الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ

الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ

((الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ))
وَالْأَخْذُ بِأَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْجَادِّ
طَرِيقُ الْعُبُورِ نَحْوَ الْمُسْتَقْبَلِ

الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءَاتِ وَالْأَزْمَاتِ))

فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: أَنَّهَا دَارُ مِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.

وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

وَاللهِ لَتُخْتَبَرُنَّ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ-، فَتَقَعَ عَلَيْكُمُ الْمِحَنُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، وَبِالْجَوَائِحِ تَنْزِلُ بِهَا، وَفِي الْأَنْفُسِ بِالْمَصَائِبِ، وَالْأَمْرَاضِ، وَالْقَتْلِ، وَفَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْأَحِبَّةِ؛ وَذَلِكَ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يُؤْذِي أَسْمَاعَكُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الشِّرْكِ، وَالِافْتِرَاءِ، وَالتَّهَكُّمِ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ.

وَإِنْ تَصْبِرُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَضْبِطُوا أَنْفُسَكُمْ، وَتَحْبِسُوهَا عَنِ الْجَزَعِ، وَتَحْبِسُوهَا -أَيْضًا- مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَتَتَّخِذُوا الْوِقَايَةَ لِطَلَبِ رِضَا اللهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَدْفَعُوا الِاعْتِدَاءَ بِالْحَقِّ، وَتَعْمَلُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِحْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ جَازِمَةٍ جَادَّةٍ قَوِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الصَّعْبَةِ عَلَى النُّفُوسِ بِالتَّنْفِيذِ.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي تَضْطَرِبُ بِهِ نُفُوسُكُمْ؛ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ، وَمِنَ الْمَجَاعَةِ بِعَدَمِ كِفَايَةِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ لِسَدِّ حَاجَاتِكُمْ، وَبِنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، أَوْ تَعَسُّرِ الْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْجَوَائِحِ أَوْ مَوْتِ الْأَوْلَادِ؛ لِيَكُونَ مِنْ ثَمَرَةِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِي: الثَّوَابُ الْعَظِيمُ.

وَبَشِّرْ -يَا رَسُولَ اللهِ- الصَّابِرِينَ عَلَى امْتِحَانِي عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِالسَّكِينَةِ وَالتَّسْلِيمِ بِقَضَاءِ اللهِ.. بَشِّرْهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

صِفَةُ هَؤُلَاءِ الصَّابِرِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ، وَسُلِبَتْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ سَبَقَ أَنْ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ حُرِمُوا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِمِثْلِهَا عَلَى عِبَادِهِ.. صِفَتُهُمْ -حِينَئِذٍ- أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ مَمْلُوكَةٌ للهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مَمْلُوكُونَ للهِ، وَهُمْ عِبَادُهُ، وَمَصِيرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَالِكِهِمْ، وَمَصِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَالِكِهَا؛ فَعَلَامَ الْحُزْنُ وَالْأَسَى؟!! وَلِمَ الِاعْتِرَاضُ وَالتَّسَخُّطُ؟!!

وَحِينَمَا يَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّابِرُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ يَقُولُونَ: إِنَّا عَبِيدٌ وَمِلْكٌ للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ وَحْدَهُ صَائِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِينَا عَلَى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى قَضَائِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا دَفْعُهَا.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ؛ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)).

وَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَاعِدَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، لَا السَّعَادَةُ وَالرَّخَاءُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُهَوِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمُصِيبَةَ عَلَى الْمُصَابِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ هُوَ الذِّرْوَةَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ الْخَلْقَ، وَأَنَّهُ مهمَا يُصَبْ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ فَإِنَّ فَوْقَهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى.

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الِابْتِلَاءَ هُوَ قَاعِدَةُ حَرَكَةِ الْحَيَاةِ فِي مُعْطَيَاتِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْحَيَاةِ وَعَنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَجْلِهَا سُخِّرَ كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُ، وَوُجِدَتِ الرِّسَالَاتُ، وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَوُجِدَتْ إِرَادَةُ الْإِنْسَانِ الْحُرَّةُ الْفَاعِلَةُ، الْمُلْتَزِمَةُ بِإِعْمَارِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ الْحَضَارَةِ عَلَى أُسُسٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِإِسْعَادِ النَّاسِ جَمِيعًا)).

((وَالِابْتِلَاءُ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّدْرِيبِ الْعَمَلِيِّ عَلَى مُمَارَسَةِ مَا يُعْرَفُ بِالْأَخْلَاقِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى أَرْضِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يَصْقُلُ الْإِنْسَانَ، وَيَضْبِطُ انْفِعَالَاتِهِ.

وَالِابْتِلَاءُ مَحَكٌّ يَكْشِفُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِاخْتِبَارِ رَدِّ فِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكَيُّفِ مَعَ الْمَوَاقِفِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا فِي حَيَاتِهِ.

وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمَوَاقِفَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ كَمًّا وَكَيْفًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَالْأَعْمَارِ، وَالْأَمَاكِنِ، وَقُوَّةِ الضُّغُوطِ وَاسْتِمْرَارِهَا.

وَهُنَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِالِابْتِلَاءِ خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً مَا كَانَتْ لِتَحْدُثَ فِي ضَمِيرِهِ وَتَتَرَكَّزَ فِي نَفْسِهِ لَوْ لَا الِابْتِلَاءُ.

وَلَيْسَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُكْسِبَهُ ذَلِكَ أَيْ: ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَوَقْعُ الِابْتِلَاءِ عَلَيْهِ- نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ يَتَأَسَّى بِهَا طُولَ حَيَاتِهِ، كَمَا أَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ صَقْلًا لِلطَّبْعِ، وَتَهْذِيبًا لِلْعَاطِفَةِ، وَتَنْمِيَةً لِحُبِّ الْخَيْرِ.

 ((أَسْرَارُ الِابْتِلَاءَاتِ وَالْأَزْمَاتِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ))

إِنَّ الِابْتِلَاءَ مُرْتَبِطٌ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، فَمَا دَامَتْ هُنَاكَ حَيَاةٌ؛ فَهُنَاكَ -حَتْمًا- ابْتِلَاءٌ، وَالْإِنْسَانُ بِتَفْكِيرِهِ الْقَاصِرِ لَا يَعْلَمُ فَوَائِدَ الِابْتِلَاءِ الَّتِي تَعُودُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي آخِرَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ مَدَى حِكْمَةِ اللهِ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ لَهُ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ ابْتِلَاءَ الْمُؤْمِنِ كَالدَّوَاءِ لَهُ، يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الْأَدْوَاءَ الَّتِي لَوْ بَقِيَتْ فِيهِ لَأَهْلَكَتْهُ، أَوْ نَقَصَتْ ثَوَابَهُ، وَأَنْزَلَتْ دَرَجَتَهُ؛ فَيَسْتَخْرِجُ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ مِنْهُ تِلْكَ الْأَدْوَاءَ، وَيَسْتَعِدُّ بِذَلِكَ إِلَى تَمَامِ الْأَجْرِ، وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ».

«يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ فِيمَا يُصِيبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِيمَنْ يُهِمُّهُ، فَيُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّاسِ مَا يَشَاءُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ضُرُوبِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ صَبْرَهُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَهُمْ.

وَيَأْتِي الِابْتِلَاءُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي هَذَا التَّفَاعُلِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْكَوَائِنِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي يُعَاشِرُهَا وَيُعَالِجُهَا وَيُخَالِطُهَا، فَيَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْبَشَرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ.

ثُمَّ يَأْتِي الِابْتِلَاءُ الْجَمَاعِيُّ الْأُمَمِيُّ عِنْدَمَا يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ تَجَمُّعَاتِ الْبَشَرِ.. يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ نِقْمَتَهُ وَسَخَطَهُ عِنْدَمَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَمْرِهِ؛ لِيَرُدَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْحَقِّ، أَوْ لِيُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْإِسَاءَةِ.

إِنَّ حِكْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَبْتَلِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بِالضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَمَا يَبْتَلِي الْإِنْسَانَ بِالضُّرِّ وَالشَّرِّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَقْوِيَةً لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَيَكُونُ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ جِسْرًا يُوصِلُ إِلَى أَكْمَلِ الْغَايَاتِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْحِيصٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ.

وَهُوَ رَدْعٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِالْعُصَاةِ، وَتَخْفِيفٌ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا هُوَ إِقَامَةُ حُجَّةِ الْعَدْلِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى الْعِبَادِ».

«إِنَّ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإنْسَانِ مُرَادُ التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى عَكْسِ الأَغْرَاضِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْنَسَ بِانْعِكَاسِ الْأَغْرَاضِ، فَإِنْ دَعَا وَسَأَلَ بُلُوغَ غَرَضِهِ؛ تَعَبَّدَ اللهَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ أُعْطِيَ مُرَادَهُ شَكَرَ، وَإِنْ لَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلِحَّ فِي الطَّلَبِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لِبُلُوغِ الْأَغْرَاضِ، وَلْيَقُلْ لِنَفْسِهِ: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].

وَمِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ: أَنْ يَمْتَعِضَ فِي بَاطِنِهِ لِانْعِكَاسِ أغْرَاضِهِ، وَرُبَّمَا اعْتَرَضَ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ رُبَّمَا قَالَ: حُصُولُ غَرَضِي لَا يَضُرُّ، وَدُعَائِي لَمْ يُسْتَجَبْ! وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ، وَقِلَّةِ إِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْحِكْمَةِ، وَمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ غَرَضٌ ثُمَّ لَمْ يُكَدَّرْ؟!!».

«فَإِذَا تَأَمَّلْتَ حِكْمَتَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا ابْتَلَى بِهِ عِبَادَهُ وَصَفْوَتَهُ بِمَا سَاقَهُمْ بِهِ إِلَى أَجَلِّ الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْبُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.

وَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْرُ لِكَمَالِهِ كَالْجِسْرِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى عُبُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَيْنَ الْمَنْهَجِ فِي حَقِّهِمْ وَالْكَرَامَةِ.

فَصُورَتُهُ صُورَةُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ؛ فَكَمْ للهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ؟!!

فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ؛ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.

وَلَوْ لَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ؛ فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ!!

وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ، وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ، وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.

وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.

وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ، وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ، وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.

وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ، وَكَثَّرَهُ؛ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا، أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ؛ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.

فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضًا مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.

وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ: أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ: إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ: انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ؛ ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ؛ حَتَّى كَلَّمَهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.

وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحْتَمِلُ لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ، وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.

وَلَوْ لَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ، وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ.. لَوْ لَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ ﷺ وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ؛ حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ؛ مِنْ سِلْمٍ وَحَرْبٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ وَظَعْنٍ عَنْهُ، وَتَرْكِهِ للهِ، وَقَتْلِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى؛ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ، وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.

فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءَاتُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.

وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ، يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ، يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ، وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ، وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ، لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ، هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.

وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ، لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولُهُ الْمُطَاعَ، لَا سِوَاهُ.

فَلِلَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!

كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا = فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ».

 ((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَنْجُو مِنْ أَزْمَةٍ تَحِلُّ بِهِ أَوْ مُشْكِلَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، وَالْمُشْكِلَاتُ وَالْأَزْمَاتُ وَالْمَصَائِبُ هُنَّ سَبَبُ الْكَدَرِ فِي حَيَاةِ النَّاسِ؛ فَالْحَيَاةُ لَا تَكَادُ تَصْفُو لِأَحَدٍ؛ لَكِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي مُوَاجَهَةِ مُشْكِلَاتِهِمْ وَأَزْمَاتِهِمْ وَمَصَائِبِهِمْ.

الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ:

فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَافِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَسِتْرٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الشُّكْرُ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.

وَمَقَادِيرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي يُجْرِيهَا عَلَى عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُلَائِمَةً لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِلْعَبْدِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَيَبْتَلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ.

وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَطَاءٍ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا آتَاهُ.

وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ: فِي بَلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ لَا يَكُونُ صَبْرًا شَرْعِيًّا إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ:

أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَقْدُورِ اعْتِرَاضًا بَاطِنًا.

وَأَنْ يُمْسِكَ اللِّسَانَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَقْدُورِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَفْظًا ظَاهِرًا.

وَأَنْ يَحْبِسَ الْجَوَارِحَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْثَالِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ؛ مِنْ شَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَنَتْفِ الشُّعُورِ، وَشَقِّ الثِّيَابِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.

فَإِذَا جَاءَ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ وَأَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُخْرِجَ عِلْمَهُ فِي عَبْدِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السِّابِقِ إِلَى وَاقِعٍ مَشْهُودٍ، بِحَيْثُ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ؛ وَلَكِنْ لَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهُ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ مَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحَاسِبُنَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ فِينَا، وَإِنَّمَا يُحَاسِبُنَا عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِينَا.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ الْجَاحِدَ مِنَ الشَّاكِرِ، وَيَعْلَمُ الْجَازِعَ الْجَزُوعَ مِنَ الصَّابِرِ، وَيَعْلَمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْعِلْمُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحَاسِبُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا أَتَاهُ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ، غَيْرُ مُلَائِمٍ؛ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ، أَوْ كَرْبٍ، أَوْ وَجَدَ فِي وَلَدِهِ مَا يَسُوءُهُ، أَوْ فَقَدَ بَعْضًا مِنْ مَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْهَا الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ فِي هَذَا الْكَوْكَبِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَعِّمَهُمْ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ.

فَوَاهِمٌ جِدًّا وَمُخْطِئٌ خَطَأً تَامًّا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَتَنَعَّمُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ!!

مَا مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا وَلَهَا مَا يُنَغِّصُهَا مَهْمَا كَانَتْ، ثُمَّ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، بَلْ إِنَّهَا تَلْمَعُ فِي أُفُقِ الْحَيَاةِ كَلَمْعِ الْبَرْقِ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ رَدُّ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ.

 

((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ:

التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَصِدْقُ اللَّجَأِ إِلَيْهِ))

 إِنَّ أَوَّلَ وَأَهَمَّ عَوَامِلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ: مَدَى قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَمَدَى تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- وَالثِّقَةِ فِيهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالْمَرْءُ الَّذِي يَعُودُ إِلَى رَبِّهِ فِي أَزْمَاتِهِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- فِي حَلِّهَا، وَيَرْجُوهُ وَيُلِحُّ فِي دُعَائِهِ أَنْ يُفَرِّجَهَا عَنْهُ، وَاثِقًا فِي ذَلِكَ وَمُوقِنًا بِهِ، وَمُسَلِّمًا أَمْرَهُ لَهُ -سُبْحَانَهُ-؛ فَهُوَ الْأَجْدَرُ أَنْ تُحَلَّ مُشْكِلَاتُهُ، وَيَنْجُوَ مِنْ أَزْمَاتِهِ.

التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- كِفَايَةً وَحَسَبًا فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَعَلَامَاتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ فِي اعْتِمَادِهِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ كَفَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أَيْ: كَافِيهِ، ثُمَّ طَمْأَنَ الْمُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ)).

وَمَنْ صَدَقَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ شَيْءٍ نَالَهُ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا؛ كَانَتْ لَهُ فِيهِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا؛ كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصَلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَةٍ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مُوَاجَهَةِ الْأَزْمَاتِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَصِدْقِ اللَّجَأِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ بِخَالِصِ الْأَعْمَالِ: حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى الْغَارِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ.

فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبُقُ قَبْلَهُمَا أَهلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا -وَالْغَبُوقُ: الشَّرَابُ الَّذِي يُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ-، قَالَ: فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبُقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَلَبِثْتُ -أَيْ: بَقِيتُ- وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ)).

زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: ((وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ -يَعْنِي: أنَّ أوْلَادَهُ كَانُوا يَصِيحُونَ مِنَ الْجُوعِ عِنْدَ قَدَمَيهِ، فَلَمْ يُقَدِّمْهُمْ عَلَى أَبَوَيْهِ-، قَالَ: فَاسْتَيْقَظَا -يَعْنِي: أَبَوَيْهِ- فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذهِ الصَّخْرةِ، فَانْفَرجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي، حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ -وَالسَّنَةُ: الْقَحْطُ، وَمَا يَكُونُ مَعَهُ مِنَ الْحَاجَةِ، وَالْجُوعِ، وَالْفَقْرِ-.

قَالَ: فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا؛ قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ.

قَالَ: فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ؛ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي.

فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِك؛ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَسْتَهزِئْ بِي.

فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ، فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ؛ فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ -وَالْفَرَقُ: مِكْيَالٌ مَعْلُومٌ-، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَإِنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ إِلَى أَنِ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.. )). فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَرِيبًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَينِ)) .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى أَنَّ الأعْمَالَ لَيْسَتْ بِكَثْرَتِهَا، وَإنَّمَا بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَمِمَّا يُحْبِطُهَا.  

فَمَهْمَا حَاوَلَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَصْدُقْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ للهِ مُخْلِصًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحْبِطُ عَمَلَهُ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فِيهِ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ أَثْنَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى صَحَابَةِ رَسُولِهِ ﷺ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ هُمُ الَّذِينَ خَاضُوا غِمَارَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَسَقَطَ مِنْهُمْ مَنْ سَقَطَ شَهِيدًا، وَجُرِحَ مَنْ جُرِحَ، وَأَصَابَهُمُ الرَّهَقُ وَالتَّعَبُ، فَدَعَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا الْقَرْحُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَدْ خَشِيَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَنْطَلِقَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ يُفَكِّرُوا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى مَكَّةَ.

وَقَدِ انْتَدَبَ الرَّسُولُ ﷺ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ لِلْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكينَ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ (ض1)، أَنَّهَا قَالَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}.. قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ((يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ؛ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ؛ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: ((مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ؟))، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ مُخْتَصَرًا.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ الْجَيْشَ كُلَّهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فِي أُحُدٍ؛ بِاسْتِثْنَاءِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَارَ الرَّسُولُ ﷺ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى (بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ) عَلَى بُعْدِ ثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَقَدْ حَدَثَ مَا تَوَقَّعَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ تَلَاوَمُوا فِي عَدَمِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَشَاوَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجُوا فِي إِثْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ صَارُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ؛ فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُمْ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَأَسْرَعُوا عَائِدِينَ إِلَى مَكَّةَ.

الْقَرْحُ الَّذِي أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ: الْجِرَاحَةُ وَالتَّعَبُ اللَّذَانِ كَانَا لِلْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَحْسَنُوا بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَاسْتَجَابُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ؛ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ مَا بِهِمْ مِنْ تَعَبٍ وَآلَامٍ وَجُرْحٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ.

عِنْدَمَا عَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِخُرُوجِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فِي إِثْرِهِمْ؛ هَزَّهُ الْخَبَرُ، وَخَشِيَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَسَارَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ مَا يُسَمَّى بِالْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَدْ حَمَّلَ قَوْمًا مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا مُنْطَلِقِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يَقُولُوا لِلرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مُقَابِلَ جُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُمْ: إِنَّنَا رَاجِعُونَ إِلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ.

فَلَمَّا أَخْبَرُوا الرَّسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِذَلِكَ؛ ازْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا؛ لِتَوَكُّلِهِمْ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})).

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَدَى ثَبَاتِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَمَعْنَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيِ: اللهُ كَافِينَا، وَاللهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

أَخْبَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ خُرُوجَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ (أُحُدٍ) كَانَ سَفَرَ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ؛ فَقَدْ أَلْقَى خُرُوجُهُمُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، وَانْقَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ عَائِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعُونَ مَا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}، وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ: صَرْفُ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَإِعَادَتُهُمْ سَالِمِينَ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ تَاجَرُوا وَرَبِحُوا.

{فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}: فَانْصَرَفَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ عَنْ وَجْهِهِمُ الَّذِي تَوَجَّهُوا فِيهِ -وَهُوَ سَيْرُهُمْ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ- إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} يَعْنِي: بِعَافِيَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، لَمْ يَلْقَوْا بِهَا عَدُوًّا، {وَفَضْلٍ} يَعْنِي: أَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ بِتِجَارَتِهِمُ الَّتِي اتَّجَرُوا بِهَا، وَالْأَجْرِ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ، {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يَعْنِي: لَمْ يَنَلْهُمْ بِهَا مَكْرُوهٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا أَذًى.

{وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَرْضَوُا اللَّهَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ رَسُولَهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ أَثَرِ الْعَدُوِّ، وَطَاعَتِهِمْ.

{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} يَعْنِي: وَاللَّهُ ذُو إِحْسَانٍ وَطَوْلٍ عَلَيْهِمْ -بِصَرْفِ عَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْكَرَّةِ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ- بِنِعَمِهِ {عَظِيمٌ} عِنْدَ مَنْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ)).

وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ تِلْكُمُ الْمَقَالَةَ الَّتِي حَمَّلَهَا أَبُو سُفْيَانَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ التُّجَّارِ مُرْسِلًا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ؛ لِيُرْعِبَهُمْ وَيُخَوِّفَهُمْ.. هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يُخَوِّفُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْكَافِرِينَ.

وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا الْمُشْرِكِينَ، وَطَالَبَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ وَحْدَهُ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ؛ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

إِنَّ الْقَلْبَ الْمُطْمَئِنَّ الَّذِي تَمْلَؤُهُ السَّكِينَةُ الْإِيمَانِيَّةُ يَتَلَقَّى الْأَزْمَاتِ بِثَبَاتٍ وَهُدُوءٍ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، فَهُوَ رَاضٍ بِقَضَاءِ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، صَابِرٌ صَبْرًا جَمِيلًا، أَمَّا الْقَلْبُ الْمَكْدُوسُ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا؛ فَهُوَ يَعْتَصِرُ أَلَمًا عِنْدَ الْمُشْكِلَاتِ، وَيَحْتَرِقُ غَيْظًا إِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ مُكْتَسَبَاتِهِ مِمَّا أَنْفَقَ فِيهِ زَهْرَةَ حَيَاتِهِ، فَهُوَ مَصْدُومٌ مَشْلُولُ الْحَرَكَةِ تِجَاهَ مَصَائِبِهِ وَأَزْمَاتِهِ، أَوْ أَنَّهُ مُتَخَبِّطٌ مُتَرَدِّدٌ ثَائِرٌ تَائِهٌ!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

 ((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ:

الْأَمَلُ وَالرَّجَاءُ فِي اللهِ وَعَدَمُ الْيَأْسِ وَالْإِحْبَاطِ))

إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَحَلَّى بِمَزِيدٍ مِنَ الْأَمَلِ فِي اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْأَمَلِ فِي غَدٍ أَفْضَلَ، وَأَنْ نَعْمَلَ لِذَلِكَ، وَأَلَّا نَيْأَسَ وَلَا نُحْبَطَ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ؛ فَفِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى لِأَحَدٍ عَيْشٌ، لَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ، وَلَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ أَمَلٌ فِي أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَتَسْعَدُ بِهِ الْحَيَاةُ.

لَوْ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّعْبِ إِلَى السَّهْلِ، وَمِنَ التَّعْسِيرِ إِلَى التَّيْسِيرِ.

لَوْ لَا هَذَا الْأَمَلُ؛ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بِعَيْشٍ، وَلَا طَابَتْ نَفْسُ إِنْسَانٍ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَغْرِسُ غَرْسًا؛ فَهَذَا الْغَرْسُ لَا يُؤْتِي ثَمَرَتَهُ وَلَا أُكُلَهُ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.

لَوْ لَا الْأَمَلُ؛ مَا غَرَسَ إِنْسَانٌ غَرْسًا، وَلَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا، وَيَبْنِيَ بَيْتًا؛ فَإِنَّهُ بِرَجَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ هَذَا الْبَيْتَ، وَأَنْ يَعِيشَ فِيهِ سَنَوَاتٍ طِوَالًا.

لَوْ لَا أَنَّهُ قَدِ ارْتَكَزَ فِي نَفْسِهِ الْأَمَلُ؛ مَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا، وَمَا غَرَسَ أَحَدٌ غَرْسًا، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

فَالْأَمَلُ فِيهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَمِنْ أَجْلِهِ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْحَيَاةَ مَبْنِيَّةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي يَحْيَا عَلَيْهِ النَّاسُ؛ وَإِلَّا لَتَوَقَّفَتْ مَعَايِشُ النَّاسِ، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ فِي الْحَيَاةِ عَمَلًا.

فَمَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَى الْمَرْءِ الْمِحْنَةُ؛ فَلَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ «فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فِيمَا رَجَاهُ، وَالْإِيَاسُ يُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ، وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ».

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ، وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.

وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ؛ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ، وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

«يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ؛ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ؛ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ؛ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].

«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».

((مِنْ وَسَائِلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ:

الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ وَالْيَقِينُ فِي اللهِ))

إِنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَالْيَقِينَ فِي نَصْرِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ دَعَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَكَالَبُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَلْجَئُوهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَأَلْجَئُوا عَشِيرَتَهُ -لِأَنَّهُمْ تَضَامَنُوا عَصَبِيَّةً، لَا يُسْلِمُونَهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِدِينِهِ-، أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الشِّعْبِ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ، وَكَتَبُوا الصَّحِيفَةَ، وَعُلِّقَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، لَيْسَ فِيهَا مِمَّا يُحْتَرَمُ سِوَى مَا كَتَبُوهُ: «بِاسْمِكَ اللهم»، هَذَا يَبْقَى، وَمَا عَدَاهُ يَفْنَى.

ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ مَرِيرَةٍ تَمُرُّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَرَى النِّسَاءَ، وَهُوَ يَرَى الْعَجَائِزَ، وَهُوَ يَرَى الشُّيُوخَ، وَهُوَ يَرَى الضَّعَفَةَ، وَهُوَ يَرَى الْأَطْفَالَ يَئِنُّونَ مِنْ وَطْأَةِ الْجُوعِ وَهُوَ يَنْشِبُ أَنْيَابَهُ فِي أَكْبَادِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ لَهُ دَفْعًا إِلَّا بِمَزِيدٍ مِنَ اسْتِجْلَابِهِ بِتَبْدِيدِ الطَّاقَةِ فِي الْبُكَاءِ وَفِي النَّحِيبِ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ، وَالسَّادَةُ مِنْ قُرَيْشٍ يَأْكُلُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ!!

ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ تَمُرُّ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ لَا تَنْفَعُ فِيهَا سِعَايَةٌ، وَلَا يُحَصِّلُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْسِمِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ آمِنُونَ، الطَّيْرُ فِي السَّمَاءِ آمِنٌ، وَالْوُحُوشُ فِي الْفَلَوَاتِ آمِنَةٌ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا!!

يَخْرُجُ خَارِجُهُمْ إِلَى الْأَسْوَاقِ لِيَبْتَاعَ، فَيَذْهَبُ إِلَيْهِ قَرِيبُ قَرَابَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ -أَبُو لَهَبٍ- وَقَدِ انْحَازَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَيَقُولُ لِلتُّجَّارِ: لَا تَبِيعُوهُمْ، وَأَنَا أُضْعِفُ لَكُمُ السِّعْرَ، وَتَعْلَمُونَ وَفَائِي، وَتَعْلَمُونَ ثَرْوَتِي، فَيَرْجِعُونَ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، لَا يَمْلِكُونَ سِوَى الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، يَتَلَمَّسُونَ الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 

يُحَاصَرُونَ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ، ثُمَّ تَتَحَرَّكُ الْعَوَاطِفُ فِي قُلُوبِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ وَمِمَّنْ لَهُمْ رَحِمٌ عِنْدَ الْمُحَاصَرِينَ؛ حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ الْأَرَضَةَ قَدْ لَحَسَتِ الصَّحِيفَةَ -أَكَلَتْهَا-، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا اسْمُ اللهِ وَحْدَهُ؛ فَلْنَذْهَبْ جَمِيعًا -يَقُولُ لَهُمْ.. يَقُولُ لِلسَّادَةِ.. لِلطَّوَاغِيتِ.. لِلْكِبَارِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَدْفَعُونَ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَقْفِيَتِهِمْ، وَيُعذِّبُونَهُمْ وَيَضْطَهِدُونَهُمْ!! مَا جَرِيمَتُهُمْ؟!!

أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ!!

يَقُولُ لَهُمْ: فَلْنَذْهَبْ جَمِيعًا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلْنَأْتِ بِالصَّحِيفَةِ، وَلْنَنْشُرْهَا لِنَقْرَأَهَا، فَإِنْ كَانَ ابْنُ أَخِي صَادِقًا؛ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُبْقُوا هَذَا الْحِصَارَ الظَّالِمَ؛ أَنْ تُجَوِّعُوا الْأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ، أَنْ تَعْدُوا عَلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ، وَأَنْ تُقَطِّعُوا الْأَرْحَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُفْظِعَةِ، اتَّقُوا اللهَ!

ذَهَبُوا فَأَتَوْا بِهَا، نَشَرُوهَا فَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا حَرْفًا سِوَى اسْمِ اللهِ، فَفُكَّ الْحِصَارُ، وَمَا هُوَ إِلَّا التَّعْذِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ، تَعْذِيبٌ بِالضَّرْبِ وَبِالسِّيَاطِ وَبِالنَّارِ، وَيَذْهَبُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَتْبَاعِ رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، دِيَارٍ غَرِيبَةٍ، وَوُجُوهٍ غَرِيبَةٍ، وَلُغَةٍ غَرِيبَةٍ، وَدِينٍ عَنْهُمْ غَرِيبٍ، يَحْمِيهِمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، يَعُودُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَأْتِي الْهِجْرَةُ إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ.

((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ:

الْأَخْذُ بِأَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ الْجَادُّ وَالتَّخْطِيطُ))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ الْحَالَّةِ: أَنْ نَأْخُذَ بِأَسْبَابِ الْعِلْمِ وَبِالْعَمَلِ الْجَادِّ؛ حَتَّى نَعْبُرَ -بِفَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ فِي عَالَمٍ لَا مَكَانَ فِيهِ لِمَنْ لَا يَأْخُذُونَ بِأَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَبِمُنْتَهَى الْجِدِّ، مَعَ الِاعْتِمَاد عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.

إِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، بَلْ هُوَ مِنْهُ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ؛ وَلَكِنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ: عَدَمُ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعُ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا، فَيَكُونُ حَالُ الْقَلْبِ قِيَامَهُ بِاللهِ لَا بِهَا، وَحَالُ الْبَدَنِ قِيَامَهُ بِالْأَسْبَابِ.

فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ، وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ)).

وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ النَّجَاحِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالثِّقَةِ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.. هُوَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا الْقُعُودُ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ السَّعْيِ؛ فَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّكِالٌ أَوْ تَوَاكُلٌ حَذَّرَنَا مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَنَهَى عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مُعَاذُ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قَالَ مُعَاذٌ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟

قَالَ: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا يَضَعُ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَاعِدَةً جَلِيلَةً، وَهِيَ: أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ، أَوْ مَا يَكُونُ مَظِنَّةً لِلِاتِّكَالِ أَوِ التَّوَاكُلِ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ فَفِي الْحِوَارِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؛ أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ: ((مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ؛ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ))؟

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ)) .

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الِاتِّكَالَ يَعْنِي تَرْكَ الْعَمَلِ، وَعَدَمَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ بِالْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ الْجَادِّ، وَالتَّخْطِيطِ السَّدِيدِ: قِصَّةُ نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ وَذَلِكَ بِإِنْقَاذِ الْبِلَادِ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَالْهَلَاكِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].

وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.

يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ، وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.

وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ؛ فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ؛ قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ! أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ، وَتَأْوِيلِكَ، وَسُلُوكِكَ، وَتَصَرُّفَاتِكَ، وَصُحْبَتِكَ؛ فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى: سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ؛ لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلِيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.

لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.

قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ؛ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ، وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهِمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ؛ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.. لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ، وَالزَّيْتُونِ، وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.

لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ الْجَادِّ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَزْمَاتِ: قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ؛ ((فَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ نَجِدُ أَنَّ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَانَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يَقُومَ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الْمَعْنِيَّةِ، وَنَجِدُ أَنَّهُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَتَاحَ لَهُ كُلَّ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي تُسَاعِدُهُ فِي إِتْمَامِ مَهَامِّهِ {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}.

وَيَجِبُ أَلَّا يَكْتَفِيَ الْقَائِمُ بِالْعَمَلِ بِأَخْذِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُسَخِّرَ هَذَا الْعِلْمَ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةَ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهُمَا فِي إِنْجَازِ الْعَمَلِ الْمَنُوطِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}.

مَعَ ضَرُورَةِ التَّعَاوُنِ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَزْمَاتِ وَإِنْجَازِ الْأَعْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}، فَذُو الْقَرْنَيْنِ قَامَ بِالتَّوْظِيفِ الْأَمْثَلِ لِلطَّاقَاتِ الْبَشَرِيَّةِ؛ فَقَدْ وَظَّفَ طَاقَاتِ الْقَوْمِ فِيمَا يُحْسِنُونَ، وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْعَوْنَ بِالْقُوَّةِ الَّتِي يَمْلِكُونَهَا، وَلَيْسَ بِالْمَالِ أَوِ الْعِلْمِ فَحَسْبُ.

بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِي إِيجَادِ الْحُلُولِ وَاتِّبَاعِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ نَجِدُ أَنَّ كُلَّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ مُوَاجَهَةِ الْأَزْمَةِ تَقُودُ إِلَى الْمَرْحَلَةِ التَّالِيَةِ؛ حَتَّى يَتِمَّ الْخُرُوجُ مِنْهَا، فَمِنَ الْأَمَلِ وَالْيَقِينِ بِرَحْمَةِ اللهِ إِلَى إِيجَادِ الْحُلُولِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِذْ إِنَّهَا كُلَّهَا حَلْقَاتٌ مُتَواصِلَةٌ لَا يُمْكِنُ الْفَصْلُ بَيْنَهَا)).

 ((ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكٌ صَالِحٌ، أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْفُتُوحِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ اللهُ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقُوَّةِ مُلْكِهِ، وَتَوَسُّعِهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ التَّامُّ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93].

أَيْ: بَلَغَ مَحَلًّا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ السَّدَّيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ، وَهُمَا سَلَاسِلُ جِبَالٍ عَظِيمَةٍ شَاهِقَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفَجْوَةِ، فَوَجَدَ عِنْدَ تِلْكَ الْفَجْوَةِ الَّتِي بَيْنَ سَلَاسِلِ هَذِهِ الْجِبَالِ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؛ مِنْ بُعْدِ لُغَتِهِمْ، وَثِقَلِ فَهْمِهِمْ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ:

{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]؛ وَهُمْ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ -يَعْنِي: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ- مِنْ نَسْلِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ مِنَ الْعَنَاصِرِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ مُفَصَّلٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمَشْرُوحٌ مِنْ صِفَاتِهِمْ، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَسْبَابِ وَالِاقْتِدَارِ خَيْرٌ.

{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أَيْ: إِنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ قَوِيَّةٍ فِي الْأَبْدَانِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وَلَمْ يَقُلْ: سَدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَنَى فَقَطْ هُوَ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ وَالرِّيعُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ، أَيْ: بَيْنَ سَلَاسِلِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَدَبَّرَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ آلَاتِهِ وَبُنْيَانِهِ، فَقَالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أَيِ: اجْمَعُوا لِي جَمِيعَ قِطَعِ الْحَدِيدِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، وَلَا تَدَعُوا مِنَ الْمَوْجُودِ شَيْئًا، وَارْكُمُوهُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.

فَفَعَلُوا ذَلِكَ؛ حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ تُلُولًا عَظِيمَةً مُوَازِيَةً لِلْجِبَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيِ: الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ لِذَلِكَ الرَّدْمِ، {قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] أَيْ: أَمَرَ بِالنُّحَاسِ فَأُذِيبَ بِالنِّيرَانِ، وَجَعَلَ يَسِيلُ بَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ، فَالْتَحَمَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتْ جَبَلًا هَائِلًا مُتَّصِلًا بِالسَّدَّيْنِ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَيْثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ إِفْسَادِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أَيْ: يَصْعَدُوا ذَلِكَ الرَّدْمَ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}  [الكهف: 97-98] أَيْ: رَبِّي الَّذِي وَفَّقَنِي لِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَالْأَثَرِ الْجَمِيلِ، فَرَحِمَكُمْ؛ إِذْ مَنَعَكُمْ مِنْ ضَرَرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ».

((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ:

اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ))

 لَقَدْ أَكَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ضَرُورَةَ سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِفْسَارِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى تَقْيِيمِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّحْلِيلِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْأَزْمَاتِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ خُطْبَة: ((حَرْبُ الشَّائِعَاتِ)) - الْجُمُعَةُ 22 مِنْ رَجَب 1437هـ / 29-4-2016م.

فَأَنْكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ خَوْضَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَإِذَاعَتَهُمْ لِأَخْبَارِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنُوا حَقِيقَتَهَا، وَيَتَأَمَّلُوا فِي آثَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهُمْ بِحَسَبِ فِقْهِهِمْ بِالشَّرْعِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاقِعِ أَقْدَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَأْخُذُ بِمَا يَتَّضِحُ أَنَّهُ الْأَوْلَى مِنْ آرَاءِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَتَجَارِبِهِمْ -خَاصَّةً فِي الْأَزْمَاتِ-، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَثِيرَ الِاسْتِشَارَةِ لِأَصْحَابِهِ؛ وَالشُّورَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَلِي:

*لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ.

*وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ.

*وَلِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ، وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَغَالِبًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ؛ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَأَخْذًا بِمَا يَتَّضِحُ أَنَّهُ الْأَوْلَى مِنْ آرَائِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ، وَتَنْشِيطًا لَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ، وَمُمْتَنًّا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران : 159].

حَدَثَ ذَلِكَ أَوَّلًا فِي بَدْرٍ -كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ-، وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ: هَلْ يَقْعُدُ فِي الْمَدِينَةِ، أَوْ يَخْرُجُ إِلَى الْعَدُوِّ؟ وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِخُطَّةِ الدِّفَاعِ، ثُمَّ شَاوَرَهُمْ فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ عَامَئِذٍ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَنْصَارِ.

وَفِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا)). قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ؛ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ!!

فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ؛ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يا نَبِيَّ اللهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).

 ((مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْأَزْمَاتِ:

جَمْعُ الْمَعْلُومَاتِ وَالْحَذَرُ))

إِنَّ جَمْعَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ الْأَزْمَةِ وَأَخْذَ الْحَذَرِ وَالْحَيْطَةِ مِنْ أَهَمِّ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْجَائِحَةِ وَالْأَزْمَةِ، وَقَدْ تَجَسَّدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ -كَمَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ- مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ، وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ -كَمَا يَقُولُ فِي ((الْمَغَازِي)) الْوَاقِدِيُّ، رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.. فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَانِي عَنَاءً مُرًّا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ- يَقُولُ: ((لَمْ أَكُنْ أَرَى جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْغُبَارِ))؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ، فَكَانَ الْبَرَاءُ إِذَا مَا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ يَرَ جِلْدَةَ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يُمَيِّزْ لَهَا لَوْنًا مِمَّا تَكَاثَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْغُبَارِ وَفِي عُكَنِ بَطْنِ رَسُولِ اللهِ، يَقُولُ: ((وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ)) ﷺ، يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ، ((وَظَلَلْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ شَيْئًا، وَلَا نَجِدُ ذَوَاقًا)) يَعْنِي: لَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ يَقُودُهُمْ؛ حَتَّى فِي مَسِيرَةِ الْجُوعِ يَسِيرُ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ رَافِعًا لِوَاءَهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ خَلْفَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ مَنْ يَسِيرُ عَلَى قَدَمَيْ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا دُنْيَا فَانِيَةٌ -يَا صَاحِبِي-، وَأَنَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَتْ تُسَاوِي شَيْئًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَا تَرَكَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالثُّلَّةَ الْمُؤْمِنَةَ فِي الْخَنْدَقِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لَمْ يَذُوقُوا ذَوَاقًا، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-.

وَلَكِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَمَا حَدَّدَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ لِكُلِّ عَشْرَةٍ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا يَحْفِرُونَهَا حَفْرًا، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ نَقْلًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ سَلْعٌ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ إِلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ فِي حَامِيَةِ الرُّشْدِ عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلِيَكُونَ الْخَنْدَقُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعْهُ جُنْدُهُ، وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا عَشْرَةَ آلَافٍ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ؛ إِذْ حَزَّبَتْ يَهُودُ الْأَحْزَابَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْجَاءِ الْجَزِيرَةِ جَمِيعًا يَنْقُضُونَ أَمْرَهَا نَقْضًا بِكِنَانَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِكَيْ يَسْتَأْصِلُوا شَأْفَةَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ، وَيَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى ظَهْرِهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَا يَجِدَانِ مِكْتَلًا يَحْمِلَانِ فِيهِ التُّرَابَ، فَيَجْعَلَانِ التُّرَابَ فِي ثَوْبَيْهِمَا، وَيَحْمِلَانِ التُّرَابَ حَمْلًا.

الْأَصْحَابُ جَمِيعُهُمْ قَدْ تَشَعَّثَتْ رُءُوسُهُمْ -بَلْ تَلَبَّدَتْ رُءُوسُهُمْ- بِهَذَا التُّرَابِ الَّذِي صَيَّرَهُ الْعَرَقُ الْمُبَارَكُ طِينًا عَلَى تِلْكَ الرُّءُوسِ؛ لِيَكُونَ فَوْقَ الْهَامَاتِ كَأَنَّهُ التِّيجَانُ؛ بَلْ هُوَ التِّيجَانُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْإِطَارِ، يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة=فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة

يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ.. يَقُولُهَا مِنْ بَعْدِ انْتِبَاهِهِ مِنْ رَقْدَتِهِ؛ إِذْ أَخَذَ مِنْهُ التَّعَبُ مَأْخَذًا عَظِيمًا، فَجَلَسَ ﷺ، ثُمَّ اسْتَنَدَ بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ إِلَى صَخْرَةٍ هُنَالِكَ، فَأَخَذَ النَّوْمُ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهِ، وَوَقَفَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَاحِيَتَيْهِ يَرُدَّانِ النَّاسَ؛ لِكَيْ يَسِيرُوا مِنْ بَعِيدٍ؛ حَتَّى لَا يُحْدِثَ أَحَدٌ صَوْتًا، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْ أَحَدٍ نَأْمَةٌ بِصَوْتٍ، فَيَسْتَيْقِظَ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ رَقْدَتِهِ، يَنْشُدَانِ لَهُ بَعْضَ الرَّاحَةِ، مِنْ بَعْدِ الْعَنَاءِ، مِنْ بَعْدِ التَّعَبِ، مِنْ بَعْدِ الْجُوعِ، مِنْ بَعْدِ السَّغَبِ ﷺ، فَانْتَبَهَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة=فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة

وَأَخَذَ مِعْوَلَهُ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِيَدَيْهِ ﷺ.

جَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَخَافُونَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، عَلَى صِغَارِهِمْ وَعَلى ذُرِّيَّتِهِمْ يَخَافُونَ يَفْرَقُونَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَعْلَاهُمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَيَأْتُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ ﷺ، فَلَا يَسْتَأْذِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَذِنَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ شَرٌّ يُدْفَعُ، وَهَمٌّ يَنْجَلِي، وَأَمَّا بَقَاؤُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَغُصَّةٌ وَشَجًى فِي الْحَلْقِ -وَهُوَ شَوْكَةٌ تَعْتَرِضُ فِي الْحَلْقِ، تَعْتَرِضُ مَسِيرَ الْمَاءِ وَمَسَاغَهُ-، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْتِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ ﷺ.

يَقُولُ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاعْتَرَضَتْنَا فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ -وَهِيَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ- لَا تَعْمَلُ فِيهَا مَعَاوِلُنَا شَيْئًا))؛ بَلْ تَتَكَسَّرُ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ عِنَادِهَا مِنْ صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ جُلْمُودٍ قَدْ قَامَتْ هُنَالِكَ.. قَامَتْ قَائِمَةً فِي جَوْفِ الْخَنْدَقِ مُعْتَرِضَةً تَتَحَدَّى بِرَأْسِهَا شَامِخَةً، تَتَكَسَّرُ عَلَيْهَا حَدِيدُ تِلْكَ الْفُئُوسِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ لَهَا إِلَّا النَّبِيُّ ﷺ؟!!

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اعْتَرَضَتْنَا كُدْيَةٌ))؛ لِيَتَأَتَّى النُّورُ مِنْ قَلْبِ الظَّلَامِ، مُنْفَجِرًا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَيَنْزِلُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَذُقْ ذَوَاقًا، يَنْزِلُ الرَّسُولُ ﷺ، فَيَضْرِبُهَا بِمِعْوَلِهِ، فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَلُ.. فَإِذَا هِيَ كَثِيبٌ أَهْيَمُ يَتَنَاثَرُ تُرَابًا!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُهَا بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..

النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْعَنَاءِ الْمُرِّ، وَفِي هَذَا الْعَنَتِ الْعَانِتِ مَعَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَالَ حُذَيْفَةُ: ((إِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْخَنْدَقِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلَى الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي لَيْلَةٍ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ، وَمِنْ شِدَّةِ الْخَطْبِ، وَمِنْ عَظِيمِ الْعَنَاءِ مِمَّا أَصَابَ قُلُوبَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!)).

يَقُولُهَا مَرَّةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَانِيَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَالِثَةً فَلَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكَ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْآنَ؛ نَبِيُّكَ ﷺ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِكَ يَقُولُ: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!))، تَحْظَى بِالرُّفْقَةِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَشْتَرِطُ الرَّجْعَةَ، يَشْتَرِطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَلَرُبَّمَا فَهِمَهَا الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى أَنَّ مَنْ ذَهَبَ فَلَمْ يَعُدْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ عَلَى الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ إِذْ شَرَطَ الرَّجْعَةَ إِلَيْهِ: ((يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ)).

وَلَكِنْ لَوْ أَنَّكَ تَأَمَّلْتَ فِي الْأَمْرِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي كَانَ فِيهِ؛ مِنَ الْهَوْلِ الْهَائِلِ، وَالشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَالْكَرْبِ الْكَارِبِ، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا وَصَفَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْقَرِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَنْخَرُ فِي الْعِظَامِ نَخْرًا، مِنَ الْبَرْدِ الْعَنِيفِ الَّذِي يُحِيطُ الرَّجُلَ يُجَلِّلُهُ، كَأَنَّمَا يَجْعَلُهُ فِي طَوْقٍ مِنْ حَدِيدٍ!!

هَذَا الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَزْأَرُ كَأَمْثَالِ الْعَوَاصِفِ، وَلَوْ أَخْرَجَ الرَّجُلُ أُصْبَعَهُ لَمْ يَرَهُ، كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِ الْحَالِ، وَهُنَالِكَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي أَخَذَ بِالْقُلُوبِ؛ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَهُمْ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ الْآنَ تِلْكَ الْأَعْيُنَ الَّتِي زَاغَ بَصَرُهَا، وَتِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي عَلَتْ بِخَوْفِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لَمْ يَقُمْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، وَمَعَ أَنَّكَ إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ فِي الْكَلَامِ بَعِيدًا عَنِ الظَّرْفِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ؛ تَجِدُ فِيهِ أَوْ تَشُمُّ مِنْ خِلَالِهِ رَائِحَةَ الْوَعْدِ بِالْعَوْدَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: ((أَلَا هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟!!))؛ يَكُونُ رَفِيقَ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْجَنَّةِ؟ لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ!

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((وَكُنْتُ هُنَالِكَ فِي مِرْطٍ لِامْرَأَتِي -فِي مِلَاءَةٍ لِامْرَأَتِهِ قَدْ تَلَفَّحَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ؛ إِذْ جَعَلُوا النِّسَاءَ خِلْفَةً-، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُومُ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ بِإِزَائِي، قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!))؛ تَقَاصَرْتُ لِلْأَرْضِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

هُوَ يُشْفِقُ الْآنَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَيُعَيِّنُهُ، فَإِذَا مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((يَا حُذَيْفَةُ!)).

قَالَ: ((لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!))، وَهُوَ يَتَقَاصَرُ إِلَى الْأَرْضِ.

قَالَ: ((اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ))؛ يَعْنِي: لَا تُحَفِّزْهُمْ عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ شَخْصُكَ هُنَالِكَ؛ رُبَّمَا ظَنُّوا أَنَّكَ طَلِيعَةٌ لِهُجُومٍ شَامِلٍ عَلَيْهِمْ؛ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَثَرْتَ ثَائِرَتَهُمْ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: ((أَخَذَنِي مِنَ الْبَرْدِ مَا أَقْبَلَ بِي وَأَدْبَرَ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْخَوْفِ مَا ارْتَكَزَ فِي الْقَلْبِ ارْتِكَازًا)).

وَأَمَّا الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي صَرَاحَةٍ مَعْهُودَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

((وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ))؛ وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ مَضَيْتُ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى ذَهَبَ مِنِّي وَمِنْ قَلْبِي كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنْ خَوْفٍ وَقَرٍّ، وَكَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ)).

فَاجْتَازَ الْخَنْدَقَ وَذَهَبَ، وَكَانَتِ الرِّيحُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا هُنَالِكَ فِي الْأَحْزَابِ، كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَانَتْ تَكْفِأُ الْقُدُورَ، وَكَانَتْ تُطَيِّرُ الْخِيَامَ، وَتَقْتَلِعُ الْأَوْتَادَ، وَتُقَطِّعُ الْأَسْبَابَ تُقَطِّعُ الْحِبَالَ، وَيُلْقِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الذُّعْرِ وَمِنَ الرُّعْبِ وَمِنَ الْمَخَافَةِ مَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلِيمٌ.

يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((فَلَمَّا تَحَصَّلْتُ هُنَالِكَ؛ كُنْتُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُصْلِي ظَهْرَهُ النَّارَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ هُوَ، وَإِذَا بِهِ يَقُولُ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ)).

وَأَمَّا حُذَيْفَةُ، ذَلِكَ الطَّلِيعَةُ الرَّبِيئَةُ الَّذِي اخْتَّصَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ الِاسْتِطْلَاعِيَّةِ الِاسْتِكْشَافِيَّةِ لِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْمَهُولَةِ وَالْمَوْقِعَةِ الْحَاسِمَةِ، أَمَّا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَلَا تَغِيبُ عَنْهُ فِطْنَتُهُ، فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ يُمْسِكُ بِيَدَيْ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، يَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟

يَقُولُ: أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.

مَنْ أَنْتَ؟

أَنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

فَيَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ.

أَمَّا حُذَيْفَةُ؛ فَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُمْسِكَ أَحَدٌ بِيَدِهِ لِيَسْأَلَهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِزِمَامِ الْمُبَادَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ: ((فَلَمَّا رَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ؛ وَضَعْتُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي)).

حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، يَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، فَجَعَلَ فَضْلَهَا -يَعْنِي: جَعَلَ شَيْئًا مِنْهَا- عَلَى حُذَيْفَةَ؛ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ إِلْقَاءِ بَيَانِهِ الَّذِي أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ؛ عَادَ الْبَرْدُ إِلَيْهِ، يَقُولُ: ((وَإِذَا أَنَا أُقَرْقِفُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الْعَبَاءَةِ عَلَيَّ، وَأَخَذَ يُصَلِّي حَامِدًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَشَاكِرًا)).

يَقُولُ: ((وَأَخَذَنِي النَّوْمُ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحْتُ)).

يَقُولُ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قُمْ يَا نَوْمَانُ!))، فَقَامَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((ابْتِلَاءُ اللهِ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.

إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.

إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ؛ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ؛ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.

وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو -أَيْضًا- أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ.

«إِنَّ اللهَ يُرَبِّي عَبْدَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ، فَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ عُبُودِيَّتَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِعُبُودِيَّةِ اللهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا عَبْدُ السَّرَّاءِ وَالْعَافِيَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَلَيْسَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِعُبُودِيَّتِهِ.

فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِى يَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الِابْتِلَاءِ وَالْعَافِيَةِ هُوَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا إِيمَانُ الْعَافِيَةِ؛ فَلَا يَكَادُ يَصْحَبُ الْعَبْدَ وَيُبَلِّغُهُ مَنَازِلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَصْحَبُهُ إِيمَانٌ يَثْبُتُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَيَثْبُتُ عَلَى الْعَافِيَةِ.

فَالِابْتِلَاءُ كِيرُ الْعَبْدِ، وَمَحَكُّ إِيمَانِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ تِبْرًا أَحْمَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ زَغَلًا مَحْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مَادَّتَانِ: ذَهَبِيَّةٌ، وَنُحَاسِيَّةٌ، فَلَا يَزَالُ بِهِ الْبَلَاءُ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَادَّةَ النُّحَاسِيَّةَ مِنْ ذَهَبِهِ، وَيَبْقَى ذَهَبًا خَالِصًا.

فَلَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْبَلَاءِ لَيْسَتْ بِدُونِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْعَافِيَةِ؛ لَشَغَلَ قَلْبَهُ بِشُكْرِهِ، وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».

وَكَيْفَ لَا يَشْكُرُ مَنْ قَيَّضَ لَهُ مَا يَسْتَخْرِجُ خَبَثَهُ وَنُحَاسَهُ، وَصَيَّرَهُ تِبْرًا خَالِصًا يَصْلُحُ لِمُجَاوَرَتِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي دَارِهِ؟!!».

«فَكَمَا عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ لِرَبِّهِ فِي حَالِ رَخَائِهِ؛ فَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ فِي حَالِ الشِّدَّةِ».

((ثَمَرَاتُ الثَّبَاتِ عِنْدَ مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ))

إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً، وَأَعْظَمُهُمْ صَبْرًا وَثَبَاتًا فِي الْمِحَنِ وَالْأَزْمَاتِ، وَأَكْثَرُهُمْ أَمَلًا وَرَجَاءً فِي رَحْمَةِ اللهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمِحَنِ وَرَفْعِ الْكُرَبِ، وَحَيَاتُهُمْ هِيَ الْأُسْوَةُ، وَأَفْعَالُهُمُ الْقُدْوَةُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

«أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْهِدَايَةِ؛ فَاتَّبِعْ يَا رَسُولَ اللهِ هُدَاهُمْ، وَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ».

وَهَذِهِ ثَمَرَةُ صَبْرِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مِحْنَةِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْوَلَدِ زَمَنًا طَوِيلًا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 100-101].

«قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ، فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-».

وَهَذِهِ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ سَيَرْزُقُهُ وَلَدًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51-56].

«وَأَخْبِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ الْخَبَرَ الْهَامَّ وَقْتَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ سَلَامًا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ خَائِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا الْعِجْلَ السَّمِينَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ إِذْ كَانَ مَظْهَرُهُمْ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَنِمُّ عَلَيْهِ.

قَالَ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُمْ ضَيْفٌ مِنَ الْبَشَرِ-: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٍ فِي كِبَرِهِ، سَيَأْتِيكَ مِنْ زَوْجِكَ سَارَّةَ، وَهُوَ إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَنَحْنُ مَلَائِكَةٌ، رُسُلٌ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ؛ لِنُقَدِّمَ لَكَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ.

فَلَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ؛ عَجِبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي بِالْوَلَدِ مَعَ مَسِّ الْكِبَرِ بِي وَالشَّيْخُوخَةِ الْمُضْعِفَةِ عَادَةً عَنِ الْإِنْجَابِ؟!! فَبِأَيِّ سَبَبٍ لَدَيَّ أَمْلِكُهُ يَكُونُ مِنْ آثَارِهِ أَنْ أُنْجِبَ وَلَدًا؛ فَأَنْتُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِهِ؟!!

قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ، بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْكَ وَلَدًا ذَكَرًا تَكْثُرُ ذُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ إِسْحَاقُ؛ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْخَيْرِ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَحَدَ يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ».

وَهَذَا يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- آتَاهُ اللهُ ثَمَرَاتِ ثَبَاتِهِ وَصَبْرِهِ فِي مِحْنَتِهِ الشَّدِيدَةِ بِفَقْدِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، «إِنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ أَحْسَنِ الْقِصَصِ وَأَوْضَحِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّنَقُّلَاتِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؛ مِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِحْنَةٍ، وَمِنْ مِحْنَةٍ إِلَى مِنْحَةٍ وَمِنَّةٍ، وَمِنْ ذُلٍّ إِلَى عِزٍّ، وَمِنْ أَمْنٍ إِلَى خَوْفٍ، وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ مِلْكٍ إِلَى رِقٍّ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ فُرْقَةٍ وَشَتَاتٍ إِلَى انْضِمَامٍ وَائْتِلَافٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ سُرُورٍ إِلَى حُزْنٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ رَخَاءٍ إِلَى جَدْبٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ ضِيقٍ إِلَى سَعَةٍ وَبِالْعَكْسِ، وَمِنْ وُصُولٍ إِلَى عَوَاقِبَ حَمِيدَةٍ؛ فَتَبَارَكَ مَنْ قَصَّهَا وَجَعَلَهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ».

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 83-92].

«قَالَ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَصَبْرِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ صَبْرٌ جَمِيلٌ، لَا شَكْوَى مَعَهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا لَا يَرْضَى عَنْهُ رَبِّي؛ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ، وَبِنْيَامِينَ، وَالْأَخِ الثَّالِثِ الَّذِي أَقَامَ بِمِصْرَ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحُزْنِي وَوَجْدِي عَلَيْهِمْ، الْحَكِيمُ بِمَا يُدَبِّرُهُ وَيَقْضِيهِ.

وَابْتَعَدَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ بَنِيهِ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَالَ: يَا حُزْنِيَ الشَّدِيدَ عَلَى يُوسُفَ دُمْ، وَصَارَ يَبْكِي بُكَاءً كَثِيرًا، وَانْقَلَبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بَيَاضًا، وَضَعُفَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ عَلَى يُوسُفَ، فَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْحُزْنِ، مُمْسِكٌ عَلَيْهِ دَاخِلَ نَفْسِهِ لَا يَبُثُّهُ.

وَلَا يَتَنَافَى هَذَا الْحُزْنُ مَعَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٍّ، لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَلَا رَفْعَهُ؛ لَكِنْ يَمْلِكُ أَلَّا يَعْمَلَ أَوْ يَقُولَ مَا لَا يُرْضِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا يَمْلِكُ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ خَاضِعٍ لِإِرَادَتِهِ.

قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: تَاللهِ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ تَفَجُّعًا، وَلَا تَفْتُرُ عَنْ حُبِّهِ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ شَدِيدَ الْمَرَضِ، مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، فَلَا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْأَمْوَاتِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْأَسَى.

قَالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لِأَبْنَائِهِ: مَا أَشْكُو مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ وَالْغَمِّ وَالْحَزَنِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، لَا إِلَيْكُمْ؛ فَهُوَ وَحْدَهُ كَاشِفُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ.

وَإِنْ كُنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَى شَكْوَايَ لِرَبِّي عَلَى حَالِي الَّتِي لَا أَمْلِكُ التَّغْيِيرَ فِيهَا، وَعَلَى حُزْنِي الَّذِي لَا أَمْلِكُ صَرْفَهُ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَرَجِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ، وَسَيَأْتِينِي بِالْفَرَجِ الْقَرِيبِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ».

«قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}؛ أَيِ: احْرِصُوا وَاجْتَهِدُوا عَلَى التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا، {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ}؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فَيمَا رَجَاهُ، وَأَمَّا الْإِيَاسُ؛ فَيُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ: فَضْلُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ.

{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}: فَإِنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ، وَرَحْمَتُهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُمْ؛ فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ.

وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَجَاؤُهُ لِرَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.

فَذَهَبُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}؛ أَيْ: قَدِ اضْطُرِرْنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عَنْهَا؛ لِقِلَّتِهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِهَا الْمَوْقِعَ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ الْعِوَضِ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِالزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاجِبِ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} بِثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ؛ رَقَّ لَهُمْ يُوسُفُ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَعَاتَبَهُمْ، فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}؟!!

أَمَّا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَظَاهِرٌ فِعْلُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَخُوهُ؛ فَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- قَوْلُهُمْ: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}، أَوْ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ هُمُ السَّبَبُ فِيهِ، وَهُمُ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لَهُ. 

{إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}: وَهَذَا نَوْعُ اعْتِذَارٍ لَهُمْ بِجَهْلِهِمْ، أَوْ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ مِنْهُمْ.

فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ هُوَ يُوسُفُ، فَقَالُوا: {أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَـ{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}؛ أَيْ: يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ، وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أَيْ: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَأَسَأْنَا إِلَيْكَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَحَرِصْنَا عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْكَ، وَالتَّبْعِيدِ لَكَ عَنْ أَبِيكَ، فَآثَرَكَ اللهُ تَعَالَى، وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ، {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}؛ وَهَذَا غَايَةُ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِالْجُرْمِ الْحَاصِلِ مِنْهُمْ عَلَى يُوسُفَ.

فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -كَرَمًا وَجُودًا-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَلُومُكُمْ، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

فَسَمَحَ لَهُمْ سَمَاحًا تَامًّا، مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ، وَدَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، وَخِيَارِ الْمُصْطَفَيْنَ».

«هَذِهِ الْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي امْتَحَنَ اللهُ بِهَا نَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ إِذْ قَضَى بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ يُوسُفَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَيُحْزِنُهُ أَشَدَّ الْحَزَنِ، فَتَمَّ لِهَذِهِ الْفُرْقَةِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ وَيَعْقُوبُ لَمْ يُفَارِقِ الْحُزْنُ قَلْبَهُ، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، ثُمَّ ازْدَادَ بِهِ الْأَمْرُ حِينَ اتَّصَلَ فِرَاقُ الِابْنِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَابِرٌ لِأَمْرِ اللهِ، مُحْتَسِبٌ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ وَفَّى بِمَا وَعَدَ بِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 86]؛ فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَى اللهِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُنَافِيهِ الشَّكْوَى إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ دَرَجَاتٍ عَالِيَةً، وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةً لَا تُنَالُ إِلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ».

وَهَذَا أَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ  بِأَنْ مَنَحَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعَافِيَةَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، حَيْثُ صَبَرَ وَرَضِيَ، فَأَثَابَهُ اللهُ ثَوَابًا عَاجِلًا قَبْلَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].

«وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا- مَا دَعَا بِهِ أَيُّوبُ رَبَّهُ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَطَالَ أَمَدُهُ فِيهِ؛ حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّهِ؛ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ؛ فَاكْشِفْهُ عَنِّي، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ، فَأَزَلْنَا مَا بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي جَسَدِهِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ مَا فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ؛ رَحْمَةً عَظِيمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى الْبَلَاءِ، رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ، مُنْقَادٍ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ».

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْحَالَ الَّتِي أَدْرَكَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ حَاصَرَهُمُ الْأَحْزَابُ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرُوهُ؛ لِلدِّفَاعِ عَنْ وُجُودِهِمْ، وَحِمَايَةِ بَلَدِهِمْ مِنْ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَوَامِعَ الْبِشْرِ، وَمَسَالِكَ النَّصْرِ الَّذِي آتَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي تَبْدِيدِ هَذِهِ الْمَخَاوِفِ، وَكَسْرِ عَصَا هَذِهِ الْجُمُوعِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَقَالَ -أَيْضًا- فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].

فَالزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْخَوْفُ وَبُلُوغُ الرُّعْبِ وَالشِّدَّةِ قُلُوبَ الْعِبَادِ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ، أَمَّا الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ عِبَادِهِ بِالْفَرَجِ؛ فَحَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ حَالِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعِبَادُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].

 ((إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا؛ فَلْيَكُنِ الْمُسْلِمُ عَلَى أَمَلٍ دَائِمٍ بِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 1-6].

«قَدْ فَتَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَوَسَّعْنَاهُ لِلْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلْنَاهُ مُنْبَسِطًا رَاضِيًا، وَمُتَحَمِّلًا لِأَعْبَاءِ حَمْلِ الرِّسَالَةِ، وَتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ، وَمُتَحَمِّلًا أَخْلَاقَهُمْ.

وَحَطَطْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ هُمُومٍ كُبْرَى لِإِصْلَاحِ قَوْمِكَ، وَإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَبَائِثِهَا وَظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا.

فَبَيَّنَ لَكَ وَسَائِلَ التَّبْلِيغِ، وَأَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ، فَأَلْقَى عَنْكَ كُلَّ هُمُومِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ تَعْلِيمَاتٍ وَأَوَامِرَ رَبَّانِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ مَنْهَجَ دَعْوَتِكَ.

وَأَعْلَيْنَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ذِكْرَكَ الْحَسَنَ؛ إِذْ جَعَلْتُكَ رَسُولًا، وَاسْتَمَرَّ عَطَائِي لَكَ حَتَّى إِذَا ذُكِرْتُ؛ ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِنَّ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ يُسْرًا وَرَخَاءً عَاجِلًا، فَإِنْ يُظْهِرْكَ اللهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ؛ فَذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْ بَعْدِ التَّعْسِيرِ.

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا كَذَلِكَ؛ فَكُنْ عَلَى أَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَلَقَّ الْأَحْدَاثَ الْحَاضِرَةَ الْمُؤْلِمَةَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَبِنَفْسٍ مُنْشَرِحَةٍ مَشْحُونَةٍ بِالْأَمَلِ فِيمَا سَيَأْتِي، صَابِرَةٍ عَلَى الْعُسْرِ الْوَاقِعِ.

فَالنَّفْسُ الْمَشْحُونَةُ بِأَمَلِ الْيُسْرِ الْقَادِمِ يَضْمُرُ لَدَيْهَا أَلَمُ الْعُسْرِ الْقَائِمِ، وَمُنْتَظِرُ الْفَجْرِ الْقَرِيبِ لَا يَشْعُرُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْقَاتِمِ».

«إِنَّ الْفَرَجَ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاكَمَتِ الشَّدَائِدُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَضَاقَ الْعَبْدُ ذَرْعًا بِحَمْلِهَا؛ فَرَّجَهَا فَارِجُ الْهَمِّ، كَاشِفُ الْغَمِّ، مُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهَذِهِ عَوَائِدُهُ الْجَمِيلَةُ؛ خُصُوصًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ لِيَكُونَ لِذَلِكَ الْوَقْعُ الْأَكْبَرُ، وَالْمَحَلُّ الْأَعْظَمُ، وَلِيَجْعَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ مَا يُوَازِنُ وَيَرْجَحُ بِمَا جَرَى عَلَى الْعَبْدِ بِلَا نِسْبَةٍ».

«فَسُبْحَانَ مَنْ يُنْعِمُ بِبَلَائِهِ، وَيَلْطُفُ بِأَصْفِيَائِهِ، وَهَذَا عُنْوَانُ الْإِيمَانِ، وَعَلَامَةُ السَّعَادَةِ».

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنَّا، وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِنَا مَا نَزَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  أهداف المجوس في المملكة السعودية
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  مَعَانِي الْخِيَانَةِ وَخَطَرُهَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  لقد صاروا جميعًا من أهل السياسة !!
  سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضوء الشرع الحنيف
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 1
  الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ
  مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
  الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان