الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ

الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ

((الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْعُلُومُ وَالصِّنَاعَاتُ النَّافِعَةُ الْعَصْرِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ))

فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

وَقَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164].. إلخ الْآيَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى جَمِيعِ عُلُومِ الْكَوْنِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَنَافِعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ.

وَعُلُومُ الْبَشَرِ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالنَّتَائِجِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: عُلُومٌ دِينِيَّةٌ تُعَرِّفُ الْعِبَادَ بِاللهِ؛ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرَائِعِ دِينِهِ، وَتُبَيِّنُ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْقِصَصِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.

الثَّانِي: عُلُومٌ كَوْنِيَّةٌ: مَوْضُوعُهَا النَّظَرُ فِي الْكَوْنِ وَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلْعِبَادِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفَهْمُهَا، وَتَصْوِيرُهَا وَإِبْرَازُهَا بِالْعَمَلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَاسْتِخْرَاجُ مَنَافِعِهَا.

وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِيهِ بَيَانُ النَّوْعَيْنِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ إِلَّا وَقَدْ هَدَى إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَدَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، فَصَّلَهَا تَفْصِيلًا لَا يُبْقِي فِيهَا لَبْسًا وَلَا إِشْكَالًا؛ خُصُوصًا مَا يَحْتَاجُهُ كُلُّ فَرْدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.

وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ جَعَلَ لَهَا قَوَاعِدَ وَضَوَابِطَ تُرَدُّ إِلَيْهَا الْحَوَادِثُ الْجُزْئِيَّةُ، فَتُطَبَّقُ الْمُعَيَّنَاتُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ.

وَالْعُلُومُ الْكَوْنِيَّةُ تُرْشِدُ الْعُقُولَ إِلَى التَّفْكِيرِ فِيهَا، وَاسْتِخْرَاجِ عُلُومِهَا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّهَا وَسَخَّرَهَا لِمَنَافِعِهِمُ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهَا وَاسْتِخْرَاجِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ.

وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ خَلَقَ لَنَا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَنَا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِهِ نَسْتَمْتِعُ، وَبِهِ نَنْتَفِعُ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُحَصِّلُ لَنَا هَذِهِ النِّعَمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا وَخَلَقَ أَعْمَالَنَا بِمَا يَسَّرَ، وَسَخَّرَ لَنَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي نُدْرِكُ بِهَا الْأَعْمَالَ وَالنَّتَائِجَ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَجَعَلَهُ قَابِلًا لِتَعَلُّمِ الْعُلُومِ كُلِّهَا؛ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ.

وَهَذَا الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَصْرِيَّةِ كَمَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ وَهَذِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَكُلُّهَا نِعَمٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي حَصَلَ لَهُ فِيهَا الْعِلْمُ الدِّينِيُّ وَالْكَوْنِيُّ، كَمَا أَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي رَزَقَهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ رِزْقَهُ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْأَرْضِ الْمَنَافِعَ الْمُتَنَوِّعَةَ، وَهُوَ الَّذِي يَسَّرَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي يُرْسِلُهُمْ إِلَيْهَا، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِخْرَاجِهَا، وَرَبَطَ الْبَشَرَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، وَآثَارِهَا وَنَتَائِجِهَا، وَجَعَلَ هَذَا الِارْتِبَاطَ الْمُتَنَوِّعَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا كُلُّ مَقْدُورٍ لِلْبَشَرِ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي إِمْكَانِهِمْ.

وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَسْتَعِينُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَحُقُوقِ سَائِرِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى الْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالصَّلَاحِ، وَالسَّعَادَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ؛ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَقِيَتْ لَهُمُ النِّعَمُ، وَبُورِكَ لَهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَزَالُوا فِي صُعُودٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَنْجَاةٍ مِنَ الشُّرُورِ وَالْهَلَكَاتِ، وَتَمَكَّنُوا أَنْ يَحْيَوْا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً سَعِيدَةً هَنِيئَةً، وَبِهَذَا أَمَرَ الْقُرْآنُ، وَلِهَذَا أَرْشَدَ الْقُرْآنُ.

وَحَذَّرَهُمْ مِنْ ضِدِّهِ -وَهُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي-: وَهُوَ أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالنِّعَمِ عَنِ الْمُنْعِمِ، وَجَعَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ الْمَادِّيَّةَ غَايَةَ مَطْلُوبِهِمْ وَمُرَادِهِمْ، وَلَمْ يَقُومُوا بِحُقُوقِ الْمُنْعِمِ بِهَا، وَلَا حَنَوْا بِهَا عَلَى الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ؛ كَانَتْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَضَرَرًا لَازِمًا، وَصَارَتْ آلَاتٍ وَوَسَائِلَ لِلْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالشَّقَاءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَعِيشُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عِيشَةً هَنِيئَةً، بَلْ عِيشَةَ شَقَاءٍ، وَتَنَقُّلٍ مِنْ شَرٍّ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهُ.

وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الرُّقِيَّ الْحَقِيقِيَّ الصَّحِيحَ هُوَ بِاسْتِصْحَابِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ، وَامْتِزَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَتَعَاوُنِهِمَا وَتَسَاعُدِهِمَا عَلَى سُلُوكِ طُرُقِ الصَّلَاحِ الْمُطْلَقِ، وَالسَّعَادَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالنِّعَمِ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ؛ لِتَتِمَّ النِّعَمُ وَتَكْمُلَ السَّعَادَةُ.

وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ؛ بَلْ هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَلُبُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ، وَسَخَّرَ لَنَا مَا فِي الْكَوْنِ لِنَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَنَنْتَفِعَ بِمَا أَحَلَّهُ لَنَا وَأَبَاحَهُ.

وَفِي إِخْبَارِهِ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ عَظِيمَةً وَكُنُوزًا وَخَزَائِنَ قَدْ أَعَدَّهَا اللهُ لَنَا، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً مُمْكِنًا اسْتِخْرَاجُهَا وَتَحْصِيلُهَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ حَثًّا لَنَا عَلَى تَعَلُّمِ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا نُدْرِكُهَا وَنُحَصِّلُهَا وَنُنَمِّيهَا وَنُكَمِّلُهَا، فَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِوُجُودِ الْمَنَافِعِ الْمُتَنَوِّعَةِ لِكُلِّ الْحَاجَاتِ، وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقٍ مِنْ عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ، وَاخْتِبَارَاتٍ وَتَجَارِبَ، وَأَنَّ مَنَافِعَهَا لَا تَزَالُ تُوجَدُ شَيْئًا بَعْد شَيْءٍ، فَكُلُّ مَا تَمَّ وَيَتِمُّ لِلْبَشَرِ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؛ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِكْمَالِ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي تُجْلَبُ بِهَا الْمَصَالِحُ، وَتُدْفَعُ بِهَا الْمَضَارُّ.

وَلَقَدْ صَرَّحَ -تَعَالَى- فِي قَوْلِهِ: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]؛ حَيْثُ جَاءَ بِهَا فِي صِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ.. صَرَّحَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ بِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ، وَإِقْدَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُتَنَوِّعَةِ.. يَخْلُقُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ وَقْتَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.

وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا حَدَثَ وَيَحْدُثُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ بِأَسْمَائِهَا وَلَا بِأَوْصَافِهَا، بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِلَوَازِمِهَا الدَّالَّةِ عَلَى مَلْزُومِهَا؛ لِحِكْمَةٍ يَفْهَمُهَا كُلُّ مُتَأَمِّلٍ مُتَدَبِّرٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَوْصَافِ الْمُخْتَرَعَاتِ الَّتِي تَجِدُّ مَعَ تَقَدُّمِ الزَّمَانِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّهَا سَتَكُونُ الطَّيَّارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا، وَالسَّيَّارَاتُ الْبَرِّيَّةُ وَالْبَحْرِيَّةُ، وَالْغَوَّاصَاتُ بِأَجْنَاسِهَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَتَخَاطَبُونَ فِيمَا بَعْدُ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا؛ لَوْ أَخْبَرَهُمْ بِبَعْضِ ذَلِكَ لَمْ يُصَدِّقُوا، وَلَارْتَابُوا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُشَاهِدُوهَا وَلَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا.

وَلَكِنْ -وَللهِ الْحَمْدُ- أَخْبَرَ بِنُصُوصٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِخْبَارَاتٍ عَامَّةً لِتَشْمَلَ جَمِيعَ مَا حَدَثَ وَيَحْدُثُ، وَأَخْبَرَ بِلَوَازِمِهَا عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ؛ بِحَيْثُ إِذَا حَدَثَتِ الْجُزْئِيَّاتُ أَمْكَنَ إِدْخَالُهَا فِي تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ، وَذَلِكَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِخْبَارِهِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَعِنْدَ وُقُوعِهَا يَزْدَادُ الْمُؤْمِنُ إِيمَانًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَزْدَادُ الْمُكَذِّبُ إِعْرَاضًا وَنُفُورًا وَتَمَرُّدًا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 86-97].

وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

وَكَمَا أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَرْضَ فِيهَا مَنَافِعُ وَخَزَائِنُ عَظِيمَةٌ سَخَّرَهَا لِلْآدَمِيِّينَ؛ أَخْبَرَ كَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْفَعَةً دُونَ أُخْرَى؛ لِيَشْمَلَ وَيَعُمَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ بِالْحَدِيدِ سَابِقًا وَلَاحِقًا.

فَكُلُّ مَنْفَعَةٍ اسْتُخْرِجَتْ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْحَدِيدِ مُنْفَرِدَةً، أَوْ مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا، أَوْ مُسَاعِدَةً بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.

وَكُلُّ تَعْلِيمٍ حَصَلَ لِلْبَشَرِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشِذَّ عَنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَنَافِعِ، وَالِاخْتِرَاعَاتِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَالنَّتَائِجِ لَهَا وَالثَّمَرَاتِ، وَكُلُّهَا مِنَ اللهِ بِمَا يَسَّرَهُ لِلْعِبَادِ مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يُدْرِكُونَهَا وَيَسْتَخْرِجُونَهَا بِهَا؛ فَمَنِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ؟!!

وَمَنِ الَّذِي أَقْدَرَهُمْ عَلَى مَا عَلَيْهِ يَقْتَدِرُونَ؟!!

وَمَنِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْكَوْنِ الْمَنَافِعَ وَالْخَزَائِنَ، وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا؟!!

مَنِ الَّذِي يَسَّرَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!

وَكَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَرْزُقُ الْخَلَائِقَ وَيُصَرِّفُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّدَابِيرِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْصُلُ فِيهَا هَذِهِ الْأُمُورُ؛ فَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَاسْتِخْرَاجِ نَتَائِجِهَا؛ وَلَكِنَّ الْجَاحِدَ قَاصِرُ النَّظَرِ يَقِفُ عِنْدَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى مُسَبِّبِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَالْمُنْعِمِ بِهَا.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْحَثُّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أُمُورِ الْكَوْنِ كُلِّهَا وَالنَّظَرُ وَالتَّدَبُّرُ وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا أَنْ سَخَّرَ لِلْعِبَادِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهَا مُعَدَّةً وَمُهَيَّأَةً لِمَنَافِعِهِمْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا -أَيْ: بِهَذِهِ الْآيَاتِ- فَقَطْ مُجَرَّدَ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ.. مَقْصُودًا لِتَحْصِيلِ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَهُوَ حُصُولُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَمَعْرِفَةِ قُدْرَةِ اللهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ، وَالدَّالَّةِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ الَّتِي مَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ شَيْئًا فَشَيْئًا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: ثَمَرَةُ هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ عُبُودِيَّةِ اللهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَمِنْ تَحْصِيلِ مَنَافِعِهَا الَّتِي تُفِيدُ الْعِبَادَ، وَتُصْلِحُ أَحْوَالَهُمْ، وَتَتِمُّ بِهَا أَحْوَالُهُمْ، وَيَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَصَالِحَ وَيَدْفَعُونَ بِهَا الْمَضَارَّ.

لَقَدْ وَضَحَ أَنَّ عُلُومَ الْكَوْنِ الَّتِي تُسَمَّى -فِي الْعُرْفِ- الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَرْشَدَ إِلَيْهَا وَهَدَى الْعِبَادَ إِلَيْهَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى إِعْمَالِ أَفْكَارِهِمْ فِي تَحْقِيقِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَأَنَّ جَمِيعَ الصِّنَاعَاتِ النَّافِعَةِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْإِرْشَادَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى لِكُلِّ مَصْلَحَةٍ، وَرَحْمَةٌ تَشْمَلُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالسَّعَادَةِ وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ إِلَّا بِالْتِزَامِ هَدْيِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَهَى الْعِبَادَ عَمَّا سِوَاهُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

فَهَذَا خَبَرُهُ -تَعَالَى- عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ أَنَّهُ سَيُرِي عِبَادَهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ فِي الْكَوْنِ -أَيْ: فِي الْآفَاقِ- وَفِي أَنْفُسِهِمْ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالرَّسُولَ حَقٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ فَعَلَ -جَلَّ وَعَلَا-، فَأَرَاهُمْ مِنْ آثَارِ اخْتِرَاعَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَسَّرَهَا لَهُمْ -خُصُوصًا فِي هَذَا الْعَصْرِ- مَا تَبَيَّنَ بِهِ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّ خَبَرَ اللهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ حَقٌّ)).

((الصِّنَاعَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى الصِّنَاعَةِ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ عَمَلَ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِالصِّنَاعَةِ؛ فَأَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى صِنَاعَةِ الْحَدِيدِ، وَالصِّنَاعَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

(({وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ؛ كَالسِّلَاحِ، وَالدُّرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِك.

 

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: وَهُوَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ نَفْعِهِ فِي أَنْوَاعِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ، وَالْأَوَانِي وَآلَاتِ الْحَرْثِ؛ حَتَّى إِنَّهُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ)).

كَمَا أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى صِنَاعَةِ الْمَلَابِسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْجُلُودِ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

((يُذَكِّرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ نِعَمَهُ، وَيَسْتَدْعِي مِنْهُمْ شُكْرَهَا وَالِاعْتِرَافَ بِهَا، فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} فِي الدُّورِ وَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، تُكِنُّكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَتَسْتُرُكُمْ أَنْتُمْ وَأَوْلَادَكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ، وَتَتَّخِذُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَالْغُرَفَ، وَالْبُيُوتَ الَّتِي هِيَ لِأَنْوَاعِ مَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَفِيهَا حِفْظٌ لِأَمْوَالِكُمْ وَحُرَمِكُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُشَاهَدَةِ.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ}: إِمَّا مِنَ الْجِلْدِ نَفْسِهِ، أَوْ مِمَّا نَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ صُوفٍ وَشَعْرٍ وَوَبَرٍ {بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} أَيْ: خَفِيفَةُ الْحِمْلِ تَكُونُ لَكُمْ فِي السَّفَرِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي لَا قَصْدَ لَكُمْ فِي اسْتِيطَانِهَا، فَتَقِيكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ، وَتَقِي مَتَاعَكُمْ مِنَ الْمَطَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا؛ أَيِ: الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا، وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنَ الْآنِيَةِ وَالْأَوْعِيَةِ وَالْفُرُشِ وَالْأَلْبِسَةِ وَالْأَجِلَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أَيْ: تَتَمَتَّعُونَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَهَذَا مِمَّا سَخَّرَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِصَنْعَتِهِ وَعَمَلِهِ.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ} أَيْ: مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا صَنْعَةَ لَكُمْ فِيهَا {ظِلَالًا}: وَذَلِكَ كَأَظِلَّةِ الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَنَحْوِهَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أَيْ: مَغَارَاتٍ تُكِنُّكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْأَمْطَارِ وَالْأَعْدَاءِ.

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} أَيْ: أَلْبِسَةً وَثِيَابًا {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الْبَرْدَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُهَا فِي أُصُولِ النِّعَمِ وَآخِرُهَا فِي مُكَمِّلَاتِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا، وَوِقَايَةُ الْبَرْدِ مِنْ أَصُولِ النِّعَمِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِهَا فِي قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}.

{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أَيْ: وَثِيَابًا تَقِيكُمْ وَقْتَ الْبَأْسِ وَالْحَرْبِ مِنَ السِّلَاحِ، وَذَلِكَ كَالدُّرُوعِ وَالزُّرُودِ وَنَحْوِهَا، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} حَيْثُ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، لَعَلَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ وَرَأَيْتُمُوهَا غَامِرَةً لَكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تُسْلِمُونَ لِعَظَمَتِهِ وَتَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَتَصْرِفُونَهَا فِي طَاعَةِ مُولِيهَا وَمُسْدِيهَا، فَكَثْرَةُ النِّعَمِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ مِنَ الْعِبَادِ مَزِيدَ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ بِهَا عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-)) .

وَأَشَارَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى صِنَاعَةِ السُّفُنِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- لِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].

وَاصْنَعِ السَّفِينَةَ بِمَرْأَى مِنَّا مَحْفُوظًا بِكَلَاءَتِنَا وَعِنَايَتِنَا، وَبِوَحْيِنَا فِي خُطَّةِ الْعَمَلِ، وَبِنَاءِ السَّفِينَةِ، وَطَرِيقَةِ التَّنْفِيذِ.

وَأَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى صِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ؛ فَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].

{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} فَكَانَ فِي يَدِهِ كَالْعَجِينِ يَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ.

وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ يَا دَاوُدُ دُرُوعًا وَاسِعَاتٍ سَاتِرَاتٍ!

((مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ؛ لِيَعْمَلَ الدُّرُوعَ السَّابِغَاتِ، وَعَلَّمَهُ -تَعَالَى- كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ، بِأَنْ يُقَدِّرَهُ فِي السَّرْدِ، أَيْ: يُقَدِّرُهُ حَلَقًا، وَيَصْنَعُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80])).

(({وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}؛ أَيْ: عَلَّمَ اللَّهُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهَا وَعَلِمَهَا وَسَرَتْ صِنَاعَتُهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَأَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَسْرُدُهَا، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا كَبِيرَةٌ؛ {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أَيْ: هِيَ وِقَايَةٌ لَكُمْ وَحِفْظٌ عِنْدَ الْحَرْبِ وَاشْتِدَادِ الْبَأْسِ.

{فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ أَجْرَاهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ دَاوُدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.

يُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِدَاوُدَ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَإِلَانَتَهَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ -كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ-: إِنَّ اللَّهَ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ يَعْمَلُهُ كَالْعَجِينِ وَالطِّينِ، مِنْ دُونِ إِذَابَةٍ لَهُ عَلَى النَّارِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لَهُ عَلَى جَارِي الْعَادَةِ، وَأَنَّ إِلَانَةَ الْحَدِيدِ لَهُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ لِإِذَابَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا، وَلَوْلَا أَنَّ صَنْعَتَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَقْدُورَةً لِلْعِبَادِ لَمْ يَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيَذْكُرْ فَائِدَتَهَا؛ لِأَنَّ الدُّرُوعَ الَّتِي صَنَعَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَعَذَّرٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَعْيَانَهَا، وَإِنَّمَا الْمِنَّةُ بِالْجِنْسِ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْإِلَانَةَ مِنْ دُونِ سَبَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ)).

وَأَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى الصِّنَاعَةِ وَإِلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي قِصَّةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ ذِي الْقَرْنَيْنِ؛ فَذَكَرَ الْقُرْآنُ إِذَابَةَ النُّحَاسِ وَإِسَالَتَهُ بَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ؛ لِجَعْلِ سَدٍّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 83-97].

((لَمَّا وَصَلَ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ كَرَّ رَاجِعًا، قَاصِدًا مَطْلَعَهَا، مُتَّبِعًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، فَوَصَلَ إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ فَـ {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أَيْ: وَجَدَهَا تَطْلُعَ عَلَى أُنَاسٍ لَيْسَ لَهُمْ سِتْرٌ مِنَ الشَّمْسِ؛ إِمَّا لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ فِي الْمَسَاكِنِ، وَذَلِكَ لِزِيَادَةِ هَمَجِيَّتِهِمْ وَتَوَحُّشِهِمْ، وَعَدَمِ تَمَدُّنِهِمْ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الشَّمْسِ دَائِمَةً عِنْدَهُمْ، لَا تَغْرُبُ عَنْهُمْ غُرُوبًا يُذْكَرُ، كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَرْقِيِّ أَفْرِيقْيَا الْجَنُوبِيِّ، فَوَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ انْقَطَعَ عَنْهُ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَضْلًا عَنْ وُصُولِهِمْ إِيَّاهُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ، وَعِلْمِهِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} أَيْ: أَحَطْنَا بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ، وَعِلْمُنَا مَعَهُ حَيْثُمَا تُوَجَّهَ وَسَارَ.

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ذَهَبَ مُتَوَجِّهًا مِنَ الْمَشْرِقِ قَاصِدًا لِلشَّمَالِ، فَوَصَلَ إِلَى مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ، وَهُمَا سَدَّانِ كَانَا مَعْرُوفِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، سَدَّانِ مِنْ سَلَاسِلِ الْجِبَالِ الْمُتَّصِلَةِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، حَتَّى تَتَّصِلَ بِالْبِحَارِ بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَجَدَ مِنْ دُونِ السَّدَّيْنِ قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا لِعُجْمَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَاسْتِعْجَامِ أَذْهَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ.

وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعِلْمِيَّةِ مَا فَقِهَ بِهِ أَلْسِنَةَ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَفَقَّهَهُمْ وَرَاجَعَهُمْ وَرَاجَعُوهُ، فَاشْتَكَوْا إِلَيْهِ ضَرَرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمَا أُمَّتَانِ عَظِيمَتَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ فَقَالُوا: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} أَيْ: جُعْلًا {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اقْتِدَارِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى بُنْيَانِ السَّدِّ، وَعَرَفُوا اقْتِدَارَ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَلَيْهِ، فَبَذَلُوا لَهُ أُجْرَةً؛ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، وَذَكَرُوا لَهُ السَّبَبَ الدَّاعِيَ، وَهُوَ: إِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ.

فَلَمْ يَكُنْ ذُو الْقَرْنَيْنِ ذَا طَمَعٍ وَلَا رَغْبَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَارِكًا لِإِصْلَاحِ أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ، بَلْ كَانَ قَصْدُهُ الْإِصْلَاحَ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ طِلْبَتَهُمْ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ أُجْرَةً، وَشَكَرَ رَبَّهُ عَلَى تَمْكِينِهِ وَاقْتِدَارِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ: مِمَّا تَبْذُلُونَ لِي وَتُعْطُونِي، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تُعِينُونِي بِقُوَّةٍ مِنْكُمْ بِأَيْدِيكُمْ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أَيْ: مَانِعًا مِنْ عُبُورِهِمْ عَلَيْكُمْ.

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أَيْ: قِطَعَ الْحَدِيدِ، فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيِ: الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بُنِيَ بَيْنَهُمَا السَّدُّ قَالَ انْفُخُوا النَّارَ أَيْ: أَوْقِدُوهَا إِيقَادًا عَظِيمًا، وَاسْتَعْمِلُوا لَهَا الْمَنَافِيخَ لِتَشْتَدَّ فَتُذِيبَ النُّحَاسَ، فَلَمَّا ذَابَ النُّحَاسُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَهُ بَيْنَ زُبَرِ الْحَدِيدِ {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَيْ: نُحَاسًا مُذَابًا، فَأَفْرَغَ عَلَيْهِ الْقِطْرَ، فَاسْتَحْكَمَ السَّدُّ اسْتِحْكَامًا هَائِلًا، وَامْتَنَعَ بِهِ مَنْ وَرَاءَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ ضَرَرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.

{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أَيْ: فَمَا لَهُمُ اسْتِطَاعَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الصُّعُودِ عَلَيْهِ؛ لِارْتِفَاعِهِ، وَلَا عَلَى نَقْبِهِ لِإِحْكَامِهِ وَقُوَّتِهِ.

فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ الْجَمِيلَ وَالْأَثَرَ الْجَلِيلَ أَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَى مُوَلِّيهَا، وَقَالَ: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيَّ، وَهَذِهِ حَالُ الْخُلَفَاءِ الصَّالِحِينَ إِذَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الْجَلِيلَةِ ازْدَادَ شُكْرُهُمْ وَإِقْرَارُهُمْ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ عَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ مَعَ الْبُعْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، بِخِلَافِ أَهْلَ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ النِّعَمَ الْكِبَارَ تَزِيدُهُمْ أَشِرًا وَبَطَرًا، كَمَا قَالَ قَارُونُ -لَمَّا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ- قَالَ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}.

وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ: لِخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ {جَعَلَهُ} أَيْ: ذَلِكَ السَّدَّ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ {دَكَّاءَ} أَيْ: دَكَّهُ فَانْهَدَمَ، وَاسْتَوَى هُوَ وَالْأَرْضُ {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}((.

وَكَمَا أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى الصِّنَاعَةِ وَبَعْضِ الصِّنَاعَاتِ؛ كَذَلِكَ أَشَارَ نَبِيُّنَا ﷺ إِلَى بَعْضِ الصِّنَاعَاتِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثَ.

قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!

فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

((إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّهُ لَا يَكْفِي الْفَرْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَمَلَ صَحِيحًا؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتْقَنًا؛ فَهَل يَعِي ذَلِكَ الْمُسلِمُونَ وَيَسْعَوْنَ إِلَى جَعْلِهِ مِيزَةً لِشَخْصِيَّاتِهِمْ، وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمَبْدَأً يَنْطَلِقُونَ مِنْهُ فِي مُؤَسَّسَاتِ الْعِلْمِ وَمَيَادِينِ الْعَمَلِ وَأَسْوَاقِ الصِّنَاعَةِ؛ لِيَصِلُوا بِهِ إِلَى الْإِنجَازِ، وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!!

إِنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ وَالتَّمَيُّرَ فِيهِ وَالْقِيَامَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِإِتْقَانٍ وَإِبْدَاعٍ؛ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ الْإِلَهِيِّ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَدِينُنَا الْحَنِيفُ لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ، إِنَّمَا يَطْلُبُ إِتْقَانَهُ وَإِحْسَانَهُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).

إِنَّ دِينَنَا دِينُ الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عُنِيَ عِنَايَةً بَالِغَةً بِذَلِكَ؛ سَوَاءٌ فِي مَجَالِ الصِّنَاعَةِ، أَمْ فِي مَجَالِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْهَضَ أَوْ تَتَقَدَّمَ بِلَا إِتْقَانٍ، وَدَوْرُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِتْقَانَ ثَقَافَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْإِتْقَانُ هُوَ الْأَصْلَ فِي حَيَاتِنَا، وَمَا عَدَاهُ هُوَ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَبُولُ بِهِ.

إِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْقَانِ فِي أَعْمَالِهِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ؛ إِحْكَامًا وَإِكْمَالًا، تَجْوِيدًا وَإِحْسَانًا، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْعِبَادَاتِ:

*الْإِتْقَانُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَثَمَرَتُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا -يَشُكُّ سَهْلٌ- يُحْسِنُ فِيهِنَّ الذِّكْرَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ غُفِرَ لَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا؛ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ -رِعَايَةَ إِبِلِنَا-، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ -أَيْ: أَتَى بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْجَنَّةَ-)).

فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ، مَا أَجْوَدَ هَذِهِ!!

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ وَهُوَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)).

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)).

وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْإِتْقَانِ فِي الْأَعْمَالِ التَّعَبُّدِيَّةِ: الْإِتْقَانُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآن؛ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ أَعْظَمُ قِيمَةٍ قَطُّ لِمَنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا، لِمَنْ كَانَ لَهُ حَامِلًا، لِمَنْ كَانَ لِأَدَائِهِ مُجِيدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي ((الصَّحِيحِ))، تَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ -الَّذِي يُجِيدُ تِلَاوَتَهُ لَا يَتَعَثَّرُ فِي تِلَاوَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ- مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ  -يَعْنِي: مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْمُطَهَّرِينَ الْمَبْرُورِينَ الْأَبْرَارِ-، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ -أَجْرُ التِّلَاوَةِ وَأَجْرُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُلَاقِيهَا-)).

وَأَمَّا إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ؛ فَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، وَحَضَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ﷺ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَمَانَةٌ، وَاللهُ سَائِلُهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِلْسِلَة الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)) .

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.

فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

وَمِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى إِتْقَانِ الْعَمَلِ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ رُؤْيَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن الإِسْلَامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: ((فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ)).

قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كَمَا حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ حَذَّرَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْإِهْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى النَّاسِ، وَمُرَاقِبٌ لَهُمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

مُطَّلِعٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِمْ وَسُكُونِهِمْ، وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، مُرَاقِبًا لَهُمْ فِيهَا مِمَّا يُوجِبُ مُرَاقَبَتَهُ، وَشِدَّةَ الْحَيَاءِ مِنْهُ بِلُزُومِ تَقْوَاهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

الَّذِي لَا يُتْقِنُ عَمَلَهُ وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِ آثِمٌ بِقَدْرِ مَا يَتَسَبَّبُ فِي ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ، وَإِهْدَارِ الطَّاقَاتِ، فَهَذَا وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ لَا تَتَّسِقُ أَعْمَالُهُمْ مَعَ الدِّينِ، وَلَا الْوَطَنِيَّةِ، وَلَا الضَّمِيرِ الْحَيِّ؛ إِذْ إِنَّ عَدَمَ الْإِتْقَانِ بِمَثَابَةِ غِشٍّ لِلْمُجْتَمَعِ، وَإِهْدَارٍ وَتَضْيِيعٍ لِثَرْوَاتِهِ وَمُقَدَّرَاتِهِ، وَإِيذَاءٍ لِخَلْقِ اللهِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ إِيذَائِهِمْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، غِشًّا أَوْ تَدْلِيسًا.

((إِنَّ تَخَلُّفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَكْبِ الْحَضَارَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَانْتِشَارَ مَظَاهِرِ التَّكَاسُلِ وَالْخُمُولِ وَالتَّوَانِي فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَضَعْفَ إِتْقَانِهِمْ عَمَلَهُمْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَضَعْفِ هِمَمِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَفَسَادِ ضَمَائِرِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنْ تَوْجِيهَاتِ دِينِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَبَدًا؛ فَقَدْ رَأَيْنَا فِيمَا سَبَقَ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْعَمَلِ وَالْجِدِّ وَالنَّشَاطِ وَالْإِتْقَانِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَرَفْضَهُ مَظَاهِرَ الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَالتَّكَفُّفِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ؛ فَهَلَّا اسْتَيْقَظَ أُولَئِكَ الْخَامِلُونَ النَّائِمُونَ الْكُسَالَى مِنْ سُبَاتِهِمْ؛ لِيُلْحِقُوا أُمَّتَهُمْ بِرَكْبِ الْحَضَارَاتِ، وَيَنْفُضُوا عَنْ كَاهِلِهَا مَظَاهِرَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالتَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ؟!!)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

((دِينُ التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ))

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ؛ بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

((هَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيِ: الْإِسْلَامَ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ؛ وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ، وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ؛ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ، وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  دعوة الإخوان للتوبة في رمضان
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  الْوَطَنِيَّةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ
  جريمة تكفير المجتمعات الإسلامية
  ثورة الحرائر وإهانة المصاحف !!
  ماذا لو حكم الإخوان مصر؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان