مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ

مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ

((مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:


((اسْتِخْلَافُ اللهِ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ وَتَكْرِيمُهُ))

فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُو آدَمُ وَبَنُو آدَمَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.

وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، فِيهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيز: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ، وَالنُّطْقِ، وَالتَّمْيِيزِ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَبِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الَّتِي هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صُنْعِهَا، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزَقْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَمُمْتِعَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.

((أَمَانَةُ الْإِنْسَانِ الثَّقِيلَةُ وَسُبُلُ الْوَفَاءِ بِهَا))

لَقَدْ تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ أَمَانَةً ثَقِيلَةً، ((عُرِضَتْ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ؛ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عَرْضَ تَخْيِيرٍ لَا تَحْتِيمٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا؛ خَوْفًا أَلَّا يَقُمْنَ بِمَا حُمِّلْنَ، لَا عِصْيَانًا لِرَبِّهِنَّ، وَلَا زُهْدًا فِي ثَوَابِهِ))، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ الَّتِي ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفِينَ؛ بِأَنْ يَعْبُرُوا رِحْلَةَ امْتِحَانِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ، وَقُدُرَاتِ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ، عَلَى أَنْ تُسَخَّرَ لَهُمْ -بِخَلْقِ اللهِ- الْأَشْيَاءُ وَالْقُوَى فِي ذَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِمْ؛ لِيُمْتَحَنُوا فِي ظُرُوفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَةِ.

فَمَنْ كَفَرَ بِاللهِ؛ كَانَ مَصِيرُهُ إِلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ آمَنَ وَكَسَبَ فِي إِيمَانِهِ خَيْرًا؛ كَانَ مَصِيرُهُ إِلَى الْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

عَرَضْنَا تِلْكَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ -وَكَانَ الْعَرْضُ عَلَيْهِنَّ تَخْيِيرًا لَا إِلْزَامًا-، فَأَبَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ -رَغْمَ كِبَرِهَا وَضَخَامَتِهَا- مِنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ؛ بَلْ خِفْنَ مِنْ حَمْلِهَا بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُنَّ اللهُ الْقُدْرَةَ عَلَى إِدْرَاكِهَا؛ إِذْ لَا تَمْلِكُ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا حَتَّى تُخْتَبَرَ أَمَانَتُهَا وَخِيَانَتُهَا.

وَحَمَلَ الْإِنْسَانُ الْأَمَانَةَ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الِاسْتِعْدَادَ الْفِطْرِيَّ الْكَامِلَ لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ بِمَا مَنَحَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ مِنْ خَصَائِصِ التَّفْكِيرِ وَالْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ، وَالْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ مِمَّا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ أَوْ بِفِعْلِ الشَّرِّ.

وَإِذْ وَضَعَ اللهُ هَذِهِ الْخَصَائِصَ أَمَانَةً تَحْتَ يَدِهِ؛ وَضَعَ لَهُ مِنْهَاجًا يَسِيرُ عَلَيْهِ.

فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ مَا اسْتَوْدَعَ اللهُ إِرَادَتَهُ مِنْ قُوًى وَطَاعَاتٍ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَفِيمَا أَذِنَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ أَنَّهُ صَاحِبُ أَمَانَةٍ، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا لَا يُرْضِي اللهَ، أَوْ فِيمَا فِيهِ ظُلْمٌ أَوْ عُدْوَانٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ؛ فَهُوَ خَائِنٌ فِيمَا اسْتَأْمَنَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ.

إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ؛ لِكَثْرَةِ خِيَانَتِهِ لِلْأَمَانَةِ، وَعُدْوَانِهِ عَلَى حُقُوقِهَا؛ اسْتِجَابَةً لِأَهْوَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَوَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ، لَمْ يَتَبَصَّرْ بِعَوَاقِبِ ظُلْمِهِ، وَلَمْ يَحْسِبْ حِسَابًا لِمَسْؤُولِيَّتِهِ، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابَ رَبِّهِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي وَصْفِ مُعْظَمِ النَّاسِ.

فَالْأَمَانَةُ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ هِيَ أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ، ((وَقَدْ عَظَّمَ تَعَالَى- شَأْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ الَّتِي ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفِينَ، الَّتِي هِيَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ فِي حَالِ السِّرِّ وَالْخُفْيَةِ كَحَالِ الْعَلَانِيَةِ))، وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ تَقْتَضِي تَوْحِيدَ اللهِ، وَعِبَادَتَهُ، وَالْعَمَلَ وَالسَّعْيَ لِإِعْمَارِ الْأَرْضِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِلْعِبَادَةِ؛ فَحُقَّ عَلَيْهِمْ الِاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَجَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ: قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

فَالْمُسْلِمُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُومُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ عَمَلٍ فَهُوَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ أَوْ سَيِّئَاتِهِ، يَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].

وَهَذَا شَامِلٌ عَامٌّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى مِثْقَالَ الذَّرَّةِ الَّتِي هِيَ أَحْقَرُ الْأَشْيَاءِ، وَجُوزِيَ عَلَيْهَا؛ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}.

وَهَذَا فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَوْ قَلِيلًا، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ فِعْلِ الشَّرِّ وَلَوْ حَقِيرًا.

((مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْإِسْلَامِ))

الْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ الْإِحْسَانُ، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ.

وَالْحَسَنَاتُ: هِيَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوِ اسْتِحْبَابٍ.

فَمَا كَانَ مِنَ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ، فَلَا تَكُونُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ -كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ-؛ لَيْسَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وَقَوْلُهُ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ} [البقرة: 112]؛ فَهُوَ إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا».

وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}: قَالَ: «أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ».

قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ! مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟!!

قَالَ: «إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا؛ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا؛ لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ».

إِذَنْ؛ الْعَمَلُ الصَّالِحُ: هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْإِخْلَاصَ للهِ، وَالْمُتَابَعَةَ لِلرَّسُولِ ﷺ.

وَهُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِاعْتِقَادِ مَا يَجِبُ للهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَتَصْدِيقِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ فِي كُلِّ خَبَرٍ أَخْبَرَا بِهِ عَمَّا مَضَى، وَعَمَّا يُسْتَقْبَلُ عَنِ الرُّسُلِ، وَالْكُتُبِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ يَسْعَى فِي أَدَاءِ مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ مِنْ حُقُوقِ اللهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، وَيُكَمِّلُ ذَلِكَ بِالنَّوَافِلِ وَالتَّطَوُّعَاتِ؛ خُصُوصًا الْمُؤَكَّدَةِ فِي أَوْقَاتِهَا، مُسْتَعِينًا بِاللهِ عَلَى فِعْلِهَا، وَعَلَى تَحْقِيقِهَا وَتَكْمِيلِهَا، وَفِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ غَرَضٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ وَخُصُوصًا الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهَا، فَيَتَقَرَّبُ إِلَى رَبِّهِ بِتَرْكِهَا للهِ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ.

فَمَتَى وُفِّقَ الْعَبْدُ لِسُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتَعَانَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ؛ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَكَانَ كَمَالُهُ بِحَسَبِ مَا قَامَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَنَقْصُهُ بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْهَا.

((جُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْإِسْلَامِ وَاسِعٌ، فَيَشْمَلُ الْحَيَاةَ كُلَّهَا، قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ، والصِّيَامُ، وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ، لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ».

كُلُّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْبِرِّ، وَالْبِرَّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ:

* أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْانِي الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ؛ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ؛ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ؛ كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ.

((أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))

إِنَّ أَعْظَمَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَأَعْلَاهَا عِنْدَ اللهِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْفَرْضُ الْأَعْظَمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَبِيدِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمُتَنَوِّعَةِ مِثْلَ مَا لِلتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَفَضَائِلِهِ.

فَمَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ -عِبَادَ اللهِ-؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الشِّرْكِ مُوجِبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَرْجُو ذَلِكَ وَيَطْمَعُ فِيهِ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَقِّقَ التَّوْحِيدَ فِي حَيَاتِنَا.

وَحَقَّقَ التَّوْحِيدَ: أَيْ: هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ، وَخَلَّصَهُ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي؛ فَخَلَّصَ تَوْحِيدَهُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَيُضَادُّهُ، وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ الَّذِي يُنَافِي كَمَالَهُ، وَمِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُكَدِّرُ التَّوْحِيدَ فَتُنْقِصُهُ وَتُضْعِفُهُ.

تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ: تَخْلِيصُهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَقِّقَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19].

الثَّانِي: الِاعْتِقَادُ؛ فَإِذَا عَلِمْتَ، وَلَمْ تَعْتَقِدْ، وَاسْتَكْبَرْتَ؛ لَمْ تُحَقِّقِ التَّوْحِيدَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ: ﴿أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5].

الثَّالِثُ: الِانْقِيَادُ؛ فَإِذَا عَلِمْتَ، وَاعْتَقَدْتَ، وَلَمْ تَنْقَدْ؛ لَمْ تُحَقِّقِ التَّوْحِيدَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: 35-36].

فَإِذَا حَصَلَ هَذَا وَحَقَّقَ التَّوْحِيدَ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مَضْمُونَةٌ لَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حُكْمٍ ثَابِتٍ شَرْعًا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَمِنْ أَجَلِّ فَوَائِدِ التَّوْحِيدِ: أَنَّهُ يَمْنَعُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ إِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَإِذَا كَمُلَ فِي الْقَلْبِ؛ مَنَعَ دُخُولَ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرُهَا إِلَّا مِنْ بَعْضِ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ وَآثَارِهِ.

وَالتَّوْحِيدُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ لِتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعِ عُقُوبَتِهِمَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِنَيْلِ رِضَا اللَّهِ وَثَوَابِهِ.

وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ.

وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مُتَوَقِّفَةٌ فِي قَبُولِهَا، وَفِي كَمَالِهَا، وَفِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا عَلَى التَّوْحِيدِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ؛ كَمُلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَتَمَّتْ.

وَالتَّوْحِيدُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَالْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ تَخِفُّ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ؛ لِمَا يَرْجُو مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي؛ لِمَا يَخْشَى مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ.

وَمَتَى كَمُلَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَلْبِ؛ حَبَّبَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ، فَالتَّوْحِيدُ يُخَفِّفُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَكَارِهَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ، وَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ الْعَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ؛ يَكُونُ تَلَقِّيهِ لِلْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.

وَالتَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ، وَخَوْفِهِمْ، وَرَجَائِهِمْ، وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي.

وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ، وَحُصُولِ الْهِدَايَةِ، وَالتَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى، وَإِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّسْدِيدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَدْفَعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الْإِيمَانِ.. يَدْفَعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِذِكْرِهِ، وَالشِّرْكُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

((مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ))

إِنَّ مِمَّا يَشْمَلُهُ مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ: مَا فَرَضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَحَجٍّ، وَذِكْرٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ! ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فِي صَلَاتِكُمْ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاكْسَبُوا بِإِرَادَاتِكُمْ كُلَّ عَمَلٍ قَلْبِيٍّ أَوْ جَسَدِيٍّ يُحَقِّقُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا بَاقِيًا، وَسَعَادَةً خَالِدَةً، وَثَوَابًا حَسَنًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ شَاقًّا أَوْ مُضْنِيًا أَوْ مُؤْلِمًا؛ رَغْبَةً مِنَّا فِي أَنْ تَسْعَدُوا وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ل عمران: 97].

وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ؛ فَحُجُّوا)).

وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: أَدَاءُ النَّوَافِلِ؛ فَمِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ -وَهَذَا فِي تَحْصِيلِ الْمَحْبُوبِ-، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ -وَهَذَا فِي الْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ-)).

فَجَعَلَ لَهُ الْخَيْرَ بِحَذَافِيرِهِ لَمَّا أَتَى بِمُوجِبِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَازِمِهَا.

وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاضَلُ فِي جِنْسِهَا، فَلَيْسَتِ الْفَرَائِضُ كَالنَّوَافِلِ، فَجِنْسُ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ جِنْسِ النَّوَافِلِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ بِالنَّوْعِ؛ فَالصَّلَاةُ مِنَ الْفَرَائِضِ هِيَ أَفْضَلُ مَا افْتَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي نَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهِيَ -أَيْضًا- تَتَفَاضَلُ نَوْعًا كَمَا تَفَاضَلَتْ جِنْسًا.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ بِأَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِنْسَانُ مَا فَرَضَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ، يَأْتِي بِهَا مُقِيمًا إِيَّاهَا كَمَا جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ أَيْ: نِصْفُهُ-، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).

((مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

ذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

إِنَّ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ اللهِ: ذِكْرَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَذِكْرُ اللهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ قَدْرُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَكَرَ ذَلِكَ -جَلَّ وَعَلَا- نَصًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَالْمَقْصِدُ: أَنْ يُذْكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُعْبَدَ فَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ.

 ((يَأْمُرُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ ذِكْرًا كَثِيرًا؛ مِنْ تَهْلِيلٍ، وَتَحْمِيدٍ، وَتَسْبِيحٍ، وَمِنْ كُلِّ قَوْلٍ فِيهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْإِنْسَانُ أَوْرَادَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَأَوْرَادَ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعِنْدَ الْعَوَارِضِ وَالْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ يَسْبِقُ بِهَا الْعَامِلُ وَهُوَ مُسْتَرِيحٌ، وَكَفُّ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41-43].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 5]؛ فَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَأَجْرُهُ فَوْقَ كُلِّ أَجْرٍ، وَهُوَ لَيْسَ كَبِيرًا فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ عِدَّةَ مَعَانٍ هِيَ جَدِيرَةٌ بِالِاهْتِمَامِ تُوَضِّحُ كَوْنَ الذِّكْرِ أَكْبَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ:

* أَنَّ ذِكْرَ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ.

* أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ، فَكَانَ ذِكْرُهُ لَكُمْ أَكْبَرَ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ، {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}.

* أَنَّ ذِكْرَ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ فَاحِشَةٌ وَمُنْكَرٌ؛ بَلْ إِذَا تَمَّ الذِّكْرُ مَحَقَ كُلَّ خَطِيْئَةٍ وَمَعْصِيَةٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟))‏.‏

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُفَرِّدُونَ، هُمُ الذَّاكِرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ؛  فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)).

قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)).

وَرَوَى البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ كُنُوزِ الْأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ وَفَضَائِلِهَا وَهِيَ مِنْ أَسْمَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَعْظَمِهَا فَضْلًا وَأَجْرًا، فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ».

وَقَالَ: «مَنْ قَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ) فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ؛ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».

وَفِيهِمَا أَيْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ».

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ.. أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟».

فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟

قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَتُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ تُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟».

قَالَتْ: نَعَمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ».

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى -أَوْ حَصًى- تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا، أَوْ أَفْضَلُ؟».

فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ». خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ».

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ؟

قَالَ: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي؛ فَمَا لِي؟

قَالَ: «قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي».

فَلَمَّا وَلَّى الْأَعْرَابِيُّ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ».

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟»

فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!

قَالَ: «قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ:

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ))

مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَنْ يُصَلُّوا عَليْهِ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ -تَعَالَى- وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ ﷺ؛ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

مَعْنَى الصَّلَاةِ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ: الثَّنَاءُ عَلَى الرَّسُولِ، وَالْعِنَايَةُ بِهِ، وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَحُرْمَتِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ.

وَأَمَّا مَعْنَى التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْمَجْدُ الْفَيْرُوز آبَادِيُّ فِي كِتَابِهِ «الصِّلَاتُ وَالْبُشَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ»: «وَمَعْنَاهُ: السَّلَامُ الَّذِي هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَتَأْوِيلُهُ: لَا خَلَوْتَ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، وَسَلِمْتَ مِنَ الْمَكَارِهِ والآفَاتِ؛ إِذْ كَانَ اسْمُ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى الْأُمُورِ تَوَقُّعًا لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ فِيهَا، وَانْتِفَاءِ عَوَارِضِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ عَنْهَا.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ «السَّلَامُ»: بِمَعْنَى السَّلَامَةِ؛ أَيْ: لِيَكُنْ قَضَاءُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ السَّلَامَةَ، كَمَا سَلِمْتَ مِنَ الْمَلَامِ وَالنَّقَائِصِ، فَإِذَا قُلْتَ: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ» فَإِنَّمَا تُرِيدُ مِنْهُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِمُحَمَّدٍ فِي دَعْوَتِهِ وَأُمَّتِهِ وَذِكْرِهِ السَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، فَتَزْدَادُ دَعْوَتُهُ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ عُلُوًّا، وَأُمَّتُهُ تَكَاثُرًا، وَذِكرُهُ ارْتِفَاعًا».

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَحْزَابِ: «السَّلَامُ عَلَيْهِ ﷺ يَعْنِي: تَحِيَّتَهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».

وَلَفْظُ السَّلَامِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ:

* أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ؛ أَيْ: نَزَلَتْ بَرَكَةُ اسْمِ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَحَلَّتْ بِكُمْ.

* وَالْمَعْنَى الثَّانِي: طَلَبُ السَّلَامَةِ، وَالسَّلَامَةُ تَشْمَلُ السَّلَامَةَ مِنَ الْآفَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي السَّلَامَةِ أَيْضًا الْأَمْنُ مِنْ فَزَعِ الْيَوْمِ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْفَزَعَ مِنَ الْآفَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ.

وَأَمَّا فَضَائِلُ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَمِنْهَا:

* أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- صَلَاةٌ بِصَلَوَاتٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي «عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ يُصَلِّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً، فَلْيُقِلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ». أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ.

* وَمِنْ فَضَائِلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهَا رَفْعٌ لِلدَّرَجَاتِ، وَحَطٌّ لِلسَّيِّئَاتِ؛ فَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرَى فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَصْبَحْتَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، يُرَى فِي وَجْهِكَ الْبِشْرُ.

قَالَ: «أَجَلْ، أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ صَلَاةً؛ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا». أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

* وَمِنْ فَضَائِلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهَا كِفَايَةٌ لِلْهُمُومِ، وَمَغْفِرَةٌ لِلذُّنُوبِ:

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ؛ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ».

قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ؛ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي -أَيْ: مِنْ دُعَائِي، أَيْ: كَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْكَ-؟

فَقَالَ: «مَا شِئْتَ».

قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قُلْتُ: النِّصْفَ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟

قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قَالَ: قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا أَيْ: دُعَائِي كُلَّهُ لِنَفْسِي وَأَهْلِي وَوُلْدِي وَمَالِي-؟

قَالَ: «إِذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرَ لَكَ ذَنْبُكَ». أَخَرْجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ الْعَبْدِ وَحَيَاةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا أَكْثَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ ﷺ وَذَكَرَهُ؛ اسْتَوْلَتْ مَحَبَّتُهُ عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُعَارَضَةٌ لِشَيءٍ مِنْ أَوَامِرِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ شَكٌّ فِي شَيءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ، بَلْ يَصِيرُ مَا جَاءَ بِهِ مَكْتُوبًا مَسْطُورًا فِي قَلْبِهِ، لَا يَزَالُ يَقْرَؤُهُ عَلَى تَعَاقُبِ أَحْوَالِهِ، وَيَقْتَبِسُ الْهُدَى وَالْفَلَاحَ وَأَنْوَاعَ الْعُلُومِ مِنْهُ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ فِي ذَلِكَ بَصِيرَةً وَقُوَّةَ مَعْرِفَةٍ؛ ازْدَادَتْ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ ﷺ.

((مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

الصِّدْقُ وَطِيبُ الْقَوْلِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ))

مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْلِمُ: الصِّدْقُ، وَطِيبُ الْقَوْلِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21].

إِنَّهُ لَا يَقُومُ دِينٌ وَلَا تَسْتَقِيمُ دُنْيَا إِلَّا بِالصِّدْقِ..

فِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ))؛ كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ.. هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ.

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ».

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: مَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا, وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّأً.

فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ، يُوَضِّحُ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ، وَأَكْرَمَ النَّاسِ فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وَصَفَّاهَا, وَرَقَّقَ الْقَلْبَ وَأَعْلَاهُ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً, وَأَمَّا مَنْ دَسَّاهَا فَقَدْ خَابَ، كَمَا قَرَّرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].

وَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِعِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا دَوَامًا الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ: السَّلَامُ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

فَقَالَ: ((تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ, وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَهَذِهِ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي فَضْلِ هَذَا الْأَدَبِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شِعَارًا لِهَذَا الدِّينِ الْكَرِيمِ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ، وَالتَّوَادُّ، وَالتَّرَاحُمُ، وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

((مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعَظِيمَةِ:

الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ))

إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَنْحَصِرُ فِي جَانِبٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ كُلُّ مَا يُحَقِّقُ الْقِيَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ، وَيُسْهِمُ فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ مُتَرَابِطٍ، زَكِيِّ النَّفْسِ، تَسُودُهُ الْأُلْفَةُ وَالتَّعَاوُنُ، وَتَعْلُوهُ قِيَمُ التَّسَامُحِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ؛ فَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ عَمَلَ الْإِنْسَانِ وَسَعْيَهُ لِإِطْعَامِ أَهْلِهِ عَمَلًا صَالِحًا يُثَابُ عَلَيْهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ؛ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ، وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كُلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ، تَحْتَسِبُهُ؛ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَنْ حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيث: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ؛ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ؛ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ -ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى- لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا؛ حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ؛ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَلَبِ الرِّزْقِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكَ أَنْفَعَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِحَالِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَيَقْصِدُ بِكَسْبِهِ وَسَعْيِهِ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ نَفْسِهِ، وَوَاجِبِ مَنْ يَعُولُهُ وَمَنْ يَقُومُ بِمُؤْنَتِهِ، وَيَنْوِي الْكَفَافَ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِطَلَبِهِ عَنِ الْخَلْقِ.

وَالْمُوَفَّقُ تَتَحَوَّلُ عَادَاتُهُ وَمُبَاحَاتُهُ إِلَى عِبَادَاتٍ بِنِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ، فَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ يَتَحَوَّلُ إِلَى عِبَادَةٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَكَذَلِكَ يَنْوِي بِسَعْيِهِ وَكَسْبِهِ تَحْصِيلَ مَا تَقُومُ بِهِ الْعُبُودِيَّاتُ الْمَالِيَّةُ؛ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالنَّفَقَاتِ الْخَيْرِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَالِ، وَيَقْصِدُ الْمَكَاسِبَ الطَّيِّبَةَ، مُتَجَنِّبًا لِلْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ الْمُحَرَّمَةِ.

فَمَتَى كَانَ طَلَبُ الْعَبْدِ وَسَعْيُهُ فِي الدُّنْيَا لِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْجَلِيلَةِ، وَسَلَكَ أَنْفَعَ طَرِيقٍ يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِحَالِهِ؛ كَانَتْ حَرَكَاتُهُ وَسَعْيُهُ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِهَا.

وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ: أَلَّا يَتَّكِلَ الْعَبْدُ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَذَكَائِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَحِذْقِهِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ وَإِدَارَتِهَا، بَلْ يَسْتَعِينُ بِرَبِّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، رَاجِيًا مِنْهُ أَنْ يُيَسِّرَهُ لِأَيْسَرِ الْأُمُورِ وَأَنْجَحِهَا، وَأَقْرَبِهَا تَحْصِيلًا لِمُرَادِهِ، وَيَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي رِزْقِهِ؛ فَأَوَّلُ بَرَكَةِ الرِّزْقِ: أَنْ يَكُونَ مُؤَسَّسًا عَلَى التَّقْوَى وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ.

وَمِنْ بَرَكَةِ الرِّزْقِ: أَنْ يُوَفَّقَ الْعَبْدُ لِوَضْعِهِ فِي مَوَاضِعِهِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

وَمِنْ بَرَكَةِ الرِّزْقِ: أَلَّا يَنْسَى الْعَبْدُ الْفَضْلَ فِي الْمُعَامَلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. بِالتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُوسِرِينَ، وَإِنْظَارِ الْمُعْسِرِينَ، وَالْمُحَابَاةِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، هَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَبِذَلِكَ يَنَالُ الْعَبْدُ خَيْرًا كَثِيرًا.

فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْمَكَاسِبِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ؟

قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الزِّرَاعَةَ وَالْحِرَاثَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْقِيَامَ بِالصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ وَنَحْوِهَا.

وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَدْلَى بِحُجَّتِهِ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْفَاصِلُ لِلنِّزَاعِ، وَهُوَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)).

وَالنَّافِعُ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ الْحِرَاثَةُ وَالزِّرَاعَةُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْقِيَامُ بِالصِّنَاعَةِ الَّتِي يُحْسِنُهَا أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ، فَالْأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ الْأَنْفَعُ.

فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنَوَافِعَهَا.

وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ؛ فَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ ﷺ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ.

قَالَ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟!

قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: سَأَلَهَا رَجُلٌ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟!!

قَالَتْ: ((نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ)).

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ؛ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)).

((يَفْلِي ثَوْبَهُ))؛ أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلَقَ بِهِ؛ مِنْ شَوْكٍ، أَوْ قَذًى.

((قِيلَ لَهَا:)) وَالْقَائِلُ لَهَا لَمْ يُعَيَّنْ.

((مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟)) قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ))، وَمَهَّدَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي: ((يَفْلِي ثَوْبَهُ)) يَعْنِي: يُفَتِّشُهُ؛ لِيَلْتَقِطَ مَا فِيهِ مِمَّا عَلَقَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ شَوْكٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ لِيُرَقِّعَ مَا فِيهِ مِنْ نَحْوِ خِرْقٍ.

((وَيَحْلُبُ شَاتَهُ)) (بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا) (وَيَحْلِبُ شَاتَهُ).

((يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((يَعْمَلُ عَمَلَ الْبَيْتِ))، وَأَكْثَرُ مَا يَعْمَلُ: الْخِيَاطَةُ، يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ.

فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ خِدْمَةُ نَفْسِهِ، وَخِدْمَةُ أَهْلِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَدَمِ تَرَفُّعِهِ وَتَكَبُّرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ.

((مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْغَيْرِ مَادِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا))

مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعَظِيمَةِ: مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانُ بِهِ غَيْرَهُ؛ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، مَادِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ؛ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ، يَعْنِي: فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ مِنْ ثِيَابٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ شَرَابٍ، أَوْ مَرْكُوبٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ.

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ لَمَّا كَانَ قَافِلًا عَائِدًا مِنْ حُنَيْنٍ بَعْدَ أَنْ نَفَّلَهُ اللهُ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَةَ، وَسَاقَ إِلَيْهِ النِّعَمَ الْوَفِيرَةَ، وَآتَاهُ اللهُ أَمْوَالَ الْقَوْمِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.. لَمَّا أَنْ عَادَ؛ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ صوْبٍ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ يَعُودُ الْقَهْقَرَى؛ حَتَّى خَطِفَتْ سَمُرَةٌ هُنَالِكَ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ -وَالسَّمُرَةُ: شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ-، أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُمْ يَزْحَفُونَ عَلَيْهِ- يَتَقَهْقَرُ؛ حَتَّى كَانَ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِشَوْكِهَا، فَخَطِفَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَاللهِ لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ -وَهُو شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ يَكُونُ فِي الْبَوَادِي- أَنْعَامًا وَنَعَمًا؛ لَفَرَّقْتُهَا فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، وَمَا وَجَدْتُمُونِي جَبَانًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا بَخِيلًا» ﷺ.

 ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)).

إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ -وَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ- كَثِيرَةٌ كَثِيرَةٌ، وَالْفَضَائِلُ لِمَنْ قَامَ بِهَا وَافِرَةٌ غَزِيرَةٌ.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)).

وَقَالَ: ((إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) يَعْنِي: إِتْيَانَ زَوْجَتِهِ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟!

قَالَ ﷺ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ؛ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)). وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

الْبِنَاءُ وَالتَّعْمِيرُ))

إِنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الْمُسَاهَمَةَ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّعْمِيرِ وَتَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ؛ فَالْإِسْلَامُ حَثَّ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يُسْهِمُ فِي بِنَاءِ أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ وَمُجْتَمَعٍ رَاقٍ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا؛ فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ.. أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقَ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ.. تَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.

وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. يَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنِ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايِشَكُمْ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ، وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ؛ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].

أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَحَقِيقَةِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ أَيْضًا الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مِنْ أُصُولِ الْعَدْلِ وَفُرُوعِهِ؛ وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ إِذَا عَمِلُوا بِهَا فِي عَقَائِدِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ، وَسُلُوكِهِمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ.

فَمَتَى عَمِلُوا بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ؛ صَلَحَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأُمُورُ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ.

وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَخَصَّ مَنَافِعَهُ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَمَّمَهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَالْحَدِيدُ أَنْزَلَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.

فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللهُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ؛ الْأَمْرُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّمَ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَصِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَتَوَابِعِهَا، وَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5].

وَالْأَمْوَالُ الرَّاعِيَةُ -مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ- خَلَقَهَا لِمَصَالِحِكُمْ وَحَاجَاتِكُمْ، لَكُمْ فِيهَا -أَيُّهَا النَّاسُ- مَا تَسْتَدْفِئُونَ بِهِ مِنَ الْأَلْبِسَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ.

وَلَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ مَنَافِعُ أُخْرَى فِي النَّسْلِ وَدَرِّ اللَّبَنِ، وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَمِنْ لُحُومِهَا وَشُحُومِهَا وَدُهْنِهَا، وَمِنْ مُشْتَقَّاتِ أَلْبَانِهَا تَأْكُلُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 81].

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ؛ كَالْأَسْرَابِ، وَالْمَغَارَاتِ، وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْكَتَّانِ، وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.

((مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

الرِّفْقُ بِالْحَيَوَانَاتِ))

إِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى؛ لِيَشْمَلَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ.

إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تُحْرَقَ قَرْيَةُ النَّمْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ((لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللهِ إِلَّا اللهُ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا-، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فَسَقَتِ الْكَلْبَ- إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

دِينٌ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَنْ رَحِمَتْ كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ قَالَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ)). أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ فِي حَوْضِي، حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لإِبِلِي؛ وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ؛ فَهَلْ لِي في ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

سَقْيُ الْمَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلْكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلْكَلْبِ الضَّالِّ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ!!

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ؛ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ-، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟

قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)).

((فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)). فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))؛ فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيءُ إِلَيْهِ النَّاسُ, ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ؛ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ!! بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا.

((مَفْهُومُ الْعَمَلِ السَّيِّءِ وَجُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِهِ))

إِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّءَ يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ يُغْضِبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَخْرُجُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ دَائِرَةِ الْإِصْلَاحِ إِلَى الْإِفْسَادِ، وَالسَّيِّءُ مِنَ السُّوءِ، فِي ((الْمَوْسُوعَةِ)): السُّوءُ: مِنْ سَاءَهُ سَوْءًا وَمَسَاءَةً وَمَسَائِيَةً، نَقِيضُ سَرَّهُ.

قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: «فَأَمَّا (السِّينُ وَالْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ)؛ فَهِيَ مِنْ بَابِ الْقُبْحِ، تَقُولُ: رَجُلٌ أَسْوَأُ؛ أَيْ: قَبِيحٌ، وَامْرَأَةٌ سَوْآءُ؛ أَيْ: قَبِيحَةٌ، قِيلَ: سَوْآءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ السَّيِّئَةُ سَيِّئَةً)).

وَقَوْلُهُمْ: سَاءَهُ يَسُوءُهُ؛ أَيْ: فَعَلَ بِهِ مَا يَكْرَهُ، وَأَسَاءَ إِلَيْهِ، نَقِيضُ أَحْسَنَ.

وَالسُّوأَىٰ: نَقِيضُ الْحُسْنَى، وَفِي الْقُرْآنِ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ} [الروم: 10].

وَالسَّوْأَةُ: الْعَوْرَةُ، وَالْفَاحِشَةُ، وَسُؤْتُ الرَّجُلَ سَوَايَةً وَمَسَايَةً -مُخَفَّفَانِ-؛ أَيْ: سَاءَهُ مَا رَآهُ مِنِّي، وَتَقُولُ: اسْتَاءَ الرَّجُلُ، كَمَا تَقُولُ مِنَ الْغَمِّ: اغْتَمَّ الرَّجُلُ.

وَيُقَالُ: سَاءَ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؛ أَيْ: قَبُحَ صَنِيعُهُ صَنِيعًا، وَسُؤْتُ لَهُ وَجْهَهُ: قَبَّحْتُهُ، وَيُقالُ: أَسَأْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَلَهُ، قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

وَيُقالُ: هُوَ سَيِّءٌ إِذَا قَبُحَ، وَالْأُنْثَى سَوْآءُ؛ أَيْ: قَبِيحَةٌ، وَالسَّوْآءُ: الْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ، وَالسَّوْأَةُ السَّوْآءُ: الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ قَبِيحَةٍ وَفَعْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ سَوْآءُ.

وَأَسَاءَ الرَّجُلُ إِسَاءَةً: خِلَافُ أَحْسَنَ، وَأَسَاءَ الشَّيْءَ: أَفْسَدَهُ وَلَمْ يُحْسِنْ عَمَلَهُ، وَفِي الْمَثَلِ: ((أَسَاءَ كَارِهٌ مَا عَمِلَ))، وَالسَّيِّئةُ: الْخَطِيئَةُ.

مِنَ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ لِسَيِّءِ الْأَعْمَالِ: قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُلْتَزِمِينَ بِجَاهِلِيَّاتِهِمْ فِي أَحْكَامٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ: مَا حَرَّمَ رَبِّي إِلَّا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْخَمْسَ فِي كُلِّ الرِّسَالَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ:

الْمُحَرَّمُ الْأَوَّلُ: كَبَائِرُ الْمَعَاصِي؛ مِنْ شَهَوَاتِ الْفُرُوجِ الْمُعْلَنَةِ فِي بُيُوتِ الزِّنَى وَالطُّرُقَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالَّتِي تَكُونُ فِي السِّرِّ مَعَ الْخَلِيلَاتِ وَالصَّدِيقَاتِ وَالْأَخْدَانِ وَنَحْوِهِنَّ.

الثَّانِي: حَرَّمَ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا؛ كَبَائِرَهَا وَصَغَائِرَهَا وَمَا بَيْنَهُمَا.

الثَّالِثُ: وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَالْعُدْوَانَ عَلَى حُقُوقِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَفْرَادِ، وَالِاسْتِطَالَةَ عَلَى النَّاسِ، وَمُجَاوَزَةَ الْحَدِّ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

الرَّابِعُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: حَرَّمَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ حُجَّةً وَبُرْهَانًا.

وَالْخَامِسُ: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْتَرُوا الْكَذِبَ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَقَوَّلُونَهُ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ؛ كَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ النِّسَاءَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ ظَاهِرًا، وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا بَطَنَ مِنَ الْفَوَاحِشِ -أَيْضًا-؛ مِنَ النِّفَاقِ، وَمِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ وَالضَّغِينَةِ، وَمِنَ الْعُجْبِ، وَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَحْمَدَةِ وَالسُّمْعَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟

قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

النَّبِيُّ ﷺ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا؛ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.

((أَقْبَحُ الْعَمَلِ السَّيِّءِ:

الشِّرْكُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

الشِّرْكُ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، وَأَقْبَحُ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟

قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ..)). الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا أَقْسَامُهُ؛ فَالشِّرْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِرْكًا أَصْغَرَ.

الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: هُوَ تَسْوِيَةُ غَيْرِ اللهِ بِاللهِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ اللهِ؛ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ.

وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: فَهُوَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ شِرْكٌ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ؛ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَوْ لَا اللهُ وَفُلَانٌ.

عِبَادَ اللهِ! مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالشِّرْكِ الْأَصْغَرِ:

- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.

وَالْأَصْغَرُ: لَا يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.

- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.

وَالْأَصْغَرُ: لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.

- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُحْبِطُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ.

وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي قَارَنَهُ؛ كَمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِيَاءً؛ فَهَذَا لَا أَجْرَ لَهُ، بَلْ عَلَيْهِ إِثْمٌ.

- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ؛ مَا لَمْ يَكُنْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهَدًا مُسْتَأْمَنًا.

وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: لَا يُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ.

وَأَمَّا مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ: فَالذُّنُوبُ الَّتِي دُونَ الشِّرْكِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غفَرَ اللهُ لِلْمُذْنِبِ بِفَضْلِهِ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ أَيْ: مَا دُونَ الشِّرْكِ.

الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهَذَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ (سلم)، خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ أُمَّةً وَحْدَهُ، وكَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِبَنِيهِ أَنْ يُجَنِّبَهُمُ اللهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ النَّاسِ قَدِ افْتُتِنَ بِهَا: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36].

فَكَثْرَةُ الْهَالِكِينَ بَاعِثَةٌ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ، وَمَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ (سلم)؟!!

فَإِذَا كَانَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- خَافَ الشِّرْكَ عَلَى نَفْسِهِ -وَهُوَ مَنْ هُوَ-، وَخَافَهُ عَلَى بَنِيهِ؛ فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنْهُ.

فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الشِّرْكِ كُلِّهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ بِسُؤَالِهِمْ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ، وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ لَهُمْ، وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَا كَفَّارَةَ لِهَذَا الشِّرْكِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ وَحْدَهُ؛ وَإِلَّا فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ وُجُوبًا.

وَالْخَوْفُ: هُوَ تَوَقُّعُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ.

وَالشِّرْكُ: هُوَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

إِنَّ الْمُشْرِكَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ؛ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كُلُّ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ نَشَاطٍ وَحَرَكَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ للهِ؛ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَتَتَحَقَّقُ -حِينَئِذٍ- وَحْدَةُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَهْدَأُ وَتَسْتَقِرُّ الرُّوحُ، وَيَطْمَئِنُّ الضَّمِيرُ، وَيَهْدَأُ الْجَنَانُ، وَتَسْتَقِيمُ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

عَبْدٌ وَاحِدٌ لِرَبٍّ وَاحِدٍ، لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، يُحَقِّقُ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ، وَيَعْبُدُهُ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدِّينَ؛ أَهَذَا فِي اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَقَرَارِ ضَمِيرِهِ، وَرَاحَةِ فُؤَادِهِ وَرُوحِهِ كَمَنْ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، هَذَا يَأْمُرُهُ وَهَذَا يَنْهَاهُ، وَهَذَا يُقِيمُهُ وَهَذَا يُقْعِدُهُ، وَهَذَا يُوقِظُهُ وَهَذَا يُنِيمُهُ؟!! فَأَنَّى يَسْتَقِرُّ لِهَذَا قَلْبٌ عَلَى قَرَارٍ؟!!

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟!!

سَيُجِيبُ كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللهُ عَقْلًا: لَا يَسْتَوِيَانِ.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ}.. لَقَدْ نَطَقْتُمْ أَنْتُمْ، وَأَجَبْتُمْ عَنِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُ لَكُمْ لِلْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ.

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟!!

وَالْجَوَابُ هَا هُنَا مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، وَالتَّعْقِيبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

هَذَا حَالُ الْمُشْرِكِ!!

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71].

تَأَمَّلْ فِي مَثَلِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].

إِنَّ الشِّرْكَ يَقْضِي عَلَى مَنَازِعِ النَّفْسِ السَّامِيَةِ، وَيُحَطِّمُ مُثُلَهَا الْعُلْيَا.

إِنَّ الشِّرْكَ مُسَوِّغٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ.

إِنَّ الشِّرْكَ مَبْعَثٌ لِلْمَخَاوِفِ.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مَا أَعْجَبَ الْمُفَارَقَةَ {لَوْ كُنتُم تَعلَمُونَ} [الأنعام: 80-81].

كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمُ الْبَاطِلَةَ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ ((اللهَ)) الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟!!

كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْإِلَهَ الْحَقَّ الَّذِي أَعْبُدُ؟!!

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].

عِبَادَ اللهِ! الشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ دُنْيَا وَآخِرَةً.

فَيَجِبُ -إِذَنْ- أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ؛ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ مِنْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.

((مِنْ أَخْطَرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ:

الْبِدَعُ))

إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَأَبْغَضِهَا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ، وَالِابْتِدَاعُ قِسْمَانِ:

ابْتِدَاعٌ فِي الْعَادَاتِ، وَابْتِدَاعٌ فِي الدِّينِ.

الِابْتِدَاعُ فِي الْعَادَاتِ: كَابْتِدَاعِ الْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاكْتِشَافَاتُ الْعِلْمِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، فَهَذَا مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَادَاتِ الْإِبَاحَةُ.

وَأَمّا الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ: فَهَذَا مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، قَالَ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ.

وَقَالَتْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ -وَلَكِنْ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ-: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).

الْبِدَعُ فِي الدِّينِ عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنْ فَلْنَنْظُرْ فِي نَوْعَيْنِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: بِدْعَةٌ قَوْلِيَّةٌ اعْتِقَادِيَّةٌ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: بِدْعَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: بِدْعَةٌ قَوْلِيَّةٌ اعْتِقَادِيَّةٌ: كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَسَائِرِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ.

النَّوْعُ الثَّانِي: بِدْعَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ: كَالتَّعَبُّدِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادَةٍ لَمْ يَشْرَعْهَا.

حُكْمُ الْبِدْعَةِ فِي الدِّينِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا: أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَضَلَالَةٌ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بْدَعٍة ضَلَالَةٌ)).

((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).

وَأَمَّا مَنْ قَسَّمَ الْبِدْعَةَ إِلَى بِدَعْةٍ حَسَنَةٍ وَبِدْعَةٍ سَيِّئَةٍ؛ فَهُوَ غَالِطٌ مُخْطِئٌ، مُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))؛ فَحَكَمَ ﷺ عَلَى الْبِدَعِ كُلِّهَا بِأَنَّهَا ضَلَالَةٌ، لَمْ يَقُلْ إِلَّا بِدْعَةَ كَذَا، وَلَا إِلَّا بِدْعَةَ كَذَا؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ.

وَتَأَمَّلْ فِي كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي هَذَا الْمِضْمَارِ؛ فَإِنَّهُ بَدِيعٌ جِدًّا فَاحْرِصْ عَلَيْهِ، كَانَ يُنَاظِرُ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَقَالَ لِي مَنْ أُنَاظِرُهُ: الْبِدْعَةُ مِثْلُ الزِّنَى، وَرَوَى حَدِيثًا فِي ذَمِّ الزِّنَى، فَقُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالزِّنَى مَعْصِيَةٌ وَالْبِدْعَةُ شَرٌّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ)).

الْبِدْعَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ شَرٌّ مِنَ الزِّنَى، شَرٌّ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا قَالَ لِلشَّارِبِ الْمَحْدُودِ: ((إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، وَأَثْبَتَ لَهُ الْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ: ((لَا تُعِنِ الشَّيْطَانَ عَلَى أَخِيكَ)).

وَقَالَ فِي الْخَوَارِجِ: ((يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، كِلَابُ النَّارِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاء)).

فَإِذَنِ؛ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِشَرٍّ مِنَ الْبِدْعِ -الْتَفِتْ لَهَذا جَيِّدًا-. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الزِّنَى مَعْصِيَةٌ وَالْبِدْعَةُ شَرٌّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ؛ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَلَا يُتَابُ مِنْهَا)).

قَالَ: ((وَكَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ نُتَوِّبُ النَّاسَ؛ فَقُلْتُ: مِنْ مَاذَا تُتَوِّبُونَهُمْ؟!!

قَالَ: مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)).

فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنَ هَذِهِ الْمَعَاصِي إِلَى الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ؛ إِلَى بِدَعِ الْقَبْرِيَّةِ، إِلَى بِدَعِ الْخَوَارِجِ، إِلَى بِدَعِ الرَّافِضَةِ، إِلَى بِدَعِ الْمُرْجِئَةِ، إِلَى بِدَعِ الْقَدَرِيَّةِ!! يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي إِلَى هَذِهِ الْبِدَعِ!!

((مِنْ مَاذَا تُتَوِّبُونَهُمْ؟!! قَالَ: مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَقُلْتُ: حَالُهُمْ قَبْلَ تَتْوِيبِكُمْ خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَتْوِيبِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُسَّاقًا، يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ أَوْ يَنْوُونَ التَّوْبَةَ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ بِتَتْوِيبِكُمْ ضَالِّينَ مُشْرِكِينَ، خَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، يُحِبُّونَ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، وَيَبْغِضُونَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَبَيَّنْتُ أَنَّ هَذِهِ البِدْعَةَ الَّتِي هُمْ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا شَرٌّ مِنَ الْمَعَاصِي)).

إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا مَعْصِيَةً إِلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً؛ هُوَ فِي ذَاتِهِ مِنْ أَكْبَرِ الذِّنُوبِ وَأَعْظَمِ الْآثَامِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ دَعْوَةٌ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَتَزْيِينٌ لَهَا فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَتَحْرِيفٌ لِدِينِهِ، وَطَمْسٌ لِمَعَالِمِهِ!!

فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ! وَلْيَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ يَتَفَكَّرُوا فِيمَا يَصْنَعُونَ!!

((مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ:

تَرْكُ الصَّلَاةِ))

لَمَّا كَانَ لِلصَّلَاةِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَفَوَائِدُ عَظِيمَةٌ -عِبَادَ اللهِ-؛ كَانَ فَقْدُهَا حِرْمَانًا كَبِيرًا، وَنَقْصًا فَادِحًا فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ثَمَّ حَذَّرَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَاتٍ مُتَنَوِّعَةً:

قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5].

فَهَلَاكٌ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمُ الَّتِي وَرِثُوا بَعْضَ مَظَاهِرِهَا عَنْ دِينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ غَافِلُونَ تَارِكُونَ، لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى تَرْكِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59-60].

وَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَتَّصِفُونَ بِخَمْسِ صِفَاتٍ سُلُوكِيَّةٍ، بَيَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ؛ مِنْهَا: أَنَّهُمْ إِذَا قَامَ الْمُنَافِقُونَ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا مُتَثَاقِلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بَاطِنًا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَدْوَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَذَوَّقُونَ حَلَاوَتَهَا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِلَذَّةِ مُنَاجَاةِ اللهِ فِيهَا.

وَقَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42-47].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] أَيْ: إِذَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ.

فِي ((مُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ)): ((إِذَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ، وَقِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا؛ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ: ((مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَاهُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى)).

فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، فَقِيلَ: ((إِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ)). وَهُوَ حَدِيثُ الْمَنَامِ الطَّوِيلُ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَهَذَا الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا شَاءَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ، فَهَذَا عَذَابٌ بَرْزَخِيٌّ.

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَالْأَمْرُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ؛ فَلَيْسَ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْشَرُ مَعَ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ؛ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَدِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَكُمْ أَنْ ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

فَمَنْ مِنْكُمْ رَاعَى هَذِهِ الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَّلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!

أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ هَذَا غَافِلُونَ؛ لَكِنَّهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَحُطَامِ الدُّنْيَا مُنْتَبِهُونَ، يَسْهَرُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَنْمِيَةِ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَدَعُونَهُ لِمَنْ يَرِثُهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أَوْلَادِهِمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا صَلَحُوا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ؛ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَفَلَا تَخَافُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْئُولِيَّةِ؟!

أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُكُمْ عَلَى تَرْكِ تَرْبِيَةِ أَوْلَادِكُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْعَاقِّينَ لَكُمْ جَزَاءً وِفَاقًا؟!

إِنَّ مَنْ لَمْ يُرَاعِ حَقَّ اللهِ فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِ؛ يُوشِكُ أَلَّا يُرَاعُوا حَقَّ اللهِ فِيهِ إِذَا كَبُرَ وَمَاتَ.

فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تُرَبُّوا أَوْلَادَكُمْ مَا دَامُوا نَشْئًا يَتَقَبَّلُونَ.. عَلَى مَحَبَّةِ الصَّلَاةِ، وَمَحَبَّةِ الْحُضُورِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.

((مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ:

الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ))

مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَأَشْنَعِهَا: الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ؛ بِنَشْرِ الْأَفْكَارِ الْهَدَّامَةِ، وَنَشْرِ الْإِشَاعَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْآمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].

«الْمُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

وَالمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِي أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَيُخِيفُونَهُمْ، فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّتِي هُمْ بِهَا، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ جَزَاءَهُمْ وَنَكَالَهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ».

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَتَرْوِيعَ الْآمِنِينَ وَالسَّابِلَةِ، وَإِخَافَةَ النَّاسِ، وَتَخْرِيبَ الْمُنْشَآتِ، وَتَفْجِيرَ الْأَبْرَاجِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ وَالْأَكْشَاكِ، وَالِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْحِرَابَةِ؛ مِنَ الْإِفْسَادِ في الْأَرْضِ، مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَارَ وَالشَّنَارَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ.

وَمِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ: الْإِفْسَادُ فِي الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ؛ فَيَحْرُمُ -مَثَلًا- عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ فِي مَوَارِدِ الْمِيَاهِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).

مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!

نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..

وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..

وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..

نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..

وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..

((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).

قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟

اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.

((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!

قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى أَيْ: يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ؛ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)).

وَقَالَ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).

((مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللهِ:

عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَتَضْيِيعُ الْأَهْلِ))

إِنَّ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ: عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَتَضْيِيعَ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، وَعَدَمَ رِعَايَتِهِمْ، وَإِهْمَالَ تَرْبِيَتِهِمُ التَّرْبِيَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الصَّالِحَةَ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا.

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا- أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ».

مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَيْتَهُ سَكَتَ. هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِمَا».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَبَيَانُ أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ.

وَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنا النَّارَ، وَوَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِبَعْضِ صِفَاتِهَا كَمَا وَصَفَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَحَذَّرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ وُرُودُ النَّارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَادَانَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ؛ لِكَيْ يَكُونَ ذَلِكَ حَافِزًا لَنَا عَلَى إِلْقَاءِ سَمْعِ الْقَلْبِ لِمَا يَأْمُرُنَا بِهِ وَمَا يَنْهَانَا عَنْهُ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يَا مَنْ أَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ بِرَبِّكِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، فَآمَنْتُمْ بِهِ وَبِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَاسْمَعُوا وَعُوا، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاجْتَنِبُوا مَسَاخِطَهُ.

{قُوا أَنفُسَكُمْ}: اجْعَلُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ وَبَيْنَ نَارِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِقَايَةً وَجُنَّةً، {وَأَهْلِيكُمْ}: فَإِنَّكُمْ رُعَاةٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ رَاعٍ فِي رَعِيَّةٍ هُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا.

وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ مَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْفِسْقِ وَاللَّهْوِ وَالْفُجُورِ وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ فِي مَعْصِيَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمَا سَعَى بِذَلِكَ فِي وِقَايَتِهِمُ النَّارَ الَّتِي وَصَفَهَا الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ بِقَوْلِهِ: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، يُعْذِّبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْرِصَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى تَنْشِئَةِ أَوْلَادِنَا كَمَا نَشَأَ أَوْلَادُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، حَيْثُ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِاللهِ.

وَعَلَيْنَا أَنْ نَحُثَّ أَوْلَادَنَا عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنْ نَرْبِطَ هَمَّهُم بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ نَصْرفَهُمْ عَنْ تَوَافِهِ الْأُمُورِ؛ لِنُسْهِمَ فِي إِنْشَاءِ الْجِيلِ الَّذِي يُعيِدُ لِلْأُمَّةِ مَجْدَهَا الْمَفْقودَ، وَعِزَّتَهَا الْمَسْلُوبَةَ.

أَمَّا أَنْ نَتْرُكَ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَفِي مَنَابِتِ السُّوءِ، يَنْشَئُونَ عَلَى الْفَاسِدِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالذَّمِيمِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَشْتَدُّ عُودُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُشْحَنُ قُلُوبُهُمْ وَتُشْغَلُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُرِيدُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ سِنَّ الرُّشْدِ مُسْلِمِينَ، يَعْمَلُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَنَا، وَلَا يُلْقُونَ بَالًا لِأَوَامِرِنَا وَحَدِيثِنَا، وَيَكُونُ مَثَلُنَا كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْنِيَ مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبَ!! وَنَقْضِي الْوَقْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَسْرَةِ وَالْنَّدَمِ.

إِذَا ابْتَعَدَ شَبَابُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَظَلُّوا فِي مُنْحَنَيَاتِ الطَّرِيقِ؛ فَالْحَقُّ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ عَنْ بُعْدِ الشَّبِيبَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ هُمُ: الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَأَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ.

وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنْ يَبْحَثَ الْأَبُ لِأَبْنَائِهِ عَنْ خَيْرِ لِبَاسٍ، وَأَفْضَلِ طَعَامٍ، وَأَهْنَأِ سَكَنٍ، ثُمَّ لَا يَبْحَثُ لَهُمْ عَنِ الْمُرَبِّي الْفَاضِلِ، وَلَا يُلَقِّنُهُمُ الصَّحِيحَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ؛ جَاهِلًا أَوْ مُتَجَاهِلًا أَنَّهُ بِذَلِكَ يُلْقِي بِفِلْذَةِ كَبِدِهِ فِي نَارٍ مُسْتَعِرَةٍ لَا يَخْبُو إِوَارُهَا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، فَأَيْنَ الرَّحْمَةُ فِي قُلُوبِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؟!!

وَأَيْنَ الشَّفَقَةُ؟!!

وَأَيْنَ الْحَنَانُ؟!!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

((مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ وَأَضَرِّهَا:

آفَاتُ اللِّسَانِ))

إِنَّ مِنْ أَسْوَءِ الْأَعْمَالِ وَأَقْبَحِهَا، وَأَضَرِّهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ: آفَاتِ اللِّسَانِ، وَقَدْ نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْهَا كُلِّهَا، وَنَفَّرَ عَنْهَا، وَحَذَّرَ مِنْهَا؛ وَمِنْهَا: الْكَذِبُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((... وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

وَمِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا وَنَهَى عَنْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: الْغِيبَةُ، وَهِيَ: ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ، قَالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

وَمِنَ الْآفَاتِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ: النَّمِيمَةُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَتَدْرُونَ مَا الْعَضْهُ»؟

قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ؛ لِيُفْسِدُوا بَيْنَهُمْ». الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُشْكِلِ»، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ ﷺ: «نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى بَعْضٍ؛ لِيُفْسِدُوا بَيْنَهُمْ»؛ أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ يُفْسِدَ النَّاقِلُونَ بَيْنَ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِمْ وَالْمَنْقُولِ عَنْهُمْ.

وَعَبَّرَ بِالْجَمْعِ إِشَارَةً لِاعْتِيَادِهِ وَاطِّرَادِهِ بَيْنَهُمْ.

فَالْمُرَادُ: التَّحْذِيرُ مِنْ نَقْلِ كَلَامِ قَوْمٍ لِآخَرِينَ؛ لِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ النَّمِيمَةُ الَّتِي هِيَ -كَمَا قَالَ جَمْعٌ غَفِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ-: نَقْلُ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ، وَالنَّمِيمَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ.

وَقَدْ قَالَ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ»، وَ«الْقَتَّاتُ»: النَّمَّامُ.

فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ، الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «النَّمِيمَةُ الَّتِي تُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ».

فَهُوَ نَقْلُ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ.

((مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَهَانُ بِهَا:

السَّبُّ وَاللَّعْنُ وَالْبَذَاءُ))

مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَرَّمَهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: السَّبُّ وَاللَّعْنُ، وَالْبَذَاءُ، وَالْهُجَرُ مِنَ الْقَوْلِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ». الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

«السِّبَابُ»: أَشَدُّ مِنَ السَّبِّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ عَيْبَهُ.

وَ«السَّبُّ»: أَصْلُهُ الْقَطْعُ، فَهُوَ قَطْعُ الْمَسْبُوبِ، «فُسُوقٌ»: «الْفُسُوقُ»: الْخُرُوجُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَذْمُومِ.

وَالْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَشَدُّ مِنَ الْعِصْيَانِ.

فِي الْحَدِيثِ: تَعْظِيمُ حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِالْفِسْقِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

قَوْلُهُ ﷺ: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»: بِمَعْنَى: كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، أَوْ: أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْكَفَرَةِ؛ فَقِتَالُ الْمُسْلِمِ فِعْلُ الْكَفَرَةِ؛ أَوْ: أَرَادَ بهِ التَّغْلِيظَ والتَّشْدِيدَ فِي الْوَعِيدِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي «الْفَتْحِ»: ((لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ، مُعْتَمِدًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ: أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ؛ كَحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48])).

«سِبَابُ الْمُسْلِمِ»: سَبُّهُ وَشَتْمُهُ، وَالتَّكَلُّمُ فِي عِرْضِهِ بِمَا يَعِيبُهُ، وَهُوَ: الشَّتْمُ الْوَجِيعُ.

وَ«الْفِسْقُ»: التَّرْكُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمَيْلُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَحْرُمُ سَبُّ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْمُومَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عَادَةً: قَوْلُ الرَّجُلِ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: (حِمَارٌ)، وَ(كَلْبٌ)، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَهَذَا قَبِيحٌ، وَهُوَ كَذِبٌ وَإِيذَاءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا جَائِرُ، فَقَدْ يُتَسَامَحُ فِي ذَلِكَ أَحْيَانًا؛ لِضَرُورَةِ الْمُخَاصَمَةِ، وَهُوَ صِدْقٌ غَالِبًا؛ فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَهُوَ ظَالِمٌ وَجَائِرٌ، وَقَلَّ إِنْسَانٌ إِلَّا وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهَا.

«وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»: «الْقِتَالُ»: مُحَارَبَتُهُ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ هُنَا، أَوْ: هُوَ اعْتِقَادُ حِلِّ قَتْلِهِ، وَقِتَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَكْفُرُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ كُفْرًا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَأَمَّا الْمُسْتَحِلُّ لِدَمِ الْمُسْلِمِ؛ فَهَذَا كَافِرٌ.

لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ أَشَدَّ مِنَ السَّبِّ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى إِزْهَاقِ الرُّوحِ؛ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ أَشَدَّ مِنْ لَفْظِ الْفِسْقِ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ، مُعْتَمِدًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ؛ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فيِ «الصَّحِيحَيْنِ»: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

فِي الْحَدِيثِ: تَعْظِيمُ حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ سَبَّ مُسْلِمًا بِالْفِسْقِ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ». أَخْرَجَهُ فِي «الصَّحِيحِ».

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَالَ لِلْآخَرِ: يَا فَاسِقُ، أَوْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ كَافِرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ؛ كَانَ الْقَائِلُ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ؛ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا فِي صُورَةِ قَوْلِهِ لَهُ: يَا فَاسِقُ.

وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ:

إِنْ قَصَدَ نُصْحَهُ، أَوْ قَصَدَ نُصْحَ غَيْرِهِ بِهِ بِبَيَانِ حَالِهِ؛ جَازَ، وَإِنْ قَصَدَ تَعْيِيرَهُ وَشُهْرَتَهُ بِذَلِكَ، وَقَصَدَ مَحْضَ أَذَاهُ؛ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ، مَأْمُورٌ بِتَعْلِيمِهِ وَعِظَتِهِ بِالْحُسْنَى، فَمَهْمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالرِّفْقِ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالْعُنْفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِغْرَائِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ الْفِسْقِ، كَمَا فِي طَبْعِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْأَنَفَةِ؛ لَاسِيَّمَا إِنْ كَانَ الْآمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ فِي الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَغْلَظَ لَهُ فِي الْكَلَامِ؛ لَجَّ هُوَ فِي طُغْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ، فَحَتَّى وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا؛ وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَفِيَ بِوَصْفِهِ، فَيَقُولُ: هُوَ فَاسِقٌ؛ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْحَظَ قَصْدَهُ، وَأَنْ يُرَاقِبَ نِيَّتَهُ.

وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ جَالِسًا فِي جَوْفِ دَارِهِ، وَكَانَ وَلَدُهُ جَالِسًا عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَسَمِعَ وَلَدَهُ يَقُولُ: اخْسَأْ كَلْبَ بْنَ كَلْبٍ، فَقَالَ لَهُ: مَهْيَم؟!!

فَقَالَ: يَا أَبَتِ! إِنَّمَا هُوَ كَلْبٌ فَزَجَرْتُهُ.

فَقَالَ: إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَقُّصِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ كَلْبًا.

فَالْمُسْلِمُ عَفُّ اللِّسَانِ، لَا يَلَغُ لِسَانُهُ فِي الْقَاذُورَاتِ؛ فَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ.

الْمُسْلِمُ يَعِفُّ لِسَانُهُ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالكْلِمَةِ الْعَوْرَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِذَلِكَ؛ حَتَّى لَا يَعْتَادَ لِسَانُهُ الْهُجْرَ مِنَ الْقَوْلِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَلْحُوظٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْفَلَتَ لِسَانُهُ؛ فَقَلَّمَا يَسْتَطِيعُ بَعْدُ -إِلَّا إِذَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِمِنَّتِهِ- أَنْ يَجْمَعَ عَلَى نَفْسِهِ نَظَافَةَ لِسَانِهِ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ لِسَانَهُ الْحَسَنَ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَلَّا يُعَوِّدَ لِسَانَهُ الْهُجْرَ مِنْهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ؛ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ». أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «صَحِيحِهِ».

«الْمُسْتَبَّانِ»: اللَّذَانِ يَتَشَاتَمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ أَيْ: يَشْتُمُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ.

«مَا قَالَا»؛ أَيِ: الَّذِي قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ، «مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ»؛ أَيْ: مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَ الِانْتِصَارِ.

فَإِذَا تَجَاوَزَ؛ لَحِقَهُ مِنَ الْإِثْمِ بِقَدْرِ تَجَاوُزِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَدِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ؛ فَالْإِثْمُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا.

«فَعَلَى الْبَادِئِ»: فَالْبَادِئُ يَسْتَحِقُّ الْإِثْمَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْمُخَاصَمَةِ.

وَإِذَا تَجَاوَزَ الْمَسْبُوبُ عَنْ شَتْمِ الْبَادِئِ وَإِيذَائِهِ؛ فَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى الْبَادِئِ فَقَطْ، بَلْ يَكُونُ الْآخَرُ آثِمًا أَيْضًا بِاعْتِدَائِهِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَكْثَرَ إِثْمًا مِنَ الْمُبْتَدِئِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ رَبَّهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ حَتَّى لَا يَتَوَرَّطَ فِي إِثْمٍ يَقْتَرِفُهُ.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ سَبَّ كُلِّ وَاحِدٍ الْآخَرَ؛ فَإِثْمُ مَا قَالَا عَلَى الَّذِي بَدَأَ فِي السَّبِّ وَالشَّتْمِ -هَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْمَظْلُومُ الْحَدَّ-.

وَمَعْنَاهُ: أَنَّ إِثْمَ السِّبَابِ الْوَاقِعِ مِنِ اثْنَيْنِ مُخْتَصٌّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلَّهُ؛ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الثَّانِي قَدْرَ الِانْتِصَارِ، فَيَقُولَ لِلْبَادِئِ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ لَهُ.

فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ».

لَا يَجُوزُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَنْتَصِرَ إِلَّا بِمِثْلِ مَا سَبَّهُ؛ مَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا، أَوْ قَذْفًا، أَوْ سَبًّا لِأَسْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِ.

فَمِنْ صُوَرِ الْمُبَاحِ: أَنْ يَنْتَصِرَ بِـ«يَا ظَالِمُ»، أَوْ «يَا جَافِي»، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَنْفَكُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ.

قَالُوا: وَإِذَا انْتَصَرَ الْمَسْبُوبُ اسْتَوْفَى ظُلَامَتَهُ، وَبَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْ حَقِّهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِثْمُ الِابْتِدَاءِ، أَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْإِثْمُ الْمُسْتَحَقُّ للهِ تَعَالَى.

الْعَدَاءُ فِي الرَّدِّ وَالتَّجَاوُزُ فِيهِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّكْرَارِ؛ كَأَنْ يَقُولَ الْبَادِئُ لَهُ -أَعَزَّكُمُ اللهُ-: يَا كَلْبُ! فَيَرُدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَفْحَشَ مِمَّا قِيلَ لَهُ، كَمَا لَوْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَلْبٌ، أَوْ نَادَاهُ بِذَلِكَ، فَنَادَاهُ الْآخَرُ بِأَنَّهُ خِنْزِيرٌ؛ فَهَذَا تَعَدٍّ قَدْ تَجَاوَزَ بِهِ حَدَّهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَّهُ أَحَدٌ فَسَبَّ هُوَ آبَاءَهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِصَارَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْقَصَاصِ، وَالْقَصَاصُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمِثْلِ؛ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [النحل: 126]، فَإِذَا تَجَاوَزَ فَقَدْ تَعَدَّى وَأَسَاءَ وَظَلَمَ.

وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ، وَعَلَيْهِ؛ فَالصَّفْحُ أَوْلَى، وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ الْحَقُّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَهَذَا أَعْلَى وَأَجَلُّ.

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! الرَّجُلُ يَسُبُّنِي؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.

«الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ»؛ أَيْ: يَتَقَابَحَانِ فِي الْقَوْلِ، أَوْ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاطِلًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَهْتِرُ؛ فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قِيلَ فِيهِ وَمَا شَتَمُوهُ بِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: النَّهْيُ عَنِ التَّشَاتُمِ، وَعَنِ التَّقَاطُعِ، وَعَنِ التَّنَابُذِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِكَيْ يَكُونُوا إِخْوَانًا فِي اللهِ مُتَحَابِّينَ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَاحِشًا، وَلَا لَعَّانًا، وَلَا سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: «مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ»؟. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الصَّحِيحِ».

قَوْلُهُ: «تَرِبَ جَبِينُهُ»؛ أَيْ: سَقَطَ للتُّرَابِ.

وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ جَرَتْ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، لَا يُرِيدُونَ بِهَا الدُّعَاءَ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ مَعْنَاهَا، كَمَا اعْتَادَ الْعَرَبُ أَنْ يَقُولُوا: «مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللهُ»؟ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ دُعَاءً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ.

فَكَذَلِكَ «تَرِبَ جَبِينُهُ»: هَلْ هِيَ دُعَائِيَّةٌ؟

هَذَا قَوْلٌ؛ أَيْ: سَقَطَ لِلتُّرَابِ عَلَى وَجْهِهِ.

أَوْ هِيَ دُعَائِيَّةٌ بِمَعْنَى: الدُّعَاءِ لَهُ؛ أَيْ: سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ لِلْعِبَادَةِ للهِ -تَعَالَى- سَاجِدًا، بِأَنْ يَكُونَ للهِ مُصَلِّيًا.

«عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ»؛ أَيْ: عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ وَالْغَضَبِ.

قَوْلُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا كَان فَاحِشًا»:

«الْفَاحِشُ»: ذُو الْفُحْشِ فِي الْكَلَامِ وَالْفَعَالِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.

وَتَرِدُ الْفَاحِشَةُ بِمَعْنَى الزِّنَا، وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ؛ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

قَوْلُهُ: «وَلَا سَبَّابًا»: «السَّبُّ»: الشَّتْمُ.

قَوْلُهُ: «لَمْ يَكُنْ لَعَّانًا، وَلَا سَبَّابًا»: لَا يُرَادُ نَفْيُ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: النَّفْيُ الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ الْمُبَالغَةَ إِذَا نُفِيَتْ عَلَى الْجَارِي فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّهَا تُثْبِتُ الْأَصْلَ، فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ لَيْسَ بِسَبَّابٍ، قَدْ يَكُونُ سَابًّا؛ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَبَّابٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النِّسْوَةِ حَاضِرَاتٍ عِنْدَهُ يَسْأَلْنَهُ وَيُجَادِلْنَهُ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، فَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَ عُمَرَ؛ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُبْتَسِمٌ، فَقَالَ: أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا هُنَاكَ؟

فَقَالَ: «عَجِبْتُ لِهَؤُلَاءِ! كُنَّ يُخَاطِبْنَنِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ».

فَقَالَ عُمَرُ -بِحَيْثُ يَسْمَعْنَ-: أَتَهَبْنَنِي مَا لَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ!!

فَقُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).

أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يُثْبِتُ أَصْلَ الصِّفَةِ، فَأَنْتَ تَقُولُ: فُلَانٌ أَطْوَلُ مِنْ فُلَانٍ، فَتُثْبِتُ أَصْلَ الصِّفَةِ، تَقُولُ: فُلَانٌ أَفَظُّ مِنْ فُلَانٍ، فَتُثْبِتُ أَصْلَ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- نَفَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الْفَظَاظَةَ وَالْغِلْظَةَ أَلْبَتَّةَ، فَلَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا بِغَلِيظِ الْقَلْبِ {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 109].

فَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ.

وَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ قَدْ لَا تَكُونُ عَلَى بَابِهَا كَمَا مَعَنَا.

فَلَمْ يَكُنْ ﷺ فَاحِشًا، ولَا لَعَّانًا، ولَا سَبَّابًا، فَهُنَا نَفْيٌ لِأَصْلِ الصِّفَةِ، فَالْمُرَادُ هُنَا: النَّفْيُ الْمُطْلَقُ.

وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَاهَا فَقَالَ: ((إِنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْكِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ)).

فَقَالَتْ: ((إِنْ نُؤْبَنَ بِمَا لَيْسَ فِينَا؛ فَطَالَمَا زُكِّينَا بِمَا لَيْسَ فِينَا)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

«إِنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْكِ»؛ أَيِ: اغْتَابَكِ، وَذَكَرَكِ بِالْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.

قَوْلُهَا: «إِنْ نُؤْبَنْ»: الْأُبْنُ: الِاتِّهَامُ وَالذِّكْرُ بِالْعَيْبِ.

«فَطَالَمَا زُكِّينَا»؛ أَيْ: أَثْنَى النَّاسُ عَلَيْنَا بِمَا لَيْسَ فِينَا.

قَوْلُهَا: «إِنْ نُؤْبَنْ بِمَا لَيْسَ فِينَا، فَطَالَمَا زُكِّينَا بِمَا لَيْسَ فِينَا»: فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: هَذِهِ بِتِلْكَ.. «فَطَالَمَا زُكِّينَا بِمَا لَيْسَ فِينَا»: أَيْ: وُصِفْنَا وَأُثْنِيَ عَلَيْنَا بِمَا لَا نَتَحَلَّى بِهِ وَلَا نَتَّصِفُ بِهِ.

لَا بُدَّ لَنَا أَنْ نَتَحَمَّلَ مَا نُرْمَى بِهِ مِنَ اتِّهَامٍ، وَنُذْكَرُ بِهِ مِنْ عَيْبٍ، وَنُوصَفُ بِهِ مِنْ ذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ مِمَّا لَيْسَ فِينَا؛ فَكَثِيرًا مَا وُصِفْنَا وَأُثْنِيَ عَلَيْنَا بِمَا لَيْسَ فِينَا مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى احْتِمَالِ الْأَذَى، وَالْعَفْوُ وَالتَّوَاضُعُ، وَعَدَمُ حُبِّ الثَّنَاءِ، وَاسْتِوَاءُ مَدْحِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ -وَهِيَ أَمَارَةُ الْإِخْلَاصِ-.

وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ -رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ- قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ».

فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، قَالَ: أَتَرَى بِي بَأْسًا؟! أَمَجْنُونٌ أَنَا؟! اذْهَبْ. وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «صَحِيحَيْهِمَا».

قَوْلُهُ: «اسْتَبَّ»: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبِّ؛ أَيْ: شَتَمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.

قَوْلُهُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً»: الْكَلِمَةُ هَاهُنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَا بِالْمَعْنَى النَّحْوِيِّ، وَهِيَ: الْجُمْلَةُ الْمُفِيدَةُ الَّتِي تُفِيدُ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: «لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ»؛ أَيْ: لَزَالَ عَنْهُ مَا يَجِدُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْمَوْجِدَةِ، وَغَلَيَانِ الدَّمِ فِي عُرُوقِهِ.

قَوْلُهُ: «فَانَطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ»؛ أَيِ: الَّذِي سَمِعَ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ.

قَالَ: «أتَرَى بِي بَأْسًا»؟!! أَيْ: أَتَظُنُّ بِي بَأْسًا؟!! وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ.

قَالَ: «أمَجْنُونٌ أَنَا»؟!! أَتَرَى أَنَّ بِي مَرَضًا عَقْلِيًّا؟!!

قَوْلُهُ ﷺ: «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: هَذَا مِنْ بَابَةِ قَوْلِ رَبِّنَا: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].

قَالَ: «أَتَرَى بِي بَأْسًا»؟! وَكَذَلِكَ «أَتُرَى» أتَظُنُّ؟!

قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ: «أَتَرى بِي مِنْ جِنَّةٍ؟!»: وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ فِي دِينِ اللهِ -تَعَالَى-، وَلَمْ يَتَهَذَّبْ بِأَنْوَارِ الشَّرِيعَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَجْنُونِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ؛ وَلِهَذَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِدَالِ حَالِهِ، فَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ، وَيَفْعَلُ الْمَذْمُومَ، وَحَتَّى يَنْوِيَ الْحِقْدَ وَالْبُغْضَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْغَضَبِ، وَهِيَ جَمْرَةٌ مُتَلَهِّبَةٌ مِنَ النَّارِ كَأَنَّمَا تَجْرِي فِي عُرُوقِهِ، فَإِذَا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ أَطْفَأَ اللهُ تِلْكَ النَّارَ.

وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِنِي.

قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».

قَالَ: أَوْصِنِي. قَالَ: «لَا تَغْضَبْ». فَلَمْ يَزِدْهُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى «لَا تَغْضَبْ».

وَهَلْ تَسْتَطِيعُ؟!

هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى مِرَانٍ شَدِيدٍ، وَكَبْحٍ لِزِمَامِ النَّفْسِ عَنْ أَنْ تَخْلُصَ إِلَى شَهَوَاتِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّفْسِ السَّبُعِيَّةِ، وَالنَّفْسُ فِيهَا لَوْنُ افْتِرَاسٍ لِلْآخَرِينَ، وَلَوْنُ اعْتِدَاءٍ عَلَيْهِمْ.

فَالْإِنْسَانُ إِذَا مَا أَحَسَّ الْغَضَبَ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرَّجُلِ لَمَّا طَلَبَ الْوَصِيَّةَ: «لَا تَغْضَبْ»، وَكَرَّرَهَا مِرَارًا.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى عَظِيمِ مَفْسَدَةِ الْغَضَبِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا غَضِبَ؛ صَارَ فِي قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ كَالْكُرَةِ فِي أَرْجُلِ الصِّبْيَانِ، يَتَقَاذَفُونَهَا هَاهُنَا وَهُنَالِكَ مِنْ غَيْرِ مَا ضَبْطٍ لَهَا وَلَا تَحَرٍّ، فَكَذَلِكَ إِذَا غَضِبَ الرَّجُلُ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَلَعَّبُ بِهِ كَيْفَ شَاءَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ تُزِيلُ وَهَجَ الْغَضَبِ، وَتُخْمِدُ ثَوَرَانَ الدَّمِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ».

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِ الرَّجُلِ-: «أَمَجْنُونٌ أَنَا؟!»: «وَأَخْلِقْ لِهَذَا الْمَأْمُورِ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا، أَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّهُ رَفَضَ نُصْحَ رَسُولِ اللهِ ﷺ».

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَبَادُلِ السَّبِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَتَحْرِيشِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا دَلَّ أَيْضًا عَلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْمُتَخَاصِمِينَ مِمَّنْ هُمْ أَهْلٌ لِلنَّصِيحَةِ.

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى دَوَاءِ الْغَضَبِ، أَلَا وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عُرِضَ عَلَيهِ الْحَقُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَرَفَضَهُ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ؛ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِخَطَرٍ عَظِيمٍ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ الْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْوَهَّابُ الْكَرِيمُ.

((ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعَوَاقِبُ الْعَمَلِ السَّيِّءِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنِّ لِكُلِّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ الْعَبْدُ آثَارَهُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مَبْنِيًّا عَلَى قَاعِدَةٍ إِيمَانِيَّةٍ صَحِيحَةٍ؛ يَعُودُ نَفْعُ إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا سَيِّئًا بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ فَضَرَرُ إِسَاءَتِهِ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا، وَمَا رَبُّكَ يَا رَسُولَ اللهِ- يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ، بَلْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ؛ إِذِ ارْتَكَبُوا السَّيِّئَاتِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا ضِمْنَ قَانُونِ الْجَزَاءِ الرَّبَّانِيِّ.

مَنْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا؛ فَنَفْعُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ عَائِدٌ إِلَيْهِ، فَاللهُ لَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنْ أَحَدٍ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا سَيِّئًا؛ فَضَرَرُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَاللهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَسَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَمَا رَبُّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ- بِظَلَّامٍ لِعَبِيدِهِ، فَلَنْ يَنْقُصَهُمْ حَسَنَةً، وَلَنْ يَزِيدَهُمْ سَيِّئَةً.

الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا:

* الِاسْتِخْلَافُ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّصْرُ، وَالتَّمْكِينُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا، وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا؛ فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.

وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.

وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهَا بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ؛ بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

حَتَّى وَقَفَ وَاقِفُهُمْ مِنْ مُجَاهِدِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ يُخَاطِبُ أَمْوَاجَهُ، وَيُنَاجِي مَا هُنَالِكَ مِنْ مِيَاهِهِ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَكَ -أَيُّهَا الْبَحْرُ- قَوْمًا لَا يَعْبُدُونَ اللهَ؛ لَخُضْتُكَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِي هَذَا، وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

«هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ».

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ: طِيبُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّنَا لَوْ سَأَلْنَا أَيَّ مُسْلِمٍ عَنْ غَايَتِهِ لَقَالَ: إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا، وَأَنْ يَمُوتَ حَمِيدًا، وَأَنْ يُبْعَثَ آمِنًا.

فَهَذِهِ غَايَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَقْصِدٌ كَرِيمٌ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ؛ وَلَكِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَ: ((مَا الْوَسِيلَةُ؟))؛ تَبَايَنَتِ الْآرَاءُ، وَتَدَاخَلَتِ الْأَهْوَاءُ!

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَكَرَ الْمَقْصِدَ وَالْغَايَةَ مَعَ الْوَسِيلَةِ وَالطَّرِيقَةِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [النَّحْل: 97]

فَذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَايَةَ، وَأَرْدَفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالطَّرِيقَةِ وَالْوَسِيلَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا؛ أَنْ تَعِيشَ سَعِيدًا، وَأَنْ تَمُوتَ حَمِيدًا، وَأَنْ تُبْعَثَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

طَرِيقُكَ إِلَى ذَلِكَ: الْإِيمَانُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَإِذَا حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَأَتَوْا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؛ تَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالْجَزَاءِ الْحَسَنِ.

وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ الْعِزَّةِ، وَحَيَاةُ الْكَرَامَةِ، وَحَيَاةُ الشَّرَفِ، وَحَيَاةُ الِاطْمِئْنَانِ وَنَفْيِ الْقَلَقِ.

الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ حَيَاةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْإِيمَانِ فَوْقَ مُتَطَلَّبَاتِ الْأَرْضِ وَمُقْتَضَيَاتِ الطِّينِ.

الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ، لَمَّا حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؛ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّفْعَةَ وَالسِّيَادَةَ وَقِيَادَةَ الْعَالَمِ.

وَالْمِثَالُ الَّذِي يُضْرَبُ فِي هَذَا الْمَجَالِ: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، لَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلَا مِنَ الْحَضَارَةِ، تُفْنِيهِمُ الْحُرُوبُ، يُشَنُّ أُوَارُ تِلْكَ الْحُرُوبِ بَيْنَهُمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَيَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!

وَبَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَلَمَّا اتَّبَعُوا الرَّسُولَ ﷺ، فَآمَنُوا وَعَمِلُوا صَالِحًا؛ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى كَانُوا سَادَةَ الْعَالَمِ وَقَادَةَ الْأُمَمِ، وَدُكَّتْ أَمَامَ زَحْفِهِمْ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْحُصُونُ، وَسُوِّيَتِ الْأَسْوَارُ، وَثُلَّتِ التِّيجَانُ، وَهُدِمَتِ الْعُرُوشُ لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ؛ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فَيُؤْتِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ يُؤْتِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، مَعَ مَا يَعِدُهُ بِهِ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، فِي جَنَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْكَرَامَةِ.

وَلَمَّا تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، فَضَعُفَ الْإِيمَانُ وَرَقَّ، وَخَفِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَوْ كَادَ يَزُولُ؛ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ، وَأَتَاهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مَا يُوعَدُونَ؛ جَزَاءَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ الدِّينُ.

الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سِرُّ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يَعِدُ بِهِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ.

* وَمِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ: اسْتِمْرَارُ الْأَجْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٌ فِي «الْحِلْيَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.

* وَمِنْهَا: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَتَبْدِيلُهَا حَسَنَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7].

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَعَبَّرُوا عَنْ صِدْقِ إِيمَانِهِمُ الْإِرَادِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ؛ لَنَذْهَبَنَّ عَنْهُمْ بِسَيِّئَاتِهِمْ، وَلَنَسْتُرَنَّهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا، وَلَنُثِيبَنَّهُمْ بِكُلِّ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِمُ الْمُبَاحَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَنُعْطِيهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلُوا ضِمْنَ قَانُونِ الْمُكَافَآتِ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: عِظَمُ الْجَزَاءِ، وَصُحْبَةُ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107].

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْمُعَبِّرَةَ عَنْ صِدْقِ إِيمَانِهِمْ؛ كَانَتْ لَهُمْ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا؛ مَنْزِلًا مُعَدًّا لِضِيَافَتِهِمْ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ للهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى؛ مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ؛ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -تَعَالَى-، وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.

وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.

وَمَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمَعَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ.

وَنِعْمَتِ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى- مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَكَمَا أَنَّ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ آثَارَهُ؛ فَإِنَّ لِلْعَمَلِ السَّيِّءِ آثَارَهُ الَّتِي تَقَعُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْهَا: الضَّلَالُ وَالْحَيْرَةُ وَالتَّخَبُّطُ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

* وَمِنْ آثَارِ الْعَمَلِ السَّيِّءِ: الْحَيَاةُ الْمُضْطَرِبَةُ غَيْرُ الْمُسْتَقِرَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَتِهِ الْبَلِيغَةِ بِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ؛ فَقَالَ: {وَمَن يَعْشُ}؛ أَيْ: يُعْرِضْ وَيَصُدَّ.

{عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ، فَمَنْ قَبِلَهَا فَقَدْ قَبِلَ خَيْرَ الْمَوَاهِبِ، وَفَازَ بِأَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَرَدَّهَا؛ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ خَسَارَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَقَيَّضَ لَهُ الرَّحْمَنُ شَيْطَانًا مَرِيدًا يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ، وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيَؤُزُّهُ إِلَى الْمَعَاصِي أَزًّا، وَمِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ: أَنْ جَعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ)).

* وَمِنْ عَوَاقِبِ الْعَمَلِ السَّيِّءِ: سُوءُ الْمَصِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيَدْخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَرْضٍ ادَّعَتْ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهَا، فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَتُلِيَتْ عَرِيضَةُ الدَّعْوَى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!!

قَالَ مَرْوَانُ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟

قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ؛ طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)).

قَالَ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَهَا.

((اغْتِنَامُ الْعُمُرِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ))

عَبْدَ اللهِ! لَنْ يَنْفَعَكَ أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللهِ، سَتَمُوتُ وَحْدَكَ!!

وَتُقْبَرُ وَحْدَكَ!!

وَتُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ وَحْدَكَ!!

وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ!!

وَتُنْشَرُ وَحْدَكَ!!

وَتُعْرَضُ عَلَى رَبِّكَ وَحْدَكَ!!

وَتَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ وَحْدَكَ!!

وَتُحْبَسُ -إِنْ أَذِنَ اللهُ بِدُخُولِكَ الْجَنَّةَ- عَلَى الْقَنْطَرِةِ -وَهِيَ طَرَفُ الصِّرَاطِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ- وَحدَكَ!!

وَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَحْدَكَ، أَوْ تُعَذَّبُ فِي النَّارِ وَحْدَكَ!!

لَنْ يُعَذَّبَ عَنْكَ أَحَدٌ؛ فَاحْمِلْ مَسْؤُولِيَّتَكَ، الْحَيَاةُ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّهْرِيجِ، لَا وَقْتَ لِلتَّهْرِيجِ وَالْعَبَثِ، الْحَيَاةُ ثَوَانٍ مَعْدُودَةٌ، لَا بُدَّ أَنْ نَستَغِلَّهَا.

وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ إِنْسَانٍ تَصِفُهُ أَنْتَ بِالْعَقْلِ، يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ، يَجِدُ دُرَّةً وَيَجِدُ بَعْرَةً، فَيَلْتَقِطُ الْبَعْرَةَ وَيَدَعُ وَيَتْرُكُ الدُّرَّةَ؛ هَذَا سَفِيهٌ!!

لَحْظَةٌ تَمُرُّ مِنْكَ تَأْتِي خِزَانَةً فَارِغَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَكَيْفَ إِذَا وُجِدَ فِي الْخِزَانَةِ مَا يَضُرُّكَ؟!!

«وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».

«وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ»، وَفِي الْمُقَابِلِ مَا يُرْضِيِ الله!

الْحَيَاةُ صَعْبَةٌ.. مِحْنَةٌ.. لَيْسَ فِيهَا عَبَثٌ، وَلَا هِيَ بِمُتَحَمِّلَةٍ لِلَّعِبِ!!

تَأَمَّل فِي حَالِكَ، وَخُذْ بِقَوْلِ نَبِيِّكَ ﷺ: ((وَاحْرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُكَ)).

إِنْ كَانَ التَّهْرِيجُ يَنْفَعُكَ هَرِّجْ!!

إِنْ كَانَ الْعَبَثُ يَنْفَعُكَ اعْبَثْ!!

إِنْ كَانَ تَضْيِيعُ الْوَقْتِ يَنْفَعُكَ ضَيِّعْ وَقْتَكَ.. مَادَامَ يَنْفَعُكَ!!

فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَيَمُرُّ وَيَكُونُ عَلَيْكَ وَبَالًا وَيُنْزِلُ بِكَ ضَرَرًا؛ يَعْنِي لَنْ يَمُرَّ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، لَوْ مَرَّ لَا لَكَ وَلَا عَلَيكَ فَهُوَ أَهْوَنُ!!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُضَيِّعُونَ أَعْمَارَهُمْ فِيمَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَرِمُونَ الْوَقْتَ أَصْلًا!!

عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ فِي طَرِيقٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: ((أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ كَلِمَةً)).

قَالَ: ((وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ)).

قَالَ: ((فَتَوَقَّفْ حَتَّى أُكَلِّمَكَ)).

قَالَ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ)).

يَعْنِي: أَوْقِفِ الزَّمَنَ عَنْ دَوَرَانِهِ.. عَنْ جَرَيَانِهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَا أُضَيِّعُهُ مِنَ الْوَقْتِ مَعَكَ لَا لِيَ وَلَا عَلَيَّ، وَلَكِنْ لَا تُضَيِّعْ عَلَيَّ وَقْتِي!!

يَقُولُ لَهُ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ!!)).

ضَيِّعْ وَقْتَكَ أَنْتَ كَمَا تُحِبُّ، هَذَا شَأْنُكَ، وَلَكِنْ لَا تُضَيِّعْ أَوْقَاتَ غَيْرِكَ!

اتَّقِ اللهَ! كُنْ جَادًّا مُتَرَفِّعًا، لَا تَكُنْ عَابِثًا وَلَا هَازِلًا وَلَا مَائعًا!!

جَاءَ رَجُلٌ -هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسْرٍ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ)).

فَدَلَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَمْرٍ قَدْ يَبْدُو غَيْرَ ذِي قِيمَةٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطِبًا بِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

كُلُّ ثَانِيَةٍ اجْعَلْ فِيهَا ذِكْرًا، اجْعَلْ فِيهَا تَسْبِيحًا! سَتَحْتَاجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَاجُ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَكُونُ مُرجِّحَةً وَفَاصِلَةً، وَإِلَّا فَيُحْبَسُ مَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ عَلَى الْأَعْرَافِ حَتَّى يَفْصِلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَيَصِيرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لِلْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ لِلنَّارِ، وَيُدْخِلُهُمُ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ جَنَّتَهُ بِرَحمَتِهِ -وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ-.

وَلَكِنْ إِذَا لَمْ تَتَسَاوَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَزَادَتِ السَّيِّئاتُ عَلَى الْحَسَنَاتِ؛ فَهَذَا فِي النَّارِ -إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ شَيئًا فَيَرحَمُهُ-.

تَحْتَاجُ حَسَنَةً، سَتَمضِي وَرَاءَ أَبِيكَ فِي الْقِيَامَةِ.. أَنْتَ!!

أَنَا أَقُولَ لَكَ: أَنْتَ! لَا أَقُولُ سَيَجْرِي وَرَاءَ أَبِيهِ غَيْرُكَ، أَنْتَ سَتْجْرِي وَرَاءَ أَبِيكَ فِي الْعَرَصَاتِ.. يَا أَبَتِ! أَيُّ ابْنٍ كُنْتُ لَكَ؟

يَقُولُ: خَيْرَ ابْنٍ كُنْتَ.

أُرِيدُ مِنْكَ الْيَوْمَ حَسَنَةً!!

يَقُولُ: لَا، أَخَافُ الْيَوْمَ مِمَّا مِنْهُ تَخَافُ!!

سَيَجْرِي أَبُوكَ وَرَاءَكَ، يَقُولُ لَكَ: أَيُّ أَبٍ كُنْتُ لَكَ؟!!

تَقُولُ: خَيْرَ أَبٍ كُنْتَ.

فَيَقُولُ: أُرِيدُ مِنْكَ الْيَوْمَ حَسَنَةً!!

تَقُولُ: أَبَدًا، أَخَافُ الْيَوْمَ مِمَّا مِنْهُ تَخَافُ!!

أُمُّكَ.. أُخْتُكَ.. مَسْؤُولِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ، احْرِصْ عَلَى نَفْسِكَ، لَا تُضَيِّعْ وَقْتَكَ، لَا تُضَيِّعْ حَيَاتَكَ، إِنَّمَا أَنْتَ أَنْفَاسٌ، كُلَّمَا ذَهَبَ نَفَسٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ!! كمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَنْفَاسٌ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ نَفَسٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ!!))؛ يَعْنِي: تَقْتَرِبُ مِنَ الْقَبْرِ خُطْوَةً.

كُلُّ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَيْكَ يُقَرِّبُكَ مِنَ الْقَبْرِ خُطْوَةً.. عُمُرُكَ مَحْدُودٌ بَدْءًا وَمُنْتَهًى، لَنْ يَزِيدَ وَلَنْ يَنْقُصَ، وَلَكِنَّهُ مَحْدُودٌ، نِهَايَتُهُ مَعْلُومَةٌ للهِ، لَا لِيَ وَلَا لَكَ وَلَا لِلْبَشَرِ وَلَا لِلْخَلقِ؛ للهِ.

أَيْنَ هِيَ؟!!

لَا تَعْلَمْ، قَدْ تَكُونَ الْآنَ، بَعْدَ لَحْظَةٍ، بَعْدَ لَحْظَتَيْنِ، بَعْدَ سَاعَةٍ.. سَاعَتَيْنِ تَمْتَدُّ، وَتُدْرِكُهَا -أَيْضًا- مَهْمَا امْتَدَّتِ!!

وَرَأَيْنَا مَنْ جَاوَزَ الْمِئَةَ ثُمَّ مَاتَ، فَكَانَ مَاذَا؟!!

نُسِي..

لَنْ تَنْفَعَكَ عَشِيرَتُكَ، سَيَنْسَوْنَكَ، سَيَنْسَاكَ أَبْنَاؤُكَ، لَنْ يَذْكُرُوكَ!!

سَوْفَ يَتَمَتَّعُونَ بِمَا تَتْرُكُ، حَصَّلْتَهُ أَنْتَ مِنْ حَرَامٍ، مِنْ شُبْهَةٍ، مِنْ غَصْبٍ، مِنْ رِشْوَةٍ، مِنْ سَبِيلٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ وَتَلْقَى أَنْتَ الْعَذَابَ!!

أَفِقْ! لَا وَقْتَ لِلضَّيَاعِ!!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان