حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ وَالتَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ

حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ وَالتَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ

((حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ وَالتَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 

((حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

فَإِنَّ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةَ تُعَدُّ أَحَدَ أَبْرَزِ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ وَالِانْتِمَاءِ؛ فَهِيَ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَتُعَبِّرُ عَنِ اسْتِثْمَارَاتِ الدَّوْلَةِ لِخِدْمَةِ الْمُوَاطِنِينَ؛ مِنْ طُرُقٍ، وَمَرَافِقَ، وَخَدَمَاتٍ، وَمَدَارِسَ، وَمُؤَسَّسَاتٍ، وَغَيْرِهَا.

وَمَعَ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ مَظَاهِرَ مُتَكَرِّرَةً لِتَخْرِيبِ هَذِهِ الْمُمْتَلَكَاتِ؛ سَوَاءٌ عَنْ طَرِيقِ الْإِهْمَالِ، أَوِ الْعَبَثِ الْمُتَعَمَّدِ، أَوْ الِاسْتِخْدَامِ غَيْرِ الْمَسْؤُولِ، وَهِيَ سُلُوكِيَّاتٌ تُمَثِّلُ اعْتِدَاءً مُبَاشِرًا عَلَى مُقَدَّرَاتِ الدَّوْلَةِ.

لَقَدْ تَوَعَّدَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ عُمُومًا وَالْمَالِ الْعَامِّ خُصُوصًا بِأَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَتَتَّضِحُ خُطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَى الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا -وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا- مِنْ قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي أَخَذَ شَمْلَةً مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهَا -أَيِ: الشَّمْلَةَ- تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فِي قَبْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ (جُذَامٍ) يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنَا: ((هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَلَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ)).

قَالَ: ((فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ -وَالشِّرَاكُ: هُوَ السَّيْرُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ فِي النَّعْلِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ- فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ((أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ؛ فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَلِّقًا عَلَى الْحَدِيثِ: ((وَفِيهِ: تَحْرِيمُ الْغُلُولِ.

وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْغُلُولِ وَكَثِيرِهِ؛ حَتَّى الشِّرَاكِ.

وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْغُلُولَ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ غَلَّ إِذَا قُتِلَ))، فَلَا يُقَالُ لَهُ: شَهِيدٌ.

((مَفْهُومُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الْإِسْلَامِ))

وَالْمَالُ الْعَامُّ: كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، وَبَيْتُ الْمَالِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْجِهَةِ، لَا عَنِ الْمَكَانِ.

فَالْمَالُ الْعَامُّ: هُوَ كُلُّ مَالٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ، بَلْ هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، يَنْتَفِعُ مِنْهُ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ: كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ، وَتَدْخُلُ الْأَبْنِيَةُ التَّابِعَةُ لَهَا، وَكُلُّ مَالٍ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ سِوَى بَيْتِ الْمَالِ؛ كَالْأَدَوَاتِ التَّابِعَةِ لِأَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ، وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَشَبَكَاتِ الْمِيَاهِ وَالصَّرْفِ الصِّحِّيِّ، وَأَمْوَالِ الْوَقْفِ وَغَيْرِهَا، وَكَالْأَمْوَالِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِيَّةِ الْأَفْرَادِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهَا، وَأَبَاحَ الشَّارِعُ انْتِفَاعَ الْأُمَّةِ بِهِ، فَكُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ النَّاسِ عَامَّةً، أَوْ فِي مِلْكِ جَمْعٍ مِنْهُمْ دُونَ تَخْصِيصٍ، وَمَا دَخَلَ فِي مِلْكِ الدَّوْلَةِ بِصِفَتِهَا رَاعِيَةً لِمَصَالِحِ النَّاسِ؛ فَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.

وَمَفْهُومُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الْإِسْلَامِ: أَنْ تَكُونَ مِلْكِيَّتُهُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، أَوْ لِمَجْمُوعَةٍ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ لَهُمْ دُونَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ، أَيْ: يَكُونُ الِانْتِفَاعُ لِمَوْضُوعِ الْمَالِ الْعَامِّ بِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، أَوْ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْفَرْدِ اخْتِصَاصٌ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَّا إِذَا تَعَارَضَ انْتِفَاعُهُ مَعَ انْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُرَدُّ إِلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ عَلَى أَسَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ؛ حَيْثُ لَا يَمْنَعُ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا مِنَ انْتِفَاعِ الْآخَرِ.

وَالْمَالُ الْعَامُّ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَامٌّ؛ فَلَا يَكُونُ لِفِئَةٍ دُونَ أُخْرَى، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

((أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ

عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ حَرَامٌ، دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ.

الْأَدِلَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:

مِنْهَا: أَمْرُ اللهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمَانَاتِ، وَتَحْرِيمِ خِيَانَتِهَا بِجَمِيعِ صُوَرِهَا، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

فَالْمَالُ الْعَامُّ أَمَانَةٌ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ.

وَمَدَحَ اللهُ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ مُحَافِظُونَ وَرَاعُونَ، وَبَيَّنَ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8-11].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 32-35].

وَحَرَّمَ رَبُّنَا -تَعَالَى- الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَجَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُعْتَدِي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].

((أَيْ: يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَفْضَحُهُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَتَتَضَمَّنُ التَّنْفِيرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ذَنْبٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِعُقُوبَةٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّهُ حَامِلًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبَ.

قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [البقرة: 281] أَيْ: تُعْطَى جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ وَافِيًا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَسَبَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْغَالُّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِ)).

فَكُلُّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ خَانَ شَيْئًا مِنْ مَالِ اللهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-.

وَالْغُلُولُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقِصَاصِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ صَاحِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَحَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالتَّعَدِّيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

فَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، مُتَوَعَّدٌ بِالْعُقُوبَةِ، دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

وَمِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- يَتَبَيَّنُ لَنَا حُرْمَةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ، وَمَنْ تَعَدَّى فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعُقُوبَةِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا.

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُشَرَّفَةُ خُطُورَةَ وَعِظَمَ إِثْمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ فَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ لِتُبَيِّنَ أَنَّ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ مَا غَلَّهُ؛ لِيُفْضَحَ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ؛ لِيَرْتَدِعَ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ بِاقْتِرَافِ تِلْكَ الْجَرِيمَةِ الشَّنْعَاءِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ -يَعْنِي: لَا أَجِدَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ- لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ -وَالرُّغَاءُ: هُوَ صَوْتُ الْبَعِيرِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهْ حَمْحَمَةٌ -وَالْحَمْحَمَةُ: صَوْتُ الْفَرَسِ دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ -وَالثُّغَاءُ: صَوْتُ الشِّيَاهِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ -وَالْمُرَادُ بِالرِّقَاعِ: الثِّيَابُ، وَتَخْفِقُ، أَيْ: تَضْطَرِبُ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي: الْمَالَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَكُلُّ شَيْءٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ يَغُلُّهُ الْغَالُّ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهُ؛ لِيُفْتَضَحَ بِهِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَوْقِفِ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَغْلُولُ حَيَوَانًا، أَوْ إِنْسَانًا، أَوْ ثِيَابًا، أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً.

((وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُوَظَّفِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))

وَحَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ -وَالْعُمَّالُ: هُمُ الْمُوَظَّفُونَ-، حَذَّرَتْ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ، وَالَّتِي مِنْهَا الْمَالُ الْعَامُّ، وَحَذَّرَتْهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا -أَيْ: إِبْرَةً- فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: ((فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ)).

قَالَ: ((وَمَا لَكَ؟)).

قَالَ: ((سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا)).

قَالَ: ((وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَفِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَ مِنْهُ أَوْ يُخْفِيَ مِنْهُ شَيْئًا؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا بِمِقْدَارِ الْإِبْرَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَيُعَدُّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ خِيَانَةً لِلْأَمَانَةِ، وَهَذَا مَسُوقٌ لِحَثِّ الْعُمَّالِ -أَيِ: الْمُوَظَّفِينَ- عَلَى الْأَمَانَةِ، وَلِتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَوْ فِي أَمْرٍ تَافِهٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ جَسِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَالِ الْأَوْقَافِ، وَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الِاسْتِحْلَالِ، أَوْ رَدَّ حُقُوقِ الْعَامَّةِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

وَفِيهِ: غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ؛ حَتَّى الشِّرَاكِ -وَالشِّرَاكُ: هُوَ سَيْرُ النَّعْلِ-.

وَأَصْلُ الْغُلُولِ: الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا تَصْرِيحٌ بِغِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ اخْتِصَاصُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ.

قَالَ نَفْطَوَيْهِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ مَغْلُولَةٌ عَنْهُ، أَيْ: مَحْبُوسَةٌ، يُقَالُ: غَلَّ غُلُولًا، وَأَغَلَّ إِغْلَالًا.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا غَلَّهُ، وَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ)).

((عُقُوبَةُ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))

وَتَوَعَّدَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ، وَأَشَدُّ الْعَذَابِ دُخُولُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَالْبُعْدُ عَنْ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُرَادُ: التَّخْلِيطُ فِي الْمَالِ، وَتَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( ((يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ)) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْقِسْمَةِ وَبِغَيْرِهَا.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْمَغَانِمِ -أَيِ: الْمَالِ الْعَامِّ- شَيْئًا بِغَيْرِ قَسْمِ الْإِمَامِ كَانَ عَاصِيًا.

وَفِيهِ: رَدْعُ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، أَوْ يَمْنَعُوهُ مِنْ أَهْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: ((مِنْ مَالِ اللهِ)): مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ؛ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّخَوُّضُ فِي مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي.

وَقَوْلُهُ: ((لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ)): حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْغَلَبَةِ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ رِعَايَةُ الرَّعِيَّةِ فَلَمْ يُؤَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ، وَضَيَّعَهَا؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَشُرَّاحِ الْحَدِيثِ لِأَقْوَالِهِ ﷺ يَتَبَيَّنُ حُرْمَةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَصُوَرٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، وَعُقُوبَةُ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَمَا يَجِبُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ.

 

 

 

 

 

 

 

التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ

 

 

 

 

 


                                                     

 

 

 

 

 

((مَكَانَةُ الزَّوَاجِ فِي الْإِسْلَامِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَرِصَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِنَاءِ الْأُسْرَةِ عَلَى أُسُسٍ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالسَّكِينَةِ؛ لِأَنَّهَا اللَّبِنَةُ الْأُولَى فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، فَإِذَا اضْطَرَبَتِ الْأُسْرَةُ اضْطَرَبَ الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ، وَإِذَا صَلُحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمَّةُ؛ فَالْأُسْرَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَقْدٍ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، بَلْ هِيَ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمَّى الزَّوَاجَ مِيثَاقًا غَلِيظًا؛ لِيَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ احْتِرَامِهِ، وَلِيُحَذِّرَ مِنْ خُطُورَةِ هَدْمِهِ وَنَقْضِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20-21].

وَإِنْ أَرَدْتُمْ -يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ- طَلَاقَ زَوْجَةٍ وَاسْتِبْدَالَ زَوْجَةٍ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَكَانَ صَدَاقُ مَنْ تُرِيدُونَ طَلَاقَهَا مَالًا كَثِيرًا؛ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قِبَلِهَا نُشُوزٌ وَسُوءُ عِشْرَةٍ.

أَفَتَأْخُذُونَهُ مُفْتَرِينَ فَاعِلِينَ فِعْلًا تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِي سَبَبِهِ، آثِمِينَ بِفِعْلِهِ إِثْمًا وَاضِحًا مُعْلَنَ الْوُضُوحِ، مُسْتَنْكَرَ الْوُقُوعِ؟!

فَلَا تَفْعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.

وَلِأَيِّ وَجْهٍ تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا بَذَلَهُ لِزَوْجَتِهِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ وَصَلَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ عَهْدًا شَدِيدًا مُؤَكَّدًا، وَهِيَ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ؟!

لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ مَنْزِلَةً خَاصَّةً، وَمَكَانَةً سَامِيَةً، وَسَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْآدَابِ مَا يَضْمَنُ اسْتِقْرَارَهَا، وَتَرَابُطَهَا، وَتَمَاسُكَهَا، وَاسْتِدَامَتَهَا فِي إِطَارِ السَّكَنِ، وَالْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، وَقَدْ دَعَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَنْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى شَرِيكِ حَيَاتِهِ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ، وَيَتَأَمَّلَ جَوَانِبَ الْخَيْرِ فِيهِ، وَيَتَبَصَّرَ مَزَايَا الْإِبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ الْأُسَرِيَّةِ مِنَ السَّكَنِ وَالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ وَالسُّلُوكِيِّ، وَسَعَادَةِ الذُّرِّيَّةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُعَامَلَةً تَلِيقُ بِأَمْثَالِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مَا يُسْتَنْكَرُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالتَّلَطُّفِ بِهِنَّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَعَدَمِ إِيذَائِهِنَّ، فَإِنْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ؛ فَاصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ مَعَ الْفِرَاقِ.

فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ لَمْ تَأْتِ عَلَى مِزَاجِ الزَّوْجِ، وَلَا عَلَى ذَوْقِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا سُوءُ خُلُقٍ، أَوْ ضَعْفُ دِينٍ، أَوْ قِلَّةُ أَمَانَةٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَعَاشَرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَغَاضَى عَنِ الْجَوَانِبِ الَّتِي لَا تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ فِيهَا، فَجَعَلَ اللهُ مِنْهَا خَيْرًا كَثِيرًا، فَكَانَتْ مُعِينَةً لَهُ، وَحَافِظَةً لَهُ وَلِمَالِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَأَنْجَبَتْ لَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَسْعَدُ بِهَا.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ)).

وَيَقُولُ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)).

وَالْقَانُونُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ حُسْنَ مُعَامَلَتِهَا لَا يَكُونُ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا بِتَحَمُّلِ الْأَذَى مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ إِلَّا كَرِيمٌ، وَمَا أَسَاءَ إِلَيْهِنَّ إِلَّا لَئِيمٌ.

فَالْكَمَالُ للهِ وَحْدَهُ، وَالْعِصْمَةُ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا = كَفَى الْمَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ

((الْعِلَاجُ الشَّرْعِيُّ لِلْمَشَاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنُّشُوزِ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ تَعْتَرِيهَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَنَالُ مِنَ الصَّفَاءِ الْأُسَرِيِّ؛ لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ وَضَعَ الْعِلَاجَ النَّاجِعَ لَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الصُّلْحِ، وَالتَّوَافُقِ، وَالتَّرَاضِي، وَالْإِحْسَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

((النُّشُوزُ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً أَوْ مُتَكَرِّهَةً؛ وَعَظَهَا.

وَالنُّشُوزُ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34].

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128].

وَالنُّشُوزُ شَرْعًا: «مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ» أَيْ: مَعْصِيَتُهَا الزَّوْجَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِهِ، أَمَّا مَا لَا يَجِبُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنُشُوزٍ وَلَوْ صَرَّحَتْ بِمَعْصِيَتِهِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أُرِيدُ مِنْكِ أَنْ تُصْبِحِي دَلَّالَةً فِي السُّوقِ تَبِيعِينَ، فَقَالَتْ: لَا؛ مَا يَلْزَمُهَا، وَلَوْ قَالَ: أُرِيدُ مِنْكِ أَنْ تَكُونِي خَادِمَةً عِنْدَ النَّاسِ؛ فَلَا يَلْزَمُهَا.

((فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ» يَعْنِي: دَعَاهَا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَأَبَتْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا بِتَقْبِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَبَتْ؛ فَهَذِهِ نَاشِزٌ.

«أَوْ مُتَكَرِّهَةً» أَيْ: تُجِيبُهُ لَكِنَّهَا مُتَكَرِّهَةٌ، يَظْهَرُ فِي وَجْهِهَا الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ لِهَذَا الشَّيْءِ، وَرُبَّمَا تُسْمِعُهُ مَا لَا يَلِيقُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَجَابَتْهُ؛ لَكِنْ مَا أَجَابَتْهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ، حَتَّى الزَّوْجُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَنَفَةٌ إِذَا رَأَى مِنْهَا أَنَّهَا تُعَامِلُهُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، فَهَذَا نُشُوزٌ؛ لَكِنْ مَاذَا يَصْنَعُ مَعَهَا؟

((يَعِظُهَا)): وَالْمَوْعِظَةُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِمَا يُرَغِّبُ أَوْ يُخَوِّفُ، فَيَعِظُهَا بِذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مِنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ؛ مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

فَيَعِظُهَا أَوَّلًا، وَإِذَا اسْتَجَابَتْ لِلْوَعْظِ خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهَا تَسْتَجِيبُ لِلْوَعِيدِ، أَيْ: خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهِ يَقُولُ: اسْتَقِيمِي وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، تَجِدُهُ يَتَوَعَّدُهَا بِالطَّلَاقِ، وَمَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ نُفُورًا مِنَ الزَّوْجِ، كَأَنَّهَا شَاةٌ، إِنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا!!

لَكِنِ الطَّرِيقُ السَّلِيمُ أَنْ يَعِظَهَا، وَيُذَكِّرَهَا بِآيَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَتَّى تَنْقَادَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِنِ امْتَثَلَتْ وَعَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا الْمَطْلُوبُ.

((فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ)) أَيْ: يَتْرُكُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَرْكُهَا فِي الْمَضْجَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَلَّا يَنَامَ فِي حُجْرَتِهَا، وَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ.

الثَّانِي: أَلَّا يَنَامَ عَلَى الْفِرَاشِ مَعَهَا، وَهَذَا أَهْوَنُ مِنَ الْأَوَّلِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنَامَ مَعَهَا فِي الْفِرَاشِ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُحَدِّثُهَا، وَهَذَا أَهْوَنُهَا.

فَيَبْدَأُ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ.

«مَا شَاءَ»: مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا بَقِيَتْ عَلَى نُشُوزِهَا، فَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ، وَالتَّأْدِيبُ يَرْتَفِعُ إِذَا اسْتَقَامَ الْمُؤَدَّبُ، فَإِذَا اسْتَقَامَتْ حِينَ هَجَرَهَا أُسْبُوعًا فَالْحَمْدُ للهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِثْلُ الدَّوَاءِ، يَتَقَيَّدُ بِالدَّاءِ، فَمَتَى شُفِيَ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَعْمِلُ الدَّوَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَرَرًا، وَعَلَيْهِ فَمَتَى اسْتَقَامَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْهَجْرِ.

«وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» أَيْ: يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

فَلَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَزُولُ الْهَجْرُ بِالسَّلَامِ.

«فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ.

فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}.

لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فَذَكَرَهَا بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ التَّرْتِيبِ؟

فَالْجَوَابُ: تَقْدِيمُ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْأَصْلِ.

فَعَلَيْهِ نَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ عِلَاجٌ وَدَوَاءٌ، فَنَبْدَأُ بِالْأَخَفِّ: الْمَوْعِظَةُ، ثُمَّ الْهَجْرُ فِي الْمَضَاجِعِ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا الْهَجْرُ فِي الْمَقَالِ، ثُمَّ الضَّرْبُ.

لَيْسَ الضَّرْبُ كَمَا يُرِيدُ، فَلَا يَأْتِي بِخَشَبَةٍ مِثْلَ الذِّرَاعِ وَيَضْرِبُهَا، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَهَا بِسَوْطٍ مِثْلِ الْأُصْبَعِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ أَخْطَأَ لَا شَكَّ، فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِي الْوَجْهِ، وَلَا فِي الْمَقَاتِلِ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ أَلَمًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّأْدِيبُ.

فَإِنْ لَمْ يُفِدْ؛ أَيْ: أَنَّهُ وَعَظَهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَلَا فَائِدَةَ؛ فَمَاذَا نَصْنَعُ؟

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ شِقَاقًا وَمُخَالَفَةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ؛ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمَا حَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، وَحَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؛ لِيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا، وَيَحْكُمَا بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.

إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ كُلَّ قَلْبٍ يَلْتَقِي مَعَ الْآخَرِ، إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا، خَبِيرًا بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرِ.

فَصَارَتِ الْمَرَاتِبُ أَرْبَعًا:

وَعْظٌ، هَجْرٌ، ضَرْبٌ، إِقَامَةُ الْحَكَمَيْنِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].

وَالزَّوْجَاتُ اللَّاتِي تَعْلَمُونَ دَلَالَاتِ تَرَفُّعِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُنَّ بَوَادِرُ الْعِصْيَانِ فَانْصَحُوهُنَّ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ فِي دَوَامِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ نَتَائِجِ التَّرَفُّعِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْعِصْيَانِ.

فَإِنْ لَمْ يَنْزَعْنَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ الْمُؤَثِّرِ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْفِرَاشِ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَعْنَ بِالْهِجْرَانِ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِهٍ، فَإِنْ رَجَعْنَ عَنْ تَمَرُّدِهِنَّ وَاسْتِعْصَائِهِنَّ إِلَى طَاعَتِكُمْ عِنْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ فَلَا تَطْلُبُوا بَعْدَ طَاعَتِهِنَّ لَكُمْ طَرِيقًا مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِنَّ يَكُونُ لَكُمْ بِهِ عَلَيْهِنَّ تَسَلُّطٌ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَاسْتِعْمَالٌ لِسُلْطَةِ الْقِوَامَةِ فِي غَيْرِ مَا أَذِنَ اللهُ بِهِ.

إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيًّا كَبِيرًا، لَهُ كَمَالُ الْعُلُوِّ وَكُلِّ غَايَاتِهِ، وَهُوَ الْكَبِيرُ الَّذِي لَيْسَ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ مِثْلُ وَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنْكُمْ سُلْطَانًا، وَأَكْبَرُ قُدْرَةً، فَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ حُدُودَكُمْ فِيمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَإِنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَى عُقُوبَتِكُمْ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِكُمْ.

* عِلَاجُ نُشُوزِ الزَّوْجِ:

مَا الْحُكْمُ إِذَا خَافَتِ الزَّوْجَةُ نُشُوزَ زَوْجِهَا؟ لِأَنَّهُ أَحْيَانًا يَكُونُ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجِ، يُعْرِضُ عَنْهَا، وَلَا يُلَبِّي طَلَبَهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، أَوْ يُلَبِّيهِ لَكِنْ بِتَكَرُّهٍ وَتَثَاقُلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].

وَإِنْ تَوَقَّعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا تَرَفُّعًا عَلَيْهَا، أَوْ تَجَافِيًا عَنْهَا؛ كَأَنْ يَمْنَعَهَا نَفْسَهُ وَنَفَقَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ، وَيُؤْذِيَهَا بِسَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ، أَوِ انْصَرَفَ عَنْهَا وَقَلَّلَ مُحَادَثَتَهَا وَمُؤَانَسَتَهَا؛ فَلَا حَرَجَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا بِتَسَامُحِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ؛ لِيَنَالَا خَيْرًا مِمَّا تَسَامَحَا فِيهِ.

وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ صُلْحًا نَفْسِيًّا تَتَلَاقَى فِيهِ الْقُلُوبُ، وَتَصْفُو النُّفُوسُ، وَالصُّلْحُ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ يَعُمُّ الطَّرَفَيْنِ.

وَإِقَامَةُ الزَّوْجَةِ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ لَهَا، وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنَ الْفُرْقَةِ.

وَطُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَى أَشَدِّ الْبُخْلِ، وَأُحْضِرَ فِي دَاخِلِ الْأَنْفُسِ بِالتَّكْوِينِ الْفِطْرِيِّ لَهَا، فَكَأَنَّ الْبُخْلَ حَاضِرُهَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَحْرِصُ عَلَى مَنْعِ الْخَيْرِ عَنِ الْآخَرِ، وَيَلْتَزِمُ مَوْقِفَهُ مُتَمَسِّكًا بِحُقُوقِهِ الشَّكْلِيَّةِ.

وَإِنْ تُحْسِنُوا -أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ- الصُّحْبَةَ وَالْعِشْرَةَ، وَتَتَّقُوا اللهَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا تَظْلِمُوهَا، وَلَا تَجُورُوا عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمًا عِلْمًا تَامًّا شَامِلًا، شَامِلًا لِكُلِّ ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ.

((مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ:

حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ))

إِنَّ بَابَ عِشْرَةِ النِّسَاءِ بَابٌ عَظِيمٌ تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَطْبِيقَهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ تَدُومُ بِهِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْيَا بِهِ الزَّوْجَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتِ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ، وَإِذَا ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ ازْدَادَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ يَكُونُ الْأَوْلَادُ، فَالْمُعَاشَرَةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً؛ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: مُعَامَلَةً تَلِيقُ بِأَمْثَالِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مَا يُسْتَنْكَرُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالتَّلَطُّفِ بِهِنَّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَعَدَمِ إِيذَائِهِنَّ، فَإِنْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ، فَاصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ مَعَ الْفِرَاقِ.

فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيْجَعْلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ خَيْرًا كَثِيرًا.

((كُلُّ حَقٍّ يُقَابِلُهُ وَاجِبٌ))

مِنَ الْأَخْطَاءِ الَّتِي تُؤَثِّرُ عَلَى عَلَاقَاتِنَا الْأُسَرِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَبْحَثُ عَنْ حَقِّهِ فَقَطْ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْوَاجِبِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ فَالزَّوْجَةُ تَبْحَثُ عَنْ حَقِّهَا فَقَطْ، وَالزَّوْجُ يَبْحَثُ عَنْ حَقِّهِ فَقَطْ، وَالْأَوْلَادُ يَبْحَثُونَ عَنْ حُقُوقِهِمْ فَقَطْ، وَهَذَا يُعَدُّ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ وُجُودِ الْمُشْكِلَاتِ الْأُسَرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ الْمُسْلِمِ؛ فَعَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا وَعَلَيْهِ وَاجِبٌ.

وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ: لَا تَطْلُبِ الْحَقَّ الَّذِي لَكَ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَيْكَ!

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقَابُلَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ، فَمَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ يُقَابِلُهُ الْحَقُّ، وَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَقًّا وَهُوَ حَقٌّ كَبِيرٌ، كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا.

أَوَّلًا: حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ:

عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْلَمْنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ أَزْوَاجَهُنَّ مِنْحَةً وَمِحْنَةً.

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ اطَّلَعَ فِي النَّارِ فَوَجَدَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، وَقَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟

قَالَ: ((لَا، يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى امْرَأَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَسَاءَ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَتْ: مَا وَجَدْتُ مِنْكَ إِحْسَانًا قَطُّ)) .

وَقَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا)) .

وَأَقْسَمَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ ((لَوْ كَانَ مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمِهِ قُرْحَةٌ تَبُضُّ قَيْحًا وَصَدِيدًا، فَاسْتَقْبَلَتْهُ فَلَعَقَتْهُ بِلِسَانِهَا، مَا وَفَّتْهُ حَقَّهُ عَلَيْهَا)) .

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَوْمًا: ((أَلَكِ بَعْلٌ؟)).

فَأَجَابَتْ بِالْإِيجَابِ.

فَقَالَ: ((انْظُرِي كَيْفَ أَنْتِ لَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ أَوْ نَارُكِ)) .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ حَقِّ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ عَلَّقَ دُخُولَ الْمَرْأَةِ الْجَنَّةَ عَلَى رِضَا زَوْجِهَا عَنْهَا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا؛ دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ)) .

عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا فِيمَا يَأْمُرُهَا بِهِ فِي حُدُودِ اسْتِطَاعَتِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَجَعَلَ الْقِوَامَةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ الْمَرْأَةُ ((لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ -يَعْنِي: حَاضِرٌ غَيْرُ مُسَافِرٍ- إِلَّا بِإِذْنِهِ غَيْرَ رَمَضَانَ -إِلَّا الْفَرْضَ-, وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ لِأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) .

وَ((إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ تَأْتِهِ فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ)) . وَفِي رِوَايَةٍ : ((لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ دَخِيلٌ يُوشِكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا)) .

يَعْنِي هِيَ لَا تُقَصِّرُ فِي طَاعَتِهِ شَيْئًا إِلَّا مَا عَجَزَتْ عَنْهُ.

* وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهَا.

ثَانِيًا: حُقُوقُ الزَّوْجَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى زَوْجِهَا:

وَفِي الْمُقَابِلِ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا نَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ دَوْحَةً نَسْتَظِلُّ بِهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)).

فَلِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:

* الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَلْ أَدَّى إِلَيْهَا حَقَّهَا أَمْ فَرَّطَ وَضَيَّعَ؟

قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال» . أَخرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُلَاطَفَةُ النِّسَاءِ وَالْإِحسَانُ إِلَيْهِنَّ, وَالصَّبْرُ عَلَى عِوَجِ أَخْلَاقِهِنَّ, وَاحْتِمَالُ ضَعْفِ عُقُولِهِنَّ, وَكَرَاهِيَةُ طَلَاقِهِنَّ بِلَا سَبَبٍ, وَأنَّهُ لَا يُطْمَعُ بِاسْتِقَامَتِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ».

وَقَالَ ﷺ: «لا يَفْرِكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ ﷺ : «أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضهَا، لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَهُه وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَرْضَاهُ, بِأَنْ تَكُون شَرِسَةَ الأَخلَاقِ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ أَوْ عَفِيفَةٌ أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ».

* وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: أَلَّا يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا:

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  قَالَ ﷺ: ((يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ)). هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

وَالْقَانُونُ عِنْدَ السَّلَفِ -رَحِمَهُمْ اللهُ-: أَنَّهُ لَيْسَ الْإِحْسَانُ إِلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُفَّ الْأَذَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ فِي عِشْرَتِهَا أَنْ تَتَحَمَّلَ الْأَذَى مِنْهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ قَدْ أَمَرَ الرِّجَالَ أَلَّا يَضْرِبُوا النِّسَاءَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ -يَعْنِي: النِّسَاءَ-».

فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: زَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ -يعني: نَشَزْنَ وَتَجَرَّأْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ-.

فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ ﷺ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ بِشَكْوَى أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرِّجَالِ: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» . وَهوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

((لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ»: يَعْنِي لَيْسَ الضَّارِبُونَ بِخِيَارِكُمْ، فَهَذَا حَقٌّ.

الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا امْتِثَالًا لِقوْلِ اللهِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

3* مِنْ حُقُوقِهَا: حُسْنُ العِشْرَةِ مَعَهَا:

قَالَ ﷺ: «خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلبَانِيُّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ حَسَنَ الْعِشْرَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ, وَهُوَ الْقَائِلُ ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».

وَكَانَ ﷺ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, فَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ, فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي التَّواضُعِ وَتَرَكِ التَّكَبُّرِ, وَفِيهِ خِدْمَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ.

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ : «مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ التَّوَاضُعُ, وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ, وَامْتِهَانُ النَّفْسِ؛ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ, وَلِئَلَّا يَخْلُدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ».

وَعَنْ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّهَا سُئِلْتُ؛ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ, وَيَحْلُبُ شَاتَهُ, وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ» . أَخرَجَهُ أَحمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَهْمَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ لَمْ يَذُمَّهُ, فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأةً قَطُّ, فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ:

«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ, وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ, وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِِ -عَزَّ وَجَلَّ-» . رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَمِنْ رَحمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ- أَنَّهُ أَمَرَ سَائِقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرفُقَ بِهِنَّ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوت, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُوَيدًا يَا أَنجَشَةَ لَا تَكسِر القَوَارِير»؛ يَعنِي: ضَعفَةَ النِّسَاءِ, رَوَاهُ مُسلِمٌ.

* وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: مُعَامَلَتُهَا الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى شُعُورِهَا، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِهَا:

قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي)) ؛ يَعْنِي: زَوْجَتَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

فَيَقُولُ هَذَا الْحَبْرُ -حَبْرُ الْأُمَّةِ- ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي)).

وَمِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي أَوْسَاطِ بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا: بَذَاءَةُ اللِّسَانِ، وَتَقْبِيحُ الْمَرْأَةِ خِلْقَةً وَخُلُقًا، وَالتَّأَفُّفُ مِنْ أَهْلِهَا بِذِكْرِ نَقَائِصِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، مَعَ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَمُنَادَاتِهَا بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ الْقَبِيحَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: إِظْهَارُ النُّفُورِ وَالِاشْمِئْزَازِ مِنْهَا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: تَجْرِيحُهَا بِذِكْرِ مَحَاسِنِ نِسَاءٍ أُخَرَ، وَأَنَّهُنَّ أَجْمَلُ وَأَفْضَلُ، وَأَحْلَى وَأَكْمَلُ!! وَذَلِكَ يُكَدِّرُ خَاطِرَهَا فِي أَمْرٍ لَيْسَ لَهَا فِيهَا يَدٌ.

وَمِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى شُعُورِ الزَّوْجَةِ، وَمِنْ إِكْرَامِهَا: مُنَادَاتُهَا بِأَحَبِّ أَسْمَائِهَا إِلَيْهَا، وَإِلْقَاءُ السَّلَامِ عَلَيْهَا حِينَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَيْهَا بِالْهَدِيَّةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.

وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ: عَدَمُ تَصَيُّدِ أَخْطَائِهَا وَمُتَابَعَةِ زَلَّاتِهَا، بَلِ الْعَفْوُ، وَالصَّفْحُ، وَالتَّغَاضِي، خَاصَّةً فِي أُمُورٍ تَجْتَهِدُ فِيهَا وَقَدْ لَا تُوَفَّقُ فِي أَدَائِهَا، فَتَأَمَّلْ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الزَّوَاجَ هُوَ الْعَلَاقَةُ الْمَشْرُوعَةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، هِيَ مِنْ أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ اللهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُعِفُّهُ وَالَّتِي تَكْفِيهِ فِي بَيْتِهِ بِالْمَؤُونَةِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَيَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَكَنًا.

هَذِهِ الزَّوْجَةُ -حِينَئِذٍ- مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بِالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَالَّتِي إِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ.

فَهَلْ بَعْدَ كُلِّ مَا سَبَق؛ يَمتَرِي ذُو لُبٍّ فِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ السَّمْحَاءَ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ أَنْصَفَت الْمَرْأَةَ, وَأَعْطَتْهَا حُقُوقَهَا الْعَادِلَةَ, بَعْدَمَا ظَلَمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا, فَحَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ مِنْ قُيُودِهَا, وَكَرَّمَهَا وَأَعْلَى مَكَانَتَهَا, بِاعْتِبَارِهَا إِنْسَانًا وَبِنْتًا وَزَوْجَةً وَأُمًّا وَعُضْوًا فِي الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ؟!!

كَرَّمَهَا إِنْسَانًا؛ مُنْذُ أَعْلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُلِ, وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ, وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِّ الْإِنْسَانِيَّةِ, فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوْعِ بِغَيْرِهَا.

((مَخَاطِرُ الطَّلَاقِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَا شَكَّ أَنَّ الطَّلَاقَ تَدْمِيرٌ لِبَيْتٍ أَمَرَ الشَّرْعُ أَنْ يُبْنَى عَلَى أَسَاسٍ مِنَ السَّكَنِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَحْمِلُ الْعَدِيدَ مِنَ الْمَخَاطِرِ وَالْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى الْأُسْرَةِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ وَلَاسِيَّمَا الْأَبْنَاءُ بِمَا يُسَبِّبُ لَهُمُ انْفِصَالُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ مُشْكِلَاتٍ نَفْسِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَاقْتِصَادِيَّةٍ يَفْتَقِدُونَ مَعَهَا مُقَوِّمَاتِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّنْشِئَةِ السَّلِيمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّفَكُّكِ الْأُسَرِيِّ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ عُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ النَّفْسِيِّ، وَالتَّأَخُّرِ الدِّرَاسِيِّ.

يَنْبَغِي لِلزَّوْجَيْنِ أَلَّا يَجْعَلَا أَوْلَادَهُمَا ضَحِيَّةً لِلْعِنَادِ وَالتَّعَنُّتِ وَالْمُهَاتَرَاتِ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ، وَأَنْ يُؤْثِرَ الْوَالِدَانِ مَصْلَحَةَ الْأَوْلَادِ.

إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلَى إِغْوَاءِ أَيٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِتَدْمِيرِ بُنْيَانِ الْأُسْرَةِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((بَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مُنْذُ بِدَايَةِ خَلْقِ آدَمَ، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ الْجَوْلَةِ الْأُولَى أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ، لِيَحْتَنِكَ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، مُتَوَعِّدًا إِبْلِيسُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17].

وَبَدَأَتِ الْجَوْلَةُ الثَّانِيَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَبِعَدَدِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ عَدَدُ الشَّيَاطِينِ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ وَجُنُودُهُ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ قَرِينُهُ وَمُلَازِمُهُ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ، يُزَيِّنُ لَهُ مَا يُغْضِبُ اللهَ؛ لِيُوقِعَ الْآدَمِيَّ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِيُشَارِكَ إِبْلِيسَ الْمَصِيرَ وَالنَّارَ، وَبِقَدْرِ نَجَاحِ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ وَالْغِوَايَةِ يَكُونُ حُبُّ إِبْلِيسَ لَهُ وَتَقْدِيرُهُ لِجُهُودِهِ وَتَقْرِيبُهُ مِنْهُ وَاحْتِضَانُهُ، أَمَّا مَنْ غُلِبَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَمَامَ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَنْ عَجَزَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَصِلَ إِلَى إِضْلَالِ وَإِغْوَاءِ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَاكَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْلِيسَ وَالْمُعَاقَبُ مِنْهُ بِشَتَّى الْعُقُوبَاتِ.

وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6])).

(( ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ)) أَيْ: سَرِيرَهُ ((عَلَى الْمَاءِ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((عَلَى الْبَحْرِ))، وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَضْعُ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ؛ يَعْنِي: جَعْلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- قَادِرًا عَلَيْهِ اسْتِدْرَاجًا؛ لِيَغْتَرَّ بِأَنَّ لَهُ عَرْشًا.

((ثُمَّ يَبْعَثُ)) أَيْ: يُرْسِلُ ((سَرَايَاهُ)): جَمْعُ سَرِيَّةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تُوَجَّهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ لِتَنَالَ مِنْهُ، وَفِي النِّهَايَةِ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةَ الْعَسْكَرِ وَخِيَارَهُمْ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، يَفْتِنُونَ النَّاسَ؛ أَيْ: يُضِلُّونَهُمْ، أَوْ يَمْتَحِنُونَهُمْ بِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي إِلَيْهِمْ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا.

((فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً)) أَيْ: أَقْرَبُهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَرْتَبَةً ((أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً)) أَيْ: أَكْبَرُهُمْ إِضْلَالًا، أَوْ أَشَدُّهُمُ ابْتِلَاءً.

((يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)): أَيْ: أَمَرْتُ بِالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ -مَثَلًا-، ((فَيَقُولُ)) أَيْ: إِبْلِيسُ ((مَا صَنَعْتَ شَيْئًا)) أَيْ: أَمْرًا كَبِيرًا أَوْ شَيْئًا مُعْتَدًّا بِهِ.

((قَالَ)) أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ: ((ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ)) أَيْ: فُلَانًا ((حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ)): هَذَا وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَمْرًا مُبَاحًا، وَظَاهِرُهُ خَيْرٌ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ يَصِيرُ مَذْمُومًا، وَيَحُثُّ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، وَيَفْرَحُ بِهِ كَبِيرُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].

((قَالَ)): عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((فَيُدْنِيهِ مِنْهُ)) أَيْ: فَيُقَرِّبُ إِبْلِيسُ ذَلِكَ الْمُغْوِيَ مِنْ نَفْسِهِ ((وَيَقُولُ)) أَيْ: إِبْلِيسُ لِلْمُغْوِي: ((نِعْمَ أَنْتَ)) أَيْ: نِعْمَ الْوَلَدُ أَوِ الْعَوْنُ أَنْتَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مَدْحٍ، أَوْ: أَنْتَ صَنَعْتَ شَيْئًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ مِنْ غَايَةِ حُبِّ إِبْلِيسَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحِبُّ كَثْرَةِ الزِّنَا)).

((فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفِرَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَكَثِيرُ ضَرَرِهِ وَفِتْنَتِهِ، وَعَظِيمُ الْإِثْمِ فِى السَّعْي فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَشَتَاتِ مَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ رَحْمَةً وَمَوَدَّةً، وَهَدْمِ بَيْتٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ)).

((نَصِيحَةٌ نَافِعَةٌ لِكُلِّ مَنْ يُفَكِّرُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ))

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَهَاوَنُ بِشَأْنِ الطَّلَاقِ، فَتَرَاهُ يُرْسِلُ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ الطَّلَاقِ دُونَمَا نَظَرٍ فِي عَوَاقِبِهِ.

وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَسْبَابٍ تَافِهَةٍ، فَيُقَوِّضُ سَعَادَةً قَائِمَةً، وَيُبَدِّدُ شَمْلَ أُسْرَةٍ مُتَمَاسِكَةٍ.

مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: نَزْوَةُ غَضَبٍ رَعْنَاءُ تَسْتَبِدُّ بِالْمَرْءِ، فَتُعْمِي بَصَرَهُ، وَتَشَلُّ تَفْكِيرَهُ، وَتَطِيشُ بِعَقْلِهِ، وَتَقُودُهُ إِلَى الطَّلَاقِ.

وَمِنْهَا: تَوْجِيهُ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ يُشِيرُونَ بِالرَّأْيِ الْفَطِيرِ الْمُعْوَجِّ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحِقْدُ، وَالْمَكْرُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغَيْرَةُ.

وَقَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ إِلَى السُّوقِ، أَوْ يَجْلِسُ فِي الْمَقْهَى، فَيَخْتَلِفُ مَعَ آخَرَ فِي شَأْنٍ جَلِيلٍ أَوْ حَقِيرٍ، فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بِالطَّلَاقِ حَانِثًا، فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ خَرَابَ بَيْتٍ، وَتَمْزِيقَ أُسْرَةٍ، وَتَشْرِيدَ أَوْلَادٍ.

وَقَدْ يَتَنَاقَشُ آخَرُ مَعَ صِهْره فِي زِيَارَةٍ أَوِ اسْتِزَارَةٍ، فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بِالطَّلَاقِ، فَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ تَقْطِيعَ أَرْحَامٍ، وَإِذْكَاءَ فِتْنَةٍ، وَانْفِصَامَ عُرًى.

وَيَتَنَازَعُ اثْنَانِ فِي السِّيَاسَةِ، أَوْ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، أَوْ فِي حَالِ الْجَوِّ مِنْ غَيْمٍ أَوْ صَحْوٍ، فَتَجْرِي أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ مُتَنَاثِرَةً مُتَعَدِّدَةً كَأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْحَدِيثِ.

وَيَسْتَضِيفُ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ، فَإِذَا تَمَنَّعَ صَاحِبُهُ حَلَفَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ إِلَّا حَضَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَزَوَّجْ إِلَّا لِيَجْعَلَ الزَّوْجَةَ أَدَاةَ يَمِينٍ لِيُصَدِّقَهُ النَّاسُ حِينَ يَحْلِفُ.

وَكَثِيرًا مَا تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْعَابِثَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا!!

وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ آمِنَةً فِي سِرْبِهَا، سَعِيدَةً بِزَوْجِيَّتِهَا، فَتُفَاجَئُ بِالطَّلَاقِ مِنْ زَوْجٍ أَحْمَقَ بِسَبَبِ خِلَافٍ شَجَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارٍ، أَوْ زَمِيلٍ، أَوْ بَائِعٍ، أَوْ مُشْتَرٍ عَلَى أَتْفَهِ الْأَسْبَابِ؛ فَتَكُونُ الْغَضْبَةُ الْمُضَرِيَّةُ مِنْ نَصِيبِ تِلْكَ الزَّوْجَةِ الْمِسْكِينَةِ.

وَقَدْ يَسْتَعْجِلُ الزَّوْجُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مُبَاشَرَةً؛ إِمَّا لِطُولِهَا الْمُفْرِطِ، أَوْ لِقِصَرِهَا، أَوْ لِنُحُولِهَا، أَوْ لِامْتِلَائِهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَذْوَاقُ، فَيُبَادِرُ إِلَى تَطْلِيقِهَا دُونَمَا تَأَنٍّ أَوْ تَرَيُّثٍ.

وَقَدْ يُطَلِّقُهَا بِسَبَبِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي مِلْحِ الطَّعَامِ، أَوْ بِسَبَبِ بَعْضِ التَّقْصِيرِ الْيَسِيرِ.

وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ التَّافِهَةِ يَحْدُثُ كَثِيرٌ مِنْ حَالَاتِ الطَّلَاقِ.

وَكَثِيرًا مَا يَنْدَمُ الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَ، فَبَعْدَ أَنْ كَانَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، تُرَفْرِفُ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ؛ إِذَا بِهِ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ، وَيَقْرَعُ سِنَّهُ، وَيَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ وَحُمْقِهِ، وَعَجَلَتِهِ وَرُعُونَتِهِ.

وَقَدْ يَبْحَثُ فِيمَا بَعْدُ عَمَّنْ يُفْتِيهِ فِي إِمْكَانِيَّةِ الرَّجْعَةِ، أَوْ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ لِمُلَابَسَاتٍ مَا.

وَمِنْ هُنَا تَتَنَغَّصُ حَيَاتُهُ، وَيَتَكَدَّرُ عَيْشُهُ؛ فَالطَّلَاقُ حَلُّ عُقْدَةٍ، وَبَتُّ حِبَالٍ، وَتَمْزِيقُ شَمْلٍ، وَزِيَالُ خَلِيطٍ، وَانْفِضَاضُ سَامِرٍ؛ فَفِيهِ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ، وَجَرَتْ فِي آدَابِهِمْ مَجْرَى الْأَمْثَالِ؛ مِنَ الْتِيَاعٍ، وَحَرَارَةٍ، وَحَسْرَةٍ، وَمَرَارَةٍ، مَعَ مَا يَصْحَبُهُ مِنَ الْحِقْدِ، وَالْبُغْضِ، وَالتَّأَلُّمِ، وَالتَّظَلُّمِ.

فَلِهَذِهِ الْمُلَابَسَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَالطِّبَاعِ الرَّقِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَ الْإِسْلَامُ الطَّلَاقَ مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ فِطْرِيَّةٍ، وَقُيُودٍ شَرْعِيَّةٍ، فَاعْتَمَدَ فِي تَنْفِيذِ الطَّلَاقِ بَعْدَ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ، وَشَرَعَ لَهُ مِنَ الْمُخَفِّضَاتِ مَا يُهَوِّنُ وَقْعَهُ؛ كَالتَّمْتِيعِ، وَمَدِّ الْأَمَلِ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَتَوْسِيعِ الْعِصْمَةِ إِلَى الثَّلَاثِ؛ حَتَّى تُمْكِنَ الْفَيْئَةُ إِلَى الْعِشْرَةِ.

وَمَا وَصْفُ الطَّلَاقِ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّرَاحِ الْجَمِيلِ وَالتَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ إِلَّا تَلْطِيفٌ إِلَهِيٌّ مِنْ غِلَظِ الْإِحْسَاسِ؛ حَتَّى يَصِيرَ الطَّلَاقُ خَفِيفَ الْوَقْعِ عَلَى النُّفُوسِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ، فَلَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ لَكِنَّهُ كَرِهَ الطَّلَاقَ، وَوَضَعَ أَمَامَهُ أَحْكَامًا وَمَوَاعِظَ شَأْنُهَا أَنْ تَكُفَّ الْأَزْوَاجَ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ بِهِ، وَتَجْعَلَ حَوَادِثَهُ قَلِيلَةً جِدًّا.

لِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ الزَّوْجَ بِأَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَدَعَاهُ إِلَى التَّأَنِّي إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةً لَهَا، فَلَا يُبَادِرُ إِلَى كَلِمَةِ الطَّلَاقِ؛ فَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَارِضَةً ثُمَّ تَزُولُ.

وَمِنْ شِدَّةِ تَحْذِيرِ الشَّارِعِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّلَاقِ: أَنْ جَعَلَ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّوْجَةِ خَيْرٌ كَثِيرٌ كَافِيًا فِي الِاحْتِفَاظِ بِعِصْمَتِهَا، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى حُسْنِ مُعَاشَرَتِهَا.

ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الزَّوْجَةِ بَعْضُ مَا يَكْرَهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلْيَتَحَرَّ الْخِيَرَةَ، فَعَامَّةُ مَصَالِحِ النُّفُوسِ فِي مَكْرُوهَاتِهَا، وَعَامَّةُ مَضَارِّهَا وَأَسْبَابُ هَلَكَتِهَا فِي مَحْبُوبَاتِهَا، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمَكْرُوهُ بِالْمَحْبُوبِ، وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمَحْبُوبُ بِالْمَكْرُوهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَال اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ نَدَبَتِ الْآيَةُ إِلَى إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَهَا، وَنَبَّهَتْ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ وُجُوهَ الصَّلَاحِ، فَرُبَّ مَكْرُوهٍ عَادَ مَحْبُوبًا، وَمَحْمُودٍ عَادَ مَذْمُومًا.

وَالثَّانِي مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَجِدُ مَحْبُوبًا لَيْسَ فِيهِ مَا يُكْرَهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَكْرَهُ لِمَا يُحِبُّ)).

لِهَذَا فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ امْرَأَةً، فَأَمْسَكَ عَلَيْهَا، فَأَنْجَبَتْ لَهُ أَوْلَادًا أَبْرَارًا قَامُوا بِنَفْعِهِ، وَنَشْرِ فَخْرِهِ وَذِكْرِهِ!

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ فُتِنَ بِامْرَأَةٍ غَدَتْ بِلُبِّهِ، وَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ وَأَهْلَهُ!

إِضَافَةً إِلَى ذَلِكَ فَالْمُؤْمِنَةُ لَا تُكْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا الزَّوْجُ خُلُقًا يُكْرَهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مُرْضِيًّا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَفْرَكُ -أَيْ: لَا يُبْغِضُ وَلَا يَكْرَهُ- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ)).

ثُمَّ إِنَّ الْحَيَاةَ تَقُومُ عَلَى أُسُسٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ الْحُبُّ -فِي نَظَرِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ- أَهَمَّهَا، أَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الْحُبَّ لَهُ أَثَرُهُ وَدَوْرُهُ؛ وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ فَهُنَاكَ التَّذَمُّمُ، وَالرِّعَايَةُ، وَالتَّوَدُّدُ، وَالتَّحَمُّلُ، وَالْخُلُقُ، وَالِاحْتِسَابُ، وَالْوَفَاءُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَعَانِي النَّبِيلَةِ الْجَمِيلَةِ.

لِهَذَا كَانَ الْكِرَامُ يَقْضُونَ هَذِهِ الْحُقُوقَ، وَيَرْعُونَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قِيلَ لِأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: مَا أَرْجَى عَمَلِكَ عِنْدَكَ؟

قَالَ: كُنْتُ فِي صَبْوَتِي يَجْتَهِدُ أَهْلِي فِي تَزْوِيجِي، فَآبَى -أَيْ: أَمْتَنِعُ وَأَرْفُضُ-، فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! إِنِّي قَدْ هَوِيتُكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ بِاللهِ أَنْ تَتَزَوَّجَنِي.

فَأَحْضَرْتُ أَبَاهَا وَكَانَ فَقِيرًا، فَزَوَّجَنِي مِنْهَا، وَفَرِحَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَيَّ رَأَيْتُهَا عَوْرَاءَ عَرْجَاءَ مُشَوَّهَةً.

وَكَانَتْ لِمَحَبَّتِهَا لِي تَمْنَعُنِي مِنَ الْخُرُوجِ، فَأَقْعُدُ حِفْظًا لِقَلْبِهَا، وَلَا أُظْهِرُ لَهَا مِنَ الْبُغْضِ شَيْئًا، وَكَأَنِّي عَلَى جَمْرِ الْغَضَا مِنْ بُغْضِهَا، فَبَقِيتُ -هَكَذَا- خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى مَاتَتْ، فَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ هُوَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ حِفْظِي قَلْبَهَا)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بِهَا الْجُدَرِيَّ، فَقَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي، ثُمَّ قَالَ: عَمِيتُ، فَبَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَاتَتْ، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بَصِيرٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُحْزِنَهَا رُؤْيَتِي لِمَا بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: سَبَقْتَ الْفِتْيَانَ)).

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: حَدَّثَنِي صَدِيقٌ أَنَّ شَيْخَهُ أَسَرَّ لَهُ بِحَقِيقَةٍ تَقُومُ فِي حَيَاتِهِ: قَالَ: ((إِنَّ زَوْجَتِي هَذِهِ مَضَى عَلَى زَوَاجِي مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا سَارَّا، وَإِنَّنِي مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ دُخُولِي بِهَا عَرَفْتُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِي بِحَالٍ؛ وَلَكِنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ عَمِّي، وَأَيْقَنْتُ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَمِلَهَا، فَصَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ، وَأَكْرَمَنِي اللهُ مِنْهَا بِأَوْلَادٍ بَرَرَةٍ صَالِحِينَ، وَسَاعَدَنِي نُفُورِي مِنْهَا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مُؤَلَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنَ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَأَتَاحَتْ لِي عَلَاقَتِي السَّيِّئَةُ بِهَا أَنْ أُقِيمَ مَعَ النَّاسِ حَيَاةً اجْتِمَاعِيَّةً نَامِيَةً، وَرُبَّمَا لَوْ تَزَوَّجْتُ غَيْرَهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ)).

قَالَ: وَحَدَّثَنِي صَدِيقٌ آخَرُ قَالَ: ((إِنَّنِي مِنَ الْأَيَّامِ الْأُولَى لِزَوَاجِنَا لَمْ أَجِدْ فِي قَلْبِي مَيْلًا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلَا حُبًّا لَهَا؛ وَلَكِنَّنِي عَاهَدْتُ اللهَ عَلَى أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهَا، وَلَا أَظْلِمَهَا، وَرَضِيتُ قِسْمَةَ اللهِ لِي، وَوَجَدْتُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ، وَالْوَلَدِ، وَالْأَمْنِ، وَالتَّوْفِيقِ)).

وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِرِضًا دَاخِلِيٍّ، وَإِيثَارًا، كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَأَيَاهَا، وَلَمْ يَسْلُكَا هَذَا الْمَسْلَكَ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمَا لَازِمٌ، فَحَقَّقَ اللهُ لَهُمَا الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، وَمِنْ هَذَا الْخَيْرِ: الثَّوَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ الْعِينُ الَّتِي سَتَكُونُ لَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ الْعَافِيَةَ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَرَادَ الْبَحْثَ عَنِ الْمُتْعَةِ وَالْهَنَاءَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالصَّفَاءِ، وَوَجَدَ امْرَأَةً صَالِحَةً تُحَقِّقُ لَهُ فِي تَوَقُّعِهِ ذَلِكِ كُلَّهُ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهَا، وَيَعْدِلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِمَا يَسْتَطِيعُ مِنْ وَسَائِلَ.

إِنَّ مَا مَضَى إِنَّمَا هُوَ حَثٌّ عَلَى التَّرَيُّثِ فِي شَأْنِ الطَّلَاقِ إِنْ كَرِهَ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا.

وَالْأَمْرُ لَا يَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، بَلْ إِذَا نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ، فَارْتَفَعَتْ عَلَى زَوْجِهَا، وَخَالَفَتْ أَمْرَهُ، وَخَرَجَتْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَلَمْ تَرْضَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ لَهَا؛ فَلَا يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى تَطْلِيقِهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَتْرُكِ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ مَا يُقَوِّمُ اعْوِجَاجَ الْمَرْأَةِ، وَمَا يُصْلِحُ عَيْبَهَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].

((الطَّلَاقُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ))

عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحْسِنُوا اخْتِيَارَ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى التَّرْوِيضِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَأَنْ يُعَامِلُوا زَوْجَاتِهِمْ بِالْحُسْنَى، وَأَنْ يُصْلِحُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ؛ حَتَّى يُصْلِحَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَأَزْوَاجَهُمْ، وَجَمِيعَ مَنْ يُعَاشِرُونَ.

وَإِذَا ثَبَتَ لَدَى الْأَزْوَاجِ اسْتِحَالَةُ اسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يُؤْذُوا الزَّوْجَاتِ، وَأَلَّا يُهْلِكُوا أَنْفُسَهُمْ {إِنَّ اللهَ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا}.

إِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُطْوَةَ الْأُولَى فِي حَسْمِ الْخِلَافِ، بَلْ هُنَاكَ خُطُوَاتٌ أُخْرَى يُلْجَأُ إِلَيْهَا.

فَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ الْحَيَاةِ كَانَ الطَّلَاقُ الْخِيَارَ الْأَخِيرَ، وَلَعَلَّ الْخَيْرَ يَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ مَعًا بَعْدَ الطَّلَاقِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللهَ يُغْنِيهِ عَنْهَا، وَيُغْنِيهَا عَنْهُ؛ بِأَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا، وَيُعَوِّضَهَا عَنْهُ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ: {وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أَيْ: وَاسِعَ الْفَضْلِ، عَظِيمَ الْمَنِّ، حَكِيمًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَقْدَارِهِ، وَشَرْعِهِ)).

وبِالْجُمْلَةِ؛ فَمَوْضُوعُ الطَّلَاقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي تَقُومُ فِي حَيَاتِنَا بَيْنَ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَمْنُوعًا مَهْمَا كَانَ الْوَضْعُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُلْعُوبَةً يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ أَدْنَى سَبَبٍ وَأَيْسَرِ نَزْوَةٍ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُصْلِحَ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

((شَهْرُ رَجَبٍ لَا تَظْلِمْ فِيهِ نَفْسَكَ!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَجَبٌ الْفَرْدُ الْأَصَمُّ))

فَشَهْرُ رَجَبٍ يُقَالُ لَهُ (رَجَبٌ الْفَرْدُ)، وَيُقَالُ لَهُ (الْأَصَبُّ)، وَيُقَالُ لَهُ (الْأَصَمُّ)؛ فَأَمَّا الْفَرْدُ؛ فَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَهِيَ: (ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَشَهْرُ اللهِ الْحَرَامُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ)، وَأَمَّا الْفَرْدُ فَهُوَ شَهْرُ رَجَبٍ.

وَأَمَّا (الْأَصَبُّ) وَ(الْأَصَمُّ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُسْمَعُ فِي رَجَبٍ صَوْتُ صَلِيلِ السِّلَاحِ، وَلَا صَوْتُ الْقَعْقَعَةِ بِالشِّنَانِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَيَضَعُونَ فِيهَا الْحُرُوبَ، وَيَضَعُونَ فِيهَا الْعَدَاوَاتِ؛ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَهِيجُهُ، وَلَا يَمُدُّ لَهُ يَدَهُ بِأَذًى، فَلَمَّا انْقَطَعَ صَوْتُ الْأَسْلِحَةِ فِي الْمَعَارِكِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؛ قِيلَ لَهُ (الْأَصَمُّ) الَّذِي لَا يُسْمَعُ فِيهِ صَوْتُ سِلَاحٍ.

((لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ!))

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِأَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا؛ {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي: بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَأَكْبَرُ الْمَعَاصِي: الشِّرْكُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا مَفْهُومُهُ؛ أَنَّنَا يَنْبَغِي لَنَا حَتَّى لَا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْ نَجْتَهِدَ فِي الْتِزَامِ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْأَخْذِ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَأَنْ نُعَظِّمَ حُرُمَاتِ اللهِ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ حَرَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ لَهَا حُرْمَةً يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى.

((عَدَمُ ثُبُوتِ تَخْصِيصِ رَجَبٍ بِصِيَامٍ))

لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حَدِيثٌ، وَإِنَّمَا وَرَدَ حَدِيثٌ فِيهِ ضَعْفٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصُومُ مِنَ الْحُرُمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ، وَعَلَيْهِ؛ فَالْمُعَوَّلُ -حِينَئِذٍ- أَنَّ الْإِنْسَانَ يَصُومُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَعَادَتِهِ فِي الصِّيَامِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ فِي الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحِينَ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصِّيَامِ تَطَوُّعًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ أَوَّلِهِ، وَكَذَلِكَ يَصُومُ الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَهِيَ: (الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِجْرِيٍّ)، وَيَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، وَيَصُومُ -أَيْضًا- يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ وَأَعْدَلُهُ، وَهُوَ صِيَامُ دَاوُدَ (سلم)، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْهُمَامُ ﷺ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)).

فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ فِي الصِّيَامِ؛ فَلْتَكُنْ مُسْتَمِرَّةً فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى عَادَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَلْتَزِمُ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ، وَالَّذِي ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَهْرِ شَعْبَانَ؛ فَصِيَامُ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا النَّفْلُ؛ ((فَالنَّبِيُّ ﷺ مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ، فَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا)).

وَالْعُلَمَاءُ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

((فَضَائِلُ الْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ))

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَرَّى أَوْقَاتَ الْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي وَقْتِ غَفْلَةِ النَّاسِ لَهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، عِنْدَمَا تَكْثُرُ الْفِتَنُ، وَيَسْتَشْرِي الْقَتْلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُنْتَهَكُ الْحُرُمَاتُ، وَتُسَالُ الدِّمَاءُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا الْتَزَمَ بِدِينِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَخَذَ بِعِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ آتِيًا بِأَمْرٍ كَبِيرٍ جِدًّا، كَأَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، قَالَ: ((عِبَادَةٌ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْهَرْجُ؟

قَالَ: ((الْقَتْلُ)).

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّنَا كُلَّمَا ابْتَعَدْنَا عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ، وَاقْتَرَبْنَا مِنَ السَّاعَةِ؛ زَادَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ، كَمَا أَنَّنَا كُلَّمَا كُنَّا أَدْنَى وَأَقْرَبَ إِلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ كَانَ الْخَيْرُ كَثِيرًا، وَكَانَ الشَّرُّ قَلِيلًا، وَالْفِتَنُ تَزِيدُ مَعَ قُرْبِ النَّاسِ مِنَ السَّاعَةِ، وَمَعَ تَقَدُّمِ الْأَيَّامِ وَبُعْدِهَا عَنْ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَصْرِ النُّبُوَّةِ تَزِيدُ الْفِتَنُ؛ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ!!».

سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَنْطَلِقُ أَيْدِيهِمْ فِي دِمَاءِ بَعْضِهِمْ؛ فَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ لِمَاذَا قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ لِمَاذَا قُتِلَ!!

فَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ: ((عِبَادَةٌ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)).

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْهَرْجُ؟

قَالَ: ((الْقَتْلُ)).

وَمَفْهُومُ هَذَا -بَلْ وَلَازِمُهُ أَيْضًا-: أَنَّ الِاضْطِرَابَ يَكُونُ عَامًّا، وَأَنَّهُ يَقَعُ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الْفَوْضَى؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَهَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا إِذَا وَقَعَتِ اضْطِرَابَاتٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَوَقَعَ تَفَكُّكٌ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، فَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، لَا يُرَاعُونَ حُرْمَةً لِدَمٍ وَلَا لِنَفْسٍ، بَلْ تَنْطَلِقُ أَيْدِيهِمْ فِي دِمَاءِ بَعْضِهِمْ، وَيَكْثُرُ الْقَتْلُ.

فَـ((عِبَادَةٌ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))؛ كَهِجْرَةٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ لَهَا أَجْرٌ كَبِيرٌ جِدًّا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ -أَيْضًا-: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ بِاللَّيْلِ.. فِي السَّحَرِ الْأَعْلَى مِنَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ شَدِيدَ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ السَّحَرَ الْأَعْلَى هَذَا هُوَ وَقْتُ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيُنَادِي: أَلَا هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ أَلَا هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلِ حَاجَةٍ فَأُعْطِيَهُ؟)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْزِلُ نُزُولًا حَقِيقِيًّا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ؛ فَالْعِبَادَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ جِدًّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَعِبَادُ اللهِ الْمُتَّقُونَ هُمُ الَّذِينَ بِالْأَسْحَارِ يَسْتَغْفِرُونَ، وَيَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيَتَعَبَّدُونَ، وَيَذْكُرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، هَذَا وَقْتُ غَفْلَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى ذَلِكَ؛ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْضِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ))، هَذَانِ الْوَقْتَانِ هُمَا أَشَدُّ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْعِشَاءِ -أَيْ: فِي الْعَتَمَةِ-، وَمَا فِي الصُّبْحِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِمَا حَبْوًا؛ لَأَتَوْا إِلَيْهِمَا -يَعْنِي: حَبْوًا-))؛ مِنْ شِدَّةِ الْفَضْلِ لِهَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِشُهُودِهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَهَذَانِ وَقْتَا غَفْلَةٍ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ كَثْرَةِ وَسَائِلِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الَّتِي هِيَ غَالِبَةٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ.. كَانَ النَّاسُ رُبَّمَا نَامُوا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، كَانُوا يَعْمَلُونَ بِجِدٍّ وَكَدٍّ، وَكَانُوا يَبْذُلُونَ الْمَجْهُودَ وَيَتْعَبُونَ، وَيَعُودُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ مَعَ الْمَغْرِبِ، فَرُبَّمَا أَكَلُوا شَيْئًا ثُمَّ نَامُوا، فَرُبَّمَا فَاتَتْهُمْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، فَهَذَا وَقْتُ غَفْلَةٍ، وَرُبَّمَا أَخَّرُوا الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَكَاسَلُوا عَنْهَا أَوْ نَامُوا؛ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِهَا.

وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ.. يَكُونُ الْإِنْسَانُ نَائِمًا وَيَتَلَذَّذُ بِنَوْمِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي حَالِ بَرْدٍ أَوْ فِي حَالِ تَعَبٍ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يَقُومُ خَفِيفًا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُمْ، فَهَذَانِ -أَيْضًا- مِنْ أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ، فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَأَنَّ ((مَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ؛ كَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ)) عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُصَلِّيًا وَذَاكِرًا.

الْمُهِمُّ أَنَّ ((النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا))، هَذَا هُوَ الثَّابِتُ بِالنِّسْبَةِ لِلشُّهُورِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِيَامِ النَّفْلِ، رَمَضَانُ صَوْمُهُ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى حَسَبِ الشُّرُوطِ إِذَا تَوَفَّرَتْ، وَأَمَّا مَا دُونَ رَمَضَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْلِ مِنَ الصِّيَامِ؛ فَإِنَّ ((النَّبِيَّ ﷺ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا))؛ لِيَفْصِلَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ هَذَا الشَّرْعِ الْأَغَرِّ وَمِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ، قَالَ: ((هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ))؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ رَجَبٍ -وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالنَّاسُ لَا يَظْلِمُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَتَوَقَّوْنَ الْمَحَارِمَ- وَبَيْنَ رَمَضَانَ الَّذِي فَرْضُ صِيَامِهِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُمْكِنُ -أَيْضًا- أَنْ نَأْخُذَ حِكْمَةً -وَإِنْ لَمْ يُعْلِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ-؛ وَذَلِكَ أَنَّ شَهْرَ شَعْبَانَ يَكُونُ كَالْمُقَدِّمَةِ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ، فَإِذَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمُ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا وَمُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي فَرَضَ اللهُ -تَعَالَى- صِيَامَهُ عَلَيْهِ.

((كَيْفَ يَظْلِمُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ؟!!))

عِنْدَنَا شَهْرُ رَجَبٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي نَهَانَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ أَنْ نَظْلِمَ فِيهِنَّ أَنْفُسَنَا، وَظُلْمُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ يَتَعَلَّقُ أَوَّلَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ بِخَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَظْلِمُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

أَكْبَرُ الطَّاعَاتِ وَأَعْظَمُهَا: تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرَهَا: هُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِتَضْيِيعِ حُدُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِالتَّعَدِّي عَلَى مَا حَدَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْحُدُودِ الْقَائِمَةِ فِي دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِذَا مَا تَعَدَّى الْإِنْسَانُ حَدَّهُ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَصَّرَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَأَهْمَلَ بَعْضَ مَا فَرَضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هُنَاكَ أَمْرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَظْلِمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي لَا يُسَامِحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا أَبَدًا، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ:

الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثَلَاثَةٌ:

* فَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْوُقُوعِ فِي بَعْضِ مَا حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَغْفِرُهُ لِعَبْدِهِ إِنْ شَاءَ.

فَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ شَيْئًا.

* وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.

* وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ؛ أَنْ يَتَجَاوَزَ حُدُودَهُ، أَنْ تَكُونَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ، فَهَذِهِ لَا يُسَامِحُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ حَتَّى إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْعَثُ الْحَيَوَانَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ!! كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْعَثُ الشَّاةَ الْقَرْنَاءَ الَّتِي لَهَا قَرْنَانِ، وَالشَّاةَ الْجَلْحَاءَ الَّتِي لَا قُرُونَ لَهَا)).. تَكُونُ الْقَرْنَاءُ قَدْ نَطَحَتْ بِقَرْنَيْهَا الْجَلْحَاءَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ لَمْ تَقْتَصَّ مِنْهَا، وَلَمْ تَأْخُذْ حَقَّهَا مِنْهَا، وَهِيَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ!! مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ!! وَلَكِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، لَا ظُلْمَ يَوْمَئِذٍ.

لَا بُدَّ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ عَلَى وَجْهِهِ، حَقٌّ مُطْلَقٌ وعَدْلٌ مُطْلَقٌ، لَا مُهَاوَدَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَلَا مُحَابَاةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقِصَاصِ، وَمِنْ إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْبَهَائِمِ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَيُنْشِئُ اللهُ -تَعَالَى- لِلْجَلْحَاءِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بِذَاتِ قَرْنَيْنِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. يُنْشِئُ لَهَا قَرْنَيْنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْطَحَ بِهَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ الْقَرْنَاءَ الَّتِي نَطَحَتْهَا كَمَا نَطَحَتْهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقُولُ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ: كُونِي تُرَابًا)).

فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ؛ فَكَيْفَ بَيْنَ الْبَشَرِ؟!! كَيْفَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

لَا هَوَادَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا رَحْمَةَ فِيهِ، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا؛ وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، لَا بُدَّ مِنْ إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَالْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، أَمَّا إِذَا ظَلَمَ؛ فَالظُّلْمُ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَشَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ.. يَرْضَاهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ؟!!

يَقُولُ: ((يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)).

الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ، حَرَّمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَتَصَوَّرَ عَاقِلٌ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا ثُمَّ يَقْبَلُهُ مِنْ خَلْقِهِ.

إِذَنْ؛ فَالْعَبْدُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَا دَامَ عِنْدَهُ نَفَسٌ يَتَرَدَّدُ، وَمَا دَامَتِ الرُّوحُ لَمْ تَبْلُغِ الْحُلْقُومَ؛ لِأَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، وَهُوَ مَفْتُوحٌ بِالنِّسْبَةِ لِلدُّنْيَا كُلِّهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَبِالنِّسْبِةِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَّا بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ؛ وَلَكِنْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبَادِرَ وَأَنْ يُسَارِعَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فَجْأَةً؛ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يُبَاغَتُ بِالْمَوْتِ وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ لِلْخَلْقِ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ؛ سَأَلَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)).

قَالُوا: الْمُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ.

هَذَا بِمِيزَانِ الدُّنْيَا، الْمُفْلِسُ: الَّذِي لَا يَمْلِكُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا.

قَالَ: ((الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ؛ بِصَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَبَذْلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ، لَهُ حَسَنَاتٌ؛ وَلَكِنْ يَأْتِي وَقَدْ ضَرَبَ هَذَا، وَشَتَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَاعْتَدَى عَلَى هَذَا))، كَيْفَ يَكُونُ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

لَا دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ((يَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ؛ أُخِذَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، ثُمَّ طُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)).

((لِمَاذَا تَظْلِمُ نَفْسَكَ؟!!))

لِمَاذَا تَظْلِمُ نَفْسَكَ؟!!

أَدِّ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَعْرِفَ الْحُقُوقَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ الْحُقُوقَ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَدِّ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ قَالَ: أَنَا أَدَّيْتُ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، مَعَ أَنَّ لِلْخَلْقِ عِنْدَهُ حُقُوقًا كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَدْرِي!!

إِذَا تَكَلَّمْتَ عَنْ أَخِيكَ بِكَلِمَةٍ؛ هَذَا حَقٌّ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِ الْعَبْدِ، وَاللهُ لَا يُسَامِحُ فِي حُقُوقِ الْعَبْدِ..

لَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ..

أَنْتَ إِذَا تَكَلَّمْتَ فِي أَخِيكَ بِكَلِمَةٍ لَا تُلْقِي لَهَا بَالًا؛ سَيَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. مِنْ حَسَنَاتِكَ، وَأَنْتَ تَحْتَاجُ حَسَنَةً وَاحِدَةً، أَبُوكَ سَيَضِنُّ وَيَبْخَلُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ عَلَيْكَ.. الَّتِي تُفَرِّطُ أَنْتَ فِيهَا هَاهُنَا!! الَّتِي تُعْطِيهَا لِهَذَا وَهَذَا!! وَتُعْطِيهَا لِمَنْ تَكْرَهُ؛ لِأَنَّكَ لَنْ تَقَعَ بِلِسَانِكَ فِيمَنْ تُحِبُّ، أَنْتَ لَنْ تَغْتَابَ وَلَنْ تَسُبَّ وَلَنْ تَشْتُمَ إِلَّا مَنْ تَكْرَهُ، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الْحُمْقِ!! لَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا مَنِ اسْتَمْكَنَ الْحُمْقُ مِنْ نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُهْدِي حَسَنَاتِهِ الَّتِي يَضِنُّ بِهَا عَلَى أَبِيهِ، وَيَضِنُّ بِهَا عَلَى أُمِّهِ، وَيَضِنُّ بِهَا عَلَى زَوْجَتِهِ، وَيَضِنُّ بِهَا عَلَى أَوْلَادِهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ يَبْخَلُونَ بِهَذِهِ الْحَسَنَاتِ عَلَيْهِ.. يُعْطِي هَذِهِ الْحَسَنَاتِ لِمَنْ يَكْرَهُهُ!!

هَذَا عَقْلٌ؟!!

فَهَذِهِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُشِيرُ بِهَا عَائِشَةُ، لَمْ تَنْطِقْ بِلِسَانِهَا، قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا))؛ وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا، تَعْنِي: أَنَّهَا قَصِيرَةٌ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ!!)).

هَذِهِ الْكَلِمَةُ!! مَا تَبْلَغُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِيمَا نَقُولُهُ نَحْنُ؟!!

النَّاسُ يَتَوَرَّطُونَ فِي الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَهِيَ مُسْتَوْجِبَةٌ لِلْحَدِّ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: إِذَا تَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ فِي عِرْضِ إِنْسَانٍ وَلَوْ بِالْكِنَايَةِ -كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ- وَكَانَ قَاذِفًا لِأَخِيهِ؛ يَعْنِي: يَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ وَلَوْ بِالْكِنَايَةِ، يَعْنِي: لَوْ تَكَلَّمَ الرَّجُلُ عَنْ أُمِّهِ.. عَنْ أُمِّهِ هُوَ، يُرِيدُ لَمْزَ أُمِّ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ قَاذِفًا؛ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَيُسْمَّى فَاسِقًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

لِمَاذَا تَظْلِمُ نَفْسَكَ؟!!

النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ؛ حَتَّى فِي الْأَعْرَاضِ!! لَا يُبَالُونَ!! وَفِي الْأَعْرَاضِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- هَذَا الْحَدُّ يُسَمَّى بِحَدِّ الْقَذْفِ، فَإِذَا لَمْ تَعْرِفِ الْحُقُوقَ أَصْلًا؛ فَكَيْفَ تَرُدُّ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا؟!!

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ حُقُوقُ الْعِبَادِ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَبِمُسَامَحَتِهِمْ هُمْ لَكَ؛ وَلَكِنْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فِي الْآخِرَةِ لَا دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ، وَلَا مُسَامَحَةَ، الْحَسَنَةُ يَبْخَلُ عَلَيْكَ بِهَا أَبُوكَ، تَقُولُ: أَيَّ وَلَدٍ كُنْتُ لَكَ؟!!

يَقُولُ: كُنْتَ خَيْرَ وَلَدٍ.

فَتَقُولُ: أُرِيدُ مِنْكَ الْيَوْمَ حَسَنَةً.

فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ! أَخْشَى الْيَوْمَ مِمَّا مِنْهُ تَخْشَى.

بَلْ أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ لِأُمِّكَ!! إِذَا طَلَبَتْ مِنْكَ حَسَنَةً فَلَنْ تُعْطِيَهَا شَيْئًا؛ فَلَا تُبَدِّدْ حَسَنَاتِكَ، وَلَا تُضَيِّعْ مَجْهُودَكَ، وَلَا تُذْهِبْ ثَمَرَةَ عَمَلِكَ الصَّالِحِ؛ بِأَنْ تَأْخُذَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَأَنْتَ إِذَا اغْتَبْتَ إِنْسَانًا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَسْمِحَهُ، وَأَنْتَ عَلِيمٌ بِأَنَّ أَخْلَاقَ النَّاسِ لَا تَجْعَلُهُمْ يُسَامِحُونَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، تَذْهَبُ إِلَى فُلَانٍ فَتَقُولُ: تَكَلَّمْتُ فِيكَ، أَوْ قُلْتُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، وَوَقَعْتُ فِي عِرْضِكَ فَسَامِحْنِي!

فَيَقُولُ: لَنْ أُسَامِحَكَ أَبَدًا، وَرُبَّمَا وَقَعَ قِتَالٌ وَمُشَاجَرَةٌ وَسَالَتِ الدِّمَاءُ!!

يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنْ لَمْ يَرْضَ أَنْ يُسَامِحَكَ إِلَّا بِمَالٍ تُعْطِيهِ إِيَّاهُ؛ فَأَعْطِهِ مَالًا حَتَّى يُسَامِحَكَ، فَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ عَاقِلِينَ وَاعِينَ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَنْ نَلْتَفِتَ لِمَا يَنْفَعُنَا، ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ وَالتَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَى
  المخرج من الفتن
  مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ
  مواعظ رمضانية - الجزء الثالث
  رَمَضَانُ شَهْرُ الطَّاعَاتِ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ
  السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان