عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ

عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ  بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ

((عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ

بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصِّيَامِ))

فَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ، مِنْ ذَلِكَ: بُلُوغُ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.

وَفِيهِ تَنْشِيطٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُنَافِسُوا غَيْرَكُمْ فِي تَكْمِيلِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى صَالِحِ الْخِصَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي [خُصِّصْتُمْ]  بِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ، وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ.

فَمِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْوَى: أَنَّ الصَّائِمَ يَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَنَحْوِهَا، الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللهِ، رَاجِيًا بِتَرْكِهَا ثَوَابَهُ؛ فَهَذَا مِنَ التَّقْوى.

وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّائِمَ يُدَرِّبُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، فَيَتْرُكُ مَا تَهْوَى نَفْسُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ بِاطِّلَاعِ اللهِ عَلَيْهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الصِّيَامَ يُضَيِّقُ مَجَارِيَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ؛ فَبِالصِّيَامِ يَضْعُفُ نُفُوذُهُ، وَتَقِلُّ مِنْهُ الْمَعَاصِي.

وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّائِمَ فِي الغَالِبِ تَكْثُرُ طَاعَتُهُ، وَالطَّاعَاتُ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَنِيَّ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الجُوعِ؛ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ الْمُعْدِمِينَ، وَهَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى)).

فَتَحْصِيلُ التَّقْوَى الْغَايَةُ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ.

وَالتَّقْوَى فِي أَخْصَرِ تَعْرِيفَاتِهَا: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ فَهُوَ الْمُتَّقِي حَقًّا.

وَهِيَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ، مَعَ تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللهَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سُلُوكُهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَأَكَبَّ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ صَائِمٌ؛ فَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ)) .

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الصِّيَامَ هُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ.

وَهُوَ سِرٌّ أَيِ: الصِّيَامُ- بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ [الْخَلْقُ]، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ.

وَلِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وحِمْيَتِهَا عَنِ التَّخْلِيطِ الْجَالِبِ لَهَا الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ الَّتِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا أَفْسَدَتْهَا، وَاسْتِفْرَاغِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا؛ فَالصَّوْمُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ صِحَّتَهَا، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَتْهُ مِنْهَا أَيْدِي الشَّهَوَاتِ؛ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التَّقْوَى.

كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»)).

((شَهْرُ الْقُرْآنِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْغُفْرَانِ))

عِبَادَ اللهِ! هَا نَحْنُ نُوَدِّعُ شَهْرَ شَعْبَانَ، وَنَقِفُ عَلَى عَتَبَاتِ شَهْرٍ مُبَارَكٍ، شَهْرِ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، شَهْرِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، شَهْرِ الْيُسْرِ وَالشُّكْرِ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

(({شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أَيِ: الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ عَلَيْكُمْ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، الشَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْهِدَايَةِ لِمَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَبْيِينِ الْحَقِّ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ، وَالْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ؛ فَحَقِيقٌ بِشَهْرٍ هَذَا فَضْلُهُ وَهَذَا إِحْسَانُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْسِمًا لِلْعِبَادِ مَفْرُوضًا فِيهِ الصِّيَامُ.

فَلَمَّا قَرَّرَهُ، وَبَيَّنَ فَضِيلَتَهُ وَحِكْمَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي تَخْصِيصِهِ؛ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هَذَا فِيهِ تَعْيِينُ الصِّيَامِ عَلَى الْقَادِرِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّسْخُ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدَاءِ خَاصَّةً؛ أَعَادَ الرُّخْصَةَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ -أَيْضًا- مَنْسُوخَةٌ، فَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَيْ: يُرِيدُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْكُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضْوَانِهِ أَعْظَمَ تَيْسِيرٍ، وَيُسَهِّلَهَا أَشَدَّ تَسْهِيلٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ فِي أَصْلِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الْمُوجِبَةِ لِثِقَلِهِ؛ سَهَّلَهُ تَسْهِيلًا آخَرَ؛ إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهَا جَمِيعُ الشَّرْعِيَّاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}: وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِبَعْضِهِ، دَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِالْأَمْرِ بِتَكْمِيلِ عِدَّتِهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ إِتْمَامِهِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَتَسْهِيلِهِ وَتَبْيِينِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ انْقِضَائِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ إِلَى فَرَاغِ خُطْبَةِ الْعِيدِ)).

يَمْدَحُ -تَعَالَى- شَهْرَ الصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ بِأَنِ اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِهِنَّ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهِ، وَكَمَا اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الذِي كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَنْزِلُ فِيهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ .

عَنْ وَاثِلَةَ يَعْنِي: ابْنَ الْأَسْقَعِ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ)).

أَمَّا الصُّحُفُ، وَالتَّوْرَاةُ، وَالزَّبُورُ، وَالْإِنْجِيلُ؛ فَنَزَلَ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى النَّبِيِّ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْقُرْآنُ؛ فَإِنَّمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 1]، وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدُّخَانِ: 3]، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ مُفَرَّقًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

هَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَطِيَّةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: ((وَقَعَ فِي قَلْبِي الشَّكُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وَقَدْ أُنْزِلَ فِي شَوَّالٍ، وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ، وَفِي الْمُحَرَّمِ، وَصَفَرٍ، وَشَهْرِ رَبِيعٍ)).

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ تَرْتِيلًا فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدُويَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ)).

وَقَوْلُهُ: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}: هَذَا مَدْحٌ لِلْقُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هَدًى لِقُلُوبِ الْعِبَادِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ {وَبَيِّنَاتٍ} أَيْ: وَدَلَائِلَ وَحُجَجًا بَيِّنَةً وَاضِحَةً جَلِيَّةً لِمَنْ فَهِمَهَا وَتَدَبَّرَهَا، دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى الْمُنَافِي لِلضَّلَالِ، وَالرُّشْدِ الْمُخَالِفِ لِلْغَيِّ، وَمُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: هَذَا إِيجَابُ حَتْمٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ اسْتِهْلَالَ الشَّهْرِ، أَيْ: كَانَ مُقِيمًا فِي الْبَلَدِ حِينَ دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَصُومَ لَا مَحَالَةَ، وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَنْ يُفْطِرَ، وَيَفْدِيَ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ.

وَلَمَّا حَتَّمَ الصِّيَامَ؛ أَعَادَ ذِكْرَ الرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ بِشَرْطِ الْقَضَاءِ، فَقَالَ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ: وَمَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ فِي بَدَنِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ أَوْ يُؤْذِيهِ، أَوْ كَانَ عَلَى سَفَرٍ أَيْ: فِي حَالِ سَفَرٍ-؛ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَإِذَا أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ بِعِدَّةِ مَا أَفْطَرَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْأَيَّامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَيْ: إِنَّمَا رَخَّصَ لَكُمْ فِي الْفِطْرِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَفِي السَّفَرِ، مَعَ تَحَتُّمِهِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ؛ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بِكُمْ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أَيْ: إِنَّمَا أَرْخَصَ لَكُمْ فِي الْإِفْطَارِ لِلْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَعْذَارِ؛ لِإِرَادَتِهِ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِالْقَضَاءِ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِكُمْ .

وَقَوْلُهُ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أَيْ: وَلِتَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عِبَادَتِكُمْ، كَمَا قَالَ : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [الْبَقَرَةِ: 200]، وَقَالَ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النِّسَاءِ: 103]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الْجُمُعَةِ: 10]، وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39-40]؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِاسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ))؛ وَلِهَذَا أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَشْرُوعِيَّةَ التَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}.

 وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ: إِذَا قُمْتُمْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنْ طَاعَتِهِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَتَرْكِ مَحَارِمِهِ، وَحِفْظِ حُدُودِهِ؛ فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ بِذَلِكَ)).

إِنَّ رَمَضَانَ مَوْسِمٌ لِاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: «إِنَّ لِلهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ  فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ  فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ  لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا  فَقَدْ حُرِمَ » . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

شَهْرُ رَمَضَانَ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الآيَاتِ المُبْهِرَةَ، مِنْهَا: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».

وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ».

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنِ الرَّسُولِ : «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ؛ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ».

مَوْسِمٌ مَفْتُوحٌ مِنْ عَطَاءَاتِ وَفُيُوضَاتِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

((اسْتِقْبَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كَرَامَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى طَاعَتِهِ؛ فَيَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ بِذَلِكَ ذُنُوبَهُمْ، وَيَحُطُّ عَنْهُمْ آثَامَهُمْ وَأَوْزَارَهُمْ.

وَمِمَّا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الْعَظِيمَةِ -الَّتِي تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، وَتُحَطُّ فِيهَا السَّيِّئَاتُ، وَتُضَاعَفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ-: مَا أَكْرَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أُمَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، الَّذِي أَكْرَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ زَمَانَهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَرَضَ فِيهِ الصِّيَامَ، وَسَنَّ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ فِيهِ الْقِيَامَ، وَيُضَاعِفُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْعَطِيَّاتِ، وَيَبْذُلُ فِيهِ لِلْمُحْسِنِينَ الدَّرَجَاتِ، وَيُقَرِّبُهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ رِضْوَانِهِ تَقْرِيبًا.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْخُلُ عَلَى مَوَاسِمِ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ هَدْيَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ رَمَضَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالتِّلَاوَةِ فِي رَمَضَانَ.

يَظَلُّونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، وَيَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَمَضَانَ.

فَهِيَ حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ مُتَأَهِّبَةٌ مُتَوَثِّبَةٌ مُتَرَقِّبَةٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ الْجَلِيلِ الْعَظِيمِ، يَرُدُّ الْإِنْسَانُ الْمَظَالِمَ، وَيَدْخُلُ الشَّهْرَ مُسْتَعِدًّا لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ، مُحْتَسِبًا ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ.

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِالْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! وَنَحْنُ عَلَى عَتَبَاتِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَهُ بِقُلُوبٍ مُخْلِصَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ فِي عَفْوِ اللهِ -تَعَالَى- وَكَرَمِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَلِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ مِنَحٌ وَعَطَاءَاتٌ لِعِبَادِهِ؛ فَيَمُدُّهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْكَبِيرِ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَالْعَطَاءِ الْعَمِيمِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).

فَالصَّومُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا، وَهُوَ يَجْزِي عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَبِمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ، مُتَّبِعًا هَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: «إِنَّ لِلهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ».

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجُودِ وَالْعَطَاءِ))

عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِقُلُوبٍ عَامِرَةٍ، وَنُفُوسٍ طَاهِرَةٍ، وَأَنْ نَغْتَنِمَهُ بِالتَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّرَاحُمِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجُودِ وَالْعَطَاءِ، وَقَدْ بَشَّرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكَرِيمِ الثَّوَابِ وَجَزِيلِ الْعَطَاءِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20].

(({وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنَ الْخَيْرِ يُقَابِلُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا فِي دَارِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالْبِرَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَادَّةُ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فِي دَارِ الْقَرَارِ، وَبِذْرُهُ وَأَصْلُهُ وَأَسَاسُهُ؛ فَوَاأَسَفَاهُ عَلَى أَوْقَاتٍ مَضَتْ فِي الْغَفَلَاتِ، وَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى أَزْمَانٍ تَقَضَّتْ فِي غَيْرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَوَاغَوْثَاهُ مِنْ قُلُوبٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا وَعْظُ بَارِئِهَا، وَلَمْ يَنْجَعْ فِيهَا تَشْوِيقُ مَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِهَا مِنْ نَفْسِهَا؛ فَلَكَ اللَّهُمَّ الْحَمْدُ، وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ.

{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: وَفِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى أَفْعَالِ الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ فَائِدَةٌ كَبِيرَةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو مِنَ التَّقْصِيرِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ؛ إِمَّا أَلَّا يَفْعَلَهُ أَصْلًا، أَوْ يَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ نَاقِصٍ، فَأَمَرَ بِتَرْقِيعِ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُذْنِبُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَمَتَى لَمْ يَتَغَمَّدْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَإِنَّهُ هَالِكٌ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].

((لَنْ تَنَالُوا وَتُدْرِكُوا الْبِرَّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} مِنْ أَطْيَبِ أَمْوَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا؛ فَإِنَّ النَّفَقَةَ مِنَ الطَّيِّبِ الْمَحْبُوبِ لِلنُّفُوسِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى سَمَاحَةِ النَّفْسِ، وَاتِّصَافِهَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَرَحْمَتِهَا وَرِقَّتِهَا، وَمِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى قُوَّةِ التَّعَلُّقِ بِهَا، فَمَنْ آثَرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ؛ فَقَدْ بَلَغَ الذُّرْوَةَ الْعُلْيَا مِنَ الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ الطَّيِّبَاتِ، وَأَحْسَنَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ؛ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَوَفَّقَهُ أَعْمَالًا وَأَخْلَاقًا لَا تُحَصَّلُ بِدُونِ هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَأَيْضًا فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ كَانَ قِيَامُهُ بِبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَمَعَ أَنَّ النَّفَقَةَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ هِيَ أَكْمَلُ الْحَالَاتِ؛ فَمَهْمَا أَنْفَقَ الْعَبْدُ مِنْ نَفَقَهٍ قَلِيلَةٍ أَوْ كَثِيرَةٍ مَنْ طَيَّبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وَسَيَجْزِي كُلَّ مُنْفِقٍ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، سَيَجْزِيهِ فِي الدُّنْيَا بِالْخَلَفِ الْعَاجِلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الْآجِلِ)).

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ؛ فَهَذَا مَحَلٌّ لِلتَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْجُودِ وَالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُمَارِسُ ذَلِك فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا.

 «وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» يَعْنِي: يَبْلُغُ الْجُودُ مِنْهُ غَايَةَ الْوُسْعِ؛ بِحَيْثُ لَا جُودَ فَوْقَ جُودِهِ يَكُونُ لِمَخْلُوقٍ أَبَدًا ﷺ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُبَيِّنُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ طَرِيقَةً عَمَلِيَّةً لِلْخُرُوجِ مِنْ قَيْدِ النَّفْسِ، وَمِنْ أَسْرِ شُحِّهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَدَرَّبَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَيَجْعَلُهَا النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً مِن حَالَاتِ الْبَذْلِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: «وَابْتِسَامُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صدَقَةٌ».

 وَمَا هِيَ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى بَاطِنٍ مُنْبَسِطٍ لِخَلْقِ اللهِ الْـمُؤْمِنِينَ.

وَأَمَّا كَزَازَةُ الطَّبْعِ، وَأَمَّا الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ وَالفَظَاظَةُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُبِضَّ شَيْئًا مِنَ ابْتِسَامٍ، وَلَا شَيْئًا مِنْ فَرَحٍ يَلْقَى بِهِ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا، وَيُلَاقِي بِهِ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا.

فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا وَصَفَ ابْنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- حَالَهُ: «أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ».

وَكَانَ هُوَ فِي حَالَتِهِ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ ﷺ؛ فَفِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.

تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

 قَالُوا: الشَّمْلَةُ.

 قَالَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا.

فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَلَبِسَهَا.

 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْسُنِيهَا.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ»، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.

 ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ أَيْ: أَصْحَابُ الرَّجُلِ، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَائِمِينَ، وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا، قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-، وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.

فَكَانَتْ!!

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، كَمَا فِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ .

فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.

فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

 يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

 وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَه.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَكْرَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْمَلَ النَّاسِ.

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، يَقُولُ النَّبِيُّ : «يَمِينُهُ مَلْأَي، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ».

نَعَمْ! لَو أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ..

لَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ؛ قَالَ : ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا؛ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)) . وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَهَذِهِ دَعْوَتُنَا لِأَهْلِ الْخَيْرِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ: ((يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ))؛ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَنَا فِي رَمَضَانَ جَائِعٌ وَلَا مِسْكِينٌ وَلَا مُحْتَاجٌ إِلَّا قَضَيْنَا -مُتَكَاتِفِينَ- حَوَائِجَهُمْ، وَأَغْنَيْنَاهُمْ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ.

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمُشَاحَنَاتِ))

يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمُشَاحَنَاتِ وَأَسْبَابِهَا؛ فَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فقال ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ -كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ-)).

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ» .

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا، وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّئًا.

وَإِنَّ صَاحِبَ الشَّحْنَاءِ مَحْجُوبٌ عَنِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى يَدَعَ الْخُصُومَاتِ، وَيُقْلِعَ عَنِ الْمُشَاحَنَاتِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تُفتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَيَغْفِرُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).

وَمَا أَجْمَلَ أَنْ نُحْسِنَ اسْتِعْدَادَنَا لِشَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُجُورِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

((لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ النَّاسُ وَيَتَخَاطَبُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ؛ فَإِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ كَفُضُولِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَإِمَّا شَرٌّ وَمَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ؛ كَالْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ.

ثُمَّ اسْتَثْنَى -تَعَالَى- فَقَالَ: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} مِنْ مَالٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ أَيِّ نَفْعٍ كَانَ؛ بَلْ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ الْقَاصِرَةُ؛ كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ...)). الْحَدِيثَ.

{أَوْ مَعْرُوفٍ}: وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ وَكُلُّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَنَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ دَخَلَ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَيْضًا لَا يَتِمُّ فِعْلُ الْخَيْرِ إِلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الِاقْتِرَانِ فَيُفَسَّرُ الْمَعْرُوفُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْمُنْكَرُ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ.

{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}: وَالْإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ مُتَنَازِعِينَ مُتَخَاصِمِينَ، وَالنِّزَاعُ وَالْخِصَامُ وَالتَّغَاضُبُ يُوجِبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفُرْقَةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ؛ فَلِذَلِكَ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ؛ بَلْ وَفِي الْأَدْيَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}. الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.

وَالسَّاعِي فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَانِتِ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُصْلِحُ لَا بُدَّ أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ سَعْيَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا أَنَّ السَّاعِيَ فِي الْإِفْسَادِ لَا يُصْلِحُ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَلَا يُتِمُّ لَهُ مَقْصُودَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}؛ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَيْثُمَا فُعِلَتْ فَهِيَ خَيْرٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَلَكِنَّ كَمَالَ الْأَجْرِ وَتَمَامَهُ بِحَسْبِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَيُخْلِصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَيْرِ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَلِيَتَعَوَّدَ الْإِخْلَاصَ فَيَكُونَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ، وَلِيَتِمَّ لَهُ الْأَجْرُ؛ سَوَاءٌ تَمَّ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ حَصَلَتْ، وَاقْتَرَنَ بِهَا مَا يُمْكِنُ مِنَ الْعَمَلِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].

فَاتَّقُوا اللهَ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ الْقُلُوبُ بِالتَّقْوَى لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ مَنْفَذٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْخِلَافِ مَوْضِعٌ، وَأَصْلِحُوا الْحَالَ فِيمَا بَيْنَكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الِالْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ عَلَى عَقِيدَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَاءِ الْقُلُوبِ عَلَى عَاطِفَةٍ دِينِيَّةٍ وَأَهْدَافٍ غَائِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَائِهِمْ عَلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ وَقِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إِذَا اخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا، وَاتَّقُوا اللهَ فَلَا تَعْصُوهُ، وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ تَنَالُوا رَحْمَتَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ))

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَسْتَشْعِرَ فَضْلَ اللهِ الْعَظِيمَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَأَنْ نُحْسِنَ اسْتِقْبَالَ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ، وَاغْتِنَامَهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ الصَّادِقَةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الْقُلُوبَ، وَتُصْلِحُ النُّفُوسَ، وَتَمْحُو الذُّنُوبَ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

((قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَعَدَ عَلَيْهَا بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ، وَالْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ حِينَ يَسْعَى الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ، وَيَمْشُونَ بِضِيَائِهِ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِرُوحِهِ وَرَاحَتِهِ، وَيُشْفِقُونَ إِذَا طُفِئَتِ الْأَنْوَارُ الَّتِي تُعْطِي الْمُنَافِقِينَ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهُمْ نُورَهُمْ، فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ دَعْوَتَهُمْ، وَيُوَصِّلُهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ النُّورِ وَالْيَقِينِ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَجِوَارِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْمُرَادُ بِهَا: التَّوْبَةُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ الَّتِي عَقَدَهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ، لَا يُرِيدُ بِهَا إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ وَالْقُرْبَ مِنْهُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ)).

فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ، وَجَعَلَهُ فَجْرًا تَبْدَأُ مَعَهُ رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ بِقُلُوبٍ مُنْكَسِرَةٍ، وَدُمُوعٍ مُنْسَكِبَةٍ، وَجِبَاهٍ خَاضِعَةٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 50].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حَاثًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالْأَوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».

وَهَذَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ فِي فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى التَّائِبِ الْعَائِدِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَلَا يَأْخُذْكَ الْهَوَى وَمُلْهِيَاتُ النَّفْسِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟

قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .

فَهَذَا الْحَدِيثُ بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ؛ إِلَّا صِنْفًا مِنْهُمْ لَا يُرِيدُونَ دُخُولَهَا، لَا زُهْدًا فِيهَا؛ وَلَكِنْ جَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، وَتَرَاخِيًا وَتَكَاسُلًا عَنْ دُخُولِهَا، وَتَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْمُتَعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ.

جِدَّ فِي التَّوْبَةِ، وَسَارِعْ إِلَيْهَا؛ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا تَحْتَ شَجَرَةِ طُوبَى، وَلَا لِلْمُحِبِّ قَرَارٌ إِلَّا يَوْمَ الْمَزِيدِ.

فَسَارِعْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهُبَّ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِكَ يَوْمُ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَاصْدُقْ فِي ذَلِكَ الْمَسِيرِ، وَلْيَهْنِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ أَيْ: رَاحِلَتُهُ-، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا وقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ.

فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ!! لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ» .

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.

إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْجَؤُهُ الشَّيْءُ.. يُعْجِبُهُ فَيَقُولُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي؛ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيُفْرِطُ مِنْهُ الشَّيْءُ، فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ لِهَذَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْثَقَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا، يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَلِسَانِهِ، وَجَوَارِحِهِ» .

إِنَّ جِهَادَ النَّفْسِ جِهَادٌ طَوِيلٌ، وَطَرِيقٌ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ، مَذَاقُهُ مُرٌّ، ومَلْمَسُهُ خَشِنٌ؛ فَعَلَيْكَ بِالسَّيْرِ فِي رِكَابِ التَّائِبِينَ حَتَّى تَحُطَّ رِحَالَكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.

قَالَ الْحَسَنُ: «ابْنَ آدَمَ؛ إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، لَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، لَنْ يَدْخُلَ الْقَبْرَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، لَنْ يُبْعَثَ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، لَنْ يُحَاسَبَ أَحَدٌ عَنْكَ» .

فَيَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَفِطْنَةٍ أَنْ يَحْذَرَ عَوَاقِبَ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى قَرَابَةٌ وَلَا رَحِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، حَاكِمٌ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ حِلْمُهُ يَسَعُ الذُّنُوبَ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ عَفَا، فَعَفَا عَنْ كُلِّ كَثِيفٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَخَذَ بِالْيَسِيرِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ!!

وَكُلُّنَا أَصْحَابُ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَكِنَّ خَيْرَنَا مَنْ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيُبَادِرُ إِلَى الْعَوْدَةِ، تَحُثُّهُ الْخُطَى، وَتُسْرِعُ بِهِ الدَّمْعَةُ، وَيُعِينُهُ أَهْلُ الْخَيْرِ رُفَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِ الْأُخُوَّةِ فِي اللهِ: عَدَمَ تَرْكِ الْعَاصِي يَسْتَمِرُّ فِي مَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ يُحَاطُ بِإخْوَانِهِ، وَيُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ، وَلَا يُهْمَلُ وَيُتْرَكُ؛ فَيَضِلَّ وَيَشْقَى.

أَرَأَيْتَ إِنْ نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ شَأْنٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَيْفَ تَقِفُ مَعَهُ؟!! وَكَيْفَ تُعِينُهُ؟!!

فَالْآخِرَةُ أَوْلَى وَأَبْقَى» .

وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ:

الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ فِيهَا.

الثَّانِي: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ.

الثَّالِثُ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ.

الرَّابِعُ: الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ.

الْخَامِسُ: إِرْجَاعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.

السَّادِسُ: أَنْ تَقَعَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِ قَبُولِهَا.

حَالُنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَيْنَ مُسَوِّفٍ وَمُفَرِّطٍ، حَتَّى يَفْجَأَنَا الْمَوْتُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ!!

فَتَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا مِمَّنْ يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!

تَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا؛ بَلْ فِي حَالِنَا؛ فَكُلُّنَا يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ.

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ))

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَلْتَفِتَ لِفَضَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ مَنْ يَبْلُغُهُ؛ فَاللهم بَلِّغْنَا رَمَضَانَ، وَاجْعَلْنَا فِيهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمَقْبُولِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

أَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا- بِمَجْمُوعِ قَلْبِكَ وَجِمَاعِ رُوحِكَ؛ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ صَالِحَةٍ، وَقَلْبٍ مُوقِنٍ مُؤْمِنٍ مُحْتَسِبٍ؛ عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُغَيِّرَ مَا بِنَا {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

 فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ يُغَيِّرَ اللهُ مَا بِنَا عَلَى الْمُسْتَوَى الْفَرْدِيِّ وَعَلَى الْمُسْتَوَى الْمَجْمُوعِيِّ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نُغَيِّرَ مَا بِأَنْفُسِنَا.

يَنْبَغِي أَنْ نُحَصِّلَ -عِبَادَ اللهِ- أُمُورًا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْسِمِ الْأَعْظَمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَةِ لِلْأُمَّةِ، وَمِنْهَا:

*أَنْ نَتُوبَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَوْبَةً نَصُوحًا، وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَلَّا تَعُودَ حَتَّى يَرْجِعَ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، التَّوْبَةُ النَّصُوحُ عَزْمٌ وَنَدَمٌ، وَإِقْبَالٌ عَلَى مَرَاضِي اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبُعْدٌ عَنْ مَسَاخِطِهِ، عَزْمٌ عَلَى أَلَّا تَعُودَ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ!!

فَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ.

*بِتَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَالِطُهُ مِنْ شِرْكٍ وَبِدْعَةٍ، وَمِنْ تَخْلِيطٍ وَتَهْوِيشٍ.

*وَبِسَلَامَةِ الصَّدْرِ لِلْمُسْلِمِينَ..

وَعِشْ سَالمًا صَدْرًا وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ *** تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلَا

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُفَتِّشَ فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ نُخَلِّصَهَا مِنْ شَوَائِبِهَا وَآفَاتِهَا.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ تَسْلَمَ صُدُورُنَا لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ نَفْعَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَخْذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لَا التَّشَفِّيَ فِيهِمْ.

*وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّنَا جَمِيعًا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

فَالْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُرَاقِبَ قلُوبَنَا وَضَمَائِرَنَا، وَأَنْفُسَنَا وَأَرْوَاحَنَا، وَأَلْسِنَتَنَا وَجَوَارِحَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَنَا، كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)): عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

 

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ؛ مِنْ مُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ، وَالْعُكُوفِ عَلَى آيَاتِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): ((كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ لَمْ يَقُمْ مِنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)). هَكَذَا.

*عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّ ((مَنْ فَطَّرَ فِي هَذَا الشَّهْرِ صَائِمًا؛ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْء))؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ؛ وَلَكِنَّهُ يَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ إِلَى اللهِ.

وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)) ، وَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ شِعَارَاتِهَا، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا.

وَ((فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَكْلَةُ السَّحَرِ)).

فَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ!! مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ: ((أَنَّ الْأُمَّةَ مَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)). فَهَذَا يَنْسَرِحُ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.

فَاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا رَمَضَانَ، وَسَلِّمْنَا إِلَى رَمَضَانَ، وَاللَّهُمَّ سَلِّمْ لَنَا رَمَضَانَ، وَتَسَلَّمْ مِنَّا رَمَضَانَ يَا كَرِيمُ يَا رَحْمَنُ.

إِنَّ الْعَجَبَ -عِبَادَ اللهِ!- أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الشَّهْرُ -الَّذِي هُوَ لِتَحْصِيلِ الطَّاعَةِ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الرُّضْوَانِ- مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُجْعَلَ تَحْصِيلًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَتَكْثِيرًا لِلْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ؛ بِإِطْلَاقِ الْبَصَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَبِالْعُكُوفِ عَلَيْهَا فِي الْأَمْسَاءِ وَالْأَصْبَاحِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ!!

مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُجْعَلَ الشَّهْرُ -الَّذِي تُفْطَمُ فِيهِ النَّفْسُ عَنْ شَهَوَاتِهَا- مُسْتَرَاحًا لِلرَّتْعِ فِي لَذِيذِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَحُلْوِ الْمَنَامِ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصِدًا فِي شَهْرِ الصِّيَامِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَ الْخَيْرَ، وَلَا نَجْعَلَ الصَّوْمَ تُكَأَةً مِنْ أَجْلِ إِخْرَاجِ خَبَائِثِ النَّفْسِ.

الصَّائِمُ مُنْكَسِرٌ للَّهِ، خَاضِعٌ بِتَقْوَاهُ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي سَكِينَةٍ وَدَعَةٍ، وَأَنْ يُقَدِّمَ الْمَعْرُوفَ، وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ جَمِيعِ الْمُنْكَرَاتِ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ فِي أَحْوَالِنَا، وَأَنْ نَقِفَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِنَا؛ لِكَيْ نُرَاجِعَ مَا مَرَّ مِنْ أَعْمَارِنَا، لِكَيْ نَنْظُرَ فِيمَا مَرَّ -مُنْذُ الِاحْتِلَامِ إِلَى هَذَا الوَقْتِ- نَظْرَةً فَاحِصَةً مُتَأَمِّلَةً وَاعِيَةً ثَاقِبَةً، وَأَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي بَيَانِ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَفِي النَّظَرِ فِي تَقْوِيمِ وَتَثْمِينِ نَفْسِهِ.

أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!!

وَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْخُضُوعِ لِدِينِ رَبِّكَ بِأَحْكَامِهِ وَشَرِيعَتِهِ؟!!

اتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِك وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ رَبِّكَ وَأَخْلِصْ، وَصَفِّ؛ حَتَّى يُصَفَّى لَكَ، وَلَا تُخَلِّطْ؛ حَتَّى لَا يُخَلَّطَ عَلَيْكَ، وَاللهُ يَرْعَاكَ، وَبِكَلَاءَتِهِ يَتَوَلَّاكَ، وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:

عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
  الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ
  مَفْهُومُ التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  مَاذَا عَنْ شَوَّالٍ؟
  إلى أهل السودان الشقيق
  زكاة الحبوب والثمار
  الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا
  السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان