النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

((النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ))

فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَالْعَلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ.. ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصِّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ.

لَقَدْ أَكَدَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ أَنَّ الْحِفَاظَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَتَحْقِيقَ النَّفْعِ الْعَامِّ وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ هُوَ مَنْهَجُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-؛ فَـ((الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ بُعِثُوا بِالْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ، وَنَهَوُا عَنِ الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ؛ فَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ فَهُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُصُوصًا إِمَامَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ، فَإِنَّهُ أَبْدَى وَأَعَادَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَوَضَعَ لِلْخَلْقِ الْأُصُولَ النَّافِعَةِ الَّتِي يَجْرُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا وَضَعَ لَهُمُ الْأُصُولَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ)).

قَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].

يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَجْرًا آخُذُهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَتَّهِمُونِي بِالسَّعْيِ إِلَى مَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، مَا أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، فَأَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَوْجَدَنِي مِنَ الْعَدَمِ وَخَلَقَنِي، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُنِي فِي الدُّنْيَا وَيُثِيبُنِي فِي الْآخِرَةِ.

وَهَذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو لِهَذَا الْبَيْتِ أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ بَلَدًا آمِنًا, وَيَرْزُقَ أَهْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126].

قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ يَدْعُو رَبَّهُ: رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا، لَا يُتَعَرَّضُ فِيهِ لِأَحَدٍ بِسُوءٍ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ، وَاجْعَلْهُ رِزْقًا خَالِصًا خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ.

وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ لِقَوْمِهِ: لَيْسَ لِي مِنَ الْمَقَاصِدِ إِلَّا أَنْ تَصْلُحَ أَحْوَالُكُمْ، وَتَسْتَقِيمَ مَنَافِعُكُمْ، وَلَيْسَ لِي مِنَ الْمَقَاصِدِ الْخَاصَّةِ لِي وَحْدِي، قَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْهُ ﷺ: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

مَا أُرِيدُ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا عَنْ طَرِيقِ الْإِقْنَاعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَلَا أَسْتَطِيعُ إِجْبَارَكُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمَا تَسْدِيدِي فِي خُطُوَاتِ سَعْيِي لِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي وَإِصَابَةِ الرُّشْدَ فِي قَوْلِي وَعَمَلِي إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْدِيدِهِ.

عَلَى اللهِ وَحْدَهُ اعْتَمَدْتُ، وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ بِقَلْبِي وَنَفْسِي وَفِكْرِي فِي كُلِّ أُمُورِي لَا إِلَى غَيْرِهِ.

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَدَعْوَتِكُمْ إِلَى أَحْكَامِهِ أَجْرًا، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِكُمْ وَلَا التَّوَلِّي عَلَيْكُمْ وَالتَّرَأُّسَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَيْهِمْ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَجْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأَجْرِ مِنْهُ لَهُمْ ﷺ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ} [الشورى: 23].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَنُصْحِي وَحِرْصِي عَلَى نَجَاتِكُمْ وَسَعَادَتِكُمْ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا، وَلَكِنْ أَسْأَلُكُمْ أَنْ تُعَامِلُونِي مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ وَلَوْ كَانَتْ قَرَابَاتُهُمْ بَعِيدَةً؛ فَرَاعُوا هَذِهِ الْمَوَدَّةَ، فَلَا تُعَانِدُونِي، وَلَا تُدَبِّرُوا الْمَكَايِدَ ضِدِّي وَضِدَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَاتَّبَعُونِي.

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَثَّ عَلَى تَحْقِيقِ النَّفْعِ الْعَامِّ بِإِعْمَارِ الْأَرْضِ؛ فَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمَكَّنَكُمْ فِي الْأَرْضِ؛ تَبْنُونُ، وَتَغْرِسُونَ، وَتَزْرَعُونَ، وَتَحْرُثُونَ مَا شِئْتُمْ، وَتَنْتَفِعُونَ بِمَنَافِعِهَا، وَتَسْتَغِلُّونَ مَصَالِحَهَا، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأَعْرَاف: 56].

وَأَمَّا النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ضَرُورَةِ تَحْقِيقِ النَّفْعِ الْعَامِّ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ فَكَثِيرَةٌ ضَافِيَةٌ؛ وَمِنْهَا: قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ، حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ؛ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ.

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُم -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ-؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنِّعَمِ لِيَكُونُوا سَاعِينَ فِي مَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، وَيُقِرُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ النِّعَمِ مَا بَذَلُوهَا لِعِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا مَنَعُوا النِّعَمَ أَنْ تُبْذَلَ لِأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَفِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ؛ نَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّعَمَ عَنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَصَّهُم بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ.

وَالرَّسُولُ ﷺ لَمَّا كَانَ قَافِلًا عَائِدًا مِنْ حُنَيْنٍ بَعْدَ أَنْ نَفَّلَهُ اللهُ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَةَ، وَسَاقَ إِلَيْهِ النِّعَمَ الْوَفِيرَةَ، وَآتَاهُ اللهُ أَمْوَالَ الْقَوْمِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.. لَمَّا أَنْ عَادَ؛ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ صوْبٍ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ يَعُودُ الْقَهْقَرَى، حَتَّى خَطِفَتْ سَمُرَةٌ هُنَالِكَ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ -وَالسَّمُرَةُ: شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ-، أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُمْ يَزْحَفُونَ عَلَيْهِ- يَتَقَهْقَرُ، حَتَّى كَانَ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِشَوْكِهَا، فَخَطِفَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَاللهِ! لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ -وَهُو شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ يَكُونُ فِي الْبَوَادِي- أَنْعَامًا وَنَعَمًا لَفَرَّقْتُهَا فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، وَمَا وَجَدْتُمُونِي جَبَانًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا بَخِيلًا» ﷺ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ أَنَّ اللهَ أَعْطَانِي بِعَدَدِ هَذَا الشَّجَرِ -لَا يَتَنَاهَى- نَعَمًا -مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، أَوْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ- لَوْ أَنَّ اللهَ آتَانِي عَدَدَ هَذَا الشَّجَرِ نَعَمًا لَفَرَّقْتُهُ فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَعْدُ جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا بَخِيلًا» ﷺ .

وَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ أَدْوَى الدَّاءِ، وَأَنَّ أَعْظَمَ الْأَمْرَاضِ: هُوَ الْبُخْلُ.

فَقَالَ ﷺ عِنْدَمَا سَأَلَ الْقَوْمَ عَنْ سَيِّدِهِمْ.

قَالُوا: فُلَانٌ، عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ! يَعْنِي: نَرْمِيهِ بِصِفَةِ الْبُخْلِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟!!».

يَعْنِي: مِثْلُ هَذَا الْبَخِيلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ.

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابٍ وَمَنْ يَلِي، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ إِلَّا وَاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ مَلَكَيْنِ هُنَالِكَ قَائِمَيْنِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».

 ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)).

((أَعْظَمُ الْبَشَرِ تَضْحِيَةً لِتَحْقِيقِ النَّفْعِ الْعَامِّ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

وَالْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا وَالْمُرْسَلُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ سَعَوْا لِتَحْقِيقِ النَّفْعِ الْعَامِّ لِأَقْوَامِهِمْ، وَأَعْظَمُ النَّفْعِ الْعَامِّ تَعْبِيدُ النَّاسِ لِرَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَتَعْلِيمُهُمُ التَّوْحِيدَ، مَعَ تَحَمُّلِهِمُ الْأَذَى فِي هَذَا السَّبِيلِ؛ ((فَنَبِيُّ اللهِ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا بَعَثَهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَكَمَالَ أَخْلَاقِهِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [ الأعراف: 59 ].

وَرَغَّبَهُمْ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} [ نوح: 2 - 4].

فَلَمَّا بَادَأَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَتَسْفِيهِ آرَائِهِمْ، وَتَخْوِيفِهِمْ بِعُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالُوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [ هود: 27 ].

وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَطْرُدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتِكْبَارًا مِنْهُمْ، وَاسْتِنْكَافًا عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ ضَلَالٌ، وَإِنَّمَا بِهِ تَزُولُ الضَّلَالَةُ عَنِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ أَمِينٌ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَبَرَاهِينَ وَاضِحَةٍ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحِلُّ طَرْدُهُمْ، بَلْ حَقُّهُمُ الْإِكْرَامُ وَالِاحْتِرَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَدَّعِي لَهُمْ طَوْرًا يُزَاحِمُ فِيهِ الرَّبَّ فَقَالَ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [ هود: 31].

فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرًّا وَجَهْرًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاؤُهُ إِلَّا فِرَارًا وَنُفُورًا وَإِعْرَاضًا وَتَوَاصِيًا مِنْهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا.

فإِنَّ نُوحًا دَعَا قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا وَجَهَارًا، بِكُلِّ وَقْتٍ وَبِكُلِّ حَالَةٍ يَظُنُّ فِيهَا نَجَاحَ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّهُ رَغَّبَهُمْ بِالثَّوَابِ الْعَاجِلِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَبِالتَّمْتِيعِ بِالْأَمْوَالِ وَالْبَنِينَ، وَإِدْرَارِ الْأَرْزَاقِ إِذَا آمَنُوا وَبِالثَّوَابِ الْآجِلِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَصَبَرَ عَلَى هَذَا صَبْرًا عَظِيمًا كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَخَاطَبَهُمْ بِالْكَلَامِ الرَّقِيقِ وَالشَّفَقَةِ، وَبِكُلِّ لَفْظٍ جَاذِبٍ لِلْقُلُوبِ مُحَصِّلٍ لِلْمَطْلُوبِ، وَأَقَامَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ الْبَرَاهِينَ)).

 ((وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً مِنْ سِيرَةِ إِبْرَاهِيمَ، فِيهَا لَنَا الْأُسْوَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ عُمُومًا، وَبِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ; فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّنَا وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَخْلَاقٍ وَأَعْمَالٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ، فَقَدْ آتَاهُ اللهُ رُشْدَهُ وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ مِنْذُ كَانَ صَغِيرًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ يَقِينًا وَعِلْمًا وَقُوَّةً فِي دِينِ اللهِ وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ.

وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَهُمْ فَلَاسِفَةُ الصَّابِئَةِ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَخْبَثِ الطَّوَائِفِ وَأَعْظَمِهِمْ ضَرَرًا عَلَى الْخَلْقِ، فَدَعَاهُمْ بِطُرُقٍ شَتَّى، فَأَوَّلُ ذَلِكَ دَعَاهُمْ بِطَرِيقَةٍ لَا يُمْكِنُ صَاحِبِ عَقْلٍ أَنْ يَنْفِرَ مِنْهَا.

فَرَفَعَ اللهُ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِالْعِلْمِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَعَجَزُوا عَنْ نَصْرِ بَاطِلِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمُ الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ نَهْيًا عَامًّا وَخَاصًّا، وَأَخَصُّ مَنْ دَعَاهُ أَبُوهُ آزَرُ; فَإِنَّهُ دَعَاهُ بِعِدَّةِ طُرُقٍ نَافِعَةٍ، وَلَكِنْ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-97] .

فَمِنْ جُمْلَةِ مَقَالَاتِهِ لِأَبِيِهِ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 42-43].

فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْخِطَابِ الْجَاذِبِ لِلْقُلُوبِ، لَمْ يَقُلْ لِأَبِيِهِ: إِنَّكَ جَاهِلٌ؛ لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَشِنِ، بَلْ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 43-45] .

فَانْتَقَلَ بِدَعْوَتِهِ مِنْ أُسْلُوبٍ لِآخَرَ لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِ أَوْ يُفِيدُ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].

هَذَا وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَغْضَبْ وَلَمْ يُقَابِلْ أَبَاهُ بِبَعْضِ مَا قَالَ، بَلْ قَابَلَ هَذِهِ الْإِسَاءَةَ الْكُبْرَى بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47]؛ أَيْ: لَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ إِلَّا بِكَلَامٍ طَيِّبٍ لَا غِلْظَةَ فِيهِ وَلَا خُشُونَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَسْتُ بِآيِسٍ مِنْ هِدَايَتِكَ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]؛ أَيْ: بَارًّا رَحِيمًا قَدْ عَوَّدَنِي لُطْفَهُ وَأَجْرَانِي عَلَى عَوَائِدِهِ الْجَمِيلَةِ، وَلَمْ يَزَلْ لِدُعَائِي مُجِيبًا.

فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مَعَ قَوْمِهِ فِي دَعْوَةٍ وَجِدَالٍ، وَقَدْ أَفْحَمَهُمْ وَكَسَرَ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ وَشُبَهِهِمْ، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ يُقَاوِمَهُمْ بِأَعْظَمِ الْحُجَجِ، وَأَنْ يَصْمُدَ لِبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا وَجِلٍ.

فَلَمَّا خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَخَرَجَ مَعَهُمْ، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَظَاهَرَ بِعَدَاوَةِ الْأَصْنَامِ وَالنَّهْيِ الْأَكِيدِ عَنْهَا وَجِهَادِ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَرَزُوا جَمِيعًا إِلَى الصَّحْرَاءِ؛ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ، فَجَعَلَهَا جُذَاذًا كُلَّهَا إِلَّا صَنَمًا كَبِيرًا أَبْقَى عَلَيْهِ؛ ليُلْزِمَهُمْ بِالْحُجَّةِ.

فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ بَادَرُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ صَبَابَةً وَمَحَبَّةً، فَرَأَوْا فِيهَا أَفْظَعَ مَنْظَرٍ رَآهُ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: {مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59-60]؛ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَذْكُرُهَا بِأَوْصَافِ النَّقْصِ وَالسُّوءِ، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ الَّذِي كَسَرَهَا {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]؛ أَيْ: بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَوَبَّخُوهُ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ ثُمَّ نَكَّلُوا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِيَظْهَرُ الْحَقُّ بِمَرْأَى الْخّلْقِ وَبِمَسْمَعِهِمْ، فَلَمَّا جُمِعَ النَّاسُ وَحَضَرُوا وَحَضَّرُوا إِبْرَاهِيمَ قَالُوا: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63]، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي سَلِمَ مِنْ تَكْسِيرِهِ، وَهُمْ فِي هَذِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ عَقْلَ أَحَدٍ؛ أَنَّ جَمَادًا مَعْرُوفٌ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ مَوَادَّ مَعْرُوفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا، وَأَنْتَ سَالِمٌ نَاجٍ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ.

قَالَ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وَهَذَا تَعْليِقٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَبَانَ، وَاعْتَرَفُوا هُمْ بِالْحَقِّ: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 64-65]؛ أَيْ: مَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلْانِ إِلَهِيَّتِهَا إِلَّا وَقْتًا قَصِيرًا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ مُبَاشَرَةً الَّتِي لَا يُمْكِنُ مُكَابَرَتُهَا، وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا عَادَتْ عَقَائِدُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي رَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَصَارَتْ صِفَاتٍ مُلَازِمَةً لَهُمْ، إِنْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّهُ عَارِضٌ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65].

فَحِينَئِذٍ وَبَّخَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا الْخُصُومُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67].

فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عُقُولٌ صَحِيحَةٌ، لِمَ تُقِيمُوا عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ؟!!

فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، فَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا فَأَلْقَوهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ-: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا لِيَنْصُرُوا آلِهَتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ وَالْحَادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ وَالرُّؤَساءِ وَالْمَرْءُوسِينَ)).

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَعْظَمُ مَنْ وَصَلَ الْبَشَرَ نَفْعٌ عَامٌّ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِإِعْلَانِ الدَّعْوَةِ، وَالصَّدْعِ بِالْإِنْذَارِ، ((فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [ المدثر: 1 - 5].

فَكَانَ فِي هَذَا: الْأَمْرُ لَهُ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَإِنْذَارِهِمْ، فَشَمَّرَ عَنْ عَزْمِهِ، وَصَمَّمَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى رَبِّهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيُقَاوِمُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ، وَسَيَلْقَى كُلَّ مُعَارَضَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَشِدَّةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ أَيَّدَهُ وَقَوَّى عَزْمَهُ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَبِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

وَكَانَ أَعْظَمُ مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ: دَعْوَتُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالنَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ؛ دَعَا النَّاسَ لِهَذَا، وَقَرَّرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَصَرَّفَهُ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَاضِحَةٍ تُبَيِّنُ وُجُوبَ التَّوْحِيدِ وَحُسْنَهُ، وَتُعَيِّنُهُ طَرِيقًا إِلَى اللهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَرَّرَ إِبْطَالَ الشِّرْكِ وَالْمَذَاهِبِ الضَّارَّةِ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهِيَ أَغْلَبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.

فَاسْتَجَابَ لَهُ فِي هَذَا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَاوَمَهُ قَوْمُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَبَغَوْا لَهُ الْغَوَائِلَ، وَحَرِصُوا عَلَى إِطْفَاءِ دَعْوَتِهِ بِجَهْدِهِمْ وَقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَهُوَ يُجَادِلُهُمْ وَيَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ وَيَجْحَدُونَ آيَاتِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33])).

لَقَدْ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَكَمَا فِي ((مُسْنَدِ أَحْمَدَ)) مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ يَقُولُ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)).

النَّبِيُّ ﷺ تَحَمَّلَ كَثِيرًا مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ نَفْعِ النَّاسِ نَفْعًا عَامًّا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -فِي أُحُدٍ-، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتِهِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ))، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ؛ تُوُفِّيَ عَمُّهُ، وَتُوُفِّيَتْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا-، وَضَاقَتْ مَكَّةُ بِالدَّعْوَةِ، وَأَجْمعَ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ ﷺ.

فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَلَمَّسُ مَجَالًا جَدِيدًا لِتَفْتَحَهُ الدَّعْوَةُ بِنُورِهَا، وَلِتُنْشَرَ فِيهِ هِدَايَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ؛ وَعُظْمُ أَهْلِهَا مِنْ ثَقِيفٍ، وَعَرَضَ النَّبِيُّ ﷺ الدَّعْوَةَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ سَادَتِهَا؛ وَهُمْ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْروٍ، وأَخَوَاهُ حَبِيبٌ وَمَسْعُودٌ، فَكَانُوا بَيْنَ مُكَذِّبٍ وَسَاخِرٍ.

قَالَ أَحَدُهُمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّهُ يُمَزِّقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَرْسَلَهُ».

وَقَالَ الْآخَرُ: «إِنْ كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَرْسَلَكَ؛ فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَأَنْتَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، فَلَا أُكَلِّمُكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ».

وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَقَالَ لِلرَّسُولِ ﷺ: «أَلَمْ يَجِدِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْرَكَ لِيُرْسِلَهُ؟!!».

وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقَدْ سَلَّطُوا عَلَيْهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ، فَقَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دُمِّيَتْ عَقِبُهُ ﷺ.

وَالْتَجَأَ إِلَى ظِلِّ حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَلَدَيْ رَبِيعَةَ وَقَدْ عَطَفَتْهُمَا عَلَيْهِ الرَّحِمُ، فَأَرْسَلَا عَدَّاسًا -وَكَانَ غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا- بِقِطْفٍ مِنْ عِنَبٍ، وَأَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ يَقَعَ الْاعْتِذَارُ لِلرَّسُولِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يُبَارِحَ، فَذَهَبَ عَدَّاسٌ بِالْعِنَبِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ».

فَقَالَ عَدَّاسٌ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْهُ قَطُّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟».

فَقَالَ: مِنْ نِينَوَى.

قَالَ: «مِنْ بَلَدِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بنِ مَتَّى؟».

فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ بِيُونُسَ؟

قَالَ: «هُوَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا، وَأَنَا نَبِيٌّ ﷺ».

فَأَهْوَى عَدَّاسٌ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ مُقَبِّلًا، وَعَادَ إِلَى سَيِّدَيْهِ؛ فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ؛ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتَ مَعَ الرَّجُلِ؟

قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ﷺ.

فَهَكَذا كَذَّبَتْ ثَقِيفٌ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ دَاعِيًا؛ فَلَقِيَتْهُ بِكُلِّ سُوءٍ؛ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((هَلْ وَجَدْتَ مِنْ قَوْمِكَ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)).

قَالَ ﷺ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَأَشَدُّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَمَّا ذَهَبْتُ إِلَى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ ثَقِيفٍ إِلَى دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَكَانَ مِنْهُمْ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، قَالَ: فَذَهَبْتُ مَغْمُومًا، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَسَمِعْتُ حِسًّا فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ عَلِمَ مَا قَالَ لَكَ قَوْمُكَ وَمَا صَنَعُوا، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَعَلَ.

فَقَالَ ﷺ: لَا، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مَانِعًا لِلنُّفُوسِ عَنِ اتِّبَاعِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ, وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَمْوَالَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُ, وَيَأْخُذُ أُجْرَةً عَلَى دَعْوَتِهِ، فَبَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- نَزَاهَةَ رَسُولِهِ ﷺ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57].

قُلْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَمَا أُقَدِّمُ لَكُمْ مِنْ هِدَايَةٍ وَخَيْرٍ.. لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ فَتَقُولُوا: إِنَّمَا يَطْلُبُ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَنَا بِمَا يَدْعُونَنَا إِلَيْهِ فَلَا نَتَّبِعُهُ، لَكِنْ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ سَبِيلًا إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَثَوَابِهِ فَلْيَفْعَلْ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ أَجْرٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُتَتَبِّعِينَ لِمَا لَا يَعْنِيهِمْ، بَلْ أَنَا مُكَلَّفٌ مِنْ قِبَلِ رَبِّي أَنْ أُبَلِّغَكُمْ وَأُرْشِدَكُمْ وَأُعَلِّمَكُمْ.

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40].

بَلْ أَتَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَجْرًا مَادِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُمْ فِي جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَغْرَمِ الَّذِي سَأَلْتَهُمْ؛ فَيَصُدُّونَ مِنْ أَجْلِ اسْتِثْقَالِهِ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ لَكَ وَالْإِيمَانِ بِرِسَالَتِكَ وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ عَنْ رَبِّكَ؟!!

وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي بَذْلِهِمْ وَعَطَائِهِمْ وَتَضْحِيَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ النَّفْعِ الْعَامِّ لِلْأُمَّةِ؛ فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ صَادَفَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا.

قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي، فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي: بِنِصْفِهِ- حَتَّى وَضَعَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قُلْتُ: مِثْلَهُ.

قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ .

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا.

لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ.

فَلَمَّا جَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَفَرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ)).

لَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَوَادًا مُمَدَّحًا, جَهَزَّ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَحْدَهُ, وَاشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ وَوَهَبَهَا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا مِثَالٌ آخَرُ دَالٌّ عَلَى تَضْحِيَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِأَرْوَاحِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ أَعْظَمَ النَّفْعِ؛ فَقَدْ جَاءَ قَوْمٌ رَهْطٌ مِنْ (عَضَلٍ) وَ(الْقَارَةِ), وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ بَنِي الْهُونِ بْنِ جَزِيمَةَ بْنِ مُدْرَكَةَ؛ بَطْنَانِ يَنْتَمِيَانِ إِلَى قَبِيلَةٍ تَجْنَحُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى (هُذَيْلٍ).

فَجَاءَ رَهْطٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا, وَإِنَّا لَنَرْجُو مِنْكَ أَنْ تُرْسِلَ مَعَنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا دِينَنَا, وَمَنْ يُقْرِئُنَا قُرْآنَ رَبِّنَا حَتَّى نَتَفَقَّهَ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَأَرْسَلَ مَعَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ سَبْعَةً مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ الدِّثِنَةِ, وَمعَهُمْ -أَيْضًا- خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ, وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

كُونُوا مَعَهُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا دِيَارَهُمْ؛ فَعَلِّمُوهُمْ, وَأَقْرِئُوهُمْ, وَقُومُوا عَلَى شَأْنِهِمْ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

وَسَارُوا مَعًا حَتَّى نَزَلُوا عِنْدَ (الرَّجِيعِ) عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ الرَّجِيعُ مِنْ أَرْضِ (هُذَيْلٍ)، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا فَقَامُوا: وَجَدُوا النَّاسَ قَدْ غَدَرُوا بِهِمْ, وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ, وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ بِكُمْ إِلَى قُرَيْشٍ عَسَى أَنْ نَتَحَصَّلَ مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِ النَّفَقَةِ!!

* إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ نَفْعًا لِلنَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ الْعُلَمَاءُ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ: جَزَاءٌ عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.

وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنِحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.

وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ، أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ)).

وَهَذِهِ نَمَاذِجُ مُشْرِقَةٌ لِعُلَمَاء حَفِظَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجُهُودِهِمْ دِينَ النَّاسِ فِي عُصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَلْنَنْظُرْ.. كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَانُونِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى نَبَغَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ، فَقَالُوا فِي صِفَاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- مَا قَالُوا، وَقِيلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.

وَلَكِنْ مَقَالَةٌ تَحْتَ سِتْرٍ مَا دَامَتْ دَوْلَةُ الرَّشِيدِ، وَكَانَ الرَّشِيدُ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَمَا بَلَغَهُ أَنَّ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، قَالَ: ((لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ أَظْفَرَنِي بِهِ لَأَقْتُلَنَّهُ))، فَكَانَ بِشْرٌ مُتَوَارِيًا أَيَّامَ الرَّشِيدِ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَ بِشْرٌ وَدَعَا إِلَى الضَّلَالَةِ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((ثُمَّ إِنَّ الْمَأْمُونَ نَظَرَ فِي الْكَلَامِ -أَيْ: فِي عِلْمِ الْكَلَامِ- فِي عُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي تُرْجِمَتْ لَمَّا اسْتُجْلِبَتْ كُتُبُهَا فِي عَهْدِهِ، فَنَظَرَ فِيهَا وَأُولِعَ بِهَا، وَبَاحَثَ الْمُعْتَزِلَةَ، وَبَقِيَ يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى فِي دُعَاءِ النَّاسِ -أَيْ: فِي دَعْوَتِهِمْ- إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِلَى أَنْ قَوِيَ عَزْمُهُ عَلَى ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا)).

وَمَسْأَلَةُ خَلْقِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ عَلَامَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَقَدِ؛ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، بَلْ غَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ فَنَفَتْ عَنِ اللهِ أَسْمَاءَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا اسْمًا وَلَا صِفَةً!!

فَكَانَتِ السَّاحَةُ الَّتِي دَارَتْ فِيهَا الْمَعْرَكَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا خَلْفِيَّةُ ذَلِكَ فَمَا وَرَاءَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعْتَقَدِ -مُعْتَقَدِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ -جَلَّ وَعَلَا- وَالْقَوْلِ بِالْقَدَرِ-.

قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-: ((حُمِلَ أَبِي -يَعْنِي: الْإِمَامَ أَحْمَدَ- وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ مُقَيَّدَيْنِ، فَسِرْنَا مَعَهُمَا إِلَى (الْأَنْبَارِ))).

وَكَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا؛ فَأَرْسِلْ إِلَيَّ ذَلِكَ الْجَاهِلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَامْتَثَلَ الرَّجُلُ وَأَرْسَلَ أَحْمَدَ وَمُحَمَّدَ بْنَ نُوحٍ.

قَالَ صَالِحٌ: ((فَسِرْنَا مَعَهُمَا إِلَى (الْأَنْبَارِ)، فَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ الْأَحْوَلُ أَبِي، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! إِنْ عُرِضْتَ عَلَى السَّيْفِ تُجِيبُ؟!!

قَالَ: لَا.

ثُمَّ سُيِّرَا، فَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سِرْنَا إِلَى (الرَّحْبَةِ) -وَهِيَ بَيْنَ الرَّقَّةِ وَبَغْدَادَ- وَرَحَلْنَا مِنْهَا وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَعَرَضَ لَنَا رَجُلٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟

فَقِيلَ لَهُ: هَذَا.

فَقَالَ لِلْجَمَّالِ: عَلَى رِسْلِكَ! ثُمَّ قَالَ: يَا هَذَا! -يَقُولُ لِأَحْمَدَ- مَا عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ هَاهُنَا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ، وَمَضَى.

قَالَ: فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ لِي: هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ (رَبِيعَةَ) يَعْمَلُ الشَّعَرَ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يَعْمَلُ الصُّوفَ فِي الْبَادِيَةِ، يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ عَامِرٍ، يُذْكَرُ بِخَيْرٍ)).

يَقُولُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا سَمِعْتُ كَلِمَةً مُنْذُ وَقَعْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَقْوَى مِنْ كَلِمَةِ أَعْرَابِيٍّ كَلَّمَنِي بِهَا فِي (رَحْبَةِ طَوْقٍ)، قَالَ: يَا أَحْمَدُ! إِنْ يَقْتُلُكَ الْحَقُّ مُتَّ شَهِيدًا، وَإِنْ عِشْتَ عِشْتَ حَمِيدًا.. قَالَ: فَقَوِيَ قَلْبِي)).

لِأَجْلِ مَاذَا؟!!

لَقَدْ أَجَابَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ -تَقِيَّةً- وَهُوَ الْجَبَلُ الرَّاسِخُ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: ((مَا احْتَقَرْتُ نَفْسِي فِي مَجْلِسِ أَحَدٍ مَا احْتَقَرْتُهَا فِي مَجْلِسِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ)).

وَلَكِنَّهُ أَجَابَ -تَقِيَّةً- وَكَذَا أَجَابَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ!! وَهُوَ مَنْ هُوَ كَأَنَّمَا خَلَقَهُ اللهُ لِهَذَا الشَّأْنِ، جِهْبِذٌ مِنْ جَهَابِذَةِ النُّقَّادِ، وَمِنَ الرُّوَاةِ الْأَثْبَاتِ، جَبَلٌ عَلَمٌ، وَلَكِنَّهُ أَجَابَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ -تَقِيَّةً-.

وَآلَ أَحْمَدُ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يُكَلِّمَ أَحَدًا أَجَابَ فِي الْمِحْنَةِ قَطُّ! آخِذًا بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّهَا رُخْصَةً!! فَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرِيضٌ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْحَائِطِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ سَلَامًا حَتَّى خَرَجَ.

وَكَانَ يَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ كَمَا وَقَعَ لِعَمَّارٍ، فَلَمَّا خَرَجَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ قَالَ: يَعْتَذِرُونَ بِمَا وَقَعَ لِعَمَّارٍ، وَإِنَّمَا عُرِضَ عَلَى عَمَّارٍ مَا عُرِضَ مِنَ الْمَوْتِ الْأَحْمَرِ فَأَجَابَ، وَهَؤُلَاءِ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا.. فَقَالُوا!!.

فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ حَتَّى مَاتَ!!

لِأَجْلِ مَاذَا؟!!

لِأَجْلِ حِفْظِ الْعَقِيدَةِ، وَتَثْبِيتِ دَعَائِمِ الْمِلَّةِ.

الْأَمْرُ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ جِدًّا مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ الْفَطِيرُ الْكَلِيلُ الْحَسِيرُ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِي أَعْمَاقِ الْأُمُورِ، إِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ السُّطُوحِ وَظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ!! وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَآلَاتِ الْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ!!

فَإِنَّ أَبَا زُرْعَةَ لَمَّا حُبِسَ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- وَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((عَلَامَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ؟!! أَجَابَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَأَجِبْ -تَقِيَّةً- ثُمَّ إِذَا مَا انْقَشَعَتِ الْغُمَّةُ، وَزَالَتِ الْمِحْنَةُ، قَرِّرْ عَقِيدَةَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى عَهْدِكَ، وَهِيَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ)).

فَقَالَ لَهُ: ((اخْرُجْ فَانْظُرْ ثُمَّ ائْتِنِي!)).

فَخَرَجَ فَنَظَرَ فَعَادَ، قَالَ: ((مَا وَجَدْتَ؟)).

قَالَ: ((وَجَدْتُ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً!!)).

فِي رِوَايَةٍ: ((وَجَدْتُ مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ مَعَهُمُ الْمَحَابِرُ وَالْأَقْلَامُ وَالْأَوْرَاقُ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: مَاذَا قَالَ أَحْمَدُ؟!!)).

قال: ((أَقْتُلُ نَفْسِي وَلَا أُضِلُّ هَؤُلَاءِ!!)).

تَبْدِيلُ الْمِلَّةِ!! تَغْيِيرُ دَعَائِمِ الشَّرِيعَةِ!!

وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْأَمْرِ مُسَطَّحًا، وَمَا فِي أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ -تَقِيَّةً- ثُمَّ يَنْتَهِي الْأَمْرُ!!

هَذَا تَبْدِيلٌ لِلْعَقِيدَةِ!! تَغْيِيرٌ لِلشَّرِيعَةِ!!

تَمَامًا كَمَا يَقُولُ قَائِلٌ: وَمَاذَا فِي أَنْ نَقُولَ: الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ مِنَ الْإِسْلَامِ!! مَشِّهَا.. مَشِّهَا!! ثُمَّ بَعْدُ قِفْ عِنْدَهَا.

هَذَا مَوْطِنُ النِّزَاعِ؛ أَنَّ الدِّينَ يُغَيَّرُ!! وَأَنَّ الْمَعَالِمَ تُبَدَّلُ!! وَأَنَّ الشِّكَايَاتِ تُرْفَعُ إِلَى مَنْ هُمْ فِي سُدَّةِ الْحُكْمِ وَمَوَاطِنِ التَّنْفِيذِ: أَغِيثُونَا! أَدْرِكُونَا! فُلَانٌ مِنَ الْخُطَبَاءِ أَوْ مِنَ الْمُعَلِّمِينَ يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُفَّارٌ!!

تَبْدِيلُ الْمَوَاطِنِ الْعَقَدِيَّةِ.. هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ، وَأَمَّا تِلْكَ الطَّنْطَنَاتُ الْفَارِغَةُ الَّتِي يَدُورُ بِهَا الْقَوْمُ فِي مُنْتَدَيَاتِهِمْ وَفِي قَنَوَاتِهِمْ وَفِي أَحْوَالِهِمْ.. هَذِهِ لَا تَعْنِي فِي شَيْءٍ!!

وَمَا عَلَى الْمَرْءِ بَاسٌ لَوْ شَتَمَهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَصِينَتِ الدِّيَانَةُ!!

فَأَمَّا الشَّتْمُ، وَأَمَّا السَّبُّ، وَأَمَّا اللَّمْزُ، وَأَمَّا الْهَمْزُ، وَأَمَّا الْغَمْزُ.. فَهَذَا تَحْتَ مَوَاطِئِ قَدَمَيَّ مَعَ صِيَانَةِ الشَّرِيعَةِ.

ثَبَتَ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- مَعَ أَحْمَدَ ثَبَاتًا عَظِيمًا، يَقُولُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَقَدْرِ عِلْمِهِ أَقْوَمَ بِأَمْرِ اللهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ)).

قَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! اللهَ اللهَ! إِنَّكَ لَسْتَ كَمِثْلِي، إِنَّكَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الْخَلْقُ أَعْنَاقَهُمْ إِلَيْكَ لِمَا يَكُونُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهَ وَاثْبُتْ لِأَمْرِ اللهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا))، فَمَاتَ وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَدَفَنْتُهُ)). قَالَ أَحْمَدُ.

وَمَكَثَ أَحْمَدُ فِي السِّجْنِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا!! ثُمَّ دُعِيَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ.

قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: ((فَجَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادَ يَنْظُرُ إِلَى أَبِي كَالْمُغْضَبِ)).

قَالَ أَبِي: ((وَكَانَ هَذَا يَتَكَلَّمُ فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ هَذَا فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ اعْتَرَضَ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هُوَ -يَعْنِي: الْإِمَامَ أَحْمَدَ- هُوَ وَاللهِ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ!!)).

رَأْسُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِهِ يُقْسِمُ بِاللهِ -لَا يَتَلَبَّثُ- أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ -وَهُوَ رَأْسُ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ- ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ!!

((فَيَقُولُ: كَلِّمُوهُ! نَاظِرُوهُ! فَيُكَلِّمُنِي هَذَا فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَيُكَلِّمُنِي هَذَا فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْقَطَعُوا يَقُولُ لِي الْمُعْتَصِمُ: وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ! مَا تَقُولُ؟!!

فَأَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ حَتَّى أَقُولَ بِهِ!!)).

((وَيُقْبِلُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ عَلَى أَحْمَدَ يُكَلِّمُهُ، فَلَا يَلْتَفِتُ أَحْمَدُ إِلَيْهِ!! حَتَّى يَقُولَ الْمُعْتَصِمُ: يَا أَحْمَدُ! أَلَا تُكَلِّمُ أَبَا عَبْدِ اللهِ -يَقْصِدُ ابْنَ أَبِي دُؤَادَ-؟!!

فَيَقُولُ أَحْمَدُ: لَسْتُ أَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأُكَلِّمَهُ!!)).

مَنْ هَذَا؟!!

لَسْتُ أَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى أُكَلِّمَهَ!! هَذَا مُعَثَّرٌ مُخَبِّطٌ!! يُضِلُّ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَيَحْرِفُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَيْفَ أُكَلِّمُ مِثْلَ هَذَا؟!!

((يَقُولُ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ لِلْمُعْتَصِمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنْ أَجَابَكَ لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَيَعُدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَعُدَّ.

فَيَقُولُ الْمُعْتَصِمُ: وَاللهِ لَإِنْ أَجَابَنِي لَأُطْلِقَنَّ عَنْهُ بِيَدِي، وَلَأَرْكَبَنَّ إِلَيْهِ بِجُنْدِي، وَلَأَطَأَنَّ عَقِبَهُ))؛ يَعْنِي: لَأَتَزَوَجَنَّ مِنْ بَيْتِهِ.

ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ! وَاللهِ إِنِّي عَلَيْكَ لَشَفِيقٌ، وَإِنِّي لَأُشْفِقُ عَلَيْكَ كَشَفَقَتِي عَلَى ابْنِي هَارُونَ، مَا تَقُولُ؟!!

قَالَ: فَأَقُولُ: أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ! وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِضَرْبِ الْإِمَامِ، فَقُدِّمَ فَضُرِبَ تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا!!

قَالَ أَحْمَدُ: ((فَلَمَّا ضُرِبْتُ تِسْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا، قَامَ إِلَيَّ -يَعْنِي: الْمُعْتَصِمُ- فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ! عَلَامَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ؟!! إِنِّي وَاللهِ عَلَيْكَ لَشَفِيقٌ.

قَالَ: فَجَعَلَ عُجَيْفٌ -السَّيَّافُ- يَنْخَسُنِي بِقَائِمَةِ سَيْفِهِ، وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَغْلِبَ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ؟!!

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: وَيْلَكَ!! الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِكَ قَائِمٌ!!

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! دَمُهُ فِي عُنُقِي!! اقْتُلْهُ!!

وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْتَ صَائِمٌ، وَأَنْتَ فِي الشَّمْسِ قَائِمٌ -وَأَمَّا هَذَا الْإِمَامُ الْمَضْرُوبُ، وَقَدْ بَلَغَ مِنَ السِّنِّ مَا بَلَغَ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَسِّ حَرِّ عَذَابِ السِّيَاطِ مَا وَقَعَ، فَهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ-، أَنْتَ فِي الشَّمْسِ قَائِمٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!

فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ لِي: وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ! مَا تَقُولُ؟!!

فَأَقُولُ: أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَقُولُ بِهِ.

فَرَجَعَ وَجَلَسَ، وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: تَقَدَّمْ وَأَوْجِعْ! قَطَعَ اللهُ يَدَكَ!! ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ! أَجِبْنِي، فَجَعَلُوا يُقْبِلُونَ عَلَيَّ وَيَقُولُونَ: يَا أَحْمَدُ! إِمَامُكَ عَلَى رَأْسِكَ قَائِمٌ، وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: مَنْ صَنَعَ مِنْ أَصْحَابِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَا تَصْنَعُ؟!!

لِمَ لَا تَقُولُ كَمَا قَالُوا؟!!

لِمَ لَا تَدْخُلُ الْمَوْكِبَ؟!!

لِمَ لَا تَسِيرُ فِي الْقَطِيعِ؟!!

لِمَ تَنْتَحِ نَاحِيَةً مُشْرِفًا عَلَى قِمَمِ الذُّرَى السَّامِقَاتِ؟!!

وَجَعَلَ الْمُعْتَصِمُ يَقُولُ: وَيْحَكَ! أَجِبْنِي إِلَى شَيْءٍ لَكَ فِيهِ أَدْنَى فَرَجٍ أُطْلِقُ عَنْكَ بِيَدِي.

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللهِ أَقُولُ بِهِ! فَيَرْجِعُ، وَقَالَ لِلْجَلَّادِينَ: تَقَدَّمُوا، فَجَعَلَ الْجَلَّادُ يَتَقَدَّمُ وَيَضْرِبُنِي سَوْطَيْنِ وَيَتَنَحَّى، وَهُوَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَقُولُ: شُدَّ قَطَعَ اللهُ يَدَكَ -يَقُولُهَا الْمُعْتَصِمُ لِلْجَلَّادِ-.

وَقَالَ أَحْمَدُ: فَذَهَبَ عَقْلِي مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، فَأَفَقْتُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا الْأَقْيَادُ قَدْ أُطْلِقَتْ عَنِّي، فَقَالَ لِي رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَ: إِنَّا كَبَبْنَاكَ عَلَى وَجْهِكَ، وَطَرَحْنَا عَلَى ظَهْرِكَ بَارِيَّةً -وَهُوَ حَصِيرٌ مَنْسُوجٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ- وَدُسْنَاكَ بِالْأَقْدَامِ!!

قَالَ أَحْمَدُ: فَمَا شَعَرْتُ بِذَلِكَ!!)).

حَدَّثَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَسَدِيُّ قَالَ: ((لَمَّا حُمِلَ أَحْمَدُ لِيُضْرَبَ جَاءُوا إِلَى بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَالُوا: قَدْ حُمِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَحُمِلَتِ السِّيَاطُ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ.

فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ مِنِّي مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ؟!! لَيْسَ ذَا عِنْدِي، حَفِظَ اللهُ أَحْمَدَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)).

قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: ((صَارَ أَبِي إِلَى الْمَنْزِلِ، وَوُجِّهَ إِلَيْهِ مِنَ السَّحَرِ مَنْ يُبْصِرُ الضَّرْبَ وَالْجِرَاحَاتِ لِيُعَالِجَهُ مِنْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَنَا: وَاللهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ ضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ مَا رَأَيْتُ ضَرْبًا أَشَدَّ مِنْ هَذَا، لَقَدْ جُرَّ عَلَيْهِ مِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ قُدَّامِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ مِيلًا -وَهُوَ مَا يُسْبَرُ بِهِ عُمْقُ الْجُرْحِ- فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِرَاحَاتِ، وَقَالَ: لَمْ يَنْقَبْ، فَجَعَلَ يَأْتِيهِ وَيُعَالِجُهُ.

وَكَانَ قَدْ أَصَابَ وَجْهَهُ غَيْرُ ضَرْبَةٍ، ثُمَّ مَكَثَ يُعَالِجُهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَاهُنَا شَيْئًا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَهُ، فَجَاءَ بِحَدِيدَةٍ فَجَعَلَ يُعَلِّقُ اللَّحْمَ -لَحْمَ الْإِمَامِ- بِهَا وَيُقَطِّعُهُ بِالسِّكِّينِ، وَهُوَ -أَيْ: أَحْمَدُ- صَابِرٌ يَحْمَدُ اللهَ، فَبَرَأَ، وَلَمْ يَزَلْ يَتَوَجَّعْ مِنْ مَوَاضِعَ فِيهِ، وَكَانَ أَثَرُ الضَّرْبِ بَيِّنًا فِي ظَهْرِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ -رَحِمَهُ اللهُ-)).

هَذِهِ أَطْرَافٌ مِنَ الْمِحْنَةِ كَمَا رَوَاهَا الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ، فِيهَا ظِلَالُ الرَّهْبَةِ وَالْخَوْفِ، وَكَأَنَّهَا كَوْنٌ كَامِلٌ، وَعَالَمٌ شَامِلٌ، فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَتَقَابَلَانِ وَلَا يَتَعَاقَبَانِ!!

فِيهَا اللَّيْلُ بِظُلْمَتِهِ وَرَهْبَتِهِ وَسَتْرِهِ عَلَى الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، فَذَلِكَ مَثَلُ أَعْدَاءِ أَحْمَدَ، وَفِيهَا الصُّبْحُ بِإِشْرَاقِهِ وَوَدَاعَتِهِ وَرِقَّةِ حَاشِيَتِهِ وَجَمَالِ إِطْلَالَتِهِ، وَذَلِكَ مَثَلُ الْإِمَامِ أَحْمَدِ.

لَقَدْ ثَبَتَ أَحْمَدُ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ، فَأَصْبَحَتْ عَلَمًا عَلَيْهِ، فَإِذَا ذُكِرَ لَقَبُ الْإِمَامِ انْصَرَفَ اللَّفْظُ إِلَيْهِ.

وَمَا كَانَ أَحْمَدُ إِمَامًا بِإِذْلَالِهِ لِعْلِمِهِ أَمَامَ الْجَبَرُوتِ وَالسَّطْوَةِ!! وَإِنَّمَا بِإِعْزَازِ عِلْمِهِ، وَإِعْزَازِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ فِيهِ -فَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ-.

مَوْطِنُ النِّزَاعِ مَا هُوَ؟!!

مَا هُوَ مَوْضِعُ الْخُصُومَةِ؟!!

تَبْدِيلُ الشَّرِيعَةِ!!

تَغْيِيرُ دَعَائِمِ الْمِلَّةِ!!

تَحْرِيفُ الْعَقِيدَةِ!!

إِدْخَالُ الشِّرْكِيَّاتِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ فِيمَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ.. هَذَا مَوْطِنُ النِّزَاعِ، وَهَذَا مَا يُقَاتَلُ دُونَهُ.

دُونَ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُقَاتِلُ أَحْمَدُ مَكْشُوفَ الصَّدْرِ وَالظَّهْرِ؟!! وَمَا لَهُ إِلَّا مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ جُنَّةٍ تَقِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ، فَثَبَّتَهُ اللهُ وَحَفِظَهُ.

فَكَانَ مَاذَا؟!!

كَانَ أَنِ انْحَسَرَتْ أَمْوَاجُ الْمِحْنَةِ، وَذَهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً، وَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ.

دَعَا الْمَأْمُونُ النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعُذِّبَ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ فِي عَهْدِ الْمُعْتَصِمِ، وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ فِي عَهْدِ الْوَاثِقِ!!

دُونَ أَيِّ شَيْءٍ يُقَاتِلُونَ؟!!

أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ، أَبُو نُعَيْمٍ، الْبُوَيْطِيُّ، فِي أَضْرَابٍ لَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ.. دُونَ أَيِّ شَيْءٍ يُقَاتِلُونَ؟!!

دُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ!!

لَوْ قَالُوهَا سَلِمُوا -ظَاهِرًا- وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْإِنْعَامُ سَابِغًا، وَأُعْلِيَتْ مَرَاتِبُهُمْ، وَذُكِرُوا فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَامِعِ وَعَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ!! لَكِنَّهُمْ قَاتَلُوا دُونَهَا.. الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.. صِفَتُهُ، وَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ.

دُونَهَا قَاتَلُوا، عُذِّبُوا!! وَدِيسُوا بِالْأَقْدَامِ!! وَحُدِّدَتْ إِقَامَاتُهُمْ!! وَمُنِعَتْ رَوَاتِبُهُمْ مِمَّا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ!! وَمُنِعُوا مِنَ الْخَطَابَةِ وَالتَّحْدِيثِ وَالتَّعْلِيمِ، حَتَّى مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فِي الْمَكَاتِبِ!! وَعَلَا الْمُبْتَدِعَةُ رُءُوسَ الْمَنَابِرِ!!

وَالْمَنَابِرُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَـ (قَنَوَاتِ الضَّلَالِ) فِي هَذَا الزَّمَانِ!! فَكَانَ مَاذَا؟!!

جَاءَ الْمُتَوَكِّلُ.. رَفَعَ اللهُ بِهِ الْمِحْنَةَ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ.

مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِ الْمِحْنَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأُمَّةِ، فَقَالَ فِيهَا وَعَنْهَا الْأَئِمَّةُ: ((لَقَدْ أَعَزَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَنَصَرَ هَذَا الدِّينَ بِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَبِأَحْمَدَ يَوْمَ الْمِحْنَةِ)).

 ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ رُجُومٌ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِي يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا؛ فَالْعُلَمَاءُ رُجُومٌ لِهَذَا الصِّنْفِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَلَوْلَاهُمْ لَطُمِسَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ بِتَلْبِيسِ الْمُضِلِّينَ، وَلَكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَقَامَهُمْ حُرَّاسًا وَحَفَظَةً لِدِينِهِ، وَرُجُومًا لِأَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رُسُلِهِ)).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! ((إِنَّ مِنْ فَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَدِلَّةِ رِسَالَتِهِمْ إِخْلَاصَهُمُ التَّامَّ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ الْقَاصِرَةِ، وَفِي عُبُودِيَّتِهِمُ الْمُتَعَدِّيَةِ لِنَفْعِ الْخَلْقِ كَالدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يُبْدُونَ ذَلِكَ وَيُعِيدُونَهُ عَلَى أَسْمَاعِ قَوْمِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [ هود: 29].

وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْفَضَائِلِ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِالرُّسُلِ فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مِنْ رِفْعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَافِسُ فِيهِ طُلَّابُ الدُّنْيَا)).

((جُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِ النَّفْعِ الْعَامِّ فِي الْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ صُوَرَ النَّفْعِ الْعَامِّ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا دِينُنَا الْعَظِيمُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا: تَعْلِيمُ الْعِلْمِ، وَحَفْرُ آبَارِ الْمِيَاهِ أَوْ تَوْفِيرُ الْمِيَاهِ النَّقِيَّةِ، وَغَرْسُ النَّخْلِ، وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَنَشْرُ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو نُعَيْمٌ فِي «الْحِلْيَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

«لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

يَحْفِرُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ الْمَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالْعَطْشَانِ؛ «لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ».

وَتَلَوُّثُ الْمِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالْأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا لِيَكُونَ مَاؤُهُمْ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَمِنْ صُوَرِ النَّفْعِ الْعَامِّ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَرِعَايَةُ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26].

وَأَعْطِ أَصْحَابَ الْقَرَابَةِ مِنْكَ حَقَّهُمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْمَوَدَّةِ، وَالزِّيَارَةِ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَإِنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ -وَأَنْتُ مُوسِرٌ- فَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ.

وَأَعْطِ الْمِسْكِينَ الَّذِي يَبْدُو مِنْ ظَاهِرِ حَالِهِ الْفَقْرُ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَنْوِيَ فِعْلَ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِيُثَابَ عَلَى ذَلِكَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: بَيَانُ أَنَّ السَّعْيَ عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ، وَالْقِيَامَ عَلَى أُمُورِهِمْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.

وَفِيهِ: أَنَّ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يَتَحَصَّلُ الْمَرْءُ مِنْهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا.

وَيَنْبَغِي عَلَيهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَوْصِيلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ وَالْمُعْوِزِينَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، حَتَّى جَعَلَهُ ﷺ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ.

وَمِنْ صُوَرِ النَّفْعِ الْعَامِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى نَظَافَةِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ، وَتَنْحِيَةُ الْأَذَى عَنْهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ.. لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)).

((تَحْقِيقُ النَّفْعِ الْعَامِّ سَبِيلُ نَجَاةِ الْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِخَيْرٍ فَلَا عَلَيْهِ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ جُمْلَةً، وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا أَنْ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ, وَلَا أَنْ يُحَاوِلَ أَنْ يَحُدَّ مِنَ امْتِدَادِ فَسَادٍ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَفِي دِيَارِهِ!!

وَهَذَا كُلُّهُ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مُجْتَمَعٌ مُتَكَامِلٌ مُتَرَابِطٌ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ.

((وَالْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)), وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ، وَبَيَّنَ ((أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ هَذِهِ الْوُصْلَهَ وَهَذِهِ اللُّحْمَةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ, وَأَنَّهُمْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمْ فِي الْوَاجِبَاتِ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ, وَفِي الْحُقُوقِ الَّتِي آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهَا, وَإِنَّمَا يَتَمَايَزُونَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَقْوَى الْقُلُوبِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَوْمِ الَّذِينَ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ وَبَيْنَ عَوَاصِفِهِ, وَفِي ظُلُمَاتِ مُحِيطَاتٍ إِذَا أَخْرَجَ الْمَرْءُ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا, وَأَنَّ مَصِيرَهُمْ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ, وَأَنَّ الْوَهْمَ الَّذِي يَأْتِي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فِي الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ مِنْ مُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ دُوَلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا عَلَيْهِ إِذَا مَا كَانَ صَالِحًا وَفَسَدَ النَّاسُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ وَأَنْ يَسْعَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُفَّ النَّاسَ عَنِ الشُّرُورِ, وَأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَإِلَى فَعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَظَلُّ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسِهِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنَ الصَّلَاحِ, وَإِنَّمَا هُوَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ جِدًّا, كَمَا بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ, وَبَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ -مِنْ قَبْلُ- رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سِوَى الْمُنَافِقِينَ, وَأَنَّ مُجْتَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ سِوَى مُجْتَمَعِ الْمُنَافِقِينَ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]؛ لِأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.. بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.

ثُمَّ إِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي حَقِّهِمْ يَأْتُونَ بِأَوَّلِ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانُوا بِهَا لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءَ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}؛ فَهَذَا أَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وَلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.

أَمَّا الْمُنَافِقُونَ {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67].

فَتَأَمَّلْ فِي مُجْتَمَعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُقَابِلِ مُجْتَمَعِ الْمُنَافِقِينَ!

أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلِوَلَايَتِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَيُحِبُّ أَحَدُهُمُ الْخَيْرَ لِأَخِيهِ كَمَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَتَوَرَّطَ أَخُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ يَبْتَعِدُ بِهَا عَنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَنْ جَنَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِنَّمَا يَكُونُ حَرِيصًا عَلَيْهِ كَحِرْصِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا إِسْلَامٌ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَحَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَاتِ إِنَّمَا لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.

فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.

فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.

فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَقَعُ عَلَى الْمُنْكَرِ، وَيَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ فَلَا يَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا يَغُضُّ عَنْهُ الطَّرْفَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ, كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُصَحِّحُ لَنَا النَّظْرَةَ الْعَجْلَى إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.

فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِّي لَزِمْتُ نَفْسِي, وَأَنَا أُقِيمُهَا عَلَى الْمِنْهَاجِ وَالْحَقِّ؛ فَلَا أَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ وَلَا آمُرُ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سُنَّةٍ وَلَا يُحَذِّرُ مِنْ بِدْعَةٍ.

وَإِنَّمَا يَكُفُّ لِسَانَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ كَفَّ الشَّرَّ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يُنْزِلِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ خَطَرَ هَذَا الْفَهْمِ الْمُتَعَجِّلِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).

وَكَمَا بَيَّنَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُنَزِّلَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ))، أَوْ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَالْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، أَفْرَادُهُ كَالْأَعْضَاءِ فِي الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا تَدَاعَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لِأَلَمٍ أَصَابَ عُضْوًا كَانَ جَسَدًا سَلِيمًا، وَأَمَّا إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهَذَا جَسَدٌ مَيِّتٌ مَعْلُولٌ أَوْ هُوَ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ.

وَأَمَّا الْجَسَدُ الصَّحِيحُ فَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)), وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ ضَرَبَ لَنَا الْمِثَالَ، وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ الْحِسِّيَّةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَرِّبَ لَنَا الْأُمُورَ الْمَعْنَوِيَّةَ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَاءَهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ امْرَأَتِي قَدْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ!! وَلَمْ يَكُنْ وَلَمْ تَكُنِ امْرَأَتُهُ بِأَسْوَدَيْنِ.

إِذَنْ؛ فَهُوَ يَقُولُ كَلَامًا لَهُ مَدْلُولٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِشَيْءٍ, وَإِنَّمَا جَاءَ شَاكِيًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ امْرَأَتِي قَدْ وَضَعَتْ وَلِيدًا أَسْوَدَ!!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَرِّبَ لَهُ هَذَا الْأَمْرَ مِمَّا يُعَانِيهِ وَيُزَاوِلُهُ فِي حَيَاتِهِ, وَمِمَّا هُوَ مِنْ وَاقِعِ بِيئَتِهِ؛ فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)).

فَقَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: ((مَا لَوْنُهَا؟)).

قَالَ: حُمْرٌ.

قَالَ: ((فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ))؛ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَخْلُصْ لِسَوَادِهِ.

قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقَى.

قَالَ: ((فَمِنْ أَيْنَ جَاءَهُ هَذَا؟)).

قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((فَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ)).

فَرَدَّهُ الرَّسُولُ ﷺ بِالْحُجَّةِ الَّتِي سَاقَهَا هُوَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْزِعَ الشَّكَّ مِنْ قَلْبِهِ, وَأَنْ يَسْتَلَّهُ مِنْ ضَمِيرِهِ وَمِنْ فُؤَادِهِ, وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَشُبُّ تَحْتَ عَيْنَيْهِ وَلِيدُهُ وَفِي نَفْسِهِ مِنْهُ حَسِيكَةٌ, وَمَا يَزَالُ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ وَعَمَلِ الْهَوَى حَتَّى يَأْتِيَهِ مَا يَأْتِيهِ مِمَّا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَأْتِي بِالْمَثَلِ الْحِسِّيِّ يَضْرِبُهُ فَيَقُولُ: هَذِهِ الْإِبِلُ تَكُونُ عِنْدَكَ وَلَوْنُهَا لَوْنُهَا الَّذِي تَعْهَدُهُ وَتَعْرِفُهُ, ثُمَّ تَأْتِي أَلْوَانٌ, وَأَنْتَ تَعْلَمُ الْفَحْلَ الَّذِي طَرَقَ, وَمَعَ ذَلِكَ يَأْتِي اللَّوْنُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ فَمِنْ أَيْنَ؟

قَالَ: لَعَلَّهُ قَدْ نَزَعَهُ عِرْقٌ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَعَادَ إِلَى أُصُولٍ قَدْ مَضَتْ.

قَالَ: ((فَهَذَا الَّذِي جَاءَتِ امْرَأَتُكَ بِهِ, لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ أَيْضًا)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُ لَنَا الْأَمْثَالَ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا عَظِيمًا جِدًّا فِي بَيَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجْتَمَعِهِ, وَأَنَّ مَصِيرَهُمْ مُرْتَبِطٌ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ, وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَا غَابُوا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ هَلَكُوا جَمِيعًا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَنَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ وَلَا نُؤْذِي مَنْ فَوْقَنَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَلَوْ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا, وَلَوْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ يُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تُحِيطُ بِهِمُ الْأَخْطَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَالسَّمَاءُ فَوْقَهُمْ، وَالْبَحْرُ مِنْ تَحْتِهِمْ, وَالرِّيَاحُ الْعَاصِفَاتُ تَنُوشُهُمْ مِنْ جَوَانِبِهِمْ, وَهَذِهِ السَّفِينَةُ؛ كَأَنَّمَا هِيَ رَمْلَةٌ فِي صَحَرَاءَ مُتَرَامِيَةٍ, وَإِنَّمَا هِيَ قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَأْتِيهِ الْمَوْجُ مِنْ فَوْقِهِ.. الْمَوْجُ مِنْ فَوْقِهِ السَّحَابُ بِظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا, وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ فِي السَّفِينَةِ فِي الْخَطَرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَصِيرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنْ نَجَتِ السَّفِينَةُ نَجَوْا جَمِيعًا, وَإِنْ هَلَكَتِ السَّفِينَةُ هَلَكُوا جَمِيعًا.

فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَحْوَالَ النَّاسِ فِيهَا عُلْوًا وَسُفْلًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَى طَابِقَيْنِ مِنْ عُلْوٍ وَسُفْلٍ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ هُوَ بِأَعْلَى وَمَنْ هُوَ بِأَسْفَلَ, وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ))؛ فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا: أَيُّهُمْ يُصِيبُ أَعْلَاهَا, وَأَيُّهُمْ يُصِيبُ أَسْفَلَهَا؟ فَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا, وَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا, وَهَدَأَتِ النُّفُوسُ, وَرَضِيَتِ الْقُلُوبُ.

وَلَكِنْ كَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَمْتَاحُوا مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ أَوْ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ.. كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَرْشِيَتِهِ وَدِلَائِهِ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ إِلَّا بِالْمُرُورِ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، ثُمَّ بِإِلْقَاءِ تِلْكَ الدِّلَاءِ بِأَرْشِيَتِهَا فِي الْمَاءِ, ثُمَّ بِنَزْعِهَا، ثُمَّ بِالنُّزُولِ بِهَا إِلَى مَكَانِهِمْ بِأَسْفَلِ السَّفِينَةِ.

وَهَذَا لَا شَكَّ يُؤْذِي مَنْ بِأَعْلَى؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِنَصِيبِهِمْ, وَأَلَّا يُزَاحِمَهُمْ فِي هَذَا النَّصِيبِ مَنْ بِأَسْفَلِ السَّفِينَةِ, ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ مَا يَنْزِلُ، وَالْهَرْجُ وَالْجَلَبَةُ حَادِثَةٌ لَا مَحَالَةَ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَحْتَاجُهُ مَنْ بِأَسْفَلِ السَّفِينَةِ لَا يَحْتَاجُونَهُ بِوَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا عَلَى أَزْمَانٍ مُتَفَرِّقَاتٍ, وَقَدْ يَكُونُ لِكُلِّ قَاطِنٍ بِأَسْفَلِهَا حَاجَةٌ إِلَى الْمَاءِ فَيَحْتَاجُ وَقْتًا بِعَيْنِهِ, وَيَخْرُجُ فِي زَمَانٍ بِرَأْسِهِ؛ وَعَلَيْهِ فَالْأَذَى وَاقِعٌ عَلَى مَنْ بِأَعْلَى السَّفِينَةِ لَا مَحَالَةَ.

فَقَالَ هَؤُلَاءِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ: ((لَوْ أَنَّنَا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا..)), وَمَنِ الَّذِي يُنَازِعُنَا فِي نَصِيبِنَا؛ هُوَ نَصِيبُنَا وَالْقُرْعَةُ الَّتِي اقْتَرَعْنَاهَا قَدْ أَدَّتْ إِلَى هَذَا الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ ((فَلَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَنَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ وَلَا نُؤْذِي -وَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ- وَلَا نُؤْذِي مَنْ فَوْقَنَا))؛ فَنُرِيحُ أَنْفُسَنَا مِنْ عَنَاءِ الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ وَالِامْتِيَاحِ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ لَا نُؤْذِي مَنْ فَوْقَنَا.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا مُرْتَبِطٌ مَصِيرُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَبِهُوا إِلَى هَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ، وَهُوَ مَثَلٌ مَادِّيٌّ لَا يُخْطِئُهُ أَحَدٌ, وَلَا تَكَادُ تَنْزَلِقُ عَنْهُ عَيْنٌ بَاصِرَةٌ, وَإِنَّمَا إِذَا مَا انْفَتَحَتْ عَلَيْهِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ عَلِمَ الْمُسْلِمُ بِهِدَايَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَحْيَا وَحْدَهُ, وَأَنَّ الضَّرَرَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْحَقَهُ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ يقول: ((فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ -وَالْأَخْذُ عَلَى الْأَيْدِي فِيهِ نَوْعُ شِدَّةٍ بِعُنْفٍ- فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا)).

فَرَتَّبَ النَّجَاةَ هَاهُنَا عَلَى الْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْحَسْمِ وَالْقَطْعِ: ((نَجَوْا جَمِيعًا -حِينَئِذٍ-, وَلَوْ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُمْ لَهَلَكُوا -أَيْ: هَلَكَ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي السُّفْلِ فَيَهْلِكُونَ أَوَّلًا- هَلَكُوا وَهَلَكُوا جَمِيعًا)), وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى بِتِلْكَ الْحُجَّةِ الْعَلِيلَةِ, بَلِ الْمَيِّتَةُ؛ إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَصَرَّفُ فِي حَقِّنَا، وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ مَا نَشَاءُ فِيمَا آلَ إِلَيْهِ مِنْ مِلْكِنَا.

وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ الْخَطَأَ إِذَا مَا وَقَعَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ، وَأَصْغَرُ خَطَأٍ هَاهُنَا يَعْنِي أَوْسَعَ قَبْرٍ, وَهُوَ الْقَبْرُ الْمَائِيُّ الَّذِي يَفْتَحُ بِاللُّجَّةِ فَاهُ إِلَى قَرَارَةِ الْمُحِيطِ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَلَوْ تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا وَهَلَكُوا جَمِيعًا)).

فَتَأَمَّلْ -هَدَانِي وَإِيَّاكَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ- فِي هَذَا الْمِثَالِ الْمَضْرُوبِ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.. تَأَمَّلْ فِيهِ طَوِيلًا! وَاعْلَمْ أَنَّكَ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ عُضْوٌ فِيهِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ, إِذَا مَا أُصِيبَ عُضْوٌ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ أَتَاكَ حَظُّكَ لَا مَحَالَةَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّنَا إِذَا لَمْ نَصْنَعْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لِأَنَّهُ أَغْضَى عَيْنَيْهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا مُسْلِمٌ وَلَا أَنْ يُغْضَى عَنْهَا طَرْفُ مُؤْمِنٌ.

فَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَهُوَ الْعِقَابُ, وَهُوَ الدَّمَارُ, وَهُوَ سَدُّ أَبْوَابِ الْإِجَابَةِ؛ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ, وَحِينَئِذٍ يَسْتَشْرِي فِي الْمُجْتَمَعِ مَا يَسْتَشْرِي فِيهِ مِنَ الشُّرُورِ.

((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).

فَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّنَا لِكَيْ نَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَحَصَّلَ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ, وَأَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وَهَلِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ؟!!

هَلِ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا أَمْرٌ بِأَعْرَفِ مَعْرُوفٍ؟!!

وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ إِلَّا نَهْيٌ عَنْ أَنْكَرِ الْمُنْكَرِ؟!!

بِمَاذَا بَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ؟!!

بَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَبِالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْكُفْرِ وَالْكَافِرِينَ, وَالْبِدْعَةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ, وَهَذَا عَيْنُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

فَكَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا جَاءُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا كَانَ إِخْوَانُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالتَّوْحِيدِ, وَهَذَا أَمْرٌ بِأَعْرَفِ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَجَلُّ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِبَادَهُ, وَهُوَ تَوْحِيدُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا كَانَ إِخْوَانُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ, وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ أَنْكَرِ مُنْكَرٍ قَطُّ؛ فَإِنَّ أَكْبَرَ نَهْيٍ نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَالرِّسَالَاتُ فِي مُؤَدَّاهَا وَمُحَصِّلَتِهَا إِنَّمَا تَئُولُ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.. إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْعَذَابَ لَا بُدَّ وَاقِعٌ عَلَى مُجْتَمَعٍ لَا يَجِدُ الْمُسْلِمُ فِيهِ مِنْ ذَاتِهِ إِحْسَاسًا قَوِيًّا مُتَنَامِيًا مُتَصَاعِدًا أَنَّهُ عُضْوٌ فِي جَسَدٍ, وَأَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا الْجَسَدِ, وَمَهْمَا فَصَلْتَ عُضْوًا عَنْ جَسَدِهِ مَاتَ, وَصَارَ رِمَّةً وَجِيفَةً وَلَا قِيمَةَ لَهُ، صَارَ مُنْتِنًا لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ كَائِنٌ حَيٌّ إِلَّا تِلْكَ الْكَائِنَاتِ الَّتِي تَتَغَذَّى وَتَعِيشُ عَلَى الرِّمَمِ.

وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إِذَا مَا انْفَصَلَ عَنْ مُجْتَمَعِهِ وَإِذَا كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْإِحْسَاسِ بِإِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, لَا يَأْمُرُهُمْ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ.

الْإِنْسَانُ يَمُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ لَا يُصَلُّونَ؛ فَيَقُولُ: أَنَا أُصَلِّي، وَحِينَئِذٍ لَا تَثْرِيبَ عَلَيَّ إِنْ لَمْ آمُرْ بِالصَّلَاةِ, وَلَمْ أَنْهَ عَنْ هَذَا الْمُنْكَرِ الْعَظِيمِ مِنْ تَرْكِهَا!!

وَتَعْلَمُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ -وَجُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ-: أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَلَوْ تَكَاسُلًا وَتَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ وَلَا نُكْرَانٍ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا كَادَ يَكُونُ إِجْمَاعًا أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَكَاسِلًا مُتَهَاوِنًا فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ, وَلَكِنْ إِنْ عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ فَأَبَى إِلَّا أَلَّا يُصَلِّيَ؛ فَقُتِلَ حِينَئِذٍ مُصِرًّا؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا؛ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَرَى بَارِقَةَ السَّيْفِ عَلَى رَقَبَتِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: صَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، فَيَقُولُ: لَا أُصَلِّي, وَيُؤْثِرُ الْقَتْلَ بِالسَّيْفِ عَلَى الصَّلَاةِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ: ((لَا يُعْقَلُ فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنَ الْإِسْلَامِ, ثُمَّ يَرْتَضِي هَذَا الْقَتْلَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عَلَى الصَّلَاةِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

عَلَى كُلِّ حَالٍ, يَرَى الْإِنْسَانُ الْمُنْكَرَاتِ فِي الْمُجْتَمَعِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ ثُمَّ لَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ هَذَا الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ, وَلَا أَنْ يَأْمُرَ بِضِدِّهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَأَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ.

إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْمُجْتَمَعِ فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

كَيْفَ وَهُوَ يَصِيرُ إِلَى مَا آلَتْ إِلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلُ مَلْعُونًا بِلَعْنَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَعَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ, وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ اللَّعْنُ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].

فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُفَرَّطًا فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ, مُؤَدِّيًا إِلَى لَعْنِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ.

يَرَى الْإِنْسَانُ الْمُنْكَرَاتِ ثُمَّ لَا يَجِدُ فِي قَلْبِهِ مَوْجِدَةً, وَلَا يَجِدُ فِي قَلْبِهِ غَضَبًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!

الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ مُجْتَمَعٌ وَاحِدٌ, وَأَفْرَادُهُ مُتَلَاحِمُونَ مَصِيرُهُمْ وَاحِدٌ.

اجْعَلْ هَذِهِ مِنْكَ عَلَى ذُكْرٍ أَبَدًا كَمَا فِي حَدِيثِ الْقَوْمِ الَّذِينَ اسْتَهَمُوا عَلَى السَّفِينَةِ؛ فَلَا تَقُولَنَّ: أَنَا صَالِحٌ, وَمَنْ سِوَايَ طَالِحٌ؛ فَلَا عَلَيَّ.

لَا؛ لَا بُدَّ أَنْ تَسْعَى فِي تَكْمِيلِ غَيْرِكَ بِمَا كَمَّلْتَ بِهِ نَفْسَكَ, وَأَنْ تَسْعَى فِي صَلَاحِ غَيْرِكَ بِمَا أَصْلَحَ اللهُ بِهِ حَالَكَ وَمَا أَصْلَحَ بِهِ نَفْسَكَ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

((النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ النَّوَافِلِ))

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي: مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ- شَهْرًا».

لَأَنْ يَمْشِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ -أَيِّ حَاجَةٍ- مَا دَامَتْ مِمَّا يَرْضَى عَنْهُ الشَّرْعُ؛ فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا!!

زَمَنٌ طَوِيلٌ فِي اعْتِكَافٍ مَقْبُولٍ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ فِي بُقْعَةٍ طَاهِرَةٍ مُبَارَكَةٍ -هِيَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ-، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَشْيُهُ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ هِيَ أَفْضَلُ فَضْلًا، وَأَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَحَبُّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الِاعْتِكَافِ الَّذِي طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَعَظُمَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ الْمُكَرَّمِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: ((الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعَهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ.

فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.

وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَارِبًا المَثَلَ لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِين))-: ((كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ؛ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ)). فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.

سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ)).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  فضل عشر ذي الحجة
  مختصر الرد على أهل الإلحاد
  شَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ
  فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  الْجَارُ مَفْهُومُهُ وَحُقُوقُهُ
  التَّمَسُّكُ بِالْأَمَلِ وَإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَقْتَ الْأَزْمَاتِ
  الرد على الملحدين:تحديد الصلة بين المدنية الحديثة والإسلام، وبيان أن العلم الحديث قرآني في موضوعه
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان