الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ

الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ

((الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ))

فَالْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ل عمران: 97].

وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).

وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ((مُسْنَدِ الْفَارُوقِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا)).

وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَرُكْنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ، مَالِكًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاجِدًا أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَرْأَةِ أَحَدُ مَحَارِمِهَا.

((مِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ وَأَهْدَافِهِ))

لِلْحَجِّ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ:

1- أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي؛ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلَأُبَايِعُكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ)).

قَالَ: ((فَقَبَضْتُ يَدِي)).

قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟))

قَالَ: قُلْتُ: ((أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ)).

قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟))

قُلْتُ: ((أَنْ يُغْفَرَ لِي)).

قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ أَيْضًا: أَنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ: أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ وَهُوَ أَفْضَلُهَا، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! تَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟)).

قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

4- وَمِنْ فَوَاضِلِ الْحَجِّ وَفَضَائِلِهِ: الْفَوْزُ بِأَعْلَى الْمَطَالِبِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِلْحَجِّ أَهْدَافُهُ الْعَظِيمَةُ؛ فَمِنْهَا:

1- الْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.

2- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ: أَنَّ فِيهِ ارْتِبَاطًا بِرُوحِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الدِّيَارَ الْمُقَدَّسَةَ هِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَكُلَّمَا ارْتَبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَلَّغُوا شَرْعَهُ.

3- وَفِي الْحَجِّ إِعْلَانٌ عَمَلِيٌّ لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

4- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ: أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ، وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.

((أَحْكَامُ الْحَجِّ وَفَوَائِدُهُ وَأَرْكَانُهُ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِعَظَمَةِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ لِعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، وَتَنَوُّعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ لِلْعَالَمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا وَفَضْلًا غَزِيرًا، وَأَنَّ فِيهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَتَنَقُّلَاتِهِ فِي الْحَجِّ، وَمِنْ بَعْدِهِ تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ سَيِّدِ الرُّسُلِ وَإِمَامِهِمْ، وَفِيهِ الْأَمْنُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قَدَرًا، مُؤَمَّنًا شَرْعًا وَدِينًا.

فَلَمَّا احْتَوَى عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هَذِهِ مُجْمَلَاتُهَا وَتَكْثُرُ تَفْصِيلَاتُهَا؛ أَوْجَبَ اللَّهُ حَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَطِيعِينَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِأَيِّ مَرْكُوبٍ يُنَاسِبُهُ وَزَادٍ يَتَزَوَّدُهُ؛ وَلِهَذَا أَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي يُمْكِنُ تَطْبِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَرْكُوبَاتِ الْحَادِثَةِ وَالَّتِي سَتَحْدُثُ، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ كَانَتْ أَحْكَامُهُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاحُ التَّامُّ بِدُونِهَا، فَمَنْ أَذْعَنَ لِذَلِكَ وَقَامَ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يَلْتَزِمْ حَجَّ بَيْتِهِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الدِّينِ، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ})).

(({وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] الْآيَةَ.

وَفِيهَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ: أَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ، وَأَنَّ اللهَ أَوْجَبَهُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ خَصَّ الْمُسْتَطِيعِينَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ، وَهَذَا الشَّرْطُ الْأَعْظَمُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، فَمَنْ تَمَّتِ اسْتِطَاعَتُهُ فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفٌ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَمَنْ عَجَزَ فِي بَدَنِهِ، وَقَدَرَ فِي مَالِهِ، وَهُوَ يَرْجُو زَوَالَ هَذَا الْعَجْزِ؛ صَبَرَ إِلَى زَوَالِ عَجْزِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو زَوَالَهُ، أَوْ كَانَ كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الْمَرْكُوبِ؛ اسْتَنَابَ عَنْهُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ بَعْدَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ وَجَبَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الِاسْتِنَابَةُ عَنْهُ.

وَالِاسْتِطَاعَةُ: هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى ثَمَنِ الرَّاحِلَةِ، أَوْ أُجْرَتِهَا، أَوْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الْبَرِّيَّةِ أَوِ الْبَحْرِيَّةِ أَوِ الْجَوِيَّةِ ذَهَابًا وَرُجُوعًا؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ اللهُ اسْتِطَاعَةَ السَّبِيلِ؛ لِيَشْمَلَ مَا حَدَثَ وَيَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَبَرَاهِينِ صِدْقِهِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ للهِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْفَرْضِ مِنْهُمَا وَلِلنَّفْلِ، فَمَنْ فَرَضَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِأَنْ أَوْجَبَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِدُخُولِهِ فِي النُّسُكِ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ لَهُ حَصْرٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَذْبَحُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَيُحِلُّ مِنْ نُسُكِهِ، وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَرَنَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَيُحِلُّ مِنَ النُّسُكَيْنِ جَمِيعًا.

وَفِيهَا: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سَوْقِ الْهَدْيِ مِنَ الْحِلِّ، وَتُؤْخَذُ مَشْرُوعِيَّةُ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}، وَأَنَّ الْعُمْرَةَ تَنْدَرِجُ فِي الْحَجِّ، وَتَكُونُ أَفْعَالُهُمَا جَمِيعًا، وَالْحِلُّ مِنْهُمَا جَمِيعًا.

وَأَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَهُوَ مَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ؛ جَذَعُ الضَّأْنِ، وَثَنِيُّ الْمَعْزِ، وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ، أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، لَا يَتَجَاوَزُ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ صِيَامَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَطْ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّمُ أَوْ بَدَلُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي وُجُوبِ الْهَدْيِ أَوْ بَدَلِهِ الشُّكْرَ للهِ عَلَى نِعْمَةِ حُصُولِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي مَكَّةَ أَوْ قُرْبَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُفْرِدَ لِلْحَجِّ لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمُتَمَتِّعِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ إِحْرَامُ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ.

وَأَرْشَدَ اللهُ مَنْ فَرَضَ فِيهَا -أَيْ: أَوْجَبَ فِيهِنَّ الْحَجَّ- أَلَّا يَرْفُثَ -وَالرَّفَثُ: الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ-؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُفْسِدٌ لِلنُّسُكِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ مُنْقِصَةٌ لَهُ، وَأَلَّا يَفْسُقَ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُنَازَعَةُ وَكَثْرَةُ الْجِدَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَشْغَلُ الْعَبْدَ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ النُّسُكِ.

وَلَمَّا نَهَى عَمَّا يُنَافِي النُّسُكَ وَيُنْقِصُهُ؛ أَمَرَ وَحَثَّ عَلَى كُلِّ مَا يُكَمِّلُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، فَقَالَ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197].

وَحَثَّ -أَيْضًا- عَلَى كَثْرَةِ الزَّادِ؛ لِأَنَّهُ يَكُفُّ الْإِنْسَانَ وَيُغْنِيهِ عَنِ الْخَلْقِ، وَيَبْسُطُ بِهِ نَفْسَهُ وَرُفْقَتَهُ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الْإِحْسَانِ.

وَأَبَاحَ -تَعَالَى- لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ الِاشْتِغَالَ بِالتِّجَارَةِ وَالْمَكَاسِبِ بِشَرْطِ أَلَّا تَشْغَلَهُ عَنْ تَكْمِيلِ نُسُكِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].

فِي هَذَا: أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللهَ خَاطَبَ بِهِ جَمِيعَ الْحَاجِّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، وَهَذَا أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْأَرْبَعَةِ؛ وَهِيَ:

-الْإِحْرَامُ: الَّذِي هُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197].

-وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.

-وَالطَّوَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ دُونَ بَقِيَّةِ الْمَنَاسِكِ، وَلِأَنَّهُ يُتَطَوَّعُ بِهِ كُلَّ وَقْتٍ.

-وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، مَعَ حَثِّ اللهِ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الدِّينِ.

فَهَذِهِ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ إِلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ لَا وُقُوفَ فِيهَا بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعِهَا.

وَفِي الْآيَةِ: الْأَمْرُ بِذِكْرِ اللهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؛ وَهُوَ (مُزْدَلِفَةُ)، الْوَاجِبُ مِنْهُ أَنْ يُدْرِكَ جُزْءًا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ -أَيْ: مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالْأَكْمَلُ الْمَبِيتُ بِهَا، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَيُهَلِّلُ اللهَ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَسْتَغْفِرُهُ حَتَّى يُقَارِبَ طُلُوعُ الشَّمْسِ.

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرَّمْيُ، وَالنَّحْرُ، وَالْحَلْقُ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَالسَّعْيُ، وَالْمَبِيتُ بِـ(مِنَى) لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَمَا عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ ﷺ وَقَوْلِهِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ.

ثُمَّ أَمَرَ -تَعَالَى- بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عِنْدَ كَمَالِ النُّسُكِ خَتْمًا لِهَذَا النُّسُكِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَى تَكْمِيلِهِ.

وَأَمَرَ بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ؛ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَأَبَاحَ التَّعَجُّلَ فِي يَوْمَيْنِ بِأَنْ يَرْمِيَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ، ثُمَّ يَنْفِرُ مِنْ (مِنَى) قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ غَرَبَتْ وَهُوَ فِي (مِنَى) تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَالرَّمْيُ لِلْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الْغَدِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]: فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَا خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ)).

((طَرَفٌ مِنْ سِيرَةِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَوَاضِعُ الْمَنَاسِكِ))

((قَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً مِنْ سِيرَةِ إِبْرَاهِيمَ، فِيهَا لَنَا الْأُسْوَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ عُمُومًا، وَبِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّنَا وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَخْلَاقٍ وَأَعْمَالٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ؛ فَقَدْ آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- رُشْدَهُ، وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ مُنْذُ كَانَ صَغِيرًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ يَقِينًا وَعِلْمًا، وَقُوَّةً فِي دِينِ اللهِ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ.

وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، وَهُمْ فَلَاسِفَةُ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَخْبَثِ الطَّوَائِفِ وَأَعْظَمِهِمْ ضَرَرًا عَلَى الْخَلْقِ، فَدَعَاهُمْ بِطُرُقٍ شَتَّى، فَأَوَّلُ ذَلِكَ دَعَاهُمْ بِطَرِيقَةٍ لَا يُمْكِنُ لِصَاحِبِ عَقْلٍ أَنْ يَنْفِرَ مِنْهَا، وَلَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ السَّبْعَ السَّيَّارَاتِ الَّتِي مِنْهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقَدْ بَنَوْا لَهَا الْبُيُوتَ، وَسَمَّوْهَا الْهَيَاكِلَ؛ قَالَ لَهُمْ نَاظِرًا وَمُنَاظِرًا: هَلُمَّ يَا قَوْمِ! نَنْظُرُ هَلْ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْءٌ الْإِلَهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ؟

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي} [الأنعام: 76].

وَالْمُنَاظَرَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ:

مِنْهَا: أَنَّ الْمُنَاظِرَ يَقُولُ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُهُ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُجَّتَهُ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَى خَصْمِهِ، كَمَا قَالَ فِي تَكْسِيرِهِ الْأَصْنَامَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]، فَأَشَارَ إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي لَمْ يُكَسِّرْهُ، فَقَالَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63].

وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَرَضَهُ إِلْزَامُهُمْ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ.

فَهُنَا يَسْهُلُ عَلَيْنَا فَهْمُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أَيْ: إِنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالَتِهِ وَوَصْفِهِ فَهُوَ رَبِّي، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ؛ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ.

{فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] أَيْ: غَابَ {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76].

فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، أَوْ حَالُ حُضُورٍ وَغَيْبَةٍ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ؛ فَلَا يَكُونُ إِلَهًا.

ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ، فَلَمَّا رَآهُ بَازِغًا: {قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77].

يُرِيهِمْ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- وَقَدْ صَوَّرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ الْمُوَافِقِ لَهُمْ؛ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ، بَلْ يَقْصِدُ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ عَلَى إِلَهِيَّةِ النُّجُومِ وَالْقَمَرِ، فَالْآنَ وَقَدْ أَفَلَتْ، وَتَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ مَعَ السَّمْعِيِّ بُطْلَانُ إِلَهِيَّتِهَا؛ فَأَنَا إِلَى الْآنَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِي قَرَارٌ عَلَى رَبٍّ وَإِلَهٍ عَظِيمٍ.

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ: هَذَا أَكْبَرُ مِنَ النُّجُومِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْقَمَرِ، فَإِنْ جَرَى عَلَيْهَا مَا جَرَى عَلَيْهِمَا كَانَتْ مِثْلَهُمَا، فَلَمَّا أَفَلَتْ وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عِبَادَةَ مَنْ يَأْفِلُ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ؛ فَحِينَئِذٍ أَلْزَمَهُمْ بِهَذَا الْإِلْزَامِ، وَوَجَّهَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 78 - 79] أَيْ: ظَاهِرِي وَبَاطِنِي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

فَهَذَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ وَاضِحٌ أَنَّ الْخَالِقَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقْصَدَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ وَغَيْرَهَا مَخْلُوقَاتٌ مُدَبَّرَاتٌ لَيْسَ لَهَا مِنَ الْأَوْصَافِ مَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهَا؛ فَجَعَلُوا يُخَوِّفُونَهُ آلِهَتَهُمْ أَنْ تَمَسَّهُ بِسُوءٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْآرَاءِ الرَّدِيئَةِ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَتَضُرُّ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ قَدَحَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا الْخَوْفُ الْحَقِيقِيُّ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ ﷺ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].

أَجَابَ اللهُ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ جَوَابًا يَعُمُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَغَيْرَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أَيْ: بِشِرْكٍ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

فَرَفَعَ اللهُ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِالْعِلْمِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَعَجَزُوا عَنْ نَصْرِ بَاطِلِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِمُ الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ نَهْيًا عَامًّا وَخَاصًّا، وَأَخَصُّ مَنْ دَعَاهُ أَبُوهُ آزَرُ؛ فَإِنَّهُ دَعَاهُ بِعِدَّةِ طُرُقٍ نَافِعَةٍ؛ وَلَكِنْ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97].

فَمِنْ جُمْلَةِ مَقَالَاتِهِ لِأَبِيهِ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 42 - 43].

انْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْخِطَابِ الْجَاذِبِ لِلْقُلُوبِ: لَمْ يَقُلْ لِأَبِيهِ: إِنَّكَ جَاهِلٌ؛ لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَشِنِ، بَلْ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 43-45].

فَانْتَقَلَ بِدَعْوَتِهِ مِنْ أُسْلُوبٍ لِآخَرَ؛ لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِ أَوْ يُفِيدُ؛ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].

هَذَا وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَغْضَبْ، وَلَمْ يُقَابِلْ أَبَاهُ بِبَعْضِ مَا قَالَ، بَلْ قَابَلَ هَذِهِ الْإِسَاءَةَ الْكُبْرَى بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} [مريم: 47] أَيْ: لَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ إِلَّا بِكَلَامٍ طَيِّبٍ لَا غِلْظَةَ فِيهِ وَلَا خُشُونَةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَسْتُ بِآيِسٍ مِنْ هِدَايَتِكَ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أَيْ: بَرًّا رَحِيمًا قَدْ عَوَّدَنِي لُطْفَهُ، وَأَجْرَانِي عَلَى عَوَائِدِهِ الْجَمِيلَةِ، وَلَمْ يَزَلْ لِدُعَائِي مُجِيبًا.

فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مَعَ قَوْمِهِ فِي دَعْوَةٍ وَجِدَالٍ، وَقَدْ أَفْحَمَهُمْ، وَكَسَرَ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ وَشُبَهِهِمْ، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ يُقَاوِمَهُمْ بِأَعْظَمِ الْحُجَجِ، وَأَنْ يَصْمُدَ لِبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا وَجِلٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَخَرَجَ مَعَهُمْ؛ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88-89]؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَظَاهَرَ بِعَدَاوَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنَّهْيِ الْأَكِيدِ عَنْهَا، وَجِهَادِ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَرَزُوا جَمِيعًا إِلَى الصَّحَرَاءِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ، فَجَعَلَهَا جُذَاذًا كُلَّهَا إِلَّا صَنَمًا كَبِيرًا أَبْقَى عَلَيْهِ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ.

فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ بَادَرُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ صَبَابَةً وَمَحَبَّةً، فَرَأَوْا فِيهَا أَفْظَعَ مَنْظَرٍ رَآهُ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: {مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59 - 60] أَيْ: يَعِيبُ الْأَصْنَامَ وَيَذْكُرُهَا بِأَوْصَافِ النَّقْصِ وَالسُّوءِ {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قَدْ كَسَّرَهَا {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61] أَيْ: بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَوَبَّخُوهُ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ، ثُمَّ نَكَّلُوا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِيُظْهِرَ الْحَقَّ بِمَرْأَى الْخَلْقِ وَمَسْمَعِهِمْ.

فَلَمَّا جُمِعَ النَّاسُ وَحَضَرُوا، وَأَحْضَرُوا إِبْرَاهِيمَ قَالُوا: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا} [الأنبياء: 62 - 63] مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي سَلِمَ مِنْ تَكْسِيرِهِ.

وَهُمْ فِي هَذِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ عَقْلَ أَحَدٍ؛ أَنَّ جَمَادًا مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ مَوَادَّ مَعْرُوفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ، هَذَا الصَّنَمُ هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا، وَأَنْتَ سَالِمٌ نَاجٍ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ، قَالَ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63].

وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ؛ فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَبَانَ، وَاعْتَرَفُوا هُمْ بِالْحَقِّ، {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 64-65] أَيْ: مَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا إِلَّا وَقْتًا قَصِيرًا ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ مُبَاشَرَةً؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ مُكَابَرَتُهَا؛ وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا عَادَتْ عَلَيْهِمْ عَقَائِدُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي رَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتَقَرَّتْ، وَصَارَتْ صِفَاتٍ مُلَازِمَةً، إِنْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا فَإِنَّهُ عَارِضٌ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ بَعْدُ، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].

فَحِينَئِذٍ وَبَّخَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا الْخُصُومُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67].

فَلَوْ كَانَتْ لَكُمْ عُقُولٌ صَحِيحَةٌ لَمْ تُقِيمُوا عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ، فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ؛ عَدَلُوا وَمَالُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَاسْتِعْمَالِ جَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، فَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا، فَأَلْقَوْهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ- قَالَ: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء: 70]؛ لِيَنْصُرُوا آلِهَتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ، وَالْمَوْجُودِينَ وَالْحَادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَالرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْؤُوسِينَ؛ حَتَّى إِنَّ مَلِكَهُمْ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ بَغْيًا وَطُغْيَانًا {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].

فَأَلْزَمَهُ الْخَلِيلُ بِطَرْدِ دَلِيلِهِ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُهَاجِرًا وَزَوْجَتُهُ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ، فَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ، وَفِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِالشَّامِ ذَهَبَ إِلَى مِصْرَ بِزَوْجَتِهِ سَارَةَ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ امْرَأَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَمَّا رَآهَا مَلِكُ مِصْرَ -وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا-؛ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حِينَ رَآهَا حَتَّى أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَدَعَتِ اللهَ عَلَيْهِ، فَكَادَ أَنْ يَمُوتَ، ثُمَّ أُطْلِقَ، ثُمَّ عَادَ ثَانِيَةً، وَكُلَّمَا أَرَادَهَا دَعَتْ عَلَيْهِ فَصُرِعَ، ثُمَّ دَعَتْ لَهُ فَأُطْلِقَ، فَكَفَاهُمَا اللهُ شَرَّهُ، وَوَهَبَ لَهَا هَاجَرَ؛ جَارِيَةً قِبْطِيَّةً، وَكَانَتْ سَارَةُ عَاقِرًا مُنْذُ كَانَتْ شَابَّةً، فَوَهَبَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَتَسَرَّرَهَا؛ لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ مِنْهَا وَلَدًا، فَأَتَتْ هَاجَرُ بِإِسْمَاعِيلَ عَلَى كِبَرِ سِنِّ إِبْرَاهِيمَ، فَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ وَلَكِنَّ سَارَةَ أَدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ فَحَلَفَتْ أَلَّا يُسَاكِنَهَا بِهَا؛ وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِذَهَابِهِ بِهَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَهُ ذَلِكَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَذَهَبَ بِهَا وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، وَلَا مَسْكَنٌ، وَلَا مَاءٌ، وَلَا زَرْعٌ، وَلَا غَيْرُهُ، وَزَوَّدَهُمَا بِسِقَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَجِرَابٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَوَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مَحَلِّ بِئْرِ زَمْزَمَ، ثُمَ قَفَّى عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّنِيَّةِ بِحَيْثُ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا؛ دَعَا اللهُ -تَعَالَى- فَقَالَ: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ.

ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللهِ، وَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى نَفِدَا، فَعَطِشَتْ ثُمَّ عَطِشَ وَلَدُهَا، فَجَعَلَ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ، ثُمَّ ذَهَبَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَعَلَّهَا تَرَى أَحَدًا أَوْ تَجِدُ مُغِيثًا، فَصَعِدَتْ أَدْنَى جَبَلٍ مِنْهَا وَهُوَ الصَّفَا، وَتَطَلَّعَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَرْوَةِ فَصَعِدَتْ عَلَيْهِ، فَتَطَلَّعَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَكْرُوبَةٌ مُضْطَرَّةٌ، مُسْتَغِيثَةٌ بِاللهِ لَهَا وَلِابْنِهَا، وَهِيَ تَمْشِي وَتَتَلَفَّتُ إِلَيْهِ خَشْيَةَ السِّبَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا هَبَطَتِ الْوَادِيَ سَعَتْ حَتَّى تَصْعَدَ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ؛ لِئَلَّا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهَا ابْنُهَا.

وَالْفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْعُسْرُ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ، فَلَمَّا أَتَمَّتْ سَبْعَ مَرَّاتٍ تَسَمَّعَتْ حِسَّ الْمَلَكِ، فَبَحَثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ زَمْزَمُ فَنَبَعَ الْمَاءُ، فَاشْتَدَّ فَرَحُ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ بِهِ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، وَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى، وَحَوَّطَتْ عَلَى الْمَاءِ لِئَلَّا يَسِيحَ فِي الْأَرْضِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ! لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ -أَيْ: لَمْ تَحُطْهُ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

ثُمَّ عَثَرَ بِهَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُمْ (جُرْهُمُ)، فَنَزَلُوا عِنْدَهَا، وَتَمَّتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ.

وَشَبَّ إِسْمَاعِيلُ شَبَابًا حَسَنًا، وَأَعْجَبَ الْقَبِيلَةَ بِأَخْلَاقِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَكَمَالِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ تَزَوَّجَ مِنْهُمُ امْرَأَةً.

فَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَاتَتْ أُمُّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِغَيْبَةِ إِسْمَاعِيلَ يَتَصَيَّدُ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْ زَوْجِهَا وَعَنْ عَيْشِهِمْ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ ذَهَبَ يَتَصَيَّدُ، وَأَنَّ عَيْشَهُمْ عَيْشُ الشِّدَّةِ، فَقَالَ لَهَا: ((إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَأَقْرِئِيهِ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ)).

وَرَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ جَاءَهُمْ شَيْخٌ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنَا عَنْ عَيْشِنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّنَا فِي شِدَّةٍ، وَأَنَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَقَالَ: ((ذَاكَ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ)).

ثُمَّ تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ غَيْرَهَا، ثُمَّ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ مَرَّةً أُخْرَى وَإِسْمَاعِيلُ -أَيْضًا- فِي الصَّيْدِ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَأَخْبَرَتْهُ، وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ فِي نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَيِّبَةً شَاكِرَةً للهِ، شَاكِرَةً لِزَوْجِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: ((إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ يُثَبِّتْ عَتَبَةَ بَابِهِ))، ثُمَّ رَجَعَ -أَيْضًا- مِنْ فَوْرِهِ قَبْلَ مُوَاجَهَةِ إِسْمَاعِيلَ؛ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللهُ -تَعَالَى-.

فَلَمَّا رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ صَيْدِهِ قَالَ: ((هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟)).

فَقَالَتْ: ((جَاءَنَا شَيْخٌ بِهَذَا الْوَصْفِ)).

فَقَالَ: ((هَلْ قَالَ لَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟)).

فَقَالَتْ: ((سَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنَا عَنْ عَيْشِنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي نِعْمَةٍ، وَأَثْنَيْتُ عَلَى اللهِ)).

قَالَ: ((فَمَا قَالَ؟)).

قَالَتْ: ((هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِكَ)).

فَقَالَ: ((ذَاكَ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ)).

ثُمَّ عَادَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يَبْرِي نَبْلًا عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ الشَّفِيقُ وَالْوَلَدُ الشَّفِيقُ، فَقَالَ: ((يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَسْجِدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: ((سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ)).

فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129].

فَلَمَّا تَمَّ بُنْيَانُهُ، وَتَمَّ لِلْخَلِيلِ هَذَا الْأَثَرُ الْجَلِيلُ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ وَيُؤَذِّنَ فِيهِمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ وَهُمْ يَفِدُونَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَيَسْعَدُوا وَيَزُولَ عَنْهُمْ شَقَاهُمْ.

وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ حِينَ تَمَكَّنَ حُبُّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْتَحِنَ إِبْرَاهِيمَ لِتَقْدِيمِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَخُلَّتِهِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمُشَارَكَةَ وَلَا الْمُزَاحَمَةَ، فَأَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَ إِسْمَاعِيلَ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، فَقَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: {إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 102 - 103] أَيْ: خَضَعَا لِأَمْرِ اللهِ، وَانْقَادَا لِأَمْرِهِ، وَوَطَّنَا أَنْفُسَهُمَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُزْعِجِ الَّذِي لَا تَكَادُ النُّفُوسُ تَصْبِرُ عَلَى عُشْرِ مِعْشَارِهِ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، نَزَلَ الْفَرَجُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105].

فَحَصَلَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى الشَّاقَّةِ الْمُزْعِجَةِ، وَحَصَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْجَزْمُ الْمُصَمِّمُ، وَتَمَّ لَهُمَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَحَصَلَ لَهُمَا الشَّرَفُ وَالْقُرْبُ وَالزُّلْفَى مِنَ اللهِ، وَمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْطَافِ اللهِ بِعَزِيزٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 105 - 107].

وَأَيُّ ذِبْحٍ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا عِبَادَةٌ، وَصَارَ سُنَّةً فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، وَيُدْرَكُ بِهِ ثَوَابُهُ وَرِضَاهُ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108 - 109].

ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ زَوْجَتَهُ سَارَةَ عَلَى الْكِبَرِ وَالْعُقْمِ وَالْيَأْسِ بِالْبِشَارَةِ بِالِابْنِ الْجَلِيلِ، وَهُوَ إِسْحَاقُ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، فَحِينَ أَرْسَلَ اللهُ لُوطًا إِلَى قَوْمِهِ، وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ، وَحَتَّمَ اللهُ عُقُوبَتَهُمْ، وَكَانَ لُوطٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تِلْمِيذًا لِإِبْرَاهِيمَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، فَمَرَّتِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ بِإِبْرَاهِيمَ بِصُورَةِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا وَرَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ؛ بَادَرَهُمْ بِالضِّيَافَةِ، وَكَانَ اللهُ قَدْ أَعْطَاهُ الرِّزْقَ الْوَاسِعَ وَالْكَرَمَ الْعَظِيمَ، وَكَانَ بَيْتُهُ مَأْوىً لِلْأَضْيَافِ، فَبِالْحَالِ رَاغَ إِلَى أَهْلِهِ بِسُرْعَةٍ وَخُفْيَةٍ مِنْهُمْ، فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ مَحْنُوذٍ مَشْوِيٍّ عَلَى الرَّضْفِ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: {أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27]، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70]؛ إِذْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لُصُوصٌ: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70].

وَكَانَتْ سَارَةُ قَائِمَةً فِي خِدْمَتِهِمْ، فَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، فَصَرَخَتْ سَارَةُ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا مُتَعَجِّبَةً، وَمُسْتَبْشِرَةً، وَمُتَرَدِّدَةً وَمُتَحَيِّرَةً، وَقَالَتْ: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72]، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُنْتُ عَقِيمًا، وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا؛ إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ عَجِيبٌ، قَالُوا: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].

فَبَشَّرَاهُمَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّهُ يَعِيشُ وَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، وَيُدْرِكَانِهِ -أَيْ: يُولَدُ فِي حَيَاتِهِمَا-؛ وَلِهَذَا حَمِدَ اللهَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى تَمَامِ نِعْمَتِهِ وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا قَصَّهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ﷺ  فَإِنَّنَا مَأْمُورُونَ بِهِ أَمْرًا خَاصًّا، قَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أَيِ: الْزَمُوهَا.

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} [الممتحنة: 4]. الْآيَةَ.

فَمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَجَمِيعِ مَا قُصَّ عَلَيْنَا مِنْ نَبَئِهِ فَإِنَّ اتِّبَاعَنَا إِيَّاهُ فِيهِ مِنْ دِينِنَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا عَامًّا لِأَحْوَالِهِ كُلِّهَا؛ اسْتَثْنَى اللهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِهِ فَقَالَ: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] أَيْ: فَلَا تَقْتَدُوا بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114].

إِنَّ الْمَشَاعِرَ وَمَوَاضِعَ الْأَنْسَاكِ -فِي الْحَجِّ- مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ فِيهَا؛ أَنَّ فِيهَا تَذْكِيرَاتٍ بِمَقَامَاتِ الْخَلِيلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فِي عِبَادَاتِ رَبِّهِمْ، وَإِيمَانًا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَحَثًّا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَكُلُّ أَحْوَالِ الرُّسُلِ دِينِيَّةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125])).

((عَظَمَةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجَلَالَتُهُ))

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 26-29].

((يَذْكُرُ -تَعَالَى- عَظَمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجَلَالَتَهُ، وَعَظَمَةَ بَانِيهِ؛ وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أَيْ: هَيَّأْنَاهُ لَهُ، وَأَنْزَلْنَاهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ قِسْمًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ سُكَّانِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبُنْيَانِهِ، فَبَنَاهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَأَسَّسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَبَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا؛ بِأَنْ يُخْلِصَ لِلَّهِ أَعْمَالَهُ، وَأَنْ يَبْنِيَهُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ.

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ، وَأَضَافَهُ الرَّحْمَنُ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، وَلِتَعْظُمَ مَحَبَّتُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَلِتَنْصَبَّ إِلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلِيَكُونَ أَعْظَمَ لِتَطْهِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ بَيْتَ الرَّبِّ لِلطَّائِفِينَ بِهِ وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ، الْمُقِيمِينَ لِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ ذِكْرٍ، وَقِرَاءَةٍ، وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ، وَتَعْلِيمِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيِ: الْمُصَلِّينَ، أَيْ: طَهِّرْهُ لِهَؤُلَاءِ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ هَمُّهُمْ طَاعَةُ مَوْلَاهُمْ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ عِنْدَ بَيْتِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الْحَقُّ، وَلَهُمُ الْإِكْرَامُ، وَمِنْ إِكْرَامِهِمْ تَطْهِيرُ الْبَيْتِ لِأَجْلِهِمْ.

وَيَدْخُلُ فِي تَطْهِيرِهِ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْوَاتِ اللَّاغِيَةِ وَ الْأَصْوَاتِ الْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، وَقَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ الِاعْتِكَافَ لِاخْتِصَاصِهِ بِجِنْسِ الْمَسَاجِدِ.

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِهِ، وَادْعُهُمْ إِلَيْهِ، وَبَلِّغْ دَانِيَهُمْ وَقَاصِيَهُمْ فَرْضَهُ وَفَضِيلَتَهُ؛ فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ أَتَوْكَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا، {رِجَالا} أَيْ: مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الشَّوْقِ، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أَيْ: عَلَى كُلِّ نَاقَةٍ ضَامِرٍ تَقْطَعُ الْمَهَامِهَ وَالْمَفَاوِزَ، وَتُوَاصِلُ السَّيْرَ حَتَّى تَأْتِيَ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أَيْ: مِنْ كُلِّ بَلَدٍ بَعِيدٍ.

وَقَدْ فَعَلَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَدَعَيَا النَّاسَ إِلَى حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَبْدَيَا فِي ذَلِكَ وَأَعَادَا، وَقَدْ حَصَلَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ، أَتَاهُ النَّاسُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ فَوَائِدَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، مُرَغِّبًا فِيهِ فَقَالَ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أَيْ: لِيَنَالُوا بِبَيْتِ اللَّهِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً؛ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِ، وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةً مِنَ التَّكَسُّبِ وَحُصُولِ الْأَرْبَاحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، كُلٌّ يَعْرِفُهُ.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}: وَهَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَيْ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا؛ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا، وَيَسَّرَهَا لَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحْتُمُوهَا {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أَيْ: شَدِيدَ الْفَقْرِ.

 {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أَيْ: لِيَقْضُوا نُسُكَهُمْ، وَيُزِيلُوا الْوَسَخَ وَالْأَذَى الَّذِي لَحِقَهُمْ فِي حَالِ إِحْرَامِهِمْ، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} الَّتِي أَوْجَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَيِ: الْقَدِيمِ، أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الْمُعْتَقِ مِنْ تَسَلُّطِ الْجَبَابِرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالطَّوَافِ خُصُوصًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَنَاسِكِ عُمُومًا؛ لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ، وَمَا قَبْلَهُ وَسَائِلُ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيْضًا- لِفَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الطَّوَافَ مَشْرُوعٌ كُلَّ وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا لِنُسُكٍ أَمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ)).

((الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ))

الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ مُبَارَكَةٌ، رُوحُهُ الْإِخْلَاصُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ فَالْحَاجُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، تَارِكًا أَهْلَهُ، مُتَوَاضِعًا لِمَوْلَاهُ، مُتَنَقِّلًا بَيْنَ الْمَشَاعِرِ الْمُقَدَّسَةِ بِقَلْبٍ خَاشِعٍ، وَلِسَانٍ ذَاكِرٍ، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ، يَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَيَخْشَي عَذَابَهُ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

((وَاذْكُرْ -أَيُّهَا النَّبِيُّ- إِذْ بَيَّنَا لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَكَانَ الْبَيْتِ، وَهَيَّأْنَاهُ لَهُ وَقَدْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، وَأَمَرْنَاهُ بِبِنَائِهِ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَطْهِيرِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْبِدَعِ، وَالنَّجَاسَاتِ؛ لِيَكُونَ رِحَابًا لِلطَّائِفِينَ بِهِ، وَالْقَائِمِينَ الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ)).

لِذَلِكَ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُهِلُّ بِهِ الْحَاجُّ هُوَ شِعَارُ التَّوْحِيدِ قَائِلًا: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).

فَالْحَجُّ مِنْ أَجْلَى مَجَالِي تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْسَلِخُ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَاتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِ وَأَحِبَّائِهِ؛ ضَارِبًا فِي أَرْضِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَاصِدًا بَيْتَهُ الْحَرَامَ؛ تَلْبِيَةً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، آتِيًا بِإِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ..)): إِجَابَةً مِنْ بَعْدِ إِجَابَةٍ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ))، وَهُوَ اسْتِعْلَانٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.

((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).

فَفِي هَذَا -كَمَا تَرَى- أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ إِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَمَرَنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْعَظِيمَةِ؛ أَمَرَنَا بِأَنْ نَأْتِيَ بِهَا تَامَّةً لَهُ وَحْدَهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، لَا لِسِوَاهُ.

فَهَذَا اخْتِصَاصٌ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا لَا يَنْصَرِفُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَالَ: ((لَبَّيْكَ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ)).

فَهُوَ ((إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَهُوَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ، وَهُوَ تَوْحِيدٌ بِالْقَلْبِ وَالْقَالَبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى حَيْثُ أَمَرَ أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ الْحَجَّ هُوَ مَيْدَانُ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَالذِّكْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لِلْعِبَادَاتِ عُمُومًا، وَلِلْحَجِّ خُصُوصًا، فَمَا شُرِعَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا رَمْيُ الْجِمَارِ إِلَّا لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28].

((وَأَعْلِمْ -يَا إِبْرَاهِيمُ- النَّاسَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ يَأْتُوكَ عَلَى مُخْتَلَفِ أَحْوَالِهِمْ، مُشَاةً وَرُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ مِنَ الْإِبِلِ -وَهُوَ: الْخَفِيفُ اللَّحْمِ مِنَ السَّيْرِ وَالْأَعْمَالِ، لَا مِنَ الْهُزَالِ-؛ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ؛ لِيَحْضُرُوا مَنَافِعَ لَهُمْ؛ مِنْ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، وَثَوَابِ أَدَاءِ نُسُكِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَتَكَسُّبِهِمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى ذَبْحِ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ: عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ؛ شُكْرًا للهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَذِهِ الذَّبَائِحِ اسْتِحْبَابًا، وَيُطْعِمُوا مِنْهَا الْفَقِيرَ الَّذِي اشْتَدَّ فَقْرُهُ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198-200].

 ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَطْلُبُوا رِزْقًا مِنْ رَبِّكُمْ بِالرِّبْحِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ رَاجِعِينَ مِنْ (عَرَفَاتٍ) -وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْحُجَّاجُ يَوْمَ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-؛ فَاذْكُرُوا اللهَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (الْمُزْدَلِفَةِ)، وَاذْكُرُوا اللهَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي هَدَاكُمْ إِلَيْهِ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْهُدَى فِي ضَلَالٍ لَا تَعْرِفُونَ مَعَهُ الْحَقَّ.

وَلْيَكُنِ انْدِفَاعُكُمْ مِنْ (عَرَفَات) الَّتِي أَفَاضَ مِنْهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُخَالِفِينَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يَقِفُ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ لِعِبَادِهِ الْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ، رَحِيمٌ بِهِمْ.

فَإِذَا أَتْمَمْتُمْ عِبَادَتَكُمْ، وَفَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ؛ فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ مَفَاخِرَ آبَائِكُمْ وَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يَجْعَلُ هَمَّهُ الدُّنْيَا فَقَطْ، فَيَدْعُو قَائِلًا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا صِحَّةً وَمَالًا وَأَوْلَادًا، وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ؛ لِرَغْبَتِهِمْ عَنْهَا، وَقَصْرِ هَمِّهِمْ عَلَى الدُّنْيَا)).

فِي الْحَجِّ -فِي أَمَاكِنَ سِتَّةٍ- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعْلِنُ بِالدُّعَاءِ وَيُطِيلُهُ جِدًّا, فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ جَمْعَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ مَعَ الْقَصْرِ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ الزَّمَنِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ أَيْ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَجْمُوعَةً مَقْصُورَةً مَعَ الظُّهْرِ لِتَمْتَدَّ الْمُدَّةُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِلذِّكْرِ وَلِلدُّعَاءِ, وَالِابْتِهَالِ وَالرَّجَاءِ, وَالتَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِإِنَابَةٍ وَإِخْلَاصٍ, سَائِلِينَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَوَائِجَهُمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَفِي وَقْتِ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ يَشَاءُ, وَيُعْطِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يُرِيدُ, وَيَتَفَضَّلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَنْ يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ كَمَا فِي النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ, فَإِنَّهُ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَلَا هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ حَاجَةٍ فَأُعْطِيَهُ إِيَّاهَا؟ أَلَا هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟))، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مَجْمُوعَةً مَقْصُورَةً مَعَ الظُّهْرِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الصَّخْرَاتِ, وَيَتَوَجَّهُ إِلَى قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ رَافِعًا يَدَيْهِ دَاعِيًا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَهَذَا مَوْطِنٌ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ, بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا -يَعْنِي: الصُّبْحَ-, يَدْعُو اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَا شَاءَ.

ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مِنًى؛ مِنْ أَجْلِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى.

وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ, وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الصُّغْرَى, فَكَانَ يَرْمِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ, ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاعِيًا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُعَاءً طَوِيلًا؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((كَمِثْلِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)).

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُكَبِّرًا, ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاعِيًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُعَاءً طَوِيلًا, ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى وَلَا يَدْعُو بَعْدَهَا.

فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَوَاطِنَ.

ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ الصَّفَا وَعِنْدَ الْمَرْوَةِ بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُ ﷺ؛ فَهَذِهِ سِتَّةُ مَوَاطِنَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو فِيهَا رَبَّهُ دُعَاءً طَوِيلًا طَيِّبًا.

وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ -وَهِيَ يَوْمُ الْقَرِّ, وَالْيَوْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ, وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ- أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ, فَإِذَا سَمِعَهُمْ مَنْ بِخَارِجِ الْمَسْجِدِ؛ كَبَّرَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ, وَعَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ, وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ, اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا.

وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ حَجِّكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ، وَذَبَحْتُمْ ذَبَائِحَكُمْ -بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمِنًى-؛ فَاذْكُرُوا اللهَ بِالتَّحْمِيدِ، وَالتَّمْجِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ مَفَاخِرَ آبَائِكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ أَكْثَرَ ذِكْرًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلذِّكْرِ وَالْحَمْدِ مُطْلَقًا.

فَيَأْنَسُ الْحَاجُّ بِالذِّكْرِ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ بِهِ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

(({الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: يَزُولُ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، وَتَحْضُرُهَا أَفْرَاحُهَا وَلَذَّاتُهَا، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أَيْ: حَقِيقٌ بِهَا وَحَرِيٌّ أَلَّا تَطْمَئِنَّ لِشَيْءٍ سِوَى ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَلَذُّ لِلْقُلُوبِ وَلَا أَشْهَى وَلَا أَحْلَى مِنْ مَحَبَّةِ خَالِقِهَا، وَالْأُنْسِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهَا بِاللَّهِ وَمَحَبَّتِهَا لَهُ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَهُ، هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ؛ مِنْ تَسْبِيحٍ، وَتَهْلِيلٍ، وَتَكْبِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلُوبِ بِذِكْرِ اللَّهِ: أَنَّهَا حِينَ تَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ تَطْمَئِنُّ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَبِذَلِكَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؛ فَإِنَّهَا لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَضْمُونٌ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَلَا تَطْمَئِنُّ بِهَا، بَلْ لَا تَزَالُ قَلِقَةً مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَضَادِّ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَبَرَ كِتَابِ اللَّهِ وَتَدَبَّرَهُ، وَتَدَبَّرَ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ فَإِنَّهُ يَجِدُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَرْقًا عَظِيمًا)).

وَيَتَذَكَّرُ الْحُجَّاجُ فِي حَجِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ تَجْتَمِعُ الْأَعْدَادُ الْعَظِيمَةُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيَتَذَكَّرُ النَّاسُ زِحَامَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِنَّ الْحَاجَّ يَتَذَكَّرُ بِتَحْصِيلِ الزَّادِ زَادَ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ فَاسِدَةً بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَلَا تَصْحَبُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ؛ كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَفْسُدُ فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ السَّفَرِ، فَيَبْقَى صَاحِبُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ مُتَحَيِّرًا، وَإِذَا فَارَقَ الْحَاجُّ وَطَنَهُ، وَدَخَلَ الْبَادِيَةَ، وَشَهِدَ تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَالصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ؛ فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ إِلَى مِيقَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَهْوَالِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَتَذَكَّرَ وَقْتَ إِحْرَامِهِ وَتَجَرُّدِهِ مِنْ ثِيَابِهِ أَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى رَبَّهُ بِزِيٍّ مُخَالِفٍ لِزِيِّ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ مُتَجَرِّدًا مِنَ الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا وَغُرُورِهَا، مَا مَعَهُ إِلَّا عَمَلُهُ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.

وَإِذَا لَبَّى فَلْيَسْتَحْضِرْ بِتَلْبِيَتِهِ إِجَابَةَ اللهِ تَعَالَى إِذْ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وَلْيَرْجُ الْقَبُولَ، وَلْيَخْشَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ، وَلْيَتَذَكَّرْ خَيْرَ مَنْ لَبَّى وَأَجَابَ النِّدَاءَ مُحَمَّدًا ﷺ وَصَحَابَتَهُ الْكِرَامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَلْيَعْزِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاقْتِفَاءِ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ.

وَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَرَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ عِنْدَ اللهِ، مُعَظِّمًا رَجَاءَهُ فِي رَبِّهِ، مُحْسِنًا ظَنَّهُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ اسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَظُمَتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، وَازْدَادَ لَهُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا، وَشَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَبْلِيغِهِ رُتْبَةَ الْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، وَلْيَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الطَّوَافِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَاةٌ.

وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ فِي مِنَى؛ فَيَتَذَكَّرُ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ؛ فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13].

وَإِذَا جَاءَ رَمْيُ الْجِمَارِ فَاقْصِدْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ، وَإِظْهَارَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ الطَّرِيقَةِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَرَغَبَاتِهَا)).

 

لَا شَكَّ أَنَّ الْحَجَّ مَوْسِمٌ لِتَعْزِيزِ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ فَفِي الْحَجِّ يَتَعَارَفُ النَّاسُ، وَيَتَآلَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، فَتَتَجَلَّى الْأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي أَبْهَى صُوَرِهَا؛ فَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ: أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ، وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.

عَلَى أَنَّنَا نُؤَكِّدُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكْتَمِلَ حَجُّ إِنْسَانٍ دُونَ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ، وَيَتَجَنَّبَ الرَّذَائِلَ، فَالْحَجُّ سُلُوكٌ وَمَسْؤُولِيَّةٌ وَخُلُقٌ حَسَنٌ؛ فَلْيَحْرِصْ مَنْ نَوَى الْحَجَّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرِيمِ الْخِصَالِ، وَلْيُعَوِّدْ نَفْسَهُ الصَّبْرَ وَالِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّ ((السَّفَرَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ))، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَلْيَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلْيَحْرِصْ عَلَى الْأَوْقَاتِ، وَلْيُؤَدِّ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ، وَلْيَحْرِصْ عَلَى أَلَّا يَصْحَبَ إِلَّا مُؤْمِنًا؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)).

الْحَجُّ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَهُوَ مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ دِينُ الْعَبْدِ إِلَّا بِهَا.

يَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالشَّهَامَةِ، وَالِانْبِسَاطِ إِلَى رُفْقَتِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيَامِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِثَالًا لِلتَّوَاضُعِ شَاخِصًا، مِثَالًا لِلْبُعْدِ عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ مَاثِلًا وَقَائِمًا -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»؛ فَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِثَالًا لِلْعَبْدِ الْقَانِتِ الْمُنِيبِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ».

فَحَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، سُلُوكًا وَتَطْبِيقًا وَعَمَلًا، وَكَانَ للهِ مُتَوَاضِعًا.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

وَمَنْ يُرِدْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَيْلَ عَنِ الْحَقِّ ظُلْمًا، وَيَعْصِ اللهَ فِيهِ؛ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ مُوجِعٍ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَةَ فِي الْحَرَمِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ؛ فَإِنَّهَا تُضَاعَفُ فِيهِ، وَأَنَّ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فِي الْحَرَمِ مُؤَاخَذٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ وَهِيَ: ((شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ تُسْتَوْفَى فِيهَا، وَتُؤْخَذُ الْأُهْبَةُ لَهُ فِيهَا، وَيُحْرَمُ بِهِ -أَيْ بِالْحَجِّ فِيهَا-، فَمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا فِي الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ الْحَجَّ بِالْإِحْرَامِ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي وَالْمِرَاءُ وَالْمُخَاصَمَةُ، فَإِذَا كُنْتُمْ قَدْ تَنَزَّهْتُمْ فِي حَجِّكُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ لِعَمَلِ الْخَيْرِ؛ فَتَنَافَسُوا فِيهِ، وَتَبَادَلُوا النَّفْعَ، وَاعْمَلُوا عَلَى مَا يُقَوِّي جَمْعَكُمْ، وَيُزِيلُ الضُّرَّ عَنْكُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ كَيْدَ الْكَائِدِينَ.

وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُثِيبُكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَزَوَّدُوا بِالتَّقْوَى لِمَعَادِكُمْ عِنْدَمَا تَرْحَلُونَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ زَادٍ يَتَزَوَّدُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ هُوَ تَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-، بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ.

وَخَافُوا عِقَابِي، وَالْتَزِمُوا بِشَرِيعَتِي، وَاشْتَغِلُوا بِعِبَادَتِي يَا ذَوِي الْعُقُولِ الْوَاعِيَةِ الدَّرَّاكَةِ الَّتِي تَعْقِلُ الْمَعَارِفَ فَتُمْسِكُ بِهَا، وَتَعْقِلُ النُّفُوسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْمِلَنَا جَمِيعًا إِلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  عقيدة أهل الإسلام في حقوق الحكام
  الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ رِسَالَةُ سَلَامٍ لِلْإِنْسَانِيَّةِ
  ثورة الغلابة أم ثورة الديابة؟!
  الرد على الملحدين:الدليل الخُلُقي ودلالته على وجود الخالق
  إلى أهل ليبيا الحبيبة
  التَّفَوُّقُ الْعِلْمِيُّ وَأَثَرُهُ فِي تَقَدُّمِ الْأُمَمِ
  مواعظ رمضانية - الجزء الثالث
  الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  تَكْرِيمُ المَرْأَةِ فِي الإِسْلَامِ وَدَوْرُهَا فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان