مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ

مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ

((مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((تَعَلُّقُ الْخِيَانَةِ بِالضَّمِيرِ))

فَإِنَّ الضَّمِيرَ هُوَ مَا تُضْمِرُهُ فِي نَفْسِكَ وَيَصْعُبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اسْتِعْدَادٌ نَفْسِيٌّ لِإِدْرَاكِ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْكَارِ, وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا, وَاسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ, وَاسْتِقْبَاحِ الْقَبِيحِ مِنْهَا.

وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْإِنْسَانِ؛ بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، بِنُطْقِهِ وَصَمْتِهِ، بِإِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ، بِبَسْطِهِ وَقَبْضِهِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِبَاطِنِهِ؛ مِنْ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَأَمَلِهِ وَيَأْسِهِ، وَأَمَانَتِهِ وَخِيَانَتِهِ.

وَالْخِيَانَةُ خَاصَّةً أَشَدُّ الْأُمُورِ تَعَلُّقًا بِالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرَكَةِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا، فَالْقُلُوبُ تَخُونُ، وَالْأَعْيُنُ تَخُونُ، وَالْجَوَارِحُ تَخُونُ، وَالْخَوَاطِرُ تَخُونُ.

وَقَدِيمًا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِالْأَمَانَةِ وَمُجَانَبَةِ الْخِيَانَةِ.

قَالَ النَّابِغَةُ لِلْنُعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ:

لَوِ اخْتَانَتْكَ مِنِّي ذَاتُ خَمْسٍ=يَمِينِي لَمْ تُصَاحِبْنِي الْيَمِينُ

أَتَيْتُكَ عَارِيًّا خَلَقًا ثِيَابِي=عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ

فَأَلْفَيْتُ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا=كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ

وَضَرَبَتِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ بِوَفَاءِ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا، وَقَدْ ذَبَحَ بَنُو أَسَدٍ ابْنَ السَّمَوْأَلِ تَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ يَتَطَلَّعُ إِلَى وَلَدِهِ يُذْبَحُ تَحْتَ عَيْنَيْهِ مِنْ حِصْنٍ كَانَ فِيهِ، وَأَبَى أَنْ يَخُونَ امْرَأَ الْقَيْسِ فِي أَدْرَاعِهِ حَتَّى سَلَّمَهَا لَهُ؛ فَقَالَتِ الْعَرَبُ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ))

وَقَالَ الْمُثَقِّبُ الْعَبْدِيُّ:

فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ=فَأَعْرِفَ بِكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي

وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي=عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي

فَإِنَّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي=خِلَافَكَ مَا وَصَلْتُ بِهَا يَمِينِي

إِذَنْ لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي=كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟

قَالَ ﷺ: ((إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟

قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).

قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((إِسْنَادُ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ, وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِفْرَاطِ, وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ مَا دَامَ قَائِمًا فَفِي الْأَمْرِ فُسْحَةٌ.

وَالْمُرَادُ -أَيْضًا- مِنَ الْأَمْرِ: جِنْسُ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ؛ كَالْخِلَافَةِ، وَالْإِمَارَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

فَإِذَا وُسِّدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ ضَيَاعَ الْأُمَّةِ, وَذَهَابَ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا: ((أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ -نَزَلَتْ فِي جَذْرِ؛ أَيْ: فِي أَصْلِ قُلُوبِ الرِّجَالِ- ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)).

وَحَدَّثَنَا عَنْ قَطْعِهَا قَالَ: ((يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ -وَهُوَ سَوَادٌ فِي اللَّوْنِ مِنْ أَثَرِ الْعَمَلِ فِي الْيَدِ-، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ, فَلَا يَكَادُ أَحَدهم يُؤَدِّي الأَمَانَةَ, فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِى فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِى أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا)) .

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْ دِينِهِمُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ لَا خَلَاقَ لَهُ عِنْدَ اللهِ)). حَسَّنَهُ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

الْخِيَانَةُ تُشَّمُ رَائِحَتُهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا يُخَافُ عَلَى مِصْرَ الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْخِيَانَةِ!!

الْخِيَانَةُ تُشَمُّ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.

((مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ))

فِي ((الْمَوْسُوعَةِ)) : ((الْخِيَانَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: خَانَ يَخُونُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (خ و ن) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّنَقُّصِ، يُقَالُ: خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا، وَذَلِكَ نُقْصَانُ الْوَفَاءِ، وَتُخَوَّنَنِي فُلَانٌ؛ أَيْ: تَنَقَّصَنِي، وَنَقِيضُ الْخِيَانَةِ: الْأَمَانَةُ، يُقَالُ: خُنْتَ فُلَانًا، وَخُنْتَ أَمَانَةَ فُلَانٍ، وَعَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧].

فَخِيَانَتُهُمْ لِلهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ بِإِظْهَارِ مَنْ أَظْهَرَ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ فِي الظَّاهِرِ, وَهُوَ يَسْتَسِرُّ الْكُفْرَ وَالْغِشَّ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ, وَيَدُلُّونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ, وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِمْ.

قِيلَ: ((نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّ الْمُسْلِمِينَ)) .

وَقَوْلُهُ: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}: هِيَ مَا يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، وَقِيلَ: هِيَ الدِّينُ.

وَالِاخْتِيَانُ: مُرَاوَدَةُ الْخِيَانَةِ؛ أَيْ: تَحَرُّكُ شَهْوَةِ الْإِنْسَانِ لِتَحَرِّي الْخِيَانَةِ، قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ١٨٧].

قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَأْمِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُرِيدُ خِيَانَةَ نَفْسِهِ، وَسُمِّيَ خَائِنًا لِأَنَّ الضَّرَرَ عَائِدٌ عَلَيْهِ.

وَيُقَالُ: خَانَهُ فِي كَذَا، يَخُونُهُ خَوْنًا وَخِيَانَةً وَخَانَةً وَمَخَانَةً: ائْتُمِنَ فَلَمْ يَنْصَحْ.

وَخَانَ الْعَهْدَ: نَقَضَهُ، وَيُقَالُ: خَانَ الْعَهْدَ وَالْأَمَانَةَ؛ أَيْ: فِي الْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَيُقَالُ -أَيْضًا-: خَانَ عَهْدَهُ وَأَمَانَتَهُ.

وَخَانَ الرَّجُلُ خَوْنًا كَانَ بِهِ خَوْنٌ؛ أَيْ: ضَعْفٌ وَفَتْرَةٌ فِي نَظَرِهِ، وَخَوَّنَهُ تَخْوِينًا: نَسَبَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ.

وَتَخَوَّنَهُ -أَيْضًا-: تَعَهَّدَهُ.

وَاخْتَانَهُ اخْتِيَانًا؛ بِمَعْنَى خَانَهُ، وَالِاخْتِيَانُ أَبْلَغُ مِنَ الْخِيَانَةِ، كَمَا أَنَّ الِاكْتِسَابَ أَبْلَغُ مِنَ الْكَسْبِ، وَاسْتَخَانَهُ استِخَانَةً: حَاوَلَ خِيَانَتَهُ.

وَالْخَائِنُ اسْمُ فَاعِلٍ، جَمْعُهُ: خَانَةٌ وَخَوَنَةٌ وَخُوَّانُ.

وَالْخَائِنَةُ: مُؤَنَّثُ الْخَائِنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْخَائِنِ -أَيْضًا- بِزِيَادَةِ التَّاءِ الْمَرْبُوطَةِ لِلْمُبَالَغَةِ, كَـ (رَاوِيَةٍ) لِلْكَثِيرِ الرِّوَايَةِ.

وَخَائِنَةُ الْأَعْيُنِ: مَا يُسَارَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ يَنْظُرَ نَظْرَةً بِرِيبَةٍ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ)) ؛ أَيْ: يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُهُ، فَإِذَا كَفَّ لِسَانَهُ وَأَوْمَأ بِعَيْنِهِ فَقَدْ خَانَ.

الْخِيَانَةُ: ((هِيَ الِاسْتِبْدَادُ بِمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْحُرَمِ، وَتَمَلُّكُ مَا يُسْتَوْدَعُ وَمُجَاحَدَةُ مُودِعِهِ.

وَفِيهَا -أَيْضًا- طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا، وَتَحْرِيفُ الرَّسَائِلِ إِذَا تَحَمَّلَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ وُجُوهِهَا)) .

((طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا..)) -فِي الْقَانُونِ الْعَسْكَرِيِّ: مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَهُوَ كَالْمُبَاشِرِ الْمُتَسَبِّبِ -يَعْنِي فِي الْعُقُوبَةِ وَفِي الْإِثْمِ-، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَقَدْ رَضِيَ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، وَالرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَالرِّضَا بِالْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ، وَالرِّضَا بِالصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ، فَهُوَ مُشَارِكٌ فِي الْإِثْمِ وَمَا يَنْتُجُ بَعْدُ مِنَ الضَّرَرِ.

مَنْ عَلِمَ وَلَمْ يُبَلِّغْ فَهُوَ خَائِنٌ كَالْخَائِنِ الْمُبَاشِرِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ-.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: هِيَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ)).

وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((إِنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَخِيَانَةُ الْأَعْيُنِ: مَا تَسَارَقَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَنَقِيضُهَا: الْأَمَانَةُ)).

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: ١٩])).

قَالَ الرَّاغِبُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّفَاقِ وَالْخِيَانَةِ: ((الْخِيَانَةُ وَالنِّفَاقُ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَالُ: اعْتِبَارًا بِالدِّينِ، ثُمَّ يَتَدَاخَلَانِ.

فَالْخِيَانَةُ: مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَنَقِيضُ الْخِيَانَةِ الْأَمَانَةُ، يُقَالُ: خُنْتَ فُلَانًا وَخُنْتَ أَمَانَةَ فُلَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧])).

مِنْ مَعَانِي ((الْخِيَانَةِ)) فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: الْمَعْصِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ١٨٧].

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ((تَخُونُونَهَا بِالْمَعْصِيَةِ)).

وَمِنْهَا: نَقْضُ الْعَهْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨]

وَمِنْهَا: تَرْكُ الْأَمَانَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥].

نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ الْمُنَافِقِ، كَانَ عِنْدَهُ دِرْعٌ فَخَانَهَا، قِيلَ: نَزَلَتْ فِيهِ.

وَمِنْ مَعَانِي كَلِمَةِ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ: الْمُخَالَفَةُ فِي الدِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ((التَّحْرِيمِ)): {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: ١٠].

وَزَادَ ابْنُ سَلَّامٍ وَجْهًا خَامِسًا فَقَالَ: ((وَالْخِيَانَةُ تَعْنِي الزِّنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: ٥٢].

وَقَدْ عَدَّ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ الْخِيَانَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

وَلِقَوْلِهِ ﷺ -أَيْضًا-: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

قَالَ: ((الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْضُهَا شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ.. كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَارْتَكَبَ الْعَظَائِمَ)).

وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ فَقَدْ ذَكَرَ: ((أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَقَالَ: عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ)))) .

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: ٣٨].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا إِخْبَارٌ وَوَعْدٌ وَبِشَارَةٌ مِنَ اللهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ كُلَّ شَرٍّ -بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ- مِنْ شَرِّ الْكُفَّارِ، وَشَرِّ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَشُرُورِ أَنْفُسُهِمْ وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَيَحْمِلُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَكَارِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُونَ، فَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ غَايَةَ التَّخْفِيفِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِنَ هَذِهِ الْمُدَافَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ بِحَسَبِ إِيمَانِهِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.

{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ}؛ أَيْ: خَائِنٍ فِي أَمَانَتِهِ الَّتِي حَمَّلَهُ اللهُ إِيَّاهَا، فَيَبْخَسُ حُقُوقَ اللهِ عَلَيْهِ وَيَخُونُهَا، وَيَخُونُ الْخَلْقَ.

{كَفُورٍ} بِنِعَمِ اللهِ، يُوَالِي عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ، وَيَتَوَالَى مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْعِصْيَانُ، فَهَذَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ، بَلْ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى كُفْرِهِ وَخِيَانَتِهِ.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ أَمِينٍ قَائِمٍ بِأَمَانَتِهِ، شَكُورٍ لِمَوْلَاهُ)).

وَقَدْ مَدَحَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَّرَ فَلَاحَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ؛ فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: ٨].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَيْ: مُرَاعُونَ لَهَا، ضَابِطُونَ، حَافِظُونَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَتَنْفِيذِهَا، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلهِ -تَعَالَى-، وَالَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: ٧٢].

فَجَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى عَبْدِهِ أَمَانَةٌ، عَلَى الْعَبْدِ حِفْظُهَا بِالْقِيَامِ التَّامِّ بِهَا، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْآدِمِيِّينَ؛ كَأَمَانَاتِ الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ وَنَحْوِهِمَا، فَعَلَى الْعَبْدِ مُرَاعَاةُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَتَيْنِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨].

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ, وَالَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَهِيَ الِالْتِزَامَاتُ وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْعَبْدُ، فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهَا وَالْوَفَاءُ بِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْرِيطُ فِيهَا وَإِهْمَالُهَا)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٨-59].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْأَمَانَاتُ كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا؛ فَوَجَبَ ذَلِكَ.

وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَىٰ أَهْلِهَا} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ وَتُؤَدَّى لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَلَوْ دَفَعَهَا لِغَيْرِ صَاحِبِهَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لَهَا.

{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}: هَذَا يَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرِ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُكْمِ بِهِ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ الْعَدْلِ لِيُحْكَمَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ أَوَامِرَ حَسَنَةً عَادِلَةً قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [ النساء: 58].

وَهَذَا مَدْحٌ مِنَ اللهِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَفْعِ مَضَارِّهِمَا؛ لِأَنَّ شَارِعَهَا السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.

ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ؛ وَذَلِكَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِمَا الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِمَا.

وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ؛ وَهُمُ: الْوُلَاةُ عَلَى النَّاسِ، مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لِلنَّاسِ أَمْرُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِطَاعَتِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ، طَاعَةً لِلَّهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنْ أَمَرُوا بِذَلِكَ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حَذْفِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِمْ وَذِكْرِهِ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعْهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَأَمَّا أُولُو الْأَمْرِ فَشَرْطُ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِمْ أَلَّا يَكُونُ مَعْصِيَةً.

ثُمَّ أَمَرَ بِرَدِّ كُلِّ مَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ؛ أَيْ: إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ; فَإِنَّ فِيهِمَا الْفَصْلَ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، إِمَّا بِصَرِيحِهِمَا أَوْ عُمُومِهِمَا; أَوْ إِيمَاءٍ، أَوْ تَنْبِيهٍ، أَوْ مَفْهُومٍ، أَوْ عُمُومِ مَعْنًى يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا أَشْبَهَهُ، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ عَلَيْهِمَا بِنَاءُ الدِّينِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِمَا.

فَالرَّدُّ إِلَيْهِمَا شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا قَالَ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرُدَّ إِلَيْهِمَا مَسَائِلَ النِّزَاعِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقِيقَةً، بَلْ مُؤْمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا {ذَلِكَ}؛ أَيِ: الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا وَأَصْلَحُهَا لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَعَاقِبَتِهِمْ)).

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

فَمَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَلْ خَانَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ، وَصَارَ خَائِنًا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِأَمَانَتِهِ، مُنْقِصًا لِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِأَخَسِّ الصِّفَاتِ، وَأَقْبَحِ الشِّيَاتِ، وَهِيَ الْخِيَانَةُ، مُفَوِّتًا لَهَا أَكْمَلَ الصِّفَاتِ وَأَتَمَّهَا وَهِيَ الْأَمَانَةُ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُمْتَحَنًا بِأَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى أَدَاءِ أَمَانَتِهِ، أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِتْنَةٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ سَتُؤَدَّى لِمَنْ أَعْطَاهَا، وَتُرَدُّ لِمَنِ اسْتَوْدَعَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

فَإِنْ كَانَ لَكُمْ عَقْلٌ وَرَأْيٌ؛ فَآثِرُوا فَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى لَذَّةٍ صَغِيرَةٍ فَانِيَةٍ مُضْمَحِلَّةٍ، فَالْعَاقِلُ يُوَازِنُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهَا بِالْإِيثَارِ، وَأَحَقَّهَا بِالتَّقْدِيمِ)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: ٥٥-57].

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْخِصَالَ الثَّلَاثَ: الْكُفْرَ، وَعَدَمَ الْإِيمَانِ، وَالْخِيَانَةَ، بِحَيْثُ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى عَهْدٍ عَاهَدُوهُ وَلَا قَوْلٍ قَالُوهُ، هُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْخَيْرَ مَعْدُومٌ مِنْهُمْ، وَالشَّرَّ مُتَوَقَّعٌ فِيهِمْ.

فَإِذْهَابُ هَؤُلَاءِ وَمَحْقُهُمْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ؛ لِئَلَّا يَسْرِيَ دَاؤُهُمْ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}؛ أَيْ: تَجِدَنَّهُمْ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}: نَكِّلْ بِهِمْ غَيْرَهُمْ، وَأَوْقِعْ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ، {لَعَلَّهُمْ}؛ أَيْ: مَنْ خَلْفَهُمْ {يَذَّكَّرُونَ} صَنِيعَهُمْ، لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ.

وَهَذِهِ مِنْ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْمَعَاصِي، أَنَّهَا سَبَبٌ لِازْدِجَارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلِ الْمَعَاصِيَ، بَلْ وَزَجْرًا لِمَنْ عَمِلَهَا أَنْ لَا يُعَاوِدَهَا.

وَدَلَّ تَقْيِيدُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فِي الْحَرْبِ أَنَّ الْكَافِرَ - وَلَوْ كَانَ كَثِيرَ الْخِيَانَةِ سَرِيعَ الْغَدْرِ - أَنَّهُ إِذَا أُعْطِيَ عَهْدًا لَا يَجُوزُ خِيَانَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ.

هَذَا دِينُ اللهِ، دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، لَا غَدْرَ فِيهِ وَلَا خِيَانَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مُطْلَقٌ, وَحَقٌّ كَامِلٌ, وَأَمَانَةٌ شَامِلَةٌ.

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨].

وَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فَخِفْتَ مِنْهُمْ خِيَانَةً، بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}عهدهم ؛ فارْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، {عَلَى سَوَاءٍ}: حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَغْدِرَهُمْ، أَوْ تَسْعَى فِي شَيْءٍ مِمَّا مَنَعَهُ مُوجِبُ الْعَهْدِ، حَتَّى تُخْبِرَهُمْ بِذَلِكَ.

{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، بَلْ يُبْغِضُهُمْ أَشَدَّ الْبُغْضِ، يَمْقُتُهُمْ أَعْظَمَ الْمَقْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ بَيِّنٍ يُبَرِّئُكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتِ الْخِيَانَةُ الْمُحَقَّقَةُ مِنْهُمْ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْفَ مِنْهُمْ، بَلْ عُلِمَ ذَلِكَ، وَلِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلِقَوْلِهِ: {عَلَى سَوَاءٍ}، وَهُنَا قَدْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمِيعِ غَدْرُهُمْ.

وَدَلَّ مَفْهُومُهَا -أَيْضًا- أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُمْ خِيَانَةً، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَبْذُ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ إِلَى أَنْ تَتِمَّ مُدَّتُهُ)) .

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا -أَيْ: لَا تُشَوِّهُوا الْقَتْلَى بِقَطْعِ الْأُنُوفِ وَالْآذَانِ-، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.

وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِن حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ: ((إِذَا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ يُونُسُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَلكَ-)).

قَالَ: قُلْتُ: مَا أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((اتَّقِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ)) . أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَلَقَّوُا الْبَيْعَ -يَعْنِي: بِظَاهِرِ الْقُرَى وَالْمُدُنِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ السِّعْرُ فِي الْأَسْوَاقِ-، وَلَا تَصُرُّوا الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ لِلْبَيْعِ -يَعْنِي: يَحْبِسُونَهَا عَلَى أَلْبَانِهَا فِي ضُرُوعِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ بَائِعٌ لِمُشْتَرٍ ظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ لَهَا عَادَةٌ-، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا بِصَاعِ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ -قَالَ: عَمْرٌو أَوِ ابْنُ أَبِي عُمَرَ- اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ, بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ))، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)) مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي!! الْمُوَظَّفُ فِي وَظِيفَتِهِ لَهُ رَاتِبُه، لَا يُهْدَى لَهُ؛ لِمَاذَا يُهْدَى لَهُ؟!!

يَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي!! يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهَا غَدْرَةٌ وَخِيَانَةٌ.

عَنْ أَبِي زُرَارَةَ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ, كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْوَدُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ -قَالَ: لَا تَسْتَعْمِلْنِي-.

قَالَ: ((وَمَا لَكَ؟)).

قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: ((وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

الْأَمَانَةُ وَصْفُ الْمُرْسَلِينَ، هِيَ أَبْرَزُ أَخْلَاقِ الرُّسُلِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ، فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ يُخْبِرُنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [ الشعراء: 107].

وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ فِي قَوْمِهِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ, قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ, وَبَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ، كَانَ النَّاسُ يَخْتَارُونَهُ لِحِفْظِ وَدَائِعِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَمَّا هَاجَرَ وَكَّلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى أَصْحَابِهَا.

يَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِهِ وَإِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْهِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَيُكَذِّبُونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَيَأْتَمِنُونَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَمِينُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمِينُ الْوَحْيِ، وَصَفَهُ اللهُ بِذَلِكَ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٢-194].

وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ الْمَجَالَاتِ كُلَّهَا: الدِّينُ، وَالْأَعْرَاضُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْأَجْسَامُ، وَالْأَرْوَاحُ، وَالْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالْوِصَايَةُ، وَالشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْكِتَابَةُ، كَمَا تَدْخُلُ نَقْلَ الْحَدِيثِ، تَدْخُلُ الْأَسْرَارَ وَالرِّسَالَاتِ، وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَسَائِرَ الْحَوَاسِّ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنَاسِبُهَا.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ, أَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا, أَشْفَقْنَ مِنْ حَمْلِهَا, تَصَدَّى لِحَمْلِهَا الْإِنْسَانُ, إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

لِكُلِّ إِنْسَانٍ ظُلْمٌ بِحَسَبِهِ, وَجَهْلٌ بِحَسَبِهِ، لَا يَخْلُو إِنْسَانٌ مِنْ ظُلْمٍ وَجَهْلٍ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: ٧٢].

أَدِّ الْأَمَانَةَ, لَا تَخُنْ!

كُنْ أَمِينًا وَلَا تَخُنْ؛ لِأَنَّ ((آيَةَ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِة اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ)) . الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ, وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ, وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ, وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ)) .

وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ..

أَدُّوا الْأَمَانَةَ!

لَا تَخُونُوا اللهَ!

لَا تَخُونُوا الرَّسُولَ!

لَا تَخُونُوا الْبَلَدَ الْإِسْلَامِيَّ الَّذِي أَظَلَّتْكُمْ سَمَاؤُهُ, وَأَقَلَّتْكُمْ أَرْضُهُ, وَرَوَاكُمْ مَاؤُهُ, وَاسْتَنْشَقْتُمْ هَوَاءَهُ, اتَّقُوا اللهَ فِيهِ, لَا تَخُونُوهُ, أَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

وَقَالَ ﷺ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» .

اؤْتُمِنَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ, مَا دَامَ قَدِ الْتَفَتَ، «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» -لَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ- أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).. فَجَّرَ الْأَبْرَاجَ، وَنَسَفَ الْأَكْشَاكَ، وَقَطَعَ السَّبِيلَ، وَأَرَاقَ الدِّمَاءَ، وَقَطَعَ الرِّقَابَ، وَأَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ، وَخَرَّبَ الْمُمْتَلَكَاتِ، وَعَدَى عَلَى الْأَبْشَارِ وَعَلَى الْأَعْرَاضِ، وَأَشَاعَ الْفَوْضَى فِي الْبِلَادِ، وَنَشَرَ فِيهَا الْفَسَادَ.. ((إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

وَالْمُسْلِمُ يَحْكُمُهُ فِي سِلْمِهِ وَحَرْبِهِ.. يَحْكُمُهُ فِي مُصَالَحَتِهِ وَمُخَاصَمَتِهِ دِينُ الله، فَهَذَا هُوَ الدِّينُ يَحْكُمُ الْمُسْلِمَ؛ وَ((التُّقَى مُلْجِمٌ))، وَ((التَّقِيُّ مُلْجَمٌ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا)) .

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ)) -كَذَا- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حَدِيثِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ فِي مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ, وَنُسِيءُ الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ.

فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا, نَعْرِفُ صِدْقَهُ وَنَسَبَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إِلَى اللهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ؛ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ.

وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ.

وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قال: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ, وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.

وَقَالَ ﷺ: ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)) .

وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْخِيَانَةِ كَمَا اسْتَعَاذَ بِهِ -تَعَالَى- مِنْ غَيْرِهَا مِنْ مُضْنِيَاتِ الدُّنْيَا، فَقَالَ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

((خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْخِيَانَةِ سَتَكُونُ وَبَالًا وَخُسْرَانًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10].

مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الَّذِي عَقَدَهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَكَثَ الْبَيْعَةَ، فَإِنَّ وَبَالَ ذَلِكَ وَضَرَرَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَخْطَرِ أَلْوَانِ الْخِيَانَةِ؛ قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

إِنَّ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ عَهْدَ اللهِ وَأَيْمَانَهُمْ كَاذِبِينَ مُقَابِلَ ثَمَنٍ قَلِيلٍ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي أَغْرَتْهُمْ فَأَغْوَتْهُمْ فَيَحْصُلُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ، أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي نَعِيمِهَا.

وَلَا يُوَاجِهُهُمُ اللهُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْحِسَابِ، بَلْ يُحَاسِبُهُمْ كِخِطَابِ الْغَائِبِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَظَرَ رَحْمَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ لِعِظَمِ جَرِيمَتِهِمْ؛ إِذْ كَفَرُوا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كَفَرُوا بِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ.

وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ، وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِجَمِيلٍ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ فِي الْآخِرَةِ؛ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ وَفَائِهِمْ بِعَهْدِ اللهِ، وَجَزَاءَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفُوهَا وَوَثَّقُوا بِهَا الْعُهُودَ الَّتِي أَعْطَوْهَا لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ وَيَتَّبِعُوهُ.

وَجَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةً جَزَاءَ نَقْضِ عَهْدِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].

فَبِسَبَبِ نَقْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللهِ الْمُؤَكَّدَ؛ عَاقَبْنَاهُمْ بِعُقُوبَتَيْنِ..

الْأُولَى: أَبْعَدْنَاهُمْ وَطَرَدْنَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.

وَالثَّانِيَةُ: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ غَلِيظَةً يَابِسَةً، مَنْزُوعَةً مِنْهَا الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ، مَشُوبَةً بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ طَالَ عَلَيْهِ الْأَمَدُ فِي الْعِصْيَانِ وَارْتِكَابِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَالْعُدْوَانِ قَسَا قَلْبُهُ، وَجَفَّتْ مَنَابِعُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ فِيهِ، وَهِيَ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا هَذِهِ الْقُلُوبُ ضِمْنَ سُنَنِ اللهِ السَّبَبِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنْ عَوَاقِبِ الْخِيَانَةِ: أَنَّ كُلَّ خَائِنٍ لَا بُدَّ أَنْ تَعُودَ خِيَانَتُهُ وَمَكْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].

وَأَنَّ اللهَ لَا بُدَّ أَنْ يَكْشِفَ كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يَدَعُ كَيْدَ الْخَائِنِينَ سَاتِرًا لِخِيَانَاتِهِمْ وَمُلْصِقًا التُّهْمَةَ بِالْبَرِيئِينَ.

* وَمِنْ أَخْطَرِ عَوَاقِبِ الْخِيَانَةِ: بُغْضُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْخَائِنِ؛ فَالْخَائِنُ لَا يُحِبُّهُ اللهُ، بَلْ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى كُفْرِهِ وَخِيَانَتِهِ، قال -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: ٣٨].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].

* وَمِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ: الْفَضِيحَةُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يِوَمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ)).

* مِنْ آثَارِ الْخِيَانَةِ: الْوَصْفُ بِالنِّفَاقِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.

((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ بِجَحْدِ مَا عَلَيْهِ، وَبِادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَائِنٌ.. خَانَ الْأَمَانَةَ، يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَجْحَدُ مَا عَلَيْهِ.

((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)): فَلَا ذِمَّةَ لَهُ تَقُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَدْرُ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَالنَّقْضُ لِلْوَعْدِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ النِّفَاقُ بِخَصْلَتِهِ.

وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النُّفُوسِ الْمَرِيضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ, لَا تَجِدُ الرَّجُلَ صَاحِبَ الْمُرُوءَةِ يُنَافِقُ أَبَدًا!!

((خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَوْطَانِ))

 

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ الْخُطَبَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْقُرَّاءُ أُمَنَاءَ عَلَى دِينِ الْأُمَّةِ، يُوَجِّهُونَ النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، يَعْرِفُونَ الرَّشَادَ أَيْنَ يَكُونُ، يَؤُمُّونَهُ أَمًّا، يَقْصِدُونَهُ قَصْدًا، وَالْآنَ إِلَى أَيْنَ يَسِيرُونَ؟!!

كَانَ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْقُرَّاءُ.. كَانَ مِلْحَ هَذِهِ الْأَرْضِ, يَتَّقِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ, يَدْعُو فِي الْمُنَاسَبَاتِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ, فَعَكَسُوا الْقَضِيَّةَ وَجَاءَ الْخَوَارِجُ -قَبَّحَهُمُ اللهُ- يَدْعُو الرَّجُلُ عَلَى بَلَدِهِ، يَدْعُو الرَّجُلُ عَلَى وَطَنِهِ، يُرِيدُ الْمَذَلَّةَ لِأَهْلِهِ، يَدْعُو عَلَى دَوْلَتِهِ، يَسْتَمْطِرُ الْفَوْضَى مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَوْمِهِ، لَا يُبَالِي بِعِرْضٍ، وَقَدْ فَرَّطَ فِي الْأَرْضِ، وَوَضَعَ يَدًا نَجِسَةً دَنِسَةً فِي أَيْدِي الْخَوَنَةِ وَالْعُمَلَاءِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، يَتْبَعُونَ جَمِيعًا شَيْطَانًا رَجِيمًا!!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

لَقَدِ اسْتَأْمَنَكُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى هَذَا الدِّينِ؛ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَنَهَاكُمْ عَنِ التَّفْرِيطِ فِيهِ, وَجَعَلَ التَّفْرِيطَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي خِيَانَةً, وَبَيَّنَ لَكُمْ رَسُولُكُمْ ﷺ أَنَّ ((الْأَمَانَةَ أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ بَيْنِكُمْ))، أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْأَمَانَةُ, وَبَيَّنَ ﷺ أَنَّهُ ((يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فَلَا تَجِدُ فِيهِ رَجُلًا أَمِينًا)) .

وَالْأَمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتِ الْأَمَانَةُ حَلَّتِ الْخِيَانَةُ؛ خِيَانَةُ الدِّينِ، خِيَانَةُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يُنَادِيكُمْ رَبُّكُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّفِيفِ، بِهَذَا النَّعْتِ اللَّطِيفِ يَمَسُّ شِغَافَ الْقُلُوبِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ آمَنُوا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يَا مَنْ تُقَدِّمُونَ دِينَكُمْ عَلَى حَيَاتِكُمْ، يَا مَنْ تَجْعَلُونَ أَرْوَاحَكُمْ دِفَاعًا وَذَبًّا دُونَ دِينِكُمْ، يَا مَنْ تُرْخِصُونَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ مِنْ أَجْلِ دِينِكُمْ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}: اسْتَأْمَنَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى هَذَا الدِّينِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَلَا تَخُونُوا رَبَّكُمْ، لَا تَخُونُوا نَبِيَّكُمْ، لَا تَخُونُوا دِينَكُمْ، لَا تَخُونُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا تَخُونُوا أَوْطَانَكُمْ!

إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

مَا الَّذِي يَتَبَقَّى لَهُ مِنْ مَعَانِي الْحَيَاةِ؟ وَلِمَاذَا يَحْيَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟!!

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَنْ يُسْقِطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْبَلَدَ إِلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ: الْخِيَانَةُ.. الْخِيَانَةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُمَكِّنُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ، لَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ عَدُوٌّ لَهُ إِلَّا بِالْخِيَانَةِ، وَمَا أَكْثَرَ الْخَوَنَةَ!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا؛ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).

قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟

قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)) .

وَرَسُولُ اللهِ جَعَلَ الْمُتَسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ, ((لَمَّا جَاءَهُ مَنْ جَاءَهُ عَائِدًا مِنَ السَّرِيَّةِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ وَاحِدًا مِمَّنْ ذَهَبُوا مَعَهُمْ أَصَابَهُ جُرْحٌ شَجَّهُ حَجَرٌ، فَنَامَ فَاحْتَلَمَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ سَأَلَ مَنْ حَضَرَ: تَرَوْنَ مَا بِي؛ فَهَلْ تَرَوْنَ لِي أَنْ أَتَيَمَّمَ وَالْمَاءُ حَاضِرٌ؟

قَالُوا: لَا، اغْتَسِلْ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ))، كَمَا فِي ((سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

فَنَقَلُوا هَذَا الَّذِي وَقَعَ لِرَسُولِ اللهِ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، هَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟!! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».

قَتَلُوهُ..

هَلْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ؟!!

ذَبَحُوهُ؟!!

أَحْرَقُوهُ؟!!

خَنَقُوهُ؟!!

جَعَلُوا ذُبَابَ السَّيْفِ عَلَى قَلْبِهِ وَاتَّكَئُوا عَلَيْهِ؟!!

لَا، لَمْ يَقَعْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، مَا الَّذِي وَقَعَ؟!!

أَفْتَوْهُ بِفَتْوَى قَتَلَتْهُ: ((قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ)).

الْمُتَسَبِّبُ كَالْمُبَاشِرِ.

مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذَا الْبَلَدِ الْآمِنِ فَوْضَى، أَوْ سَعَى إِلَيْهَا، أَوْ تَسَبَّبَ فِيهَا؛ فَكُلُّ النَّتَائِجِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى هَذِهِ الْفَوْضَى فِي عُنُقِهِ كِفْلٌ مِنْهَا.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».

فَكُلُّ نَفْسٍ تُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، نَصِيبٌ مِنَ الْوِزْرِ الَّذِي يَلْحَقُ مَنْ أَزْهَقَهَا.

الْمُتَسَبِّبُ كَالْمُبَاشِرِ.. اتَّقُوا اللهَ!

عَبْدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ -وَهُوَ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ- جَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَجْعَلُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ يَقُولُ: قَتَلْتُ عُثْمَانَ, قَتَلْتُ عُثْمَانَ.

قَالُوا: رَحِمَكَ اللهُ، مَا هَذَا الَّذِي تَقُولُ؟!! أَنْتَ لَمْ تُبَاشِرْ شَيْئًا.

قَالَ: كُنْتُ أَنْتَقِدُ بَعْضَ سِيَاسَاتِهِ -مَعْنَى مَا قَالَ-.

فَجَعَلَ كَلَامَهُ فِيهِ تَهْيِيجًا عَلَيْهِ، وَتَثْبِيطًا عَنْهُ؛ فَالَّذِي يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كِفْلٌ مِنْهُ.

اتَّقُوا اللهَ!

أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!

لِمَاذَا تَتَكَلَّمُونَ فِيمَا لَا تُحْسِنُونَ؟!!

لَا أَحَدَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّنَاعَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ يَقْبَلُ عَلَيْهَا دَخِيلًا لَمْ يُؤَهَّلْ لَهَا.

مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ دُكَّانًا يَبِيعُ فِيهِ الطُّرْشِيَّ؛ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، لَا بُدَّ أَنْ تُوَافِقَ عَلَى بَيْعِهِ جِهَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ، وَإِذَا مَا اجْتَرَأَ فَصَنَعَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ؛ أُخِذَ وَحُوسِبَ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ! إِلَّا الدِّينَ!! كَلَأٌ مُسْتَبَاحٌ!!

تُكَفِّرُ عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ؟!! لَا بَأْسَ وَلَا خَطَرَ!! سَتَدْخُلُ بِتَكْفِيرِهِمُ الْجَنَّةَ!!

تُفَجِّرُ نَفْسَكَ؟!!

تَمُوتُ مُنْتَحِرًا؟!!

تُرَوِّعُ الْمُسْلِمِينَ؟!!

تَقْطَعُ الطُّرُقَ؟!!

تُفَجِّرُ أَكْشَاكَ الْكَهْرُبَاءِ؟!!

تُسْقِطُ أَبْرَاجَهَا؟!!

هَذَا مَالُنَا كُلِّنَا؛ فَلِمَاذَا تُهْدِرُونَهُ؟!! لِمَاذَا تُذْهِبُونَهُ؟!! أَبِهَذَا يَقُومُ الْإِسْلَامُ؟!!

يَعْنِي: أَنْتُمْ تُرِيدُونَ يَا خَوَارِجَ الْعَصْرِ أَنْ تُخَرِّبُوا الْبَلَدَ، وَأَنْ تُسْقِطُوا اقْتِصَادَهَا، وَأَلَّا تَجْعَلُوا فِيهَا شَرِيفًا وَلَا عَفِيفَةً، لَا تُرِيدُونَ فِيهَا أَمْنًا وَلَا أَمَانًا لِتَحْكُمُوهَا بِالْإِسْلَامِ؟!!

تُرِيدُونَ خَرَابَةً تَحْكُمُونَهَا بِالْإِسْلَامِ أَيُّهَا الْغِرْبَانُ! أَيُّهَا الْبُومُ! يَا مَنْ تَسْكُنُونَ الْخَرَائِبَ لَا تُحْسِنُونَ سِوَى سُكْنَاهَا؟!!

لَا تُرَاعُوا.. لَا تُرَاعُوا وَلَا تَخَافُوا! سَيَجْعَلُ اللهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَوَارِجِ: «كُلَّمَا طَلَعَ قَرْنٌ قُطِع».

مَا قَامَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ، قَدْ تَرَاهُمْ هُنَا وَهُنَالِكَ يَنْعَقُونَ، يَنْهَقُونَ، يَتَكَلَّمُونَ، يَهْرِفُونَ بِمَا لَا يَعْرِفُونَ، وَتَظُنُّ أَنَّهُمْ قَدْ صَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ؟!!

لَا، أَنْتَ وَاهِمٌ.

إِنَّ الْقَرَامِطَةَ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَتَلُوا الْحَجِيجَ، رَدَمُوا بِجُثَثِهِمْ بِئْرَ زَمْزَمَ، قَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى هَجَرَ، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ عِقْدَيْنِ وَنَيِّفًا مِنَ السِّنِينَ، وَلَمْ تُعِدْهُ الدَّوْلَةُ بِالسِّلَاحِ، وَإِنَّمَا بِالْمُفَاوَضَاتِ، وَأَيْنَ هُمْ؟!!

أَيْنَ الْقَرَامِطَةُ؟!!

أَيْنَ الْحَشَّاشُونَ؟!!

أَيْنَ الصَّفَوِيُّونَ؟!!

أَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ سَوْفَ تُوَاجِهُونَ.

الْإِسْلَامُ أَمَامَكُمْ، دَافِعُوا عَنْهُ، لَا تَخُونُوهُ، احْذَرُوا أَنْ تَخُونُوهُ، هُوَ عِزُّكُمْ، مَجْدُكُمْ، ذِكْرُكُمْ، شَرَفُكُمْ، الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ حَيَاتُكُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً، فَاحْذَرُوا أَنْ تَخُونُوهُ!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ -بِعَوْنِ رَبِّكُمْ وِبَحْوِلِهِ وَقُوَّتِهِ- مَنْ سَتَتَصَدَّوْنَ لِهَذَا الْبَلَاءِ، أَنْتُمْ جَسَدٌ صَحِيحٌ يَقْوَى عَلَى جَمِيعِ مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَوْبِئَةِ وَالْمَيُكْرُوبَاتِ، أَنْتُمْ جَسَدٌ سَلِيمٌ صَحِيحٌ يَلْفِظُ خَبَثَهُ.

هَذَا الدِّينُ كَمَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ؛ ((تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) .

لَا تُرَاعُوا، سَيَجْعَلُ اللهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اثْبُتُوا، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى أُولَئِكَ النَّاعِقِينَ.

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثَ أَنَّ الْأَمَانَةَ سَوْفَ تُرْفَعُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ، وَسَوْفَ يَقِلُّ التَّعَامُلُ بِهَا، وَإِذَا رُفِعَتِ الْأَمَانَةُ فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مَكَانَهَا الْخِيَانَةُ، وَالْخِيَانَةُ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ، وَأَنْ يُبَرِّأَنَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُنَجِّيَ بَلَدَنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَمِنْ كُلِّ سُوءٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، مِنْ هَذَا الدَّاءِ الَّذِي ضَرَبَ بِأَرْجَائِهَا، وَعَبَثَ بِأَنْحَائِهَا، وَتَمَلَّكَ مِنْ قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَغْرَارِ مِنْ أَبْنَائِهَا.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُعَافِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْهُ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، عَلَى هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَعَلَى سَائِرِ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ.

اللهم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ نَجِّ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللهم بَارِكْ فِي بَلَدِنَا وَفِي جَمِيعِ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ.

اللهم بَارِكْ فِي قِيَادَتِنَا، وَفِي جَيْشِنَا، وَفِي أَمْنِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ
  فضل عشر ذي الحجة
  عَالَمِيَّةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهَا
  الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان