هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ

هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ

((هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ هُوَ: الِاسْتِسْلَامُ لِلهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُحَقِّقًا لِهَذَا الدِّينِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، حَتَّى يَنْقَادَ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُسْتَسْلِمًا، فَيَأْتِيَ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَكُونَ مُذْعِنًا لِأَمْرِ رَبِّهِ الَّذِي بَلَّغَهُ نَبِيُّهُ ﷺ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكْفِي، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ لَمَّا اخْتَارَ لَكُمْ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ أَعْظَمُ نِعَمِ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا دِينَ رَبِّكُمْ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوا إِلَيْهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَّقَ الْفَلَاحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1-3].

فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِيمَانَ بِدُونِ عَمَلٍ، إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ اللِّسَانُ وَقَامَتِ الْجَوَارِحُ بِمَا أَلْزَمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ، عَقْدُ الْقَلْبِ وَنُطْقُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ.

عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَ هُوَ أَعْظَمُ دِينٍ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي خَلَقَ اللهُ لِأَجْلِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَقَامَتْ بِسَبَبِهِ مَعْرَكَةُ الْجِهَادِ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.

وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ أَعْظَمُ مِنَّةٍ مَنَّ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدٍ، الدِّينُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، يَأْمُرُ بِالْبِرِّ وَيَنْهَى عَنِ الْعُقُوقِ، يَأْمُرُ بِالْأَمَانَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخِيَانَةِ، يَأْمُرُ بِالصِّلَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، يَأْمُرُ بِالِائْتِلَافِ وَيَنْهَى عَنْ الِاخْتِلَافِ، هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَنْهَى عَنِ الْبِدْعَةِ، يَأْمُرُ بِالْحَقِيقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخُرَافَةِ.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَنَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ؛ فَإنَّ أَعْظَمَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى عَبْدٍ قَطُّ هِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْتِفَاتًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ إِلْفَ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ إِلْفَ النِّعْمَةِ يَجْعَلُهَا كَلَا نِعْمَةٍ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا نِقْمَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، فَلَا يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِهَا!!

إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْحَالِ، وَنَظَرَ إِلَى حَالِ دُوَلِ الْكُفْرِ فِي بُعْدِهِمْ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجُحُودِهِمْ لَهُ، وَمُحَارَبَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَظَرَ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَحْيَوْنَ بَيْنَ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ؛ وَجَدَ مَا يُعَانُونَ وَمَا يُلَاقُونَ مِنَ الْعَنَتِ، وَمِنَ المَشَقَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ الْإِتْيَانِ بِفَرَائِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ عَلِمَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، هَذَا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَجْزَلَ لَهُ الْعَطِيَّةَ، وَأَضْعَفَ لَهُ الْمِنَّةَ لَمَّا جَعَلَهُ مُسْلِمًا.

فَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَنْشَأَنَا فِي بِيئَةٍ مُسْلِمَةٍ، نَسْمَعُ فِيهَا آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تُتْلَى فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا الصِّغَارُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَلِّمِينَ قَبْلَ كِبَارِهِمْ.

وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ بِأَعْلَى الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْمَحَالِّ، وَفِي شَتَّى الْأَمَاكِنِ، وَفِي جَمِيعِ الرُّبُوعِ، فَيُرْفَعُ الْأَذَانُ، وَهُوَ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَلَبَةَ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْبِيئَةِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ.

وَالْعَبْدُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يَعِيبَ نُورًا وَلَوْ كَانَ ضَئِيلًا إِلَّا إِذَا أَتَى بِنُورٍ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

فَهَذَا الَّذِي جَعَلَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ؛ مِنْ إِنْشَائِنَا فِي هَذِهِ الْبِيئَةِ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُسْمَعُ فِيهَا أَحَادِيثُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَيَتَحَرَّكُ فِيهَا الْإِنْسَانُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ مَا عُقُوبَةٍ لَهُ عَلَى إِسْلَامِهِ وَلَا مُؤَاخَذَةٍ، يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُشْكَرَ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا إِنْ كُفِرَتْ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ حَذَّرَ مَنْ كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

 ((حَالُ الْعَالَمِ وَالْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ!!))

عِبَادَ اللهِ! لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ هِيَ إِرْسَالُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا دَعَوَا اللهَ -تَعَالَى- لِأَهْلِ الْحَرَمِ -وُهُمَا يَبْنِيَانِ الْبَيْتَ- بِأَدْعِيَةٍ مِنْهَا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129].

وَقَدْ أَجَابَ اللهُ -تَعَالَى- دُعَاءَهُمَا؛ فَبَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ وَفِي غَيْرِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

وَتِلْكَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى وَالْمِنَّةُ الْكُبْرَى نَوَّهَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الجمعة: 2-4].

وَمِنْهَا قَوْلُه تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151-152].

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

وَإِنَّمَا كَانَ إِرْسَالُهُ ﷺ إِلَى النَّاسِ أَعْظَمَ مِنَّةٍ امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَخْلِيصَ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَهَدَاهُ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ؛ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَالِابْتِعَادِ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].

وَلَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ حَالَ الْعَالَمِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَانَ -كَمَا أَخْبَرَ هُوَ ﷺ- فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، وَفِي لَيْلٍ مِنَ الشِّرْكِ غَاسِقٍ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ».. فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، وَأُولَئِكَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَ الرَّسُولِ ﷺ.

وَكَانَتِ الْأَرْضُ قَدْ أَطْبَقَتْ عَلَى الْكُفْرِ، وَغَصَّتْ بِالشِّرْكِ، وَمَاجَتْ بِالظُّلْمِ، وَتَلَاطَمَتْ بَيْنَ جَنَبَاتِهَا أَمْوَاهُ الْجَوْرِ حَتَّى جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ، فَأَخْرَجَ اللهُ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، أَخْرَجَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ ضَلَالَاتِ الْفِكْرِ وَالِاعْتِقَادِ-؛ إِذْ كَانُوا يُقَدِّسُونَ الْأَحْجَارَ وَالْأَشْجَارَ وَيَعْبُدُونَ النُّجُومَ وَالْأَبْقَارَ، وَكَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقَدْ تَرَسَّخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ خُرَافَاتٌ وَخُزَعْبَلَاتٌ جَعَلَتِ الْفِكْرَ مُقَيَّدًا، وَجَعَلَتِ الْقُلُوبَ بِالْأَغْلَالِ مُوثَقَةً، حَتَّى جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَحَرَّرَ اللهُ بِهِ الْعُقُولَ، وَأَطْلَقَ الْقُلُوبَ مِنْ أَسْرِهَا حَتَّى عَادَتْ إِلَى رَبِّهَا؛ لِتَعُودَ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِا، «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي كُلَّهُمْ حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ».

فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ فِيهَا النُّورُ وَالْهُدَى، وَفِيهَا الْعَفَافُ وَالْعِفَّةُ، وَكَانَ النَّاسُ قَبْلَ ذَلِكَ كَالْحُمُرِ يَتَسَافَدُونَ، تَخْتَلِطُ أَنْسَابُهُمْ، وَلَا يُرَاعُونَ فِي أَحَدٍ عِرْضًا وَلَا حُرْمَةً، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَيَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَجُورُونَ وَيَظْلِمُونَ!!

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِاللهِ يَكْفُرُونَ، وَكَانُوا بِالْإِلَهِ الْحَقِّ يُشْرِكُونَ، فَأَخْرَجَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَاتِ كُلِّهَا بِمَقْدَمِ الرَّسُولِ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ الَّتِي عَرَفَ النَّاسُ بِهَا رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَعَبَدُوهُ وَوَحَّدُوهُ، وَانْسَلَخُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

لَوْلَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنَّ عَلَى الْبَشَرِ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ؛ لَكَانُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ؛ لَا يُرَاعُونَ عِرْضًا، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَى شَرَفٍ، وَلَاسْتُلِبَتْ مِنْهُمُ الْأَمْوَالُ، وَأُزهِقَتْ مِنْهُمُ الْأَرْوَاحُ؛ لِأَنَّ شَمْسَ الرِّسَالَةِ لَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَقَتْ عَلَى الْعَالَمِ لَكَانَ فِي ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَالنَّاسُ إِلَى شَمْسِ الرِّسَالَةِ وَإِلَى النُّورِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْيًا مَعْصُومًا.. النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّفَسِ.

وَإِذَا مَا كُسِفَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ عَنْ مَوْضِعٍ؛ حَلَّ فِيهِ الْخَرَابُ وَالْبَوَارُ وَالدَّمَارُ، وَاسْتَشْرَى فِيهِ الْفَسَادُ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا الرَّسُولَ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّرُّ فِي الْمَكَانِ عَلَى قَدْرِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

النَّاسُ أَحْوَجُ إِلَى الرِّسَالَةِ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ -بَلْ إِلَى النَّفَسِ-؛ لِأَنَّ الْجَسَدَ إِذَا حُرِمَ النَّفَسَ مَاتَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَإِذَا مَا حُرِمَ الرِّسَالَةَ هَلَكَ، وَهَلَاكُ الْقُلُوبِ هَلَاكُ الْآخِرَةِ وَضَيَاعُهَا، وَهَذَا أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ هَلَاكِ الْأَبْدَانِ وَضَيَاعِ الدُّنْيَا.

وَالْعَرَبُ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ مُتَشَتِّتِينَ، عِنْدَهُمْ ثَارَاتٌ وَغَارَاتٌ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ اسْتَجَابُوا لِلهِ وَلِرَسُولِهِ، تَوَحَّدُوا، وَصَارُوا قُوَّةً هَائِلَةً فِي الْأَرْضِ، سَادَتِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ قَبْلَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ أُمُورُهُمْ بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَانُوا مَطْمَعًا لِشُعُوبِ الْأَرْضِ، كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَرَبِ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَكُلُّ دَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الْكُفْرِ كَانَ لَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَصِيبٌ.

فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، فَصَارَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)).

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَءُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

 ((الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ؛ فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ -ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا-، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ: قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ!!

إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

 ((مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَأَرْكَانُهُ وَدَعَائِمُهُ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ قَائِمٌ عَلَى خَمْسِ دَعَائِمَ، لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِهَا، وَالْإِسْلَامُ كَالْبِنَاءِ، وَأَرْكَانُهُ كَدَعَائِمِ الْبِنَاءِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِوُجُودِ هَذِهِ الدَّعَائِمِ، وَإِنِ اخْتَلَّتْ هَذِهِ الدَّعَائِمُ أَوْ بَعْضُهَا اخْتَلَّ الْبِنَاءُ كُلُّهُ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَّتْ جَمِيعُ الدَّعَائِمِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ يَسْقُطُ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِسْلَامِ إِذَا أُقِيمَتْ دَعَائِمُهُ جَمِيعًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَكْمُلُ، وَإِنِ اخْتَلَّ بَعْضُهَا اخْتَلَّ الْإِسْلَامُ بِاخْتِلَالِهَا، وَإِنِ اخْتَلَّتْ جَمِيعًا انْتَفَى الْإِسْلَامُ.

هَذَا وَقَدْ بُنِيَ الْإِسْلَامُ فَادْرِ عَلَى ... خَمْسِ دَعَائِمَ فَاحْفَظْ إِنَّهَا الْعُمُدُ

هِيَ الشَّهَادَةُ فَاعْلَمْ وَالصَّلَاةُ مَعَ الزْ ...زَكَاةِ وَالصَّوْمِ ثُمَّ الْحَجِّ فَاعْتَمِدُوا

وَذِرْوَةُ الدِّيْنِ أَعْلَاهَا الْجِهَادُ حِمًى ... لِحَقِّهِ وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ‎ِ مُضْطَهَدُ

وَالدَّعَائِمُ: مُفْرَدُهَا دِعَامَةٌ، وَهِيَ: عِمَادُ الْبَيْتِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ.

وَالْعُمُدُ: جَمْعُ عَمُودٍ، وَعَمُودُ الْأَمْرِ: قَوَامُهُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِهِ.

وَالْإِسْلَامُ -فِي اللُّغَةِ-: الِانْقِيَادُ وَالْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ.

وَفِي الشَّرْعِ: الِاسْتِسْلَامُ لِلهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ الشِّرْكِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» .

وَدَعَائِمُ الْإِسْلَامِ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قَوْلِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ.

فَالْقَوْلِيَّةُ: الشَّهَادَتَانِ، وَالْعَمَلِيَّةُ: الْبَاقِي.

وَالْعَمَلِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

  • 1-بَدَنِيَّةٍ: وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ.
  • 2-وَمَالِيَّةٍ: وَهِيَ الزَّكَاةُ.
  • 3-وَبَدَنِيَّةٍ مَالِيَّةٍ: وَهِيَ الْحَجُّ.

فَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الشَّهَادَتَانِ، وَهُمَا: ((شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

وَالشَّهَادَةُ: هِيَ الِاعْتِرَافُ بِاللِّسَانِ، وَالِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَوَارِحِ؛ لِهَذَا لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، كَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} [المنافقون: 1]، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ هَذَا الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ خَالٍ مِنَ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ، وَخَالٍ مِنَ التَّصْدِيقِ بِالْعَمَلِ فَلَمْ يَنْفَعْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِعَقِيدَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَاعْتِرَافٍ بِاللِّسَانِ، وَتَصْدِيقٍ بِالْعَمَلِ.

وَكَلِمَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» فِيهَا نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.

نَفْيُ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتُ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا  اللهُ، فَنَحْنُ نُحَقِّقُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَعَ الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا أَوِ اعْتِقَادًا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

وَنُحَقِّقُ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ بِأَنْ نَعْتَقِدَ بِقُلُوبِنَا، وَنَعْتَرِفَ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنُطَبِّقَ ذَلِكَ فِي مُتَابَعَتِهِ ﷺ بِجَوَارِحِنَا،  وَالْعَمَلِ بِهَدْيِهِ ﷺ.

فَالدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَبِالْخُرُوجِ مِنْهُمَا لَا يَمْكِنُ أَنْ يَبْقَى لِلْمَرْءِ إِسْلَامٌ.

فَالْخُرُوجُ مِنَ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُنَاقَضَتِهِمَا؛ إِمَّا بِجُحُودِ مَا دَلَّتَا عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِاسْتِكْبَارٍ عَمَّا اسْتَلْزَمَتَاهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَدْعُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُمَا، وَلَمْ يَقْبَلِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ﷺ شَيْئًا دُونَهُمَا.

وَبِالشَّهَادَةِ الْأُولَى يُعْرَفُ الْمَعْبُودُ وَمَا يَجِبُ لَهُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، وَبِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» يُعْرَفُ كَيْفَ يُعْبَدُ، وَبِأَيِّ طَرِيقَةٍ يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ.

وَهِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ؛ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي هِيَ «سُورَةُ النِّعَمِ»، فَقَدَّمَهَا أَوَّلًا قَبْلَ كُلِّ نِعْمَةٍ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].

وَهِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَبَقِيَّةُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَفَرَائِضِهِ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهَا، وَمُكَمِّلَاتٌ لَهَا، وَمُقَيَّدَةٌ بِالْتِزَامِ مَعْنَاهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَلِأَجْلِهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

شَهَادَةُ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)): أَوَّلُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَمَدْخَلُ الدِّينِ.

شَهَادَةُ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): هِيَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ -وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ أَحْيَانًا-، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعًا.

وَلِشَهَادَةِ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، تَكْشِفُ عَنْ مَعْنَاهَا، وَتُعَبِّرُ عَنْ حَقِيقَتِهَا؛ مِنْهَا: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ.

وَمِنْهَا: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ.

وَمِنْهَا: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ.

وَمِنْهَا: شَهَادَةُ الْحَقِّ.

مَنْ حَقَّقَ شَهَادَةَ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَجَاءَ بِمُقْتَضَيَاتِهَا وَحُقُوقِهَا، وَاجْتَنَبَ مَا يَنْقُضُهَا كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ، وَالِاهتِدَاءُ التَّامُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وَأَمَّا مَعْنَى «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ » فَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ الْمُوَاطِئُ لِقَوْلِ اللِّسَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45-46]

فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، وَأَخْبَارِ مَا سَيَأْتِي، وَفِيمَا أَحَلَّ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَّمَ مِنْ حَرَامٍ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ، وَالْتِزَامِ سُنَّتِهِ مَعَ الرِّضَا بِمَا قَالَهُ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.

فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)): طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.

*وَالصَّلَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ آكَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الرُّسُلِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّرَائِعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَتِهَا، وَتَأَكَّدَ وُجُوبُهَا وَمَكَانَتُهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.

*وَلِلصَّلَاةِ كَثِيرٌ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا سَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ في الشِّتَاءِ وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ, فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ)).

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. 

قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَتَهَافَتُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَهَافَتُ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. 

*وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

*وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ بِالصَّلَاةِ مِنْ إِنَابَةٍ إِلَى اللهِ، وَحُضُورٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَاسْتِنَارَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَصَلَاحٍ فِي الْأَحْوَالِ، فَلَا يَزَالُ طَعْمُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا هَمَّ بِمُنْكَرٍ أَوْ فَحْشَاءَ تَذَكَّرَ تِلْكَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَابْتَعَدَ عَنْ ذَلِكَ.

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا عَوْنٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))؛ أَيْ أَهَمَّهُ أَمْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

*وَالزَّكاةُ هِيَ أَهَمُّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهَا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ مَنْ جَحَدَ الزَّكَاةَ، وَأَجْمَعُوا -أَيْضًا- عَلَى قِتَالِ مَنْ مَنَعَ إِخْرَاجَهَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110].

وَقَالَ ﷺ: ((الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ, وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

وَفَوَائِدُ الزَّكَاةِ الَّتِي تَبْدُو لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ النَّظَرِ، كَثِيرَةٌ جِدًّا كَمَا بَيَّنَهَا عُلَمَاؤُنَا:

((فَأُولَى فَوَائِدِهَا: إِتْمَامُ إِسْلَامِ الْعَبْدِ وَإِكْمَالُهُ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا الْإِنْسَانُ تَمَّ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ الْمُزَكِّي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، وَالْمَحْبُوبُ لَا يُبْذَلُ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَحْبُوبٍ مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ، بَلِ ابْتِغَاءَ مَحْبُوبٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ طَلَبِ صَاحِبِهَا لِرِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الثَّالِثَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا تُزَكِّي أَخْلَاقَ الْمُزَكِّي، فَتَنْتَشِلُهُ مِنْ زُمْرَةِ الْبُخَلَاءِ الْأَشِحَّاءِ، وَتُدْخِلُهُ فِي زُمْرَةِ الْبَاذِلِينَ الْكُرَمَاءِ.

الرَّابِعَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا تَشْرَحُ الصَّدْرَ؛ فَالْإِنْسَانُ إِذَا بَذَلَ الشَّيْءَ لِا سِيَّمَا الْمَالُ، يَجِدُ فِي نَفْسِهِ انْشِرَاحًا.

وَمِنْ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعَرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ)).

الزَّكَاةُ -عِبَادَ اللهِ- ((مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالتَّرَاحُمِ، وَالتَّعَاطُفِ، وَالتَّعَاوُنِ، وَقَطْعِ دَابِرِ كُلِّ شَرٍّ يُهَدِّدُ الْفَضِيلَةَ وَالْأَمْنَ وَالرَّخَاءَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْبَقَاءِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُزَكِّي وَالْمُزَكَّى عَلَيْهِ، وَلِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.

((هَذِهِ الْفَرِيضَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تُعْلِمُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ  الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، الَّذِي يَكْفُلُ لِلْفَقِيرِ الْعَاجِزِ الْعَيْشَ الْكَرِيمَ  وَالْقُوتَ الْحَلَالَ، وَتَجْعَلُ لِلْغَنِيِّ الْقَادِرِ مَزِيَّةَ التَّمَلُّكِ مُقَابِلَ سَعْيِهِ وَبَذْلِهِ وَمَجْهُودِهِ.

وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي بِهِ عِمَارَةُ الْأَرْضِ، وَصَلَاحُ الدِّينِ  وَالدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنْكِرُ الشُيُوعِيَّةَ المُتَطَرِّفَةَ، وَالِاشْتِرَاكِيَّةَ الْمُجْحِفَةَ، وَالرَأْسَمَالِيَّةَ الشَّحِيحَةَ الْمُمْسِكَةَ)).

وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الْمِلَلِ وَبَيْنَ الْأَدْيَانِ، وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْأَيَّامُ وَأَظْهَرَتِ الْوَقَائِعُ مَخَازِيَ هَذِهِ النُّظُمِ الْأَرْضِيَّةِ، وَقَدْ انْهَارَ مِنْهَا مَا انْهَارَ، وَيَنْهَارُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا مَا سَوْفَ يَنْهَارُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُقَوِّمَاتُ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ، بِخِلَافِ نِظَامِ الزَّكَاةِ وَنِظَامِ الصَّدَقَةِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُعَمِّرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الدِّيَارَ، وَيُذْهِبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الْأَحْقَادَ مِنَ النُّفُوسِ، وَيَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ وَحْدَةً وَاحِدَةً.

فَالْحَمْدُ لِلهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَالصِّيَامُ هُوَ الرُّكْنُ الرَّابِعُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ اللهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ، مِنْ ذَلِكَ: *بُلُوغُ التَّقْوَى؛ فَتَحْصِيلُ التَّقْوَى الْغَايَةُ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ.

*وَالْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: كَقَوْلِ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّائِمَ يُدَرِّبُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، فَيَتْرُكُ مَا تَهْوَى نَفْسُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

*وَالنَّاسُ إِذَا صَامُوا الشَّهْرَ؛ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا كَأُمَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ يَأْكُلُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصُومُونَ مُمْسِكِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

*وَيَشْعُرُ الْغَنِيُّ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيَعْطِفُ عَلَى الْفَقِيرِ.

*وَفِي الصِّيَامِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ؛ مِنْ ذَلِكَ:

*أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: ((كُلُّ عَمَلِ آبْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ نِيَّةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.

*وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّوْمِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، فَفِي رَمَضَانَ صَبْرٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ الصَّبْرِ يَأْتِي الْأَجْرُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

*وَالْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ -تَعَالَى-، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ل عمران: 97].

وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) -: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).

* وَلِلْحَجِّ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ:

1- أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي:

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ.

قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.

قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟))

قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.

قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟))

قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.

قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ أَيْضًا: أَنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ: أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَفْضْلُهَا:

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟

قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

4- وَمِنْ فَوَاضِلِ الْحَجِّ وَفَضَائِلِهِ: الْفَوْزُ بِأَعْلَى الْمَطَالِبِ؛ وَهِيَ الْجَنَّةُ:

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِلْحَجِّ أَهْدَافُهُ الْعَظِيمَةُ؛ فَمِنْهَا:

1- الْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.

2- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّ فِيهِ ارْتِبَاطًا بِرُوحِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الدِّيَارَ الْمُقَدَّسَةَ هِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَكُلَّمَا ارْتْبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَلَّغُوا شَرْعَهُ.

3- وَفِي الْحَجِّ إِعْلَانٌ عَمَلِيٌّ لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

4- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقِيدَةِ الْقَوِيمَةِ السَّمْحَةِ))

إِنَّ الْعَقِيدَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ هِيَ الْفِطْرَةُ بِعَيْنِهَا؛ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ هُوَ الْفِطْرَةَ، وَلِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) .

وَلَمْ يَقُلْ مُحَمَّدٌ ﷺ: أَوْ يُمَسْلِمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ، يَعْنِي عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ فَالْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، لَا بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ بِعَيْنِهَا، يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَبَوَيْهِ لِكَيْ يَدُلَّاهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ يُولَدُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ فِطْرَةً مَفْطُورًا عَلَيْهَا بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ، مِنَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، فَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَبَوَاهُ يَحْمِلَانِهِ عَلَيْهَا حَمْلًا، وَيَسْقِيَانِهِ إِيَّاهَا سَقْيًا.

وَأَمَّا دِينُ الْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِطْرَةً مَفْطُورًا عَلَيْهَا خَلْقُ اللهِ أَجْمَعِينَ، فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْفِطْرَةُ كَمَا تَرَى.

ثُمَّ إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ عَقِيدَتُهُ سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ يَسِيرَةٌ، لَيْسَ فِيهَا مِنْ مُعَمَّيَاتٍ وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ أَلْغَازٍ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ أَحَاجيٍّ.

كَانَ الرَّجُلُ الْأَعْرَابِيُّ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ إِنَّمَا تَرَبَّى عَلَى الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَبُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى عَقِبَيْهِ، لَا مَعَارِفَ، وَلَا عِلْمَ، وَلَا مَعْرِفَةَ، وَلَا خِبْرَةَ بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِكْرِ وَأَصْلِ النَّظَرِ.

فَيَأْتِي لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ فِيمَا لَا يَزِيدُ عَلَى الدَّقَائِقِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ حَتَّى يُسْلِمَ الْأَمْرَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَتَّى يَفْهَمَ الْإِنْسَانُ عَلَى وَجْهِهِ دِينًا مُخْتَلِطًا بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُزِيلَ غَبَشٌ كَانَ قَدْ رَيَّمَ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ بَيَانُ النَّبِيِّ ﷺ مُوَافِقًا لِلْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا؛ امْتَزَجَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْ دِينٍ هُوَ الْفِطْرَةُ مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ الْأَعْرَابِيَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرِ بُرْهَانٍ، وَلَا إِلَى طَوِيلِ مُحَاجَّةٍ، وَلَا إِلَى عَظِيمِ مُجَادَلَةٍ.

وَإِنَّمَا يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ سَهْلًا سَمْحًا بَسِيطًا لَيِّنًا، تَأْبَاهُ الْفِطْرَةُ غَيْرُ الْمُسْتَقِيمَةُ.

وَإِنَّمَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لَقَدْ حَرَّرَ اللهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ الْعُقُولَ، وَأَطْلَقَ الْقُلُوبَ مِنْ أَسْرِهَا حَتَّى عَادَتْ إِلَى رَبِّهَا؛ لِتَعُودَ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا.

فِي ((الصَّحِيحِ))  عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جلوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.

فَقَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

قَالَ: صَدَقْتَ.

قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ، يَسْأَلُهُ ثم يُصَدِّقُهُ.

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ.

قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).

قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ.

فقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ.

قَالَ: ((مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)).

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا.

قَالَ: ((أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).

قَالَ: ثُمَّ مَضَى، فَلَبِثْنا مَلِيًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَعْلَمُونَ مَنْ كَانَ يُكَلِّمُنَا؟)).

فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَقَالَ: ((ذَلِكُمْ جِبْرِيلُ، جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)).

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ جَمَعَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ -بِالْإِجَابَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي سَأَلَهُ إِيَّاهَا جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْرَ الْإِسْلَامِ كُلَّهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ؛ جَاءَ رَجُلٌ, وَصَفَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ: شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ!

وَهَذَا عَجِيبٌ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَمَا دَامَ غَرِيبًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فِي الْمَكَانِ وَلَا لِلنَّاسِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَادِمٌ لِتَوِّهِ مِنَ السَّفَرِ، وَإِذَا كَانَ قَادِمًا مِنَ السَّفَرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَهَيْئَةِ الْمُسَافِرِ دَائِمًا- لَا يَكُونُ شَدِيدَ بَيَاضِ الثِّيَابِ وَلَا شَدِيدَ سَوَادِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَتَشَعَّثُ شَعْرُهُ، وَيَتَّسِخُ ثَوْبُهُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ.

قَالَ: وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيِ النَّبِيِّ ﷺ, وَالْأَصْلُ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْ نَفْسِهِ، فَهَذِهِ هَيْئَةُ طَالِبِ الْعِلْمِ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِهِ.

جَلَسَ مُتَأَدِّبًا خَاشِعًا يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ ﷺ وَيُعَلِّمُ الْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ شَرَعَ فِي السُّؤَالِ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)), فَهَذِهِ أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ, وَأَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ كَمَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

قَالَ: صَدَقْتَ.

قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ؛ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِمَا يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا بِمَا يَسْأَلُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُ -حِينَئِذٍ- الْمُجِيبَ إِذَا أَجَابَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَدِّقَ وَلَا أَنْ يُكَذِّبَ، وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ مَا أَتَاهُ مِمَّنْ سَأَلَهُ مِنَ الْإِجَابَةِ عَنْ سُؤَالِهِ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ كَلَامَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَرِيبُ وَيَشُكُّ فِي كَلَامِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَجَابَهُ قَالَ لَهُ: صَدَقْتَ.

قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ؛ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ!

ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ.

فَقَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).

هَذِهِ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَرْكَانٍ، فَأَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ، وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ سِتَّةٌ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَإِذَا نَظَرْتَ فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَفِي أَرْكَانِ الْإِيمَانِ؛ وَجَدْتَ أَنَّ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ ظَاهِرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ ظَاهِرًا.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).  

وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ السِّتَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَلْبِ.. مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَاطِنِ.

الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِذَا ذُكِرَ الْإِسْلَامُ وَذُكِرَ مَعَهُ الْإِيمَانُ؛ صَارَ الْإِسْلَامُ لِلْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَصَارَ الْإِيمَانُ لِلْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا إِذَا ذُكِرَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ الْإِيمَانُ مَعَهُ؛ دَخَلَ الْإِيمَانُ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَ الْإِيمَانُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ الْإِسْلَامُ مَعَهُ؛ دَخَلَ الْإِسْلَامُ مَعَ الْإِيمَانِ.

فَهَذَانِ اللَّفْظَانِ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، إِذَا اجْتَمَعَا مَعًا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَعْنًى يَخُصُّهُ وَيَخْتَصُّ بِهِ، فَإِذَا قُلْتَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ صَارَ الْإِسْلَامُ لِلْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَصَارَ الْإِيمَانُ لِلْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ، وَإِذَا مَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا؛ إِذَا ذَكَرْتَ الْإِسْلَامَ وَحْدَهُ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِيهِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ دَخَلَ الْإِسْلَامُ فِيهِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةَ، وَبَدَأَ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ ((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّكَ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ إِقْرَارًا جَازِمًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ تَعْتَرِيهِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ جَمِيعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ أَصْنَافِ الْخَلْقِ.

((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مَعْنَاهَا: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، فَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعِبَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى عَابِدِهِ، فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

الْمَعْبُودَاتُ كَثِيرَةٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ أَيْ: لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا اللهُ، الْآلِهَةُ الْمَوْجُودَةُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى فِي عَصْرِنَا هَذَا، فِي الْهِنْدِ يَعْبُدُونَ الْأَبْقَارَ، فِي أَفْرِيقِيَّةَ يَعْبُدُونَ الْأَشْجَارَ وَالْأَحْجَارَ، وَهُنَالِكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ، وَهُنَالِكَ مَنْ يَعْبُدُ الْبَشَرَ كَعِيسَى وَالْعُزَيْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ؛ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْإِنْسِ، بَلْ وَمِنَ الْجِنِّ!! يَعْبُدُونَ الْجِنَّ مِنْ دُونِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ يَذْبَحُونَ لَهُمْ، وَيُقَرِّبُونَ لَهُمُ الْقَرَابِينَ، وَيَخَافُونَ مِنْهُمْ خَوْفًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا يَحْدُثُ كَثِيرًا إِذَا اشْتَرَى الْمَرْءُ بَيْتًا وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ الْجِنَّ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَعْتَادُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي وَقْتِ شِرَاءِ الْبَيْتِ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً لِلْجِنِّ، الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَوَّلَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ: ((الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ))، الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا الْكَافِرُ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَالْكَافِرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ دِينَ الْإِسْلَامِ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ لَهَا نَوَاقِضُ، إِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِنَاقِضٍ مِنْ نَوَاقِضِهَا خَرَجَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْ أَجْلِهَا أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ.

وَمِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَنْزَلَ اللهُ الْكُتُبَ، مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يُقِيمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ، وَيَحْشُرُ الْخَلْقَ، وَيَنْصِبُ الْمَوَازِينَ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ.

مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.

فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ هِيَ سِرُّ السَّعَادَةِ، وَمَنْ حَقَّقَهَا تَحْقِيقًا صَحِيحًا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَدَنَهُ عَلَى النَّارِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَصَادَمَهَا فِي أَصْلِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَإِذَا أَتَى بِمَا يُنَاقِضُ كَمَالَهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ بِحَسَبِ مَا أَتَى بِهِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذَا الْأَصْلَ الْعَظِيمَ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ بِهَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: ((أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَمَا دَامَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا -مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ- لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

((وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ))؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَعْتَرِفَ بِصِدْقِهِ بِمَا أَتَى بِهِ، وَأَنْ تَتَّبِعَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنْ تَنْزَجِرَ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وَأَلَّا تَعْبُدَ اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَ، فَهَذَا مَعْنَى أَنْ تَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَكُلُّنَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ لَا تَنْفَصِلُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى؛ يَعْنِي لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَالَ إِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا نَقَضَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)) فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، حَتَّى يَجْمَعَ الشَّهَادَتَيْنِ.

فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إِلَّا إِذَا حَقَّقَ شَهَادَةَ التَّوْحِيدِ، وَجَرَّدَ الْعِبَادَةَ لِلهِ الْعَزِيزِ الْمَجِيدِ، وَحَقَّقَ -أَيْضًا- شَهَادَةَ أَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ))، فَحَقَّقَ الِاتِّبَاعَ لِلْمَعْصُومِ ﷺ.

((أَنْ تَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ عَبَّرَ بِمَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ بِهِ؛ فَقَالَ: ((وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ))، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ شَيْءٌ فَوْقَ الْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ، فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَرْكَعُونَ مَعًا، وَيَسْجُدُونَ مَعًا، وَيَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ، وَيَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ مَعًا، بَعْدَ أَنْ دَخَلُوهَا مَعًا، وَبَيْنَ صَلَاةِ أَحَدِهِمْ وَالْآخَرِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرَجُلٌ جَمَعَ قَلْبَهُ عَلَى رَبِّهِ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَاشِعًا بِكُلِّيَّتِهِ، مُقْبِلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَآخَرُ يَهِيمُ قَلْبُهُ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ، وَلَا يَدْرِي مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ))، وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ، فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوَاشِيهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعُرُوضِ تِجَارَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّكَوَاتِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ دَائِمًا أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الدِّينِ, وَأَنْ يَعْرِفَ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

وَأَمَّا الْإِيمَانُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَدَأَ أَرْكَانَهُ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِيمَانُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ:

*أَنْ تُؤْمِنَ بِوُجُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

*وَأَنْ تُؤْمِنَ بِرُبُوبِيَّتِهِ.

*وَأَنْ تُؤْمِنَ بِأُلُوهِيَّتِهِ.

*وَأَنْ تُؤْمِنَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

وَأَمَّا وُجُودُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَقِيقَةً مَغْرُوزَةً فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِ، فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ فِي ضَمِيرِهِ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَوْجُودٌ، صَحِيحٌ أَنَّهُ أَحْيَانًا يَخْرُجُ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدِ انْتَشَرَ فِيهِ الْإِلْحَادُ، أَقْوَامٌ -وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الشَّبَابِ الضَّالِّ الَّذِى لَا انْتِمَاءَ عِنْدَهُ- يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَدَّعُونَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الْخَالِقَةُ، وَأَنَّ الْكَوْنَ وُجِدَ بِالْمُصَادَفَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ))؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِوُجُودِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ تُؤْمِنَ بِرُبُوبِيَّتِهِ؛ بِمَعْنَى انْفِرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْخَلْقِ، وَانْفِرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالرِّزْقِ، وَانْفِرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّدْبِيرِ، وَانْفِرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَلَا يُشَارِكُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذَلِكَ أَحَدٌ.

وَهَذَا الْأَمْرُ -أَعْنِي تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ- كَانَ مَوْجُودًا حَتَّى عِنْدَ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّ أَبَا جَهْلٍ لَمْ يَدَّعِ أَنَّ هُبَلَ وَلَا أَنَّ اللَّاتَ وَلَا أَنَّ مَنَاةَ خَلَقُوا شَيْئًا مِنْ دُونِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَ خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، بَلْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّهُمْ خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38].

فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَكِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، قَاتَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَدُورَهُمْ؛ لِمَاذَا؟

لِمَاذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ؟

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَاهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ لِأَحَدٍ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لَهُ؛ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ يُحِبُّونَ اللهَ، وَيُحِبُّونَ مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَالْحُبُّ مَعَ اللهِ شِرْكٌ بِاللهِ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَأَنْ تُحِبَّ لِلهِ، لَا أَنْ تُحِبَّ مَعَ اللهِ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُحِبُّونَ مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانُوا يُحِبُّونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بَعْضَ الْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحُجُّونَ.. الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ كَانُوا يَحُجُّونَ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) ، يُلَبُّونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَهُمْ يَقُولُونَ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ!!)).

فَهَؤُلَاءِ يُلَبُّونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيَجْعَلُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ، لِمَاذَا جَعَلُوا مَعَ اللهِ شُرَكَاءَ؟

الْمُشْرِكُونَ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ لَمْ يَخْلُقُوا شَيْئًا، وَهُمْ لَا يَرْزُقُونَ أَحَدًا، وَلَا يُدَبِّرُونَ أَمْرًا، وَلَا يُحْيُونَ وَلَا يُمِيتُونَ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَيْنَ كَانَ شِرْكُهُمْ إِذَنْ؟!!

كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تُحْيِى أَوْ تُمِيتُ, وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَخْلُقُ أَوْ تَرْزُقُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ، فَهَذَا شِرْكُهُمْ، يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَقُولُونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ  زُلْفَىٰ} [الزمر: 3].

يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ، هَذِهِ الصُّوَرُ، هَذِهِ الْأَحْجَارُ، هَذِهِ الْأَشْجَارُ إِنَّمَا هِيَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى صُوَرِ ذَوَاتِ الْعُقُولِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ لِأَقْوَامٍ صَالِحِينَ، وَنَحْنُ نَتَقَرَّبُ بِصَلَاحِهِمْ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَذَا هُوَ شِرْكُهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا جَيِّدًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْمُسْلِمُ فِي مِثْلِ هَذَا الشِّرْكِ مِنْ حَيْثَ لَا يَعْلَمُ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ مِنَ الصَّالِحينَ، أَنَا لَا أَعْبُدُهُ، أَعْلَمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْزُقُ، وَأَنَّهُ لَا يُحْيِى، وَأَنَّهُ لَا يُمِيتُ، وَلَكِنْ هُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا ذَهَبْتُ إِلَى قَبْرِهِ فَهُوَ يُوَصِّلُنِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!

هَذَا مَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، كَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مَخْلُوقَةٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، هِيَ مَخْلُوقَةٌ غَيْرُ خَالِقَةٍ، وَأَنَّهَا لَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، وَأَنَّهَا لَا تَرْزُقُ وَلَا تُدَبِّرُ أَمْرًا، بَلْ إِنَّهَا مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ خَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ وَالْمَعْبُودَاتِ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ التَّوْحِيدَ مَعْرِفَةً دَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِى وَقَعَتْ فِيهِ الْخُصُومَةُ.

الْخُصُومَةُ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ كَانَتْ فِي أَيِّ شَيْءٍ؟

هَلْ دَعَاهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ وَأَنْكَرُوا؟

هَلْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ لَمْ يَخْلُقْهُ إِلَهٌ، خُلِقَ بِالصُّدْفَةِ؟!!

هَلْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا خَالِقَ لِلْوُجُودِ، وَلَا خَالِقَ لِلْكَوْنِ؟

لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، بَلْ قَالُوا عَكْسَهُ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ مَخْلُوقٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].

فَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلهِ، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ مَخْلُوقَةٌ لِلهِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَأَيْنَ هُوَ مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ إِذَنْ؟!!

لِمَاذَا قَاتَلَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ؟

لِمَاذَا اسْتَبَاحَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَرْضَهُمْ؟

لِمَاذَا وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِى خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ أَصْنَامَهُمْ؟

لِأَنَّهُمْ يَصْرِفُونَ الْعِبَادَةَ لِلهِ وَلِغَيْرِ اللهِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ عِبَادَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فَكَانُوا يُقَدِّمُونَ الْقَرَابِينَ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهَا شُفَعَاءُ وَوَسَائِطُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّ أَنَّ مَوْطِنَ الْخُصُومَةِ مَعَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ إِنَّمَا كَانَ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ، أَوْ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَوْ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، هَذَا كُلُّهُ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْطِنُ النِّزَاعِ وَالْخُصُومَةِ فِي أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ -كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ طَائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ- وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، خَلَقْتَهُ وَمَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ))؛ فَهَذَا مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْدِيدِ هَذَا الْمَوْطِنِ وَتَحْرِيرِهِ تَحْدِيدًا وَتَحْرِيرًا تَامَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ؛ يَذْبَحُ لِغَيْرِ اللهِ، يَتَوَسَّلُ بِغَيْرِ اللهِ، يَعْتَقِدُ فِي غَيْرِ اللهِ، كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ، يَعْتَقِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَمْسُوسِينَ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَمْرُورِينَ، بَلْ يُثْبِتُ لَهُ تَصَرُّفًا، فَيَكُونُ فِي اللَّيْلِ عَاكِفًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَطَّلِعُ عَلَيْهِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ نَاصِيَتَهُ فِي يَدِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْشَى اللهَ، فَإِذَا مَا أَصْبَحَ وَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ مَمْرُورٍ قَدِ انْدَلَقَ وَانْدَفَقَ مُخَاطُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، يَجْلِسُ فِي زَاوِيَةٍ بِشَارِعٍ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ خَافَهُ خَوْفَ السِّرِّ، يَقُولُ إِنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي نَفْسِي، هُوَ سَيَعْلَمُ مَا فَعَلْتُ بِالْأَمْسِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَيَخَافُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ!!

وَبَعْضُهُمْ يُخَالِفُ الطَّرِيقَ، يَقُولُ: لِأَنَّنِي لَوْ مَرَرْتُ بِهِ لَاطَّلَعَ عَلَيَّ، وَلَكَشَفَ سِتْرِي، وَلَفَضَحَ أَمْرِي، وَحِينَئِذٍ يَبْعُدُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُهُ خَوْفَ السِّرِّ، وَلَا يَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِى نَاصِيَتُهُ بِيَدِهِ، هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ لِأَحَدٍ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِأَمْرٍ مِنَ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنِ الْكُفْرُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ، وَيَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَيَكُونُ بِالْفِعْلِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، هُوَ أَهَمُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((أَيْ: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي)) ؛ بِصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخُصُومَةُ، لَا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا فِي إِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا مَعْرِفَةً دَقِيقَةً، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْعِبَادَةُ: كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ)).

إِذَنْ؛ وَضْعُكَ اللُّقْمَةَ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ عِبَادَةٌ، قَالَ: لَكَ بِهَا صَدَقَةٌ.

إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ، لَكَ بِهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ.

تَنْحِيَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ابْتِسَامُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْبَاطِنَةِ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ؛ مِنَ الْخَوْفِ، مِنَ الْمَحَبَّةِ، مِنَ الرَّجَاءِ، مِنَ الْخَشْيَةِ، مِنَ الْإِنَابَةِ، مِنَ الْخُشُوعِ، مِنَ الْإِخْبَاتِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَالِصًا لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُحِبُّ اللهَ وَيُحِبُّ مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يُنَازِعْنَا فِي الْحِبِّيَّةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّصَّ مُنَازِعًا فِي الْأَحَبِّيَّةِ، {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}.. وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ، {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [التوبة: 24] لَمْ يَقُلْ: مَحْبُوبَةً إِلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: {أَحَبَّ إِلَيْكُم}.

إِذَنْ؛ لَمْ يُنَازِعْنَا الْقُرْآنُ فِي أَصْلِ الْحِبِّيَّةِ، لَا بُدَّ أَنْ تُحِبَّ أَبَاكَ؛ هَذِهِ فِطْرَةٌ، وَأَنْ تُحِبَّ وَلَدَكَ، وَأَنْ تُحِبَّ امْرَأَتَكَ، وَأَنْ تُحِبَّ عَشِيرَتَكَ، وَأَنْ تُحِبَّ أَرْضَكَ، وَأَنْ تُحِبَّ تِجَارَتَكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ الْمَذْكُورَةِ، هَذِهِ سَلَّمَ لَنَا فِيهَا الْقُرْآنُ فِي أَصْلِ الْمَحَبَّةِ، فَلْتُحِبَّ هَذَا مَا شِئْتَ، وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تُقَدِّمَ مَحَبَّةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}.

إِذَنْ؛ يَنْبَغِي أَنْ تُقَدَّمَ مَحَبَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ مَحَبَّةٍ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ، تُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ مَحَبَّةٍ بَعْدَ مَحَبَّةِ اللهِ, وَمَحَبَّتُهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَكْفِي أَنْ تُحِبَّ النَّبِيَّ ﷺ بِاللِّسَانِ نُطْقًا وَدَعْوَى، فَتَقُولُ: أَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُثْبِتَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، فَإِنْ لَمْ تُثْبِتْ؛ فَهِيَ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ نَازَعَ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ تَافِهٍ مِنْ أُمُورِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ حَتَّى يُقِيمَ الدَّلِيلَ؛ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِعَقْدٍ مُوَثَّقٍ وَعَلَيْهِ شُهُودٌ، وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالشُّهُودِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ أَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، لَا بُدَّ مِنْ عَلَامَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

فَلَا بُدَّ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّسُولِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ النَّبِيِّ فَلَا يُسَلَّمُ لَكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى تُحِبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ وَالِدِكَ وَوَلَدِكَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بَلْ وَأَكْثَرَ مِنْ نَفْسِكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ -فَذَكَرَ الْأُصُولَ-، وَوَلَدِهِ -فَذَكَرَ الْفُرُوعَ-، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ -فَذَكَرَ الْحَوَاشِي-)).

وَكَانَ عُمَرُ سَائِرًا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَيَدُهُ فِي يَدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي.

قَالَ: ((وَلَا هَذِهِ يَا عُمَرُ)).

قَالَ: الْآنَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيِ: الْآنَ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي.

قَالَ: ((الْآنَ يَا عُمَرُ)) .

كَيْفَ يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ وَهُوَ يَأْمُرُكَ فَلَا تُطِيعُهُ، وَهُوَ يَنْهَاكَ فَتَعْصِيهِ، وَهُوَ يَدُلُّكَ عَلَى الْخَيْرِ وَأَنْتَ تَبْتَعِدُ عَنْهُ؟!!

كَيْفَ يَكُونُ؟!!

يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَقْدِيمِ مَحَابِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى مَحَابِّ نَفْسِهِ.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: التَّوْحِيدَ؛ فَلِلتَّوْحِيدِ فَضَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ مِنْهَا:

*التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

التَّوْحِيدُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ الْهُدَى الْكَامِلُ وَالْأَمْنُ التَّامُّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّهُ السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِنَيْلِ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ، وَأَنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ وَأَتَى بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.. مَنْ قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ -كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

فَقَالَ: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ؛ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

لَا يُمْكِنُ لِعَبْدٍ أَنْ يُحِسَّ بِجَلَالِ الْحَيَاةِ وَلَا بِقِيمَةِ الْوُجُودِ إِلَّا إِذَا كَانَ خَالِصًا مُخْلَصًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُخَلِّطًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِسَّ بِجَلَالِ الْحَيَاةِ وَلَا بِقِيمَةِ الْوُجُودِ، وَإِذَا كَانَ قَلْبُهُ عَلَى الشِّرْكِ مُنْطَوِيًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤَمِّلُ الْفَلَاحَ لَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةً، وَلَا يُحِسُّ بِلَذَّةٍ لِهَذَا الْوُجُودِ أَصْلًا، بَلْ يُحِسُّ أَنَّ هَذَا الْوُجُودَ عَبَثٌ ضَائِعٌ وَلَهْوٌ مَائِعٌ، وَأَنَّهُ لَا غَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

وَأَمَّا إِذَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، فَقَدْ عَرَفَ الْغَايَةَ، وَاسْتَقَامَتِ الْأَقْدَامُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَاسْتَبَانَ الْمَنْهَجُ، وَاتَّضَحَتِ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْغَايَةِ، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى عَبْدٍ مُوَحِّدٍ أَبَدًا.

فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مُتَوَقِّفَةٌ فِي قَبُولِهَا وَكَمَالِهَا، وَفِي تَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا، عَلَى التَّوْحِيدِ، كُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلهِ؛ كَمُلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَتَمَّتْ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مُوَحِّدًا، وَكَانَ عَلَى رَبِّهِ مُقْبِلًا، وَكَانَ قَلْبُهُ لِلهِ خَالِصًا وَمُخْلَصًا؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ، فَقَدْ قَرَّبَهُ وَاصْطَفَاهُ.

وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْأُمُورُ عَلَى وَجْهِهَا فِي دُنْيَا اللهِ، فَيُسَلِّيهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَيَلْهَجُ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى رَبِّهِ، كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا  -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَنِ الْمُهْتَدِينَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ ظِاَهرِةً وَبَاطِنَةً، أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا مَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [إبراهيم:35].

وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِرَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَنْ حَكَمَ فِيمَا لَهُ فَمَا ظَلَمَ.

{إِنَّا لِلَّهِ}: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لِلَّهِ}: لِلْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ.

{إِنَّا لِلَّهِ}: مِلْكٌ لِلَّهِ، يَتَصَرَّفُ فِينَا رَبُّنَا كَيْفَمَا يَشَاءُ وَحَسَبَمَا يُرِيدُ، وَلَيْسَ لِلْمَمْلُوكِ إِرَادَةٌ مَعَ الْمَالِكِ الْعَظِيمِ.

وَحِينَئِذٍ يَحْدُثُ التَّسْلِيمُ، كَمَا وَرَدَ: أَنَّ بَعْضَ الصَّالِحَاتِ لَمَّا جُرِحَتْ أُصْبُعُهَا ضَحِكَتْ، فَقِيلَ: هَذَا جُرْحٌ بَلِيغٌ، فَكَيْفَ تَضْحَكِينَ؟

فَقَالَتْ: إِنَّ حَلَاوَةَ أَجْرِهَا قَدْ أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ أَلَمِهَا.

الْمُخْلِصُ لِلهِ فِي إِيمَانِهِ وتَوْحِيدِهِ تَخِفُّ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ ﷺ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَكَانَ يَقُولُ لِبِلَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَرِحْنَا بِهَا -أَيْ: بِالصَّلَاةِ- يَا بِلَالُ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَيَجِدُ فِيهَا رَاحَةَ قَلْبِهِ، وَسُكُونَ نَفْسِهِ، وَارْتِيَاحَ ضَمِيرِهِ ﷺ.

وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا  حَزَبَهُ أَمْرٌ -أَيْ: أَهَمَّهُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ لَيَجِدَ فِي الصَّلَاةِ رَاحَةَ قَلْبِهِ، وَسُكُونَ نَفْسِهِ، وَارْتِيَاحَ ضَمِيرِهِ.

وَهَلْ مِنْ شَيْءٍ يُوصِلُ إِلَى رَاحَةِ الْقَلْبِ، وَاسْتِقْرَارِ الضَّمِيرِ، وَسَلَامَةِ الْبَالِ، وَصِحَّةِ الْحَالِ، أَعْظَمُ مِنَ الِانْطِرَاحِ عَلَى عَتَبَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

تَعُودُ إِلَى اللهِ صَنْعَتُهُ وَقَدْ أَصَابَهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا أَصَابَهَا، وَلَا يَمْلِكُ إِصْلَاحَهَا إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.

فَيَرْجُو الْعَابِدُ ثَوَابَ رَبِّهِ وَرِضْوَانَهُ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ -إِذَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ فَكَانَ مُوَحِّدًا لِلهِ حَقًّا وَصِدْقًا-، يَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْرِمَنَا وَلَا يُهِينَنَا، وَأَنْ يَرْفَعَنَا وَلَا يَخْفِضَنَا، وَنَسْأَلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَلَّا يَضَعَنَا، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّهُ إِذَا كَمُلَ فِي الْقَلْبِ؛ حَبَّبَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ؛ فَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ غَايَةً سِوَى إِرْضَاءِ مَوْلَاهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

الْمُوَحِّدُ لَا يُقَدِّمُ مَحَبَّةَ أَحَدٍ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَوْ كَانَ أَعَزَّ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَأَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ وَثِمَارِهِ ونَتَائِجِهِ: أَنَّهُ يُخَفِّفُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَكَارِهَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ؛ إِنَّمَا هِيَ خَطْفَةُ بَرْقٍ خَافِقَةٌ، حَتَّى يَضْرِبَ الْمَوْتُ ضَرْبَتَهُ، فَيَصِيرَ مَا لِلسَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ وَمَا لِلْأَرْضِ لِلْأَرْضِ، وَيَحْدُثَ اللِّقَاءُ الْمَنْشُودُ.

وَحِينَئِذٍ تَزُولُ جَمِيعُ الْآلَامِ، وَيَضْمَحِلُّ الْهَمُّ وَيَنْتَهِي الْغَمُّ، وَسَاعَتَئِذٍ يُذْبَحُ عَلَى مَذَابِحِ الْقُرْبَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ الْأَجَلِّ الْأَعْلَى كُلُّ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا يَصْرِفُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى جَنَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ الْعَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ يَكُونُ تَلَقِّيهِ لِلْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ، وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.

كَمَا قَالَ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الصَّالِحِينَ -هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَحِمَهُ اللهُ-- وَقَدْ تَمَشَّتِ الْأَكَلَةُ فِي رِجْلِهِ، وَقَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ حَسْمَهَا -أَيْ: قَطْعَهَا-، ثُمَّ وُضِعَتْ بَعْدَ الْبَتْرِ فِي الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَكَاَن فِي الصَّلَاةِ؛ فَأُغْشِيَ عَلَيْهِ.

فَلَمَّا أَفَاقَ نَظَرَ إِلَى مَا تَبَقَّى وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى مَا ذَهَبَ.. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا يُؤْتِيهِ اللهُ مَا يُؤْتِيهِ إِكْرَامًا مِنْهُ وَإِفْضَالًا وَتَفْضُّلًا عَلَيْهِ.

لَمَّا أَفَاقَ عُرْوَةُ -رَحِمَهُ اللهُ- نَظَرَ إِلَى مَا تَبَقَّى وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى مَا فَقَدَ، فَقَالَ -وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ-: ((الْحَمْدُ لِلهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدِ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ)).

فَانْظُرْ إِلَى جَلَالِ التَّوْحِيدِ يَتَأَلَّقُ مُتَوَهِّجًا فِي قَلْبِ هَذَا الْعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، يَنْظُرُ إِلَى فِعْلِ اللهِ بِهِ؛ فَلَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِي الْحِكْمَةِ الْكَامِنَةِ وَالْبَادِيَةِ فِي أَمْرِهِ تَعَالَى؛ فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا عَلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ.

مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّهُ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ الْمَخْلُوقِينَ، يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِمْ، وَمِنْ خَوْفِهِمْ وَرَجَائِهِمْ وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي.

أَلَاَ تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ قَلْبُهُ خَالِصًا لِرَبِّهِ لَمْ يُبَالِ بِأَحَدٍ سِوَى مَوْلَاهُ، وَلَمْ يَخَفْ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِنَّهُ يَخَافُ مِنْ بَعْضِ الْوُلَاةِ؛ فَقَالَ: ((لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ إِلَّا لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، وَلَوْ صَحَّحْتَ لَمْ تَخَفْ أَحَدًا)) .

لَوْ صَحَّحْتَ لَمْ تَخَفْ أَحَدًا، إِنَّمَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، فَالْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي أَلَّا تَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْكَ فَضْلًا، إِنَّمَا الْفَضْلُ لِلهِ، وَأَلَّا تَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْكَ مِنْ يَدٍ، إِنَّمَا الْيَدُ الْعُلْيَا بِالْعَطَاءِ الْكَبِيرِ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْإِكْرَامَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- ذِي الْفَوَاضِلِ وَذِي الْإِعْطَاءِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَى قَلْبِكَ مِنْ سُلْطَانٍ.

وَيَتَحَرَّرُ الْقَلْبُ مِنْ سُلْطَانِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يَصِيرُ فِي رِقِّ الْعَبِيدِ وَلَا فِي رَجَائِهِمْ وَلَا فِي خَوْفِهِمْ، وَلَا فِي تَوَقُّعِ الْأَذَى يَتَأَتَّى مِنْ نَاحِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَعَّالَ لِمَا يُرِيدُ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ.

فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَعَ ذَلِكَ مُتَأَلِّهًا مُتَعَبِّدًا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَرْجُو سِوَاهُ، وَلَا يَخْشَى إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الْفَلَاحُ وَيَتَحَقَّقُ النَّجَاحُ.

إِذَا لَمْ يَتَحَرَّرِ الْقَلْبُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ -تَعَالَى- عَاشَ يَرْسُفُ فِي أَغْلَالِ الْمَذَلَّةِ لِكُلِّ وَضِيعٍ فِي أَرْضِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى إِنَّهُ لَيَصِيرُ عَبْدًا لِلشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ كُلِّ قُيُودِ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ الْعَظِيمِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْطَلِقُ فِي آفَاقِ الْحُرِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَبْدًا ذَلِيلًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، عَزِيزًا بِعُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ.

الْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

فَالْمُؤْمِنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي يُرَدِّدُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ: ((اللهُ أَكْبَرُ)).

((اللهُ أَكْبَرُ)) فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، وَفِي إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ.

وَالْمُشْرِكُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْعِزَّةَ وَلَا يَتَذَوَّقُهَا؛ لِأَنَّهُ بِإِشْرَاكِهِ بِرَبِّهِ -تَعَالَى- يُعَبِّدُ نَفْسَهُ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةٌ ذَلِيلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالشِّرْكُ بِاللهِ -تَعَالَى- مَهَانَةٌ لِكَرَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَحَطٌّ لِقَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَطَرَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ.

وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تَكُونُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَّجِهُ كُلُّهَا وِجْهَةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهَا؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [المنافقون:8].

فَتِلْكَ حَصِيلَةُ التَّوْحِيدِ، تَجْمَعُ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ فِي وِحْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَاتِّجَاهٍ وَاحِدٍ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

شَبَّهَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ، الَّتِي هِيَ مَصْعَدُهُ وَمَهْبَطُهُ، فَمِنْهَا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهَا يَصْعَدُ مِنْهَا، وشَبَّهَ تَارِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ؛ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيقُ الشَّدِيدُ، وَالْآلَامُ الْمُتَرَاكِمَةُ، وَالطَّيْرُ الَّتِي تَخْطَفُ أَعْضَاءَهُ وَتُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

شَبَّهَ ذَلِكَ بِالشَّيَاطِينِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللهُ -تَعَالَى-  تَؤُزُّهُ وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إِلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ، وَالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بِهِ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، وَهَوَاهُ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَانٍ وَأَبْعَدِهِ عَنِ السَّمَاءِ، فَهَذَا مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي أَشْرَكَ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَجَانَبَ التَّوْحِيدَ.

مِنْ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لِأَهْلِهِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَحُصُولِ الْهِدَايَةِ، وَالتَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى، وَإِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّسْدِيدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، فَتَجِدُ الْمُوَحِّدَ مُسَدَّدًا فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ دَنِيَّةٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لَفْظُ سُوءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمِنْهَاجِ يَسْعَى حَثِيثًا إِلَى الْغَايَةِ مُسْتَبْشِرًا بِرِضْوَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ وَفَوَاضِلِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ، يُدَافِعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِذِكْرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً، مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَلَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ، قِيلَ: مَا هِيَ؟

قَالَ: هِيَ جَنَّةُ الْأُنْسِ بِاللهِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَإِلْقَاءِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ عَلَى عَتَبَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ هَذِهِ الْجَنَّةُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فِي الدُّنْيَا، فَلَنْ يَنْعَمْ بِجَنَّةِ الْخُلْدِ فِي الْآخِرَةِ.

إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.

وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ، وَبَرَأَهُ، وَسَوَّاهُ.

يُحَرِّرُ عَقْلَهُ كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ، يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا مِنَ اللهِ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ))

((لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَاقَةَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَاتِّصَالَهُ بِهِ، وَآدَابَهُ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَ أَنْوَاعَ التَّصَرُّفَاتِ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْعُقُودِ الْخَيْرِيَّةِ مِنَ الْأَوْقَافِ، وَالْوَصَايَا، وَالْهَدَايَا.

وَبَيَّنَ أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَالْعَلَاقَاتِ الزَّوْجِيَّةِ؛ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْعِشْرَةِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالْفُرْقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الزَّوَاجِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِدَدِ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا.

ثُمَّ مَا تُحْفَظُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ عُقُوبَةِ الْجِنَايَاتِ؛ كَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَاتِ، وَالْحُدُودِ، ثُمَّ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِي تَنْفِيذِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامِهِ.

نَظَّمَ الْإِسْلَامُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَمَزَارِعِهِمْ، وَأَسْفَارِهِمْ، وَبُيُوتِهِمْ، وَشَوَارِعِهِمْ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي شُئُونِهِمُ الْحَيَاتِيَّةِ إِلَّا أَحْصَاهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَبَيَّنَهُ بِأَعْدَلِ نِظَامٍ، وَأَحْسَنِ تَرْتِيبٍ، وَأَتَمِّ تَفْصِيلٍ.

وَالنَّاسُ يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا قَالُوا مَدَنِيٌّ بِطَبْعِهِ؛ يَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَعِيشُ وَحْدَهُ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ قَانُونٍ رَبَّانِيٍّ فِيهِ الْعَدْلُ وَفِيهِ الْحِكْمَةُ يَسُنُّ لِلنَّاسِ طُرُقَ الْمُعَامَلَاتِ، وَإِلَّا حَلَّتِ الْفَوْضَى، وَانْتَشَرَتِ الرَّذَائِلُ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ، وَأَصْبَحَتْ وَسَائِلُ الْحَيَاةِ وَسَائِلَ لِلدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ.

وَبِسَنِّ هَذِهِ النُّظُمِ وَوَضْعِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِهَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ مِنَ الْحِكَمِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْبَاهِرَةِ، مِمَّا يَدْعُو إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ، وَمَحَبَّةِ الْكَسْبِ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ؛ حِفْظًا لِلنَّفْسِ، وَإِعْمَارًا لِلْكَوْنِ.

فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ الْحَرَكَةِ النَّافِعَةِ، وَالنَّشَاطِ الْمُتَوَثِّبِ، وَالْعَمَلِ الدَّءُوبِ، يَحُثُّ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَيَجْعَلُهُ نَوْعًا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَعُدُّهُ قِسْمًا مِنَ الْعِبَادَاتِ.

الْإِسْلَامُ يَكْرَهُ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ، وَيَكْرَهُ الِاتِّكَالَ عَلَى الْغَيْرِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} [النجم: 39]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

وَالْإِسْلَامُ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي سَنَّ بِهَا الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرَهَا، وَبَيَّنَ آدَابَهَا؛ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، وَوَجَّهَ كُلَّ ذِي طَبْعٍ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِيَعْمُرَ الْكَوْنُ لِلْقِيَامِ بِشَتَّى طُرُقِ الْحَيَاةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ جَوْرٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَلَا اعْتِدَاءٍ وَلَا هَضْمٍ.

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ فَيَرْمِي الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ قَصَّرَ فِي بَيَانِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ نِظَامٍ عَادِلٍ يَكْفِي الْحَيَاةَ الْمَدَنِيَّةَ وَالتَّقَدُّمَ الْحَضَارِيَّ؛ فَيَقُولُونَ: لَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْدَالِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ تَطْعِيمِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ الْوَضْعِيَّةِ!!

يُرِيدُونَ بِذَلِكَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي تَحْيَا عَلَيْهِ الْوُحُوشُ الضَّارِيَةُ مِنْ أَعْدَاءِ الْبَشَرِ الَّذِينَ سَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلُوا الْأَبْرِيَاءَ، وَأَيَّمُوا النِّسَاءَ، وَأَيْتَمُوا الصِّغَارَ، وَآذَوُا الضُّعَفَاءَ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ الْفُقَرَاءِ، وَاسْتَرَقُّوا الشُّعُوبَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَشَرِيعَةِ الْغَابِ.

فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُعَادِي دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَحْيَا عَلَى نُظُمِهِ وَشَرَائِعِهِ النَّاسُ، هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَجْهَلُونَ هَذَا كُلَّهُ، أَوْ يَعْلَمُونَهُ وَيُحَارِبُونَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الدِّينَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.

هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ بِبَعْضِ النُّظُمِ الْجَائِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الظَّالِمَةِ، قَدْ تَكُونُ مُلَائِمَةً لِأَحْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْجُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْحَيَاةَ مَادَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحَيَاةِ تَفْرِيقًا حَاسِمًا، وَجَعَلُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلهِ لِلهِ!!

أَمَّا شَرِيعَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. وَأَمَّا مَا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَإِنَّمَا سَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَنْ خَلَقَ الْبَشَرَ وَمَنْ هُوَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ؛ لِيَكُونَ النِّظَامُ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ، صَالِحًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ مَا ظُلْمٍ وَلَا حَيْفٍ وَلَا جَوْرٍ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؛ فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّقْرِيرُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا

لَا أَحَدَ؛ يَعْنِي لَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا شَرَعَ لِخَلْقِهِ» .

((لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَغْنِي عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَمَّا فِي يَدِهِ، شَرَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التَّوَصُّلَ إِلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ بِطَرِيقَةِ الْبَيْعِ الَّتِي هِيَ الْمُعَاوَضَةُ؛ فَهَذَا النِّظَامُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحَنَايَا الصُّدُورِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا يُصْلِحُهُ.

وَلَمَّا كَانَ الْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبُيُوعِ؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِتِلْكَ الْبُيُوعِ أَحْكَامًا؛ حَتَّى لَا يَصِلَ الضَّرَرُ مِنَ الْفَرْدِ إِلَى الْمُجْتَمَعِ، أَوْ مِنَ الْمُجْتَمَعِ إِلَى الْفَرْدِ.

وَقَرَّرَ الشَّارِعُ ﷺ أَحْكَامَ الْخِيَارِ، وَالسَّلَفِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَبَاحَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنَعَ أَشْيَاءَ لِمَا يَعْلَمُ فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضَرَّةُ وَاقِعَةً عَلَى الْفَرْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى الْمُجْتَمَعِ، أَوْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ مَعًا.

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذُو الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؛ فَمَا شَرَعَ فَفِيهِ ضَمَانُ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَةٍ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275 ]» .

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِلَّ الْبَيْعِ، وَهَذَا -كَمَا تَرَى- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.

((وَدَلَّتِ السُّنَّةُ -أَيْضًا- عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَحِلِّهِ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)) .

وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ -أَيْضًا- يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَلَا يَتَحَصَّلُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَقَدْ أَقَامَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ إِنْسَانٍ فِيمَا يُحْسِنُهُ، وَجَعَلَ لِلْإِنْسَانِ مَلَكَاتٍ، فَكُلٌّ يَأْتِي بِمَا يَسَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ، وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُنْتِجُهُ أَوْ مَا يُحْسِنُهُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُنْتِجُهُ غَيْرُهُ وَإِلَى مَا يُحْسِنُهُ.

فَشَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلْكَ الْعُقُودَ وَالْمُعَامَلَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ مُتَوَصِّلِينَ إِلَى مَا فِي أَيْدِي غَيْرِهِمْ بِطَرِيقَةٍ لَا إِيذَاءَ فِيهَا وَلَا ضَرَرَ، فَتَحْفَظُ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ، وَتَحْفَظُ الْأَفْرَادَ فِي طَلَبِهِمْ لِلسَّعْيِ، وَكَذَلِكَ فِي كَسْبِهِمْ)) .

إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تُنَظِّمُ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَتَنْظِيمُهَا لِلْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَأَكَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَاعْتَدَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَمِنْ مُقْتَضَى عَدْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ تُنَظَّمَ الْمُعَامَلَاتُ بَيْنَ الْخَلْقِ؛ لِئَلَّا تَرْجِعَ إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالْعُدْوَانِ.

((الْإِسْلَامُ دِينُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

فَلَا عَجَبَ -إِذَنْ- أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.

وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.

أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَسْأَلُ الْهِدَايَةَ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا، فَكَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ خُلُقُهُ إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؟!!

وَكُلُّ إِنْسَانٍ -لَا مَحَالَةَ- يَجْهَلُ الْكَثِيرَ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى تَرَكَ فَوَاحِشَ الْمَعَاصِي، فَرُبَّمَا ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَصَفَّى أَخْلَاقَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَاسْتَنَامَ إِلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ!!

وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ كَحَاجَتِهِ إِلَى الْهَوَاءِ، بَلْ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْهَوَاءِ يَعْنِي مَوْتَ الْبَدَنِ، وَفَقْدَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَعْنِي مَوْتَ الْقَلْبِ، وَفِي مَوْتِ الْقَلْبِ فَقْدُ الدِّينِ، وَهَلَاكُ الْأَبَدِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ، قَدْ عَلِمنَا: الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟

قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

وَذَمَّ الْإِسْلَامُ أَصْحَابَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ؛ فَلَمَّا كَانَ خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، كَانَ شَرُّ النَّاسِ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي سُوءِ الْخُلُقِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ -أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كلَّ فَاحِشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَد، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.

وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.

وَقَالَ ﷺ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ».

وَالنَّبِيُّ ﷺ حَذَّرَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَآفَاتُ اللِّسَانِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ وَلَهَا فِي الْقَلْبِ حَلَاوَةٌ، وَلَها بَوَاعِثُ مِنَ الطَّبْعِ، وَلَا نَجَاةَ مِنْ خَطَرِهَا إِلَّا بِالصَّمْتِ.

وَمِنْ آفَاتِ الْكَلَامِ: الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَالْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ، وَالْفُحْشُ وَالسَّبُّ وَالْبَذَاءُ، وَالسُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ، وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ، وَالْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْيَمِينِ.

* وَمِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ: الْغِيبَةُ؛ وَهِيَ: أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ الْغَائِبَ بِمَا يَكْرَهُ إِذَا بَلَغَهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْغِيبَةِ، فَقَالَ ﷺ: «ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟

قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي أَخِيكَ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* وَمِنَ الْآفَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الْأَغَرِّ: النَّمِيمَةُ؛ وَالنَّمِيمَةُ تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَوْلِ إِنْسَانٍ فِي إِنْسَانٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فِيكَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

وَالرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ الْخِصَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّمُ الْهِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمُرُ بِالتَّوَاصُلِ وَبِالتَّوَادِّ، وَبِالتَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى كُلِّ خَيْر يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ كُلِّ شَّرٍّ يَعْلَمُهُ لَهُمْ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ مِنْهُمْ فَقَدْ أَحْسَنَ وَفَازَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَمَنِ اسْتَنْكَفَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَدْ خَسِرَ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ، وَبَاءَ بِالْإِثْمِ الْعَظِيمِ، وَأَصْلَاهُ اللَّهُ عَذَابَ الْجَحِيمِ.

 ((بَيَانُ جُمْلَةٍ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ تُوصَفَ الْحَسَنَاتُ بِأَنَّهَا سَيِّئَاتٌ، وَمِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُوصَفَ الْحُسْنُ وَالْمَلَاحَةُ بِالْقُبْحِ وَالدَّمَامَةِ!!

وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَ -لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

 ((دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَكْمَلُ الْأَدْيَانِ، وَأَفْضَلُهَا, وَأَعْلَاهَا، وَأَجَلُّهَا.

وَقَدْ حَوَى مِنَ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَمَالِ، وَالصَّلَاحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْعَدْلِ، وَالْحِكْمَةِ، مَا يَشْهَدُ لِلهِ -تَعَالَى- بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَيَشْهَدُ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:  4].

فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ أَعْظَمُ بُرْهَانٍ، وَأَجَلُّ شَاهِدٍ لِلهِ -تَعَالَى- بِالتَّفَرُّدِ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ كُلِّهِ، وَلِنَبِيِّهِ ﷺ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَاسِنَ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَامَّةً فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ وَدَلَائِلِهِ، وَفِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَفِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْكَوْنِ وَالِاجْتِمَاعِ.

دِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

فَهَذِهِ الْأُصُولُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِهَا هِيَ الْأُصُولُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَهِيَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى أَجَلِّ الْمَعَارِفِ وَالِاعْتِقَادَاتِ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَعَلَى بَذْلِ الْجُهْدِ فِي سُلُوكِ مَرْضَاتِهِ.

فَدِينٌ أَصْلُهُ الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَثَمَرَتُهُ السَّعْيُ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِخْلَاصُ ذَلِكَ لِلهِ، هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَأَجَلَّ، وَأَفْضَلَ؟!!

وَدِينٌ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَالتَّصْدِيقِ بِرِسَالَاتِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رُسُلُ اللهِ الصَّادِقُونَ، وَأُمَنَاؤُهُ الْمُخْلِصُونَ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ -أَيْ إِلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهَذَا كُلِّهِ- أَيُّ اعْتِرَاضٍ وَقَدْحٍ.

 فَهُوَ يَأْمُرُ بِكُلِّ حَقٍّ، وَيَعْتَرِفُ بِكُلِّ صِدْقٍ، وَيُقَرِّرُ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ الْمُسْتَنِدَةَ إِلَى وَحْيِ اللهِ لِرُسُلِهِ، وَيَجْرِي مَعَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ النَّافِعَةِ.

وَلَا يَرُدُّ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يُصَدِّقُ بِكَذِبٍ، وَلَا يَرُوجُ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ، فَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، يَأْمُرُ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ; وَيَحُثُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْفَضْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْخَيْرِ، وَيَزْجُرُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْبَغْيِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.

مَا مِنْ خَصْلَةِ كَمَالٍ قَرَّرَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ إِلَّا وَقَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا،  وَمَا مِنْ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ دَعَتْ إِلَيْهَا الشَّرَائِعُ إِلَّا حَثَّ عَلَيْهَا، وَلَا مَفْسَدَةٍ إِلَّا نَهَى عَنْهَا، وَأَمَرَ بِمُجَانَبَتِهَا.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَقَائِدَ هَذَا الدِّينِ هِيَ الَّتِي تَزْكُو بِهَا الْقُلُوبُ، وَتَصْلُحُ الْأَرْوَاحُ، وَتَتَأَصَّلُ بِهَا مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنُ الْأَعْمَالِ)) .

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّلْمَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- :

إِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الْحَثَّ عَلَى الْمَشُورَةِ، وَالْأَخْذِ بِهَا مَتَى كَانَتْ صَائِبَةً، مُتَّفِقَةً مَعَ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ وَالتَّجْرِبَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ أَكْثَرُهُمْ صَلَاحًا وَتَقْوَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْحَثُّ عَلَى الْعِتْقِ، وَتَحْرِيرِ الْأَرِقَّاءِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَمْلُوكِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْحَثُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَالضَّيْفِ، وَالْمِسْكِينِ، وَالْيَتِيمِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى تَبَادُلِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّصَافِي وَالتَّعَاوُنِ؛ قَالَ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: أَنَّهُ يَذُمُّ النِّزَاعَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالتَّفْرِقَةَ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ، وَالْحَسَدِ، وَالتَّجَسُّسِ، وَالْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْأَمْرُ بِالْعَدْلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الْحَثُّ عَلَى الْعَفُوِ عَنِ الْمُعْتَدِي؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22].

وَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96].

وَقَالَ: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: الدَّعْوَةُ إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

وَقَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ؛ قَالَ ﷺ: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا».

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ بِالنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11] الْآيَةَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ أَوْ يُرَدَّ؛ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِرَدِّ التَّحِيَّةِ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] الْآيَةَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فِيمَا نَسْمَعُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَالَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] الْآيَةَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: النَّهْيُ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَفِي ذَلِكَ الْعِنَايَةُ بِالنَّاحِيَةِ الصِّحِّيَّةِ، وَالْوِقَايَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالْأَمْرَاضِ -بِإِذْنِ اللهِ-.

*وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنْ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَقَالَ ﷺ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَالشُّرْبِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لِإِزَالَةِ مَا يُسْتَقْذَرُ، وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ جَنَازَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارُ الْمُقْسِمِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآخِي، وَالدُّعَاءِ لِأَخِيكِ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَا فِي إِبْرَارِ الْقَسَمِ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ، وَإِجَابَةِ طَلَبِهِ؛ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ.

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ: إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِعُرْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، أَوْ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا تَرَاهُ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنَ الْمَلَاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ؛ لِأَنَّ فِي حُضُورِهِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- تَشْجِيعٌ لِلْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الْمُجُونِ، وَإِعَانَةٌ عَلَى نَشْرِ الْمَعَاصِي وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ فِيهَا.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْوِيعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ إِمَّا بِإِخْبَارِهِ بِخَبَرٍ يُفْزِعُهُ، أَوْ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ بِسِلَاحٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجِالِ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْعَكْسِ؛ بِأَنْ تَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، الَّتِي مِنْهَا التَّخَنُّثُ فِيمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِنَّ؛ فِي مَلَابِسِهِنَّ، وَحَرَكَاتِهِنَّ، وَكَلَامِهِنَّ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْحَلِّينَ وَالْمَغْرُورِينَ!!

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: اتِّقَاءُ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالرِّيَبِ؛ كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ.

وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعًا، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ؛ فَرَآهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ».

فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ!! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا -أَوْ: قَالَ: شَرًّا-».

فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، أَبْعَدَ التُّهْمَةَ وَالشَّكَّ عَنْ نَفْسِهِ.

وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَمِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ)).

فَالْإِسْلَامُ مِنْ مَحَاسِنِهِ: الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَالشُّبُهَاتِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهَا، خَالِيًا بِهَا، أَوْ رَأَى مَنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَهَا.

أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبُ مَعَ مَنْ لَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الطَّبِيبِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّيِّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَقَلَّ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الَّذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ مِنَ التَّفَكُّكِ وَالتَّخَاذُلِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ دِينُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْدِلُوا مَعَ إِخْوَانِهِمْ وَغَيْرِ إِخْوَانِهِمْ, أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى النَّاسِ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ أَجْمَعِ مَا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

فَقَدْ قَرَنَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَدْلَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَحْدَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْجَوْرِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا قَدْ يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ كُلُّهُ, لَكِنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَدْلَ وَمَعَهُ الْإِحْسَانَ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ، وَالْقَوَّامُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ؛ أَيْ: كُونُوا فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.

فَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ اللهِ: أَلَّا يُسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، بَلْ تُصَرَّفُ فِي طَاعَتِهِ.

وَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: أَنْ تُؤَدَّى جَمِيعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ كَمَا تَطْلُبُ أَنْتَ حُقُوقَكَ، فَتُؤَدِّي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالدِّيُونَ، وَتُعَامِلُ النَّاسَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْمُكَافَأَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].

أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ وَعَدَاوَتُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَيْكُمْ -حَيْثُ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ؛ طَلَبًا لِلِاشْتِفَاءِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ أَمْرَ اللهِ وَيَسْلُكَ طَرِيقَ الْعَدْلِ، وَلَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُلِمَ أَوِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ يَخُونَ مَنْ خَانَهُ.

وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ الظُّلْمَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [ابراهيم: 42-43].

وَهَدَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظَّالِمِينَ؛ فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- -فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ-: ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَشَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَفْسِهِ، أَفَيَرْضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؟!!

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ))

لَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُحَذِّرُ مِنْ أَذِيِّةِ المُسْلِمِينَ، وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، وَتَعْيِيرِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَتَبَّعُهُمْ لِيُرِيقَ دِمَاءَهُمْ؟!!

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ؛ لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، ولا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».

قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ، فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ!! وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».

وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَفي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ».

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الْإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ، أَوِ الْحَدِيدِ إِلَى الْمُسْلِمِ، جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالْحَدِيدَةِ؛ أَيْ: بِالسِّلَاحِ، وَلَوْ كَانَ مَازِحًا, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالْأَسْلِحَةِ؛ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ، أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بِنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ، قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا؛ فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».

بَلْ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ». أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ الكَبِيرِ», وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ؛ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ- فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».

تَأَمَّلْ فِي دِينِكَ، وَدَعْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى الَّذِينَ يُشَوِّهُونَهُ، الَّذِينَ يُنَفِّرُونَ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَارُوا يَنْظُرُونَ بِعَيْنِ الرِّيبَةِ إِلَى دِينِهِمُ الْحَنِيفِ!

إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ الْأَعْرَاقِ، وَلَا عَلَى حَسَبِ أَلْوَانِ بَشَرَاتِهِمْ.

لَا يُفَرِّقُ الْإسْلَامُ الْعَظِيمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ مَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا الْإِكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ عَلَى حَسَبِ التَّقْوَى؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات: 13]، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.

فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ يُقدِّمُ مَنْ تَمَلَّكَ الْمُؤَهِّلَاتِ وَالْمُقَوِّمَاتِ الَّتِي تُقَدِّمُهُ, لَا يَنْظُرُ إِلَى لَوْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى بَلَدٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْمِيَّةٍ.

*رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ وَعَدْلُهُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

لَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِنْسَانَ مُطْلَقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَلِتَفْضِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِبَنِي آدَمَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ؛ لِهَدَايَتِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ, فَمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَحَمَلَ الْأَمَانَةَ؛ نَالَ هَذَا الشَّرَفَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهِ, وَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَاعْتَنَقَ طَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ خَسِرَ هَذِهِ الْكَرَامَةَ، وَنَزَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ الْحَضِيضِ فِي الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

وَالْإِسْلَامُ حَفِظَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ مَا دَامُوا لَمْ يُنَاصِبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعِدَاءَ, وَلَمْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى؛ فَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

بَلْ أَمَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ؛ فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) ؛ أَيِ: النَّاسَ عُمُومًا.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا, وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَصِلَ مَنْ يَصِلُنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

فَالْإِسْلَامُ مَا جَاءَ لِقَتْلِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ, وَأَمَّا الْقِتَالُ فَهُوَ عِلَاجٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ, لَكِنَّ الْأَصْلَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

ثُمَّ إِنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَدْلِ وَدِينُ الرَّحْمَةِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ.

قَالَ -تَعَالَى- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فَالْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ, وَقَتْلَ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ رَأَيٌ فِي الْقِتَالِ, وَيُحَرِّمُ قَتْلَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ شَرُّهُمْ وَكُفْرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ, وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ.

وَلِهَذَا نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ قَتْلِهِمْ, ثُمَّ إِذَا وَقَعَ الْأَسِيرُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الانسان: 8-9].

فَإِذَا رَأَى الْأَسِيرُ هَذَا التَّعَامُلَ الطَّيِّبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبَّمَا شَرَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ, وَذَهَبَتْ عَنْهُ الْعُنْجُهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ صَدَّتْهُ عَنِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ -بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرَحمَةِ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ- فِي دِينِ اللهِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا أَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمِنَ الْبِلَادِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ)).

يَأسِرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ, وَلَكِنْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ, فَأَحْسَنَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَادُوا التَّعَامُلَ مَعَهُمْ, وَأَخَذُوا يَرْفُقُونَ بِهِمْ؛ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ.

وَالْإِسْلَامُ يُجِيزُ الصُّلْحَ مَعَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

لَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَكَّرُوا وَتَرَوَّوْا وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَاقْتِنَاعٍ.

وَصَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْيَهُودَ عِنْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَفَوْا بِالْعَهْدِ لَوَفَى لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ, وَلَكِنَّهُمْ خَانُوا الْعَهْدَ فَأَوْقَعَ اللهُ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ.

وَإِذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ إِمَّا بِالْعَهْدِ وَإِمَّا بِالْأَمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ التَّعَدِّيَ عَلَى مَالِ الْمُعَاهَدِ أَوْ عَلَى حَيَاتِهِ, فَيَكُونُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَمَنْ تَعَدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, ((وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كَافِرٌ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُعَاهَدٌ، فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ, مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ كَافِرًا!!

لَكِنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَيَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].

فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

 ((جَوْهَرُ رِسَالَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَالَمِ))

لَقَدْ رَسَّخَ النَّبِيُّ ﷺ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ السَّمْحَةَ، وَعَقِيدَتَهُ الْقَوِيمَةَ، وَأَخْلَاقَهُ الْكَرِيمَةَ، وَقِيَمَهُ النَّبِيلَةَ، فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَصْبَحَتْ مَنْهَجَ حَيَاةٍ يَعِيشُونُ وَيَتَعَايَشُونَ بِهِ مَعَ النَّاسِ جَمِيعًا؛ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حَدِيثِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ, مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ فِي مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ، قَالَ لَهُ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ, وَنُسِيءُ الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ!!

فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا, نَعْرِفُ صِدْقَهُ, وَنَسَبَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ, مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ.

وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ, وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ)). الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَتَبَ كُتُبَهُ، وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأْقَوامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.

آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ.

وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ، لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا -حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ  يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!

((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا))  .

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ!

بِدِينِ الرَّحْمَةِ!

بِالدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ!!

هُوَ دِينُ الْحَقِّ، دِينُ اللهِ!

 ((جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ!!))

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ صِفَةَ الْمُسْلِمِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا:

((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

وَمِنْهَا: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرَئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).

وَقَدْ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ فُلَانَةَ تَصُومُ نَهَارَهَا، وَتَقُومُ لَيْلَهَا، وَتَصَّدَّقُ، وَلَكِنَّهُا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).

فَقَالَ ﷺ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ)).

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).

 فَالْمُسْلِمُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَحْتَرِمُ الْأُخُوَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَيُقَدِّرُ مَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ، فَيُحَافِظُ عَلَى دَمِ أَخِيهِ فَلَا يَغْدِرُ بِهِ، وَلَا يَقْتُلُهُ مُتَجَاوِزًا حُدُودَ اللهِ، وَيُحَافِظُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يُبَدِّدُهُ وَلَا يُعَرِّضُهُ لِلضَّيَاعِ، وَيُحَافِظُ عَلَى عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَشَرَفِهِ؛ فَلَا يُلَوِّثُهُ، وَلَا يَقْذِفُهُ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ، وَلَا يَغْتَابُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، وَيُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ.

الْمُسْلِمُ الْحَقُّ يُحَافِظُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ -مَالِ الدَّوْلَةِ-؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ، فَالْمَالُ الْعَامُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَالُ الْخَاصُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ صَاحِبِهِ.

الْمُسْلِمُ الْحَقُّ لَا يَعْتَدِي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ مِنَ الْمُؤَسَّسَاتِ وَالْمُنْشَآتِ، وَالْجُسُورِ، وَالْحَدَائِقِ، وَالطُّرُقَاتِ، بَلْ يَذُودُ عَنْهَا وَيَحْمِيهَا.

فَكَيْفَ يَصِحُّ إِسْلَامُ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى هَدْمِ وَطَنِهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْكَاذِبِينَ وَأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْحَاقِدِينَ وَالْمُحْتَكِرِينَ وَالِانْتِهَازِيِّينَ، وَهُوَ يَرْتَعُ -مَعَ ذَلِكَ- فِي خَيْرِ وَطَنِهِ وَيَعُبُّ مِنْ ثَمَرَاتِهِ؟!!

وَكَيْفَ يَصِحُّ إِسْلَامُ مَنْ يَلْجَأُ إِلَى الْإِجْرَامِ فِي الْوُصُولِ إِلَى أَغْرَاضِهِ، وَيَسْعَى لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِيَالِهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {مَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟)).

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: ((اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)). خَرَّجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

الْمُسْلِمُ الْفَائِقُ، الْمُسْلِمُ الْمُمْتَازُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَيْفًا لَا كَمًّا؛ لِأَنَّ الْغُثَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَى السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَإِذَا مَا اسْتَنْصَرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَصَرَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَإِذَا مَا طَلَبُوا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَبَّاهُمْ، وَأَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ مِنَّةً وَفَضْلًا.

أُمَّةٌ تُرِيدُ الْفَائِقِينَ، تُرِيدُ مَنْ كَانَ فَائِقًا، آخِذًا بِمَنْهَجِ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: هَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ
  الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ
  الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ
  النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ
  مَكَانَةُ الشُّهَدَاءِ وَوُجُوبُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ
  شَرِيعَةُ التَّيْسِيرِ وَمُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ
  مصر بين حاضر الكفايات وماضي المجاعات
  مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى
  السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَّشْرِيعِ وَرَدُّ شُبُهَاتِ الطَّاعِنِينَ فِيهَا
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان