السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ

السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ

((السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقُلُوبِ))

فَالسَّكِينَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَوَاهِبِ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ- وَمِنَحِهِ، وَمِنْ أَجَلِّ عَطَايَاهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِرَسُولِهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

((إِنَّ مِنْ مِنَّةِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهِيَ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالثَّبَاتُ عِنْدَ نُزُولِ الْمِحَنِ الْمُقْلِقَةِ وَالْأُمُورِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تُشَوِّشُ الْقُلُوبَ، وَتُزْعِجُ الْأَلْبَابَ، وَتُضْعِفُ النُّفُوسَ، فَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُثَبِّتَهُ، وَيَرْبِطَ عَلَى قَلْبِهِ، وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ؛ لِيَتَلَقَّى هَذِهِ الْمَشَقَّاتِ بِقَلْبٍ ثَابِتٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، فَيَسْتَعِدُّ بِذَلِكَ لِإِقَامَةِ أَمْرِ اللهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَيَزْدَادُ بِذَلِكَ إِيمَانُهُ، وَيَتِمُّ إِيقَانُهُ)).

قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].

((هُوَ اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ فَسَكَنَتْ، وَرَسَخَ الْيَقِينُ فِيهَا؛ لِيَزْدَادُوا تَصْدِيقًا للهِ وَاتِّبَاعًا لِرَسُولِهِ مَعَ تَصْدِيقِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ.

وَللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَنْصُرُ بِهِمْ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ وَصُنْعِهِ)).

الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا جَرَى مَا جَرَى بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ الَّتِي ظَاهِرُهَا أَنَّهَا غَضَاضَةٌ عَلَيْهِمْ، وَحَطٌّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَتِلْكَ لَا تَكَادُ تَصْبِرُ عَلَيْهَا النُّفُوسُ، فَلَمَّا صَبَرُوا عَلَيْهَا وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ لَهَا؛ ازْدَادُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)).

 ((مَعْنَى السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ))

((السَّكِينَةُ لُغَةً: ((مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ (س ك ن) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ، يُقَالُ: سَكَنَ الشَّيْءُ إِذَا ذَهَبَتْ حَرَكَتُهُ فَاسْتَقَرَّ وَثَبَتَ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: السَّكِينَةُ، وَهِيَ الْوَقَارُ، وَقِيلَ: الْوَدَاعَةُ وَالْوَقَارُ)).

وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ، أَوِ الْوَقَارُ وَالْوَدَاعَةُ وَالْأَمْنُ، وَالسَّكِينَةُ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْمَلَائِكَةُ: قِيلَ: هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ، وَقِيلَ: هِيَ النَّصْرُ، وَقِيلَ: هِيَ الْوَقَارُ وَمَا يَسْكُنُ بِهِ الْإِنْسَانُ.

 ((أَمَّا السَّكِينَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ فَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ.

وَقِيلَ: هِيَ تَثْبِيتُهُمْ عَلَى الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ)).

السَّكِينَةُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((هِيَ مَا يَجِدُهُ الْقَلْبُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ تَنَزُّلِ الْغَيْبِ، وَهِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يَسْكُنُ إِلَيْهِ شَاهِدُهُ وَيَطْمَئِنُّ، وَقِيلَ: هِيَ زَوَالُ الرُّعْبِ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالسُّكُونُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَلَا يَنْزَعِجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَيُوجِبُ لَهُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةَ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ)))).

((الطُّمَأْنِينَةُ لُغَةً: هِيَ الِاسْمُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ قَوْلِهِم: اطْمَأَنَّ الشَّيْءُ يَطْمَئِنُّ إِذَا سَكَنَ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ط م ن) بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ، يُقَالُ فِيهِ: اطْمَأَنَّ الْمَكَانُ إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَاطْمَأَنَّ الرَّجُلُ اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً أَيْ: سَكَنَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: ٢٨].

قِيلَ: ((مَعْنَاهُ: إِذَا ذُكِرَ اللهُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ آمَنُوا بِهِ غَيْرَ شَاكِّينَ)).

وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}: هِيَ الَّتِي قَدِ اطْمَأَنَّتْ بِالْإِيمَانِ، وَأَخْبَتَتْ لِرَبِّهَا.

قَالَ الرَّاغِبُ: ((مَعْنَاهُ: هِيَ أَلَّا تَصِيرَ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، وَاطْمَأَنَّ وَتَطَامَنَ مُتَقَارِبَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، الطُّمَأْنِينَةُ: هِيَ السُّكُونُ بَعْدَ الِانْزِعَاجِ)).

قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الطُّمَأْنِينَةُ فِي الشَّرْعِ -يَعْنِي: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ-: الْقَرَارُ بِمِقْدَارِ التَّسْبِيحَةِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ)).

وَقَالَ الْحَرَالِيُّ: ((هِيَ الْهُدُوءُ وَالسُّكُونُ عَلَى سَوَاءِ الْخِلْقَةِ وَاعْتِدَالِ الْخُلُقِ)).

وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: ((الطُّمَأْنِينَةُ: سُكُونٌ يُقَوِّيهِ أَمْنٌ صَحِيحٌ شَبِيهٌ بِالْعَيَانِ)).

وَهُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ:

قَالَ الْفَيْرُوزَ آبَادِيُّ: ((الطُّمَأْنِينَةُ وَالسَّكِينَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى؛ لَكِنَّ اسْتِلْزَامَ الطُّمَأْنِينَةِ السَّكِينَةَ أَقْوَى مِنَ الْعَكْسِ، ثُمَّ إِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَمُّ مِنَ السَّكِينَةِ، وَهِيَ عَلَى دَرَجَاتٍ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللهِ، وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ.

وَالطُّمَأْنِينَةُ: سُكُونُ أَمْنٍ فِيهِ اسْتِرَاحَةُ أُنْسٍ.

وَالسَّكِينَةُ تَكُونُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ لَا تُفَارِقُ صَاحِبَهَا، وَكَأَنَّهَا نِهَايَةُ السَّكِينَةِ)).

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: ((أَنَّ بَيْنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ فَرْقَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّكِينَةَ صَوْلَةٌ تُورِثُ خُمُودَ الْهَيْبَةِ أَحْيَانًا، وَالطُّمَأْنِينَةَ: سُكُونُ أَمْنٍ فِي اسْتِرَاحَةِ أُنْسٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ السَّكِينَةَ تَكُونُ نَعْتًا، وَتَكُونُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالطُّمَأْنِينَةَ لَا تُفَارِقُ صَاحِبَهَا، وَمِنْ ثَمَّ تَكُونُ الطُّمَأْنِينَةُ مُوجِبَ السَّكِينَةِ وَأَثَرًا مِنْ آثَارِهَا، وَكَأَنَّهَا نِهَايَةُ السَّكِينَةِ)) )).

((السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

لَقَدِ اعْتَنَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ عِنَايَةً بَالِغَةً؛ حَيْثُ جَاءَتْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْإِيمَانِيَّةُ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَنْ أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَفْزَعُ لَهُ الْأَفْئِدَةُ، حِينَهَا تَتَنَزَّلُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَّقِينَ، تُبَشِّرُهُمْ بِمَعِيَّةِ اللهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ يَوْمِ بَدْرٍ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123-126].

(({وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} فِي عَدَدِكُمْ وَعُدَدِكُمْ، فَكَانُوا ثَلَاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، فِي قِلَّةِ ظَهْرٍ وَرَثَاثَةِ سِلَاحٍ، وَأَعْدَاؤُهُمْ يُنَاهِزُونَ الْأَلْفَ فِي كَمَالِ الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِنَصْرِهِ.

إِذْ تَقُولُ مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مُثَبِّتًا لِجَنَانِهِمْ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ}.

{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أَيْ: مِنْ حَمْلَتِهِمْ هَذِهِ بِهَذَا الْوَجْهِ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} أَيْ: مُعَلَّمِينَ عَلَامَةَ الشُّجْعَانِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ كَانَ هَذَا الْإِمْدَادُ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُبَاشَرَةً لِلْقِتَالِ -كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ-، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ تَثْبِيتٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ -كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ-؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وَفِي هَذَا أَنَّ الْأَسْبَابَ لَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْأَسْبَابُ وَتَوَفُّرُهَا فِيهَا طُمَأْنِينَةٌ لِلْقُلُوبِ، وَثَبَاتٌ عَلَى الْخَيْرِ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25-26].

((يَمْتَنُّ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَوَاطِنِ اللِّقَاءِ وَمَوَاضِعِ الْحُرُوبِ وَالْهَيْجَاءِ؛ حَتَّى فِي يَوْمِ (حَنِينٍ) الَّذِي اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْأَزْمَةُ، وَرَأَوْا مِنَ التَّخَاذُلِ وَالْفِرَارِ مَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْأَرْضُ عَلَى رَحْبِهَا وَسِعَتِهَا.

وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ سَمِعَ أَنَّ (هَوَازِنَ) اجْتَمَعُوا لِحَرْبِهِ؛ فَسَارَ إِلَيْهِمْ ﷺ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ فَتَحُوا مَكَّةَ، وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الطُّلَقَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَالْمُشْرِكُونَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، فَأُعْجِبَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَتِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ((لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ)).

فَلَمَّا الْتَقَوْا هُمْ وَهَوَازِنُ حَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَانْهَزَمُوا لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا نَحْوُ مِائَةِ رَجُلٍ ثَبَتُوا مَعَهُ، وَجَعَلُوا يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ وَيَقُولُ: ((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ)).

وَلَمَّا رَأَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا رَأَى أَمَرَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْأَنْصَارِ وَبَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ -وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ-، فَنَادَاهُمْ: ((يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ! يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ!)).

فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ عَطَفُوا عَطْفَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَاجْتَلَدُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ هَزِيمَةً شَنِيعَةً، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مُعَسْكَرِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.

{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أَيْ: لَمْ تُفِدْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ} بِمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ حِينَ انْهَزَمْتُمْ {بِمَا رَحُبَتْ} أَيْ: عَلَى رَحْبِهَا وَسِعَتِهَا، {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أَيْ: مُنْهَزِمِينَ.

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَالسَّكِينَةُ: مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ وَقْتَ الْقَلَاقِلِ وَالزَّلَازِلِ وَالْمُفْظِعَاتِ مِمَّا يُثَبِّتُهَا، وَيُسَكِّنُهَا، وَيَجْعَلُهَا مُطْمَئِنَّةً، وَهِيَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْعِبَادِ.

{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}: وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ يُثَبِّتُونَهُمْ، وَيُبَشِّرُونَهُمْ بِالنَّصْرِ.

{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِالْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ، وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَرُدُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ)).

وَكَذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ حِينَ رَأَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ شُرُوطَ الصُّلْحِ بِهِمْ مُجْحِفَةٌ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بَرْدًا وَسَلَاَمًا وَتَثْبِيتًا لَهُمْ؛ حَيْثُ جَاءَ لَفْظُ (السَّكِينَةِ) فِي ثَلاثِ آيَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ :سُبْحَانَهُ-: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].

(({هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أَيْ: جَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَعَنْهُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَلِرَسُولِهِ، وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ زَادَهُمْ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِرِضَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ يُبَايِعُونَ الرَّسُولَ ﷺ تِلْكَ الْمُبَايَعَةَ الَّتِي بَيَّضَتْ وُجُوهَهُمْ، وَاكْتَسَبُوا بِهَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ -الَّتِي يُقَالُ لَهَا (بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) لِرِضَا اللَّهِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، وَيُقَالُ لَهَا (بَيْعَةُ أَهْلِ الشَّجَرَةِ)-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا دَارَ الْكَلَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَأْنِ مَجِيئِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا هَذَا الْبَيْتَ، مُعَظِّمًا لَهُ.

فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ لِمَكَّةَ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ خَبَرٌ غَيْرُ صَادِقٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، فَجَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ، فَبَايَعُوهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَألَّا يَفِرُّوا حَتَّى يَمُوتُوا، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ رَضِيَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ شُكْرًا لَهُمْ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ، زَادَهُمْ هُدًى، وَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِهِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ تُثَبِّتُهُمْ، وَتَطْمَئِنُّ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَهُوَ: (فَتْحُ خَيْبَرَ)، لَمْ يَحْضُرْهُ سِوَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَاخْتُصُّوا بِخَيْبَرَ وَغَنَائِمِهَا؛ جَزَاءً لَهُمْ، وَشُكْرًا عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالْقِيَامِ بِمَرْضَاتِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26].

((يَقُولُ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} حَيْثُ أَنِفُوا مِنْ كِتَابَةِ ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، وَأَنِفُوا مِنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ: ((دَخَلُوا مَكَّةَ قَاهِرِينَ لِقُرَيْشٍ)).

وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَزَلْ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى أَوْجَبَتْ لَهُمْ مَا أَوْجَبَتْ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الْغَضَبُ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا قَابَلُوهُمْ بِهِ، بَلْ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَالْتَزَمُوا الشُّرُوطَ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مَا كَانَتْ، وَلَمْ يُبَالُوا بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ، وَلَا لَوْمِ اللَّائِمِينَ.

وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَهِيَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، وَحُقُوقُهَا أَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِهَا، فَالْتَزَمُوهَا وَقَامُوا بِهَا، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَهَا الَّذِينَ اسْتَأْهَلُوهَا؛ لِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ عِنْدَهُمْ وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا})).

وَأَخْبَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ أَنْزَلَ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قَلْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي الْغَارِ مُحَاطٌ بِالْأَخْطَارِ، وَأَعَانَهُ بِجُنُودٍ لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَذَلَّ اللهُ أَعْدَاءَهُ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

((إِلَّا تَنْصُرُوا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، لَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا، فَقَدْ نَصَرَهُ فِي أَقَلِّ مَا يَكُونُ وَأَذَلِّهِ؛ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ لَمَّا هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ، وَحَرَصُوا أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَأَلْجَأُوهُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ.

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أَيْ: هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أَيْ: لَمَّا هَرَبَا مِنْ مَكَّةَ لَجَئَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَمَكَثَا فِيهِ لِيَبْرُدَ عَنْهُمَا الطَّلَبُ.

فَهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْحَرِجَةِ الشَّدِيدَةِ الْمَشَقَّةِ حِينَ انْتَشَرَ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَطْلُبُونَهُمَا لِيَقْتُلُوهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ نَصْرِهِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ.

إِذْ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا حَزِنَ وَاشْتَدَّ قَلَقُهُ، {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بِعَوْنِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أَيِ: الثَّبَاتَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَالسُّكُونَ الْمُثَبِّتَةَ لِلْفُؤَادِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَلِقَ صَاحِبُهُ سَكَّنَهُ وَقَالَ: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)).

{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}: وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ حَرَسًا لَهُ، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أَيِ: السَّاقِطَةَ الْمَخْذُولَةَ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قَدْ كَانُوا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فِي ظَنِّهِمْ عَلَى قَتْلِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَخْذِهِ، حَنِقِينَ عَلَيْهِ، فَعَمِلُوا غَايَةَ مَجْهُودِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَخَذَلَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ يُتِمَّ لَهُمْ مَقْصُودَهُمْ؛ بَلْ وَلَا أَدْرَكُوا شَيْئًا مِنْهُ.

وَنَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِدَفْعِهِ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ النَّصْرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ عَلَى قِسْمَيْنِ: نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا طَمِعُوا فِي عَدُوِّهِمْ بِأَنْ يُتِمَّ اللَّهُ لَهُمْ مَا طَلَبُوا وَقَصَدُوا، وَيَسْتَوْلُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَيَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ.

وَالثَّانِي: نَصْرُ الْمُسْتَضْعَفِ الَّذِي طَمِعَ فِيهِ عَدُوُّهُ الْقَادِرُ، فَنَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّ يَرُدَّ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَيُدَافِعَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ هَذَا النَّصْرَ أَنْفَعُ النَّصْرَيْنِ، وَنَصْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.

وَقَوْلُهُ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} أَيْ: كَلِمَاتُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَكَلِمَاتُهُ الدِّينِيَّةُ هِيَ الْعَالِيَةُ عَلَى كَلِمَةِ غَيْرِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}، {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، فَدِينُ اللَّهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالسُّلْطَانِ النَّاصِرِ.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، وَلَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ، حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَقَدْ يُؤَخِّرُ نَصْرَ حِزْبِهِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَضِيلَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِخِصِّيصَةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ الْفَوْزُ بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْجَلِيلَةِ، وَالصُّحْبَةِ الْجَمِيلَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛ وَلِهَذَا عَدُّوا مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقُرْآنِ الَّذِي صَرَّحَ بِهَا.

وَفِيهَا: فَضِيلَةُ السَّكِينَةِ، وَأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَطِيشُ بِهَا الْأَفْئِدَةُ، وَأَنَّهَا تَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَثِقَتِهِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، وَبِحَسَبِ إِيمَانِهِ وَشَجَاعَتِهِ.

وَفِيهَا: أَنَّ الْحُزْنَ قَدْ يَعْرِضُ لِخَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ الصِّدِّيقِينَ، مَعَ أَنَّ الْأَوْلَى -إِذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ- أَنْ يَسْعَى فِي ذَهَابِهِ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ، مُوهِنٌ لِلْعَزِيمَةِ)).

وَمِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي (الطُّمَأْنِينَةِ): قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].

((وَمَا جَعَلَ اللهُ هَذَا الْإِمْدَادَ بِالْمَلَائِكَةِ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ يُبَشِّرُكُمْ بِهَا، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ وَتَطِيبَ بِوَعْدِ اللهِ لَكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمِ فِي تَدْبِيرِهِ وَفِعْلِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103].

((يَأْمُرُ اللهُ -تَعَالَى- بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عَقِيبَ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا مُرَغَّبًا فِيهِ -أَيْضًا- بَعْدَ غَيْرِهَا؛ وَلَكِنْ هَاهُنَا آكَدُ؛ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّخْفِيفِ فِي أَرْكَانِهَا، وَمِنَ الرُّخْصَةِ فِي الذَّهَابِ فِيهَا وَالْإِيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} أَيْ: فِي سَائِرِ أَحْوَالِكُمْ.

ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَيْ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَحَصَلَتِ الطُّمَأْنِينَةُ {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَيْ: فَأَتِمُّوهَا وَأَقِيمُوهَا كَمَا أُمِرْتُمْ بِحُدُودِهَا، وَخُشُوعِهَا، وَسُجُودِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَجَمِيعِ شُؤُونِهَا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

((وَيَهْدِي الَّذِينَ تَسْكُنُ قُلُوبُهُمْ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَذِكْرِهِ فَتَطْمَئِنُّ، أَلَا بِطَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ وَثَوَابِهِ تَسْكُنُ الْقُلُوبُ وَتَسْتَأْنِسُ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- ذَاكِرًا نِعْمَةَ الْأَوْطَانِ الْآمِنَةِ الْمُطْمَئِنَّةِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

((وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ مَكَّةُ الْمُشَرَّفَةُ الَّتِي كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً لَا يُهَاجُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَحْتَرِمُهَا الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَهِيجُهُ مَعَ شِدَّةِ الْحَمِيَّةِ فِيهِمْ وَالنُّعَرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْأَمْنِ التَّامِّ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِسِوَاهَا، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ الْوَاسِعُ.

كَانَتْ بَلْدَةً لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا شَجَرٌ، وَلَكِنْ يَسَّرَ اللَّهُ لَهَا الرِّزْقَ يَأْتِيهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَجَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُونَ أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى أَكْمَلِ الْأُمُورِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ، فَكَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ ضِدَّ مَا كَانُوا فِيهِ، وَأَلْبَسَهُمْ لِبَاسَ الْجُوعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّغَدِ، وَالْخَوْفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ صَنِيعِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ})).

وَوَصَفَ اللهُ النُّفُوسَ الطَّيِّبَةَ الْمُؤْمِنَةَ بِالْمُطْمَئِنَّةِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30].

(({يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، السَّاكِنَةِ إِلَى حُبِّهِ، الَّتِي قَرَّتْ عَيْنُهَا بِاللَّهِ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} الَّذِي رَبَّاكِ بِنِعْمَتِهِ، وَأَسْدَى عَلَيْكِ مِنْ إِحْسَانِهِ مَا صِرْتِ بِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} أَيْ: رَاضِيَةً عَنِ اللَّهِ، وَعَمَّا أَكْرَمَهَا بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَاللَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهَا.

{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}: وَهَذَا تُخَاطَبُ بِهِ الرُّوحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُخَاطَبُ بِهِ وَقْتَ السِّيَاقِ وَالْمَوْتِ)).

((السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ، وَأَمَرَنَا بِالسَّكِينَةِ فِي عِبَادَاتِنَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)).

وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، أَنَّهُ قَالَ فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ»، وَهُوَ كَافٌّ نَاقَتَهُ، حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا -وَهُوَ مِنْ مِنًى- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ، وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ)).

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)).

وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيَحْرُمُ عَلَيَّ)).

قَالَ: ((فَصَعَّدَ النَّبِيُّ ﷺ وَصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ ((الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ))، وَقَالَ: ((لَا تَقْرَبْ لَحْمَ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا ذَا نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)).

وَعَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ السَّلَامَ، قَالَ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)).

فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَعَلَيْكَ السَّلَامُ))، ثُمَّ قَالَ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)). حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: ((وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، عَلِّمْنِي)).

قَالَ: ((إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا)).

((مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ))

((مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْمَوَاهِبِ، لَا مِنْ مَنَازِلِ الْمَكَاسِبِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- السَّكِينَةَ فِي كِتَابِهِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ٢٤٨].

الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25-٢٦].

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: ٤٠].

الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: ٤].

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: ١٨].

السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: ٢٦] الْآيَةَ.

وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- -كَمَا يَقُولُ تِلْمِيذُهُ النَّجِيبُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ- إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ قَرَأَ آيَاتِ السَّكِينَةِ.

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ جَرَتْ لَهُ فِي مَرَضِهِ تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ حَمْلِهَا - مِنْ مُحَارَبَةِ أَرْوَاحٍ شَيْطَانِيَّةٍ ظَهَرَتْ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ - قَالَ: ((فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ قُلْتُ لِأَقَارِبِي وَمَنْ حَوْلِيَ: اقْرَءُوا آيَاتِ السَّكِينَةِ، قَالَ: ثُمَّ أَقْلَعَ عَنِّي ذَلِكَ الْحَالُ، وَجَلَسْتُ وَمَا بِي قَلْبَةٌ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا -أَيْضًا- قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي سُكُونِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ)).

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ؛ لَكِنْ لَمْ تَثْبُتْ لِآيَاتِ السَّكِينَةِ مَزِيَّةٌ خَاصَّةٌ فِي عِلَاجِ هَذِهِ الْحَالِ، فَالْأَصْلُ عِلَاجُهَا بِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوِّذَاتِ، فَهِيَ خَيْرُ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْجَعُهَا.

((وَأَصْلُ السَّكِينَةِ: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالسُّكُونُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَخَاوِفِ، فَلَا يَنْزَعِجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَيُوجِبُ لَهُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةَ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ.

وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ إِنْزَالِهَا عَلَى رَسُولِهِ ﷺ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ؛ كَيَوْمِ الْهِجْرَةِ إِذْ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْغَارِ، وَالْعَدُوُّ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ، لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَرَآهُمَا، وَكَيَوْمِ حُنَيْنٍ حِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ مِنْ شِدَّةِ بَأْسِ الْكُفَّارِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَكَيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُهَا النُّفُوسُ، وَحَسْبُكَ بِضَعْفِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ حَمْلِهَا -وَهُوَ عُمَرُ!- حَتَّى ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((كُلُّ سَكِينَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ طُمَأْنِينَةٌ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:

اللهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا        =     وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا               =     وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا             =          وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

وَهِيَ السَّكِينَةُ التَّيِ أُنْزِلَتْ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ وَقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ شَيْءٌ يَجْمَعُ نُورًا، وَقُوَّةً، وَرُوحًا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْخَائِفُ، وَيَتَسَلَّى بِهِ الْحَزِينُ وَالضَّجِرُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ الْعَصِيُّ وَالْجَرِيءُ وَالْأَبِيُّ.

هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ ﷺ وَقُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: النُّورُ، وَالْقُوَّةُ، وَالرُّوحُ.

وَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ ثَمَرَاتٍ: سُكُونُ الْخَائِفِ إِلَيْهِ، وَتَسَلِّي الْحَزِينِ وَالضَّجِرِ بِهِ، وَاسْتِكَانَةُ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ وَالْجَرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْإِبَاءِ إِلَيْهِ.

فَبِالرُّوحِ الَّذِي فِيهَا -يَعْنِي: فِي السَّكِينَةِ-: حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَبِالنُّورِ الَّذِي فِيهَا: اسْتِنَارَتُهُ وَضِيَاؤُهُ وَإِشْرَاقُهُ، وَبِالْقُوَّةِ: ثَبَاتُهُ وَعَزْمُهُ وَنَشَاطُهُ.

فَالنُّورُ يَكْشِفُ لَهُ عَنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، وَحَقَائِقِ الْيَقِينِ، وَيُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ.

وَالْحَيَاةُ تُوجِبُ كَمَالَ يَقَظَتِهِ، وَفِطْنَتِهِ، وَحُضُورِهِ، وَانْتِبَاهِهِ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ، وَتَأَهُّبِهِ لِلِّقَاءِ.

وَالْقُوَّةُ تُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ، وَصِحَّةَ الْمَعْرِفَةِ، وَقَهْرَ دَاعِي الْغَيِّ وَالْعَنَتِ، وَضَبْطَ النَّفْسِ عَنْ جَزَعِهَا وَهَلَعِهَا، وَاسْتِرْسَالِهَا فِي النَّقَائِضِ وَالْعُيُوبِ؛ وَلِذَلِكَ ازْدَادَ بِالسَّكِينَةِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ.

وَالْإِيمَانُ يُثْمِرُ لَهُ النُّورَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُثَمِّرُهُ -أَيْضًا-، وَتُوجِبُ زِيَادَتَهُ، فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِهَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.

فَبِالنُّورِ يَكْشِفُ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ، وَبِالْحَيَاةِ يَتَنَبَّهُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ، وَيَصِيرُ يَقْظَانًا، وَبِالْقُوَّةِ يَقْهَرُ الْهَوَى وَالنَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ، كَمَا قِيلَ:

وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ         =      تُحَصَّلُ بِاجْتِهَادٍ أَوْ بِكَسْبٍ

وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَذْلِ جُهْدٍ     =     بِإِخْلَاصٍ وَجِدٍّ لَا بِلَعْبِ

وَفَضْلُ اللَّهِ مَبْذُولٌ وَلَكِنْ          = بِحِكْمَتِهِ وَعَنْ ذَا النَّصُّ يُنْبِي

فَمَا مِنْ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ وَضْعُ الْ    = كَوَاكِبِ بَيْنَ أَحْجَارٍ وَتُرْبِ

فَشُكْرًا لِلَّذِي أَعْطَاكَ مِنْهُ    =    فَلَوْ قَبِلَ الْمَحَلُّ لَزَادَ رَبِّي

فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالسَّكِينَةِ -وَهِيَ النُّورُ، وَالْحَيَاةُ، وَالرُّوحُ-؛ سَكَنَ إِلَيْهَا الْعَصِيُّ، وَهُوَ الَّذِي سُكُونُهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ لِعَدَمِ سَكِينَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، فَلَمَّا سَكَنَتْ سَكِينَةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ صَارَ سُكُونُهُ إِلَيْهَا عِوَضَ سُكُونِهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وَجَدَ فِيهَا مَطْلُوبَهُ، وَهُوَ اللَّذَّةُ الَّتِي كَانَ يَطْلُبُهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُعِيضُهُ عَنْهَا، فَمُنْذُ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ اعْتَاضَ بِلَذَّتِهَا وَرَوْحِهَا وَنَعِيمِهَا عَنْ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ، فَاسْتَرَاحَتْ بِهَا نَفْسُهُ، وَهَاجَ إِلَيْهَا قَلْبُهُ، وَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَصَارَتْ لَذَّتُهُ رُوحَانِيَّةً قَلْبِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جُسْمَانِيَّةً، فَأَسْلَتْهُ عَنْهَا وَخَلَّصَتْهُ مِنْهَا، فَإِذَا تَأَلَّقَتْ بُرُوقُهَا قَالَ:

تَأَلَّقَ الْبَرْقُ نَجْدِيًّا فَقُلْتُ لَهُ   =  يَا أَيُّهَا الْبَرْقُ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ

وَإِذَا طَرَقَتْهُ طُيُوفُهَا الْخَيَالِيَّةُ فِي ظَلَامِ لَيْلِ الشَّهَوَاتِ نَادَى لِسَانُ حَالِهِ وَتَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ:

طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا   =  وَقْتُ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ

فَإِذَا وَدَّعَتْهُ، وَعَزَمَتْ عَلَى الرَّحِيلِ، وَوَعَدَتْهُ بِالْمُوَافَاةِ؛ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْآخَرِ:

 

قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا     =     مَاذَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أَلَّا تَرْجِعِي

فَإِذَا بَاشَرَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ قَلْبَهُ سَكَّنَتْ خَوْفَهُ، يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْخَائِفُ، وَسَلَّتْ حُزْنَهُ؛ فَإِنَّهَا لَا حُزْنَ مَعَهَا، فَهِيَ سَلْوَةُ الْمَحْزُونِ، وَمُذْهِبَةُ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، وَكَذَلِكَ تُذْهِبُ عَنْهُ وَخَمَ الضَّجَرِ، وَتَبْعَثُ فِيهِ نَشْوَةَ الْعَزْمِ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَإِبَاءِ النَّفْسِ لِلِانْقِيَادِ إِلَيْهِ)).

 

((مَنْزِلَةُ الطُّمَأْنِينَةِ))

((قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: ٢٨].

وَقَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: ٢٧].

 

الطُّمَأْنِينَةُ: سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ، وَعَدَمُ اضْطِرَابِهِ وَقَلَقِهِ.

وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

 أَيِ: الصِّدْقُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُ السَّامِعِ، وَيَجِدُ عِنْدَهُ سُكُونًا إِلَيْهِ، وَالْكَذِبُ يُوجِبُ لَهُ اضْطِرَابًا وَارْتِيَابًا.

وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّسُولِ: ﷺ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

«الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ» أَيْ: سَكَنَ إِلَيْهِ وَزَالَ عَنْهُ اضْطِرَابُهُ وَقَلَقُهُ.

وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِذِكْرِ اللَّهِ} قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَسْكُنُ قَلْبُهُ، فَإِذَا اضْطَرَبَ الْقَلْبُ وَقَلِقَ فَلَيْسَ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا فِي الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ، إِذَا حَلَفَ الْمُؤْمِنُ عَلَى شَيْءٍ سَكَنَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ وَاطْمَأَنَّتْ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، يَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَيَطْمَئِنُّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هَاهُنَا: الْقُرْآنُ، وَهُوَ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، بِهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ يَقِينِهِ، وَاضْطِرَابَهُ وَقَلَقَهُ مِنْ شَكِّهِ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُحَصِّلُ لِلْيَقِينِ، الدَّافِعُ لِلشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، فَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِهِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ -أَيْضًا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: ٣٦].

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ذِكْرَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ -وَهُوَ كِتَابُهُ- مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ؛ قَيَّضَ لَهُ شَيْطَانًا يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنِ السَّبِيلِ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ -أَيْضًا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: ١٢٤].

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ -وَهُوَ كِتَابُهُ-؛ وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: ١٢٥].

وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَلِفِ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْمَقْصُودِ؛ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْحَلِفِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى الصَّادِقِ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ، وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَنْ يَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَوْ حَلَفَ.

وَجَعَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- الطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُفُوسِهِمْ، وَجَعَلَ الْغِبْطَةَ وَالْمِدْحَةَ وَالْبِشَارَةَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ؛ فَطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: ٢٧] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً، فَهُنَاكَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَتَدْخُلُ فِي عِبَادِهِ، وَتَدْخُلُ جَنَّتَهُ.

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: ((اللَّهُمَّ هَبْ لِي نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً إِلَيْكَ)).

وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى دَرَجَاتٍ، مِنْهَا:

الدَّرَجَةُ الْأُولَى: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، وَالضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ، وَالْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْخَائِفَ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَاشْتَدَّ بِهِ، وَأَرَادَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُرِيحَهُ وَيَحْمِلَ عَنْهُ؛ أَنْزَلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ، فَاسْتَرَاحَ قَلْبُهُ إِلَى الرَّجَاءِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ، وَسَكَنَ لَهِيبُ خَوْفِهِ.

وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ فَالْمُرَادُ بِهَا: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ الضَّجَرُ مِنْ قُوَّةِ التَّكَالِيفِ، وَأَعْبَاءِ الْأَمْرِ وَأَثْقَالِهِ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ أُقِيمَ مُقَامَ التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَا يَحْمِلُهُ وَيَتَحَمَّلُهُ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ وَيَتَحَمَّلُونَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ الضَّجَرُ، وَيَضْعُفَ صَبْرُهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيحَهُ وَيَحْمِلَ عَنْهُ؛ أَنْزَلَ عَلَيْهِ سَكِينَتَهُ، فَاطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الدِّينِيِّ، وَحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ بِدُونِ مُشَاهَدَةِ الْحُكْمَيْنِ.

وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُبْتَلَى إِذَا قَوِيَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِلْمَثُوبَةِ سَكَنَ قَلْبُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِمُشَاهَدَةِ الْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَشْتَدُّ بِهِ الْبَلَاءُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مُلَاحَظَةُ الثَّوَابِ.

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ فِي الشَّوْقِ إِلَى مَا وُعِدَتْ بِهِ؛ بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَاقٍ إِلَى مَحْبُوبٍ وُعِدَ بِحُصُولِهِ؛ إِذْ تَحْدُثُ الطُّمَأْنِينَةُ بِسُكُونِ نَفْسِهِ إِلَى وَعْدِ اللِّقَاءِ، وَالْعِلْمِ بِحُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ)).

((الطَّرِيقُ إِلَى السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ))

لَقَدْ جَاءَ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَظِيمُ لِنَفْعِ النَّاسِ، وَمَتَى مَا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِهِ عَاشُوا حَيَاةَ السُّعَدَاءِ, وَكَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ, وَلِنُزُولِ السَّكِينَةِ فِي الْقَلْبِ, وَحُلُولِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي النَّفْسِ أَسْبَابٌ يَنْبَغِي أَنْ تُحَصَّلَ، وَسُبُلٌ يَنْبَغِي أَنْ تُلْتَمَسَ، وَأَعْظَمُ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ: التَّوْحِيدُ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} أَيْ: يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ} بِظُلْمٍ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: الْأَمْنُ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ، وَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ مُطْلَقًا، لَا بِشِرْكٍ وَلَا بِمَعَاصٍ؛ حَصَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ التَّامُّ، وَالْهِدَايَةُ التَّامَّةُ.

وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ؛ حَصَلَ لَهُمْ أَصْلُ الْهِدَايَةِ وَأَصْلُ الْأَمْنِ؛ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ كَمَالُهَا.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْأَمْرَانِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ هِدَايَةٌ وَلَا أَمْنٌ، بَلْ حَظُّهُمُ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ)).

فَالتَّوْحِيدُ أَعْظَمُ سُبُلِ الْوُصُولِ إِلَى السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ؛ فَـ((لَا تَقَرُّ الْعَيْنُ، وَلَا يَهْدَأُ الْقَلْبُ، وَلَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إِلَّا بِإِلَهِهَا وَمَعْبُودِهَا الَّذِي هُوَ حَقٌّ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِاللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ.

وَاللَّهُ -تَعَالَى- إِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 97].

فَضَمِنَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَبِالْحُسْنَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَهُمْ أَطْيَبُ الْحَيَاتَيْنِ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدَّارَيْنِ.

وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النَّحْل: 30].

وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].

فَفَازَ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَصَلُوا عَلَى الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدَّارَيْنِ؛ فَإِنَّ طِيبَ النَّفْسِ، وَسُرُورَ الْقَلْبِ، وَفَرَحَهُ، وَلَذَّتَهُ، وَابْتِهَاجَهُ، وَطُمَأْنِينَتَهُ، وَانْشِرَاحَهُ، وَنُورَهُ، وَسَعَتَهُ، وَعَافِيَتَهُ مِنْ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ، هُوَ النَّعِيمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا نِسْبَةَ لِنَعِيمِ الْبَدَنِ إِلَيْهِ؛ فَقَدْ كَانَ يَقُولُ بَعْضُ مَنْ ذَاقَ هَذِهِ اللَّذَّةَ: ((لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ)).

وَقَالَ آخَرُ: ((إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ)).

وَقَالَ آخَرُ: ((إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً هِيَ كَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ دَخَلَهَا دَخَلَ تِلْكَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ)).

وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى هَذِهِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا)).

قَالُوا: ((وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟)).

قَالَ: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)). وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)).

مِنْ أَسْبَابِ رَاحَةِ النَّفْسِ وَطُمَأْنِينَتِهَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ.. لِلْإِيمَانِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالنَّتَائِجِ الطَّيِّبَةِ وَالْفَوَائِدِ الْمُبَارَكَةِ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، فَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَرَدُّهُ إِلَى الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْيَقِينِ الْحَقِّ.

الْإِيمَانُ الصَّادِقُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَبْعَثُ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الْقَلْبِ، وَالسَّكِينَةَ فِي الْقَلْبِ، وَالرِّضَا بِالْأَقْدَارِ، وَيَقِي صَاحِبَهُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَآفَاتِهَا، وَمِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.

وَبِالْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَحْدَهُ يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَشَدَائِدِهَا، وَمِحَنِهَا وَفِتَنِهَا.

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَالْإِيمَانُ الصَّادِقُ هُوَ الْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبِهِ وَحْدَهُ يَنَالُ الْعَبْدُ رِضْوَانَ اللهِ -تَعَالَى-، وَجَنَّةَ الْخُلْدِ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً، وَيُحَصِّلُ بِهِ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ السَّرْمَدِيَّةَ.

عَنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ۗ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} [مريم: 76].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.

وَعَنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وَعَنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11].

وَعَنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْحِسَابِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7].

وَبَعْدَ الْحِسَابِ ذَكَرَ اللهُ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].

{خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ الْوُصُولِ إِلَى السَّكِينَةِ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ؛ فَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ النَّفْسِيَّةِ: سُكُونُ الْقَلْبِ، وَطُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَرَاحَةُ الْبَالِ.

هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مَطْلَبٌ مُلِحٌّ، وَهَدَفٌ مَنْشُودٌ، وَغَايَةٌ مُبْتَغَاةٌ، فَكُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغِيهَا، وَيَبْحَثُ عَنْهَا، وَيَسْعَى لَهَا سَعْيَهَا؛ وَلَكِنْ كَمَا قِيلَ:

كُلُّ مَنْ فِي الْوُجُودِ يَطْلُبُ صَيْدًا          =       غَيْرَ أَنَّ الشِّبَاكَ مُخْتَلِفَاتُ

فَلَا يُدْرِكُ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَلَا يَجِدُ حَلَاوَتَهَا، وَلَا يَعْلَمُ ثَمَرَاتِهَا إِلَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَالْمُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ سَاكِنُ الْقَلْبِ، مُطْمَئِنُّ النَّفْسِ، مُرْتَاحُ الْبَالِ، لَا يُفَكِّرُ كَثِيرًا فِي احْتِمَالِ الشَّرِّ، ثُمَّ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَطِرْ لَهُ قَلْبُهُ شَعَاعًا، بَلْ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ بِثَبَاتٍ وَصَبْرٍ، إِنْ مَرِضَ لَمْ يُضَاعِفْ مَرَضَهُ بِوَهْمِهِ، وَإِنْ نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ قَابَلَهُ بِجَأْشٍ رَابِطٍ فَخَفَّفَ حِدَّتَهُ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ أَلَّا يَجْمَعَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَيْنَ الْأَلَمِ بِتَوَقُّعِ الشَّرِّ وَالْأَلَمِ بِحُصُولِ الشَّرِّ، بَلْ يَسْعَدُ مَا دَامَتْ أَسْبَابُ الْحُزْنِ بَعِيدَةً عَنْهُ، فَإِذَا حَدَثَتْ قَابَلَهَا بِشَجَاعَةٍ وَاعْتِدَالٍ.

وَإِنَّكَ لَتَجِدُ عِنْدَ خَوَاصِّ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْعُبَّادِ الْقَانِتِينَ الْمُتَّبِعِينَ مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالٍ، وَلَا يَدُورُ حَوْلَ مَا يُشْبِهُهُ خَيَالٌ؛ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ الْقِدْحُ الْمُعَلَّى وَالنَّصِيبُ الْأَوْفَى.

وَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ)).

وَهَذَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ)).

وَيَقُولُ مَقُولَتَهُ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَمَا زُجَّ بِهِ فِي غَيَاهِبِ السِّجْنِ: ((مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي؟! أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي، أَيْنَ رُحْتُ فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ)).

بَلْ إِنَّكَ وَاجِدٌ عِنْدَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ، وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَبَرْدِ الْيَقِينِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ كِبَارِ الْمُفَكِّرِينَ، وَالْكُتَّابِ وَالْأَطِبَّاءِ النَّفْسِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَمْ مِنَ الْأَطِبَّاءِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ- مَنْ يَعْجَبُ وَيَذْهَبُ بِهِ الْعَجَبُ كُلَّ مَذْهَبٍ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى عِلَاجِ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُصَابٌ بِدَاءٍ خَطِيرٍ، فَتَرَى هَذَا الطَّبِيبَ يَحْتَارُ فِي كَيْفِيَّةِ إِخْبَارِ الْمَرِيضِ بِعِلَّتِهِ، فَتَجِدُهُ يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَتَجِدُهُ يُمَهِّدُ الطَّرِيقَ، وَيَضَعُ الْمُقَدِّمَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِ الْمَرِيضِ بِسَمَاعِ هَذَا الْخَبَرِ، وَمَا إِنْ يُعْلِمُهُ هَذَا الطَّبِيبُ بِمَرَضِهِ وَيُصَارِحُهُ بِعِلَّتِهِ إِلَّا وَيُفَاجَأُ بِأَنَّ هَذَا الْمَرِيضَ يَسْتَقْبِلُ الْخَبَرَ بِنَفْسٍ رَاضِيَةٍ، وَصَدْرٍ رَحْبٍ، وَسَكِينَةٍ عَجِيبَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

الْإِيمَانُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يُورِثُ الْمُؤْمِنَ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ، وَرَاحَةَ الْبَالِ، وَيَقْضِي عَلَى الْقَلَقِ وَالْيَأْسِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْتَقِدُ بِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ -سُبْحَانَهُ-.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

فَالْعَبْدُ جَاهِلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِ بِنَفْسِهِ، لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا الَّتِي تُجْهَلُ عَاقِبَتُهَا؛ لِهَذَا شُرِعَتْ الِاسْتِخَارَةُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كُلِّهَا، وَشُرِعَ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي فِي اسْتِخَارَتِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ))، ثُمَّ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ -وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ تَحْصِيلِ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ: الصَّلَاةُ؛ فَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا، يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاسْتِحْضَارَ عَظَمَتِهِ وَمَعِيَّتِهِ سَبَبٌ لِتَحَقُّقِ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، فَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَحْيَا الْقُلُوبُ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: حَقِيقٌ بِهَا وَحَرِيٌّ أَلَّا تَطْمَئِنَّ لِشَيْءٍ سِوَى ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَلَذَّ لِلْقُلُوبِ وَلَا أَشْهَى وَلَا أَحْلَى مِنْ مَحَبَّةِ خَالِقِهَا، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهَا بِاللهِ وَمَحَبَّتِهَا لَهُ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَهُ، ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِنْ تَسْبِيحٍ، وَتَهْلِيلٍ، وَتَكْبِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللهِ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ اللهِ: أَنَّهَا حِينَ تَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ تَطْمَئِنُّ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ؛ فَبِذَلِكَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؛ فَإِنَّهَا لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ مَضْمُونٌ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَلَا تَطْمَئِنُّ بِهَا، بَلْ لَا تَزَالُ قَلِقَةً مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَضَادِّ الْأَحْكَامِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا)).

قَالُوا: ((وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟)).

قَالَ: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى, وَالبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)), وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ.

الذِّكْرُ يُرضِي الرَّحْمَنَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

ويُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ عَنِ الْقَلْبِ.

وَيَجْلِبُ لِلْقَلْبِ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالْبَسْطَ.

والذِّكرُ سَبَبٌ لِتَنَزُّلِ السَّكِينَةِ، وَغِشْيَانِ الرَّحْمَةِ، وَحُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ بِالذَّاكِرِ.

وَالصِّدْقُ مِنْ سُبُلِ تَحْصِيلِ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ، وَسُكُونِ الرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ قال ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ))؛ فَالْخَيْرُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَالشَّرُّ تَرْتَابُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ الصِّدْقِ أَنَّهُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ الرِّيبَةُ، فَلَا تَسْكُنُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْفِرُ الْقُلُوبُ مِنْهُ.

فَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ هَذِهِ الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْخُشُوعِ وَمَا أَشْبَهَ، وَكُلُّهَا يَنْبَغِي عَلَى السَّائِرِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْرِفَهَا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.

((مِنْ ثَمَرَاتِ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ لِلسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ثَمَرَاتٍ عَظِيمَةً دُنْيَا وَآخِرَةً؛ فَـ((السَّكِينَةُ تُثَبِّتُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَزِيدُهُمْ ثِقَةً وَإِيمَانًا، وَتُؤَدِّى إِلَى الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

السَّكِينَةُ تُثْمِرُ الْخُشُوعَ، وَتَجْلِبُ الطُّمَأْنِينَةَ، وَتُلْبِسُ صَاحِبَهَا ثَوْبَ الْوَقَارِ، وَتُسَكِّنُ الْخَائِفَ، وَتُسَلِّي الْحَزِينَ وَالضَّجِرَ.

وَالطُّمَأْنِينَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَى النُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ، وَدَلِيلُ فَلَاحِهِ.

وَالطُّمَأْنِينَةُ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَدَلِيلُ الْيَقِينِ وَالْوَقَارِ.

وَالطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ دَلِيلُ رِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبُشْرَى لِصَاحِبِهَا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ.

السَّكِينَةُ إِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ اطْمَأَنَّ بِهَا، وَسَكَنَتْ إِلَيْهَا الْجَوَارِحُ وَخَشَعَتْ، وَاكْتَسَبَتِ الْوَقَارَ، وَأَنْطَقَتِ اللِّسَانَ بِالصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَاللَّغْوِ وَالْهَجْرِ، وَكُلِّ بَاطِلٍ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَشْرَحَ صُدُورَنَا لِلْهُدَى، وَأَنْ يَجْعَلَ قُلُوبَنَا مُطْمَئِنَّةً بِذِكْرِهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَاذَا بَعْدَ الْحَجِّ؟
  عقيدة أهل الإسلام في حقوق الحكام
  حُسْنُ الْخَاتِمَةِ
  موقف المسلم من العلم المادي
  الرد على الملحدين:الفرق بين التصور والتعقل، وبيان أقسام المعلوم
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ
  خوارج العصر والتكفير
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ التَّاسِعُ: دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان