أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ

أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ

((أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((ابْتِلَاءُ الْمُؤْمِنِ كَالدَّوَاءِ لَهُ))

فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ مُرْتَبِطٌ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، فَمَا دَامَتْ هُنَاكَ حَيَاةٌ؛ فَهُنَاكَ -حَتْمًا- ابْتِلَاءٌ، وَالْإِنْسَانُ بِتَفْكِيرِهِ الْقَاصِرِ لَا يَعْلَمُ فَوَائِدَ الِابْتِلَاءِ الَّتِي تَعُودُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي آخِرَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ مَدَى حِكْمَةِ اللهِ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ لَهُ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ ابْتِلَاءَ الْمُؤْمِنِ كَالدَّوَاءِ لَهُ، يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي لَوْ بَقِيَتْ فِيهِ لَأَهْلَكَتْهُ، أَوْ نَقَصَتْ ثَوَابَهُ وَأَنْزَلَتْ دَرَجَتَهُ؛ فَيَسْتَخْرِجُ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ مِنْهُ تِلْكَ الْأَدْوَاءَ، وَيَسْتَعِدُّ بِذَلِكَ إِلَى تَمَامِ الْأَجْرِ، وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ».

«يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ فِيمَا يُصِيبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِيمَنْ يُهِمُّهُ، فَيُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّاسِ مَا يَشَاءُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ضُرُوبِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ صَبْرَهُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَهُمْ.

وَيَأْتِي الِابْتِلَاءُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي هَذَا التَّفَاعُلِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْكَوَائِنِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي يُعَاشِرُهَا وَيُعَالِجُهَا وَيُخَالِطُهَا، فَيَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْبَشَرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ.

ثُمَّ يَأْتِي الِابْتِلَاءُ الْجَمَاعِيُّ الْأُمَمِيُّ عِنْدَمَا يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ تَجَمُّعَاتِ الْبَشَرِ.. يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ نِقْمَتَهُ وَسَخَطَهُ عِنْدَمَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَمْرِهِ؛ لِيَرُدَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْحَقِّ، أَوْ لِيُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْإِسَاءَةِ.

إِنَّ حِكْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَبْتَلِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بِالضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَمَا يَبْتَلِي الْإِنْسَانَ بِالضُّرِّ وَالشَّرِّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَقْوِيَةً لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَيَكُونُ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ جِسْرًا يُوصِلُ إِلَى أَكْمَلِ الْغَايَاتِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْحِيصٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ.

وَهُوَ رَدْعٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِالْعُصَاةِ، وَتَخْفِيفٌ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا هُوَ إِقَامَةُ حُجَّةِ الْعَدْلِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى الْعِبَادِ».

((أَسْرَارُ الْأَمَلِ فِي الْمِحَنِ وَثَمَرَاتُهُ))

فِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى لِأَحَدٍ عَيْشٌ، لَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ، وَلَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ أَمَلٌ فِي أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَتَسْعَدُ بِهِ الْحَيَاةُ.

لَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّعْبِ إِلَى السَّهْلِ، وَمِنَ التَّعْسِيرِ إِلَى التَّيْسِيرِ.

لَوْ لَا هَذَا الْأَمَلُ؛ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بِعَيْشٍ، وَلَا طَابَتْ نَفْسُ إِنْسَانٍ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَغْرِسُ غَرْسًا؛ فَهَذَا الْغَرْسُ لَا يُؤْتِي ثَمَرَتَهُ وَلَا أُكُلَهُ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.

لَوْ لَا الْأَمَلُ؛ مَا غَرَسَ إِنْسَانٌ غَرْسًا، وَلَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا، وَيَبْنِيَ بَيْتًا؛ فَإِنَّهُ بِرَجَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ هَذَا الْبَيْتَ، وَأَنْ يَعِيشَ فِيهِ سَنَوَاتٍ طِوَالًا.

لَوْ لَا أَنَّهُ قَدِ ارْتَكَزَ فِي نَفْسِهِ الْأَمَلُ؛ مَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا، وَمَا غَرَسَ أَحَدٌ غَرْسًا، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

فَالْأَمَلُ فِيهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَمِنْ أَجْلِهِ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْحَيَاةَ مَبْنِيَّةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي يَحْيَا عَلَيْهِ النَّاسُ؛ وَإِلَّا لَتَوَقَّفَتْ مَعَايِشُ النَّاسِ، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ فِي الْحَيَاةِ عَمَلًا.

فَمَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَى الْمَرْءِ الْمِحْنَةُ؛ فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ «فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَالْإِيَاسُ يُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ، وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ».

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ، وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.

وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ؛ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ، وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

«يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ؛ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى؛ حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}؛ أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلُ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].

«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ؛ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَصْفُ لِأَحَدٍ؛ وَلَوْ نَالَ مِنْهَا مَا عَسَاهُ أَنْ يَنَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((الْمِحَنُ جِسْرٌ إِلَى الْجَنَّةِ))

«إِنَّ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإنْسَانِ مُرَادُ التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى عَكْسِ الأَغْرَاضِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْنَسَ بِانْعِكَاسِ الْأَغْرَاضِ، فَإِنْ دَعَا وَسَأَلَ بُلُوغَ غَرَضِهِ؛ تَعَبَّدَ اللهَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ أُعْطِيَ مُرَادَهُ شَكَرَ، وَإِنْ لَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلِحَّ فِي الطَّلَبِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لِبُلُوغِ الْأَغْرَاضِ، وَلْيَقُلْ لِنَفْسِهِ: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].

وَمِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ: أَنْ يَمْتَعِضَ فِي بَاطِنِهِ لِانْعِكَاسِ أغْرَاضِهِ، وَرُبَّمَا اعْتَرَضَ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ رُبَّمَا قَالَ: حُصُولُ غَرَضِي لَا يَضُرُّ، وَدُعَائِي لَمْ يُسْتَجَبْ! وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ، وَقِلَّةِ إِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْحِكْمَةِ، وَمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ غَرَضٌ ثُمَّ لَمْ يُكَدَّرْ؟!!».

«فَإِذَا تَأَمَّلْتَ حِكْمَتَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا ابْتَلَى بِهِ عِبَادَهُ وَصَفْوَتَهُ بِمَا سَاقَهُمْ بِهِ إِلَى أَجَلِّ الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْبُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.

وَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْرُ لِكَمَالِهِ كَالْجِسْرِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى عُبُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَيْنَ الْمَنْهَجِ فِي حَقِّهِمْ وَالْكَرَامَةِ.

فَصُورَتُهُ صُورَةُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ؛ فَكَمْ للهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ؟!!

فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ؛ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.

وَلَوْ لَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ؛ فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ!!

وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ، وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.

وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.

وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ، وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ، وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.

وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثَّرَهُ؛ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا، أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ؛ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.

فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضًا مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.

وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ: أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ: إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ: انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ؛ ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ؛ حَتَّى كَلَّمَهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.

وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحْتَمِلُ لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ، وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.

وَلَوْ لَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ، وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ.. لَوْ لَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ ﷺ وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ؛ حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ؛ مِنْ سِلْمٍ وَحَرْبٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ وَظَعْنٍ عَنْهُ، وَتَرْكِهِ للهِ، وَقَتْلِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى؛ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.

فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءَاتُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.

وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ، يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ، يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ، وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ، وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ، لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ، هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.

وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ، لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولُهُ الْمُطَاعَ لَا سِوَاهُ.

فَلِلَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!

كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا = فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ».

((فِي كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ فِي حَيَاةِ سَادَةِ الْبَشَرِ))

إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً، وَأَعْظَمُهُمْ صَبْرًا، وَأَكْثَرُهُمْ أَمَلًا وَرَجَاءً فِي رَحْمَةِ اللهِ، وَحَيَاتُهُمْ هِيَ الْأُسْوَةُ، وَأَفْعَالُهُمُ الْقُدْوَةُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

«أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْهِدَايَةِ؛ فَاتَّبِعْ يَا رَسُولَ اللهِ هُدَاهُمْ، وَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ».

أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَمَلِ وَرَجَاءِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَرْزُقَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَكَانَتِ الْبُشْرَى مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 100-101].

«قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ، فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-».

وَهَذِهِ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ سَيَرْزُقُهُ وَلَدًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51-56].

«وَأَخْبِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ الْخَبَرَ الْهَامَّ وَقْتَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ سَلَامًا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ خَائِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا الْعِجْلَ السَّمِينَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ إِذْ كَانَ مَظْهَرُهُمْ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَنِمُّ عَلَيْهِ.

قَالَ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُمْ ضَيْفٌ مِنَ الْبَشَرِ-: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٍ فِي كِبَرِهِ، سَيَأْتِيكَ مِنْ زَوْجِكَ سَارَّةَ، وَهُوَ إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَنَحْنُ مَلَائِكَةٌ، رُسُلٌ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ؛ لِنُقَدِّمَ لَكَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ.

فَلَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ؛ عَجِبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي بِالْوَلَدِ مَعَ مَسِّ الْكِبَرِ بِي وَالشَّيْخُوخَةِ الْمُضْعِفَةِ عَادَةً عَنِ الْإِنْجَابِ؟!! فَبِأَيِّ سَبَبٍ لَدَيَّ أَمْلِكُهُ يَكُونُ مِنْ آثَارِهِ أَنْ أُنْجِبَ وَلَدًا؛ فَأَنْتُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِهِ؟!!

قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ، بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْكَ وَلَدًا ذَكَرًا تَكْثُرُ ذُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ إِسْحَاقُ؛ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْخَيْرِ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَحَدَ يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ».

وَهَذَا يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ فِي أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ فِي رَبِّهِ، رَغْمَ مِحْنَتِهِ الشَّدِيدَةِ بِفَقْدِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَمِنْحَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرَدِّ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، «إِنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ أَحْسَنِ الْقِصَصِ وَأَوْضَحِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّنَقُّلَاتِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؛ مِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِحْنَةٍ، وَمِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِنْحَةٍ وَمِنَّةٍ، وَمِنْ ذُلٍّ إِلَى عِزٍّ، وَمِنْ أَمْنٍ إِلَى خَوْفٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ مِلْكٍ إِلَى رِقٍّ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ فُرْقَةٍ وَشَتَاتٍ إِلَى انْضِمَامٍ وَائْتِلَافٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ سُرُورٍ إِلَى حُزْنٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ رَخَاءٍ إِلَى جَدْبٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ ضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ وُصُولٍ إِلَى عَوَاقِبَ حَمِيدَةٍ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ قَصَّهَا وَجَعَلَهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ».

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 83-92].

«قَالَ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَصَبْرِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ صَبْرٌ جَمِيلٌ، لَا شَكْوَى مَعَهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا لَا يَرْضَى عَنْهُ رَبِّي؛ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَالْأَخِ الثَّالِثِ الَّذِي أَقَامَ بِمِصْرَ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحُزْنِي وَوَجْدِي عَلَيْهِمْ، الْحَكِيمُ بِمَا يُدَبِّرُهُ وَيَقْضِيهِ.

وَابْتَعَدَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ بَنِيهِ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَالَ: يَا حُزْنِيَ الشَّدِيدَ عَلَى يُوسُفَ دُمْ، وَصَارَ يَبْكِي بُكَاءً كَثِيرًا، وَانْقَلَبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بَيَاضًا، وَضَعُفَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ عَلَى يُوسُفَ، فَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْحُزْنِ، مُمْسِكٌ عَلَيْهِ دَاخِلَ نَفْسِهِ لَا يَبُثُّهُ.

وَلَا يَتَنَافَى هَذَا الْحُزْنُ مَعَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٍّ، لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَلَا رَفْعَهُ؛ لَكِنْ يَمْلِكُ أَلَّا يَعْمَلَ أَوْ يَقُولَ مَا لَا يُرْضِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا يَمْلِكُ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ خَاضِعٍ لِإِرَادَتِهِ.

قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: تَاللهِ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ تَفَجُّعًا، وَلَا تَفْتُرُ عَنْ حُبِّهِ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ شَدِيدَ الْمَرَضِ، مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، فَلَا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْأَمْوَاتِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْأَسَى.

قَالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لِأَبْنَائِهِ: مَا أَشْكُو مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ وَالْغَمِّ وَالْحَزَنِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، لَا إِلَيْكُمْ؛ فَهُوَ وَحْدَهُ كَاشِفُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ.

وَإِنْ كُنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَى شَكْوَايَ لِرَبِّي عَلَى حَالِي الَّتِي لَا أَمْلِكُ التَّغْيِيرَ فِيهَا، وَعَلَى حُزْنِي الَّذِي لَا أَمْلِكُ صَرْفَهُ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَرَجِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ، وَسَيَأْتِينِي بِالْفَرَجِ الْقَرِيبِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ».

«قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}؛ أَيِ: احْرِصُوا وَاجْتَهِدُوا عَلَى التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا، {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ}؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فَيمَا رَجَاهُ، وَأَمَّا الْإِيَاسُ؛ فَيُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ.

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}: فَإِنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ، وَرَحْمَتُهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُمْ؛ فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ.

وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَجَاؤُهُ لِرَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.

فَذَهَبُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}؛ أَيْ: قَدِ اضْطُرِرْنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عَنْهَا؛ لِقِلَّتِهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِهَا الْمَوْقِعَ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ الْعِوَضِ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِالزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاجِبِ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} بِثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ؛ رَقَّ لَهُمْ يُوسُفُ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَعَاتَبَهُمْ، فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}؟!!

أَمَّا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَظَاهِرٌ فِعْلُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَخُوهُ؛ فَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- قَوْلُهُمْ: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}، أَوْ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ هُمُ السَّبَبُ فِيهِ، وَهُمُ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لَهُ. 

{إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}: وَهَذَا نَوْعُ اعْتِذَارٍ لَهُمْ بِجَهْلِهِمْ، أَوْ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ مِنْهُمْ.

فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ هُوَ يُوسُفُ، فَقَالُوا: {أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَـ{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}؛ أَيْ: يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ، وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أَيْ: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَأَسَأْنَا إِلَيْكَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَحَرِصْنَا عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْكَ، وَالتَّبْعِيدِ لَكَ عَنْ أَبِيكَ، فَآثَرَكَ اللهُ تَعَالَى، وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ، {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}؛ وَهَذَا غَايَةُ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِالْجُرْمِ الْحَاصِلِ مِنْهُمْ عَلَى يُوسُفَ.

فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -كَرَمًا وَجُودًا-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَلُومُكُمْ، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

فَسَمَحَ لَهُمْ سَمَاحًا تَامًّا، مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ، وَدَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، وَخِيَارِ الْمُصْطَفَيْنَ».

«هَذِهِ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي امْتَحَنَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ إِذْ قَضَى بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ يُوسُفَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَيُحْزِنُهُ أَشَدَّ الْحَزَنِ، فَتَمَّ لِهَذِهِ الْفُرْقَةِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ وَيَعْقُوبُ لَمْ يُفَارِقِ الْحُزْنُ قَلْبَهُ، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، ثُمَّ ازْدَادَ بِهِ الْأَمْرُ حِينَ اتَّصَلَ فِرَاقُ الِابْنِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَابِرٌ لِأَمْرِ اللهِ، مُحْتَسِبٌ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ وَفَّى بِمَا وَعَدَ بِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 86]؛ فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَى اللهِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُنَافِيهِ الشَّكْوَى إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ دَرَجَاتٍ عَالِيَةً، وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةً لَا تُنَالُ إِلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ».

وَهَذَا دُعَاءُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِرَبِّهِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَأَمَلُهُ وَقُوَّةُ رَجَائِهِ فِي اللهِ، وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لَهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].

«وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا- مَا دَعَا بِهِ أَيُّوبُ رَبَّهُ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَطَالَ أَمَدُهُ فِيهِ؛ حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّهِ؛ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ؛ فَاكْشِفْهُ عَنِّي، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ، فَأَزَلْنَا مَا بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي جَسَدِهِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ مَا فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ؛ رَحْمَةً عَظِيمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى الْبَلَاءِ، رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ، مُنْقَادٍ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ».

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْحَالَ الَّتِي أَدْرَكَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ حَاصَرَهُمُ الْأَحْزَابُ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرُوهُ؛ لِلدِّفَاعِ عَنْ وُجُودِهِمْ، وَحِمَايَةِ بَلَدِهِمْ مِنْ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَوَامِعَ الْبِشْرِ، وَمَسَالِكَ النَّصْرِ الَّذِي آتَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي تَبْدِيدِ هَذِهِ الْمَخَاوِفِ، وَكَسْرِ عَصَا هَذِهِ الْجُمُوعِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَقَالَ -أَيْضًا- فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].

فَالزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْخَوْفُ وَبُلُوغُ الرُّعْبِ وَالشِّدَّةِ قُلُوبَ الْعِبَادِ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ، أَمَّا الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ عِبَادِهِ بِالْفَرَجِ؛ فَحَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ حَالِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعِبَادُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا؛ فَلْيَكُنِ الْمُسْلِمُ عَلَى أَمَلٍ دَائِمٍ بِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 1-6].

«قَدْ فَتَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَوَسَّعْنَاهُ لِلْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلْنَاهُ مُنْبَسِطًا رَاضِيًا، وَمُتَحَمِّلًا لِأَعْبَاءِ حَمْلِ الرِّسَالَةِ، وَتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ، وَمُتَحَمِّلًا أَخْلَاقَهُمْ.

وَحَطَطْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ هُمُومٍ كُبْرَى لِإِصْلَاحِ قَوْمِكَ، وَإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَبَائِثِهَا وَظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا.

فَبَيَّنَ لَكَ وَسَائِلَ التَّبْلِيغِ، وَأَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ، فَأَلْقَى عَنْكَ كُلَّ هُمُومِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ تَعْلِيمَاتٍ وَأَوَامِرَ رَبَّانِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ مَنْهَجَ دَعْوَتِكَ.

وَأَعْلَيْنَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ذِكْرَكَ الْحَسَنَ؛ إِذْ جَعَلْتُكَ رَسُولًا، وَاسْتَمَرَّ عَطَائِي لَكَ حَتَّى إِذَا ذُكِرْتُ؛ ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِنَّ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ يُسْرًا وَرَخَاءً عَاجِلًا، فَإِنْ يُظْهِرْكَ اللهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ؛ فَذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْ بَعْدِ التَّعْسِيرِ.

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا كَذَلِكَ؛ فَكُنْ عَلَى أَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَلَقَّ الْأَحْدَاثَ الْحَاضِرَةَ الْمُؤْلِمَةَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَبِنَفْسٍ مُنْشَرِحَةٍ مَشْحُونَةٍ بِالْأَمَلِ فِيمَا سَيَأْتِي، صَابِرَةٍ عَلَى الْعُسْرِ الْوَاقِعِ.

فَالنَّفْسُ الْمَشْحُونَةُ بِأَمَلِ الْيُسْرِ الْقَادِمِ يَضْمُرُ لَدَيْهَا أَلَمُ الْعُسْرِ الْقَائِمِ، وَمُنْتَظِرُ الْفَجْرِ الْقَرِيبِ لَا يَشْعُرُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْقَاتِمِ».

((ابْتِلَاءُ اللهِ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.

إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.

إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ؛ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ؛ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.

وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو -أَيْضًا- أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنِ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ.

((الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ))

«إِنَّ اللهَ يُرَبِّي عَبْدَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ، فَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ عُبُودِيَّتَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِعُبُودِيَّةِ اللهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا عَبْدُ السَّرَّاءِ وَالْعَافِيَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَلَيْسَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِعُبُودِيَّتِهِ.

فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِى يَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الِابْتِلَاءِ وَالْعَافِيَةِ هُوَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا إِيمَانُ الْعَافِيَةِ؛ فَلَا يَكَادُ يَصْحَبُ الْعَبْدَ وَيُبَلِّغُهُ مَنَازِلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَصْحَبُهُ إِيمَانٌ يَثْبُتُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَيَثْبُتُ عَلَى الْعَافِيَةِ.

فَالِابْتِلَاءُ كِيرُ الْعَبْدِ، وَمَحَكُّ إِيمَانِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ تِبْرًا أَحْمَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ زَغَلًا مَحْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مَادَّتَانِ: ذَهَبِيَّةٌ، وَنُحَاسِيَّةٌ، فَلَا يَزَالُ بِهِ الْبَلَاءُ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَادَّةَ النُّحَاسِيَّةَ مِنْ ذَهَبِهِ، وَيَبْقَى ذَهَبًا خَالِصًا.

فَلَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْبَلَاءِ لَيْسَتْ بِدُونِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْعَافِيَةِ؛ لَشَغَلَ قَلْبَهُ بِشُكْرِهِ، وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».

وَكَيْفَ لَا يَشْكُرُ مَنْ قَيَّضَ لَهُ مَا يَسْتَخْرِجُ خَبَثَهُ وَنُحَاسَهُ، وَصَيَّرَهُ تِبْرًا خَالِصًا يَصْلُحُ لِمُجَاوَرَتِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي دَارِهِ؟!!».

«فَكَمَا عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ لِرَبِّهِ فِي حَالِ رَخَائِهِ؛ فَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ فِي حَالِ الشِّدَّةِ».

((الْفَرَجُ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ))

«إِنَّ الْفَرَجَ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاكَمَتِ الشَّدَائِدُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَضَاقَ الْعَبْدُ ذَرْعًا بِحَمْلِهَا؛ فَرَّجَهَا فَارِجُ الْهَمِّ، كَاشِفُ الْغَمِّ، مُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهَذِهِ عَوَائِدُهُ الْجَمِيلَةُ؛ خُصُوصًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ لِيَكُونَ لِذَلِكَ الْوَقْعُ الْأَكْبَرُ، وَالْمَحَلُّ الْأَعْظَمُ، وَلِيَجْعَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ مَا يُوَازِنُ وَيَرْجَحُ بِمَا جَرَى عَلَى الْعَبْدِ بِلَا نِسْبَةٍ».

«فَسُبْحَانَ مَنْ يُنْعِمُ بِبَلَائِهِ، وَيَلْطُفُ بِأَصْفِيَائِهِ، وَهَذَا عُنْوَانُ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَةُ السَّعَادَةِ».

((أَذْكَارٌ  وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))

 

إِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: أَنَّهَا دَارُ مِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

((وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.

وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ)) .

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا؛ فَقَدْ وَجَبَ الْحَذَرُ، وَتَأَكَّدَتِ الْحَيْطَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَائِشًا بِهَذِهِ النَّفْسِيَّةِ.. نَفْسِيَّةِ الْمُحِسِّ الْمُدْرِكِ الْمُتَيَقِّنِ بِأَنَّهُ مُبْتَلًى بِكُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ، فَإِذَا أُصِيبَ بِالسَّرَّاءِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالسَّرَّاءِ، وَإِذَا أُصِيبَ بِالضَّرَّاءِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالضَّرَّاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا وَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَإِذَا وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى الطَّاعَةِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ.

الْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ دَائِمًا، لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ حَالَةِ الِابْتِلَاءِ إِلَّا إِذَا تَوَفَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

لَقَدْ تَمَسَّكَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي أَصْعَبِ الْمِحَنِ بِأَدْعِيَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَذْكَارٍ جَلِيلَةٍ..

 لَقَدْ أَثْنَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى صَحَابَةِ رَسُولِهِ ﷺ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ هُمُ الَّذِينَ خَاضُوا غِمَارَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَسَقَطَ مِنْهُمْ مَنْ سَقَطَ شَهِيدًا، وَجُرِحَ مَنْ جُرِحَ، وَأَصَابَهُمُ الرَّهَقُ وَالتَّعَبُ؛ فَدَعَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا الْقَرْحُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَدْ خَشِيَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَنْطَلِقَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ يُفَكِّرُوا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى مَكَّةَ.

وَقَدِ انْتَدَبَ الرَّسُولُ ﷺ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ لِلْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكينَ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ؛ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ (ض1)، أَنَّهَا قَالَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}.. قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ((يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ؛ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: ((مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ؟))، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ مُخْتَصَرًا.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ الْجَيْشَ كُلَّهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فِي أُحُدٍ؛ بِاسْتِثْنَاءِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَارَ الرَّسُولُ ﷺ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى (بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ) عَلَى بُعْدِ ثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَقَدْ حَدَثَ مَا تَوَقَّعَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ تَلَاوَمُوا فِي عَدَمِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَشَاوَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجُوا فِي إِثْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ صَارُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ؛ فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُمْ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَأَسْرَعُوا عَائِدِينَ إِلَى مَكَّةَ.

الْقَرْحُ الَّذِي أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ: الْجِرَاحَةُ وَالتَّعَبُ اللَّذَانِ كَانَا لِلْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَحْسَنُوا بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَاسْتَجَابُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ؛ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ مَا بِهِمْ مِنْ تَعَبٍ وَآلَامٍ وَجُرْحٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ.

عِنْدَمَا عَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِخُرُوجِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فِي إِثْرِهِمْ؛ هَزَّهُ الْخَبَرُ، وَخَشِيَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَسَارَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ مَا يُسَمَّى بِالْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَدْ حَمَّلَ قَوْمًا مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا مُنْطَلِقِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يَقُولُوا لِلرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مُقَابِلَ جُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُمْ: إِنَّنَا رَاجِعُونَ إِلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ.

فَلَمَّا أَخْبَرُوا الرَّسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِذَلِكَ؛ ازْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا؛ لِتَوَكُّلِهِمْ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})).

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَدَى ثَبَاتِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَمَعْنَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ}؛ أَيِ: اللهُ كَافِينَا، وَاللهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

أَخْبَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ خُرُوجَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ (أُحُدٍ) كَانَ سَفَرَ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ؛ فَقَدْ أَلْقَى خُرُوجُهُمُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، وَانْقَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ عَائِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعُونَ مَا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}، وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ: صَرْفُ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَإِعَادَتُهُمْ سَالِمِينَ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ تَاجَرُوا وَرَبِحُوا.

{فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}: فَانْصَرَفَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ عَنْ وَجْهِهِمُ الَّذِي تَوَجَّهُوا فِيهِ -وَهُوَ سَيْرُهُمْ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ- إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}؛ يَعْنِي: بِعَافِيَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، لَمْ يَلْقَوْا بِهَا عَدُوًّا، {وَفَضْلٍ}؛ يَعْنِي: أَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ بِتِجَارَتِهِمُ الَّتِي اتَّجَرُوا بِهَا، وَالْأَجْرُ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ، {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}؛ يَعْنِي: لَمْ يَنَلْهُمْ بِهَا مَكْرُوهٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا أَذًى.

{وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَرْضَوُا اللَّهَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ رَسُولَهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ أَثَرِ الْعَدُوِّ، وَطَاعَتِهِمْ.

{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}؛ يَعْنِي: وَاللَّهُ ذُو إِحْسَانٍ وَطَوْلٍ عَلَيْهِمْ -بِصَرْفِ عَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْكَرَّةِ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ- بِنِعَمِهِ {عَظِيمٌ} عِنْدَ مَنْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ)).

وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ تِلْكُمُ الْمَقَالَةَ الَّتِي حَمَّلَهَا أَبُو سُفْيَانَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ التُّجَّارِ مُرْسِلًا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ؛ لِيُرْعِبَهُمْ وَيُخَوِّفَهُمْ؛ هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يُخَوِّفُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْكَافِرِينَ.

وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا الْمُشْرِكِينَ، وَطَالَبَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ وَحْدَهُ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ؛ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

فَهَذَا ذِكْرٌ عَظِيمٌ قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ (ض3) فِي شِدَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الشَّدَائِدِ:  ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) قَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ هَذَا الذِّكْرَ فِي مِحْنَةِ الْمِحَنِ، وَشِدَّةِ الشَّدَائِدِ؛ ((فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مَعَ قَوْمِهِ فِي دَعْوَةٍ وَجِدَالٍ، وَقَدْ أَفْحَمَهُمْ، وَكَسَرَ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ وَشُبَهِهِمْ، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ يُقَاوِمَهُمْ بِأَعْظَمِ الْحُجَجِ، وَأَنْ يَصْمُدَ لِبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا وَجِلٍ.

فَلَمَّا خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَظَاهَرَ بِعَدَاوَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنَّهْيِ الْأَكِيدِ عَنْهَا، وَجِهَادِ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَرَزُوا جَمِيعًا إِلَى الصَّحْرَاءِ؛ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ، فَجَعَلَهَا جُذَاذًا كُلَّهَا إِلَّا صَنَمًا كَبِيرًا أَبْقَى عَلَيْهِ؛ لِيُلْزِمَهُمْ بِالْحُجَّةِ.

فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ؛ بَادَرُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ صَبَابَةً وَمَحَبَّةً، فَرَأَوْا فِيهَا أَفْظَعَ مَنْظَرٍ رَآهُ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59-60]؛ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَذْكُرُهَا بِأَوْصَافِ النَّقْصِ وَالسُّوءِ: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ الَّذِي كَسَرَهَا: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]؛ أَيْ: بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَوَبَّخُوهُ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ، ثُمَّ نَكَّلُوا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ بِمَرْأَى الْخَلْقِ وَبِمَسْمَعِهِمْ، فَلَمَّا جُمِعَ النَّاسُ وَحَضَرُوا، وَحَضَّرُوا إِبْرَاهِيمَ؛ قَالُوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63]، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي سَلِمَ مِنْ تَكْسِيرِهِ، وَهُمْ فِي هَذِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ عَقْلَ أَحَدٍ؛ أَنَّ جَمَادًا مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ مَوَادَّ مَعْرُوفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ، هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا، وَأَنْتَ سَالِمٌ نَاجٍ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ.

قَالَ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وَهَذَا تَعْليِقٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ؛ فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَبَانَ، وَاعْتَرَفُوا هُمْ بِالْحَقِّ: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 64-65]، أَيْ: مَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا إِلَّا وَقْتًا قَصِيرًا، ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ مُبَاشَرَةً الَّتِي لَا يُمْكِنُ مُكَابَرَتُهَا؛ وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا عَادَتْ عَقَائِدُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي رَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَصَارَتْ صِفَاتٍ مُلَازِمَةً لَهُمْ، إِنْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا؛ فَإِنَّهُ عَارِضٌ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].

فَحِينَئِذٍ وَبَّخَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا الْخُصُومُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67].

فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عُقُولٌ صَحِيحَةٌ؛ لِمَ تُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ؟!!

فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ؛ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، فَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا، فَأَلْقَوْهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ-: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا لِيَنْصُرُوا آلِهَتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ، وَالْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ، وَالْحَادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ وَالرُّؤَساءِ وَالْمَرْؤُوسِينَ)) .

وَهَذَا ((يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِظَامِ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى -مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ-، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.

ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ، فَأَبَوْا، فَوَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَلَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ الَّذِي يَنْبَغِي، وَلَكِنَّهُ أَبَقَ مُغَاضِبًا لَهُمْ.

وَهُمْ لَمَّا ذَهَبَ نَبِيُّهُمْ؛ أُلْقِيَتْ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةُ إِلَى اللهِ وَالْإِنَابَةُ بَعْدَمَا شَاهَدُوا مُقَدِّمَاتِ الْعَذَابِ، فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ يُونُسَ عَلِمَ انْكِشَافَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِي ذَهَابِهِ عَنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87 ].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140 ].

فَرَكِبَ فِي سَفِينَةٍ مُوَقَّرَةٍ مِنَ الرُّكَّابِ وَالْأَحْمَالِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْبَحْرَ؛ شَارَفَتْ عَلَى الْغَرَقِ.

وَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَبْقَوْا جَمِيعًا فِيهَا فَيَهْلِكُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُلْقُوا بَعْضَهُمْ بِمِقْدَارِ مَا تَخِفُّ السَّفِينَةُ فَيَسْلَمَ الْبَاقُونَ، فَاخْتَارُوا الْأَخِيرَ؛ لِعَدْلِهِمْ وَتَوْفِيقِهِمْ.

فَاقْتَرَعُوا، فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ أُنَاسًا مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ: يُونُسُ ﷺ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [ الصافات: 141 ]؛ أَيْ: الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ.

فَأُلْقُوا، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ فِي الْبَحْرِ ابْتِلَاعًا، لَمْ يَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا، وَلَمْ يَمْضُغْ لَهُ لَحْمًا.

فَلَمَّا صَارَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ؛ نَادَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87].

-فَكَانَ فِي ظُلْمَةِ جَوْفِ الْحُوتِ، فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ-.

فَأَمَرَ اللهُ الْحُوتَ أَنْ تُلْقِيَهُ بِالْعَرَاءِ، فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا كَالْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ مِنَ الْبَيْضَةِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْهُونِ، فَلَطَفَ اللهُ بِهِ، وَأَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَأَظَلَّتْهُ بِظِلِّهَا الظَّلِيلِ حَتَّى قَوِيَ وَاشْتَدَّ.

وَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ فَيُعَلِّمَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ، فَاسْتَجَابَ لَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ؛ مِئَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) .

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ، دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.

وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.

فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ-، تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ، قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.

أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.

وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.

عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ؛ فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.

وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا، ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ؛ جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ؛ قَالَ: ((يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)).

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ -أَوْ فِي الْكَرْبِ-؟ اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

فَتَأَمَّلْ فِيمَا دَعَا بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْعِظَامُ: مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَيُونُسُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمْ-، وَتَأَمَّلْ فِي الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- إِيَّاهَا؛ فَأَمَّا مُحَمَّدٌ ﷺ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، وَالْعَاقِبَةُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ}.

وَأَمَّا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.

إِنَّ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ فِي الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَسِّيَ بِهِ سَالِكٌ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَ إِلَى كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ، مِنْ حَقِّهَا: أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْهِدَايَةِ؛ فَاتَّبِعْ يَا رَسُولَ اللهِ هُدَاهُمْ، وَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنَّا، وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِنَا مَا نَزَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:

أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ
  السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا
  داء الخوارج ودواؤهم
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  تَفْرِيغُ مُحَاضَرَاتِ سِلْسِلَة: «الرَّدُّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ»
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  ضَوَابِطُ الْأَسْوَاقِ وَآدَابُهَا
  مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان