مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ

مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ

((مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

                     ((أَهَمِّيَّةُ الرِّفْقِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ))

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ دَوْمًا عَلَى الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ خَصْلَةٌ عَظِيمَةٌ يُحِبُّهَا اللهُ -تَعَالَى- مِنْ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ)).

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَنْ أُعْطِيَ الرِّفْقَ فَقَدْ أُعْطِيَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَمَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الْخَيْرَ.

عَنْ جَرِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لَهَا: ((يَا عَائِشَةُ! ارْفُقِي؛ فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَالرِّفْقُ: لِينُ الْجَانِبِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ أَقْوَالُ الْإِنْسَانِ وَأَفْعَالُهُ هَيِّنَةً لَيِّنَةً، لَيْسَ فِيهَا صَلَفٌ وَلَا شِدَّةٌ، وَلَا فَظَاظَةٌ وَلَا غِلْظَةٌ، وَلَا إِسْفَافٌ وَلَا فُحْشٌ وَعُنْفٌ.

وَيَتَبَيَّنُ نَصِيبُ الْمَرْءِ مِنَ الرِّفْقِ فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُثِيرُ الْغَضَبَ.

وَالرِّفْقُ يُزَيِّنُ الْأُمُورَ، وَيُجَمِّلُ الْحَيَاةَ، وَيُكَمِّلُ الْإِيمَانَ، وَتَتَحَقَّقُ بِهِ لِلْعَبْدِ الْخَيْرِيَّةُ، وَيَنَالُ بِالرِّفْقِ مَصَالِحَهُ وَمَآرِبَهُ وَغَايَاتِهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.

((الرِّفْقُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ الرِّفْقَ خُلُقٌ نَبِيلٌ يَحُثُّ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ قُرْآنًا وَسُنَّةً، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

((أَيْ: بِرَحْمَةِ اللَّهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أَلَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: قَاسِيَهُ؛ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ، وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّءُ.

فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّئِيسِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الرَّئِيسِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ مَا يَقُولُ؛ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!

أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ: الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللَّهِ لِدِينِ اللَّهِ؟!

ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللَّهِ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أَيِ: الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ: 

مِنْهَا: أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ فِيهَا تَسْمِيحًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِمَا يَصِيرُ فِي الْقُلُوبِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ؛ فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ إِذَا جَمَعَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْفَضْلِ، وَشَاوَرَهُمْ فِي حَادِثَةٍ مِنَ الْحَوَادِثِ؛ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ وَأَحَبُّوهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَبِدُّ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْجَمِيعِ، فَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَمَقْدُورَهُمْ فِي طَاعَتِهِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِسَعْيِهِ فِي مَصَالِحِ الْعُمُومِ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يُحِبُّونَهُ مَحَبَّةً صَادِقَةً، وَلَا يُطِيعُونَهُ، وَإِنْ أَطَاعُوهُ فَطَاعَةً غَيْرَ تَامَّةٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ تَنُّورَ الْأَفْكَارِ؛ بِسَبَبِ إِعْمَالِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ،  فَصَارَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ لِلْعُقُولِ.

وَمِنْهَا: مَا تُنْتِجُهُ الِاسْتِشَارَةُ مِنَ الرَّأْيِ الْمُصِيبِ؛ فَإِنَّ الْمُشَاوِرَ لَا يَكَادُ يُخْطِئُ فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ أَوْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَطْلُوبٌ فَلَيْسَ بِمَلُومٍ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَقُولُ لِرَسُولِهِ ﷺ وَهُوَ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَغْزَرُهُمْ عِلْمًا، وَأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}؛ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ} أَيْ: عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ بَعْدَ الِاسْتِشَارَةِ فِيهِ إِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيِ: اعْتَمِدْ عَلَى حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} عَلَيْهِ، اللَّاجِئِينَ إِلَيْهِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215].

(({وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بِلِينِ جَانِبِكَ، وَلُطْفِ خِطَابِكَ لَهُمْ، وَتَوَدُّدِكَ وَتَحَبُّبِكَ إِلَيْهِمْ، وَحُسْنِ خُلُقِكَ وَالْإِحْسَانِ التَّامِّ بِهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ ﷺ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، فَهَذِهِ أَخْلَاقُهُ ﷺ؛ أَكْمَلُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ؛ فَهَلْ يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَدَّعِي اتِّبَاعَهُ وَالِاقْتِدَاءَ بِهِ أَنْ يَكُونَ كَلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَرِسَ الْأَخْلَاقِ، شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ عَلَيْهِمْ، غَلِيظَ الْقَلْبِ، فَظَّ الْقَوْلِ فَظِيعَهُ، وَإِنْ رَأَى مِنْهُمْ مَعْصِيَةً أَوْ سُوءَ أَدَبٍ هَجَرَهُمْ، وَمَقَتَهُمْ وَأَبْغَضَهُمْ، لَا لِينَ عِنْدَهُ، وَلَا أَدَبَ لَدَيْهِ وَلَا تَوْفِيقَ؟!

قَدْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَتَعْطِيلِ الْمَصَالِحِ مَا حَصَلَ، وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُهُ مُحْتَقِرًا لِمَنِ اتَّصَفَ بِصِفَاتِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَقَدْ كَمَّلَ نَفْسَهُ وَرَفَعَهَا، وَأُعْجِبَ بِعَمَلِهِ؛ فَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ جَهْلِهِ، وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ وَخَدْعِهِ لَهُ!!)).

وَقَالَ -تَعَالَى- لِمُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44].

(({اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ، {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} أَيْ: سَهْلًا لَطِيفًا، بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَأَدَبٍ فِي اللَّفْظِ مِنْ دُونِ فُحْشٍ وَلَا صَلَفٍ وَلَا غِلْظَةٍ فِي الْمَقَالِ، أَوْ فَظَاظَةٍ فِي الْأَفْعَالِ؛ {لَعَلَّهُ} بِسَبَبِ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ {يَتَذَكَّرُ}: مَا يَنْفَعُهُ فَيَأْتِيهِ، {أَوْ يَخْشَى}: مَا يَضُرُّهُ فَيَتْرُكُهُ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ اللَّيِّنَ دَاعٍ لِذَلِكَ، وَالْقَوْلَ الْغَلِيظَ مُنَفِّرٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَقَدْ فُسِّرَ الْقَوْلُ اللَّيِّنُ فِي قَوْلِهِ: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ} [النازعات: 18-19]؛ فَإِنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ لُطْفِ الْقَوْلِ وَسُهُولَتِهِ، وَعَدَمِ بَشَاعَتِهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ؛ فَإِنَّهُ أَتَى بِـ (هَلِ) الدَّالَّةِ عَلَى الْعَرْضِ، وَالْمُشَاوَرَةِ الَّتِي لَا يَشْمَئِزُّ مِنْهَا أَحَدٌ، وَدَعَاهُ إِلَى التَّزَكِّي وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الْأَدْنَاسِ الَّتِي أَصْلُهَا التَّطَهُّرُ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي يَقْبَلُهُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَلَمْ يَقُلْ (أُزَكِّيكَ)، بَلْ قَالَ: {تَزَكَّى} أَنْتَ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ الَّذِي رَبَّاهُ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي يَنْبَغِي مُقَابَلَتُهَا بِشُكْرِهَا، وَذَكَرَهَا فَقَالَ: {وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَى}، فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْكَلَامَ اللَّيِّنَ الَّذِي يَأْخُذُ حُسْنُهُ بِالْقُلُوبِ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجَعُ فِيهِ تَذْكِيرٌ، فَأَخَذَهُ اللهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)).

وَقَدْ أَوْلَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ اهْتِمَامًا عَظِيمًا بِصِفَةِ الرِّفْقِ، وَكَانَتْ صِفَةً مُلَازِمَةً لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: ((دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُوا: ((السَّامُ عَلَيْكُمْ)).

قَالَتْ عَائِشَةُ: ((فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ!)).

قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ».

فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«رَهْطٌ»: الرَّهْطُ: مَا دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، لَا يَكُونُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ: إِلَى الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا.

«السَّامُ»: الْمَوْتُ.

قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَفَهِمْتُهَا» أَيْ: فَهِمْتُ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يَقُولُوا:  السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.

قَالَتْ: «عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ»، «اللَّعْنَةُ»: الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-.

«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ»، «مَهْلًا» أَيِ: ارْفُقِي رِفْقًا، وَ «الْمَهْلُ»: التُّؤَدَةُ وَالرِّفْقُ.

«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» أَيْ: يُحِبُّ لِينَ الْجَانِبِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَيُحِبُّ الْأَخْذَ بِالْأَسْهَلِ مَا لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ.

فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ».

أَيْ: يَتَأَتَّى مِنَ الرِّفْقِ مَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ.

قَالَ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».

أَيْ: يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ دُعَائِي بِالْمَوْتِ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ بِهِ.

وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ الِانْتِصَارُ بِرِفْقٍ دُونَ عُنْفٍ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: أَدَبُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخُصُومِ وَالْأَعْدَاءِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعُنْفِ وَالْفُحْشِ مَعَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ عَنِيفًا فَاحِشًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ!

وَفِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الِانْتِصَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِرِفْقٍ وَحِكْمَةٍ، وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَدَبُهُ، وَفَضْلُ الرِّفْقِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَذَمُّ الْعُنْفِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِقَوْلِ: «وَعَلَيْكُمْ».

وَفِيهِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَوِّدَ لِسَانَهُ عَلَى الْأَدَبِ، وَأَلَّا يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالسَّبِّ؛ حَتَّى لَا يُدْمِنَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: فَضِيلَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَعْنَيَيْهِمَا الشَّرْعِيَّيْنِ، كَمَا فِي بَيَانِ مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حِينَ سَمِعَتْ سَلَامَ الرَّهْطِ مِنَ الْيَهُودِ، وَعَرَفَتْ أَنَّهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَمَرَهَا بِاللِّينِ، وَنَهَاهَا عَنِ الْعُنْفِ.

وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَ «الرِّفْقُ»: لِينُ الْجَانِبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ اللُّطْفُ، وَهُوَ خِلَافُ الْعُنْفِ.

«يُحْرَمِ الْخَيْرَ» أَيْ: يُفْضِى بِهِ إِلَى أَنْ يُحْرَمَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَوْ تَعَامَلَ مَعَهُمْ بِالْغِلْظَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ انْفِضَاضِ أَصْحَابِهِ؛ فَكَيْفَ لَوْ تَعَامَلَ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ!

وَأَنْتَ تَرَى -حَفِظَكَ اللهُ- بُعْدَ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ، وَاللِّينَ اللِّينَ؛ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، فَيَتَوَجَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشِّدَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا.

فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ.. وَاللِّينَ اللِّينَ؛ حَتَّى تُبَلِّغَ دِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ الرِّفْقِ، وَالْحَثُّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهِ، وَذَمُّ الْعُنْفِ، وَبَيَانُ أَنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَنَّ الرِّفْقَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْمَلَ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ كُلَّهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: الْحَضُّ عَلَى اللُّطْفِ، وَأَخْذِ الْأَمْرِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَيْسَرِهَا، وَأَنَّ مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ».  أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ»: «الْحَظُّ»: النَّصِيبُ.

«الْفَاحِشَ»: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَكَثِيرًا مَا تَرِدُ الْفَاحِشَةُ بِمَعْنَى الزِّنَى، وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

«الْبَذِيَّ»: الْفَاحِشُ فِي قَوْلِهِ، وَبَذَا الرَّجُلُ: إِذَا سَاءَ خُلُقُهُ، الْبَذَاءُ: الْكَلَامُ الْقَبِيحُ.

فَاللَّهُ -تَعَالَى- يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّرْغِيبُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَصَاحِبُهَا مَحْرُومٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَضَرُورَةُ التَّحَلِّي بِالرِّفْقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ فَإِنَّهُمَا يُزَيِّنَانِ الْمَرْءَ، وَيُجَمِّلَانِهِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يَكُونُ الْخُرْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ». أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ»، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِلَفْظٍ آخَرَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

«الْخُرْقُ»، وَ«الْخُرُقُ» -بِالضَّمِّ وَالتَّسْكِينِ-: الْجَهْلُ، وَالْحُمْقُ، وَالْعُنْفُ، وَالْغِلْظَةُ وَالشِّدَّةُ، وَهُوَ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْحُمْقِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَخْرَقُ، وَامْرَأَةٌ خَرْقَاءُ.

«وَإِنَّ اللهَ رَفِيقٌ»: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، يُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.

وَ «الرِّفْقُ»: لِينُ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ الصَّنِيعِ.

«لَا يَكُونُ الْخُرْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»؛ أَيْ: إِلَّا جَرَّ إِلَيْهِ الْعَيْبَ وَالْقُبْحَ، «فَالشَّيْنُ»: الْعَيْبُ.

فَيَكُونُ هَذَا الْخُلُقُ شَائِنًا مُشِينًا لِأَصْحَابِهِ، جَالِبًا وَجَارًّا إِلَيْهِمُ الْعَيْبَ وَالْقُبْحَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَضْلُ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وَرَعِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ.

وَفِيهِ: مَفْسَدَةُ مَا يَقُودُ إِلَيْهِ الْحُمْقُ وَالْجَهْلُ وَالتَّسَرُّعُ مِنْ تَقْبِيحِ الْأُمُورِ وَإِفْسَادِهَا.

وَفِيهِ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ للهِ -تعَالَى-؛ فَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ وَيُحَبُّ، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللهِ -تَعَالَى- (رَفِيقًا)، وَإِثْبَاتُ مَا يُثْبَتُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْخُرْقَ يَقُودُ إِلَى الْعُنْفِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنْتُ عَلَى بَعِيرٍ فِيهِ صُعُوبَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«فِيهِ صُعُوبَةٌ»: «الصُّعُوبَةُ»: عَدَمُ الِانْقِيَادِ.

«عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ» أَيْ: بِلِينِ الْجَانِبِ، وَبِالِاقْتِصَادِ فيِ جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالْأَخْذِ بَأَيْسَرِ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبِهَا وَأَحْسَنِهَا.

«إِلَّا زَانَهُ»: إِلَّا زَيَّنَهُ وَجَمَّلَهُ وَحَسَّنَهُ.

«لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»: إِذَا نُزِعَ الرِّفْقُ فَإِنَّهُ يَكُونُ الْخُرْقُ، وَالْحُمْقُ، وَالْعُنْفُ، وَالشَّيْنُ، وَالْعَيْبُ.

 ((مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى: الرَّفِيقُ))

مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: اسْمُهُ -تَعَالَى- (الرَّفِيقُ).

وَالرِّفْقُ: ضِدُّ الْعُنْفِ.

وَرَفُقَ بِالْأَمْرِ وَلَهُ وَعَلَيْهِ.

يَرْفُقُ رِفْقًا: لَطُفَ.

فَالرِّفْقُ: لِينُ الْجَانِبِ، وَلَطَافَةُ الْفِعْلِ.

وَالرَّفِيقُ: الْمُرَافِقُ، وَالْجَمْعُ: الرُّفَقَاءُ، وَالْمِرْفَقُ: مَا اسْتُعِينَ بِهِ.. مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى أَمْرِ الْحَيَاةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)).

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا جَاءَهُ الْيَهُودُ، فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ السَّلَامَ سُمًّا، فَقَالُوا: ((السَّامُ -أَيِ: الْمَوْتُ- عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ)).

قَالَ: ((وَعَلَيْكُمْ)).

فَفَهِمَتْهَا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: ((بَلْ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ)).

وَلَمْ تَعْدُ الْحَقَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ))، وَهُمْ إِخْوَانُ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ بِلَا مُدَافِعٍ.

إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ)).

فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!)).

قَالَ: ((بَلَى، سَمِعْتُ وَأَجَبْتُ، يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ)) ﷺ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)).

فَبِهَذَا ثَبَتَ الِاسْمُ، وَبِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ؛ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلَ يَقُولُ: ((فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى)).

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: ((فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى))، ثُمَّ قَضَى ﷺ )).

وَمَعْنَى الِاسْمِ فِي حَقِّهِ -تَعَالَى- عَلَى حَسَبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ؛ فَلِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِجَمَالِ كَمَالِ جَلَالِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَهُوَ الرَّفِيقُ كَثِيرُ الرِّفْقِ.

* وَالرِّفْقُ: اللِّينُ وَالتَّسْهِيلُ، وَضِدُّهُ: الْعُنْفُ وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّصْعِيبُ.

* وَيَجِيءُ الرِّفْقُ -أَيْضًا-: بِمَعْنَى الْإِرْفَاقِ: وَهُوَ إِعْطَاءُ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ.

وَهُمَا كِلَاهُمَا صَحِيحَانِ فِي حَقِّ اللهِ -تَعَالَى-.

مِنَ الرِّفْقِ بِمَعْنَى اللِّينِ وَالتَّسْهِيلِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهُوَ ضِدُّ -أَيِ: الرِّفْقُ- الْعُنْفِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّصْعِيبِ.

فَهَذَا مَعْنًى.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّفْقُ بِمَعْنَى: الْإِرْفَاقِ: وَهُوَ إِعْطَاءُ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ.

وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ -تَعَالَى-؛ إِذْ هُوَ الْمُيَسِّرُ وَالْمُسَهِّلُ لِأَسْبَابِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، وَالْمُعْطِي لَهَا، وَأَعْظَمُهَا تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ لِلْحِفْظِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 22]، وَلَوْلَا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ التَّيْسِيرِ مَا قَدَرَ عَلَى حِفْظِهِ أَحَدٌ، وَلَا تَيْسِيرَ إِلَّا بِتَيْسِيرِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ إِلَّا بِإِعْطَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ.

* وَيَجِيءُ الرِّفْقُ -أَيْضًا- بِمَعْنَى: التَّمَهُّلِ فِي الْأُمُورِ، وَالتَّأَنِّي فِيهَا.

لُغَةً يُقَالُ: رَفَقْتُ الدَّابَّةَ، أَرْفُقُهَا رِفْقًا: إِذَا شَدَدْتُ عَضُدَهَا بِحَبْلٍ لِتُبْطِئَ فِي مَشْيِهَا، فَأَخَذَ عَلَيْهَا السُّرْعَةَ حَتَّى لَا تَكُونَ مُسْرِعَةً.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّفِيقُ فِي حَقِّهِ -تَعَالَى- بِمَعْنَى: الْحَلِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ لِلْعُصَاةِ لِيَتُوبَ عَلَى مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْعِنَايَةُ، وَلِيَزْدَادَ إِثْمًا مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ.

إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ، لَيْسَ بِعَجُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَلِيمُ، وَإِنَّمَا يَعْجَلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ.

لِمَ يَعْجَلُ الْمُتَعَجِّلُونَ؟!

إِنَّمَا يَعْجَلُونَ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الْفَوْتَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ فِي قَبْضَتِهِ وَمُلْكِهِ فَلَيْسَ يَعْجَلُ فِيهَا؛ إِذْ مَاذَا يَخَافُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ)): قَالَ النَّوَوِيُّ: ((فِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَسْمِيَتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَوَصْفِهِ بِـ(رَفِيقٍ)، وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ: جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللهِ -تَعَالَى- (رَفِيقًا)، وَغَيْرَهُ مِمَّا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)))).

وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الْعَقَائِدَ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ، وَأُولَئِكَ الْأَفْرَاخُ وَالزَّعَانِفُ مِمَّنْ يَرُدُّونَ أَحَادِيثَ الْآحَادِ فِي الِاعْتِقَادِ؛ فَقَوْلُهُمْ فَائِلٌ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ -رَحْمَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عُلَمَائِنَا الْأَقْدَمِينَ وَعَلَى الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْبَاقِينَ-؛ فَعُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْأَخْذِ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادِ مَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَإِذَا آمَنَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بِاسْمِهِ -تَعَالَى- (الرَّفِيق)؛ أَوْرَثَهُ هَذَا الْإِيمَانُ آثَارًا:

أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَوْصُوفٌ بِالرِّفْقِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ: الرِّفْقُ؛ إِمَّا صِفَةُ ذَاتٍ، أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ.

فَنَقَلَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ -رَحِمَهُ اللهُ- الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَفِيقُ! ارْفُقْ بِنَا فِي أَحْكَامِكَ.

وَلِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَوْصُوفٌ بِالرِّفْقِ، وَرِفْقُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَظْهَرُ فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَهُوَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ وَلَا يُسْتَقْصَى بِحَالٍ أَمَدًا وَلَا أَبَدًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ فَوْقَ ذَلِكَ؛ فَرِفْقُ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَظْهَرُ فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ بِعِبَادِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا.

فَمِنْ رِفْقِهِ -سُبْحَانَهُ- بِعِبَادِهِ: إِمْهَالُهُ لِلْعُصَاةِ مِنْهُمْ لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ؛ لَكِنَّهُ رَفَقَ بِهِمْ وَتَأَنَّى لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى.

وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَأَهْلَهُ؛ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُحِبُّ أَهْلَ الرِّفْقِ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، قِيلَ: مِنَ الثَّوَابِ، وَقِيلَ: يَتَأَتَّى مَعَهُ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ ضِدِّهِ -أَيْ: مَعَ الْعُنْفِ-.

وَهَذَا مُجَرَّبٌ، مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ كَلَامٍ.

يَتَأَتَّى مَعَ الرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالشَّيْءِ الْكَثِيرِ فِي الْعَاقِبَةِ مَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ الْعُنْفِ.

وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى اسْتِعْمَالِ الرِّفْقِ حَتَّى مَعَ الْأَعْدَاءِ -أَحْيَانًا-؛ فَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((بَابُ: الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ))، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ فَقَالُوا: ((السَّامُ عَلَيْكُمْ)).

قَالَتْ عَائِشَةُ: ((فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ)).

قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ)).

فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ)).

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

((النَّبِيُّ ﷺ نَمُوذَجٌ مُجَسَّدٌ فِي الرِّفْقِ))

وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ نَبِيِّنَا ﷺ وَجَدَ أَنَّهَا عَامِرَةٌ بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ، وَبِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالْآدَابِ الْكَامِلَةِ، فَكَانَ ﷺ قُدْوَةً لِلْعَالَمِينَ، {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .[الأحزاب: 21]

وَمَنْ يُطَالِعْ سِيرَتَهُ الْعَطِرَةَ يَجِدْ عَجَبًا فِي تَمَثُّلِهِ ﷺ بِصِفَةِ الرِّفْقِ فِي تَعَامُلَاتِهِ فِي شُؤُونِهِ كُلِّهَا.

قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

كَانَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ وَلَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَمَا أَنْ يَرَاهُ وَيَرَى رِفْقَهُ وَحُسْنَ تَعَامُلِهِ إِلَّا وَيَتَحَوَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ.

وَتَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عِنْدَمَا جِيءَ بِهِ، وَرُبِطَ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ؛ فَكَانَ ﷺ يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَيُحَادِثُهُ وَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ بِرِفْقٍ إِلَى أَنْ أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ قَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! وَاللهِ! مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللهِ! مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ! مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَتَحَوَّلَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَيْسَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا أَرْضٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِهِ ﷺ.

قِصَصُ رِفْقِهِ وَأَنَاتِهِ ﷺ فِي الْأُمُورِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَهْ! مَهْ!)).

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تُزْرِمُوهُ، وَدَعُوهُ)) أَيْ: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ.

فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَبِمَحْضَرٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)).

قَالَ: ((فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ)) أَيْ: فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ جَالِسٌ، فَقَالَ: ((اللهم اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ، وَلَا تَغْفِرْ لِأَحَدٍ مَعَنَا)).

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ: ((لَقَدْ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا)) يَعْنِي: ((لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا)) -كَمَا فِي رِوَايَةٍ-، ثُمَّ وَلَّى حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَجَ يَبُولُ -وَالْفَشْجُ: تَفْرِيجُ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ-.

فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقُهَ: ((فَقَامَ إِلَيَّ -بِأَبِي وَأُمِّي-، فَلَمْ يُؤَنِّبْ، وَلَمْ يَسُبَّ))، فَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ، إِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللهِ وَلِلصَّلَاةِ)).

ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْلٍ -أَيْ: دَلْوٍ- مِنْ مَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى بَوْلِهِ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَوْلُهُ: ((دَعُوهُ)) أَيِ: اتْرُكُوهُ يُكْمِلُ بَوْلَهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عَلَيْهِ بَوْلُهُ لَتَضَرَّرَ، وَلَوْ أَقَامُوهُ فِي أَثْنَائِهِ لَتَنَجَّسَتْ ثِيَابُهُ وَبَدَنُهُ، وَمَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟)).

فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؛ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟!)).

فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ! مَا قَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا)).

فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: ((مَهْ مَهْ!!)).

فَقَالَ: ((ادْنُهْ)).

فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: ((أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟!)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ)).

قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: ((اللهم اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ))، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ)): ((هَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ رِجَالُ الصَّحِيحِ)).

وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: ((ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

هَذِهِ هِيَ أَمْثِلَةٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ رِفْقِهِ ﷺ، وَمَا أَكْثَرَهَا فِي حَيَاتِهِ؛ بَلْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا رِفْقٌ وَحِلْمٌ، وَأَنَاةٌ وَصَبْرٌ، وَحُسْنُ مُعَامَلَةٍ، وَجَمِيلُ خُلُقٍ؛ فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ لَنَا فِيهِ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ، وَالْقُدْوَةَ الصَّالِحَةَ.

 

 

((الرِّفْقُ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ))

إِنَّ الرِّفْقَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَجَلِّهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا؛ فَلَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَيَّنَهُ وَجَمَّلَهُ وَحَسَّنَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ وَعَابَهُ وَقَبَّحَهُ، وَقَدْ حَثَّنَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ عَلَى الرِّفْقِ مَعَ عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمِنْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُعَامَلَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ -الرِّفْقِ- الْوَالِدَانِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].

((لَمَّا نَهَى -تَعَالَى- عَنِ الشِّرْكِ بِهِ؛ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ}: قَضَاءً دِينِيًّا وَأَمَرَ أَمْرًا شَرْعِيًّا {أَلا تَعْبُدُوا} أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ {إِلا إِيَّاهُ}؛ لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَعْظَمُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الدَّافِعُ لِجَمِيعِ النِّقَمِ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ حَقِّهِ الْقِيَامَ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسَنُوا إِلَيْهِمَا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْعَبْدِ وَلَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مَا يَقْتَضِي تَأَكُّدَ الْحَقِّ وَوُجُوبَ الْبِرِّ.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أَيْ: إِذَا وَصَلَا إِلَى هَذَا السَّنِّ الَّذِي تَضْعُفُ فِيهِ قُوَاهُمَا وَيَحْتَاجَانِ مِنَ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}: وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَذَى نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْذِهِمَا أَدْنَى أَذِيَّةٍ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أَيْ: تَزْجُرُهُمَا وَتَتَكَلَّمُ لَهُمَا كَلَامًا خَشِنًا، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا}: بِلَفْظٍ يُحِبَّانِهِ، وَتَأَدَّبْ وَتَلَطَّفْ بِكَلَامٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ يَلَذُّ عَلَى قُلُوبِهِمَا وَتَطْمَئِنُ بِهِ نُفُوسُهُمَا، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَزْمَانِ.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا ذُلًّا لَهُمَا وَرَحْمَةً وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا، أَوِ الرَّجَاءِ لِمَا لَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.

{وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا} أَيِ: ادْعُ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا؛ جَزَاءً عَلَى تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّاكَ صَغِيرًا.

وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتِ التَّرْبِيَةُ ازْدَادَ الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى تَرْبِيَةَ الْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ تَرْبِيَةً صَالِحَةَ غَيْرَ الْأَبَوَيْنِ؛ فَإِنَّ لَهُ عَلَى مَنْ رَبَّاهُ حَقَّ التَّرْبِيَةِ)).

إِنَّ دُخُولَ الرِّفْقِ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ عَلَامَةُ خَيْرٍ؛ فَيَنْبَغِي التَّعَامُلُ مَعَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ بِالرِّفْقِ، قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». أَخرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُلَاطَفَةُ النِّسَاءِ وَالْإِحسَانُ إِلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرُ عَلَى عِوَجِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَاحْتِمَالُ ضَعْفِ عُقُولِهِنَّ، وَكَرَاهِيَةُ طَلَاقِهِنَّ بِلَا سَبَبٍ، وَأنَّهُ لَا يُطْمَعُ بِاسْتِقَامَتِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ».

وَقَالَ ﷺ: «لا يَفْرِكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: يَنْبَغِي أَلَّا يُبْغِضَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَكْرَهُهُ؛ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَرْضَاهُ، بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الأَخلَاقِ؛ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ، أَوْ عَفِيفَةٌ، أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ».

الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقوْلِ اللهِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَقَالَ ﷺ: «خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ، وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي».

وَقَالَ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلبَانِيُّ.

وَمَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأةً قَطُّ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِِ -عَزَّ وَجَلَّ-» . رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَمِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: أَنَّهُ أَمَرَ سَائِقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرْفُقَ بِهِنَّ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ! رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ».

وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُوَيدًا يَا أَنجَشَةُ، لَا تَكْسِرِ القَوَارِيرَ»؛ يَعنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ، رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَمِنْ دَلَائِلِ أَهَمِّيَّةِ الرِّفْقِ بِالْأَوْلَادِ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» -بِالْفَتْحِ-: وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي«»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ«».

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا» أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ، وَصِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

وَفِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْؤُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؛ يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ-.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ رِفْقًا بِخَدَمِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ.. أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!

فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

«أُفٍّ»: كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.

لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ-! أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».

قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ، وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-.

وَكَانَ ﷺ أَرْفَقَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ يَحُثُّهُمْ عَلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ رُبَّمَا، كَمَا فَعَلَ مَعَ بَعْضِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَكَانَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَا يُقَبِّحُ الْحَسَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إِسْرَافِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ، غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَفْعَلُ، وَكَانَ مُتْنَبِّهًا لِكُلِّ أَمْرٍ فِيهِمْ، فَكَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ تَخَوَّلَهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.

وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرِّفْقِ الْغَايَةَ وَزَادَ عَلَيْهَا خَاصَّةً مَعَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَالْمُعْوِزِينَ؛ فَعِنْدَمَا رَجَعَ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. رَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ! لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ «حَطَمَهُ النَّاسُ»، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ.

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ..

كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ..

كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ..

كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ..

كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ..

يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ لَهُ: ((إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً)).

فَقَالَ: «اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ، أَجْلِسْ إِلَيْكِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنِّسَاءِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَوْ بِكِبَارِ السِّنِّ، أَوْ بِضِعَافِ الْعُقُولِ، سَوَاءٌ كَانَ الضَّعْفُ الْعَقْلِيُّ نَتيِجَةً لِلشَّيْخُوخَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ نَقْصٍ فِي الْخِلْقَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «اجْلِسِي فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ». فَهَذَا لَا يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى شَفَقَةِ قَلْبِهِ ﷺ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَجْنَبِيُّ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، بَلْ إِذَا عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ يَجْلِسُ مَعَهَا بِمَوْضِعٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْمَارَّةِ؛ لِذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ»، فَيَجْلِسُ مَعَهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَارَّةُ يَمُرُّونَ وَإِنْ كَانُوا بِغَيْرِ مَقْرَبَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا أَنْفَى لِلتُّهَمَةِ، فَيُعَلِّمُنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ عِيَادَةُ مَنْ مَرِضَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَقَدْ وَصَلَ رِفْقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (ض2) قَالَ: «وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

النَّبِيُّ ﷺ يُخَالِطُ النَّاسَ بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْرِ، وَاللُّطْفِ وَتَحَمُّلِ الْأَذَى، مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ، حَلِيمًا بِهِمْ، صَبُورًا عَلَيْهِمْ، تَارِكًا لِلتَّرَفُّعِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، مُتَجَنِّبًا لِلْغِلْظَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ ﷺ.

((الرِّفْقُ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ إِلَّا فِي الْحُدُودِ))

لَقَدْ حَثَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الرِّفْقِ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِحُدُودِ اللهِ؛ فَعَنْ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

«أَقِيلُوا»: أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ؛ أَيِ: اعْفُوا، وَاصْفَحُوا، وَارْفُقُوا.

«ذَوِي الْهَيْئَاتِ»: أَصْحَابَ الْمُرُوءَاتِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ «عَثَرَاتِهِمْ» أَيْ: زَلَّاتِهِمْ.

هَذَا الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْأَئِمَّةِ الَّذِين إِلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى ذَوِي الْجِنَايَاتِ، وَالْحُدُودُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا إِقَالَةَ فِيهَا، كَمَا قَالَ ﷺ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وذَكَرَ الْيَهُودَ: «كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ فِيهِمْ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ  الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ».

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ مَدْخَلٌ، فَقَالَ مُقْسِمًا: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».

وَهَذَا مِنْ أَجْلِ رِعَايَةِ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ حَتَّى تَسْتَقِيمَ أَحْوَالُ الْخَلْقِ فِي الْمُجْتَمَعِ.

«أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» أَيْ: إِلَّا الْحُدُودَ.

«أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»: كَذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ مُخَاطَبُونَ أَيْضًا بِهَذَا الْخِطَابِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ.

«أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»: لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَخْلَاقِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ وَالْخِصَالِ الْحَسَنَةِ الْحَمِيدَةِ، وَإِنَّمَا إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ تَكُونُ هَفْوَةً مِنْهُمْ؛ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُصْفَحَ عَنْهُمْ.

«عَثَرَاتِهِمْ»: الْمُرَادُ بِالْعَثَرَاتِ: مَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّعْزِيرُ، لَا إِقَامَةُ الْحَدِّ، وَإِنَّما يَثْبُتُ فِيهِ التَّعْزِيرُ بِسَبَبِ إِضَاعَةِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِ اللهِ.

وَالْأَمْرُ هَاهُنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِلنَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَالْإِلْزَامِ.

«أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»: فَإِذَا مَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنَ الْهَنَاتِ مِنَ الرَّجُلِ آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مُرُوءَةً، وَخِصَالًا حَمِيدَةً، وَسِيرَةً مُسْتَقِيمَةً، فَوَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الْخِطَابُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ يَأْخُذُ بِيَدِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُومَ مِنْ كَبْوَتِهِ، وَأَنْ يَنْهَضَ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى سَالِفِ سِيرَتِهِ؛ لِكَيْ يَسْتَقِيمَ عَطَاؤُهُ  كَمَا كَانَ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

«أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»: وهُنَالِكَ زِيَادَةٌ هَامَّةٌ لِلْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «إِلَّا الْحُدُودَ»؛ فَإِنَّ الْحُدُودَ لَا إِقَالَةَ فِيهَا، وَلَا شَفَاعَةَ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ،  سَاكِتًا عَلَيْهِ، مُشِيرًا بِذَلِكَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ-: «وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ فِيمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي نَدْبِ السَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ».

أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ -حِينَئِذٍ- مِنْ إِنْفَاذِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلصَّحَابِيِّ الَّذِي رَفَعَ سَارِقًا سَرَقَ شَمْلَتَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ نَائِمًا، رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مِنْ أَجْلِ شَمْلَةٍ؟! هِيَ لَهُ)).

قَالَ: «فَهَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»؟.

فَإِذَنْ؛ الْأَمْرُ وَلَّى، فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْفَاذِ حَدِّ اللهِ -تَعَالَى- فِيهِ.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى احْتِرَامِ أَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ، وَالْأَقْوَالِ الْحَمِيدَةِ، وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِزَلَّاتِهِمْ.

وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِإِقَالَةِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ هُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمْ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَاتِ، وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ إِنْ وُجِدُوا، أَوْ أَوْلِيَاؤُهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْإِقَالَةُ لِعَثَرَاتِ هَؤُلَاءِ مَحْكُومَةً بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْحُدُودَ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى السُّلْطَانِ، وَثَبَتَ مُوجِبُهَا ثُبُوتًا شَرْعِيًّا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهَا عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!»، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا».

وَحَاشَاهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا-؛ فَقَدْ حَفِظَهَا اللهُ وَحَمَاهَا.

((جَنَّةُ الرِّفْقِ وَنَارُ الْعُنْفِ فِي الْبُيُوتِ))

الْبُيُوتُ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الْعُنْفِ جَدَلٌ كُلُّهَا، وَعَنَاءٌ كُلُّهَا، وَصَخَبٌ كُلُّهَا، وَصُرَاخٌ كُلُّهَا، قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ مُعَجَّلَةٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

وَمَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ رِفْقٌ إِلَّا وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ جَمِيعُهَا.

وَأَمَّا الْعُنْفُ فَشَيْءٌ مُقَزِّزٌ تَمُجُّهُ النُّفُوسُ، وَتَعَافُهُ الطِّبَاعُ الْمُسْتَقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُشِينٌ شَائِنٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)): مِنَ الشَّيْنِ وَالْعَيْبِ، وَالْعَوْرَةِ بِالسَّوْأَةِ الْمَكْشُوفَةِ.

((إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)).

وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ)).

مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ!

مَنْ كَانَ عَنِيفًا حَادًّا نِحْرِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ، مُتَقَلِّبًا بِكُلِّ سَبِيلٍ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقِيمٍ؛ لَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ خَيْرٌ.

((مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ)).

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا فِي أُمُورِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ، غَيْرَ عَجِلٍ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَا تُفَارِقُهُ الْخَيْبَةُ وَالْخُسْرَانُ، وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: ((إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ؛ الْحِلْمَ، وَالْأَنَاةَ)). وَهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

هَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تُدَاهِنَ؟!

حَاشَا وَكَلَّا..

هُوَ الْحَقُّ؛ وَلَكِنِ الْحَقُّ بِالرِّفْقِ، لَا بِالْعُنْفِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ هُوَ الْحَقُّ كَحَدِّ السَّيْفِ؛ وَلَكِنْ بِالرِّفْقِ.

الرِّفْقُ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَكَذَلِكَ الرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ؛ فَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)): ((بَابٌ: الرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ)) -كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى الصِّدِّيقِ، رَضِيعُ عَائِشَةَ؛  فَهُوَ مِنْ مَحَارِمِهَا- قَالَ: ((دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَتْ: ((أَمْسِكْ حَتَّى أَخِيطَ نُقْبَتِي)).

فَأَمْسَكْتُ، فَقُلْتُ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ خَرَجْتُ فَأَخْبَرْتُهُمْ لَعَدُّوهُ مِنْكِ بُخْلًا)).

قَالَتْ: «أَبْصِرْ شَأْنَكَ، إِنَّهُ لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا يَلْبَسُ الْخَلَقَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

«نُقْبَتِي»: النُّقْبَةُ: السِّرْوَالُ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ مَوْضِعٌ لِشَدِّ الْحَبْلِ؛ أَيْ: يَكُونُ لَهُ حُجْزَةٌ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ نَيْفَقٌ.

وَالنَّيْفَقُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُخَاطُ؛ لِيُدْخَلَ فِيهِ التَّكَّةُ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّرَاوِيلِ، فَإِذَا كَانَ لَهَا نَيْفَقٌ وَسَاقَانِ فَهِيَ سَرَاوِيلُ؛ وَإِلَّا فَهِيَ نُقْبَةٌ.

«يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ»: فِيهِ تَلَطُّفٌ وتَأَدُّبٌ فِي النِّدَاءِ.

وَفِيهِ اخْتِيَارٌ لِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى لِمَنْ يُنَادَى، وَاجْتِنَابُ مَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ.

«لَوْ خَرَجْتُ فَأَخْبَرْتُهُمْ لَعَدُّوهُ مِنْكِ بُخْلًا»: فَمَاذَا يَقُولُ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا هذَا لَوْ رَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ؟!!

«أَبْصِرْ شَأْنَكَ»؛ أَيْ: دَعْ عَنْكَ هَذَا.

«الْخَلَقُ»: الْقَدِيمُ.

قَالَتْ: «أَبْصِرْ شَأْنَكَ، إِنَّهُ لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا يَلْبَسُ الْخَلَقَ».

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ: «دَعْ عَنْكَ؛ لَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا خَلَقَ لَهُ».

وَهَذَا مِنْ مَأْثُورِ الْحِكْمَةِ: مَنْ لَيْسَ لَهُ قَدِيمٌ بَالٍ لَا جَدِيدَ لَهُ؛ إِنَّمَا يَكُونُ الْجَدِيدُ مِنْ بَعْدِ الْخَلَقِ؛ مِنْ بَعْدِ الْقَدِيمِ الْبَالِي.

«الْخَلَقَ»: مَنْ بَلِيَ ثَوْبُهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ خَلَقٌ.

فَالْخَلَقُ مِنْ «خَلَقَ الثَّوْبُ» إِذَا بَلِيَ.

قَالَ الْأَشْجَعِيُّ:

الْبَسْ جَدِيدَكَ إِنِّي لَابِسٌ خَلَقِي

 

 

وَلَا جَدِيدَ لِمْنَ لَا يَلْبَسُ التتالْخَلَقَا

وَيُرْوَى أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَصَدَّقَتْ بِمَالٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ رُؤِيَتْ تَرْقَعُ خِمَارًا لَهَا، فَقِيلَ لَهَا: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! تَتَصَدَّقِينَ بِمَالٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ تَرْقَعِينَ خِمَارَكِ!)).

فَقَالَتْ وَتَمَثَّلَتْ بِالْبَيْتِ:

الْبَسْ جَدِيدَكَ إِنِّي لَابِسٌ خَلَقِي

 

 

وَلَا جَدِيدَ لِمْنَ لَا يَلْبَسُ الْخَلَقَا

وَفِي «تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ»: ((أَنَّ الرِّيَاشِيَّ قَالَ: إِنَّ أَسْمَاءَ بْنَ خَرَاجَةَ قَالَ يَوْمًا لِزَوْجَتِهِ: ((اخْضِبِي لِي لِحْيَتِي)).

فَقَالَتْ: ((إِلَى كَمْ تَرْقَعُ مِنْكَ؟!)).

يَعْنِي: أَصَابَهُ شَيْبٌ، فَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَخْضِبَ لَهُ لِحْيَتَهُ؛ لِيُغَيِّرَ شَيْبَهُ، فَقَالَتْ: إِلَى كَمْ تَرْقَعُ مِنْكَ؟ يَعْنِي: هَذَا قَدْ بَلِيَ مِنْكَ؛ فَإِلَى كَمْ تَرْقَعُ مِنْكَ؟!

فَأْنَشَأَ يَقُولُ:

عَيَّرْتِنِي خَلَقًا أَبْلَيْتِ جِدَّتَه

 

 

وَهَلْ رَأَيْتِ جَدِيدًا لَمْ يَعُدْ خَلَقًا؟

كَمَا لَبِسْتِ جَدِيدِي فَالْبَسِي خَلَقِي

 

 

فَلَا جَدِيدَ لِمَنْ لَا يَلْبَسُ الْخَلَقَا

فَهِيَ تَقُولُ: قَدْ فَنِيَ شَبَابُهُ، وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ.

فَقَالَ: أَنْتِ أَفْنَيْتِهَا!

فِي هَذَا الأَثَرِ: تَوَاضُعُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالِاقْتِصَادُ فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِتَكْرَارِهَا وَدَوَامِهَا تُوَفِّرُ قَدْرًا كَبِيرًا مِنَ الْمَالِ؛ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْفَاقِ الْمَاءِ، وَإِلَى إِهْدَارِهِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلْيَنْظُرْ إِلَى مَا يُضَيِّعُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالثِّيَابِ.

وَلْيَنْظُرْ: هَلْ يَضَعُ أَمْوَالَهُ فِي مَوَاضِعِهَا الصَّحِيحَةِ أَمْ لَا؟!

وَلْيَكُنْ لَنَا فِي هَذَا الْأَثَرِ ذِكْرَى وَعِبْرَةٌ.

وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ «بَابٌ: الرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ»؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصْلَحَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَفَّرَتْ عَلَيْهِ قَدْرًا كَبِيرًا مِنَ الْمَالِ، وَيُمْكِنُ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَحَالِّهِ، وَأَنْ يَضَعَهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ صَدَقَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِقَامَةً لِأَمْرِ الْمُحْتَاجِينَ، ثُمَّ هُوَ بَعْدُ مُتَوَاضِعٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَفِي الْأَثَرِ: الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْمَلْبَسِ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَ الْخَلَقَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُرْقَعَ، وَإِلَى أَنْ يُخَاطَ فَقَدِ اقْتَصَدَ، وَمَنْ لَبِسَ الْجَدِيدَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَهُوَ مُسْرِفٌ، وَالْإِسْرَافُ عَاقِبَتُهُ الْإِفْلَاسُ وَالْإِعْدَامُ.

((دَعْوَةُ النَّاسِ بِالرِّفْقِ وَثَمَرَتُهَا))

عِبَادَ اللهِ! مَنْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْهُدَى بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي يَدْعُو بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الْأَمْرَيْنِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ تَعَيَّنَ مَا يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ.

فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الشِّدَّةَ فَعَلَيْكَ بِهَا.

وَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الرِّفْقَ فَلَا تَتَعَدَّ الرِّفْقَ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلرِّفْقِ وَالشِّدَّةِ مَعًا؛ فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْهُدَى بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي يَدْعُو بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ.

وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَجْعَلُ لِلرِّفْقِ أَثَرًا لَا يَجْعَلُهُ لِلْعُنْفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا مَعَ الْعُنْفِ إِلَّا مَنْ كَانَ فَاجِرًا، إِلَّا مَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ الْخُبْثُ وَالْمَكْرُ، وَالِالْتِوَاءُ وَالِاعْوِجَاجُ، فَهَذَا رُبَّمَا لَا يَنْفَعُ مَعَهُ إِلَّا الشِّدَّةُ.

وَلَكِنَّ النَّاسَ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الرِّفْقِ، وَكَذَا كَانَ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى،  وَكَذَا كَانَ سَيِّدُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَإِنَّهُ ﷺ كَانَ مِنَ الرِّفْقِ فِي غَايَةٍ، وَكَانَ يُعَامِلُ النَّاسَ مُعَامَلَةً حَسَنَةً، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى أَخْلَاقَهُ ﷺ فَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى فِي الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ؛ وَلِذَلِكَ فَاءَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَنَا فِيهِ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ.

وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يَسُوسُ النَّاسَ السِّيَاسَةَ الْحَسَنَةَ؛ حَتَّى لَا يُنَفِّرَ الْخَلْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا نَفَرُوا مِنَ الْإِسْلَامِ تَوَرَّطُوا فِي الْكُفْرِ، وَاقْتَحَمُوا الشِّرْكَ اقْتِحَامًا.

وَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَسُوسُهُ بِلِينٍ وَرِفْقٍ، وَيُعْطِيهِ فَلَا يَرْضَى، ثُمَّ يُعْطِيهِ فَلَا يَرْضَى، ثُمَّ يُعْطِيهِ فَلَا يَرْضَى، فَإِذَا مَا انْصَرَفَ الرَّجُلُ، وَكَانَ الْأَصْحَابُ قَدْ هَمُّوا بِهِ مُسْتَأْذِنِينَ فِي الْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الرَّجُلُ لِطِيَّتِهِ قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَضَلَّ بَعِيرَهُ -نَفَرَ مِنْهُ بَعِيرُهُ وَشَرَدَ-، فَأَخَذَ النَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا نُفُورًا، فَقَالَ صَاحِبُ الْبَعِيرِ لِلنَّاسِ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ بَعِيرِي، فَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْعُشْبِ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَأَقْبَلَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَأَقْبَلَ بَعِيرُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى جَاءَ بِهِ وَزِمَامُهُ فِي يَدِهِ».

فَأَخَذَ ﷺ يَسُوسُهُ حَتَّى رَجَعَ بِهِ مِنْ نُفُورِهِ وَمِنْ نِفَارِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَوْ خَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فَقَتَلُوهُ لَدَخَلَ النَّارَ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ الْمُخْتَارَ ﷺ يَسْتَنْقِذُهُ مِنْ هَذَا الَّذِي تَوَرَّطَ فِيهِ.

فَحَرِيٌّ بِكُلٍّ مِنَّا أَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَسْأَلَهَا: أَرَفِيقٌ أَنَا أَمْ عَنِيفٌ؟ أَرَفِيقٌ أَنَا أَمْ عَنِيفٌ؟

عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَسْأَلَ نَفْسَهُ هَذَا السُّؤَالَ، وَأَنْ يُجِيبَ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِلَا رَقِيبٍ سِوَاهُ: أَرَفِيقٌ أَنَا أَمْ عَنِيفٌ؟!

فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، وَفِي جَمِيعِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ؛ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي الْبَيْتِ، وَفِي السُّوقِ، وَفِي الْعَمَلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

أَرَفِيقٌ أَنَا أَمْ عَنِيفٌ؟!

إِيَّاكَ أَنْ تَنْسَى هَذَا السُّؤَالَ، وَلَا تَنْسَ الْإِجَابَةَ عَنْهُ بِمَا تَصْدُقُ فِيهِ رَبَّكَ -تَعَالَى-!

((ثَمَرَاتُ الرِّفْقِ الْعَظِيمَةُ))

إِنَّ لِلرِّفْقِ ثَمَرَاتٍ عَظِيمَةً، وَفَوَائِدَ جَلِيلَةً؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

«رَفِيقٌ»: مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.

وَمِنْ رِفْقِ اللهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ: عَدَمُ تَعْجِيلِهِ الْعُقُوبَةَ لِلْعُصَاةِ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ إِنَّهُ -تَعَالَى- يُمْهِلُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا.

«وَيُعْطِي عَلَيْهِ» أَيْ: عَلَى الرِّفْقِ.

وَمِمَّا يُعْطِيهِ عَلَى الرِّفْقِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالتَّوْفِيقُ فِي الْأَعْمَالِ مَعَ صَلَاحِ الْبَالِ، وَنَيْلِ الْمَطَالِبِ، وَتَحْقِيقِ الْمَآرِبِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ.

«وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»: وَكُلُّ مَا فِي الرِّفْقِ مِنَ الْخَيْرِ فَفِي الْعُنْفِ مِنَ الشَّرِّ مِثْلُهُ.

فَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا دَخَلَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.

وَقَدِيمًا قَالَ: الْحِلْمُ سَيِّدُ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ خُلُقٌ يُحِبُّهُ اللهُ، كَمَا قَالَ ﷺ لِأَشَجِّ عَبْدِ قَيْسٍ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ».

فَالْحِلْمُ مِنْ أَعْظَمِ الْخِصَالِ، وَمَنْ أُوتِيَ حِلْمًا فَقَدْ أُوتِيَ خُلُقًا خَيِّرًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ الرِّفْقُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: بَيَانُ أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى «الرَّفِيقُ».

وَفِيهِ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ للهِ، وَهِيَ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ حَقِيقَةً، لَا مَجَازًا كَمَا تَقُولُ الْفِرَقُ الْمُؤَوِّلَةُ؛ إِذْ كُلُّ صِفَاتِ اللهِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ يَجِبُ أَنْ تُثْبَتَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا هُوَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمَنْهَجُهُمْ، بِخِلَافِ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ، وَأَهْلِ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: عُلُوُّ مَكَانَةِ الرِّفْقِ، وَأَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ فَجَاءَتِ النُّصُوصُ بِالْحَثِّ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ، وَذَمِّ الشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ إِذَا اسْتُعْمِلَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِمَا.

دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عِنْدَ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8].

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الرِّفْقِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّ مَنْ رَفَقَ بِعِبَادِ اللهِ رَفَقَ اللهُ بِهِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَهُوَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ مَنْ يَسْتُرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَعَفُوٌّ يُحِبُّ مَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ، وَغَفُورٌ يُحِبُّ مَنْ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَلَطِيفٌ يُحِبُّ اللَّطِيفَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُبْغِضُ الْفَظَّ الْغَلِيظَ الْقَاسِيَ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ، وَرَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَحَلِيمٌ يُحِبُّ الْحِلْمَ، وَبَرٌّ يُحِبُّ الْبِرَّ وَأَهْلَهُ، وَعَدْلٌ يُحِبُّ الْعَدْلَ، وَقَابِلٌ لِلْمَعَاذِيرِ يُحِبُّ مَنْ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَ عِبَادِهِ، وَيُجَازِي عَبْدَهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهِ وُجُودًا وَعَدَمًا.

فَمَنْ عَفَا عَفَا عَنْهُ، وَمَنْ غَفَرَ غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ سَامَحَ سَامَحَهُ، وَمَنْ حَاقَقَ حَاقَقَهُ، وَمَنْ رَفَقَ بِعِبَادِهِ رَفَقَ بِهِ، وَمَنْ رَحِمَ خَلْقَهُ رَحِمَهُ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ صَفَحَ عَنْهُمْ صَفَحَ عَنْهُ، وَمَنْ جَادَ عَلَيْهِمْ جَادَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَفَعَهُمْ نَفَعَهُ، وَمَنْ سَتَرَهُمْ سَتَرَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ هَتَكَهُمْ هَتَكَهُ وَفَضَحَهُ، وَمَنْ مَنَعَهُمْ خَيْرَهُ مَنَعَهُ خَيْرَهُ، وَمَنْ شَاقَّ اللهَ شَاقَّ الله -تَعَالَى- بِهِ، وَمَنْ مَكَرَ مَكَرَ بِهِ، وَمَنْ خَادَعَ خَادَعَهُ، وَمَنْ عَامَلَ خَلْقَهُ بِصِفَةٍ عَامَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِعَيْنِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَاللهُ -تَعَالَى- لِعَبْدِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ لِخَلْقِهِ.

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ حِسَابَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَ ((مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَثْرَتَهُ)).

وَ ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي ظِلِّ عَرْشِهِ))؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ فِي ظِلِّ الْإِنْظَارِ وَالصَّبْرِ، وَنَجَّاهُ مِنْ حَرِّ الْمُطَالَبَةِ وَحَرَارَةِ تَكَلُّفِ الْأَدَاءِ مَعَ عَسْرَتِهِ وَعَجْزِهِ؛ نَجَّاهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ.

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمًا: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).

فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكُنْ كَيْفَ شِئْتَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَكَ كَمَا تَكُونُ أَنْتَ لَهُ وَلِعِبَادِهِ)).

((الْخَيْرُ فِي الرِّفْقِ وَالشَّرُّ فِي الْعُنْفِ))

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى-  الْخَيْرَ فِي الرِّفْقِ كَمَا قَالَ ﷺ، وَمَفْهُومُ ذَلِكَ أَن الشَّرَّ فِي الْعُنْفِ، وَهُوَ -فَضْلًا عَمَّا يَجُرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ- يُدَمِّرُ صِحَّةَ الْإِنْسَانِ، وَيُبَدِّدُ طَاقَةَ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، وَيُشَوِّشُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ، وَيَقْطَعُ مَوْصُولَ صِلَتِهِ بِالْخَلْقِ مِنْ حَوْلِهِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَأَمَّا الرِّفْقُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ.

إِنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ..

وَالرِّفْقُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْمَلَ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ كُلَّهَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  الْحُقُوقُ وَالْحُرُمَاتُ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
  عَلَامَ تَبِيعُ الْجَنَّةَ؟!!
  كيف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
  الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ
  التَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ فِي الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ
  فضل عشر ذي الحجة
  الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان