَرَبِيَّةِ فِي هَذَا شَأْنُ كُلِّ لُغَةٍ أُخْرَى، يَحْرِصُ أَهْلُوهَا عَلَى حِفْظِهَا مِنَ التَّجَزُّؤِ وَالتَّفَكُّكِ، وَلَكِنَّ دُعَاةَ العَامِّيَّةِ جَأَرُوا بِالشَّكْوَى مِنْ أَحْكَامِ اللُّغَةِ وَقَوَانِينِهَا!!

لَقَدْ وَضَعَتْ تِلْكَ الدَّعْوَاتُ الهَدَّامَةُ وَلِيدَ سُوئِهَا، وَاسْتَقَرَّ فِي الأَذْهَانِ أَنَّ العَرَبِيَّةَ لُغَةٌ صَعْبَةٌ، وَعَلَى وَجْهِ التَّحْدِيدِ نَحْوُهَا وَصَرْفُهَا.

وَلَيْسَ مِنْ شَكٍّ أَنَّ قَوَاعِدَ اللُّغَةِ قَدْ صِيغَتْ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا صِيَاغَةً عَسِيرَةً عَلَى الفَهْمِ، وَلَكِنَّ الحَمْلَ عَلَى الفُصْحَى بِالصُّعُوبَةِ وَالشُّذُوذِ دُونَ لُغَاتِ العَالَمِينَ أَمْرٌ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الحَيْفِ وَالجَوْرِ، بَلْ غَيْرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ أَعْرَقُ فِي الصُّعُوبَةِ مِنْهَا، وَأَمْعَنُ فِي العُسْرِ مِنْهَا.

ثُمَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُسْرٌ فَلْنَدْعُ إِلَى التَّيْسِيرِ، لَا إِلَى الهَجْرِ أَوِ التَّغْيِيرِ!

قَالَ الأُسْتَاذُ عَبْد السَّلَام هَارُون: ((لَيْسَ مَعْنَى تَيْسِيرِ النَّحْوِ أَنْ نَقْضِيَ عَلَى قَوَاعِدِهِ الأَسَاسِيَّةِ، وَعَلَى اصْطِلَاحَاتِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ الَّتِي تَشَرَّبَتْهَا الأَجْيَالُ، وَسَرَتْ فِي العُرُوقِ وَالدِّمَاءِ، وَأَعْنِي: عُرُوقَ التُّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ وَدِمَاءَ الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ، فَالتَّرَابُطُ وَثِيقٌ شَدِيدُ الصِّلَةِ بَيْنَ عِلْمِ النَّحْوِ، وَالبَلَاغَةِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالحَدِيثِ، وَالفِقْهِ الإِسْلَامِيِّ، وَنُصُوصِ الأَدَبِ العَرَبِيِّ؛ جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامِيَّةٍ، وَبَيْنَ كَثِيرٍ غَيْرِهَا مِنْ فُرُوعِ الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ.

إِنَّنَا نُنَادِي بِتَيْسِيرِ النَّحْوِ، وَبِتَيْسِيرِ غَيْرِ النَّحْوِ، بَلْ بِتَيْسِيرِ كُلِّ صَعْبٍ فِي هَذَا الوُجُودِ، وَلَكِنَّا لَا نَغْفِرُ أَنْ تُمَسَّ أُصُولُ العَرَبِيَّةِ اسْتِنَادًا إِلَى آرَاءِ بَعْضِ شُذَّاذِ النَّحْوِيِّينَ، وَارْتِكَانًا إِلَى آرَاءٍ فَرْدِيَّةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى مَدَارِسَ ذَاتِ قَدْرٍ مَوْزُونٍ)).

وَقَوَاعِدُ النَّحْوِ -الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُعَقَّدَةٌ- قَدِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَعِيشَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، أَنْتَجَ النَّاسُ خِلَالَهَا فِي مُخْتَلَفِ الأَمْصَارِ العَرَبِيَّةِ وَغَيْرِ العَرَبِيَّةِ ثَرْوَةً مِنَ الكُتُبِ الصَّحِيحَةِ العَرَبِيَّةِ لَا تُحْصَى.

وَهَذِهِ القُرُونُ العَشْرُ أَصْدَقُ شَهَادَةٍ لِصَلَاحِيَةِ النَّحْوِ مِنْ كُلِّ مَا يَزْعُمُونَ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيُقَوِّيهَا: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مُنْذُ قَرْنٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا لَا يَكَادُونَ يُقِيمُونَ العَرَبِيَّةَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كِتَابَةِ مَقَالٍ سَلِيمِ اللُّغَةِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنْهُمْ.

وَقَدِ اسْتَطَاعُوا -رَغْمَ مَا لَقِيَتِ العَرَبِيَّةُ فِي أَوْطَانِهَا مِنْ حَرْبِ الاحْتِلَالِ الجَائِرِ خِلَالَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ- أَنْ يُجِيدُوهَا؛ فَهْمًا وَكِتَابَةً فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ القَصِيرَةِ.

وَهُنَا يُكَذِّبُ التَّارِيخُ مَزَاعِمَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنْ لَا حَيَاةَ لِلْعَرَبِيَّةِ إِلَى جَانِبِ اللَّهْجَاتِ السُّوقِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ بِالعَامِّيَّةِ.

وَلَيْسَتِ العَرَبِيَّةُ بِدْعًا فِي صُعُوبَةِ نَحْوِهَا وَصَرْفِهَا، بَلْ غَيْرُهَا أَصْعَبُ كَثِيرًا مِنْهَا، وَأَبْعَدُ مَنَالًا.

قَالَ الدُّكْتُور رَمَضَان عَبْد التَّوَّابِ: ((يَسُودُ بَيْنَ جَمْهَرَةِ المُثَقَّفِينَ العَرَبِ شُعُورٌ مُدَمِّرٌ بِأَنَّ لُغَتَنَا الجَمِيلَةَ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى لُغَةٌ مُعَقَّدَةُ القَوَاعِدِ، صَعْبَةُ التَّعْلِيمِ، كَثِيرَةُ الشُّذُوذِ فِي مَسَائِلِهَا وَقَضَايَاهَا؛ بِحَيْثُ تَجْعَلُ مِنْ تَعَلُّمِهَا أَوِ اسْتِخْدَامِهَا وَالتَّحَدُّثِ بِهَا عِبْئًا ثَقِيلًا عَلَى أَهْلِهَا.

وَلَقَدِ انْتَهَزَ المُغْرِضُونَ هَذِهِ الفُرْصَةَ، وَأَخَذُوا يَصِيدُونَ فِي المَاءِ العَكِرِ، وَيَدْعُونَ إِلَى اسْتِخْدَامِ العَامِّيَّةِ، وَهَجْرِ الفُصْحَى، أَوْ خَلْطِهَا بِالعَامِّيَّةِ، وَهِيَ دَعْوَةٌ حَمَلَ لِوَاءَهَا مُنْذُ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ المُعَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.

فَادَّعَوْا أَنَّ إِعْرَابَ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى أَمْرٌ عَسِيرُ التَّعْلِيمِ؛ لِيَصْرِفُوا المُسْلِمِينَ عَنْ مَنْبَعِ دِينِهِمْ، وَعِمَادِ شَرِيعَتِهِمْ، وَدُسْتُورِ حَيَاتِهِمْ، وَهُوَ القُرْآنُ الكَرِيمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَذِهِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى.

وَالحَقُّ أَنَّ هَذَا الإِعْرَابَ الَّذِي يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُعَقَّدٌ وَصَعْبٌ لَا تَنْفَرِدُ بِهِ العَرَبِيَّةُ الفُصْحَى وَحْدَهَا، بَلْ إِنَّ هُنَاكَ لُغَاتٍ كَثِيرَةً لَا تَزَالُ تَحْيَا بَيْنَنَا، وَفِيهَا مِنْ ظَوَاهِرِ الإِعْرَابِ المُعَقَّدِ مَا يَفُوقُ إِعْرَابَ العَرَبِيَّةِ بِكَثِيرٍ.

فَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الأَلْمَانِيَّةُ -مَثَلًا- تُقَسِّمُ أَسْمَاءَهَا اعْتِبَاطًا إِلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ، وَجِنْسٍ ثَالِثٍ لَا تَعْرِفُهُ العَرَبِيَّةُ، وَهُوَ المُحَايِدُ، وَتَضَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَ حَالَاتٍ إِعْرَابِيَّةٍ؛ هِيَ حَالَاتُ: الفَاعِلِيَّةِ، وَالمَفْعُولِيَّةِ، وَالإِضَافَةِ، وَالقَابِلِيَّةِ)).

وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةٌ مُيَسَّرَةٌ، هِيَ لُغَةُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ يَسَّرَهَا اللهُ -تَعَالَى- كَمَا يَسَّرَهُ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

((دِينُ اللهِ مُحَارَبٌ وَلَكِنَّهُ دِينٌ مَنْصُورٌ عَزِيزٌ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ دِينًا مَنْصُورٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ، حَفِظَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْرِيفٌ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ تَلْحَقَهُ هَزِيمَةٌ أَوْ يَحُطَّ بِسَاحَتِهِ انْكِسَارٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ اللهِ فِيهِ.

وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَأَهْلُهُ مُمْتَحَنُونَ..

وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا       =     تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ

فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي هُوَ دِينُهُ هُوَ -جَلَّ وَعَلَا- حَافِظُهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، وَهُوَ مَنْصُورٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَبِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدْرِكَهُ هَزِيمَةٌ، وَلَا أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ وَانْتَسَبَ إِلَى حَقِيقَتِهِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مَا يَأْتِي مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

فَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ هَذَا الدِّينَ مُحَارَبٌ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

وَقَدْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ نُزُولِ الْخَيْرِ وَحْيًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانُوا فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَضَنْكٍ وَعَنَتٍ أَنْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّ الْأُمِّيِّينَ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ ﷺ فِي الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسِبُ.

وَحَارَبُوا دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ، وَبِكُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، وَتَحْرِيفٍ وَتَزْيِيفٍ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُ هَذَا دَأْبَهُمْ أَبَدًا؛ يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ عُدَّتِهِمْ وَعَتَادِهِمْ لِحَرْبِ الدِّين وَمُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَالًا وَمَقَالًا، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ، وَإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِبَثِّ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمُحَارَبَةِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعُدَّةِ وَالْعَتَادِ وَالسِّلَاحِ، وَبِالدِّعَايَةِ الْمُغْرِضَةِ، وَالْوِشَايَةِ الْكَاذِبَةِ، يَبْذُلُونَ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ طَاقَاتِهِمْ لِحَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وَبَشَّرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسُّوأَى دُنْيَا وَآخِرَةً: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ وَرَأَى خَيْبَةَ الْمَسْعَى، وَلِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ سَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّارَ تَلَظَّى، {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}: وَهَاهُنَا مَلْحَظٌ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ؛ وَهُوَ الْعَطْفُ بِـ(ثُمَّ)؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ عَلَى سُنَنٍ قَدَّرَهَا، وَسُنَنُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنِيَّةُ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا، {فَسَيُنْفِقُونَهَا}: فَعَقَّبَ بِـ(الْفَاءِ)؛ لِبَيَانِ حِرْصِهِمْ عَلَى سِعَايَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ حَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}؛ لِأَنَّ السُّنَنَ جَارِيَةٌ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهِيَ لَا تَتَخَلَّفُ، يَتَرَاخَى ذَلِكَ مَا يَتَرَاخَى، وَيَتَمَطَّى الزَّمَانُ مَا يَتَمَطَّى بَيْنَ إِنْفَاقِهِمْ وَمَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ بَعْدُ، وَمَا يَتَحَصَّلُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْبَةِ مَسْعَاهُمْ وَفَشَلِ سِعَايَتِهِمْ.

{فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، فَلَمْ يُعَقِّبْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُهُمْ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مَآلُهُمْ بِـ(الْفَاءِ)، وَإِنَّمَا أَتَى بِـ(ثُمَّ)، وَيَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ الْقُحُّ بِذَوْقِهِ الْعَرَبِيِّ السَّلِيمِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَرَاخَى نَحْوًا مَا: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.

وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْذَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَوَعِّدًا مُتَهَدِّدًا الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى السُّنَنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ، وَالَّذِينَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُونَ مَا لِلْإِسْلَامِ مِنْ نَصْرٍ فِي ذَاتِهِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالدِّينِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِطَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ.

{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

 فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّوَلِّي عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَعَنِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَأَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ- أَنَّهُ فِي حَالِ التَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَهَّارُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ-؛ أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، ثُمَّ لَا يَجْعَلُهُمْ أَمْثَالَهُمْ، بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ رَبِّهِمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذُّلَّ عَنْهُمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَذَلَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ دِيَارِهِمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا ارْتَدُّوا عَمَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَسْتَبْدِلُهُمْ بِمَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، يَكُونُونَ عَلَى الْحَالِ الْمَوْصُوفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ اسْتَبْدَلَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَؤُلَاءِ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ، فَلَمْ يَكُونُوا أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، بَلْ كَانُوا أَذِلَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، أَعِزَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَبْدَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ، وَأَتَى رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ يُقِيمُونَ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا غَيْرَهُ، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْكَافِرِينَ يَمْكُرُونَ لِهَدْمِ هَذَا الدِّينِ مَكْرَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُحَصِّلُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ بِمِلْءِ قَبْضَةٍ مِنْ ذُبَابٍ؛ بَلْ وَلَا قَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

وَلَقَدْ حَاوَلُوا مُنْذُ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَهْدِمُوا مَبَادِئَ هَذَا الدِّينِ، وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ سَعْيَهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْرَيْنِ: فَحَارَبُوا الدَّاعِيَ، وَحَارَبُوا الدَّعْوَةَ، حَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَآذَوْهُ، وَنَعَتُوهُ بِكُلِّ نَعْتٍ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرٌّ رَاشِدٌ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ عَقْلِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَرَ الْكُفَّارُ فِي الْخُصُومَةِ مَعَهُ، فَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ وَهُوَ سَيِّدُ الْعُقَلَاءِ ﷺ.

وَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوا النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَمَا آذَوْهُ مَا آذَوْهُ، فَضُرِبَ النَّبِيُّ ﷺ، وَوُضِعَ مَا وُضِعَ مِنَ الْقَذَرِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَ بَيْتِ اللهِ الَّذِي شَرَّفَهُ وَأَعْلَاهُ؛ عِنْدَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ خُنِقَ ﷺ، ثُمَّ أُطْلِقَ فَوَقَعَ وَقَدْ وَجَبَ كَمَا تَجِبُ الْحَائِطُ ﷺ، أُوذِيَ الرَّسُولُ ﷺ، وَأُوذِيَ أَتْبَاعُهُ، وَأَشَاعَ الْمُشْرِكُونَ الْإِشَاعَاتِ، وَحَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ أَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَسَدَهُ.

وَوَقَعَ التَّجْوِيعُ وَالِاضْطِهَادُ، وَوَقَعَ التَّعْذِيبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ فِي أَرْضِ اللهِ الْوَاسِعَةِ، وَيُتَتَبَّعُ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مُهَاجِرِينَ.

وَتَذْهَبُ الْوُفُودُ إِلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُلُوكِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَدُّوا، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَتَّلُوا، وَيَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينَهُ، وَيُعْلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْرَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.

وَالدِّينُ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا     =     تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ ((الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).

وَفِي تَفْسِيرِ ((الْغُرَبَاءِ)) قَوْلَانِ ثَابِتَانِ: الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ؛ فَهَؤُلَاءِ يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا قَابِضِينَ عَلَى الْجَمْرِ؛ كَالَّذِي يَتَمَسَّكُ بِالْفَضِيلَةِ فِي وَسَطِ الرَّذِيلَةِ، وَكَالَّذِي يَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ فِي مَهَبِّ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ مِنْ أَعَاصِيرِ الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَيَكُونُونَ فِي حَالِ اتِّبَاعِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ عَلَى حَالٍ لَا يَرْضَاهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَأْنَفُ مِنْهَا الْعُقَلَاءُ؛ ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟)).

قَالَ: ((فَمَنْ؟!!)).

فَمَا يَزَالُ أَقْوَامٌ يَحْطِبُونَ فِي أَهْوَاءِ أُولَئِكَ، وَيَتَّبِعُونَ سَنَنَهُمْ حَتَّى فِي الْعَقِيدَةِ، وَيُهَاجِمُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُونَ عَنْهُ بِحَرْبِهِ وَشَنِّ تِلْكَ الْحُرُوبِ عَلَيْهِ، وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَمِنْ قَدِيمٍ وَالْكُفَّارُ وَالْمُجْرِمُونَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ مِنْ أَجْلِ حَرْبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَأَمَّا أَبْنَاؤُهُ فَلَيْسُوا بِمَنْأَى وَلَا بِمَعْزِلٍ عَنْ وُقُوعِ الذُّلِّ عَلَيْهِمْ، وَعَنْ تَذْبِيحِهِمْ تَذْبِيحًا، وَعَنْ تَمَكُّنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ فَعَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ.

((الْحَرْبُ عَلَى اللُّغَةِ حَرْبٌ عَلَى الدِّينِ

وَفُصُولٌ مِنَ الْمُؤَامَرَةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمُجَاهِدَةِ))

هُنَالِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْحَرْبِ مَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، يَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، وَهَذِهِ (مُنَظَّمَةُ الْيُونِسْكُو) فِي تَقْرِيرِهَا فِي آخِرِ أَيَّامِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، وَمَا الْقَرْنُ الْعِشْرُونَ مِنَّا بِبَعِيدٍ، إِنْ هِيَ إِلَّا سَنَوَاتٌ مَعْدُودَاتٌ، فِي تَقْرِيرٍ مِنْ تَقْرِيرَاتِ تِلْكَ الْمُنَظَمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَاتِ، وَقَدْ يَعْجَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِهَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الصِّرَاعِ، وَلِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي غَيْرِ مَيْدَانٍ، وَلِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ!!

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفْتَعِلُونَ الْمَعَارِكَ فِي غَيْرِ مَا مُعْتَرَكٍ، وَيَخْرُجُونَ كَأَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ وَمَعَهُ سَيْفُهُ الْخَشَبِيُّ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِحَمْلِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ لَا يُغْنِي عِنْدَ الصِّرَاعِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَامِلُهُ وَصَاحِبُهُ ضُحَكَةً بَيْنَ الْفُرْسَانِ؛ بَلْ بَيْنَ الصِّبْيَانِ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَمَرَّ يَوْمًا إِلَى حَقْلِهِ، وَكَانَ قَدْ زَرَعَهُ ذُرَةً، وَكَانَ هُنَالِكَ مَنْ دَخَلَ بَيْنَ أَعْوَادِهَا، فَوَقَفَ هُوَ وَقَدِ اسْتَلَّ سَيْفَهُ الْخَشَبِيَّ يُهَدِّدُ وَيُزْبِدُ وَيُرْغِي، وَيُبْدِأُ وَيُعِيدُ، وَيُلَوِّحُ بِسَيْفِهِ هَذَا الْخَشَبِيِّ فِي الْهَوَاءِ، فَخَرَجَ بَعْدَ حِينٍ -أَعَزَّكُمُ اللهُ- كَلْبٌ أَجْرَبُ، فَأَغْمَدَ سَيْفَهُ فِي قِرَابِهِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَسَخَكَ كَلْبًا، وَكَفَانَا مَؤُونَةَ قِتَالِكَ!!

كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَوَاطِنَ مَيَادِينِ الْمَعْرَكَةِ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَيَادِينَ الصِّرَاعِ، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ الْقَائِمَةِ، تَقُومُ الْحَرْبُ فِيهِ عَلَى أَشُدِّهَا، وَالْمُسْلِمُونَ فِي غَفْلَةٍ نَائِمُونَ!!

فِي تَقْرِيرِ (الْيُونِسْكُو) عَنِ اللُّغَاتِ فِي آخِرِ الْقَرْنِ الْمَاضِي هَذَا الْكَلَامُ: مَاتَتْ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ ثَلَاثُ مِائَةِ (300) لُغَةٍ، ثُمَّ إِذَا مَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ اللُّغَاتِ وَجَدْنَا أَنَّهَا اسْتُبْدِلَتْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ لُغَةٍ يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَبِهَا يَتَفَاهَمُونَ.

ثَلَاثُ مِائَةِ (300) لُغَةٍ مَاتَتْ فِي مِائَةِ (100) عَامٍ؛ فَفِي كُلِّ عَامٍ تَمُوتُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ؛ يَعْنِي: فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَاتَتْ لُغَةٌ، وَطُوِيَتْ صَفْحَةُ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ عَلَى أَسْمَاءِ اللُّغَاتِ الَّتِي مَاتَتْ -أَحْسَنَ اللهُ فِيهَا الْعَزَاءَ-.

ثُمَّ مَضَى التَّقْرِيرُ -وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَقْوَالِ الْخُبَرَاءِ فِي هَذَا الْمَجَالِ- مَضَى التَّقْرِيرُ يَمُدُّ الْخَطَّ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ، وَيَتَوَقَّعُ مَا يَمُوتُ مِنَ اللُّغَاتِ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، فَذَكَرَ التَّقْرِيرُ أَنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ سَتَمُوتُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهَيْهَاتَ! إِنَّ اللُّغَةَ إِنَّمَا تَمُوتُ بَيْنَ أَهْلِهَا بِأَلَّا تَكُونَ لُغَةَ التَّعْلِيمِ، وَلُغَةَ التَّفَاهُمِ، وَلُغَةَ الْفَهْمِ، وَلُغَةَ الْخِطَابِ، وَلُغَةَ الِاتِّصَالَاتِ بَيْنَ الْبَشَرِ؛ فَتَمُوتُ اللُّغَةُ حِينَئِذٍ، وَتَصِيرُ اللُّغَةُ الَّتِي كَانَتْ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَتَصِيرُ فِي مُتْحَفِ اللُّغَاتِ؛ تَمَامًا كَاللُّغَاتِ الْقَدِيمَةِ؛ كَالْمِسْمَارِيَّةِ الْأَكَّادِيَّةِ، وَكَالْآشُورِيَّةِ، وَالْآرَمِيَّةِ، وَالسِّنْسِكْرِيتِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ، وَهِيَ لُغَاتٌ قَدْ مَاتَتْ، وَصَارَتْ بِحَفْرِيَّاتِهَا إِلَى مُتْحَفِ التَّارِيخِ -تَارِيخِ اللُّغَاتِ-.

وَلَكِنَّ اللُّغَاتِ الْحَيَّةَ تَظَلُّ فِي أَنْفُسِ أَبْنَائِهَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَا، يَفْهَمُونَ بِهَا، يُعَلِّمُونَ بِهَا، وَيَتَعَلَّمُونَ بِهَا، وَيَتَخَاطَبُونَ بِهَا، وَيَتَوَاصَلُونَ بِهَا، فَهِيَ لُغَتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا حَيَاتُهُمْ.

وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي حَقِيقَتِهَا لَا خَوْفَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَرَّفَهَا فَأَنْزَلَ بِهَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَلَا يُخْشَى عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.

إِنَّ اللُّغَاتِ الْحَيَّةَ الَّتِي يَتَخَاطَبُ بِهَا مَجْمُوعُ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ الْيَوْمَ، وَالَّتِي يُرِيدُ أَهْلُهَا وَالْمُتَكَلِّمُونَ بِهَا أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا السِّيَادَةَ عَلَى كُلِّ اللُّغَاتِ.. هَذِهِ اللُّغَاتُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ أَفْقَرُ مَا تَكُونُ فِي جُذُورِهَا وَفِي مَوَادِّهَا، يَعْلَمُ هَذَا أَهْلُ الصَّنْعَةِ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي مَعْرِفَتِهِ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْيَقِينِ.

وَهَذِهِ الْإِنْجِلِيزِيَّةُ فِي طَوْرِهَا الْحَدِيثِ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مُنْذُ مِائَتَيْ (200) عَامٍ، فَالْإِنْجِلِيزِيَّةُ الْحَدِيثَةُ لَا يَفْهَمُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُتَعَلِّمُ لَهَا وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهَا.. لَا يَفْهَمُ الْإِنْجِلِيزِيَّةَ الْوَسِيطَةَ، وَهِيَ لُغَةُ (شِكِسْبِير)، وَلَا يَفْهَمُ -فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ- الْإِنْجِلِيزِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّةَ.

وَأَمَّا اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ؛ فَعِنْدَكَ النُّصُوصُ فِيمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ تَفْهَمُهَا، تَتَأَمَّلُهَا، تَتَذَوَّقُهَا، هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ مَا اخْتِلَافٍ وَمِنْ غَيْرِ مَا تَبَايُنٍ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ عَنْ هَذَا فِي غَفْلَةٍ سَادِرُونَ.

فَهَذِهِ حَرْبٌ مُعْلَنَةٌ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ إِنَّ دُعَاةَ الْمُسْلِمِينَ لَيَتَكَلَّمُونَ بِالْعَامِّيَّةِ فِي دُرُوسِهِمْ، يُعَلِّمُونَ الْإِسْلَامَ بِالْعَامِّيَّةِ، وَيَدْعُونَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاللُّغَةِ الْعَامِّيَّةِ، وَهَذِهِ جَرِيمَةٌ فِي حَقِّ الدِّينِ، وَهَذِهِ خِيَانَةٌ لِلْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَدَعْكَ مِنْ كُلِّ مَا يُقَالُ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ، وَلَمْ يَتَنَازَلْ عَالِمٌ قَطُّ لِكَيْ يَتَكَلَّمَ بِلَهْجَةٍ مَحَلِّيَّةٍ مَعَ تَرْكِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِكَيْ يُخَاطِبَ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا تَقُومُ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ بِلُغَةِ الْعِلْمِ، وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَالْيَوْمَ تَنَازَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- عَنْ لُغَةِ الْعِلْمِ، وَصَارُوا عَوَامًّا يَتَكَلَّمُونَ بِتِلْكَ اللَّهْجَةِ الْبَغِيضَةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْفُصْحَى فِي شَيْءٍ، وَصَارَ النَّاسُ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَتَمَزَّقُوا مِزَقًا، وَجَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذْ تَنَاوَلُوهُ -فِيمَا يَزْعُمُونَ تَفْسِيرًا- بِالْعَامِّيَّةِ، بِاللَّهْجَةِ الْمَحَلِّيَّةِ؛ فَمَاذَا كَانَ؟!!

صَارَ كُلُّ مَنْ مَلَكَ لِسَانًا عَالِمًا خَطِيبًا مُتَكَلِّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!

وَأَيْنَ لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟!!

إِنَّ (وِلْيَام وِلْكُوكْس) عِنْدَمَا نَزَلَ مِصْرَ -حَفِظَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- كَانَ مِنْ وُكْدِهِ وَمِنْ هَمِّهِ -وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْأَغْتَمُ الْمُحَارِبُ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قِمَّةِ الْهَيْئَةِ الْمُحَرِّرَةِ لِمَجَلَّةِ الْأَزْهَرِ وَقْتَهَا، وَأَخَذَ يَدْعُو إِلَى اسْتِبْدَالِ الْعَرَبِيَّةِ بِاللَّهْجَةِ الْمَحَلِّيَّةِ، وَالْتَفَتَ لِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَامَ فِي وَجْهِهِ الرَّافِعِيُّ -عَفَا اللهُ عَنْهُ-، وَكَذَلِكَ فِي وَجْهِ أَذْنَابِهِ وَكُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَقَامَ فِي وَجْهِهِ الْعَلَّامَةُ أَحْمَد شَاكِر، وَالْعَلَّامَةُ مَحْمُود شَاكِر، وَمَنْ لَفَّ لَفَّ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ، فَدَافَعُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ خَبِيءَ ذَلِكَ أَنْ تُقْطَعَ الصِّلَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَتُرَاثِهِ، بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَكِتَابِ رَبِّهِ؛ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَ التُّرَاثِ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُتَرْجِمٍ.

وَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّنَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَبْدِلَ الْحُرُوفَ الْعَرَبِيَّةَ، وَنَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنْهَا؛ بِالْحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّكْلَةِ -عَنِ الْحَرَكَةِ- فِي اللُّغَةِ اللَّاتِينِيَّةِ بِحُرُوفِهَا، وَفِي كُلِّ اللُّغَاتِ الْآخِذَةِ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ كَالْإِنْجِلِيزِيَّةِ يُعَبَّرُ عَنِ الْحَرَكَةِ بِحَرْفٍ، وَأَمَّا فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَإِذَا مَا خَلَتِ الْكَلِمَةُ مِنَ الضَّبْطِ وَالشَّكْلِ؛ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُغَفَّلِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْوَهَمِ وَالْخَطَأِ.

وَلُغَتُنَا هَذِهِ تَحْتَاجُ أَنْ نَفْهَمَهَا أَوَّلًا؛ لِنُحْسِنَ قِرَاءَتَهَا، وَغَيْرُ لُغَتِنَا مِنَ اللُّغَاتِ تُقْرَأُ لِتُفْهَمَ، وَلُغَتُنَا تُفْهَمُ لِتُقْرَأَ، {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ فَأَنْتَ تَحْتَاجُ إِلَى الْفَهْمِ أَوَّلًا حَتَّى تَأْتِيَ بِالضَّبْطِ عَلَى الْوَجْهِ ثَانِيًا، وَحَتَّى لَا تَتَوَرَّطَ فِيمَا لَا يُرْضِي رَبَّكَ -جَلَّ وَعَلَا-.

{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}؛ فَأَنْتَ تَحْتَاجُ إِلَى الْفَهْمِ أَوَّلًا لِكَيْ تُحْسِنَ الْقِرَاءَةَ ثَانِيًا، وَأَمَّا غَيْرُنَا فِي لُغَاتِهِمْ -وَهِيَ لُغَاتٌ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي لُغَتِنَا الَّتِي شَرَّفَهَا رَبُّنَا فَأَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ الْعَظِيمَ، وَبَعَثَ بِهَا نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ، وَجَعَلَ مَبَانِيَهَا حَامِلَةً لِخَيْرٍ عَظِيمٍ، يَهْدِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى رَفْعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ.

فَهَذَا مَيْدَانٌ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وجُمْلَتُهُمْ فِي غَفْلَةٍ سَادِرُونَ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَلَا يُحَصِّلُونَهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَحْيَا بِتَعَلُّمِ قَوَاعِدِهَا، وَإِنَّمَا تَحْيَا اللُّغَةُ بِالتَّعْلِيمِ بِهَا.

لَا تَحْيَا اللُّغَةُ بِأَنْ نُعَلِّمَ قَوَاعِدَ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا تَحْيَا اللُّغَةُ بِأَنْ نُعَلِّمَ بِاللُّغَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيمِ بِهَا لِتَحْيَا.

وَهَذَا أَمْرٌ لَمَّا غَفَلَ عَنْهُ مَنْ غَفَلَ، وَعُلَمَاءُ الدِّينِ هُمُ السَّدَنَةُ لِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمَنْ كَانَ قَدِيمًا مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالصَّرْفِيِّينَ، وَمَنْ نَظَرَ فِي أَعْطَافِ هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ إِنَّمَا كَانُوا آخِذِينَ بِمَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ تَنَاوُلٍ لِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ؛ مِنْ أَجْلِ بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ أَجْلِ حِيَاطَةِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَطَ الْعَرَبُ بِالْأَعَاجِمِ، وَانْحَرَفَتِ الْأَلْسُنُ عَنِ الْجَادَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ؛ وَضَعَ الْعُلَمَاءُ أُصُولَ النَّحْوِ، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَكَذَلِكَ جُمِعَتْ مُتُونُ اللُّغَةِ، فَجَمَعَ الْخَلِيلُ مَا جَمَعَ فِي ((الْعَيْنِ)) -رَحِمَهُ اللهُ-، وَتَأَسَّسَ عِلْمُ الْبَلَاغَةِ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهِيَ إِظْهَارُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

عِلْمُ الْبَلَاغَةِ إِنَّمَا تَأَسَّسَ مِنْ أَجْلِ حِيَاطَةِ الدِّينِ، شَابَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَبَاحِثِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُعْتَزِلَةِ مَا شَابَهُ؛ وَلَكِنْ إِنَّمَا بَدَأَ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ أَجْلِ إِثْبَاتِ إِعْجَازِهِ لِلْعَالَمِينَ.

الْقُرْآنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يُدَافِعُونَ عَنِ الدِّينِ، عُلَمَاءُ الدِّينِ هُمْ سَدَنَةُ اللُّغَةِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِهَذَا السَّنَنِ، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}.

فَسَبِيلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ، الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ لَا تَكُونُ بِالتَّخَلِّي عَنْ لُغَةِ الْعِلْمِ وَعَنْ لُغَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

يَا لَهَا مِنْ جَرِيمَةٍ مَا وُجِدَتْ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ قَبْلُ!

ما فَسَّرَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ قَبْلَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ بِلَهْجَةٍ مِنَ اللَّهْجَاتِ الْعَامِّيَّةِ، وَاللَّهْجَاتُ الْعَامِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ قَدِيمٍ، لَا تَحْسَبُوهَا حَادِثَةً، لَا تَظُنُّوهَا طَارِئَةً، وَهِيَ مُوَازِيَةٌ لِلُّغَةِ الْفُصْحَى، وَاللُّغَةُ الْمُشْتَرَكَةُ لُغَةُ قُرَيْشٍ كَانَتْ هُنَالِكَ، وَلَهْجَاتُ الْقَبَائِلِ قَائِمَةٌ، فَإِذَا نَظَمَ الشَّاعِرُ شِعْرًا نَظَمَهُ بِاللُّغَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَخَالَفَ لُغَةَ قَوْمِهِ، وَخَالَفَ لَهْجَةَ أَهْلِهِ، وَأَتَى بِمَا يَنْظِمُهُ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَطَبَ وَإِذَا نَثَرَ إِنَّمَا يَأْتِي بِذَلِكَ مُسْتَقِيمًا.

اللَّهْجَاتُ قَدِيمَةٌ، وَلَيْسَتْ بِطَارِئَةٍ، وَلَمْ يَتَدَنَّ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْهَابِطِ الَّذِي تَدَنَّى إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ، فَفَتَقُوا فِي الْإِسْلَامِ فَتْقًا لَا يُرْتَقُ -إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّنَا شَيْئًا-؛ بِحُجَّةِ التَّقْرِيبِ -تَقْرِيبِ الْمَعَانِي لِلْمُسْلِمِينَ-، وَالسَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرَ، فَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَرْتَفِعَ الْجُمْهُورُ إِلَى قِمَّتِهِمُ السَّامِقَةِ، لَا يَتَدَنَّى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِيَكُونَ عَلَى مُسْتَوَى الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الْجُمْهُورَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ لِلْكِنْدِيِّ الْفَيْلَسُوفِ عِنْدَمَا كَانَ يَمْدَحُ الْخَلِيفَةَ وَهُوَ حَاضِرٌ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا إِحْنَةٌ وَبَيْنَهُمَا بَغْضَاءٌ، فَلَمَّا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:

قَدْكَ اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ فِي الْغُلَوَاءِ   =   كَمْ تَعْذِلُونَ وَأَنْتُمُ سُجَرَائِي

فَأَغْرَبَ!

فَقَالَ الْكِنْدِيُّ الْفَيْلَسُوفُ لَهُ: لِمَ لَا تَقُولُ مَا يُفْهَمُ؟!!

قَالَ: وَأَنْتَ لِمَ لَا تَفْهَمُ مَا يُقَالُ؟!!

لِمَاذَا تَتَعَلَّمُ اللُّغَاتِ عَلَى حِسَابِ لُغَتِكَ الْأُمِّ وَهِيَ عِرْضُكَ؟!!

أَوَرَأَيْتَ رَجُلًا شَرِيفًا حُرًّا لَا تَدُورُ فِي عُرُوقِهِ قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ بَارِدٍ.. أَرَأَيْتَ رَجُلًا شَرِيفًا غَيْرَ خِنْزِيرِيِّ النَّزْعَةِ يُفَرِّطُ فِي عِرْضِهِ، وَيَتَهَاوَنُ فِي شَرَفِهِ؟!!

وَلُغَتُكَ عِرْضُكَ وَشَرَفُكَ.

لِمَ تُفَرِّطُ فِيهِ؟!!

هِيَ اللُّغَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا كِتَابَهُ، وَصِرْنَا بِحَيْثُ أَخَذَتِ الشَّرَاذِمُ مِنْ شُذَّاذِ الْأَرْضِ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى لِسَانِ الْمُرْسَلِينَ؛ صِرْنَا بِحَيْثُ صَارَ شُذَّاذُ الْأَرْضِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَصَارَتْ عِصَابَةُ يَهُودٍ تُعْلِي مِنْ شَأْنِ اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَيِّتَةٌ لَا قِيمَةَ لَهَا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، أَخْرَجُوهَا مِنْ أَجْدَاثِهَا، وَكَسَوْهَا حُلَّةَ الْعَصْرِ، وَصَارُوا يُدَرِّسُونَ بِهَا الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ فِي الْجَامِعَاتِ الْعِبْرِيَّةِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ، وَلَا يَنْطِقُ بِهَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَّا جُمْلَةٌ فِي مَلَايِينِهَا لَا تَتَعَدَّى أَصَابِعَ الْقَدَمِ الْوَاحِدَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ خَاضِعَةً لِتِلْكَ اللُّغَةِ!!

وَلُغَتُنَا -وَهِيَ كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْبَاحِثِينَ الْجَادِّينَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ فِيهِ، وَلَا لِلرَّيْبِ أَنْ يَنْزِلَ بِنَوَاحِيهِ- لُغَتُنَا أَصْلُ اللُّغَاتِ، وَسَيِّدَةُ اللُّغَاتِ، لُغَتُنَا سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ، وَلَيْسَتْ بِصَعْبَةٍ وَلَا عَسِيرَةٍ، وَإِنَّمَا الصُّعُوبَةُ فِي الْأَوْهَامِ، وَالصُّعُوبَةُ فِي الْأَفْهَامِ.

كُلُّ مَنْ دَرَسَ الْأَلْمَانِيَّةَ يَعْلَمُ مَدَى صُعُوبَتِهَا، وَالَّذِينَ يَنْطِقُونَ بِهَا يَتَكَلَّمُونَ بِحُرُوفٍ حَنْجَرِيَّةٍ مَمْجُوجَةٍ هِيَ فِي الْأَسْمَاعِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهَا الْيَدُ الْعُلْيَا، وَيُقَدَّمُ مَنْ أَحَاطَ بِهَا عِلْمًا، وَهِيَ أَصْعَبُ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا انْهَزَمَ فِي دَاخِلِهِ؛ انْهَزَمَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا أَمَامَ عَيْنَيْهِ مُتَرَاجِعَةً كَسِيحَةً، صَارَ ذَلِيلًا مُنْحَطًّا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.

فَإِنَّ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَمَنْ نَصَرَهُ نَصَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}.

وَلَا يُخْشَى وَلَا يُخَافُ عَلى دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَهُوَ مَنْصُورٌ غَالِبٌ عَزِيزٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا فَرَّطُوا فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ، وَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ.

وَهَلْ يُرْجَعُ إِلَى الدِّينِ وَهُوَ يُطْلَبُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ؟!!

يُسَافِرُ الرَّجُلُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ مُفَارِقًا لُغَةَ الْعُرُوبَةِ إِلَى الْجَامِعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ؛ لِيَعُودَ بِدَرَجَةٍ فِي الدِّينِ أَشْرَفَ عَلَيْهِ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهَا مُسْتَشْرِقٌ يَهُودِيٌّ أَوْ صَلِيبِيٌّ، أَوْ مُلْحِدٌ وَثَنِيٌّ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، فَإِذَا عَادَ صَارَ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ يُعَلِّمُهُمُ الدِّينَ!!

أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!

يُفَارِقُ لُغَةَ أَهْلِهِ، وَأَرْضَ الْعُرُوبَةِ النَّاطِقَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَى أَقْوَامٍ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ، نَعَمْ! إِلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ.

تَرْجَمَ بَعْضُهُمُ الْبَرْذَعَةَ الَّتِي هِيَ لِلْحِمَارِ -أَعَزَّكُمُ اللهُ- بِأَنَّهَا جَاكِيت حِمَارٍ!!

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضْحِكُ وَيُبْكِي فِي آنٍ!!

مَيَادِينُ الصِّرَاعِ تَخَلَّفَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا لَا عَنِ النِّزَالِ فِيهَا وَالصِّرَاعِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَانْشَغَلُوا، انْشَغَلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَصَارَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ، يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ رِوَايَةِ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)).

فِي رِوَايَةٍ: مَاذَا أَعْطَى رَبُّنَا نَبِيَّنَا ﷺ لَمَّا سَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ وَطَلَبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؟ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ ((لَنْ يُسَلِّطَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهَا مَنْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا))، لَنْ يَكُونَ؛ فَأَبْشِرُوا، فَمَهْمَا تَكَالَبَ عَلَيْهَا الْمُتَكَالِبُونَ، وَتَآزَرَ عَلَيْهَا الْكَافِرُونَ الْمُشْرِكُونَ، وَحَاوَلَ أَنْ يَنَالَ مِنْ سَوَائِهَا الْحَاقِدُونَ الْمُعَانِدُونَ؛ لَنْ يَبْلُغُوا شَيْئًا؛ فَإِنَّ اللهَ أَعْطَى ذَلِكَ مُحَمَّدًا ﷺ؛ ((أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهَا مِنْ سِوَاهَا مَنْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَيَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا))، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْهُدَى: بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَدِينِ الْحَقِّ: بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28].

{بِالْهُدَى}: بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، {وَدِينِ الْحَقِّ}: بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَتَأَسَّسُ الْعَمَلُ إِلَّا عَلَى الْعِلْمِ، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ كِتَابِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُجْتَبَى -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، وَالنَّاسُ مَشْغُولُونَ، بِأَيِّ شَيْءٍ يُشْغَلُونَ؟!! هُمْ مَشْغُولُونَ.

كَمَا قَالَ الْقَائِلُ الْحَكِيمُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ، مَاذَا يَقُولُونَ؟ دَعْهُمْ يَقُولُونَ، لَا شَيْءَ، إِنَّمَا هُوَ قَبْضُ الرِّيحِ؛ كَقَابِضٍ عَلَى الْمَاءِ خَانَتْهُ فُرُوجُ الْأَصَابِعِ، لَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا، إِنَّمَا هُوَ الْوَهَمُ.

وَمَيَادِينُ الصِّرَاعِ قَائِمَةٌ، تَحْفِلُ بِالصِّرَاعِ فِي جَنَبَاتِهَا وَأَنْحَائِهَا كَمَا تَحْفِلُ بِهِ فِي سُوَيْدَاوَاتِهَا؛ وَلَكِنَّ قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنْ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}.

فَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَجْمَعُونَ مِنْ حُشُودِ بَاطِلِهِمْ حُجَجًا فَائِلَةً وَدَلَائِلَ لَا تَقُومُ، وَبَيَّنَ رَبُّنَا ضَغِينَةَ صُدُورِهِمْ، وَكَشَفَ لَنَا عَنْ مَخْبُوءِ أَطْوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ، ثُمَّ آتَانَا هَذِهِ الْبُشْرَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}.

اصْبِرُوا وَاتَّقُوا، وَلَنْ تَكُونُوا صَابِرِينَ وَلَا مِنَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْتُمْ تُفَرِّطُونَ فِي الْأَصْلَيْنِ؛ فِي التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ، وَلَا يُتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا بِالْعُكُوفِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا تُفْهَمُ السُّنَّةُ وَلَا يُعْلَمُ الْكِتَابُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

إِنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَرْضَى اللَّحْنَ، وَكَانَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ عَلَيْهِ، وَاللُّغَةُ مِنَ الدِّينِ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: ((إِنَّ اللُّغَةَ مِنَ الدِّينِ))؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِشَيْءٍ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَا يُفْهَمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَلَا تُفْهَمُ سُنَّةُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ بِاللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، لَا أَنْ يَكُونَ كَـ(سِيبَوَيْه)، وَلَا كَـ(الْأَخْفَشِ)، وَلَا حَتَّى كَـ(ابْنِ خَرُوف)، وَلَكِنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ مَا يَفْهَمُ بِهِ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ فَهْمًا إِجْمَالِيًّا، أَلَّا يَكُونَ كَالْأَعْجَمِيِّ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ.

عَيْبٌ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مُسْلِمٌ أَنْ تَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ وَأَنْتَ تَنْطِقُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَكِنَّكَ أَعْجَمِيٌّ فِي ضَمِيرِكَ!

أَعْجَمِيٌّ فِي تَصَوُّرِكَ!

أَعْجَمِيٌّ فِي وَهْمِكَ!

أَعْجَمِيٌّ فِي فَهْمِكَ!

عَيْبٌ!!

إِنَّمَا يُعْذَرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْعَرَبِيَّةِ نَاطِقًا، لَمْ يَتَرَبَّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَحْيَ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلَمْ تَسْنَحْ لَهُ فُرْصَةٌ لِتَعَلُّمِهَا.

عَيْبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عَرَبِيًّا، وَعَيْبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَيِيَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ دِيَارِ الْعُرُوبَةِ أَنْ يُقَصِّرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَوْ عَلِمَ مَا يُعَانِيهِ إِخْوَانُهُ مِنَ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَأُوتُوا الْمِنَّةَ الْعُظْمَى بِالْهِدَايَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَوْ عَلِمَ مَدَى الْمُعَانَاةِ لَحَمِدَ اللهَ فِي الْأَصْبَاحِ وَفِي الْأَمْسَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ، غُرُّوا وَخُدِعُوا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي غَيْرِ مَيْدَانٍ، وَيُصَارِعُونَ فِي غَيْرِ مُعْتَرَكٍ، شَغَلَتْهُمْ أَحْوَالُهُمْ وَهُمُومُهُمُ الَّتِي افْتَعَلَهَا لَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ حَتَّى صَارُوا بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ الَّتِي تَعْلَمُونَ.

وَيَا وَيْحَهُمْ ثُمَّ يَا وَيْحَهُمْ؛ إِذْ يُغَرَّبُونَ وَهُمْ شَرْقِيُّونَ، إِذْ يُسْتَعْجَمُونَ وَهُمْ عَرَبِيُّونَ!

 يَا وَيْحَهُمْ ثُمَّ يَا وَيْحَهُمْ؛ إِذْ يُصْرَفُونَ عَنْ لُغَةِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَيُشْغَلُونَ!

تَعَلَّمُوا دِينَ رَبِّكُمْ -رَحِمَكُمُ اللهُ-!

لَا تَلْتَفِتُوا لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعِلْمِ؛ فَقَدْ خَانُوا لُغَةَ الْعِلْمِ، وَخَانُوا الْعِلْمَ، وَتَوَرَّطُوا فِي خِيَانَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَخِطَابُ الْجَمَاهِيرِ بِمَا تَفْهَمُ لَا يَعْنِي أَنْ تَتَنَازَلَ عَنْ لُغَةِ الْعِلْمِ وَأَنْ تُسِفَّ، وَنَتَحَدَّى كُلَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَامِّيَّةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَاعِيًا أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْعَامِّيَّةِ بِمَا يُحِيطُ بِالْمَقَاصِدِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى الشَّرِيفَةِ، لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُ عَلَى حَسَبِ فَهْمِهِ هُوَ، فَتَرْجَمَ الْفُصْحَى لِعَامِّيَّتِهِ، ثُمَّ خَاطَبَ الْعَوَامَّ بِعَامِّيَّتِهِمْ، فَمُسِخَ الْعِلْمُ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ قَادِرًا، وَلِلْأَخْذِ بِهَا مُتَنَاوِلًا، وَلِلْبَيَانِ الْحَقِّ مُؤَدِّيًا؛ لَأَتَى بِالسَّهْلِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَكَلَّمَ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ الْمَكِينِ الْمَتِينِ مِنْ غَيْرِ مَا إِغْرَابٍ وَلَا إِسْفَافٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحُوشِيِّ الْوَحْشِيِّ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُسِفَّ فِي اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ إِلَى ذَلِكَ الدَّرْكِ الْهَابِطِ الْمُنْحَطِّ؛ فَمَاذَا صَنَعُوا؟!!

تَخَالَفَ النَّاسُ وَاخْتَلَفُوا، هَلِ اسْتَقَامُوا فَصَارُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؟!!

هَيْهَاتَ ثُمَّ هَيْهَاتَ! فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَتَخَالَفُ مَعَ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَدْ جَعَلَ لِلْحُصُولِ عَلَى الْهِدَايَةِ أَسْبَابًا، وَإِنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ لَمِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا.

إِنَّ مَيْدَانَ الحَرْبِ المُعْلَنَةِ عَلَى القُرْآنِ وَلُغَتِهِ هُوَ أَخْطَرُ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَأَعْدَائِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَاتِ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ هَدْمَ الدِّينِ أَوِ الأَخْلَاقِ قَدْ تُضِلُّ جِيلًا مِنَ الشَّبَابِ؛ وَلَكِنَّ الأَمَلَ فِي إِنْقَاذِ الجِيلِ القَادِمِ يَظَلُّ كَبِيرًا مَا دَامَ القُرْآنُ مَتْلُوًّا مَقْرُوءًا، وَمَا دَامَ النَّاسُ يَتَذَوَّقُونَ حَلَاوةَ أُسْلُوبِهِ، وَجَمَالَ تَوْجِيهِهِ.

إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى هَدْمِ اللُّغَةِ أَوْ مَسْخِهَا أَوِ اسْتِبْدَالِهَا تَرْمِي إِلَى قَتْلِ القُرْآنِ نَفْسِهِ -وَهَيْهَاتَ-، وَذَلِكَ بِعَزْلِ المُسْلِمِينَ عَنْهُ؛ لِيُصْبِحَ أَثَرًا مَيِّتًا كَأَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ الَّتِي أَصْبَحَتْ حَشْوَ لَفَائِفِ البَرْدِيِّ؛ وَذَلِكَ بِتَنْشِئَةِ الأَجْيَالِ المُتَلَاحِقَةِ عَلَى الأَسَالِيبِ المُسْتَجْلَبَةِ مِنَ الغَرْبِ، الَّتِي تُبْنَى عَلَى الجُمْلَةِ الإِنْجِيلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُصْبِحَ لُغَةُ القُرْآنِ عَتِيقَةً بَالِيَةً بِتَحْوِيلِ أَذْوَاقِ الأَجْيَالِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا.

وَبَيْنَمَا نَجَحَ اليَهُودُ فِي إِحْيَاءِ لُغَتِهِمُ العِبْرِيَّةِ المَيِّتَةِ، وَاتِّخَاذِهَا لُغَةً لِلْأَدَبِ وَالعِلْمِ وَالحَيَاةِ؛ كَانَ بَعْضُ المَفْتُونِينَ مِنَ العَرَبِ يُنَادُونَ -وَلَا يَزَالُونَ- بِأَنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ الفَصِيحَةَ لُغَةٌ مَيِّتَةٌ، وَيَنْشُرُونَ فِي ذَلِكَ المَقَالَاتِ الطِّوَالَ المَكْتُوبَةَ ((بِاللُّغَةِ الفَصِيحَةِ!!)) الَّتِي يَزْعُمُونَ مَوْتَهَا.

لَقَدْ لَخَّصَ الأُسْتَاذُ مَحْمُود شاكِر -رَحِمَهُ اللهُ- قِصَّةَ الصِّرَاعِ فَقَالَ: ((مُنْذُ اسْتَيْقَظَ العَالَمُ الأُورُبِّيُّ لِنَهْضَتِهِ الحَدِيثَةِ وَهُوَ يَرَى عَجَبًا مِنْ حَوْلِهِ؛ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةُ الأَجْنَاسِ وَالأَلْوَانِ وَالأَلْسِنَةِ؛ مِنْ قَلْبِ رُوسيَا إِلَى الصِّينِ، إِلَى الهِنْدِ، إِلَى جَزَائِرِ الهِندِ، إِلَى فَارِسَ، إِلَى تُرْكِيَا، إِلَى بِلَادِ العَرَبِ، إِلَى شَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، إِلَى قَلْبِ القَارَّةِ الإِفْرِيقِيَّةِ وَسَوَاحِلِهَا، إِلَى قَلْبِ أُورُبَّا نَفْسِهَا.. تَتْلُو كِتَابًا وَاحِدًا يَجْمَعُهَا، يَقْرَأُهُ مَنْ لِسَانُهُ العَرَبِيَّةُ، وَمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ العَرَبِيَّةِ، وَتَحْفَظُهُ جَمْهَرَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُمْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؛ عَرَفَتْ لُغَةَ العَرَبِ أَمْ لَمْ تَعْرِفْهَا، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ جَمِيعَهُ حَفِظَ بَعْضَهُ لِيُقِيمَ بِهِ صَلَاتَهُ.

وَتَدَاخَلَتْ لُغَتُهُ فِي اللُّغَاتِ، وَتَحَوَّلَتْ خُطُوطُ الأُمَمِ إِلَى الخَطِّ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ هَذَا الكِتَابُ؛ كَالهِنْدِ، وَجَزَائِرِ الهِنْدِ، وَفَارِسَ، وَسَائِرِ مَنْ دَانَ بِالإِسْلَامِ.

فَكَانَ عَجَبًا أَلَّا يَكُونَ فِي الأَرْضِ كِتَابٌ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ القُوَّةُ الخَارِقَةُ فِي تَحْوِيلِ البَشَرِ إِلَى اتِّجَاهٍ وَاحِدٍ مُتَّسِقٍ عَلَى اخْتِلَافِ الأَجْنَاسِ وَالأَلْوَانِ وَالأَلْسِنَةِ.

فَمُنْذُ ذَلِكَ العَهْدِ ظَهَرَ ((الِاسْتِشْرَاقُ))؛ لِدِرَاسَةِ أَحْوَالِ هَذَا العَالَمِ الفَسِيحِ الَّذِي تَتَصَدَّى لَهُ أُورُبَّا المَسِيحِيَّةُ -كَذَا- بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وَعَلَى حِينِ غَفْوَةٍ رَانَتْ عَلَى هَذَا العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ.

فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ هَمِّ الِاسْتِشْرَاقِ: أَنْ يَبْحَثَ لِأُورُبَّا النَّاهِضَةِ عَنْ سِلَاحٍ غَيْرِ أَسْلِحَةِ القِتَالِ؛ لِتَخُوضَ المَعْرَكَةَ مَعَ هَذَا الكِتَابِ الَّذِي سَيْطَرَ عَلَى الأُمَمِ المُخْتَلِفَةِ الأَجْنَاسِ وَالأَلْوَانِ وَالأَلْسِنَةِ، وَجَعَلَهَا أُمَّةً وَاحِدَةً تَعُدُّ العَرَبِيَّةَ لِسَانَهَا، وَتَعُدُّ تَارِيخَ العَرَبِ تَارِيخَهَا.

وَبَدَأَ الغَزْوُ المُسَلَّحُ، وَسَارَ الاسْتِشْرَاقُ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَزَادَتِ الخِبْرَةُ بِهَذِهِ الأُمَمِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهَا لَهُ لِسَانٌ غَيْرُ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ؛ أُعِدَّتْ لَهُ سِيَاسَةٌ جَدِيدَةٌ لِإِغْرَاقِهِ فِي لِسَانِ الغَازِي الأُورُبِّي حَتَّى يُسَيْطِرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ لِسَانُهُ عَرَبِيًّا؛ أُعِدِّتْ لَهُ سِيَاسَةٌ أُخْرَى لِإِغْرَاقِهِ فِي تَخَلُّفٍ مُمِيتٍ، لَخَّصَهَا (وِلْيَم جِيفُورْد بِلْجَرَاف) فِي كَلِمَتِهِ المَشْهُورَةِ: ((مَتَى تَوَارَى القُرْآنُ وَمَدِينَةُ مَكَّةَ عَنْ بِلَادِ العَرَبِ يُمْكِنُنَا حِينَئِذٍ أَنْ نَرَى العَرَبِيَّ يَتَدَرَّجُ فِي سَبِيلِ الحَضَارَةِ -يَعْنِي: الحَضَارَةَ النَّصْرَانِيَّةَ- الَّتِي لَمْ يُبْعِدْهُ عَنْهَا إِلَّا مُحَمَّدٌ وَكِتَابُهُ))، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَارَى القُرْآنُ حَتَّى تَتَوَارَى لُغَتُهُ)).

((نَشْأَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَامِّيَّةِ وَدُعَاتُهَا وَأَهْدَافُهَا))

بَعْدَ أَنْ عَرَضَ الأُسْتَاذُ مَحْمُود شَاكِر فُصُولًا مِنْ قِصَّةِ المُؤَامَرَةِ عَلَى العَرَبِيَّةِ قَالَ: ((كَانَ يَقْبَعُ بَيْنَ جُدْرَانِ دَارِ الكُتُبِ المِصْرِيَّةِ مَاكِرٌ خَبِيثٌ يُقَالُ لَهُ: ((وِلْهِلْم سْبِيتَّا))، نَزَلَ مِصْرَ، وَعَاشَ فِي الأَحْيَاءِ المِصْرِيَّةِ، وَدَرَسَ اللُّغَةَ العَامِّيَّةَ، وَوَجَدَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَمِنْ حَيٍّ إِلَى حَيٍّ، فَلَمَّا رَأَى هُوَ وَمَنْ يَهْدِفُ إِلَى تَحْطِيمِ حَرَكَةِ الإِحْيَاءِ مِنْ أَهْلِ الاسْتِعْمَارِ الأُورُبِّيِّ أَنَّ الأَمْرَ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مَا لَا يَحْمَدُونَ عُقبَاهُ مِنْ سِيَادَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَنَهْضَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ سَارَعَ إِلَى تَأْلِيفِ كِتَابٍ سَمَّاهُ: ((قَوَاعِد اللُّغَة العَامِّيَّة فِي مِصْرَ))؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى الدِّرَاسَةِ، بَلْ كَشَفَ فِي مُقَدِّمَتِهِ عَنِ الغَرَضِ الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((وَأَخِيرًا سَأَجُازِفُ بِالتَّصْرِيحِ عَنِ الأَمَلِ الَّذِي رَاوَدَنِي عَلَى الدَّوَامِ طُولَ مُدَّةِ جَمْعِ هَذَا الكِتَابِ، وَهُوَ أَمَلٌ يَتَعَلَّقُ بِمِصْرَ نَفْسِهَا -مَا أَشَدَّ حُبَّكَ لِمِصْرَ!!-، وَيَمَسُّ أَمْرًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَإِلَى شَعْبِهَا يَكَادُ يَكُونُ مَسْأَلَةَ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ (بِلَا شَكٍّ يَا وِلْهِلْم!!)، فَكُلُّ مَنْ عَاشَ فَتْرَةً طَوِيلَةً فِي بِلَادٍ تَتَكَلَّمُ العَرَبِيَّةَ يَعْرِفُ إِلَى أَيِّ حَدٍّ كَبِيرٍ تَتَأَثَّرُ كُلُّ نَوَاحِي النَّشَاطِ فِيهَا بِسَبَبِ الاخْتِلَافِ الوَاسِعِ بَيْنَ لُغَةِ الحَدِيثِ وَلُغَةِ الكِتَابَةِ)).

وَبَيِّنٌ جِدًّا أَنَّ (وِلْهِلْم) هَذَا مُخَادِعٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ نَشْرَ التَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ كَافٍ فِي إِزَالَةِ هَذِهِ الصُّعُوبَةِ بِلَا أَدْنَى رَيْبٍ، كَمَا حَدَثَ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الدُّنْيَا، وَلَا يَزَالُ يَحْدُثُ إِلَى اليَوْمَ.

ثُمَّ يَقُولُ: ((فَفِي مِثْلِ تِلْكَ الظُّرُوفِ لَا يُمْكِنُ مُطْلَقًا التَّفْكِيرُ فِي ثَقَافَةٍ شَعْبِيَّةٍ؛ إِذْ كَيْفَ يُمْكِنُ فِي فَتْرَةِ التَّعْلِيمِ الابْتِدَائِيِّ القَصِيرِ أَنْ يَحْصُلَ المَرْءُ حَتَّى عَلَى نِصْفِ مَعْرِفَةٍ بِلُغَةٍ صَعْبَةٍ جِدًّا كَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى؟)).

وَلَا شَكَّ أَنَّ (وِلْهِلْم) هَذَا أَقْدَرُ النَّاسِ عَلَى مَعْرِفَةِ صُعُوبَةِ الفُصْحَى!!

لِأَنَّهُ أَدْرَى النَّاسِ بِهَا، ثُمَّ يَتَّجِهُ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَيَقُولُ: ((وَطَرِيقَةُ الكِتَابَةِ العَقِيمَةِ -أَيْ: بِحُرُوفِ الهِجَاءِ المُعَقَّدَةِ- يَقَعُ عَلَيْهَا بِالطَّبْعِ أَكْبَرُ قِسْطٍ مِنَ اللَّوْمِ فِي كُلِّ هَذَا.

وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنِ الأَمْرُ سَهْلًا لَوْ أُتِيحَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَكْتُبَ بِلُغَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ لُغَةَ الحَدِيثِ الشَّائِعَةَ، فَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَيْسَتِ العَرَبِيَّةَ الكِلَاسِيكِيَّةَ القَدِيمَةَ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الكِتَابَةِ بِلُغَةٍ هِيَ مِنَ الغَرَابَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الجِيلِ الحَالِيِّ مِنَ المِصْرِيِّينَ؛ مِثْلُ غَرَابَةِ اللَّاتِينِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيطَالِيِّينَ، وَبِالْتِزَامِ الكِتَابَةِ العَرَبِيَّةِ الكِلَاسِيكِيَّةِ القَدِيمَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْمُوَ أَدَبٌ حَقِيقِيٌّ وَيَتَطَوَّرَ)).

وَظَاهِرٌ أَنَّ جَمِيعَ التَّالِفِينَ قَدِيمِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ؛ كَسَلَامَة مُوسَى، وَلُويس عَوَض.. إِنَّمَا يُكَرِّرُونَ هَذِهِ المَقَالَةَ بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَتَشْبِيهُهُمْ هُوَ نَفْسُ التَّشْبِيهِ.

ثُمَّ انْظُرْ مَا يَقُولُ ((وِلْهِلْم سْبِيتَّا)) فِي شَأْنِ القُرْآنِ، وَقَارِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَقُولُهُ لُويس عَوَض: ((فَلِمَاذَا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ هَذِهِ الحَالَةِ المُؤْسِفَةِ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ؟ بِبَسَاطَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ خَوْفًا مِنَ التَّعَدِّي عَلَى حُرْمَةِ الدِّينِ إِذَا تَرَكْنَا لُغَةَ القُرْآنِ كُلِّيَّةً؛ وَلَكِنَّ لُغَةَ القُرْآنِ لَا يُكْتَبُ بِهَا الآنَ فِي أَيِّ قُطْرٍ (انْظُرْ: مَاذَا يَقُولُونَ!!)، فَأَيْنَمَا وُجِدَتْ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ مَكْتُوبَةٌ فَهِيَ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ الوُسْطَى، أَيْ: لُغَةُ الدَّوَاوِينِ.

وَحَتَّى مَا يُدْعَى بِالوَحْدَةِ بَيْنَ الشُّعُوبِ الإِسْلَامِيَّةِ (انْظُرْ: مَا تَتَضَمَّنُهُ هَذِهِ الكَلِمَاتُ!!) لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْلِقَهَا تَبَنِّي لُغَةِ الحَدِيثِ العَامِّيَّةِ؛ إِذْ إِنَّ لُغَةَ الصَّلَاةِ وَالطُّقُوسِ الدِّينِيَّةِ الأُخْرَى سَتَظَلُّ كَمَا هِيَ فِي كُلِّ مَكَانٍ)).

وَهَذَا مُفْتٍ آخَرُ جَاءَ يُفْتِي المُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، كَمَا أَفْتَى لويس عوض بِجَوَازِ تَرْجَمَةِ القُرْآنِ إِلَى العَامِّيَّةِ!!

وَلَمْ يَلْبَثِ الأَمْرُ غَيْرَ قَلِيلٍ حَتَّى قَامَ (المُقْتَطفُ) -وَكَانَ مُمَالِئًا لِلإِنْجِلِيزِ- فَاقْتَرَحَ سَنَةَ (1881م) كِتَابَةَ العُلُومِ بِلُغَةِ الحَدِيثِ، بِلَا إِشَارَةٍ لِمَا قَالَهُ (سْبِيتَّا) )).

أَبْرَزَ خَلِيلٌ اليَازجيُّ فِي رَدِّهِ عَلَى اقْتِرَاحِ (المُقْتَطفِ) سنة (1881م) نُقْطَتَيْنِ:

أُولَاهُمَا: أَنَّ اتِّخَاذَ العَامِّيَّةَ لُغَةً لِلْكِتَابَةِ فِيهِ هَدْمُ بِنَايَةِ التَّصَانِيفِ العَرَبِيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَإِضَاعَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَتْعَابِ المُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ تَكَلُّفُ مِثْلِهَا فِي المُسْتَقْبَلِ.

وَالأُخْرَى: أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَجُهَّالَهُم يَفْهَمُونَ العَرَبِيَّةَ الفَصِيحَةَ وَيَتَذَوَّقُونَهَا، عَلَى غَيْرِ مَا يَدَّعِيهِ خُصُومُ العَرَبِيَّةِ.

وَأَبْرَزَ (الهِلَالُ) فِي رَدِّهِ عَلَى أَحَدِ قُرَّائِهِ سنة (1902) النُّقَطَ التَّالِيَةَ:

*أَنَّ المُسْلِمِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنِ الفُصْحَى؛ لِمُطَالَعَةِ القُرْآنِ، وَالحَدِيثِ، وَسَائِرِ كُتُبِ الدِّينِ.

* أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ لَيْسَتْ غَرِيبَةً عَلَى أَفْهَامِ العَامَّةِ.

*أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسُ العَرَبِيَّةِ عَلَى اللَّاتِينِيَّةِ؛ لِأَنَّ الفَرْقَ بَيْنَ اللَّاتِينِيَّةِ وَفُرُوعِهَا أَبْعَدُ كَثِيرًا مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى وَفُرُوعِهَا العَامِّيَّةِ.

*أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى أَنْ تَتَّخِذَ كُلُّ أُمَّةٍ عَرَبِيَّةٍ لَهْجَتَهَا العَامِّيَّةَ هُمُ القَائِلُونَ بِانْحِلَالِ العَالَمِ العَرَبِيِّ، وَتَشْتِيتِ شَمْلِ النَّاطِقِينَ بِالعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنَّ أُمَمَ أُورُبَّا لَمْ يُهْمِلُوا اللُّغَةَ اللَّاتِينِيَّةَ وَيَسْتَبْدِلُوهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً يُهِمُّهَا الِانْفِصَالُ عَنْ جِيرَانِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُهِمُّهَا الِانْضِمَامُ إِلَيْهِمْ؛ لِمَا يَقْتَضِيهِ طَلَبُ الاسْتِقْلَالِ مِنَ المُنَافَسَةِ لِمُسَابِقِيهِ.

عَلَى أَنَّ الوَاقِعَ المَلْمُوسَ يُكَذِّبُ كُلَّ دَعَاوَى الهَدَّامِينَ، وَالتَّارِيخُ أَصْدَقُ مِنْ كُلِّ مَا يَكْتُبُونَ؛ فَقَدِ اسْتَطَاعَتِ العَرَبِيَّةُ البَدَوِيَّةُ أَنْ تُسَايِرَ الحَضَارَةَ فِي بَغْدَادَ، وَلَمْ تَنْهَزِمْ أَمَامَ الفَارِسِيَّةِ، أَوِ التُّرْكِيَّةِ، أَوِ اليُونَانِيَّةِ، وَاسْتَطَاعَتْ أَنْ تُسَايِرَهَا فِي الأَنْدَلُسِ بَعْدَ أَنْ فَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى البِيئَةِ الجَدِيدَةِ.

وَاسْتَطَاعَتْ أَنْ تُسَايِرَ أَلْوَانًا مِنَ الحَضَارَاتِ خِلَالَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا أَوْ أَكْثَرَ فِي بِيئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ أَشَدَّ التَّبَايُنِ، وَصَمَدَتْ أَمَامَ الغَارَاتِ المُدَمِّرَةِ، وَخِلَالَ الِاحْتِلَالِ الأَجْنَبِيِّ الطَّوِيلِ.

هَدَأَتِ الأُمُورُ بَعْضَ هُدُوءٍ بَعْدَ هُرَاءِ (سْبِيتَّا)، وَاقْتِرَاحِ (المُقْتَطفِ)؛ وَلَكِنَّهَا عَادَتْ جَذَعَةً سنةَ (1902م) عِنْدَمَا أَلَّفَ أَحَدُ قُضَاةِ مَحْكَمَةِ الِاسْتِئْنَافِ الأَهْلِيَّةِ فِي مِصْرَ مِنَ الإِنْجِلِيزِ -وَهُوَ القَاضِي (ولْمُور)- كِتَابًا عَمَّا سَمَّاهُ: ((لُغَةَ القَاهِرَةِ))، وَضَعَ لَهَا فِيهِ قَوَاعِدَ، وَاقْتَرَحَ اتِّخَاذَهَا لُغَةً لِلْعِلْمِ وَالأَدَبِ، كَمَا اقْتَرَحَ كِتَابَتَهَا بِالحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ.

قَالَ الأُسْتَاذُ مَحْمُود شَاكِر: ((وَلَكِنْ هَلْ هَدَأَ الأَمْرُ وَانْتَهَى؟ كَلَّا؛ فَقَدْ كَانَ -أَيْضًا- فِي مِصْرَ (كَارْل فُولِرْس) الأَلْمَانِيُّ خَادِمُ الإِنْجِلِيزِ، وَ(وِلْيَم وِلْكُوكْس) المُهَندِسُ المُنَصِّرُ الإِنْجِلِيزِيُّ، وَبَدَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَرَكَةً مُنْفَصِلَةً؛ وَلَكِنَّهَا مُتَّصِلَةُ المَعَانِي، فَأَلَّفَ (فُولِرْس) كِتَابًا فِي اللَّهْجَةِ العَامِّيَّةِ الحَدِيثَةِ فِي مِصْرَ سنة (1890م).

ثُمَّ تَوَلَّى تَرْجَمَتَهُ فِي سَنَةِ (1895م) إِلَى الإِنْجِلِيزِيَّةِ: (بوركيت).

وَأَلَحَّ عَلَى مَا أَلَحَّ عَلَيْهِ (سْبِيتَّا) مِنْ صِفَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى بِالجُمُودِ وَالصُّعُوبَةِ، وَشَبَّهَهَا بِاللَّاتِينِيَّةِ، وَشَبَّهَ العَامِّيَّةَ بِالإِيطَالِيَّةِ.

أَمَّا (وِلْكُوكْس) فَأَلْقَى مُحَاضَرَةً، وَنَشَرَهَا فِي ((مَجَلَّةِ الأَزْهَرِ)) الَّتِي آلَتْ إِلَيْهِ سَنَةَ (1893م)، وَزَعَمَ فِيهَا أَنَّ الَّذِي عَاقَ المِصْرِيِّينَ عَنْ الِاخْتِرَاعِ هُوَ كِتَابَتُهُمْ بِالفُصْحَى، وَدَعَا إِلَى التَّأْلِيفِ بِالعَامِّيَّةِ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: ((مَا أَوْقَفَنِي هَذَا المَوْقِفَ إِلَّا حُبِّي لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَرَغْبَتِي فِي انْتِشَارِ المَعَارِفِ، وَمَا أَجِدُهُ فِي نَفْسِي مِنَ المَيْلِ إِلَيْكُمْ، الدَّالِّ عَلَى مَيْلِكُمْ إِلَيَّ)).

وَهَذَا كَلَامٌ ثَقِيلُ الدَّمِ جِدًّا كَوَعْظِ المُنَصِّرِينَ، وَهُوَ مِنْهُمْ.

وَهَذَا الغَبِيُّ أَيْضًا جَاءَ بِتَشْبِيهَاتٍ جَدِيدَةٍ فِي مَقَالَتِهِ، فَشَبَّهَ الفُصْحَى بِاللَّاتِينِيَّةِ، وَالعَامِّيَّةَ بِالإِنْجِلِيزِيَّةِ!! وَهَذِهِ بَرَاعَةٌ خَارِقَةٌ، وَزَعَمَ أَنَّ اللُّغَةَ الفُصْحَى مَاتَتْ؛ لِأَنَّهَا صَعْبَةٌ وَجَامِدَةٌ، وَدَعَا إِلَى اتِّخَاذِ العَامِّيَّةِ لُغَةً أَدَبِيَّةً؛ اقْتِدَاءً بِالإِنْجِلِيزِ)).

وَكَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ إِلَى العَامِّيَّةِ مُؤَقَّتَةً -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ هَذَا الوَقْتَ قَدْ صَادَفَ نَهْضَةً حَسَنَةً فِي طَبْعِ كُتُبِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ فِي مِصْرَ وَفِي غَيْرِ مِصْرَ، وَأَقْبَلَ كَثِيرٌ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ عَلَيْهَا.

وَصَادَفَ أَيْضًا اسْتِيلَاءَ (دُنْلُوب) عَلَى التَّعْلِيمِ فِي مِصْرَ، وَوَضْعِهِ النِّظَامَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ أَنْ يُغَلِّبَ اللُّغَةَ الإِنْجِلِيزِيَّةَ فِي التَّعْلِيمِ، وَيُضْعِفَ تَدْرِيسَ العَرَبِيَّةِ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَجْعَلَهَا مُبَغَّضَةً إِلَى الطَّلَبَةِ، مُحْتَقَرَةً بِقَدْرِ الإِمْكَانِ (وَمَعَ الأَسَفِ هَذَا هُوَ النِّظَامُ السَّائِدُ إِلَى اليَوْمَ فِي مَدَارِسِنَا، مَعَ أَنَّهُ هُوَ نِظَامُ (دُنْلُوب)، وَلَا نِظَامَ لِدُنْلُوب سِوَاهُ).

فَفَرَضَ (دُنْلُوب) تَعْلِيمَ العُلُومِ كُلِّهَا بِالإِنْجِلِيزِيَّةِ، وَاخْتَصَرَ دِرَاسَةَ العَرَبِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا اخْتِصَارًا سَوْفَ يُؤَدِّي بَعْدَ قَلِيلٍ إِلَى وُجُوبِ اسْتِمْرَارِ ضَعْفِ تَعْلِيمِ العَرَبِيَّةِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.

عَرَضَ الأُسْتَاذُ مَحْمُود شَاكِر فُصُولًا مِنْ قِصَّةِ المُؤَامَرَةِ عَلَى الفُصْحَى، ثُمَّ قَالَ: ((وَإِذَا كُنْتُ قَدْ عَرَضْتُ فِي مَقَالَتِي السَّالِفَةِ أَوَّلِيَّةَ قَضِيَّةِ اللُّغَةِ العَامِّيَّةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اسْتِبْدَالِهَا بِالفُصْحَى مُنْذُ عَهْدِ (سْبِيتَّا) الأَلْمَانِيِّ سَنَةَ (1880م) إِلَى القَاضِي (وِلْمُور) الإِنْجِلِيزِيِّ، وَمُحَرِّرِ (المُقْتَطفِ) فِي سَنَةِ (1901م)؛ فَإِنِّي فِي الحَقِيقَةِ قَدِ انْتَزَعْتُ هَذَا الجُزْءَ انْتِزَاعًا مِنْ حَرَكَةٍ مُتَكَامِلَةٍ قَدِيمَةِ العَهْدِ، مُتَشَعِّبَةِ العَوَامِلِ، مُتَدَاخِلَةِ الآثَارِ)).

وَذَكَرَ الأُسْتَاذُ طَرَفًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجُهُودِ المُنَصِّرِينَ، وَاسْتِخْدَامِ أَدَاةِ التَّعْلِيمِ الأَجْنَبِيِّ فِي هَدْمِ اللُّغَةِ وَالأَخْلَاقِ وَالدِّينِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجِدَ فَائِدَةً عَظِيمَةً فِي تَتَبُّعِ تَارِيخِ التَّعْلِيمِ الأَجْنَبِيِّ فِي مِصْرَ فِي القَرْنَيْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالعِشْرِينَ فِي رِسَالَةٍ كَتَبَها (جِرْجِس سَلَامَة)، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَظَرَ إِلَى هَذَا المَوْضُوعِ مِنْ غَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي نَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْهُ؛ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي مُقَدِّمَتِهِ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ قَدْ بَدَأَ فِي مِصْرَ لِأَغْرَاضٍ دِينِيَّةٍ بَحْتَةٍ، وَأَنَّهُ اتَّجَهَ نَحْوَ الِاسْتِقْلَالِ وَالعُزْلَةِ: (حَتَّى أَصْبَحَ التَّعْلِيمُ الأَجْنَبِيُّ دَوْلَةً دَاخِلَ الدَّوْلَةِ، يُوَجِّهُ النَّشْءَ الوِجْهَةَ الَّتِي يَرَاهَا، وَيَصْبُغُهُمْ بِالصِّبْغَةِ الَّتِي يَرْغَبُهَا دُونَ إِشْرَافٍ فِعْلِيٍّ مِنَ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ) )).

وَيَقُولُ أَيْضًا: ((بَلْ بَلَغَ الأَمْرُ إِلَى حَدِّ أَنِ اشْتَمَلَتْ بَعْضُ الكُتُبِ المُسْتَعْمَلَةِ عَلَى مَعْلُومَاتٍ خَاطِئَةٍ مُضَلِّلَةٍ عَنْ مِصْرَ ذَاتِهَا، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ يُدَرَّسُ لِأَبْنَائِنَا، مَعَ انْعِدَامِ وُجُودِ أَيِّ تَوْجِيهٍ يُوَجِّهُ أَبْنَاءَنَا الوِجْهَةَ الصَّحِيحَةَ)).

وَقَالَ أَيْضًا: ((وَزَادَ مِنْ خُطُورَةِ كُلِّ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ المَدَارِسِ الأَجْنَبِيَّةِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ قَدْ أَسْهَمَتْ بِنَصِيبٍ كَبِيرٍ فِي إِضْعَافِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ؛ فَهِيَ تُلْقِي فِي خِضَمِّ الحَيَاةِ المِصْرِيَّةِ كُلَّ عَامٍ مَنْ يَنْظُرُونَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ طَبَقَاتِ المُتَعَلِّمِينَ فِي المَدَارِسِ الحُكُومِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ نَظْرَةً مُتَعَالِيَةً، وَيَنْظُرُونَ إِلَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ نَفْسَ النَّظْرَةِ -كَذَا-)).

عَلَى أَنَّ أَعْدَاءَ العَرَبِيَّةِ وَهُمْ أَعْدَاءُ القُرْآنِ وَالإِسْلَامِ مَا تَرَكُوا مِنْ سَبِيلٍ إِلَّا سَلَكُوهَا، وَلَا مِنْ طَرِيقٍ إِلَّا طَرَقُوهَا لِحَرْبِ العَرَبِيَّةِ وَالقَضَاءِ عَلَيْهَا.

((وَثَارَتِ المَسْأَلَةُ مِنْ جَدِيدٍ حِينَ دَعَا إِنْجِلِيزِيٌّ آخَرُ كَانَ مُهَنْدِسًا لِلرَّيِّ فِي مِصْرَ -وَهُوَ (وِلْيَم وِلْكُوكْس)- سَنَةَ (1926م) إِلَى هَجْرِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَالتَّرْوِيجِ لِلْعَامِّيَّةِ؛ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ إِقْصَاءِ الفُصْحَى، وَاحْتِلَالِ مَكَانِهَا فِي مَيْدَانِ الأَدَبِ وَالكِتَابَةِ)).

وَمِنَ الفُصُولِ الدَّامِيَةِ فِي قِصَّةِ المُؤَامَرَةِ عَلَى العَرَبِيَّةِ، وَتُرَاثِهَا الشَّامِخِ، وَالدِّينِ الحَنِيفِ: ذَلِكَ الفَصْلُ الَّذِي كَانَ بَطَلُهُ أَحْمَد لُطْفِي السَّيِّد فِي دَعْوَتِهِ إِلَى تَمْصِيرِ اللُّغَةِ.

فَكَانَتْ دَعْوَةُ هَذَا الرَّجُلِ إِلَى ((تَمْصِيرِ اللُّغَةِ))؛ وَهِيَ: أَنْ تَصِيرَ لُغَةُ القُرْآنِ المَجِيدِ مِصْرِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُضَرِيَّةً!!

وَقَدْ عَارَضَ الأُسْتَاذُ مُصْطَفَى صَادِق الرَّافِعِي -غَفَرَ اللهُ لَهُ- دَعْوَةَ أَحْمَد لُطْفِي السَّيِّد وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُ فِي مَقَالٍ لَهُ بِعُنْوَان: ((تَمْصِيرُ اللُّغَةِ))، وَاعْتَمَدَ فِي مُعَارَضَتِهِ عَلَى الأَدِلَّةِ الآتِيَةِ:

* أَنَّ شُيُوعَ هَذِهِ الفِكْرَةِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ لَهَا عَرَبِيَّةٌ، وَأَخْذَ أَهْلِهَا مَأْخَذَنَا فِي عَامِّيَّتِهَا يُؤَدِّي إِلَى انْقِرَاضِ الفُصْحَى وَمَحْوِهَا.

*أَنَّ فِكْرَةَ إِحْيَاءِ العَرَبِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ العَامِّيَّةِ تَتَعَارَضُ مَعَ مَا سَنَّتْهُ لُغَةُ القُرْآنِ مِنْ تَقْيِيدِ اللَّهْجَاتِ بِهَا، وَمَحْوِ لُغَاتِ العَرَبِ جَمِيعِهَا عَلَى فَصَاحَتِهَا وَقُوَّةِ الفِطْرَةِ فِي أَهْلِهَا، وَرَدِّهَا إِلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ؛ هِيَ اللُّغَةُ القُرَشِيَّةُ؛ فَكَيْفَ نَعْمَلُ نَحْنُ عَلَى تَمْزِيقِ هَذِهِ الوَحْدَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ العَرَبِ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ؟!

*أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى تَمْصِيرِ اللُّغَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ العَصَبِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ المَمْقُوتَةِ الَّتِي مَحَاهَا الإِسْلَامُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِهَا وَاعْتِبَارِ هَذِهِ المِصْرِيَّةِ أَصْلًا لُغَوِيًّا مُجْمَعًا عَلَيْهِ إِلَّا بِتَمْصِيرِ الدِّينِ الإِسْلَامِيِّ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ هَذِهِ العَرَبِيَّةُ.

وَانْتَهَى الرَّافِعِيُّ إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ وَسِيلَتَنَا فِي إِحْيَاءِ العَرَبِيَّـةِ هِيَ نَشْرُ التَّعْلِيمِ، وَاسْتِعْمَالُ الفَصِيحِ خَالِصًا مَأْنُوسًا.

وَحَمَلَ ((طَهَ حُسَيْن)) لِوَاءَ الإِفْسَادِ، وَالطَّعْنِ فِي ثَوَابِتِ الأُمَّةِ، فَظَهَرَ لَهُ فِي سَنَةِ (1938م) كِتَاب: ((مُسْتَقْبَلُ الثَّقَافَةِ فِي مِصْرَ))، مَدَّ فِيهِ الخَطَّ الَّذِي خَطَّهُ الهَالِكُ سَلَامَة مُوسَى عَلَى اسْتِقَامَتِهِ، وَكَانَ قَدْ نَشَرَ كِتَابَهُ ((اليَوْم وَالغَد)) سَنَةَ (1927م).

وَقَدْ هَاجَمَ سَلَامَة مُوسَى الدِّينَ، وَاللُّغَةَ، وَالعَرَبَ، وَهُوَ يُرِيدُ مِنَ التَّعْلِيمِ: ((أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا أُورُبِّيًّا لَا سُلْطَانَ لِلدِّينِ عَلَيْهِ، وَلَا دُخُولَ لَهُ فِيهِ)).

وَيَرَى أَنَّهُ آنَ الأَوَانُ لِكَي ((نَعْتَادَ عَادَاتِ الأُورُبِّيِّينَ، وَنَلْبسَ لِبَاسَهُمْ، وَنَأْكُلَ طَعَامَهُم، وَنَصْطَنِعَ أَسَالِيبَهُمْ فِي الحُكُومَةِ، وَالعَائِلَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ، وَالصِّنَاعَةِ، وَالزِّرَاعَةِ)).

وَيَمْضِي فِي غُلُوِّهِ مُحَاوِلًا عَقْدَ صِلَاتٍ مِنَ القَرَابَةِ بَيْنَ لُغَةِ مِصْرَ القَدِيمَةِ، وَاللُّغَةِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ، فَيَزْعُمُ أَنَّ ((بَيْنَ المِصْرِيَّةِ القَدِيمَةِ وَالإِنْجِلِيزِيَّةِ الرَّاهِنَةِ مِئَاتِ الأَلْفَاظِ المُشْتَرَكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى)).

وَيُؤَكِّدُ أَنَّ مِصْرَ غَرْبِيَّةٌ، ((وَلَيْسَ عَلَيْنَا لِلْعَرَبِ أَيُّ وَلَاءٍ، وَإِدْمَانُ الدَّرْسِ لِثَقَافَتِهِمْ مَضْيَعَةٌ لِلشَّبَابِ وَبَعْثَرَةٌ لِقُوَاهُمْ، فَيَجِبُ أَنْ نُعَوِّدَهُمُ الكِتَابَةَ بِالأُسْلُوبِ المِصْرِيِّ الحَدِيثِ، لَا بِأُسْلُوبِ العَرَبِ القَدِيمِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ إِدْمَانَ الدَّرْسِ لِلْعَرَبِ يُشَتِّتُ الأَدَبَ المِصْرِيَّ، وَيَجْعَلُهُ لَا لَوْنَ لَهُ)).

وَيَقُولُ سَلَامَة مُوسَى فِي صَرَاحَةٍ: ((إِنَّ لَنَا مِنَ العَرَبِ أَلْفَاظَهُمْ فَقَطْ، وَلَا أَقُولُ: لُغَتَهُمْ؛ بَلْ لَا أَقُولُ: كُلَّ أَلْفَاظِهِمْ؛ فَإِنَّنَا وَرِثْنَا عَنْهُمْ هَذِهِ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، وَهِيَ لُغَةٌ بَدَوِيَّةٌ لَا تَكَادُ تَكْفُلُ الأَدَاءَ إِذَا تَعَرَّضَتْ لِحَالَةٍ مَدَنِيَّةٍ رَاقِيَةٍ كَتِلْكَ الَّتِي نَعِيشُ بَيْنَ ظَهْرَانيهَا الآنَ)).

وَهُوَ يُعْلِنُ نِقْمَتَهُ عَلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، وَيُنَادِي بِأَنْ يُسَلَّمَ أَمْرُ تَعْلِيمِهَا إِلَى الأَفَنْدِيَّةِ، فَيَقُولُ: ((وَلَكِنَّ تَعْلِيمَ العَرَبِيَّةِ فِي مِصْرَ لَا يَزَالُ فِي أَيْدِي الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَنْقَعُونَ أَدْمِغَتَهُمْ نَقْعًا فِي الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ، أَيْ: ثَقَافَةِ القُرُونِ المُظْلِمَةِ، فَلَا رَجَاءَ لَنَا بِإِصْلَاحِ التَّعْلِيمِ حَتَّى نَمْنَعَ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخَ مِنْهُ، وَنُسَلِّمَهُ لِلْأَفَنْدِيَّةِ الَّذِينَ سَارُوا شَوْطًا بَعِيدًا فِي الثَّقَافَةِ الحَدِيثَةِ)).

وَيَصِلُ إِلَى المَدَى البَعِيدِ فِي الهُجُومِ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ مُوَارَبَةٍ وَلَا حَيَاءٍ، فَيَقُولُ: ((إِذَا كَانَتِ الرَّابِطَةُ الشَّرْقِيَّةُ سَخَافَةً لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَصْلٍ كَاذِبٍ؛ فَإِنَّ الرَّابِطَةَ الدِّينِيَّةَ وَقَاحَةٌ؛ فَإِنَّنَا أَبْنَاءَ القَرْنِ العِشْرِينَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ نَعْتَمِدَ عَلَى الدِّينِ جَامِعَةً تَرْبِطُنَا)).

وَقَدْ نَحَا طَهَ حُسَيْن نَحْوَ سَلَامَة مُوسَى، وَرَدَّدَ كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَكِتَابُهُ ((مُسْتَقْبَل الثَّقَافَة فِي مِصْرَ)) أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ كِتَابِ سَلَامَة مُوسَى، وَأَبْلَغُ أَثَرًا.

وَكِتَابُهُ ((مُسْتَقْبَلُ الثَّقَافَةِ فِي مِصْرَ)) يُرَدُّ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ، هِيَ:

*الدَّعْوَةُ إِلَى حَمْلِ مِصْرَ عَلَى الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وَطَبْعِهَا بِهَا، وَقَطْعِ مَا يَرْبِطُهَا بِقَدِيمِهَا وَإِسْلَامِهَا، فَيَرَى أَنَّ سَبِيلَ النَّهْضَةِ: ((وَاضِحَةٌ بَيِّنَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ وَلَا الْتِوَاءٌ، وَهِيَ: أَنْ نَسِيرَ سِيرَةَ الأُورُبِّيِّينَ، وَنَسْلُكَ طَرِيقَهُمْ؛ لِنَكُونَ لَهُمْ أَنْدَادًا، وَلِنَكُونَ لَهُمْ شُرَكَاءَ فِي الحَضَارَةِ؛ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، حُلْوِهَا وَمُرِّهَا، وَمَا يُحَبُّ مِنْهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَمَا يُحْمَدُ مِنْهَا وَمَا يُعَابُ)).

*الدَّعْوَةُ إِلَى إِقَامَةِ شُئُونِ الحُكْمِ عَلَى أَسَاسٍ مَدَنِيٍّ لَا دَخْلَ فِيهِ لِلدِّينِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَصْرَحَ: دَفْعُ مِصْرَ إِلَى طَرِيقٍ يَنْتَهِي بِهَا إِلَى أَنْ تُصْبِحَ حُكُومَتُهَا لَا دِينِيَّة.

*الدَّعْوَةُ إِلَى إِخْضَاعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِسُنَّةِ التَّطَوُّرِ، وَدَفْعُهَا إِلَى طَرِيقٍ يَنْتَهِي بِاللُّغَةِ الفُصْحَى الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ إِلَى أَنْ تُصْبِحَ لُغَةً دِينِيَّةً فَحَسْبُ؛ كَالسِّرْيَانِيَّةِ، وَالقِبْطِيَّةِ، وَاللَّاتِينِيَّةِ، وَاليُونَانِيَّةِ.

وَهُوَ يُقَرِّرُ ((أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّـةَ عَسِيرَةٌ؛ لِأَنَّ نَحْوَهَا مَا زَالَ قَدِيمًا عَسِيرًا، وَلِأَنَّ كِتَابَتَهَا مَا زَالَتْ قَدِيمَةً عَسِيرَةً)).

لَقَدْ كَانَ طَهَ حُسَيْن يُرَدِّدُ أَصْدَاءَ مَا نَعَقَ بِهِ مُحَمَّد عَبْدُه فِي حَمْلَتِهِ عَلَى تُرَاثِ الأُمَّةِ، فَقَدْ طَعَنَ عَلَى كُتُبِ البَلَاغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ ذَمُّهُ عَلَى كُتُبِ البَلَاغَةِ وَحْدَهَا، بَلْ تَنَاوَلَ الطَّعْنُ الجَارِحُ كُلَّ الكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ تُدَرَّسُ فِي الأَزْهَرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ مِنْ بَلَاغَةٍ، وَفِقْهٍ، وَنَحْوٍ، وَبَقِيَّةِ عُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَالدِّينِ.

وَذَاعَ هَذَا الطَّعْنُ، وَتَنَاقَلَتْهُ أَلْسِنَةُ المُحِيطِينَ بِهِ مِنْ صِغَارِ طَلَبَةِ الأَزْهَرِ، وَطَلَبَةِ المَدَارِسِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطَّوَائِفِ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ صَدْعٍ فِي تُرَاثِ الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَأَوَّلَ دَعْوَةٍ لِإِسْقَاطِ تَارِيخٍ طَوِيلٍ مِنَ التَّأْلِيفِ وَمَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الأُمَّةِ المُتَأَخِّرُونَ إِسْقَاطًا كَامِلًا يَتَدَاوَلُهُ الشَّبَابُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِهِمْ وَهُمْ فِي غَضَارَةِ الشَّبَابِ، لَا يُطِيقُونَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الخَطَأِ وَالصَّوَابِ.

وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى الفَصْلِ فِي المَعْرَكَةِ الَّتِي دَارَتْ بَيْنَ شُيُوخِ الأَزْهَرِ وَمُحَمَّد عَبْدُه، وَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى مَا قَالَهُ فِي التَّجْرِيحِ وَالطَّعْنِ الَّذِي صَدَّهُمْ صَدًّا كَامِلًا أَيْضًا عَنْ هَذِهِ الكُتُبِ، وَأَوْرَثَهُمْ الِاسْتِهَانَةَ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ دَاءٌ وَبِيلٌ يَطْمِسُ الطُّرُقَ المُؤَدِّيَةَ إِلَى العِلْمِ وَالفَهْمِ.

وَجَاءَ طَهَ حُسَيْن بِنَظَرِيَّتِهِ فِي الطَّعْنِ فِي الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ، وَفِي عُلَمَاءِ الأُمَّةِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ مَا تَأَثَّرَ بِهِ مِنْ سَمَاعِ مَا تَنَاقَلَتْهُ أَلْسِنَةُ المُحِيطِينَ بِمُحَمَّد عَبْدُه مِنَ الطَّعْنِ فِي كُتُبِ البَلَاغَةِ وَعُلَمَائِهَا الكِبَارِ بِاسْتِهَانَةٍ وَبِلَا مُبَالَاةٍ، فَوَقَرَتْ هَذِهِ الاسْتِهَانَةُ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهِ، وَنَضَحَتْ نَضْحَهَا عَلَى كُلِّ صَفْحَةٍ مِنْ صَفْحَاتِ كِتَابِهِ ((فِي الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ)).

وَذَهَبَتْ نَظَرِيَّةُ طَهَ حُسَيْن فِي الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ بَدَدًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ مِنَ العِلْمِ وَالنَّظَرِ.

لَقَدْ بَلَغَتْ الِاستِهَانَةُ مَبْلَغَهَا عِنْدَ طَهَ حُسَين، وَتَعَلَّمَتْهَا الأجْيَالُ بَعْدُ، وَاحتَقَرَ أبْنَاءُ الأمَّةِ تُرَاثَهُم، وَاتَّهَمُوهُ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ.

*أَهْدَافُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَامِّيَّةِ:

لَقَدْ نَشَأَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى إِحْلَالِ العَامِّيَّةِ مَحَلَّ العَرَبِيَّةِ فِي أَحْضَانِ الاسْتِعْمَارِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ حِيَلِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا لِخِدْمَةِ وَتَحْقِيقِ أَهْدَافِهِ، وَأَهْدَافُ الدَّعْوَةِ لِلْعَامِّيَّةِ يُمْكِنُ إِيجَازُهَا فِيمَا يَلِي:

*إِبْعَادُ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ الفُصْحَى مُرْتَبِطَةٌ بِالدِّينِ الإِسْلَامِيِّ، بِهَا نَزَلَ القُرْآنُ وَدُوِّنَتْ تَفَاسِيرُهُ، وَبِهَا سُجِّلَتِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَالأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى فَهْمِ القُرْآنِ فَهْمًا سَلِيمًا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى، فَإِذَا تَرَكَهَا المُسْلِمُونَ عَجَزُوا عَنْ فَهْمِ دِينِهِمْ، وَسَهُلَ عَلَى الأَعْدَاءِ إِبْعَادُهُمْ عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ، وَتَشْوِيهُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

*تَجْزِئَةُ العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ -وَالعَرَبِيِّ مِنْهُ خَاصَّةً- بِإِنْشَاءِ قَوْمِيَّاتٍ مَحَلِّيَّةً: العَرَبُ يَتَكَلَّمُونَ لُغَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُمْ مُنْتَمُونَ إِلَى أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا أَصْبَحَ لِكُلِّ إِقْلِيمٍ لُغَتُهُ الخَاصَّةُ المُخْتَلِفَةُ عَنْ لُغَاتِ سَائِرِ الأَقَالِيمِ؛ فَسَيَحْدُثُ لَهُمْ مَا حَدَثَ لِمُتَكَلِّمِي اللُّغَةِ اللَّاتِينِيَّةِ الَّتِي مَاتَتْ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا لَهْجَاتُهَا المُتَعَدِّدَةُ؛ حَيْثُ أَصْبَحَ المُتَحَدِّثُونَ لِلُّغَاتِ الحَدِيثَةِ يَشْعُرُونَ بِالانْتِمَاءِ إِلَى قَوْمِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ بَلْ دَخَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي حُرُوبٍ طَاحِنَةٍ ضِدَّ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَعْدَاءُ الإِسْلَامِ يُرِيدُونَ إِشْغَالَ المُسْلِمِينَ بِنِزَاعَاتٍ مَحَلِّيَّةٍ، وَحُرُوبٍ لَا تَخْدُمُ إِلَّا أَعْدَاءَهُمْ.

*فَصْلُ المُسْلِمِينَ عَنْ تَارِيخِهِمْ وَتُرَاثِهِمْ: فَالتُّرَاثُ كُلُّهُ مُدَوَّنٌ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى، فَإِذَا هَجَرَهَا العَرَبُ وَاسْتَخْدَمُوا العَامِّيَّاتِ مَكَانَهَا؛ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ جِيلٍ أَوْ جِيلَيْنِ سَيَفْقِدُونَ مَعْرِفَتَهُمْ بِهَا، وَسَيَعْجِزُونَ عَنْ قِرَاءَةِ تُرَاثِهِمُ الضَّخْمِ الَّذِي امْتَدَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا؛ بِاسْتِثْنَاءِ قِلَّةٍ مِنْهُمْ، هُمُ الَّذِينَ سَيَتَخَصَّصُونَ فِي دِرَاسَاتِهِمْ بِاعْتِبَارِهَا لُغَةً دِينِيَّةً قَدِيمَةً كَاللَّاتِينِيَّةِ وَالآرَامِيَّةِ، وَسَتُصْبِحُ القَوْمِيَّاتُ المَحَلِّيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُمَمٌ حَدِيثَةُ الحَضَارَةِ؛ لَا جُذُورَ لَهَا، مِمَّا يُمَهِّدُ الطَّرِيقَ أَمَامَ عَمَلِيَّاتِ التَّغْرِيبِ الَّتِي يَرْعَاهَا أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ.

أَمَّا الهُبُوطُ بِلُغَةِ الكِتَابَةِ إِلَى لُغَةِ الحَدِيثِ، وَاسْتِخْدَامُ العَامِّيَّةِ فِي الشُّئُونِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِيهَا الآنَ العَرَبِيَّةُ؛ فَهُوَ حَلٌّ سَاذَجٌ هَدَّامٌ لَا يَكَادُ يَسْتَحِقُّ عَنَاءَ المُنَاقَشَةِ.

وَهُوَ لَا يَقُومُ فِي الوَاقِعِ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الرَّغْبَةِ الآثِمَةِ فِي القَضَاءِ عَلَى أَهَمِّ دِعَامَةٍ مِنْ دَعَائِمِ الثَّقَافَةِ فِي الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى عَدَمِ صَلَاحِيَةِ الفُصْحَى مَنْقُوضَةٌ؛ لِأَنَّ الفُصْحَى مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْقَوَاعِدِ، مُتَنَوِّعَةُ الأَسَالِيبِ بِمَا يُنَاسِبُ المَعَانِيَ البَلَاغِيَّةَ، وَالعَامِّيَّةُ لَا تَتَمَتَّعُ بِذَلِكَ؛ فَالعَامِّيَّةُ تَخْلُو مِنَ العَلَامَاتِ الإِعْرَابِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ تَعْتَمِدُ فِي بَيَانِ عَلَاقَاتِ الجُمَلِ عَلَى المَوْقِعِ الثَّابِتِ لِلْوَظِيفَةِ.

فَلِلْفَاعِلِ مَوْقِعٌ ثَابِتٌ، وَلِلْمَفْعُولِ مَوْقِعٌ ثَابِتٌ أَيْضًا، وَهَكَذَا.

بَيْنَمَا المَوَاقِعُ فِي الفُصْحَى حُرَّةٌ؛ لِاعْتِمَادِهَا عَلَى العَلَامَاتِ الإِعْرَابِيَّةِ فِي بَيَانِ عَلَاقَاتِ الجُمَلِ، فَجَازَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَأُعْطِيَ المَوْقِعُ المُقَدَّمُ دَلَالَةً بَلَاغِيَّةً تَخْتَلِفُ عَنِ المَوْقِعِ المُؤَخَّرِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ المَوَاقِعُ المُفِيدَةُ فِي العَامِّيَّةِ أَكْثَرَ تَضْيِيقًا عَلَى الكَاتِبِ مِنَ المَوَاقِعِ الحُرَّةِ فِي الفُصْحَى.

وَاللَّهْجَاتُ العَامِّيَّةُ فِي تَرَاكِيبِهَا تَعْتَمِدُ عَلَى الطُّرُقِ القَرِيبَةِ السَّاذَجَةِ، وَالأَسَالِيبِ المُبَاشِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ تَخْلُو مِنْ مَظَاهِرِ التَّأَنُّقِ وَالبَلَاغَةِ؛ فَلَهْجَاتُ المُحَادَثَةِ تَقْتَصِرُ فِي العَادَةِ عَلَى الضَّرُورِيِّ، وَتَنْفِرُ مِنَ الكَمَالِيِّ، وَتَنْأَى عَنْ مَظَاهِرِ التَّرَفِ، وَإِلَى هَذَا العَامِلِ يَرْجِعُ السَّبَبُ فِي انْقِرَاضِ آلَافِ الكَلِمَاتِ مِنْ لَهْجَاتِ المُحَادَثَةِ المُعَاصِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ الصُّوَرَ البَلَاغِيَّةَ، وَلَا التَّعَابِيرَ الأُسْلُوبِيَّةَ المُخْتَارَةَ.

وَالنَّاسُ يَفْهَمُونَ الفُصْحَى أَكْثَرَ مِنْ فَهْمِهِمْ لِلَهْجَاتِ الأَقَالِيمِ الأُخْرَى؛ فَالعَامَّةُ يَسْتَمِعُونَ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ بِالفُصْحَى فَيَفْهَمُونَهُ، وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى الخُطَبِ فِي الجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا بِالفُصْحَى فَيَفْهَمُونَهَا، بَيْنَمَا يَفُوتُهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الكَلِمَاتِ.. وَأَحْيَانًا الجُمَلُ وَالمَعَانِي عِنْدَمَا يَسْتَمِعُونَ إِلَى مُتَحَدِّثٍ بِلَهْجَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لَهْجَتِهِمْ، وَالقُصُورُ عِنْدَ العَامَّةِ يَظْهَرُ عِنْدَمَا يُحَاوِلُونَ التَّحَدُّثَ بِالفُصْحَى، وَهَذَا أَمْرٌ يُمْكِنُ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالمُمَارَسَةِ.

وَلَكِنْ مَا دَامَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ رُوحًا وَاحِدًا بِالإِسْلَامِ، وَلِسَانًا وَاحِدًا بِالعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنَّ اسْتِغْلَالَهَا مَوْقُوتٌ وَإِنْ طَالَ، وَإِنَّ نُهُوضَهَا آتٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ.

وَلَا بُدَّ مِنَ التَّخَلِّي عَنِ التَّبَعِيَّةِ المَعِيبَةِ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى أَدَبِنَا لِآدَابِ الغَرْبِ، فَأَسَالِيبُ الكِتَابَةِ اليَوْمَ هِيَ أَسَالِيبُ الكِتَابَةِ فِي الغَرْبِ، وَمَذَاهِبُ الأَدَبِ عِنْدَنَا هِيَ مَذَاهِبُ الأَدَبِ فِي الغَرْبِ.

حَتَّى الرَّمْزِيَّةُ بِنْتُ الأُفُقِ الغَائِمِ، وَالنَّفْسِ المُعَقَّدَةِ، وَاللِّسَانِ المُغَمْغِمِ، يُرِيدُونَ أَنْ تَتَبَنَّاهَا العَرَبِيَّةُ بِنْتُ الصَّحرَاءِ المَكْشُوفَةِ، وَالشَّمْسِ المُشْرِقَةِ، وَالطَّبْعِ الصَّرِيحِ، وَحَتَّى الحَدَاثَةُ وَلِيدَةُ الخُلُقِ المُنْحَلِّ، وَالذَّوْقِ المُنْحَرِفِ، وَالغَرِيزَةِ المُنْفَلِتَةِ، يُحَاوِلُونَ أَنْ تَتَقَبَّلَهَا العَرَبِيَّةُ لُغَةُ الرِّسَالَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتِي كَرَّمَتِ الإِنْسَانَ، وَفَضَّلَتْهُ عَلَى سَائِرِ الحَيَوَانِ بِحُدُودٍ مِنَ الدِّينِ وَالخُلُقِ لَا يَتَعَدَّاهَا وَهُوَ عَاقِلٌ، وَلَا يَتَحَدَّاهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.

وَاللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ جُزْءٌ مِنْ حَقِيقَةِ الإِسْلَامِ، كَانَتْ مُصْطَفَاةً لِوَحْيِ اللهِ، وَلُغَةً لِكِتَابِهِ، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِهِ، وَلِسَانًا لِدَعْوَتِهِ، وَقَدْ هَذَّبَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِحَدِيثِهِ، وَنَشَرَهَا الدِّينُ بِانْتِشَارِهِ، وَخَلَّدَهَا القُرْآنُ بِخُلُودِهِ.

وَالقُرْآنُ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا إِلَّا فِيهَا، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ صَلَاةً إِلَّا بِهَا.

وَالحِكْمَةُ الإِلَهِيَّةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الإِسْلَامَ خَاتَمُ الأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رِسَالَتُهُ تَامَّةً لَا يَلْحَقُهَا نَقْصُ الإِنْسَانِ، وَلَا يَسْبِقُهَا تَطَوُّرُ العَالَمِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لَا يُقْصَدُ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَيْهَا عَصْرٌ دُونَ عَصْرٍ.

وَالنَّتِيجَةُ المَحْتُومَةُ لِهَذَا التَّمَامِ، وَذَاكَ العُمُومِ: أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ كَافَّةً فِي نِظَامٍ رَبَّانِيٍّ وَاحِدٍ، اخْتَارَ لَهُ العَرَبِيَّةَ لِتَكُونَ جُمْعَةَ مَا بَيْنَ الأَلْسُنِ المُخْتَلِفَةِ، وَوُصْلَةَ مَا بَيْنَ القُلُوبِ المُتَبَاعِدَةِ، وَدَلِيلُ هَذَا الاخْتِيَارِ: أَنْ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِهَا، وَتَكَفَّلَ أَنْ يَحْفَظَهَا بِحِفْظِهِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

لِذَلِكَ سَارَتِ العَرَبِيَّةُ مَعَ الفَاتِحِينَ تُخْضِعُ إِلَى سُلْطَانِهَا كُلَّ لُغَةٍ فِي كُلِّ بَلَدٍ حَتَّى أَصْبَحَتْ لُغَةَ الدِّينِ، وَالأَدَبِ، وَالعِلْمِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالإِدَارَةِ، وَالحَضَارَةِ فِي أَكْثَرِ الدُّنْيَا القَدِيمَةِ، وَحَتَّى أَصْبَحَ المُسْلِمُ يَنْتَقِلُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ فِي عَالَمِهِ الإِسْلَامِيِّ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي وَطَنِهِ الأَصْلِيِّ، لَا يَجِدُ مَشَقَّةً فِي التَّفَاهُمِ، وَلَا صُعُوبَةً فِي التَّعَامُلِ، وَلَا شِدَّةً فِي المَعِيشَةِ.

فَلَمَّا وَهَى النِّظَامُ الجَامِعُ، وَانْفَرَطَ العِقْدُ المُنَضَّدُ، وَاخْتَلَفَ اللِّسَانُ المُتَّفِقُ؛ ذَهَبَ المُسْلِمُونَ أَبَادِيدَ، لَا يُنَظِّمُهُمْ مُلْكٌ، وَلَا تُؤَلِّفُ بَيْنَهُمْ وَحْدَةٌ.

وَالسَّبِيلُ القَصْدُ إِلَى تَحْقِيقِ الجَامِعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ العُظْمَى، أَوْ إِعَادَةِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّـةِ الكُبْرَى: هِيَ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ لُغَةً عَامَّةً؛ لِأَنَّ لِلْعَرَبِيَّـةِ مَا لِلْإِسْلَامِ مِنْ قُوَّةِ الِانْتِشَارِ، فَكَمَا أَنَّ الإِسْلَامَ بِرَبَّانِيَّتِهِ، وَوُضُوحِهِ، وَجَمَالِهِ، وَطَبِيعَتِهِ، يَسْرِي فِي النُّفُوسِ مَسْرَى النُّورِ فِي الظَّلَامِ، وَالبُرْءِ فِي السَّقَامِ؛ فَإِنَّ العَرَبِيَّةَ بِحَلَاوَةِ جَرْسِهَا، وَبَلَاغَةِ أُسْلُوبِهَا، وَغِنَى أَدَبِهَا، وَقَدَاسَةِ الوَحْيِ بِهَا تَجْرِي عَلَى الأَلْسِنَةِ مَجْرَى الذِّكْرِ عَلَى القَلْبِ، أَوِ الفِكْرِ فِي الخَاطِرِ.

وَتَارِيخُ العَرَبِ مَعَ القِبْطِيَّةِ فِي مِصْرَ، وَالرُّومِيَّةِ فِي الشَّامِ، وَالفَارِسِيَّةِ فِي العِرَاقِ، وَالبَرْبَرِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّة مَعْرُوفٌ.

وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ سُلْطَانَ العَرَبِ أَوْ تَمَكُّنَ الفَتْحِ هُوَ الَّذِي بَسَطَ لَهَا هَذَا النُّفُوذَ، وَمَكَّنَ لَهَا فِي هَذِهِ الشُّعُوبِ؛ فَإِنَّ اللَّاتِينِيَّةَ غَزَتِ المَغْرِبَ وَالمَشْرِقَ وَكَانَ وَرَاءَهَا إِمْبِرَاطُورِيَّةُ الرُّومَانِ، وَالتُّرْكِيَّةَ غَزَتِ الشَّرْقَ وَكَانَ مِنْ وَرَائِهَا خِلَافَةُ بَنِي عُثْمَانَ، وَمَعَ ذَلِكَ ظَلَّتَا عَلَى تَطَاوُلِ الدَّهْرِ وَاسْتِطَالَةِ القَهْرِ لِسَانًا لِلْإِدَارَةِ وَالجَيْشِ لَا تَتَعَدَّاهُمَا إِلَى البَيْتِ وَالسُّوقِ، فَلَمْ تَغْلِبَا حِينَ طَغَتْ سَطْوَتُهُمَا عَلَى لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ النَّاسِ، وَلَمْ تُمَكَّنَا بَعْدَ أَنْ دَالَتْ دَوْلَتُهُمَا فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ.

إِنَّ اللُّغَةَ الَّتِي أَوْحَى اللهُ بِهَا وَحْيَهُ الْمَعْصُومَ، وَنَطَقَ بِهَا رَسُولُهُ بَيَانَهُ الْهَادِيَ، وَتَحْمِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ عَقِيدَةً وَشَرِيعَةً هِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِسَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

((حَقِيقَةُ الْهُجُومِ عَلَى الْفُصْحَى))

إِنَّ الهُجُومَ عَلَى الفُصْحَى فِي حَقِيقَتِهِ هُجُومٌ عَلَى الإِسْلَامِ وَالأُمَّـةِ العَرَبِيَّـةِ، وَقَدْ تَنَبَّهَ أَبْنَاءُ العَرَبِيَّةِ وَالحَرِيصُونَ عَلَى لُغَتِهِمْ وَدِينِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ إِلَى شُرُورِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ المَاكِرَةِ الخَبِيثَةِ، فَتَصَدَّوا لَهَا بِالنِّقَاشِ وَبَيَانِ خَطَرِهَا، وَتَفْنِيدِ حُجَجِ المُنَادِينَ بِهَا، وَإِبْرَازِ قُصُودِهِمُ الحَقِيقِيَّةِ.

وَالهُبُوطُ بِلُغَةِ الكِتَابَةِ إِلَى لُغَةِ الحَدِيثِ، وَاسْتِخْدَامُ العَامِّيَّةِ فِي الشُّؤُونِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِيهَا الفُصْحَى حَلٌّ سَاذَجٌ لِظَاهِرَةِ الِازْدِوَاجِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَقُومُ فِي الوَاقِعِ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الرَّغْبَةِ الآثِمَةِ فِي القَضَاءِ عَلَى أَهَمِّ دِعَامَةٍ مِنْ دَعَائِمِ الدِّينِ فِي الأُمَمِ العَرَبِيَّـةِ والإسلَامِيَّـةِ.

وَاللُّغَةُ العَامِّيَّةُ الَّتِي يَرَى القَائِلُونَ بِإِحْلَالِهَا مَحَلَّ الفُصْحَى لُغَةٌ فَقِيرَةٌ كُلَّ الفَقْرِ فِي مُفْرَدَاتِهَا، وَلَا يَشْتَمِلُ مَتْنُهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الكَلِمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْحَدِيثِ العَادِيِّ.

وَهِيَ إِلَى ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ أَشَدَّ الاضْطِرَابِ فِي قَوَاعِدِهَا، وَأَسَالِيبِهَا، وَمَعَانِي أَلْفَاظِهَا، وَتَحْدِيدِ وَظَائِفِ الكَلَمِاتِ فِي جُمَلِهَا، وَرَبْطِ الأَلْفَاظِ وَالجُمَلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.

وَأَدَاةٌ هَذَا شَأْنُهَا لَا تَقْوَى مُطْلَقًا عَلَى التَّعْبِيرِ عَنِ المَعَانِي الدَّقِيقَةِ، وَلَا عَنْ حَقَائِقِ العُلُومِ وَالآدَابِ وَالإِنْتَاجِ الفِكْرِيِّ المُنَظَّمِ.

وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّنَا فِي حَدِيثِنَا العَادِيِّ نَفْسِهِ كَثِيرًا مَا نُضْطَرُّ إِلَى اسْتِخْدَامِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى عِنْدَمَا نَكُونُ بِصَدَدِ التَّعْبِيرِ عَنْ حَقَائِقَ مُنَظَّمَةٍ وَأَفْكَارٍ مُسَلْسَلَةٍ، لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ تَبَاهِيًا وَلَا تَفَاصُحًا، وَإِنَّمَا نَفْعَلُهُ مُضْطَرِّينَ اضْطِرَارًا؛ لِأَنَّنَا نَرَى أَنَّ العَامِّيَّةَ لَا تُسْعِفُنَا فِي مُفْرَدَاتِهَا وَلَا فِي قَوَاعِدِهَا بِمَا يَضْبِطُ تَفْكِيرَنَا، وَيَنْقُلُهُ نَقْلًا صَحِيحًا إِلَى الأَذْهَانِ.

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا العَامِّيَّةُ نَسْتَخْدِمُهَا فِي شُؤُونِ تَفْكِيرِنَا وَتَعْبِيرِنَا؛ تَقَطَّعَتْ بِنَا أَسْبَابُ التَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، وَالإِبَانَةِ الوَاضِحَةِ، وَالصِّلَةُ بِمَاضِينَا وَعُلُومِ سَلَفِنَا، وَنَكَصْنَا إِلَى الوَرَاءِ قُرُونًا عَدِيدَةً، وَقُضِيَ عَلَى نَشَاطِنَا الفِكْرِيِّ قَضَاءً مُبْرَمًا؛ لِأَنَّ الفِكْرَ إِذَا لَمْ تُسْعِفْهُ أَدَاةٌ مُوَاتِيَةٌ فِي التَّعْبِيرِ خَمَدَتْ جَذْوَتُهُ، وَضَعُفَ شَأْنُهُ، وَضَاقَ نِطَاقُهُ، وَاقْتَصَرَ نَشَاطُهُ عَلَى تَوَافِهِ البُحُوثِ، وَسَفَاسِفِ التَّأَمُّلَاتِ.

فَاللُّغَةُ هِيَ القَالَبُ الَّذِي يُصَبُّ فِيهِ التَّفْكِيرُ؛ فَكُلَّمَا ضَاقَ هَذَا القَالَبُ، وَاضْطَرَبَتْ أَوْضَاعُهُ؛ ضَاقَ نِطَاقُ الفِكْرِ، وَاخْتَلَّ إِنْتَاجُهُ.

وَاصْطِنَاعُ العَامِّيَّةِ فِي الآدَابِ وَالعُلُومِ وَالكِتَابَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحُولَ -عَاجِلًا أَوْ آجِلًا- بَيْنَ الأَجْيَالِ القَادِمَةِ وَالانْتِفَاعِ بِالتُّرَاثِ العَرَبِيِّ المُدَوَّنِ بِالعَرَبِيَّةِ الفُصْحَى؛ إِذْ تُصْبِحُ هَذِهِ اللُّغَةُ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ إِلَّا لِطَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا، كَمَا يَتَوَفَّرُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الفِرِنْجَةِ الآنَ عَلَى دِرَاسَةِ اللَّاتِينِيَّةِ أَوِ اليُونَانِيَّةِ القَدِيمَةِ.

وَلَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى بَيَانِ الكَارِثَةِ الَّتِي تُصِيبُ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ، وَثَقَافَةَ المُسْلِمِينَ بِضَيَاعِ التُّرَاثِ، وَعَدَمِ الانْتِفَاعِ بِهِ لِمُعْظَمِ المُتَعَلِّمِينَ.

وَاللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ الفُصْحَى مِنْ أَهَمِّ الدِّعَامَاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الآصِرَةُ الإِسْلَامِيَّةُ، وَالرَّابِطَةُ الدِّينِيَّةِ، وَفِي القَضَاءِ عَلَيْهَا قَضَاءٌ عَلَى أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبِطُ شُعُوبَ أُمَّتِنَا بَعْضَهَا بِبَعْضٍ.

وَالهَدَفُ الأَوَّلُ وَالأَخِيرُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ المُحَاوَلَاتِ هُوَ صَرْفُ النَّاسِ عَنِ الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ، وَتَقْلِيلُ العِنَايَةِ بِالمَاضِي العَرَبِيِّ الإِسْلَامِيِّ؛ شِعْرِهِ، وَنَثْرِهِ، وَتَارِيخِهِ، وَعُلُومِهِ، بِزَعْمِ أَنَّهَا قَدْ أَصْبَحَتْ شَيْئًا قَدِيمًا لَا يُلَائِمُ حَيَاتَنَا وَلَا يَتَّصِلُ بِهَا.

وَالجَانِبُ الهَدَّامُ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ هُوَ أَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيقِ المُجْتَمَعِ العَرَبِيِّ؛ بَلْ وَالإِسْلَامِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَنَاهِجِ دِرَاسَةِ العَرَبِيَّةِ وَتَذَوُّقِ أَسَالِيبِهَا.

((اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُجَاهِدَةُ مَنْصُورَةٌ خَالِدَةٌ))

إِنَّ اللُّغَةَ الَّتِي أَوْحَى اللهُ بِهَا وَحْيَهُ المَعْصُومَ، وَنَطَقَ بِهَا رَسُولُهُ بَيَانَهُ الهَادِيَ، وَتَحْمِلُ دِينَ الإِسْلَامِ عَقِيدَةً وَشَرِيعَةً هِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِسَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَاللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ مَرَّتْ بِهَا فَتَرَاتُ ضَعْفٍ فِي الحِفَاظِ عَلَيْهَا، وَالنُّطْقِ بِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا، وَخَرَجَتْ مِنْهَا جَمِيعًا ظَافِرَةً مُنْتَصِرَةً، وَذَلِكَ بِفَضْلِ حِفْظِ اللهِ -تَعَالَى- لَهَا بِحِفْظِهِ -تَعَالَى- لِلْقُرْآنِ المَجِيدِ.

وَمَعَ مَا خَاضَتْهُ العَرَبِيَّةُ المُجَاهِدَةُ مِنْ مَعَارِكَ، وَمَرَّتْ بِهِ مِنْ عَقَبَاتٍ فَقَدْ كَانَتْ دَائِمًا مَنْصُورَةً مُظَفَّرَةً، وَذَلِكَ قَدَرُهَا الَّذِي قَدَّرَ اللهُ لَهَا لَمَّا أَنْزَلَ بِهَا كِتَابَهُ الخَاتَمَ المَجِيدَ.

لَقَدْ كَانَتِ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ أَقْوَى وَسَائِلِ تَبْلِيغِ الإِسْلَامِ لِلشُّعُوبِ المُخْتَلِفَةِ، وَعَرَفَتِ العَرَبِيَّةُ أَوَّلَ احْتِكَاكٍ فِعْلِيٍّ بِاللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَكَانَ مِنَ المَفْرُوضِ أَنْ تَتَأَثَّرَ تَأَثُّرًا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الذَّوَبَانِ فِي اللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ الأُخْرَى؛ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ اللُّغَاتُ مِنْ رُقِيٍّ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ؛ كَالفَارِسِيَّةِ، وَالقِبْطِيَّةِ، وَالرُّومَانِيَّةِ؛ إِلَّا أَنَّهَا أَثَّرَتْ فِي تِلكَ اللُّغَاتِ، وَحَافَظَتْ عَلَى بُنَاهَا بِكَيْفِيَّةٍ تَبْعَثُ عَلَى الاسْتِغْرَابِ لَوْلَا مَعْرِفَةُ السِّرِّ فِي ذَلِكَ؛ وَهُوَ ارْتِبَاطُهَا بِكِتَابِ اللهِ المَحْفُوظِ بِحِفْظِهِ، فَجَعَلَهَا ذَلِكَ تُؤَثِّرُ، وَلَا تَتَأَثَّرُ إِلَّا بِالقَدْرِ الَّذِي لَا يَمَسُّ جَوْهَرَهَا، وَبُنَاهَا الأَصْلِيَّةَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الصِّرَاعَاتِ العَنِيفَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ اللُّغَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي البُلْدَانِ المَفْتُوحَةِ.

وَهَذِهِ الحَقِيقَةُ مِنَ الوُضُوحِ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ النِّقاشَ أَصْلًا، وَلَقَدْ قَرَّرَهَا المُسْتَشْرِقُونَ أَنْفُسُهُمْ، فَقَالَ (يوهان فك): ((إِنَّ العَرَبِيَّةَ الفُصْحَى لَتَدِينُ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا بِمَرْكَزِهَا العَالَمِيِّ لِهَذِهِ الحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا قَدْ قَامَتْ فِي جَمِيعِ البُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الأَقَالِيمِ الدَّاخِلَةِ فِي المُحِيطِ الإِسْلَامِيِّ، رَمْزًا لُغَوِيًّا لِوَحْدَةِ عَالَمِ الإِسْلَامِ فِي الثَّقَافَةِ وَالمَدَنِيَّةِ.

وَلَقَدْ بَرْهَنَ جَبَرُوتُ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ التَّالِدِ الخَالِدِ عَلَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مُحَاوَلَةٍ يُقْصَدُ بِهَا إِلَى زَحْزَحَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى عَنْ مَقَامِهَا المُسَيْطِرِ.

وَإِذَا صَدَقَتِ البَوَادِرُ، وَلَمْ تُخْطِئِ الدَّلَائِلُ؛ فَسَتَحْتَفِظُ أَيْضًا بِهَذَا المَقَامِ العَتِيدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لُغَةُ المَدَنِيَّةِ الإِسْلَامِيَّـةِ مَا بَقِيَتْ هُنَاكَ مَدَنِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ)).

عَلَى أَنَّ الحَرْبَ الدَّائِرَةَ المُسْتَعِرَةَ عَلَى العَرَبِيَّةِ المُجَاهِدَةِ تَنْحَسِرُ مَوْجَاتُهَا عَنْ صَخْرَةِ ارْتِبَاطِ العَرَبِيَّةِ بِكِتَابِ اللهِ العَظِيمِ؛ فَعَلَاقَةُ الإِسْلَامِ بِالعَرَبِيَّةِ عَلَاقَةٌ حَتْمِيَّةٌ، وَمِنْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ عَلَى هَذِهِ العَلَاقَةِ الرَّبَّانِيَّةِ الحَتْمِيَّةِ بَيْنَ الإِسْلَامِ وَالعَرَبِيَّةِ: فَشَلُ كُلِّ المُحَاوَلَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ دَاخِلَ العَالَمِ العَرَبِيِّ وَخَارِجَهُ؛ لِلْقَضَاءِ عَلَى العَرَبِيَّةِ بِتَغْيِيرِ قَوَاعِدِهَا (بِاسْمِ التَّبْسِيطِ)، أَوْ إِجْرَاءِ أَيِّ تَحْوِيلٍ فِي بُنْيَانِهَا (بِاسْمِ الإِصْلَاحِ)، أَوِ اسْتِبْدَالِ حُرُوفِهَا (بِاسْمِ التَّسْهِيلِ)، أَوْ أَيِّ شِعَارٍ آخَرَ مُسْتَحْدَثٍ لِهَذَا الغَرَضِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى كَوْنِهَا لُغَةَ القُرْآنِ العَظِيمِ.

وَقَدْ حُورِبَتِ العَرَبِيَّةُ مِنْ أَعْدَائِهَا لِهَذَا السَّبَبِ، وَحُوفِظَ عَلَيْهَا، وَدَافَعَ عَنْهَا أَبْنَاؤُهَا المُخْلِصُونَ لِلسَّبَبِ نَفْسِهِ، أَيْ: لِأَنَّهَا لُغَةُ كَلَامِ اللهِ، وَلُغَةُ تَأْدِيَةِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ.

وَبِرَغْمِ كُلِّ مَا يَبْذُلُهُ أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ مِنْ جُهُودٍ مُضْنِيَةٍ لِلْقَضَاءِ عَلَى لُغَةِ القُرْآنِ؛ فَقَدْ بَاءَتْ كُلُّ مُحَاوَلَاتِهِمْ بِالفَشَلِ الذَّرِيعِ؛ لِأَنَّ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ عَلَاقَةً خَاصَّةً بِالدِّينِ الإِسْلَامِيِّ تَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ عَلَاقَةِ سَائِرِ اللُّغَاتِ فِي العَالَمِ بِدِيَانَاتِهَا السَّمَاوِيَّةِ أَوِ الوَضْعِيَّةِ.

وَيَرْجِعُ السَّبَبُ الرَّئِيسُ لِهَذِهِ العَلَاقَةِ إِلَى نُزُولِ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَمَا نَجَمَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرِ المُسْلِمِينَ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِتَقْدِيسِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرِ النَّاسِ لِشَيءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ يَتَطَلَّبُ بِالضَّرُورَةِ فَهْمَهُ وَالمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ.

ارْتَبَطَتِ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ ارْتِبَاطًا قَوِيًّا بِالإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ فَهْمِ العَقِيدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَوَسِيلَةُ المُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لِهَذِهِ العَقِيدَةِ مُعْتَنِقُونَ فِي الدُّنْيَا.

وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ فَإِنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَبْرَحَ الجَزِيرَةَ العَرَبِيَّةَ، وَلَا أَنْ تَكْتَسِحَ الأَقْطَارَ المُجَاوِرَةَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَتَنْتَشِرَ فِيهَا، وَتُؤَثِّرَ فِي لُغَاتِهَا، أَوْ تَحُلَّ مَحَلَّهَا بِالسُّرْعَةِ وَالكَيْفِيَّةِ الَّتِي عَرفَهَا صَدْرُ الإِسْلَامِ لَوْلَا أَنَّهَا لُغَةُ القُرْآنِ وَلُغَةُ الإِسْلَامِ.

لَقَدْ كَانَ الإِسْلَامُ دَفْعًا جَدِيدًا لِرُقِيِّ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ هَذَا الدَّفْعُ عَلَى يَدِ القُرْآنِ نَسَقًا جَدِيدًا فِي التَّعْبِيرِ، وَكَانَ القُرْآنُ الرَّابِطَ الأَقْوَى بَيْنَ اللُّغَةِ وَالدِّينِ.

فَمَا يَقُولُهُ القُرْآنُ يُصْبِحُ القَاعِدَةَ وَالمِعْيَارَ؛ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عَهْدٌ بِهِ؛ فَالقُرْآنُ هُوَ الفَيْصَلُ فِي الدِّينِ وَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.

((جَاهِدُوا فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مِنْ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ!))

اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّنَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَارِبَ فِي الْمَيَادِينِ النَّظِيفَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَلَّا نُهْدِرَ الطَّاقَاتِ مُبَدَّدَةً فِي كُلِّ سَبِيلٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ حَرْبَ هَذَا الدِّينِ قَائِمَةٌ مُعْلَنَةٌ وَخَافِيَةٌ، حَالُهَا أَنَّهَا مُعْلَنَةٌ، وَحَالُهَا أَنَّهَا خَافِيَةٌ، وَيُحَارَبُ بِهَذَا وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ.

اخْتَلَفَ تَصَوُّرُ الْمُسْلِمِ، تَفَكَّكَ نَسِيجُ إِحْسَاسِهِ بِحَيْثُ صَارَ مُوَزَّعًا مُمَزَّقَ الْأَدِيمِ، مَهَلْهَلَ الْوِجْدَانِ، تَهَرَّأَ تَمَاسُكُهُ، وَصَارَ التَّنَازُعُ فِي قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ وَرُوحِهِ وَعَقْلِهِ قَائِمًا بَيْنَ ثَوابِتِهِ وَمُسْتَجَدَّاتِ عَصْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّهَا دَخِيلَةً عَلَيْهِ، مُتَسَلِّلَةً بِالْبَاطِلِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا رَكَنَ إِلَى الدَّعَةِ، وَأَخْلَدَ إِلَى الْبَاطِلِ، فَكَانَ مَا كَانَ، يَتَعَامَلُ مَعَ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَا يَفْقَهُ مِنْهُ حَرْفًا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَيَسْمَعُ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَيَفْهَمُ مِنْهُ غَيْرَ الْمُرَادِ، صَارَ الدِّينُ -كَمَا تَرَوْنَ- مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ، يَخْتَلِفُونَ وَلَا يَدْرِي الْمُتَلَقِّي لِمَ يَخْتَلِفُونَ، وَلَمْ يُحْكِمُوا الصَّنْعَةَ، فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ، وَهِيَ نَتِيجَةٌ حَتْمِيَّةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا مَنْ أَخَذَ بِمُقَدِّمَاتِهَا، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَتَخَالَفَ الْمُقَدِّمَاتُ عَنْ نَتَائِجِهَا الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ نَتَائِجَهَا.

فَهَذَا مَيْدَانٌ مِنْ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُمْ حَرِيصُونَ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِيهِ سَلْبًا لَا إِيجَابًا، يُحَارِبُونَ الدِّينَ بِحَرْبِ لُغَتِهِ، وَيُحَارِبُونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِهَا، وَأَنْطَقَ النَّبِيَّ ﷺ بِهَا، وَعَلَّمَ الْأُمَّةَ بَيَانَهَا، وَعَلَّمَ الْأُمَّةَ بَلَاغَتَهَا وَفَصَاحَتَهَا، وَآتَاهُ اللهُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَصِرْنَا بِحَيْثُ تَعْلَمُونَ.

إِنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ دِفَاعٌ عَنْ كِيَانِ أُمَّةٍ بِرُمَّتِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَتْكِ الْأَسْتَارِ الْمُسْدَلَةِ الَّتِي عَمِلَ مِنْ وَرَائِهَا رِجَالٌ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَزَالُ رِجَالٌ يَعْمَلُونَ مِنْ وَرَائِهَا، اخْتَارَتْهُمُ ((الثَّقَافَةُ الْغَرْبِيَّةُ الْوَثَنِيَّةُ النَّصْرَانِيَّةُ))؛ لِيُحَقِّقُوا لِهَذِهِ الثَّقَافَةِ غَلَبَةً عَلَى عُقُولِنَا، وَعَلَى مُجْتَمَعِنَا، وَعَلَى حَيَاتِنَا، وَعَلَى ثَقَافَتِنَا، وَعَلَى تُرَاثِنَا، وَبِهَذِهِ الْغَلَبَةِ يَتِمُّ انْهِيَارُ الْكِيَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي بَنَاهُ آبَاؤُنَا فِي قُرُونٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَصَحَّحُوا بِهِ فَسَادَ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي نَوَاحِيهَا الدِّينِيَّةِ، وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْأَدَبِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَالْعَمَلِيَّةِ، وَالْفِكْرِيَّةِ، وَرَدُّوهَا إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ كِتَاب: ((فَضْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَوُجُوبُ تَعَلُّمِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ)) [ص: 6-7].

((الْحَرْبُ عَلَى الْهُوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَا شَكَّ أَنَّ لُغَةَ الْقُرْآنِ تَجْمَعُ تُرَاثَ الْأُمَّةِ وَتَحْفَظُهُ، وَتَسْتَوْعِبُ مُقَوِّمَاتِ الْفِكْرِ وَالثَّقَافَةِ عَلَي مَرِّ التَّارِيخِ ، وَتَضْمَنُ لِفِكْرِ الْأُمَّةِ الْبَقَاءَ وَالْخُلُودَ، وَأَنَّ وُجُودَ الْأُمَمِ مُرْتَبِطٌ بِوُجُودِ لُغَتِهَا؛ فَالِاهْتِمَامُ بِاللُّغَةِ يُعَدُّ مُؤَشِّرًا مِنْ مُؤَشِّرَاتِ الِاهْتِمَامِ بِالْهُوِيَّةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَاللُّغَةُ هِيَ الْمُعَبِّرَةُ عَنْ وِحْدَةِ الصَّفِّ، وَوِحْدَةِ الْهَدَفِ، وَوِحْدَةِ الْفِكْرِ، كَمَا أَنَّ اللُّغَةَ هِيَ الْوِعَاءُ الثَّقَافِيُّ الْأَهَمُّ لِأَيِّ أُمَّةٍ أَوْ ثَقَافَةٍ.

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْيَقَظَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِكُلِّ مُحَاوَلَاتِ تَذْوِيبِ الْهُوِيَّةِ، وَالْعَمَلِ الْجَادِّ عَلَى تَقْوِيَةِ مَنَاعَتِنَا الْحَضَارِيَّةِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّجْرِيفِ الْعَاتِيَةِ، مِنْ خِلَالِ الِاحْتِفَاءِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَالْعِنَايَةِ بِهَا؛ فَهِيَ مِفْتَاحُ هُوِيَّتِنَا، وَالِاعْتِزَازُ بِهَا اعْتِزَازٌ بِالْهُوِيَّةِ، وَخِدْمَتُهَا خِدْمَةٌ لِلدِّينِ وَالْوَطَنِ.

إِنَّ كُلَّ مَنْ حَاوَلَ أَنْ يَصْرِفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ لُغَتِهِمْ فَإِنَّهُ -لَا شَكَّ- خَبِيثُ النِّيَّةِ، غَيْرُ سَلِيمِ الطَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُنْتَهَى سَيُؤَدِّي إِلَى عَزْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ لَا مَحَالَةَ؛ بَلْ إِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ تِلْكَ الشَّوَائِبِ الَّتِي جَاءَتْ بِتِلْكَ الْأَعَاصِيرِ الْمُرَّةِ مَعَ ذَلِكَ الْغَزْوِ الِاسْتِعْمَارِيِّ.. تِلْكَ الشَّوَائِبُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى يَدِ طَهَ حُسَيْن وَأَمْثَالِهِ، مِمَّا أَخَذُوهُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَشْرِقِينَ الَّذِين تَرَدَّوْا بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَهْدِمُوهُ، وَالَّذِينَ تَسَلَّلُوا إِلَى هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى صَارَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَنْ يُسَافِرُ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِ؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ عَلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ لَدُنْ هَؤُلَاءِ!!

بَلْ أَزِيدُكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ لَدُنْ هَؤُلَاءِ، وَمِنْهُمْ كُلُّ يَهُودِيٍّ حَاقِدٍ، وَكُلُّ كَافِرٍ وَمَاكِرٍ وَمَاجِنٍ، وَمَا يَسْلَمُ لَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَظَلُّونَ مُقِيمِينَ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ، وَالَّذِي هُنَالِكَ مِنْ خَبِيءٍ إِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ هَؤُلَاءِ الْعَبَثَ بِتِلْكَ النُّصُوصِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي خَلَّفَتْهَا لَنَا هَذِهِ الْحَضَارَةُ الْمُنِيفَةُ -حَضَارَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ- الَّتِي أُسِّسَتْ أَوَّلَ مَا أُسِّسَتْ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا بَدَأُوا إِنَّمَا كَانَ بَدْؤُهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَكْرِ وَالتَّسَلُّلِ مَا فِيهِ!!

عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَبِهَ إِلَى أَصْلِ الدَّاءِ؛ فَالْمَعْرَكَةُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ إِنَّمَا تَدُورُ فِي الْأَنْفُسِ، فِي الْقُلُوبِ، فِي الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ؛ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ وَالْعُقُولَ قَدِ اسْتُلِبَتْ، وَفُرِّغَ مَا فِيهَا مِنْ تُرَاثِهَا وَتَارِيخِهَا، وَاعْتِزَازِهَا بِأَمْجَادِ أَسْلَافِهَا، وَانْتِمَائِهَا إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهَا، وَأَخْذِهَا بِتَوْحِيدِ رَبِّهَا وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهَا؛ فُرِّغَتْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَمُلِئَتْ بِحَشْوٍ فَارِغٍ لَا طَائِلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْفَلْسَفَاتِ، وَمِنْ تِلْكَ الْوَارِدَاتِ مِنَ الْأَخْلَاقِيَّاتِ الْمَرِيضَةِ الَّتِي هِيَ مُؤَسَّسَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ -وَلَا تَنْسَ هَذِهِ: إِنَّمَا هِي مُؤَسَّسَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ- عَلَى الْوَثَنِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ.

هَذَا تُرَاثُهُمْ، هَذَا مَاضِيهِمْ: الْحَضَارَةُ الْيُونَانِيَّةُ، الْحَضَارَةُ الْإِغْرِيقِيَّةُ: (زُيُوس) كَبِيرُ الْآلِهَةِ عَلَى قِمَّةِ جَبَلِ الْأُولِمْب، وَحَوْلَهُ الْآلِهَةُ، كُلُّ إِلَهٍ لَهُ اخْتِصَاصٌ!

وَإِلَهَاتٌ يَخُنَّ الْأَزْوَاجَ مِنَ الْآلِهَةِ، وَتَحْمَلُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ مِنْ إِنْسِيٍّ سِفَاحًا وَبِغَاءً، وَتَلِدُ نِصْفَ إِلَهٍ!!

أَيُّ عَبَثٍ هَذَا؟!!

هَذَا مَا يُرَادُ لِلْبَشَرِيَّةِ أَنْ تُؤَسَّسَ فِي فِكْرِهَا عَلَيْهِ؟!!

نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوَجَّهَةً إِلَى الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى كُلِّ قِيمَةٍ أَتَى بِهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

لِكَيْ يُقِيمَ النُّورَانِيُّونَ الْمَمْلَكَةَ الْعُظْمَى لِـ(يَهُوذَا)، لِكَيْ يُقِيمُوا مَمْلَكَةَ الرَّبِّ، وَلِكَيْ يَخْرُجَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ لِيَحْكُمَ الْأَرْضَ -بِزَعْمِهِمْ-!!

الْأَمْرُ عَمِيقٌ جِدًّا، تَعَلَّمُوا فَلَا وَقْتَ هُنَالِكَ.

كَادَ الْمُجْتَمَعُ أَنْ يَتَصَدَّعَ -وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.

انْتَبِهُوا! إِنَّمَا تَتَوَحَّدُونَ حَوْلَ كِتَاب اللَّـهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ.

لَقَدِ اسْتَطَاعَ أعْدَاءُ الإسْلَامِ أنْ يُفَرِّغُوا أجْيَالًا مِنْ مَضْمُونِهَا، وَأنْ يَقْطَعُوا صِلَتَهَا بِتُرَاثِهَا.

((وَالجِيلُ الَّذِي يُعَدُّ لِلْغَدِ المُبْهَمِ المَمْلُوءِ بِالمَخَاطِرِ التِي غَرَسَهَا اليَهُودُ لَهُ فِي كُلِّ شَقٍّ، وَتَحْتَ مَوْضِعِ كُلِّ قَدَمٍ فِي أشَدِّ الحَاجَةِ إلَى أنْ يَفْتَحَ صَفْحَاتِ المَعْرِفَةِ التِي تَدُلُّهُ عَلَى طَرَائِقِ بِنَاءِ المَعْرِفَةِ، وَكَيفَ استَنْبَتَ العُلَمَاءُ عُلُومَهُمْ، وَكَيفَ استَخْرَجُوا مِنَ النَّوَاةِ المَطْرُوحَةِ نَخْلَةً سَامِقَةً، وَكَيفَ عَرَفُوا البُذُورَ الَّتِي تَطْوِي فِي ضَآلتِهَا الشَّجَرَ الطَّيِّبَ.

لَا بُدَّ أنْ يَخْرُجَ عَقْلُ هَذَا الجِيلِ مِنَ السِّرْدَابِ الضَّيِّقِ العَفِنِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ رِجَالٌ لَمْ يَتَّقُوا اللهَ فِيهِ حِينَ أقْنَعُوهُ بِأنَّ تَطَوُّرَهُ، وَتَقَدُّمَهُ، وَنُهُوضَهُ، وَتَنْوِيرَهُ، وَتَجدِيدَهُ.. كُلُّ ذَلِكَ مَوقُوفٌ عَلَى أخْذِهِ عَنِ الآخَرِينَ، وَاصطِنَاعِهِ عُلُومَهُم وَمَنَاهِجَهُم، وَصَرَفُوهُ عَنِ استِنْبَاطِ المَعْرِفَةِ، وَأقنَعُوهُ بِأنَّ عُلُومَهُ عُلُومٌ قَدِيمَةٌ، ومُفَرَّغَةٌ، وَلَيسَ فِيهَا عَطَاءٌ.

لَقَدْ دَخَلَتْ تِلْكَ الأجْيَالُ ذَلِكَ السِّرْدَابَ الخَانِقَ وَهِيَ مُغْتَبطَةٌ بِهِ، مُعْتَقِدَةٌ أنَّهَا حِينَ تَنْقُلُ عُلُومَ الآخَرِينَ وَمَا تَيَسَّرَ لَهَا مِنْهَا فَقَدْ تَطَوَّرتْ، وَتَنَوَّرَتْ، وَعَاشَتْ زَمَانَهَا، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ ما عَاشَتْ إلَّا الزَّمَانَ الذِي صَنَعَهُ غَيرُهَا.

وَهَكَذَا بَقِيَ العَقْلُ العَرَبِيُّ المُسْلِمُ مَكْفُوفًا عَنِ الجِدِّ، وَالكَدْحِ، وَالقَدْحِ، وَمَا عَلَيهِ إلَّا أنْ يَنْتَظِرَ ريثَمَا يَفْرُغُ الآخَرُونَ مِنْ تَحرِيرِ أفْكَارِهِم وَنَظَرِيَّاتِهِم، ثُمَّ يَقبِسُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُطِيقُ قَبْسَهُ، وَيُسَمِّي هَذَا المُقتَبَسَ إبْدَاعًا!!)).

لَقَدْ غُيِّبتْ عُلُومُنَا تَغْيِيبًا كَامِلًا فِي تَرْبِيَةِ الأجْيَالِ وَإعْدَادِ الرِّجَالِ، فَلَمْ يَتَحَمَّسْ أحَدٌ لَهَا، وَأغْفَلُوا مَا جَهِلُوا، وَتَغْيِيبُ عُلُومِنَا فِي تَرْبِيَةِ أجْيَالِنَا لَمْ يَحْدُثْ فِي تَارِيخِ الأمَمِ كُلِّهَا، وَقَدْ حَدَثَ عِنْدَنَا بِصُورَةٍ بَشِعَةٍ؛ حَتَّى إنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ مِنَّا يَطَّلِعُ عَلَى عُلُومِ الأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا عُلُومَ أمَّتِهِ، وَكَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَهَا دُونَ الأُمَمِ بِلَا تُرَاثٍ، وَأنْشَأهَا بِعَقْلٍ مَمْسُوحٍ!!

لَقَدْ وَقَعَتِ القَطِيعَةُ العِلْمِيَّةُ بَينَ أبنَاءِ الأمَّةِ وَتُرَاثِهَا، وَالأُمَمُ كُلُّهَا عَلَى غَيرِ هَذَا، وَالعَقْلُ الأُورُبِّيُّ وَالفِكْرُ الغَرْبِيُّ مِنْ أشَدِّ خَلْقِ اللهِ تَشَبُّثًا بِالقَدِيمِ فِي كُلِّ صُوَرِهِ؛ مِنْ عَادَاتٍ، وَأفْكَارٍ، وَعَقَائِدَ، وَدِيَانَاتٍ، وَفَلْسَفَاتٍ.

((لَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَاتُ الهَدَّامَةُ الَّتِي تَسْتَهْدِفُ قَتْلَ العَرَبِيَّةِ الفَصِيحَةِ مَحْصُورَةً فِي ثَلَاثِ شُعَبٍ: تَتَنَاوَلُ أُولَاهَا: اللُّغَةَ، فَيُطَالِبُ بَعْضُهَا بِإِصْلَاحِ قَوَاعِدِهَا، وَيُطَالِبُ بَعْضُهَا الآخَرُ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِلَى العَامِّيَّةِ.

وَتَتَنَاوَلُ ثَانِيَتُهَا: الكِتَابَةَ، فَيَدْعُو بَعْضُهَا إِلَى إِصْلَاحِ قَوَاعِدِهَا، وَيَدْعُو بَعْضُهَا الآخَرُ لِلتَّحَوُّلِ عَنْهَا إِلَى الحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ.

وَتَتَنَاوَلُ الشُّعْبَةُ الثَّالِثَةُ: الأَدَبَ، فَيَدْعُو بَعْضُهَا إِلَى العِنَايَةِ بِالآدَابِ الحَدِيثَةِ، وَمَا يَتَّصِلُ مِنْهَا بِالقَوْمِيَّةِ خَاصَّةً، وَيَدْعُو بَعْضُهَا الآخَرُ إِلَى العِنَايَةِ بِمَا يُسَمُّونَهُ (الأَدَبَ الشَّعْبِيَّ).

وَيَقْصِدُونَ بِهِ كُلَّ مَا هُوَ مُتَدَاوَلٌ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ الفَصِيحَةِ، مِمَّا يَخْتَلِفُ فِي البَلَدِ الوَاحِدِ بِاخْتِلَافِ القُرَى، وَبِتَعَدُّدِ البِيئَاتِ)).

لَقَدْ حَاوَلَ الهَدَّامُونَ مِنْ دُعَاةِ العَامِّيَّةِ صَرْفَ أَبْنَاءِ الأُمَّةِ عَن الاهْتِمَامِ بِالأَدَبِ العَرَبِيِّ القَدِيمِ، فَدَعَوْا تَارَةً إِلَى أَنْ تُخَصَّ الآدَابُ القَوْمِيَّةُ بِمَزِيدٍ مِنْ عِنَايَةِ الدَّارِسِينَ، فَتُعْنَى مِصْرُ بِالأَدَبِ المِصْرِيِّ، وَيُعْنَى العِرَاقُ بِالأَدَبِ العِرَاقِيِّ، وَيُعْنَى الشَّامُ بِالأَدَبِ الشَّامِيِّ.

وَدَعَوْا تَارَةً إِلَى تَوْجِيهِ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ لِلآدَابِ الحَدِيثَةِ.

وَدَعَوْا تَارَةً أُخْرَى إِلَى العِنَايَةِ بِمَا يَحْلُو لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يُسَمِّيَهُ ((الأَدَبَ الشَّعْبِيَّ)).

فَإِذَا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْ دِرَاسَةِ الأَدَبِ العَرَبِيِّ القَدِيمِ، وَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ فِي دِرَاسَةِ آدَابِ بَلَدِهِ، أَوْ فِي دِرَاسَةِ الآدَابِ الحَدِيثَةِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِالآدَابِ الشَّعْبِيَّةِ؛ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ثَقَافَاتِ الجِيلِ القَادِمِ مِنَ العَرَبِ؛ بَلِ المُسْلِمِينَ.

وَهَذَا القَدْرُ المُشْتَرَكُ مِنَ الثَّقَافَةِ هُوَ الَّذِي يُكَوِّنُ القَدْرَ المُشْتَرَكَ مِنَ الذَّوْقِ وَمِنَ التَّفْكِيرِ الَّذِي لَا تَفَاهُمَ وَلَا تَوَاصُلَ بِغَيْرِهِ.

وَإِذَا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْ دِرَاسَةِ عُلُومِ الآدَابِ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ؛ كَالنَّحْوِ وَالبَلَاغَةِ، وَجَرَوْا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ بِزَعْمِ أَنَّ القَوَاعِدَ مُعَقَّدَةٌ، وَذَهَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدَ جَدِيدَةٍ، وَتَسْمِيَةِ المُسَمَّيَاتِ بِأَسْمَاءٍ مُبْتَكَرَةٍ؛ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدُهُمْ عَنِ الآخَرِ.

لَقَدْ كَانَتِ الدَّعْوَاتُ الهَدَّامَةُ كُلُّهَا تَسْتَهْدِفُ غَايَتَيْنِ:

*تَفْرِيقُ المُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَالعَرَبِ خَاصَّةً؛ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي الدِّينِ، وَتَفْرِيقِهِمْ فِي اللُّغَةِ، وَتَفْرِيقِهِمْ فِي الثَّقَافَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى تَوَسُّعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ المُحْتَمَلِ بَيْنَ مُسْلِمِي العَالَمِ؛ حَتَّى لَا تَتِمَّ وَحْدَتُهُمُ الكَامِلَةُ.

وَالمُسْلِمُونَ لَا يَصِيرُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً حَتَّى تَكُونَ لُغَتُهُمْ وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ العَرَبِيَّةَ الآنَ يُنَادُونَ بِالتَّخَلِّي عَنْهَا؛ فَلِأَيِّ شَيءٍ يَتَعَلَّمُهَا الَّذِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَهَا، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا لِيَتَيَسَّرَ لَهُمُ التَّفَاهُمُ مَعَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَهَا؟

وَالعَجَبُ أَنَّنَا نُطَالِبُ بِالاعْتِرَافِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ فِي المَجَامِعِ الدَّوْلِيَّةِ؛ فَأَيُّ هَذِهِ اللَّهْجَاتِ فِي زَعْمِ دُعَاةِ السُّوقِيَّةِ يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ اللُّغَةَ المُعْتَرَفَ بِهَا؟!!

*قَطْعُ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَدِيمِهِمْ، وَالحُكْمُ عَلَى كِتَابِهِمْ -القُرْآنِ العَظِيمِ- وَكُلِّ تُرَاثِهِمْ بِالمَوْتِ؛ لِأَنَّ هَذَا القَدِيمَ المُشْتَرَكَ هُوَ الَّذِي يَرْبِطُهُمْ، وَيَضُمُّ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ.

لَقَدْ شَوَّهَ أَقْوَامٌ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا تُرَاثَنَا، وَتَارِيخَنَا، وَلُغَتَنَا، وَلَوْ كَانَ الْقَائِمُ عَلَى تَوْجِيهِ الْعَقْلِ الْعَرَبِيِّ يَهُودًا مَا وَصَلُوا بِهِ إِلَى أَبْشَعِ مِنْ ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَكَيْفَ نَحْمِي كِيَانًا كَرِهْنَاهُ، وَتَارِيخًا دَنَّسْنَاهُ، وَتُرَاثًا ازْدَرَيْنَاهُ، وَأُمَّةً صَوَّرَتْهَا لَنَا الدِّرَاسَاتُ الضَّارَّةُ فِي صُورَةِ شَرِّ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَجْهَلِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَجْفَى أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟!!

لَقَدْ صَوَّرُوا أَدَبَ الْأُمَّةِ فِي صُورَةِ أَدَبٍ سَطْحِيٍّ سَاذَجٍ، وَعِلْمَهَا كَعِلْمِ حَلَّاقِ الْقَرْيَةِ، وَنَحْوَهَا مَبْنِيًّا عَلَى شَوَاهِدِ زُورٍ، وَشِعْرَهَا مَزَامِيرَ فِي زَفَّةِ نِفَاقٍ...

إِنَّ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ اللُّغَةُ، تُفْضِي إِلَى آفَاقٍ رَحْبَةٍ مِنَ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْفَهْمِ الْقَوِيمِ لِكِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- الْعَظِيمِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ.

لُغَةُ الْعِلْمِ هِيَ لُغَةُ الْعِلْمِ، وَكُلُّ الَّذِي يُحَاوِلُ أَنْ يَحْرِفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ لُغَةِ الْعِلْمِ وَعَنِ النُّفُوذِ وَالنَّفَاذِ إِلَى الْمُحْتَوَى الْعِلْمِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْفَذَ إِلَيْهِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ حَلِّ رُمُوزِ الْقِشْرَةِ الَّتِي تَحْوِي هَذَا الْمُحْتَوَى الْعِلْمِيَّ وَهِيَ هَذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ.. كُلُّ مَنْ حَاوَلَ أَنْ يَثْنِيَ الْأُمَّةَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ فَهُوَ عَدُوٌّ للهِ وَرَسُولِهِ -كَائِنًا مَنْ كَانَ- لِمَ؟

يَقُولُ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَنْ يُصْلَحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلُحَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا)).

وَيَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ دِينًا)).

وَإِذَنْ؛ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا صَلُحَتْ فِي بَدْءِ أَمْرِهَا عَلَى كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا.

وَالْيَوْمَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ لَا مَخْلَصَ وَلَا مَنْجَى إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنْ بِأَيِّ مُحْتَوًى وَبِأَيِّ لُغَةٍ؟!!

بِهَذِهِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَالَّتِي نَطَقَ بِهَا مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ ﷺ.

((اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ شَرَفُ الْأُمَّةِ.. تَعَلَّمُوهَا!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مُنْذُ صَدَعَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرِ رَبِّهِ فَقَامَ مُبَلِّغًا رِسَالَتَهُ، وَالصِّرَاعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمِلَلِ الْكَافِرَةِ وَالنِّحَلِ الْفَاسِدَةِ مُسْتَعِرٌ لَا تَنْطَفِئُ لَهُ جَذْوَةٌ، مُحْتَدِمٌ لَا تَهْدَأُ لَهُ ثَوْرَةٌ.

وَلَقَدْ كَانَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ أَهَمِّ مَيَادِينِ الصِّرَاعِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَخُصُومِهِ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلُغَةُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

الْعَرَبِيَّةُ رَحِمٌ..

وَالْعَرَبِيَّةُ عِرْضٌ..

الْعَرَبِيَّةُ شَرَفُ الْأُمَّةِ..

وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ الْأُمَّةِ فَأَخَذُوا يَؤُزُّونَ مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَوِّجُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا تَقَدُّمَ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِطَرْحِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَنَبْذِ الْفُصْحَى، مَعَ الْإِقْدَامِ بَعْدُ عَلَى عَامِّيَّاتِ الْأَقْوَامِ!!

وَيَا للهِ الْعَجَب! إِنَّ الْقُطْرَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ لَهْجَاتُ قَاطِنِيهِ، بَلْ إِنَّ الْمَدِينَةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُتَرَامِيَةَ الْأَطْرَافِ، مُتَشَعِّبَةَ الْأَكْنَافِ تَخْتَلِفُ لَهْجَاتُ قَاطِنِيهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِمْ فِيهَا، وَهُمْ فِي مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ إِذَا تَرَامَتِ الْأُمَّةُ؟!!

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدَعَ لُغَتَهُ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بِحَقٍّ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

الْعَرَبِيَّةُ الْمُجَاهِدَةُ فِي صِرَاعِهَا وَفِي كِفَاحِهَا مَنْصُورَةٌ مُؤَزَّرَةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَكَفَّلَ بِحِفْظِهَا، وَلَوْلَا الْقُرْآنُ مَا كَانَتْ عَرَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا أَبْقَاهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَكَفَّلَ بِحِفْظِ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}.

فَحَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اللُّغَةَ وَإِنْ فَرَّطَ فِيهَا أَبْنَاؤُهَا، فَرَّطُوا فِي عِرْضِهِمْ، بَلْ دَلُّوا عَلَيْهِ كُلَّ ذِئْبٍ ضَارٍ، وَكُلَّ مُجْرِمٍ سَافِلٍ، فَتَرَكُوا النُّطْقَ بِهَا، بَلْ أَشَاعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ اللُّغَةَ فِي وُعُورَتِهَا وَفِي حُوشِيَّتِهَا وَفِي صُعُوبَتِهَا لَا تَصْلُحُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ، مَعَ أَنَّ يَهُودَ -عَامَلَهُمُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللهِ- وَلُغَتُهُمْ لُغَةٌ مَيِّتَةٌ، لَيْسَ لَهَا قِيمَةٌ، صَارَتْ هَمَلًا، وَهُمْ شُذَّاذُ الْآفَاقِ، وَقُطَّاعُ الطُّرُقِ، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا كَالدُّمُّلِ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ؛ أَحْيَوْا مَا مَاتَ مِنْ لُغَتِهِمْ، حَتَّى صَارُوا نَاطِقِينَ بِهَا، كَاتِبِينَ بِهَا، مُفَكِّرِينَ بِهَا، وَصَارَتْ لُغَةَ عِلْمِ الذَّرَّةِ، وَالْفَلَكِ وَالْمَجَرَّةِ، وَصَارَتْ لُغَةَ الطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ، فَهِيَ لُغَةُ الْعُلُومِ عِنْدَهُمْ، وَهِيَ لُغَةٌ مَيِّتَةٌ، لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ لَهْجَةً مِنْ لَهْجَاتِ الْعَامِّيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنْ وَجَدَتْ مَنْ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهَا حِيَاطَةً لَهَا، وَفَرَّطَ الْأَمَاجِدُ الْكُرَمَاءُ فَضَيَّعُوا الْأَمَانَةَ، وَأَذَلُّوا أَنْفُسَهُمْ، وَتَرَاطَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاحْتَقَرُوا لُغَتَهُمْ، وَهِيَ لُغَةُ كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَهِيَ لُغَةُ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

وَلَوْ كَانَتْ لُغَةٌ أَشْرَفَ مِنْهَا لَأَنْزَلَ اللهُ بِهَا كِتَابَهُ، وَلَكِنْ صُفِّيَتْ وَهُذِّبَتْ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْوَحْيِ حَتَّى صَارَتْ مُصَفَّاةً مُبَرَّأَةً مِنَ الْعُيُوبِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا الْكِتَابَ الْمَجِيدَ الْخَاتَمَ عَلَى النَّبِيِّ الْخَاتَمَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- عَلَى خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

الْعَرَبِيَّةُ صِيَانَتُهَا صِيَانَةٌ لِلدِّينِ، وَتَعَلُّمُهَا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَجْلِ فَهْمِ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَمَعْرِفَةِ مَا خَطَّهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ تُرَاثِنَا الْعَرَبِيِّ الْفَذِّ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَعُلُومِ الْآلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِي مَا خَطَّتْهُ يَرَاعَاتُهُمْ وَكَتَبُوهُ بِبَنَانِهِمْ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-؛ تَعَلُّمُ ذَلِكَ بِالْإِخْلَاصِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ عِبَادَةٌ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِضْعَافُ اللُّغَةِ إِضْعَافٌ لِلدِّينِ، وَلَمْ يُوجَدْ قَطُّ فِي تَارِيخِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَالِمٌ يَتَشَدَّقُ بِأَنَّ ضَعْفَهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَمْرٌ يُحْمَدُ عَلَيْهِ أَوْ يُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُوَارَى، وَمِنَ السَّوْءَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَرَ، بَلْ إِنَّ عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ كَانَ إِذَا جَاءَهُمْ طَالِبٌ لِلْحَدِيثِ فَوَجَدُوا لَحْنَهُ ظَاهِرًا وَضَعْفَهُ بَادِيًا فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ؛ أَمَرُوهُ بِأَنْ يَذْهَبَ لِيَتَعَلَّمَ هَذَا اللِّسَانَ الْقَوِيمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَا يُبْدَأُ بِهِ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي لُغَتِنَا، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَعَلُّمِهَا وَالنُّطْقِ بِهَا، وَأَنْ تَتَشَكَّلَ عَقْلِيَّتُنَا بِحَسَبِهَا؛ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةٌ فَذَّةٌ فَرِيدَةٌ، وَهِيَ لُغَةٌ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا فِي أَرُومَتِهِمْ لَمْ يُسْتَعْبَدُوا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَهِيَ مُصَفَّاةٌ وَمُهَذَّبَةٌ، وَهِيَ اللُّغَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا كِتَابَهُ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ حَدِيثَهُ وَخِطَابَهُ، فَتَعَلُّمُهَا دِينٌ، وَالْإِكْبَابُ عَلَى تَعَلُّمِهَا تَقَرُّبٌ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَيَعْلَمَ شَيْئًا مِنْ إِعْجَازِهِ، وَيَرَى شَيْئًا مِنْ آيَاتِهِ الْبَيَانِيَّةِ الْبَاهِرَةِ وَاضِحَةً جَلِيَّةً، حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي قَلْبِهِ وَيَقِينِهِ عَظَمَةُ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْأَصْفِيَاءِ ﷺ.

لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَحْمَلَ أَبْنَاءُ الْأُمَّةِ الْأَمَانَةَ، وَأَنْ يَطَّلِعُوا بِمَسْؤُولِيَّاتِهِمْ، وَأَنْ يَتَوَفَّرُوا عَلَى الْعِلْمِ.. عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَبَابُهُ بَابُهُ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَسَوَّرُونَ مُتَسَنِّمِينَ أَسْوَارَهُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَيَنْدَقَّ عُنُقُهُ حَتْمًا لَا مَحَالَةَ.

وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَهُوَ الْمَسْؤُولُ وَحْدَهُ أَنْ يَفْتُقَ أَلْسِنَتَنَا بِلُغَةِ كِتَابِ رَبِّنَا وَبِلُغَةِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا مِنْهَا مَا جَهِلْنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَحْلُلَ عُقْدَةَ مِنْ أَلْسِنَتِنَا، وَأَنْ يُيَسِّرَ تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ لَنَا، وَأَنْ يُيَسِّرَ لَنَا النُّطْقَ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الْعَرَبِيِّ الْمُسْتَقِيمِ بِالسَّلِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحَةِ؛ خِدْمَةً لِكِتَابِ رَبِّنَا، وَإِكْبَابًا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّنَا، وَإِقْبَالًا عَلَى تَعَلُّمِ دِينِنَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر

لُغَةُ الْقُرْآنِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْهُوِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْخُلُقُ الْكَرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ
  فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  مختصر الرد على أهل الإلحاد
  الرد على الملحدين:مقدمة عن الإلحاد والأسباب التي دعت إلى انتشاره في العصر الحديث
  خرافات الشيعة في عاشوراء
  حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ
  رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَمُجْتَمَعِيٌّ
  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  رِقَابَةُ السِّرِّ وَرِعَايَةُ الضَّمِيرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان