((مِنْ دُرُوسِ شَهْرِ رَمَضَانَ)) رَمَضَان 1444هـ

 ((مِنْ دُرُوسِ شَهْرِ رَمَضَانَ)) رَمَضَان 1444هـ

 ((مِنْ دُرُوسِ شَهْرِ رَمَضَانَ))

رَمَضَان 1444هـ

جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ وَمُحَاضَرَاتِ وَكُتُبِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ: أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْمَوَاعِظِ النَّافِعَةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ.

الدَّرْسُ الْأَوَّلُ

((اسْتِقْبَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنِعْمَةُ حُلُولِهِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ ضَيْفٌ عَزِيزٌ وَوَافِدٌ كَرِيمٌ))

فَفِي كُلِّ عَامٍ تَسْتَقْبِلُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ ضَيْفًا عَزِيزًا وَوَافِدًا كَرِيمًا يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ الْفَضَائِلَ وَالْخَيْرَاتِ، وَتُشْرِقُ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ بِالنِّعَمِ وَالْبَرَكَاتِ، وَتَفِيضُ بِالْآلَاءِ وَأَيْنَعِ الثَّمَرَاتِ، تُضِيءُ أَوْقَاتُهُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَحْفُلُ لَحَظَاتُهُ بِالطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ لِلْوَاحِدِ الدَّيَّانِ، وَتَنْكَسِرُ فِيهِ النُّفُوسُ طَالِبَةً مِنَ اللهِ -تَعَالَى- الْمَغْفِرَةَ وَالرِّضْوَانَ، وَالْعَفْوَ عَمَّا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْعِصْيَانِ.

فَيَا لَهُ مِنْ شَهْرٍ عَظِيمِ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا، فِي أَوْقَاتِهِ تَعْظُمُ الْهِبَاتُ وَالْعَطَايَا، وَتَشْتَاقُ لِقُدُومِهِ نُفُوسُ الْبَرَايَا، وَتَسْتَبْشِرُ بِحُلُولِهِ قُلُوبُ الْمُخْبِتِينَ، وَتَنْشَطُ حِينَ يَحُطُّ رِحَالَهُ أَفْئِدَةُ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ.

((حُلُولُ شَهْرِ الْيَقَظَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ))

حُلُولُ شَهْرِ رَمَضَانَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْبَارِي -جَلَّ فِي عُلَاهُ-؛ فَفِيهِ تَسْتَيْقِظُ الْقُلُوبُ مِنْ سُبَاتِهَا، وَتَنْتَبِهُ النُّفُوسُ مِنْ إِعْرَاضِهَا وَغَفَلَاتِهَا، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ مَرَّ عَلَيْهَا عَامٌ مُثْقَلٌ بِالْأَوْزَارِ، وَزَمَانٌ دَنَّسَتْهُ الذُّنُوبُ وَعَظُمَتْ فِيهِ الْآصَارُ؟!!

فَيَأْتِي هَذَا الشَّهْرُ الْمُبَارَكُ لِيَكُونَ مَحَطَّةً يُحَاسِبُ الْمُقَصِّرُ فِيهَا نَفْسَهُ، فَكَمْ تَكَاسَلَتْ عَنِ الطَّاعَةِ، وَكَمْ سَوَّفَتْ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا حَلَّ عَلَيْهَا هَذَا الشَّهْرُ الْمُبَارَكُ أَسْرَعَتْ إِلَى اغْتِنَامِ أَوْقَاتِهِ، وَجَدَّتْ فِي الْإِذْعَانِ لِخَالِقِهَا، وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلَبًا لِمَغْفِرَتِهِ وَتَعَرُّضًا لِنَفَحَاتِهِ.

قَالَ ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِشَارَةٌ لِعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ بِقُدُومِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِقُدُومِهِ، وَلَيْسَ هَذَا إِخْبَارًا مُجَرَّدًا، بَلْ مَعْنَاهُ بِشَارَتُهُمْ بِمَوْسِمٍ عَظِيمٍ، يَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ الصَّالِحُونَ الْمُشَمِّرُونَ؛ لِأَنَّهُ ﷺ بَيَّنَ فِيهِ مَا هَيَّأَ اللهُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، فَمَنْ فَاتَتْهُ الْمَغْفِرَةُ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ مَحْرُومٌ غَايَةَ الْحِرْمَانِ.

((رَمَضَانُ مَغْنَمُ الطَّائِعِينَ وَمَيْدَانُ الْمُتَنَافِسِينَ))

إِنَّ مِنْ فَضْلِ اللهِ -تَعَالَى- وَنِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ عَلَى عِبَادِهِ: أَنْ هَيَّأَ لَهُمُ الْمَوَاسِمَ الْفَاضِلَةَ لِتَكُونَ مَغْنَمًا لِلطَّائِعِينَ، وَمَيْدَانًا لِتَنَافُسِ الْمُتَنَافِسِينَ.

وَإِنَّ الْمَوَاسِمَ الْمَوْضُوعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِبُلُوغِ الْأَمَلِ، بِالِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ وَرَفْعِ الْخَلَلِ، بِالِاسْتِدْرَاكِ  وَالتَّوْبَةِ.

وَمَا مِنَ الْمَوَاسِمِ الْفَاضِلَةِ موْسِمٌ إِلَّا وَللهِ -تَعَالَى- فِيهِ وَظِيفَةٌ مِنْ وَظَائِفِ طَاعَاتِهِ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا للهِ فِيهِ لَطِيفَةٌ مِنْ لَطَائِفِ نَفْحَاتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.

فَالسَّعِيدُ مَنِ اغْتَنَمَ مَوَاسِمَ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَتَقَرَّبَ فِيهَا إِلَى مَوْلَاهُ بِمَا فِيهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، فَعَسَى أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّفْحَاتِ، فَيَسْعَدُ بِهَا سَعَادَةً يَأْمَنُ بَعْدَهَا مِنَ النَّارِ وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّفْحَاتِ.

وَإِنَّ بُلُوغَ رَمَضَانَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ وَقَامَ بِحَقِّهِ، فَقَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ، وَرَجَعَ فِيهِ إِلَى رَبِّهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِهِ، وَمِنَ الْبُعْدِ عَنْهُ إِلَى الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ.

((كَيْفَ يَسْتَقْبِلُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ رَمَضَانَ؟))

إِنَّ العَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتَنِمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الأَوْقَاتِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ العَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغَيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّانِي

((قِيمَةُ الصِّيَامِ فِي الْإِسْلَامِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّقْوَى غَايَةُ الصِّيَامِ الْكُبْرَى))

فَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

لَمَّا جَعَلَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهِ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ، وَتَصْفِيَةِ الْقُلُوبِ مِنْ أَدْرَانِهَا، وَتَهْذِيبِ الْأَرْوَاحِ مِنْ قَاذُورَاتِهَا.. لَمَّا كَانَ هَذَا الشَّهْرُ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِيهِ بَدْءًا، وَجَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً... لَمَّا كَانَ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ؛ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَعْظِيمَهُ عَلَى أُمَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَفَرَضَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صِيَامَهُ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فَالْغَايَةُ الْكُبْرَى مِنْ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَحَصَّلَ الْمُسْلِمُ عَلَى تَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((الصِّيَامُ للهِ وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَجْزِي بِهِ))

اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ الصِّيَامَ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ لِأَحَدٍ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ السَّلْبِيَّةَ، وَهِيَ عِبَادَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَفِّ وَالِامْتِنَاعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَإِسْنَادِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ للهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ -تَعَالَى- تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَقْدِيسًا وَمَدْحًا وَتَكْرِيمًا، «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ لِأَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَسَبَ وَأَضَافَ هَذَا الصِّيَامَ لِذَاتِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مَقَامَ الْإِحْسَانِ -كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ- مَقْسُومًا عَلَى أَمْرَيْنِ، عِنْدَمَا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنِ الْإِحْسَانِ، فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

فَهَذَا مَقَامُ مُشَاهَدَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ مُرَاقَبَةٍ، وَهُمَا مَعًا مِمَّا يَنْبَنِي الْإِحْسَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْإِحْسَانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»؛ فَهَذَا مَقَامُ مُشَاهَدَةٍ، «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَجْرُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ عَظِيمًا -أَيْضًا-.

((الصَّوْمُ لَا مِثْلَ لَهُ))

الصِّيَامُ لَهُ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَهَذَا أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ أَنْشَأَ جَيْشًا، فَأَرَادَ أَبُو أُمَامَةَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ دَعْوَةً صَالِحَةً بِالشَّهَادَةِ يُرْزَقُهَا حَتَّى يَقْدُمَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَهِيدًا حَمِيدًا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ وَطَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «اللهم سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ».

قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: «فَذَهَبْنَا فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا».

ثُمَّ أَنْشَأَ جَيْشًا آخَرَ، فَجَاءَ أَبُو أُمَامَةَ النَّبِيَّ ﷺ يَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ بِالشَّهَادَةِ فَقَالَ: «اللهم سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ».

فَسَلِمُوا وَغَنِمُوا، ثُمَّ مَرَّةً ثَالِثَةً فَعَلَ ذَلِكَ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَسَلِمَ وَغَنِمَ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! جِئْتُكَ تَتْرَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لِيَ بِالشَّهَادَةِ، فَقُلْتَ مَا قُلْتَ، وَكَانَ مَا كَانَ، فَدُلَّنِي إِذْ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي بِالشَّهَادَةِ -وَالشَّهِيدُ دَاخِلٌ جَنَّةَ الْخُلْدِ بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَوْلًا وَاحِدًا- إِذْ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لِيَ بِالشَّهَادَةِ، فَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ)).

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ» يَعْنِي: لَا مُسَاوِيَ لَهُ وَلَا مُكَافِئَ لَهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ».

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ الشَّهَادَةِ يَقْدُمُ بِهَا الْمَرْءُ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- شَهِيدًا حَمِيدًا مَرْضِيًّا عَمَلُهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هَذَا الْعَمَلَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ عَمَلٌ جَلِيلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ بَدْءًا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصِّيَامِ عَلَى أَمْرَيْنِ هُمَا رُكْنَاهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-؛ إِذْ هُمَا -أَيْ: هَذَانِ الرُّكْنَانِ-: نِيَّةٌ، ثُمَّ إِمْسَاكٌ عَنِ الْمُفَطِّرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

إِذَنْ؛ هَذَا الْكَفُّ وَهَذَا الِامْتِنَاعُ وَإِنْ كَانَ الْأُصُولِيُّونَ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَفَّ وَإِلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِعْلٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَظَلُّ كَفًّا وَامْتِنَاعًا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَالصِّيَامُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ نِيَّةً صَالِحَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ؛ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» يَعْنِي: مُؤْمِنًا بِالَّذِي فَرَضَهُ، وَلِمَنْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْفَرْضِ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ، وَبِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ فَرْضَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)) يَعْنِي: طَلَبًا لِلْأَجْرِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مَا رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ وَلَا مُرَاءَاةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، بَلْ هُوَ مَصْرُوفٌ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لِلَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

((الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ مَقْصُودِ الصِّيَامِ))

فَلنُحَقِّقْ -بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ- مَقْصُودَ الصِّيَامِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى بِإِخْلَاصِ العِبَادَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، بِصَرْفِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، بِفِعْلِ المَأْمُورَاتِ, وَتَرْكِ المَنْهِيَّاتِ وَالمَحْظُورَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَهَذَا مَقْصُودُ الصِّيَامِ الأَعْظَمُ؛ فَلْنُحَقِّقْ هَذَا.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجَوَادُ الكَرِيمُ، وَالبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

***

الدَّرْسُ الثَّالِثُ

((جُمْلَةٌ مِنْ فَتَاوَى الصِّيَامِ 1))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ فَتَاوَى الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ الْعُثَيْمِينَ حَوْلَ الصِّيَامِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَأْتِي بِالْأَجْوِبَةِ مُرَكَّزَةً وَاضِحَةً.

*مَا الْحِكْمَةُ مِنْ إِيجَابِ الصَّوْمِ؟

إِذَا قَرَأْنَا قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] عَرَفْنَا مَا هِيَ الْحِكْمَةُ مِنْ إِيجَابِ الصَّوْمِ، وَهِيَ التَّقْوَى وَالتَّعَبُّدُ لِلَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

وَالتَّقْوَى: هِيَ تَرْكُ الْمَحَارِمِ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَشْمَلُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

*فَتَاةٌ صَغِيرَةٌ حَاضَتْ وَكَانَتْ تَصُومُ أَيَّامَ الْحَيْضِ جَهْلًا، فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهَا؟

يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَقْضِيَ الصِّيَامَ الَّذِي كَانَتْ تَصُومُهُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الَّتِي صَامَتْهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَصْلًا وَلَا يَصِحُّ بَلْ يَحْرُمُ صَوْمُهَا.

*إِذَا أَفْطَرَ الْإِنْسَانُ لِعُذْرٍ، وَزَالَ الْعُذْرُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَهَلْ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ؟

لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ اسْتَبَاحَ هَذَا الْيَوْمَ بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ.

*امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِجَلْطَةٍ، مُصَابَةٌ بِمَرَضٍ خَبِيثٍ، مُصَابَةٌ بِالْفَشَلِ الْكُلَوِيِّ، وَمَنَعَهَا الْأَطِبَّاءُ مِنَ الصِّيَامِ مُطْلَقًا، قَالُوا: هَذِهِ لَا تَصُومُ أَبَدًا، حَالَتُهَا الصِّحِّيَّةُ لَا تَسْمَحُ لَهَا بِأَنْ تَصُومَ لَا هَذَا الْعَامَ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ، مَا الْحُكْمُ؟

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ -مَرَضٌ مُزْمِنٌ مُسْتَمِرٌّ لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ- فَإِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، هَذَا عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ صِيَامٌ.

*كَيْفَ يَفْدِي؟ مَا هِيَ كَيْفِيَّةُ الْإِطْعَامِ؟

أَنْ يُوَزِّعَ عَلَيْهِمْ طَعَامًا مِنَ الْأُرْزِ -مَثَلًا-، وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَا يُؤْدِمُهُ مِنَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَدْعُو مَسَاكِينَ إِلَى الْعَشَاءِ أَوْ إِلَى الْغَدَاءِ فَيُعَشِّيهِمْ أَوْ يُغَدِّيهِمْ.

هَذَا هُوَ حُكْمُ الْمَرِيضِ مَرَضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.

الْمَرِيضُ مَرَضًا مُلَازِمًا لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ، وَمَنَعَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنَ الصِّيَامِ أَوْ كَانَ الصِّيَامُ يَشُقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَفْدِي بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَ فِيهِ.

*كَمْ وَجْبَةً يُطْعَمُ الْمِسْكِينُ؟

وَجْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

*كَيْفَ يُطْعِمُهُ؟

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُطْعِمُهُ صَاعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطْعِمُهُ مُدًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا فَعَلَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يُشْبِعُهُمْ ثَرِيدًا وَلَحْمًا لِأَنَّهُ ضَعُفَ عَنِ الصِّيَامِ فَأَفْطَرَ الشَّهْرَ، ثُمَّ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى شَهْرُ رَمَضَانَ جَمَعَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ ثَرِيدًا وَلَحْمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ يُرَخَّصُ لَهُمْ جَمِيعًا فِي الْإِفْطَارِ، ثُمَّ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ، فَيُطْعِمُونَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

*هُنَا مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا عِنْدَهُ مَرَضٌ لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ وَأَمَرَهُ الْأَطِبَّاءُ بِالْفِطْرِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، هَلْ يَجْمَعُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا وَيُطْعِمُهُمْ مِسْكِينًا مِسْكِينًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَيَقُولُ: أَنَا قَدْ فَدَيْتُ مَا عَلَيَّ؟

أَنْتَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْكَ بَعْدُ.. لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدُ إِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ بَعْدُ.

مَتَى وَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ وَصَوْمُهُ؟

صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ مِنْ حِينِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ.

لَكِنْ إِذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ مَعَ إِمَامٍ يُتِمُّ صَلَّى أَرْبَعًا، سَوَاءٌ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا أَمْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا؛ فَعُمُومُ قَوْلِهِ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» يَشْمَلُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي أَرْبَعًا وَغَيْرِهِ.

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ، وَأَرْبَعًا إِذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ؟)).

فَقَالَ: ((تِلْكَ السُّنَّةُ)) -سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ-.

لَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَنِ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَمَرَ بِهَا فِي حَالِ الْقِتَالِ.. صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ لَمْ يُسْقِطْهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي حَالِ الْقِتَالِ، فَكَيْفَ بِحَالِ الْأَمْنِ وَالسِّلْمِ؟!

وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الْمُسَافِرُ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، أَوْ يَخَافَ فَوْتَ رُفْقَتِهِ؛ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوِ الْإِقَامَةَ، فَهَذَا مُهِمٌّ.

وَأَمَّا التَّطَوُّعُ بِالنَّوَافِلِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي جَمِيعَ النَّوَافِلِ سِوَى رَاتِبَةِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَيُصَلِّي الْوِتْرَ وَصَلَاةَ اللَّيْلِ وَصَلَاةَ الضُّحَى، وَرَاتِبَةَ الْفَجْرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ غَيْرَ الرَّوَاتِبِ الْمُسْتَثْنَاةِ.

 الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ فِي السَّفَرِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ مُطَّرِدٌ أَمْ يَأْتِي بِهِ الْمُسَافِرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ؟

إِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ سَائِرًا -يَعْنِي: كَانَ فِي الطَّرِيقِ- فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِمَّا جَمْعَ تَقْدِيمٍ وَإِمَّا جَمْعَ تَأْخِيرٍ حَسْبَ الْأَيْسَرِ لَهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرَ فَهُوَ لَهُ أَفْضَلُ.

وَإِنْ كَانَ نَازِلًا -وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ الَّتِي هُوَ مُسَافِرٌ إِلَيْهَا- فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَلَّا يَجْمَعَ، وَإِنْ جَمَعَ فَلَا بَأْسَ، وَلَكِنِ الْأَفْضَلُ أَلَّا يَجْمَعَ؛ لِصِحَّةِ الْأَمْرَيْنِ -إِنْ جَمَعَ وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَذِهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ.

وَأَمَّا صِيَامُ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ فَاخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا بَأْسَ، وَيَقْضِي عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ أَسْهَلَ لَهُ، وَالصَّوْمُ شَدِيدٌ عَلَيْهِ لِوُقُوعِ الْمَشَقَّةِ، فَالْفِطْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَإِذَنْ؛ هَذَا الْأَمْرُ كَانَ عَلَى حَسَبِ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمُسَافِرُ الْمَشَقَّةَ فِي الصِّيَامِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْفِطْرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَشَقَّةَ فِي الصِّيَامِ فَإِنْ صَامَ فَهُوَ خَيْرٌ.

السَّفَرُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ سَهْلٌ لَا يَشُقُّ الصَّوْمُ فِيهِ غَالِبًا، فَإِذَا كَانَ لَا يَشُقُّ الصَّوْمُ فِيهِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ، وَلَا يَكُونُ قَدْ تَخَلَّى عَنِ الرُّخْصَةِ بِحَالٍ أَبَدًا، بَلْ هِيَ عَلَى حَالِهَا، إِنْ وَجَدَ الْمَشَقَّةَ أَفْطَرَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَشَقَّةَ وَكَانَ الصَّوْمُ سَهْلًا عَلَيْهِ وَكَانَ السَّفَرُ مُيَسَّرًا فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ.

*إِذَا صُمْتَ مَعَ عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَشَقَّةِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَتَحَصَّلُ؟

تَتَحَصَّلُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَلَى السُّهُولَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا فَرَضَ عَلَيْكَ إِذْ تَصُومُ مَعَ النَّاسِ، مَعَ سُرْعَةِ إِبْرَاءِ الذِّمَّةِ؛ إِذْ قَدْ أَتَيْتَ بِمَا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

 

 

الدَّرْسُ الرَّابِعُ

((جُمْلَةٌ مِنْ فَتَاوَى الصِّيَامِ 2))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

*فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تُفْطِرَ؟ وَمَتَى تَقْضِي؟ وَهَلْ تُطْعِمُ وَتَفْدِي؟

الْجَوَابُ: الْمُرْضِعُ إِذَا كَانَتْ تَخَافُ عَلَى وَلَدِهَا مِنَ الصِّيَامِ بِحَيْثُ يَنْقُصُ اللَّبَنُ حَتَّى يَتَضَرَّرَ الطِّفْلُ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ، وَلَكِنَّهَا تَقْضِي فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمَرِيضَ الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

فَمَتَى زَالَ الْمَحْذُورُ تَقْضِي إِمَّا فِي وَقْتِ الشِّتَاءِ لِقِصَرِ النَّهَارِ وَبُرُودَةِ الْجَوِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّتَاءِ فَفِي الْعَامِ الْقَادِمِ، أَمَّا الْإِطْعَامُ فَلَا يَجُوزُ كَلَامُهُ- إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِ الْمَانِعِ أَوِ الْعُذْرِ مُسْتَمِرًّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْإِطْعَامُ بَدَلًا عَنِ الصِّيَامِ.

هَذَا بِضِدِّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ: أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ إِذَا خَافَتَا عَلَى نَفْسَيْهِمَا أَوْ عَلَى الرَّضِيعِ أَوِ الْجَنِينِ فَإِنَّ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا، وَأَنْ تَفْدِيَا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا.

دَلِيلُ الشَّيْخِ قِيَاسٌ، وَالدَّلِيلُ الْآخَرُ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ عَنِ الْأَصْحَابِ إِلَّا أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ نُزُولِ آيَةٍ، وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُقَالُ فِيهِ بِالرَّأْيِ.

فَإِذَنِ؛ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَقُولُ بِالْفِدْيَةِ وَلَا قَضَاءَ نَصٌّ، عِنْدَهُ نَصٌّ، الشَّيْخُ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، لَا يَقُومُ الْقِيَاسُ مَعَ النَّصِّ، بَلْ لَا يَنْبَغِي الْقِيَاسُ فِي وُجُودِ النَّصِّ.

لَا يُمْكِنُ أَبَدًا -وَقَدْ صَحَّتِ النُّصُوصُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- أَنْ يُتْرَكَ قَوْلُهُمَا لِقَوْلِ أَحَدٍ.

*إِذَا قَضَى الصَّائِمُ مُعْظَمَ النَّهَارِ مُسْتَرْخِيًا لِشِدَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الصِّيَامِ؟

هَذَا لَا يُؤَثِّرُ عَلَى صِحَّةِ الصِّيَامِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ أَجْرٍ -يَعْنِي: هَذَا التَّعَبُ الَّذِي وَجَدَهُ فِي الصِّيَامِ فِيهِ مَزِيدُ أَجْرٍ-؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لَهَا: ((أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ)).

*هَلْ كُلُّ يَوْمٍ يُصَامُ مِنْ رَمَضَانَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ تَكْفِي نِيَّةُ صِيَامِ الشَّهْرِ كُلِّهِ؟

يَكْفِي فِي رَمَضَانَ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ فِي لَيْلَتِهِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي نِيَّتِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَمَا دَامَ مُسْتَمِرًّا فِي صِيَامِهِ لَمْ يَقْطَعْ، فَالنِّيَّةُ الَّتِي نَوَى فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُجْزِئُهُ.

وَلَكِنْ لَوْ قَطَعَ الصَّوْمَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِتَرْكِ الصِّيَامِ لِلسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِمَا.

*النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ لِلْفِطْرِ دُونَ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ هَلْ يُفْطِرُ بِهَا الصَّائِمُ؟

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّوْمَ جَامِعٌ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالتَّرْكِ، فَيَنْوِي الْإِنْسَانُ بِصَوْمِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِتَرْكِ الْمُفَطِّرَاتِ، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى أَنَّهُ قَطَعَهُ فِعْلًا فَإِنَّ الصَّوْمَ يَبْطُلُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمُفَطِّرٍ، وَلَكِنَّهُ فَسَخَ النِّيَّةَ، وَلَكِنَّهُ مَا دَامَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ -مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ- حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ احْتِرَامِ حُرْمَةِ الْيَوْمِ الَّذِي انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ، فَيُؤْمَرُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى اللَّيْلِ وَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ رَمَضَانَ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْزِمْ وَلَكِنْ تَرَدَّدَ.. إِذَا تَرَدَّدَ، الِاخْتِيَارُ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ لِقُوَّتِهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي تَرَدَّدَ فِي أَنْ يُفْطِرَ أَوْ لَا يُفْطِرَ وَلَمْ يَعْزِمْ أَنَّهُ مَا زَالَ عَلَى صِيَامِهِ.

*مَا الْحُكْمُ إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا؟ وَمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ؟

مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَإِنَّ صِيَامَهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ إِذَا تَذَكَّرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقْلِعَ -يَعْنِي: أَنْ يَكُفَّ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ- حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللُّقْمَةُ أَوِ الشَّرْبَةُ فِي فَمِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْفِظَهَا، وَلَكِنْ مَا أَكَلَهُ أَوْ شَرِبَهُ نَاسِيًا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِيَامِهِ شَيْئًا.

وَدَلِيلُ تَمَامِ صَوْمِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ: ((مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ)).

مَنْ رَآهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَهُ، مَنْ رَآهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّرَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَكْلَ الصَّائِمِ وَشُرْبَهُ حَالَ صِيَامِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ، وَلَكِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ فِي حَالِ النِّسْيَانِ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، أَمَّا مَنْ رَآهُ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْمُنْكَرِ.

*مَا حُكْمُ الْكُحْلِ لِلصَّائِمِ؟

لَا بَأْسَ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ، وَأَنْ يَقْطُرَ فِي عَيْنَيْهِ -يَعْنِي: أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْقَطْرَةَ فِي عَيْنَيْهِ-، وَأَنْ يَقْطُرَ كَذَلِكَ فِي أُذُنِهِ حَتَّى وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَ ذَلِكَ فِي حَلْقِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ -حِينَئِذٍ-؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ.

وَهُنَالِكَ مَا لَهُ مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا كَالْحُقَنِ الْمُغَذِّيَةِ، فَهَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا إِلَّا أَنَّ لَهَا مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهُ، فَتَجِدُ صَاحِبَ الْغَيْبُوبَةِ يَمْتَدُّ شُهُورًا وَلَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ شَيْءٌ، وَمُمْكِنٌ أَنْ يَعِيشَ عَلَى هَذِهِ التَّغْذِيَةِ الَّتِي تَدْخُلُ الدِّمَاءَ عَنْ طَرِيقِ الْإِبَرِ، فَهَذَا لَهُ مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ.

فَالدَّلِيلُ جَاءَ فِي مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا، وَالْقَطْرَةُ وَالْكُحْلُ لَيْسَا بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، وَلَا فِي مَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ الصَّوَابُ.

*لَوْ قَطَرَ فِي أَنْفِهِ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ؟

لَوْ قَطَرَ فِي أَنْفِهِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يُفْطِرُ، اخْتَلَفَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَنْفِ، لِمَ؟

لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)).

فَحَذَّرَ ﷺ وَنَهَى -وَلَا يَنْهَى إِلَّا لِعِلَّةٍ ﷺ- فَقَالَ: ((وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا))؛ يَعْنِي: فَلَا تُبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ؛ حَتَّى لَا يَتَسَرَّبَ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي تَسْتَنْشِقُ بِهِ فَيَنْزِلَ فِي حَلْقِكَ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَفْطَرْتَ، إِنْ قَصَدَ ذَلِكَ -يَعْنِي: إِنْ قَصَدَ أَنْ يَصِلَ مَا وَضَعَهُ فِي أَنْفِهِ مِنْ قَطْرٍ إِلَى حَلْقِهِ-، فَإِنْ قَصَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَفْطَرَ.

*مَا حُكْمُ السِّوَاكِ وَالطِّيبِ لِلصَّائِمِ؟

الصَّوَابُ أَنَّ التَّسَوُّكَ لِلصَّائِمِ سُنَّةٌ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي آخِرِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَوْلِهِ ﷺ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ)). وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَذَا عُمُومٌ لَمْ يُحَدِّدْ صِيَامًا وَلَا إِفْطَارًا، وَلَمْ يُحَدِّدْ زَمَانًا.

فَالصَّوَابُ أَنَّ الصَّائِمَ يَسْتَخْدِمُ السِّوَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي آخِرِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا الطِّيبُ فَهُوَ كَذَلِكَ جَائِزٌ لِلصَّائِمِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي آخِرِهِ.

*مَا هِيَ مُفْسِدَاتُ الصَّوْمِ؟

مُفْسِدَاتُ الصَّوْمِ هِيَ الْمُفَطِّرَاتُ وَهِيَ: الْجِمَاعُ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِمَاعِ، وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْقَيْءُ عَمْدًا، وَخُرُوجُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُفَطِّرَاتُ.

وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ هُوَ الْإِبَرُ الْمُغَذِّيَةُ الَّتِي يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ أَكْلًا وَلَا شُرْبًا لَكِنَّهَا بِمَعْنَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

أَمَّا الْإِبَرُ الَّتِي لَا يُغَذَّى بِهَا الْجَسَدُ وَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَهَذِهِ لَا تُفْطِرُ، سَوَاءٌ تَنَاوَلَهَا الْإِنْسَانُ فِي الْوَرِيدِ أَوْ فِي الْعَضَلَاتِ أَوْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ بَدَنِهِ.

هَذِهِ الْمُفْطِرَاتُ الْمُفْسِدَاتُ لِلصِّيَامِ لَا تُفْسِدُ الصِّيَامَ إِلَّا بِشُرُوطٍ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ: الْعِلْمُ، وَالذِّكْرُ، وَالْقَصْدُ.

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا، وَضِدُّ الذِّكْرِ النِّسْيَانُ.

وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ: الْقَصْدُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُخْتَارًا لِفِعْلِ هَذَا الْمُفَطِّرِ.

*سُؤَالٌ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ كَثِيرًا وَهُوَ: مَا حُكْمُ اسْتِعْمَالِ بَخَّاخِ ضِيقِ النَّفَسِ لِلصَّائِمِ؟ وَهَلْ يُفَطِّرُ إِذَا اسْتَخْدَمَهُ؟

هَذَا الْبَخَّاخُ يَتَبَخَّرُ وَلَا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ، فَحِينَئِذٍ نَقُولُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَعْمِلَ هَذَا الْبَخَّاخَ وَأَنْتَ صَائِمٌ وَلَا تُفْطِرُ بِذَلِكَ.

*هَلِ الْقَيْءُ مُفْطِرٌ؟

إِذَا قَاءَ الْإِنْسَانُ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ يُفْطِرُ، وَإِنْ قَاءَ بِغَيْرِ عَمْدٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَأَمَّا إِنْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ.

*مَا حُكْمُ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ لِثَةِ الصَّائِمِ؟ هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يُفْطِرُ؟

الدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَسْنَانِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى الصَّوْمِ، لَكِنْ يُحْتَرَزُ مِنَ ابْتِلَاعِهِ مَا أَمْكَنَ.

وَكَذَلِكَ لَوْ رَعُفَ أَنْفُهُ -يَعْنِي: سَالَ الدَّمُ مِنَ الْأَنْفِ- يَحْتَرِزُ مِنَ ابْتِلَاعِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- شَيْءٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الْخَامِسُ

((جُمْلَةٌ مِنْ فَتَاوَى الصِّيَامِ 3))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

*فَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَاغْتَسَلَتْ بَعْدَ طُلُوعِهِ، فَمَا حُكْمُ صَوْمِهَا؟

صَوْمُهَا صَحِيحٌ إِذَا تَيَقَّنَتِ الطُّهْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، يَعْنِي إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْفَجْرُ فِي حَالِ طُهْرٍ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا الصِّيَامُ وَإِنْ لَمْ تَتَطَهَّرْ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

فَالْمَرْأَةُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَأَنَّى حَتَّى تَتَيَقَّنَ أَنَّهَا طَهُرَتْ، فَإِذَا طَهُرَتْ فَإِنَّهَا تَنْوِي الصَّوْمَ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

وَلَكِنْ عَلَيْهَا -أَيْضًا- أَنْ تُرَاعِيَ الصَّلَاةَ، فَتُبَادِرَ بِالِاغْتِسَالِ لِتُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا وَقَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.

لَوْ طَهُرَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا صِيَامَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ، فَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَإِنَّهَا طَهُرَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ مَثَلُهَا كَذَلِكَ فِي هَذَا مَثَلُ مَنْ كَانَ عَلَيْهَا جَنَابَةٌ فَلَمْ تَغْتَسِلْ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، يَعْنِي كَانَ عَلَيْهَا الْجَنَابَةُ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ وَطَلَعَ عَلَيْهَا الْفَجْرُ وَهِيَ عَلَى الْجَنَابَةِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا -أَيْضًا-، وَصَوْمُهَا صَحِيحٌ.

كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ جَنابَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ -يَعْنِي: أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ- لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَائِمٌ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ لَا مِنِ احْتِلَامٍ ﷺ، فَيَصُومُ وَيَغْتَسِلُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ -يَعْنِي: بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، لَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ-.

الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ﷺ، بَلْ كَانَ وَهُوَ ﷺ كَذَلِكَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ وَيَنْتَظِرُونَهُ، وَلَكِنْ يَطْلُعُ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَعْنِي يَدْخُلُ الْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ صَلَاةُ الصُّبْحِ يَدْخُلُ هَذَا الْوَقْتُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ فَيَغْتَسِلُ ﷺ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ ﷺ.

*مَا حُكْمُ قَلْعِ الضِّرْسِ لِلصَّائِمِ؟ وَهَلْ يُفْطِرُ ذَلِكَ؟

الدَّمُ الْخَارِجُ بِخَلْعِ الضِّرْسِ وَنَحْوِهِ لَا يُفْطِرُ.

*مَا حُكْمُ تَحْلِيلِ الدَّمِ لِلصَّائِمِ؟ وَهَلْ يُفْطِرُ؟

لَا يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ مِنْ أَجْلِ التَّحْلِيلِ.

*إِذَا اسْتَمْنَى الصَّائِمُ فَهَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ؟ وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؟

إِذَا اسْتَمْنَى الصَّائِمُ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي اسْتَمْنَى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِمَّا فعَلَ.

الرَّجُلُ إِذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى جِمَاعِهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِثْمُ، قَدْ أَثِمَ بِمَا صَنَعَ.

وَالثَّانِي: وُجُوبُ إِمْسَاكٍ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فَفَسَادُ صَوْمِهِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الرَّابِعُ: فَالْقَضَاءُ؛ أَنْ يَأْتِيَ بِيَوْمٍ مَكَانَ الْيَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ.

وَالْأَمْرُ الْخَامِسُ: الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَتَابُعًا حَقِيقِيًّا، بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّ التَّتَابُعُ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ قَبْلَ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ وَيَبْدَأُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْجِمَاعِ أَوْ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْحُرْمَةِ.

*مَا حُكْمُ التَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ؟

التَّبَرُّدُ لِلصَّائِمِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ ((كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ مِنَ الْحَرِّ أَوْ مِنَ الْعَطَشِ وَهُوَ صَائِمٌ)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبُلُّ ثَوْبَهُ وَهُوَ صَائِمٌ بِالْمَاءِ لِتَخْفِيفِ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ أَوِ الْعَطَشِ، وَرُبَّمَا وَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ.

الرُّطُوبَةُ لَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَاءً يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ.

*إِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ اسْتَنْشَقَ فَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ؟

إِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ اسْتَنْشَقَ فَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].

*نَرَى بَعْضَ التَّقَاوِيمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُوضَعُ فِيهَا قِسْمٌ يُسَمَّى الْإِمْسَاكَ، وَهُوَ يُجْعَلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِنَحْوِ عَشْرِ دَقَائِقَ أَوْ رُبُعِ سَاعَةٍ، فَهَلْ هَذَا لَهُ أَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ أَوْ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ؟

هَذَا مِنَ الْبِدَعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ، بَلِ السُّنَّةُ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَذَا الْإِمْسَاكُ الَّذِي يَصْنَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَكُونُ -حِينَئِذٍ- بَاطِلًا، وَهُوَ مِنَ التَّنَطُّعِ فِي دِينِ اللهِ.

*مَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي أَرْضِ الْمَطَارِ فَأَفْطَرَ، وَبَعْدَ إِقْلَاعِ الطَّائِرَةِ رَأَى الشَّمْسَ -لَمَّا ارْتَفَعَتِ الطَّائِرَةُ وَعَلَتْ رَأَى الشَّمْسَ- فَهَلْ يُمْسِكُ؟

لَا يَلْزَمُ الْإِمْسَاكُ؛ لِأَنَّهُ حَانَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَكَانٍ غَرَبَتْ مِنْهُ الشَّمْسُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

*مَا حُكْمُ بَلْعِ الْبَلْغَمِ أَوِ النُّخَامَةِ لِلصَّائِمِ؟

بَلْعُ النُّخَامَةِ لَا يُفْطِرُ، وَالْمُهِمُّ أَنْ يَدَعَ الْإِنْسَانُ النُّخَامَةَ وَلَا يُحَاوِلَ أَنْ يَجْذِبَهَا إِلَى فَمِهِ مِنْ أَسْفَلِ حَلْقِهِ، وَلَكِنْ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْفَمِ فَلْيُخْرِجْهَا سَوَاءٌ كَانَ صَائِمًا أَوْ غَيْرَ صَائِمٍ.

*هَلْ يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِتَذَوُّقِ الطَّعَامِ؟

لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِتَذَوُّقِ الطَّعَامِ إِذَا لَمْ يَبْتَلِعْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ دَخَلَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى بَطْنِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَصَوْمُهُ لَا يَبْطُلُ مَا دَامَتْ قَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.

*مَا هِيَ آدَابُ الصِّيَامِ؟

مِنْ آدَابِ الصِّيَامِ: لُزُومُ تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

وَمِنْ آدَابِ الصِّيَامِ: أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي رَمَضَانَ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ، وَالنَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَلَكِنَّهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ أَوْكَدُ.

وَمِنْ آدَابِ الصِّيَامِ -أَيْضًا-: أَنْ يَتَسَحَّرَ، وَأَنْ يُؤَخِّرَ السُّحُورَ.

وَمِنْ آدَابِهِ -أَيْضًا-: أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ، وَأَنْ يُفْطِرَ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى مَاءٍ.

*هَلْ عِنْدَ الْفِطْرِ دُعَاءٌ مَأْثُورٌ؟ وَهَلْ يُتَابِعُ الصَّائِمُ الْمُؤَذِّنَ أَمْ يَسْتَمِرُّ فِي فِطْرِهِ؟

مَعْلُومٌ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي آخِرِ الْعِبَادَةِ.

((ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ)) هَذَا هُوَ الدُّعَاءُ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَمَّا إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِنْسَانُ يُفْطِرُ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ)) يَشْمَلُ كُلَّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِثْنَائِهِ.

*مَرِيضٌ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ وَبَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ دُخُولِ الشَّهْرِ مَاتَ فَهَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟

إِنْ كَانَ الْمَرَضُ الَّذِي أَصَابَهُ مَرَضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَلَا تُنْتَظَرُ الْعَافِيَةُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ: حَقُّ هَذَا الْمَرِيضِ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

فَإِذَنْ؛ إِذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مَرَضًا طَارِئًا غَيْرَ مُزْمِنٍ وَيُرْجَى شِفَاؤُهُ ثُمَّ تَوَفَّاهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَحِلَّ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ، وَالْوَقْتُ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ مَا عَلَيْهِ هُوَ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ.

كَالَّذِي يَمُوتُ فِي شَعْبَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ صِيَامُ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي زَمَنِ الْوُجُوبِ بَعْدُ، فَهَذَا -أَيْضًا- مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَيَنْبَغِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَرَضَيْنِ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

***

الدَّرْسُ السَّادِسُ

((رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((دُرُوسٌ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الْعِبَادَةِ فِي رَمَضَانَ))

فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، يَتَلَقَّى فِيهَا الصَّائِمُونَ دُرُوسًا مُتَنَوِّعَةً فِي الْعِبَادَةِ، فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِطْعَامِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالذِّكْرِ، وَصَفَاءِ الْقُلُوبِ، وَالشُّكْرِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ وَالصَّبْرِ.

((مُجَانَبَةُ كُلِّ مَا يَتَنَافَى مَعَ الصِّيَامِ))

فِي رَمَضَانَ تُحْبَسُ الْأَلْسِنَةُ عَنْ سَاقِطِ الْكَلَامِ، وَرَدِيءِ الْأَقْوَالِ، وَيَكُفُّ الصَّائِمُ لِسَانَهُ عَنْ كُلِّ مَا يَتَنَافَى مَعَ الصِّيَامِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَالْجِدَالِ، فَلَا تَسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا مَا يُرْضِي خَالِقَهُ، فَهُوَ مُبْتَعِدٌ عَنْ كُلِّ مَا يَتَنَافَى مَعَ رُوحِ الصِّيَامِ وَالْهَدَفِ مِنْهُ.

قَالَ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَه: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ، وَالْجَهْلَ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَالْجَهْلُ هَاهُنَا: ضِدُّ الْحِلْمِ، لَيْسَ بِالَّذِي هُوَ بِضِدِّ الْعِلْمِ.

«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ وَالْجَهْلَ -أَيْ: السَّفَهَ وَالنَّزَقَ، وَالطَّيْشَ وَخِفَّةَ الْعَقْلِ- وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوْعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه -وَاللَّفْظُ لَهُ-.

وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ».  رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَيَتَأَكَّدُ عَلَى الصَّائِمِ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ، وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَلَا يَغْتَابُ النَّاسَ، وَلَا يَكْذِبُ، وَلَا يَنِمُّ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَبِيعُ بَيْعًا مُحَرَّمًا، يَجْتَنِبُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ كَامِلٍ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ سَوْفَ تَسْتَقِيمُ بَقِيَّةَ الْعَامِ.

وَلَكِنَّ الْمُؤسِفَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّائِمِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ يَوْمِ صَوْمِهِمْ وَيَوْمِ فِطْرِهِمْ، فَهُمْ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا تَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْهِ وَقَارَ الصَّوْمِ.

وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ؛ وَلَكِنْ تَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ، وَرُبَّمَا عِنْدَ الْمُعَادَلَةِ تَرْجَحُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ، فَيَضِيعُ ثَوَابُهُ.

((سَبِيلُ تَحْصِيلِ أَجْرِ الصِّيَامِ الْعَظِيمِ))

مَوْسِمٌ مَفْتُوحٌ مِنْ عَطَاءَاتِ وَفُيُوضَاتِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

فَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الصِّيَامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَاتِ؛ فَهَذَا الْأَمْرُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ.. أَنْ يُضْبَطَ؛ حَتَّى يُؤَدَّى عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا أُدِّيَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَأْتِ مَا يُلَوِّثُهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَلَى رَجَاءِ التَّحَقُّقِ مِنْ تَحَصُّلِ الْأَجْرِ -بِفَضْلِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِبَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَدْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْأَذَى وَالشَّرِّ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تُثْمِرُ ذَلِكَ؛ فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا خَيْرَ فِيهَا لِصَاحِبِهَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ السَّابِعُ

((مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ))

فَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ السَّابِقَةَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَتَدَارَسُ الْقُرْآنَ مَعَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ؛ فَكَانَ يَعْرِضُ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى جِبْرِيلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مَرَّةً كُلَّ عَامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوفِّيَ فِيهِ ﷺ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَرْضَ كَانَ فِي رَمَضَانَ.

فَمِنْ هَذَا نَسْتَفِيدُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ الْإِكْثَارُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا فَضَائِلُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ كَثِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضَائِلِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، مِنْهَا:

مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا)).

وَمَا أَجْمَلَ هَذَا الِارْتِقَاءَ فِي مَرَاتِبِ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْقُرْآنِ!

وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ)).

((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ)) أَيْ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ لِلنَّوْمِ وَحَاجَاتِ الدُّنْيَا فَقَطْ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قَصَرْتُمُوهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ بِمَثَابَةِ الْمَقَابِرِ، وَالْمَقَابِرُ لَا يُصَلَّى فِيهَا وَلَا يُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ.

وَأَبَانَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ خَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)).

وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْقُرْآنِ، وَفَضْلِ تِلَاوَتِهِ؛ لَا سِيَّمَا فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ.

فَمِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ شَهْرُ الْقُرْآنِ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

فَلِلْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ شَأْنٌ فِي إِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَالْهِدَايَةِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لِمَنْ تَلَاهُ وَتَدَبَّرَهُ.

وَهُنَا لَا بُدَّ أَنْ نَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِنَا، وَنَلْتَفِتَ إِلَى أَنْفُسِنَا هَلْ عِنَايَتُنَا بِالْقُرْآنِ هِيَ عِنَايَةُ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَيَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ؟!!

((حَالُ السَّلَفِ مَعَ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ))

لَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- مَعَ عَظِيمِ عِنَايَتِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا، وَعَمَلًا وَتَعَلُّمًا، وَتَعْلِيمًا وَإِقْرَاءً؛ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي رَمَضَانَ تَزْدَادُ عِنَايَتُهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

وَكَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

«وَكَانَ قَتَادَةُ يُدَرِّسُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ قَالَ: ((إِنَّمَا هُوَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ)).

وَكَانَ مَالِكٌ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ يَفِرُّ مِنْ قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، وَمُجَالَسَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُقْبِلُ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُصْحَفِ.

وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ تَرَكَ جَمِيعَ الْعِبَادَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.

وَكَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ أَوَّلَ النَّهَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ نَامَتْ.

وَكَانَ زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ إِذَا حَضَرَ رَمَضَانُ أَحْضَرَ الْمَصَاحِفَ وَجَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابَهُ».

((ضَرُورَةُ الِاجْتِهَادِ فِي قِرَاءَةِ وَمُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ))

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِرْدٌ يَوْمِيًّا مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- يُحَافِظُ عَلَيْهِ، وَيَقْضِيهِ إِذَا فَاتَهُ، وَإِنْ تَيَسَّرَ لَهُ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ كُلَّ أُسْبُوعٍ، أَوْ كُلَّ شَهْرٍ، أَوْ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهَذَا حَسَنٌ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَه: ((وَلَا نُحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ لِهَذَا الْحَدِيثِ)) يَعْنِي: أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةٍ لِخَتْمِ الْقُرْآنِ عِنْدَ بَعْضِ السَّلَفِ هِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ.

وَشَهْرُ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ طَيِّبَةٌ لِلْعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعْوِيدِ النَّفْسِ عَلَيْهِ مَا دَامَتْ مُقْبِلَةً عَلَى  قِرَاءَةِ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-، وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ.

وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَهْجُرَ كِتَابَ اللهِ -تَعَالَى-.

فَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ -يَعْنِي: أَنَّهُ شَهْرُ الْقُرْآنِ-.

((مُضَاعَفَةُ ثَوَابِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ))

مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ ثَوَابَ الْعُمْرَةِ فِيهِ يُضَاعَفُ حَتَّى تَعْدِلَ الْعُمْرَةُ حَجَّةً أَوْ حِجَّةً مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمِّ سِنَانٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً -أَوْ قَالَ-: حِجَّةً مَعِي».

فَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ يَعْنِي فِي الْأَجْرِ، وَلَا تَقُومُ مَقَامَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْأَجْرُ.

((شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ))

شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ، وَقَدْ ضَمَّنَ اللهُ -تَعَالَى- آيَاتِ الصِّيَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

فَضَمَّنَ اللهُ -تَعَالَى- آيَاتِ الصِّيَامِ هَذِهِ الْآيَةَ الْمُبَارَكَةَ إِشَارَةً إِلَى أَهَمِّيَّةِ الدُّعَاءِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّ رَمَضَانَ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي تُسْتَجَابُ فِيهَا الدَّعَوَاتُ، لَا سِيَّمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَسَاعَةُ الْإِفْطَارِ لِلصَّائِمِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ.

وَالدُّعَاءُ مِنْ أَهَمِّ الْعِبَادَاتِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، ثُمَّ قَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60])).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَإِذَا كَانَ لِلدُّعَاءِ هَذَا الْفَضْلُ الْعَظِيمُ، وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مَوْسِمًا لِاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ فِيهِ؛ فَمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الصَّائِمِينَ إِلَّا أَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فِيهِ، فَكُلُّ دَعْوَةٍ يَدْعُونَ بِهَا تَكُونُ لَهُمْ رِبْحًا فِي سِجِلِّ عِبَادَاتِهِمُ الْعَظِيمَةِ، وَيَرْجُونَ تَحَقُّقَ مَا دَعَوْا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ مَا طَلَبُوا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ ادَّخَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُمْ.

((مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيهِ))

مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيهِ، وَاللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- اخْتَارَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِأَنَّهُ أَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ، أَكْرَمُ لَيْلَةٍ عِنْدَ اللهِ هِيَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَيَجِبُ أَنْ تُخَصَّ بِعَمَلٍ زَائِدٍ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا جَاءَ فِي تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَتَخْصِيصِهَا بِمَزِيدٍ مِنَ الْعَمَلِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].

فَأَبَانَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، فَمَنْ عَبَدَ اللهَ وَذَكَرَهُ، وَفَعَلَ خَيْرًا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ؛ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ لَيَالِي وَأَيَّامٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَبْلُغُ لَوْ جُمِعَتْ أَلْفَ شَهْرٍ.

فَمَنْ أَحْيَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِعِبَادَةِ اللهِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ كَمَا لَوْ عَبَدَ اللهَ طَوَالَ عُمُرٍ فِيهِ مِنَ الْأَيَّامِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَأَلْفُ شَهْرٍ يُعَادِلُ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَثُلُثَ السَّنَةِ.

((شَهْرُ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ فِي الْإِخْلَاصِ))

شَهْرُ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ فِي الْإِخْلَاصِ؛ فَالصِّيَامُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

قَبُولُ أَعْمَالِكَ كُلِّهَا فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ وَالِاحْتِسَابِ، وَهُمَا عَيْنُ الْإِخْلَاصِ.

مَعْنَى: ((إِيمَانًا)): اعْتِقَادًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ حَقٌّ، وَ((احْتِسَابًا)) أَيْ: طَلَبًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَعْنَى ((احْتِسَابًا)): ((أَنْ يُرِيدَ اللهَ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، لَا يَقْصِدُ رُؤْيَةَ النَّاسِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ)).

فَاحْرِصْ -أَيُّهَا الصَّائِمُ- عَلَى حِرَاسَةِ عِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَنَقِّهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَمُرَاقَبَةِ الْخَلْقِ.

هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا هَذَا الشَّهْرَ الْمُبَارَكَ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي إِذَا دَخَلَ الشَّهْرَ هَلْ يَخْرُجُ مَغْفُورًا لَهُ أَوْ لَا!

وَاللهُ -تَعَالَى- الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّامِنُ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 1))

((أَهَمِّيَّةُ الْعَقِيدَةِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((لَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يَحْيَا بِغَيْرِ عَقِيدَةٍ))

فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يَحْيَا بِغَيْرِ عَقِيدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَقِيدَةُ صَحِيحَةً أَمْ كَانَتْ خَاطِئَةً.

الْإِنْسَانُ يَحْيَا فِي حَيَاتِهِ آتِيَةً أَفْعَالُهُ مُنْطَلِقَةً أَقْوَالُهُ مُؤَسَّسَةً فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى عَقِيدَةٍ.

وَمَا مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سَكَنَةٍ، وَلَا قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ إِلَّا وَهُوَ صَادِرٌ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ عَنْ مُعْتَقَدٍ يَعْتَقِدُهُ الْمَرْءُ.

((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْكَوْنَ، وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ لِلْكَوْنِ خَالِقًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ، وَلَا مَخْلُوقٌ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ، فَلَا بُدَّ لِهَذَا الْكَوْنِ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ وَمُوجِدٍ أَوْجَدَهُ.

هَذَا الْأَمْرُ جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَرْكُوزًا فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَلَهُ صَانِعٌ، مَا مِنْ مَوْجُودٍ إِلَّا وَلَهُ مُوجِدٌ، جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَرْكُوزًا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، كُلُّ صَنْعَةٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ صَانِعٍ، كُلُّ مَوْجُودٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ، كُلُّ مَخْلُوقٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ، الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ يُقِرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَجْحَدُهُ.

هَذَا الْكَوْنُ بِسَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَجِبَالِهِ وَأَنْهَارِهِ، وَأَحْجَارِهِ وَأَشْجَارِهِ، وَفَلَوَاتِهِ وَوِدْيَانِهِ عَلَى تَنَوُّعِ مَخْلُوقَاتِهِ؛ كُلُّ هَذَا الْكَوْنِ مَوْجُودٌ لَا يَجْحَدُ وُجُودَهُ عَاقِلٌ.

إِذَا كَانَ هَذَا الْكَوْنُ مَوْجُودًا لَا يَجْحَدُ وُجُودَهُ عَاقِلٌ؛ فَمَنِ الَّذِي أَوْجَدَهُ؟

لَا بُدَّ أَنَّ لَهُ مُوجِدًا.

هَذِهِ الصَّنْعَةُ؛ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنَ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كَالْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ، وَالْغُدْرَانِ وَالْبِحَارِ، وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي تَتَنَوَّعُ تَنَوُّعًا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ.. هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ خَالِقٍ؛ فَمَنْ هُوَ هَذَا الْخَالِقُ؟

إِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ، وَتَنَوُّعُهَا وَإِحْكَامُهَا يَنْفِي ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ قَدْ أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا، وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ قَدْ خَلَقَتْ ذَاتَهَا، وَهَذَا مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ، وَفَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، فَالْعَدَمُ لَا يَمْلِكُ الْوُجُودَ حَتَّى يُعْطِيَ نَفْسَهُ -وَهُوَ مَعْدُومٌ- وُجُودًا، فَهِيَ كَانَتْ مَعْدُومَةً لَا وُجُودَ لَهَا ثُمَّ وُجِدَتْ؛ فَهَلْ أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]؟!!

جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَائِمَةً، وَدَلَّهُمْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى إِقْرَارِ الْعَقْلِ السَّوِيِّ الْمُسْتَقِيمِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذَا الْوُجُودِ مِنْ مُوجِدٍ، وَلِهَذَا الْخَلْقِ مِنْ خَالِقٍ، فَسَأَلَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ مُسْتَنْكِرًا عَلَيْهِمْ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}، هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الْكَوْنُ مُصَادَفَةً؟!!

هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ، وَلِلْمُصَادَفَةِ قَانُونٌ وَهُوَ قَانُونٌ صَارِمٌ جِدًّا.

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أَيْ: خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، ثُمَّ ارْتَقَى بِهِمْ: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور: 36]؟

أَخَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ؟!!

هُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُومِينَ غَيْرَ مَوْجُودِينَ ثُمَّ وُجِدُوا، فَمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْوُجُودَ؟!!

إِذَا كَانُوا قَدْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمُ الْوُجُودَ فَلْيُقِرُّوا بِذَلِكَ، وَلَا يُقِرُّ بِهِ عَاقِلٌ، فَارْتَقَى بِهِمْ: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ}، مَنِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟!!

وَمَنِ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّنْعَةِ الْمُحْكَمَةِ الْبَدِيعَةِ؟!!

((أَهَمِّيَّةُ الْعَقِيدَةِ فِي تَحْقِيقِ وَظِيفَةِ وُجُودِنَا))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا؛ لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ, وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ, وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ.

عِبَادَ اللهِ! التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ, وَأَوَّلُ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَوَجَّهَ بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَوَّلِ أَمْرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].

إِنَّنَا فِي الْحَقِيقَةِ إِذَا غَفَلْنَا عَنِ الْهَدَفِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّنَا لَنْ نَفْهَمَ حَقِيقَةَ الْوُجُودِ.. إِذَا لَمْ نَفْهَمْ حَقِيقَةَ وُجُودِنَا، وَلَمْ نُحَقِّقْ ذَاتَنَا فِي عِبَادَةِ رَبِّنَا؛ فَكَيْفَ نَفْهَمُ حَقِيقَةَ الْوُجُودِ بِسَمَائِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ؟!!

إِذَنْ؛ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَهِيَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعِبَادَةَ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا حَدَّدَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَإِذَا لَمْ نَفْهَمْ هَذَا فَهْمًا صَحِيحًا ضَلَلْنَا عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَصِرْنَا إِلَى شِقْوَةٍ لَا سَعَادَةَ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْقَى فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ اللهِ وَعِصْيَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

لَنْ تَجِدَ شَقَاءً قَطُّ وَلَا تَعَبًا قَطُّ إِلَّا بِسَبَبِ مُخَالَفَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَمَرَ مُوسَى -عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ لِلِقَاءِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ- أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، قَالَ: فَإِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ -أَيْ: فَهُوَ هُنَاكَ-، فَلَمَّا أَوَى وَغُلَامُهُ إِلَى الصَّخْرَةِ نَسِيَ الْغُلَامُ الْحُوتَ، فَتَحَرَّكَا خَارِجَ الْإِطَارِ الْمَرْسُومِ، وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- آتَاهُ اللهُ قُوَّةً {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} [القصص: 15]، وَحَمَلَ الْحَجَرَ عِنْدَمَا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ لَا يَقْوَى عَلَى حَمْلِهِ عَشْرَةٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَشِدَّاءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي شِدَّةِ الْجُوعِ وَفِي شِدَّةِ النَّصَبِ وَالتَّعَبِ، انْتُقِبَتْ قَدَمَاهُ مِنْ سَيْرِهِ فِي الْفَلَوَاتِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَكَانَ طَعَامُهُ مِنَ الْبَقْلِ حَتَّى ظَهَرَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ مِنْ خِلَالِ جِلْدِ بَطْنِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ لِلْمَرْأَتَيْنِ حَمَلَ الْحَجَرَ لَا يَقْوَى عَلَى حَمْلِهِ عَشْرَةٌ مِنَ الرِّجَالِ الْأَشِدَّاءِ.

مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَرَّحَ بِوُجُودِ النَّصَبِ وَالتَّعَبِ لَمَّا سَارَ خُطُوَاتٍ خَلْفَ مَا رَسَمَ اللهُ لَهُ، خَطَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَطًّا، فَإِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَلْتَبْقَ فِي تِلْكَ الْمَنْطِقَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْعَلَامَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ، فَتَخَطَّى هَذَا الْخَطَّ خُطُوَاتٍ سَائِرًا، فَوَجَدَ التَّعَبَ، وَصَرَّحَ بِوُجُودِ النَّصَبِ، {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] أَيْ: تَعَبًا، لَمْ يَذْكُرِ النَّصَبَ إِلَّا عِنْدَمَا تَحَرَّكَ خَارِجَ مَا أُمِرَ بِالتَّحَرُّكِ فِيهِ.

وَكَذَلِكَ أَنَا وَأَنْتَ لَا نَجِدُ الْمَشَقَّةَ وَلَا التَّعَبَ إِلَّا إِذَا تَحَرَّكْنَا خَارِجَ الْإِطَارِ الْمَرْسُومِ، وَأَمَّا إِذَا بَقِينَا دَاخِلَ الْإِطَارِ الْمَرْسُومِ فِي (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ) بِكَلَامِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ فَلَا تَعَبَ، إِنَّمَا يَأْتِينَا التَّعَبُ وَالنَّصَبُ مِنْ جَرَّاءِ الْمُخَالَفَةِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ الْعَقِيدَةَ؛ لِأَنَّنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ نُحَقِّقَ وُجُودَنَا وَلَا وَظِيفَتَنَا فِي وُجُودِنَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ عَقِيدَتِنَا الَّتِي كَلَّفَنَا اللهُ رَبُّنَا بِهَا وَالَّتِي جَاءَنَا بِهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.

أَهَمُّ شَيْءٍ تَحْرِصُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِكَ أَنْ تَتَعَلَّمَ عَقِيدَتَكَ، أَنْ تَعْرِفَ تَوْحِيدَ رَبِّكَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ، الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا تُقْبَلُ مِنْهُ عِبَادَةٌ، الْمُنْفِقُ الْمُتَصَدِّقُ، الزَّاهِدُ، الصَّائِمُ، الْقَائِمُ، الْمُعْتَمِرُ الْحَاجُّ، حَتَّى الْمُجَاهِدُ إِذَا بَنَى ذَلِكَ وَأَسَّسَهُ عَلَى غَيْرِ عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ -فَكَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ- لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْعَمَلُ.

هَلْ تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ؟

كَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ وَلَا عِبَادَةٌ بِغَيْرِ تَوْحِيدٍ.

لَا نَقُولُ هُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ فِيهَا، بَلْ هُوَ أَصْلُهَا وَأُسُّهَا وَأَسَاسُهَا، فَمَهْمَا عَمِلْتَ مِنْ عَمَلٍ أُسِّسَ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ بِعَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ عَمَلٌ، مَهْمَا عَمِلْتَ!

وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا يَزْدَادُونَ بِهِ عَنِ اللهِ إِلَّا بُعْدًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ، وَكَانَ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((مِنْ دَلَائِلِ أَهَمِّيَّةِ الْعَقِيدَةِ))

مَا زِلْنَا نَدُورُ فِي هَذَا الْفَلَكِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْعَقِيدَةِ، لَا بُدَّ أَنْ تَتَعَلَّمَ التَّوْحِيدَ، لَا بُدَّ أَنْ تَتَعَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، لِمَاذَا؟

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَقِيَ فِي مَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا.. وَالصَّلَاةُ لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ عَلَى النَّحْوِ الْمَفْرُوضِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَذَانٌ فِي مَكَّةَ، وَلَا جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ قِتَالٌ، بَلْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِكَفِّ الْأَيْدِي، الصِّيَامُ لَمْ يُفْرَضْ -صِيَامُ رَمَضَانَ- إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ عَلَى النَّحْوِ الْمَعْرُوفِ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ فَمَا كَانُوا يَمْلِكُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.

إِذَنْ؛ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ حَجٌّ، وَلَا صَوْمٌ، وَلَا قِتَالٌ، وَالصَّلَاةُ تَأَخَّرَتْ إِلَى السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَخْفُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ طَبَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى الْمُتَمَيِّزَةِ هِيَ تَحْتَهَا وَدُونَهَا؛ لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا التَّوْحِيدَ.

مَاذَا كَانَ يُعَلِّمُهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟

يُعَلِّمُهُمْ عِبَادَةَ الرَّبِّ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ، هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَقِيَ فِي مَكَّةَ مَا بَقِيَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الْأَصْلَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَأَيُّ بَدْءٍ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكُونُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ النُّقْطَةِ هُوَ سَيْرٌ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ وَحَقِّقْهَا أَوَّلًا))

حَقِّقْ عَقِيدَتَكَ أَوَّلًا؛ حَتَّى تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَتَعْرِفَ دِينَكَ، وَتَعْرِفَ عَقِيدَتَكَ.

وَأَنَا أَقُولُ لَكَ مَا أَكْثَرَ مَنْ رَأَيْنَاهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُمْ جُهْدٌ كَبِيرٌ ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَإِذَا سَأَلْنَا الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقُلْنَا لَهُ: مَا هِيَ عَقِيدَتُكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ؛ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا!!

إِذَا قُلْنَا لَهُ: مَا هِيَ عَقِيدَتُكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَاءِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ وَصِفَاتِهِ؛ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا!!

إِذَا قُلْنَا لَهُ: مَا هِيَ عَقِيدَتُكَ فِي الْإِيمَانِ؛ إِمَّا أَنْ تَجِدَهُ خَارِجِيًّا، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَهُ مُرْجِئِيًّا، لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، فَمَا الَّذِي يَعْرِفُهُ؟!!

إِذَا قُلْنَا لَهُ: مَا عَقِيدَتُكَ فِي الْقُرْآنِ!!

أَيْنَ الْعَقِيدَةُ؟!!

الرَّجُلُ يَكُونُ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا فِي دِينِ اللهِ.

دَعْكَ مِنْ شَقْشَقَةِ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ، أَهَمُّ شَيْءٍ اعْتِقَادُكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا لَقِيَ رَبَّهُ مُشْرِكًا لَنْ يُغْفَرَ لَهُ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَلِّمَنَا عَقِيدَتَنَا وَدِينَنَا، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا صِيَامَنَا وَقِيَامَنَا، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

 

 

 

 

 

 

الدَّرْسُ التَّاسِعُ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 2))

((تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ))

فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذرايات:56].

أَيْ: لِآمُرَهُمْ أَنْ يُفْرِدُونِي بِالْعِبَادَةِ.. إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ؛ أَيْ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ تُفْرِدُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ؛ مَحَبَّةً، وَتَعْظِيمًا، وَرَغْبَةً وَرَهْبَةً.

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

((أَقْسَامُ التَّوْحِيدِ))

يَنْقَسِمُ التَّوْحِيدُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

-تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.

-وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ.

-وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

((تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ))

تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: هُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خَالِقُ الْعِبَادِ، وَرَازِقُهُمْ، وَمُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ.

أَوْ: إِفْرَادُ اللهِ بِأَفْعَالِهِ؛ مِثْلُ: اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَالِقٌ، وَرَزَّاقٌ، وَمَالِكٌ لِلْمُلْكِ، وَمُدَبِّرٌ لِلْأَمْرِ.

وَهَذَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ السَّالِفُونَ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ، وَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا التَّوْحِيدَ إِلَّا الدَّهْرِيَّةُ فِيمَا سَلَفَ، وَالشُّيُوعِيَّةُ فِي زَمَانِنَا.

الدَّلِيلُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ:

يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلرَّبِّ الْكَرِيمِ: إِنَّهُ لَا يَقْبَلُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يَكُونَ أَثَرٌ بِلَا مُؤَثِّرٍ، وَفِعْلٌ بِلَا فَاعِلٍ، وَخَلْقٌ بِلَا خَالِقٍ.

وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ إِبْرَةً أَيْقَنْتَ أَنَّ لَهَا صَانِعًا؛ فَكَيْفَ بِهَذَا الْكَوْنِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُبْهِرُ الْعُقُولَ وَيُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ؟!! هَلْ وُجِدَ بِلَا مُوجِدٍ وَنُظِّمَ بِلَا مُنَظِّمٍ؟!!

قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].

وَصَدَقَ اللهُ الْعَظِيمُ: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20].

وَبِأَدْنَى نَظَرٍ إِلَى هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ يَسْتَدِلُّ الْإِنْسَانُ عَلَى وُجُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، عَلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ مُدَبِّرِ الْكَوْنِ الَّذِي لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ مَا تَشْهَدُ بِهِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

وَالدَّلِيلُ عَلَى إِقْرَارِ الْمُشْرِكِينَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].

فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَارَبَهُمُ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ، وَأَحَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَدُورَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ؛ كَانُوا مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكُهُمْ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَأَنَّهُ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ، وَكُلُّ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.

وَإِذَنْ؛ فَمَا هُوَ مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَالْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ؟

مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ: أَنَّهُمْ صَرَفُوا الْعِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُونَ: {هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر: 3].

بِفِعْلِهِمْ هَذَا وَاعْتِقَادِهِمْ وَبِقَوْلِهِمْ: ((إِنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي يَتَوَسَّطُونَ بِهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهَا قَدْرٌ وَمَقَامٌ عِنْدَ اللهِ)) صَارُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ.

تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَلَا يُنْجِيهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّارِ إِلَّا إِذَا أَتَى مَعَهُ بِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا لِلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.

((تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ))

تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ يُقَالُ لَهُ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ.

وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى أُمَمِهِمْ.

قَالَ اللهُ مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25-26].

وَقَالَ عَنْ هُودٍ: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50].

وَقَالَ عَنْ صَالِحٍ: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61].

وَقَالَ عَنْ شُعَيْبٍ: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].

وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ بُعِثُوا لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَدَعْوَةِ الْقَوْمِ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَاجْتِنَابِ عِبَادَةِ الطَّوَاغِيتِ وَالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

فَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لِأَجْلِهَا خَلَقَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذرايات:56]: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، إِلَّا لِيَصْرِفُوا الْعِبَادَةَ لِي وَحْدِي.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَظِيفَةَ الْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا!

الْعِبَادَةُ: هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.

وَهِيَ -أَيْضًا-: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْمَعْنَى اسْتَقَامَتْ حَيَاتُكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ تَحَوَّلَتِ الْحَيَاةُ كُلُّهَا إِلَى عِبَادَةٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُفْرِدَ رَبَّهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، مُخْلِصًا للهِ فِيهَا، وَأَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَةِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةٍ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ لَا تُقْبَلُ الْعِبَادَةُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَابَعَةُ مِنْ غَيْرِ إِخْلَاصٍ حَتَّى يَتَوَفَّرَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِهِ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ: الْإِخْلَاصُ وَالْمُتَابَعَةُ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.  

***

 

الدَّرْسُ الْعَاشِرُ

((الصِّيَامُ جُنَّةٌ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَالرَّسُولُ ﷺ لَمَّا وَضَّحَ لَنَا فَضْلَ الصِّيَامِ بَيَّنَ أَنَّهُ جُنَّةٌ.

وَ((الْجُنَّةُ)): مَا يَتَّقِي بِهِ الْمَرْءُ أَعْدَاءَهُ عِنْدَ النِّزَالِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلْتَهُ وَجَعَلْتَهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تَتَّقِيهِ فَهُوَ جُنَّةٌ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: ((وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ)) أَيْ: وِقَايَةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْوُقُوعِ فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ عِنْدَمَا دَعَا الشَّبَابَ إِلَى الزَّوَاجِ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ))، وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّكَاحِ بِكَافَّةِ صُوَرِهِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).

وَ(وِجَاءُ الْفَحْلِ مِنَ الْبُعْرَانِ): أَنْ تُؤْخَذَ خُصْيَتَاهُ فَتُجْعَلَانِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ تُرَضَّانِ رَضًّا حَتَّى تَنْقَطِعَ الشَّهْوَةُ مِنْهُ.

فَجَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ الصِّيَامَ لِلشَّابِّ كَذَلِكَ الْأَمْرِ لِلْفَحْلِ مِنَ الْبُعْرَانِ إِذَا مَا اسْتَعَرَتْ بِهِ شَهْوَتُهُ.

وَالرَّسُولُ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْبَشَرِيَّةِ مُطَبِّبًا لِأَدْوَائِهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَصِفُ عَوَامِلَ الشِّفَاءِ لِلْعِلَلِ الْبَادِيَةِ وَالْكَامِنَةِ فِي أَنْفُسِ الْخَلْقِ.

الرَّسُولُ ﷺ يَتَوَجَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْعَظِيمِ لِهَذِهِ الشَّرِيحَةِ مِنْ أُمَّتِهِ ﷺ، وَهَذِهِ الشَّرِيحَةُ مَظِنَّةُ أَنْ تَأْخُذَهَا الشَّهَوَاتُ لِهَذَا الشَّبَابِ الْمُسْتَعِرِ فِي الدِّمَاءِ وَفِي الْأَجْسَادِ الْفَتِيَّةِ فِي رَيْعَانِ صِبَاهَا وَفُتَائِهَا وَقُوَّتِهَا.. أَنْ يَأْخُذَهَا ذَلِكَ إِلَى مَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِتَصْرِيفِ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِ مَا يَحِلُّ أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ وَإِلَيْهِ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْعِلَاجَ قَائِمًا؛ هُوَ فِي قَطْعِ مَادَّةِ الشَّهَوَاتِ، وَفِي إِزَالَةِ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَاتِ وَالتَّوَرُّطِ فِي الزَّلَّاتِ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَأَغَضُّ لِلْبَصَرِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَدِيلًا، وَهَذَا الْبَدِيلُ بَدِيلٌ سَلْبِيٌّ -كَمَا تَرَى- لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ ﷺ وَأَمَرَ بِهِ لِتَصْرِيفِ الشَّهْوَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَرِّفَهَا فِيمَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَعَلَيْهِ بِقَطْعِ مَادَّةِ الشَّهْوَةِ بِإِدَامَةِ الصِّيَامِ.

فَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَعَلَهَا ﷺ مُحَصِّنَةً لِلْفَرْجِ وَغَاضَّةً لِلْبَصَرِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الزَّوَاجِ فِي قَطْعِ مَادَّةِ الشَّهَوَاتِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعِرَةً فِي الْأَجْوَافِ تُصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَرْضَاةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)): جُنَّةٌ مِنَ النِّيرَانِ؛ لِأَنَّهُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ)).

((تَأْثِيرُ الصَّوْمِ الْعَظِيمُ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ))

((لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَفِي حِمَايَتِهَا مِنَ التَّخْلِيطِ الْجَالِبِ لَهَا الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ الَّتِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا أَفْسَدَتْهَا، وَفِي اسْتِفْرَاغِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا.

فَالصَّوْمُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ صِحَّتَهَا، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَتْهُ مِنْهَا أَيْدِي الشَّهَوَاتِ، فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التَّقْوَى؛ إِذْ فِيهِ حَبْسٌ لِلنَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَفِطَامُهَا مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلُ قُوَّتِهَا الشَّهْوَانِيَّةِ لِتَسْتَعِدَّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمَّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيَّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعَ وَالظَّمَأَ مِنْ حِدَّتِهَا وَثَوْرَتِهَا، فَهُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ -يَعْنِي: الصَّوْمَ-)).

وَلَمَّا كَانَتْ مَصَالِحُ الصَّوْمِ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنَّةً.

((الصَّوْمُ عَنِ الشَّهَوَاتِ))

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ سِوَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ سِوَى النَّصَبِ وَالسَّهَرِ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِنَّمَا أَنْ يَفْطِمَ النَّفْسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَأَنْ يُسَدِّدَ اللِّسَانَ عَلَى الْمَنْطِقِ السَّوِيِّ الْمَشْرُوعِ، وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَصُومُ عَمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَكَيْفَ يَكُونُ رَاتِعًا وَالِغًا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ؟!!

وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فِي رَمَضَانَ فِي الْغِيبَةِ، وَفِي فَرْيِ أَدِيمِ أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَفِي الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمُشْكِلَتُهَا الْكُبْرَى أَنَّهَا فِيهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُسَامِحُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِحْلَالِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَسَيِّئَاتِهِمْ، ثُمَّ طُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.

النَّاسُ صَارُوا يَسْتَسْهِلُونَ بِأُمُورٍ رُبَّمَا تُخْرِجُ قَوْلًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ بِكَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَيَتَوَرَّطُونَ فِي جَرِيمَةِ الْقَذْفِ لِلْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَسْتَوْجِبُ حَدًّا بِضَرْبِهِ وَجَلْدِهِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا، وَيَكُونُ فَاسِقًا.

فَهَذِهِ أُمُورٌ يَسْتَهِينُ بِهَا الْخَلْقُ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَهُمْ يُشَمِّرُونَ فِي رَمَضَانَ عَنْ أَنْ يَحِيدُوا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، ثُمَّ يُمَضُّونَ سَائِرَ النَّهَارِ فِي الْوُلُوغِ وَفِيمَا يَرْتَعُونَ فِيهِ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!

((رَمَضَانُ زَمَانٌ شَرِيفٌ لَهُ حُرْمَةٌ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ رَمَضَانَ زَمَنٌ شَرِيفٌ، فَحُرْمَتُهُ الزَّمَانِيَّةُ كَحُرْمَةِ الْحَرَمِ الْمَكَانِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَمَدَّ حُرْمَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنْ نُزُولِ كَلَامِ اللهِ -تَعَالَى- فِيهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

فَحُقَّ لِشَهْرٍ تَنَزَّلَتْ فِيهِ آيَاتُ الْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ لِكُلِّ بَنِي الْإِنْسَانِ أَنْ تَكُونَ لِأَوْقَاتِهِ حُرْمَتُهَا وَعَظَمَتُهَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الْحَادِيَ عَشَرَ

((قِيمَةُ الْوَقْتِ فِي رَمَضَانَ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((خُصُوصِيَّةُ الزَّمَانِ فِي رَمَضَانَ))

فَإِنَّ لِلزَّمَانِ فِي رَمَضَانَ خُصُوصِيَّةً وَقِيمَةً، فَمَنْ أَضَاعَ أَوْقَاتَهُ فَقَدْ قَصَّرَ وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يُنْصِفْهَا فِي شَهْرٍ مِنَ الْعَامِ.

وَإِضَاعَةُ أَوْقَاتِ رَمَضَانَ يُقَاسُ عَلَيْهَا مَعَ الْفَارِقِ فِي الْخَسَارَةِ ضَيَاعُ أَوْقَاتِ الْعُمُرِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي رَمَضَانَ فَهُوَ فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ أَكْثَرُ تَقْصِيرًا، وَإِذَا غَفَلَ عَنْ تَصَرُّمِ أَوْقَاتِهِ وَضَيَاعِ سَاعَاتِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذُهُولِهِ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَرَاحِلِ سَفَرِهِ بَيْنَ انْطِلَاقِهِ أَوْ وُصُولِهِ.

فَرَاقِبْ مَسِيرَةَ عُمُرِكَ، وَقَارِنْهُ بِمَسِيرَةِ شَهْرِكَ، وَكَيْفَ قَضَاءُ وَقْتِكَ فِيهِ؛ لِتَعْلَمَ أَيْنَ أَنْتَ.

((عُمُرُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا سَفَرٌ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ))

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعَبْدُ مِنْ حِينَ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ إِلَى رَبِّهِ، وَمُدَّةُ سَفَرِهِ هِيَ عُمُرُهُ، وَالْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مَرَاحِلُ، فَلَا يَزَالُ يَطْوِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ السَّفَرُ، فَالْكَيِّسُ لَا يَزَالُ مُهْتَمًّا بِقَطْعِ الْمَرَاحِلِ فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ، لِيَجِدَ مَا قَدَّمَ حَاضِرًا)).

((نِدَاءٌ إِلَى الْمُضَيِّعِينَ زَمَانَ رَمَضَانَ))

أَيُّهَا الصَّائِمُ! تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسَائِلَ أَوْقَاتَ شَهْرِكَ عَنْ سَنَوَاتِ دَهْرِكَ، وَتَسْتَعْلِمَ مِنْ حَيَاتِكَ فِي رَمَضَانَ عَنْ مَسِيرَتِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَزْمَانِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- مُنَادِيًا مَنْ أَضَاعَ أَوْقَاتَهُ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ لِمَا سِوَاهَا فِي الْغَالِبِ أَضْيَعُ: ((يَا مَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ، يَا مَنْ فَرَّطَ فِي شَهْرِهِ بَلْ فِي دَهْرِهِ وَأَضَاعَهُ، يَا مَنْ بِضَاعَتُهُ التَّسْوِيفُ وَالتَّفْرِيطُ وَبِئْسَتِ الْبِضَاعَةُ، يَا مَنْ جَعَلَ خَصْمَهُ الْقُرْآنَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ! كَيْفَ تَرْجُو مِمَّنْ جَعَلْتَهُ خَصْمَكَ الشَّفَاعَةَ؟!)).

إِنَّنَا نُبْتَلَى فِي رَمَضَانَ بِالِاخْتِيَارِ بَيْنَ هُدَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهَدْيِ رَسُولِهِ ﷺ وَبَيْنَ نَزَعَاتِ النَّفْسِ وَنَزَغَاتِ الْهَوَى، فَلَا تَغْلِبَنَّكَ الْأَهْوَاءُ عَلَى رَأْسِ مَالِكَ الَّذِي هُوَ دَقَائِقُ عُمُرِكَ، فَاللهُ -تَعَالَى- يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتَبَاعَدَ عَنْ مَسَاخِطِهِ وَمَا يُغْضِبُهُ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يُرِيدُ أَقْوَامًا أَبَاعِدَ مِمَّنْ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ وَالشَّهَوَاتِ، يُرِيدُهُمْ أَلَّا يُبَاعِدُونَا فِيهِ عَنِ الطَّاعَاتِ وَعَنِ التَّقْوَى بِعَرْضِ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي الْإِذَاعَاتِ وَالْفَضَائِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُلْتَقَيَاتِ الْغَفْلَةِ وَمُنْتَدَيَاتِ الْإِسْفَافِ، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 26-27].

((رَمَضَانُ مِقْيَاسُ الْأَعْمَارِ وَالْأَوْقَاتِ))

إِنَّ رَمَضَانَ تَلُوحُ فِيهِ فُرْصَةٌ نَادِرَةٌ لِمُرِيدِ اغْتِنَامِ الْأَوْقَاتِ، وَاسْتِثْمَارِ الْأَعْمَارِ، فَرَمَضَانُ عُمُرٌ قَصِيرٌ وَأَجَلٌ مَحْدُودٌ، لَهُ بِدَايَةٌ مُنْتَظَرَةٌ وَنِهَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

إِنَّ رَمَضَانَ مِيزَانٌ وَمِقْيَاسٌ نَقِيسُ بِهِ مَدَى الْغَبْنِ الْحَاصِلِ فِي الْأَعْمَارِ وَالْأَوْقَاتِ، فَهُنَاكَ مَنْ يُغْبَنُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِهِ عَلَى أَمَلِ أَنْ يَنْشَطَ فِي أَوْسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَحِينَئِذٍ يُقَصِّرُ فِي نَوَالِ الْفَضْلِ، وَهُنَاكَ مَنْ يَنْشَطُ فِي أَوَّلِهِ وَيَكْسَلُ فِي أَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ انْشِغَالًا عَنِ الطَّاعَاتِ أَوِ اسْتِثْقَالًا لَهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَغْبُنُ نَفْسَهُ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَسْوَأَ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَجْرَ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ إِفْطَارَ الْقَلْبِ مَعَ صِيَامِ الْجَسَدِ، وَلِأَنَّ النَّوْمَ عَنِ الْقِيَامِ وَالْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ قِيَامَ شَهْرِ الطَّاعَةِ فِي سَهَرِ الْغَفْلَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يُبَاعِدُ عَنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَنْ مَغْفِرَتِهِ.

إِنَّ شَهْرَ الصِّيَامِ مِقْيَاسٌ وَمِيزَانٌ يُمَكِّنُنَا أَنْ نَقْتَرِبَ مِنَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي نُحِبُّ أَنْ نَضَعَ أَنْفُسَنَا فِيهَا فِي سَائِرِ أَعْمَارِنَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْزِلَةَ السَّابِقِينَ هِيَ الَّتِي تَشْرَئِبُّ إِلَيْهَا الْأَفْئِدَةُ، وَتَمْتَدُّ إِلَيْهَا الْأَعْنَاقُ، فَيُمْكِنُنَا أَنْ نُعَرِّضَ أَنْفُسَنَا لَهَا، وَأَنْ نَعْرِضَ أَنْفُسَنَا عَلَيْهَا فِي رَمَضَانَ؛ أَدَاءً لِلْفَرَائِضِ كَامِلَةً، وَإِكْثَارًا مِنَ النَّوَافِلِ، مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَرْكِ الْمَكْرُوهَاتِ، فَإِذَا نَجَحْنَا فِي اسْتِغْلَالِ أَوْقَاتِ الشَّهْرِ الْكَرِيمِ فِي ذَلِكَ التَّدْرِيبِ فَلَعَلَّ النَّفْسَ تَتَوَطَّنُ بِهِ عَلَى التَّدَرُّجِ فِي مَدَارِجِ الْقُرْبَى.

وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا لِلْقِيَامِ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ، وَلِلِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَانَا عَنْهُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّانِيَ عَشَرَ

((مَوَاقِفُ مِنْ جِهَادِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَتَضْحِيَاتِهِمْ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((جِهَادُ الصّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَتَضْحِيَاتُهُمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ))

فَالنَّاظِرُ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُدْرِكُ بِوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ وَالْمَنْزِلَةَ الْعَالِيَةَ وَالْمَكَانَةَ السَّامِيَةَ الَّتِي نَالَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَمُصْطَفَاهُ ﷺ، وَاخْتَصَّهُمْ بِهَذِهِ الصُّحْبَةِ الْعَظِيمَةِ، فَقَامُوا بِنُصْرَةِ دِينِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَتَضْحِيَةٍ، حَتَّى اسْتَقَامَ الْأَمْرُ، وَانْتَشَرَ الدِّينُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي أَرْضِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَبَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَعَظِيمَ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمِنْ رَسُولِهِ ﷺ فِي سُنَّتِهِ الْغَرَّاءِ.

((بَعْضُ بُطُولَاتِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ))

غَزْوَةُ أُحُدٍ غَزْوَةٌ مِنَ الْغَزَوَاتِ الْكِبَارِ، وَمَعْرَكَةٌ مِنَ الْمَعَارِكِ الْحَاسِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ، كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ جُرِحَ فِي أُحُدٍ جِرَاحَاتٍ قَوِيَّةً لَمْ يَقَعْ لَهُ مِثْلُهَا فِي سَائِرِ غَزَوَاتِهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ فِي أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ كَبِيرٌ؛ مِنْ أَشْهَرِهِمْ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ الرَّسُولِ ﷺ.

وَقَدِ اجْتَهَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، وَأَبْلَوْا فِيهَا بَلَاءً حَسَنًا؛ نُصْرَةً لِدِينِ اللهِ -تَعَالَى-، وَطَلَبًا لِثَوَابِهِ، وَدِفَاعًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

لَقَدْ ظَهَرَتْ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بُطُولَاتٌ عَظِيمَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: شِدَّةُ أَبِي دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْقِتَالِ، أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ السَّيْفَ، فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ -أَيْ: قَبْلَ أَبِي دُجَانَةَ-، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَتَرَكَنِي، وَاللهِ! لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ -وَالْعِصَابَةُ: هِيَ كُلُّ مَا يُعْصَبُ أَوْ يُلَفُّ وَيُشَدُّ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ عِمَامَةٍ- فَأَخْرَجَ عِصَابَةً لَهُ حَمْرَاءَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ -وَعَصَبَ الشَّيْءَ: طَوَاهُ وَلَوَاهُ- فَعَصَبَ بِتِلْكَ الْعِصَابَةِ رَأْسَهُ.

فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:

أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي = وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ

أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ = أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللهِ وَالرَّسُولِ

وَالْكَيُّولُ: الصَّفُّ الْأَخِيرُ فِي الْقِتَالِ.

فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ! وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَنَا جَرِيحًا إِلَّا ذَفَّفَ عَلَيْهِ -وَتَذْفِيفُ الْجَرِيحِ: الْإِجْهَازُ عَلَيْهِ وَقَتْلُهُ-، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ، فَدَعَوْتُ اللهَ -الدَّاعِي هُوَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- فَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْتَقَيَا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ، فَاتَّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ -وَالدَّرَقَةُ: التُّرْسُ مِنْ جُلُودٍ لَيْسَ فِيهِ خَشَبٌ وَلَا عَقَبٌ-، فَعَضَدَتْ بِسَيْفِهِ -عَضَدَتْ بِسَيْفِهِ: أَيْ لَزِمَتْه وَلَزِقَتْ بِهِ-، فَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ.

ثُمَّ أَمْعَنَ أَبُو دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الصُّفُوفِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، فَأَهْوَى بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ كَفَّ السَّيْفَ عَنْهَا.

قَالَ الزُّبَيْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَمَّا انْكَشَفَ الْقِتَالُ قُلْتُ لِأَبِي دُجَانَةَ: كُلَّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ مَا خَلَا رَفْعَكَ السَّيْفَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِمَ لَمْ تَضْرِبْهَا؟!!

فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَحْمِشُ النَّاسَ حَمْشًا شَدِيدًا -يَحْمِشُ النَّاسَ: أَيْ يَسُوقُهُمْ بِغَضَبٍ-، فَصَمَدْتُ لَهُ -أَيْ: فَقَصَدْتُ لَهُ-، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلْوَلَ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ».

وَمِنَ الَّذِينَ أَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا يَوْمَ أُحُدٍ وَقُتِلُوا: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جِيءَ بِأَبِي مُسَجًّى -أَيْ: مُغَطًّى- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -مُثِّلَ بِهِ وَمَثَّلْتَ بِالْقَتِيلِ: إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ أُذُنَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).

فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.

قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ: بِنْتُ عَمْرٍو، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو)).

فَقَالَ ﷺ: ((وَلِمَ تَبْكِي؟! فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ)).

قَالَ الْحَافِظُ: (( ((وَلِمَ تَبْكِي؟!))؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَلِيلَ الْقَدْرِ الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَحُ لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَقِيَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ لِي: ((يَا جَابِرُ! مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟)).

فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا)).

فَقَالَ ﷺ: ((أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا -أَيْ: مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ-، فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ أُعْطِكَ! قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169])).

وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ، وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْنَاءٍ شَبَابٍ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَبْنَاؤُهُ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَذِنَ لَهُ.

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى أُقْتَلَ؛ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟!!)) وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ)).

فَقَتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ)).

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا عَمْرُو! لَا تَأَلَّ عَلَى اللهِ)) أَيْ: لَا تَحْلِفْ عَلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَهْلًا يَا عُمَرُ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ)).

وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلِمَةَ.

وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مَوْقِفٌ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَذَلِكَ فِي إِظْهَارِ شَوْقِهِ الشَّدِيدِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-، مَعَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ عَذَرَهُ فِي الْقُعُودِ لِعَرَجِهِ الشَّدِيدِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّالِثَ عَشَرَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 3))

((أَوَّلُ حُدُوثِ الشِّرْكِ وَسَبَبُهُ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَوَّلُ حُدُوثِ الشِّرْكِ))

فَإِنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَكَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشْرَةُ قُرُونٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْقُرُونِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَلَمَّا أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ؛ عَانَدُوا وَأَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَقَابَلُوا نُوحًا بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَالُوا كَمَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ-: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: ((هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، لَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا -أَصْنَامًا مُصَوَّرَةً عَلَى صُوَرِهِمْ أَيْ: صَوِّرُوهُمْ عَلَى صُوَرِ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ-، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ -أَيْ: أَوَّلَ الْأَمْرِ- حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ -أَيِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا تِلْكَ الْأَنْصَابَ- وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ؛ عُبِدَتْ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ)).

وَهَذَا أَمْرٌ مُهِمٌّ: الشَّيْطَانُ يَتَسَلَّلُ إِلَى الْإِنْسَانِ لِيَفْتِنَ قَلْبَهُ عَنِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَتَّبِعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.

((سَبَبُ الشِّرْكِ الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ))

مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّ الشِّرْكَ إِنَّمَا حَدَثَ فِي بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الْغُلُوِّ فِي الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ نُوحٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ لِقَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا يُذَكِّرُونَهُمْ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا عَلَى صُوَرِ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، وَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهَا نُسِيَ الْعِلْمُ؛ فَعُبِدَتْ.

وَمَعْنَى الْغُلُوِّ: الْإِفْرَاطُ بِالتَّعْظِيمِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ.

قَالَ ﷺ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)).

أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي مَدْحِي، فَتُنَزِّلُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ بِهَا.

وَلَكِنْ أَبَى الْجَاهِلُونَ وَالْمُخَرِّفُونَ إِلَّا مُخَالَفَةَ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ، وَارْتِكَابَ نَهْيِهِ، فَنَاقَضُوهُ أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ، وَبَنَوُا الْقِبَابَ وَالْمَسَاجِدَ عَلَى أَضْرِحَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَصَلَّوْا فِيهَا، وَإِنْ كَانَ للهِ لَكِنْ بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ لِلْمَقْبُورِينَ، وَطَافُوا بِقُبُورِهِمْ، وَاسْتَغَاثُوا رَبَّهُمْ فِي كَشْفِ الْمُلِمَّاتِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ!

قَالَ ﷺ: ((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ -أَيْ: كَنَائِسَ وَبِيَعًا يَتَعَبَّدُونَ وَيَسْجُدُونَ فِيهَا للهِ-)) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا)).

لَعَنَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ اتِّخَاذُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ؛ أَيْ: كَنَائِسَ وَبِيَعًا يَتَعَبَّدُونَ وَيَسْجُدُونَ فِيهَا للهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهَا مَسَاجِدَ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعْنَى لَا بِالِاسْمِ.

وَمَثَلُ ذَلِكَ: الْقِبَابُ وَالْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْمَسَاجِدُ الْمَلْعُونُ مَنْ بَنَاهَا عَلَى قُبُورِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهَا مَنْ بَنَاهَا مَسَاجِدَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْبِنَاءَ عَلَى قُبُورِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ ﷺ لَعَنَ مَنْ بَنَى الْمَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ بِمَنْ بَنَاهَا عَلَى قُبُورِ غَيْرِهِمْ!

وَجَرَى مِنْهُمُ الْغُلُوُّ فِي الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ مَا يَطُولُ عَدُّهُ، حَتَّى جَوَّزُوا الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ بِاللهِ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ عِلْمَ الْغَيْبِ!! حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْغُلَاةِ: لَمْ يُفَارِقِ الرَّسُولُ الدُّنْيَا حَتَّى عَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ!! وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْقُرْآنِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: ٥٩].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: ٣٤].

وَقَالَ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ رَسُولِهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: ١٨٨].

وَقَالَ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥].

فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِفْرَادُهُ -تَعَالَى- بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ)).

وَكَوْنُهُ ﷺ أَخْبَرَ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فَهُوَ مِنْ وَحْيِ اللهِ لَهُ.

وَإِذْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الشِّرْكَ حَدَثَ بِسَبَبِ الْغُلُوِّ فِي الصَّالِحِينَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ يَدْعُونَ الْعِبَادَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، لَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَنَحْوِهِ، إِذِ الْخَلْقُ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُمْ، وَأَنَّهُ مَالِكُهُمْ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، وَأَنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلِذَا قَالُوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: ٧٠] أَيْ: لِنُفْرِدَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنَخُصَّهُ بِهَا مِنْ دُونِ أَوْلِيَائِنَا.

كَانُوا يَعْلَمُونَ مَوْطِنَ النِّزَاعِ، لَمْ يَكُنِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الْمُرْسَلُونَ يَظُنُّونَ بَلْهَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا جَاءُوا لِكَيْ يُقِرَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ مَالِكُهُمْ، هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِيهِ إِلَّا الدَّهْرِيَّةُ وَهُمْ قَلِيلٌ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَإِلَّا الشُّيُوعِيُّونَ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ، وَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُؤْبَهُ لَهُمْ.

لِذَلِكَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}.

أَجِئْتَنَا لِكَيْ نَصْرِفَ جَمِيعَ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ هُوَ الْإِلَهُ الْحقُّ، وَلَا نَتَقَرَّبَ إِلَى الْآلِهَةِ لِتَشْفَعَ لَنَا عِنْدَهُ وَتُقَرِّبَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى؟!

هَذَا مَوْطِنُ النِّزَاعِ، وَالْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ لَمْ يُحَرِّرْهُ، كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَوْطِنَ النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَقْوَامِهِمْ، لَا يَعْلَمُونَ مَوْطِنَ النِّزَاعِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا كَانَ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَبِالْخَلْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّهُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَازَعُوا فِيهِ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُتَّخَذَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ سُلَّمًا لِإِقْرَارِهِمْ بِمَا جَحَدُوهُ وَأَشْرَكُوا فِيهِ مِنْ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ.

كَانَ مَوْطِنُ الْخُصُومَةِ فِي صَرْف أَلْوَانٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ.

يَنْبَغِي أَنْ نَفْهَمَ هَذَا فَهْمًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَمَّا وَقَعَ فِيهِ الْخَلَلُ انْحَرَفَتْ جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَنْ مَسَارِهَا الصَّحِيحِ، إِذَا صُحِّحَ هَذَا اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، إِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ مَا خَلَقَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ، وَلِأَجْلِهِ أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَبِهِ جَاءَ رَسُولُ اللهِ وَجَمِيعُ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ، إِذَا عَلِمَ هَذَا عِلْمًا صَحِيحًا وَالْتَزَمَهُ وَأَتَى بِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْأُمَّةِ.

((ضَرُورَةُ تَعَلُّمِ التَّوْحِيدِ))

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ التَّوْحِيدَ أَصْلَ الْأُصُولِ, وَنَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ؛ لِتَوَقِّيهِ؛ لِأَنَّنَا إِذَا لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ تَوَرَّطْنَا -عِيَاذًا بِاللَّهِ- فِيهِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ تَحْقِيقًا, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهِ, وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَيِّدِ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الرَّابِعَ عَشَرَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 4))

((مَفْهُومُ الْعِبَادَةِ وَأَرْكَانُهَا))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ))

فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْعِبَادَةُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39-38].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي غَيْرِهَا الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَبَيَّنَهُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَانًا جَلِيًّا وَاضِحًا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى قَاصِدِ حَقٍّ وَسَالِكِ سَبِيلِ صَوَابٍ.

((مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَرْكَانُهَا))

إِذَا كَانَ هَذَا الْمَقْصِدُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَقَدْ تَوَجَّبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مَا حَقِيقَتُهَا؟

الْعِبَادَةُ: ((اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ)).

وَقِيلَ: الْعِبَادَةُ: اسْمٌ يَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ للهِ وَنِهَايَتَهُ، وَكَمَالَ الذُّلِّ للهِ وَنِهَايَتَهُ، فَهِيَ كَمَالُ حُبٍّ فِي كَمَالِ ذُلٍّ.

وَقِيلَ: عِبَادَةُ اللهِ: طَاعَتُهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْذُورِ)).

وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ؛ فَأَصْلُ الْعِبَادَةِ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَسُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَهَا وَيَفْعَلُونَهَا خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّحْقِيقُ بِمَعْنِى قَوْلِهِ: ((إِنِّي عَبْدُكَ)): الْتِزَامُ عُبُودِيَّتِهِ مِنَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ سَيِّدِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَدَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَاللُّجُوءُ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَعِيَاذُ الْعَبْدِ بِهِ وَلِيَاذُهُ بِهِ، وَأَلَّا يَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِغَيْرِهِ مَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً.

وَفِيهِ -أَيْضًا-: أَنِّي عَبْدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، حَيًّا وَمَيِّتًا، مُطِيعًا وَعَاصِيًا، مُعَافًى وَمُبْتَلًى، بِالرُّوحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ: ((الْعِبَادَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: غَايَةُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ -يَعْنِي: غَايَةَ الْحُبِّ وَغَايَةَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ-، فَمَنْ أَحْبَبْتَهُ وَلَمْ تَكُنْ خَاضِعًا لَهُ لَمْ تَكُنْ عَبْدًا لَهُ، وَمَنْ خَضَعْتَ لَهُ بِلَا مَحَبَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَابِدًا لَهُ حَتَّى تَكُونَ مُحِبًّا خَاضِعًا)).

فَأَرْكَانُ الْعِبَادَةِ كَمَا بَيَّنَهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- رُكْنَانِ:

-غَايَةُ الْحُبِّ.                 

-وَغَايَةُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ.

وَهَذَا مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((النُّونِيَّة)):

وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ        =       مَعَ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ

وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ     =       مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الْخَامِسَ عَشَرَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 5))

((أَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ وَأَدِلَّتُهَا))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((صَرْفُ جَمِيعِ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ))

فَقَدْ حَدَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَايَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ الْخَلْقَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَهَذَا أُسْلُوبُ قَصْرٍ حَصَرَ فِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ مِنْ أَمْرِ عِبَادَتِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

وَإِفْرَادُ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِالْعِبَادَةِ: هُوَ صَرْفُ جَمِيعِ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، فَلَا يُعْبَدُ فِي الْحَقِيقَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَّا اللهُ، وَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ إِلَّا للهِ، فَإِنْ صُرِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ الشِّرْكُ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُسَامِحُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَتَهَاوَنُ فِي الْحِسَابِ عَلَيْهِ.

((أَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ وَأَدِلَّتُهَا))

اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ: الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَالطَّوَافَ، وَالنَّذْرَ، وَالذَّبْحَ، وَالِاسْتِغَاثَةَ، وَالِاسْتِعَانَةَ، وَالْحَلِفَ، وَالتَّوَكُّلَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَدَلِيلُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

وَدَلِيلُ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ: قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: ١٦٢-163].

{وَنُسُكِي}: النُّسُكُ بِمَعْنَى: الْعِبَادَةِ، أَوِ: الذَّبْحِ.

وَقَوْلُهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢] أَيْ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ لِرَبِّكَ، أَوِ: انْحَرْ لَهُ لَا تَنْحَرْ لِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّكَ لَا تُصَلِّي لِسِوَاهُ.

وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ)).

أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ، وَالرُّكُوعُ عِبَادَةٌ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ اللهِ؛ فَلَا يَرْكَعُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، وَلَا يَنْحَنِي أَحَدٌ لِأَحَدٍ تَعْظِيمًا؛ فَالِانْحِنَاءُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالتَّعْظِيمِ لِمَنِ انْحَنَى لَهُ رُكُوعٌ لِغَيْرِ اللهِ، وَالسُّجُودُ عِبَادَةٌ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ اللهِ، فَلَا يُسْجَدُ لِلصَّنَمِ، وَلَا يُسْجَدُ لِلْقَبْرِ، وَلَا يُسْجَدُ لِلضَّرِيحِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ.

وَالذَّبْحُ الَّذِي يَقَعُ عِبَادَةً بِأَنْ يَقْصِدَ بِهِ الذَّابِحُ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ وَالتَّذَلُّلَ لَهُ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ، هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ -تَعَالَى- عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَصَرْفُ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللهِ -تَعَالَى- شِرْكٌ أَكْبَرُ.

وَدَلِيلُ النَّذْرِ وَالطَّوَافِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٢٩] أَيْ: لَا يَنْذِرُوا لِغَيْرِ اللهِ، وَلَا يَطُوفُوا بِغَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَلَا يَجُوزُ النَّذْرُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلَا لِلصَّالِحِينَ، وَلَا الطَّوَافُ بِقُبُورِهِم كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُونَ بِقَبْرِ الْجَيْلَانِيِّ وَالْحُسَيْنِ وَالْبَدَوِيِّ وَالدُّسُوقِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا شِرْكٌ لَا مِرَاءَ فِيهِ.

وَدَلِيلُ الْحَلِفِ: الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).

وَفِي لَفْظٍ: ((فَقَدْ كَفَرَ)).

وَالْحَلِفُ بِالشَّيْءِ تَعْظِيمٌ لَهُ، وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَظَّمَ وَيُحْلَفَ بِهِ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْحَلِفُ بِغَيْرِهِ شِرْكٌ.

وَدَلِيلُ الِاسْتِعَانَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥].

وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)).

وَالِاسْتِعَانَةُ: طَلَبُ الْعَوْنِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ مُتَضَمِّنَةٌ لِكَمَالِ الذُّلِّ لَهُ -تَعَالَى-، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَاعْتِقَادِ كِفَايَتِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِعَانَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا للهِ.

وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْأَمْوَاتِ مُطْلَقًا، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْأَحْيَاءِ عَلَى أَمْرٍ غَائِبٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ شِرْكٌ.

وَدَلِيلُ الْخَوْفِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٧٥].

وَالْخَوْفُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ تَعْظِيمٌ وَمَحَبَّةٌ لِلْمَخُوفِ، وَهُوَ خَوْفُ السِّرِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ اللهِ، وَصَرْفُهُ لِغَيْرِ اللهِ -تَعَالَى- شِرْكٌ أَكْبَرُ.

وَأَمَّا الْخَوْفُ الطَّبْعِيُّ كَخَوْفِ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّبُعِ وَمِنَ النَّارِ وَمِنَ الْحَيَّةِ وَمِنَ الْغَرَقِ فَهَذَا لَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ.

وَدَلِيلُ التَّوَكُّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: ٢٣].

حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: أَنْ يَعْتَمِدَ الْعَبْدُ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ- اعْتِمَادًا صَادِقًا فِي مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، مَعَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ الْمَأْذُونِ فِيهَا.

وَدَلِيلُ الرَّهْبَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: ٤٠].

وَدَلِيلُ الِاسْتِغَاثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: ١٠٦].

وَهَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ -كَمَا تَرَى- أَيْ: لَا تَدْعُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ دُونِ مَعْبُودِكَ وَخَالِقِكَ شَيْئًا لَا يَنْفَعُكَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَضُرُّكَ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، فَإِنْ فَعَلْتَ: فَدَعَوْتَهَا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّكَ -إِذَنْ- مِنَ الظَّالِمِينَ -أَيِ: الْمُشْرِكِينَ بِاللهِ-.

وَالرَّسُولُ ﷺ مَعْصُومٌ مِنَ الشِّرْكِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: مِنْ صَغَائِرِهَا -أَيْضًا-، وَإِنَّمَا هَذَا تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ.

وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: ١٠٧].

وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: ٥-6].

الِاسْتِغَاثَةُ: هِيَ طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِنْقَاذُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْهَلَاكِ.

وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَمْوَاتِ أَوْ بِالْأَحْيَاءِ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الْإِغَاثَةِ شِرْكٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ تَصَرُّفًا خَفِيًّا فِي الْكَوْنِ، فَيَجْعَلُ لَهُمْ حَظًّا فِي الرُّبُوبِيَّةِ.

وَأَمَّا الِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَحْيَاءِ الْعَالِمِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْإِغَاثَةِ فَهَذَا جَائِزٌ، كَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِغَاثَةِ:

أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ: هِيَ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ.

وَالِاسْتِغَاثَةَ: طَلَبُ إِزَالَةِ الشِّدَّةِ، وَالِاثْنَتَانِ تَتَطَلَّبَانِ كَمَالَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللهِ مَعَ اعْتِقَادِ كِفَايَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالْمُسْتَغِيثُ بِالْمَخْلُوقِ إِنَّمَا يُنَادِي وَيَدْعُو غَيْرَ اللهِ؛ كَأَنْ يَسْتَغِيثَ قَائِلًا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْقِذْنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ، أَوْ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ، أَوْ يَا دُسُوقِيُّ، أَوْ يَا رِفَاعِيُّ، أَوْ يَا بَدَوِيُّ.. إلخ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ دَاخِلٌ فِي عِدَادِ الظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ.

وَكَيْفَ يَسْتَغِيثُ الْعَاقِلُ الْمُؤْمِنُ بِغَيْرِ اللهِ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ يَسْمَعُهَا؟!!

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: ٦٢].

يُبَيِّنُ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الْمُضطَرَّ وَيَكْشِفُ السُّوءَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمُ الشُّفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ؛ أَيْ: لَيْسَ إِلَهٌ مَعَ اللهِ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.

وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أَيْ: أُجِبْ دُعَاءَكُمْ، وَأَعْفُ عَنْكُمْ.

وَقَالَ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)).

فَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِشَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ: الرَّجَاءُ.

وَالرَّجَاءُ: هُوَ طَمَعُ الْإِنْسَانِ فِي أَمْرٍ قَرِيبِ الْمَنَالِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدَ الْمَنَالِ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ.

وَالرَّجَاءُ الْمُتَضَمِّنُ لِلذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ، فَإِذَا صُرِفَ لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ شِرْكٌ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْجَى إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ بِحَسَبِ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الرَّاجِي، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْجَى إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ: الْمَحَبَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة: 165].

وَمَحَبَّةُ الْعِبَادَةِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا ذُلٌّ وَخُضُوعٌ لِلْمَحْبُوبِ، وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ السَّادِسَ عَشَرَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 6))

((حُكْمُ صَرْفِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ))

فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا بُدَّ أَنْ تُخْلَصَ الْعِبَادَةُ لَهُ وَحْدَهُ.

لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، الْغَايَةُ مِنَ الْخَلْقِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّاسَ، وَخَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِنَّ، وَخَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَالَّتِي لِأَجْلِهَا تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ مِنْ أَمَامَ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، الْغَايَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ: هِيَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

((حُكْمُ صَرْفِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))

مَنْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ لِحَيٍّ أَوْ لِمَيِّتٍ، أَوْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللهِ؛ كَأَنْ يَنْذِرَ لِقُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ أَوِ الصَّالِحِينَ، أَوْ يَذْبَحَ لَهُمْ، أَوْ لِلْأَشْجَارِ أَوْ لِلْعُيُونِ أَوْ لِلْكُهُوفِ أَوْ لِلْمَقَامَاتِ وَالْأَضْرِحَةِ، أَوْ يَطُوفَ بِقَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ؛ كَأَنْ يَطُوفَ بِقَبْرِ الرَّسُولِ، أَوْ بِقَبْرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ بِقَبْرِ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ، أَوْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، أَوْ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجَيْلَانِيِّ، أَوِ الْبَدَوِيِّ، أَوِ الرِّفَاعِيِّ أَوْ زَيْنَبَ أَوْ رُقَيَّةَ، أَوْ غَيْرِهِمْ.

أَوْ يَسْتَغِيثُ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْقِذْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ! فَرِّجْ عَنِّي هَذَا الْكَرْبَ، الْمَدَدَ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ يَا جَيْلَانِيُّ.

أَوْ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِ اللهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ؛ كَأَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْمَخْلُوقِ شَفَاعَةً عِنْدَ اللهِ، أَوْ مَغْفِرَةً لِلذُّنُوبِ، أَوْ تَحْصِيلًا لِلْجَنَّةِ أَوْ نَجَاةً مِنَ النَّارِ، أَوْ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا، أَوْ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى الْغَيْبِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي قُدْرَةِ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَفْعَلَهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُشْرِكًا بِاللهِ الْعَظِيمِ شِرْكًا أَكْبَرَ، لَا يَغْفِرُ اللهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: ٤٨].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ((الشِّرْكُ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ، فَمَنْ خَلُصَ مِنْهُمَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْأَكْبَرِ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَمَنْ خَلُصَ مِنَ الْأَكْبَرِ وَحَصَلَ لَهُ بَعْضُ الْأَصْغَرِ مَعَ حَسَنَاتٍ رَاجِحَةٍ عَلَى ذُنُوبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ خَلُصَ مِنَ الْأَكْبَرِ وَلَكِنْ كَثُرَ الْأَصْغَرُ حَتَّى رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ دَخَلَ النَّارَ، فَالشِّرْكُ يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَبْدُ إِذَا كَانَ أَكْبَرَ، أَوْ كَانَ كَثِيرًا أَصْغَرَ، وَالْأَصْغَرُ الْقَلِيلُ فِي جَانِبِ الْإِخْلَاصِ الْكَثِيرِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ)).

فَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ كَالسُّجُودِ وَالنَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَالْأَصْغَرُ كَالرِّيَاءِ، وَالْحَلَفِ بِغَيْرِ اللهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ تَعْظِيمَ الْمَخْلُوقِ كَتَعْظِيمِ اللهِ.

أَمَّا مَا كَانَ فِي إِمْكَانِ الْمَخْلُوقِ الْحَيِّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ؛ مِثْلَ: أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ إِنْقَاذًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ مَا سِوَى ذَلِكَ.

((الْآيَاتُ الْآمِرَةُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْمُبَيِّنَةُ عَجْزَ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ))

هَذَا وَقَدْ أَكْثَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ مِنَ الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ٢١].

وَقَالَ اللهُ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: ٣٦].

وَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: ٢٣].

وَقَالَ مُبَيِّنًا عَجْزَ تِلْكَ الْآلِهَةِ الَّتِي عَبَدَهَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ أَنْ تَجْلِبَ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ ضُرًّا، بَلْ وَلَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: ٧٣].

وَقَالَ مُبَيِّنًا أَنَّ النّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: ١٠٧].

وَأَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهُ يُبَكِّتُ النَّصَارَى وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لِلْمَسِيحِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: ١١٦-١١٧].

فَانْظُرُوا كَيْفَ يَتَبَرَّأُ الْمَسِيحُ مِنْ عُبَّادِهِ النَّصَارَى وَيَقُولُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: ١١٧].

وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَأْمُرْ بِعِبَادَتِهِ، وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يُرِيدُ اللهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ عِبَادَةَ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ لَا تَجُوزُ، بَلْ وَيَكُونُ شِرْكًا؛ فَكَيْفَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنَ الْأَشْجَارِ، وَمِنَ الْغِيرَانِ وَالْكُهُوفِ؟!!

أَلَمْ يَسْمَعْ هَؤُلَاءِ قَوْلَ اللهِ الْعَظِيمِ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٨٠].

أَلَمْ يَنْعَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِاتِّخَاذِهِمْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣١].

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: ((إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ)).

قَالَ: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟!)).

فَقُلْتُ: ((بَلَى)).

قَالَ: ((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)).

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ يُصَرِّحُ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ هِيَ طَاعَتُهُمْ فِي خِلَافِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

((وُجُوبُ مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ مِنْ أَجْلِ اجْتِنَابِهِ))

فَيَجِبُ -إِذَنْ- أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ؛ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ السَّابِعَ عَشَرَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 7))

((مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَنَوَاقِضُ الْإِسْلَامِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْفَرْقُ بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ))

فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَرْقَ بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَلَاءِ.

وَذَلِكَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخْطِئِينَ فَسَّرُوا كَلِمَةَ (الْإِلَه) بِالْقَادِرِ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، أَوِ الْخَالِقِ، أَوِ الْمَالِكِ.

وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِلَهُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا، وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ)).

قَالُوا: (({أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 5-7])).

فَكَانُوا يَعْلَمُونَ مَعْنَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ، وَتَعَجَّبْ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ}، فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْبَاطِلِ يَتَوَاصُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الْمُبِينِ؛ فَمَا بَالُ أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَتَآزَرُونَ وَلَا يَتَنَاصَرُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ} [ص: 6].

فَلِمَاذَا لَا يَصْبِرُ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِخْلَاصًا للهِ فِي الدَّعْوَةِ، وَصَبْرًا عَلَى لَأْوَائِهَا؟!!

وَأَمَّا لَفْظُ الْجَلَالِةِ فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى اللهِ الْعَظِيمِ، فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعْنَى الْإِلَهِ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا، وَالْبَلِيَّةُ كُلُّ الْبَلِيَّةِ وَالْجَهْلُ كُلُّ الْجَهْلِ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِمَّنْ يَنْطِقُونَ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ!

((مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))

فَلَوْ عَرَفُوا أَنَّ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهُ..

فَـ((لَا إِلَهَ)): نَفْيٌ لِجَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ الْبَاطِلَةِ.

وَ((إِلَّا اللهُ)): إِثْبَاتٌ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ -جَلَّ جَلَالُهُ-.

لَوْ عَرَفُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَعَرَفُوا أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ لِأَوْلِيَائِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَقُبُورِ صَالِحِيهِمْ؛ مِنَ الذَّبْحِ أَوِ النَّذْرِ لَهُمْ، أَوِ التَّبَرُّكِ بِتُرَابِ قُبُورِهِمْ، أَوِ الصَّلَاةِ إِلَيْهِمْ، أَوِ الطَّوَافِ بِأَضْرِحَتِهِمْ، أَوْ طَلَبِ الْمَدَدِ وَالْعَوْنِ مِنْهُمْ.. لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا تَأْلِيهٌ لِأُولَئِكَ الصَّالِحِينَ، وَالْإِلَهِيَّةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ.. لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا تَأْلِيهٌ لِأُولَئِكَ الصَّالِحِينَ، وَالْإِلَهِيَّةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ، لَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: ٧٢].

وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ سَبْعَةِ شُرُوطٍ، وَهِيَ: ((الْعِلْمُ، وَالْيَقِينُ، وَالْإِخْلَاصُ، وَالصِّدْقُ، وَالْمَحَبَّةُ، وَالِانْقِيَادُ، وَالْقَبُولُ)).

((نَوَاقِضُ الْإِسْلَامِ))

وَإِذْ ذَكَرْتُ شُرُوطَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَمِنَ الْجَدِيرِ أَنْ أَذْكُرَ نَوَاقِضَ الْإِسْلَامِ:

الْأَوَّلُ: الشِّرْكُ فِي عِبَادَةِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

الثَّانِي: مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمُ الشَّفَاعَةَ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ؛ فَقَدْ كَفَرَ إِجْمَاعًا.

 الثَّالِثُ: مَنْ لَمْ يُكَفِّرِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ؛ كَفَرَ.

الرَّابِعُ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ أَكْمَلُ مِنْ هَدْيِهِ، أَوْ أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ؛ كَالَّذِينَ يُفَضِّلُونَ حُكْمَ الطَّوَاغِيتِ عَلَى حُكْمِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ.

الْخَامِسُ: مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَلَوْ عَمِلَ بِهِ؛ كَفَرَ.

السَّادِسُ: مَنِ اسْتَهْزَأَ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ﷺ أَوْ ثَوَابِهِ أَوْ عِقَابِهِ؛ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].

 السَّابِعُ: السِّحْرُ، وَمِنْهُ الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ، فَمَنْ فَعَلَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].

 الثَّامِنُ: مُظَاهَرَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

التَّاسِعُ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسَعُهُ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهُوَ كَافِرٌ.

الْعَاشِرُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22].

وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ بَيْنَ الْهَازِلِ وَالْجَادِّ، وَالْخَائِفِ إِلَّا الْمُكْرَهَ، وَكُلُّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ خَطَرًا، وأَكْثَرِ مَا يَكُونُ وُقُوعًا؛ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَهَا، وَيَخَافَ مِنْهَا -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ-.

((مَعْنَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ))

وَلَوْ عَرَفُوا أَنَّ مَعْنَى ((أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)): طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَأَلَّا يَعْبُدُوا اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَتَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧].

وَقَوْلَهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥].

وَقَوْلَهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ٦٣].

وَقَوْلَهُ ﷺ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). متفق عليه.

((بَيَانُ بَعْضِ الْبِدَعِ الْمُنَاقِضَةِ لِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ))

لَوْ عَرَفَ النَّاسُ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ لَعَلِمُوا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ صَلَوَاتِهِمْ وَأَدْعِيَتِهِمْ وَأَذْكَارِهِمْ وَأَحْزَابِهِمْ -مِمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ أَوِ الْمُتَصَوِّفَةُ الْجَاهِلُونَ- أَنَّهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.

 وَالْبِدْعَةُ: هِيَ الْأَمْرُ الْمُحْدَثُ بَعْدَ الرَّسُولِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ.

فَبِقَصْدِ التَّقَرُّبِ خَرَجَتِ الْبِدَعُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَإِحْدَاثِ السَّيَّارَاتِ وَالطَّائِرَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَتَقْسِيمُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْبِدْعَةَ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ.

وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا قِسْمَانِ: دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ.

الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ مِثْلُ: الذِّكْرِ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ: (اللهُ اللهُ، أَوْ -بِالضَّمِيرِ-: يَا هُوَ يَا هُوَ).

وَمِثْلُ: حِلَقِ الْمُرِيدِينَ -اجْتِمَاعُهُمْ فِي حَلْقَاتٍ- الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللهَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَذْكَارِ الْمُخْتَرَعَةِ.

وَكَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَمِثْلُ ابْتِهَالَاتٍ وَصَلَوَاتٍ وَمُنَاجَاةٍ وَإِنْشَادِ قَصَائِدَ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ ﷺ فَوْقَ الْمَنَائِرِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِهَا، وَبَعْضِ صِيَغِ صَلَوَاتٍ عَلَى الرَّسُولِ لَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِهَا:

مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ((اللهم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَدَدَ مَا فِي عِلْمِ اللهِ صَلَاةً دَائِمَةً بِدَوَامِ مُلْكِ اللهِ)).

وَكَقَوْلِهِمْ: ((اللهم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كُلَّمَا ذَكَرَكَ الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ الْغَافِلُونَ!)).

فَهَذِهِ مِنَ الصِّيَغِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ يُرْشِدْ إِلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ.

وَالصِّيَغُ الْوَارِدَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الرَّسُولِ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ، لَا حَاجَةَ إِلَى الِاخْتِرَاعِ وَالِابْتِدَاعِ فِي صِيَغِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ ﷺ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوْقِيفِ.

وَمِنَ الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ ﷺ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قُولُوا: اللهم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)).

وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ عَرَفْنَاهُ؛ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟)).

قَالَ: ((قُولُوا: اللهم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ)).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّامِنَ عَشَرَ

((فَضَائِلُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ شَأْنِ أَوْلِيَاءِ اللهِ))

فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قِيَامُ اللَّيْلِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقُرْبَةٌ مُعَظَّمَةٌ فِي سَائِرِ لَيَالِي الْعَامِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالتَّوْجِيهِ إِلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِبَيَانٍ عَظِيمٍ شَأْنُهُ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ -يَعْنِي قِيَامَ اللَّيْلِ- شَأْنُ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَخَاصَّتِهِ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي مَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].

فَقَدْ مَدَحَ اللهُ -تَعَالَى- أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى بِجَمِيلِ الْخِصَالِ، وَجَلِيلِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ أَخَصِّ ذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩ (15) تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15-17].

وَوَصَفَهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 64-65].. إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75-76].

وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَرِيمِ عَائِدَتِهِ مَا لَا يَخْفَى، وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ صَرْفِ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَجِوَارِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ -جَعَلَنَا اللهُ مِمَّنْ فَازَ بِذَلِكَ-.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ بِجُمْلَةِ صِفَاتٍ مِنْهَا قِيَامُ اللَّيْلِ، فَازُوا بِهَا بِفَسِيحِ الْجَنَّاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 15-17].

فَصَلَاةُ اللَّيْلِ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي تَثْبِيتِ الْإِيمَانِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى جَلِيلِ الْأَعْمَالِ، وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الْأَحْوَالِ وَالْمَآلِ.

((فَضَائِلُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لَقَدْ ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةِ- صَلَاةُ اللَّيْلِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ ﷺ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا بِلَفْظٍ مُخْتَلِفٍ.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ)).

فَنَخْلُصُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ مِنْ أَسْبَابِ وَلَايَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَمِنْ أَسْبَابِ ذَهَابِ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ، وَتَوَالِي الْبِشَارَاتِ بِأَلْوَانِ التَّكْرِيمِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الصَّالِحِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهَا، وَالْفَوْزِ بِأَعْلَى مَطَالِبِهَا.

وَأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَهِيَ قُرْبَةٌ إِلَى الرَّبِّ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ.

وَقِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ أَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ، وَالسَّلَامِ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَهُوَ سَبَبٌ يَعْنِي: قِيَامَ اللَّيْلِ- لِمَغْفِرَةِ سَائِرِ الذُّنُوبِ.

((قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ شَعَائِرِ رَمَضَانَ الْعَظِيمَةِ وَفَضَائِلُهُ))

قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى الّتِي فَرَضَ اللهُ -تَعَالَى- الصِّيَامَ لِتَحْقِيقِهَا وَتَكْمِيلِهَا، وَتَحْصِيلِ عَوَاقِبِهَا الطَّيِّبَةِ، وَآثَارِهَا الْمُبَارَكَةِ، فَظَهَرَ لَنَا أَنَّ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الشَّعَائِرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَرَغَّبَ فِيهَا.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ قِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلذُّنُوبِ، وَمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كَمَا يَنْبَغِي فَقَدْ قَامَ رَمَضَانَ.

وَالْمَغْفِرَةُ مَشْرُوطَةٌ بِقَوْلِهِ: ((إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)) يَعْنِي: إِيمَانًا حَالَ قِيَامِهِ، يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللهِ -تَعَالَى- وَبِرَسُولِهِ ﷺ، مُصَدِّقًا بِوَعْدِ اللهِ، وَبِفَضْلِ الْقِيَامِ، وَعَظِيمِ أَجْرِهِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ((وَاحْتِسَابًا)) أَيْ: مُحْتَسِبًا الثَّوَابَ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- لَا لِقَصْدٍ آخَرَ مِنْ رِيَاءٍ وَنَحْوِهِ.

وَفِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ -أَيِ: امْتَلَأَ مِنَ النَّاسِ- فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ ﷺ: ((قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)).

وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: شَفَقَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ.

وَفِيهِ: حِرْصُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ فَضْلِ قِيَامِ رَمَضَانَ خَاصَّةً الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْهُ؛ فَإِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِحْيَاءُ الْعَشْرِ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ طَلَبًا لِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْأَجْرِ.

وَقِيَامُ رَمَضَانَ شَامِلٌ لِلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَكَذَا التَّرَاوِيحُ فَهِيَ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ؛ فَفِي ((السُّنَنِ)) وَغَيْرِهَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَيَنْبَغِي الْحِرْصُ عَلَيْهَا وَالِاعْتِنَاءُ بِهَا رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ، فَيُصَلِّي الْمَرْءُ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ قِيَامِ لَيْلَةٍ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يُفَرِّطُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَنْصَرِفُ قَبْلَ إِمَامِهِ.

قِيَامُ اللَّيْلِ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ، هَذَا مَا تَنَزَّلَ بِهِ أَمِينُ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَمِينِ الْأَرْضِ مُحَمَّدٍ ﷺ، حَيْثُ أَتَى جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ)).

وَقِيَامُ لَيْلِ رَمَضَانَ لَيْسَ كَكُلِّ لَيْلٍ؛ فَقِيَامُ لَيْلِهِ شَرَفٌ عَلَى شَرَفٍ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَحْتَفِي بِالْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَيَحْتَفِي جِبْرِيلُ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ فِي لَيَالِي الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ فَيَأْتِيهِ فَيُدَارِسُهُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ)). وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ: ((وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَكَانَ السَّلَفُ -أَيْضًا- يَحْتَفُونَ بِالْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَيَقُومُونَ بِهِ فِيهَا مَا لَا يَقُومُونَ فِي غَيْرِهَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيَالِي الشَّهْرِ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ.

وَلِقِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ خُصُوصِيَّةٌ عَنْ بَقِيَّةِ لَيَالِي الْعَامِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

إِنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ مِنْ رُوحِ الصِّيَامِ.. إِنَّ لِلْقِيَامِ رُوحًا كَمَا أَنَّ لِلصِّيَامِ رُوحًا، وَرُوحُ الْقِيَامِ هِيَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ وَالْإِخْبَاتُ، وَقَدْ كَانَ ﷺ فِي صَلَاةِ الْقِيَامِ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، وَلَا بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ.

 وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ يُصَلُّونَ صَلَاةً لَا يَعْقِلُونَهَا، وَلَا يَطْمَئِنُّونَ فِي رُكُوعِهَا وَلَا فِي سُجُودِهَا، مَعَ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، وَالْخُشُوعُ وَحُضُورُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ هُوَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْصُلُ فِي الْعَجَلَةِ.

فَعَلَى الصَّائِمِ الْقَائِمِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ عِنْدَ قِيَامِهِ قَوْلَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ التَّاسِعَ عَشَرَ

((فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِبَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)).

 ((أَحْيَا اللَّيْلَ)) أَيْ: سَهِرَهُ فَأَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ، وَأَحْيَا نَفْسَهُ بِسَهَرِ الطَّاعَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى: أَحْيَاهُ بِالْقِيَامِ وَالتَّعَبُّدِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)) أَيْ: زَوْجَاتِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ- لِيُشَارِكْنَهُ اغْتِنَامَ الْخَيْرِ وَالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُبَارَكَةِ.

((وَجَدَّ)) أَيِ: اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ زِيَادَةً عَلَى عِبَادَتِهِ فِي الْعَشْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.

((وَشَدَّ الْمِئْزَرَ)) أَيْ: جَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ، وَقِيلَ: اعْتَزَلَ النِّسَاءَ، وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِعَطْفِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَطَوَى فِرَاشَهُ، وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ)).

تَصِفُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِبَادَةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ حَيْثُ يُضَاعِفُ الْعِبَادَةَ، وَيَزِيدُ فِيهَا، وَيُنَوِّعُ الطَّاعَةَ، وَيَعْمَلُ أَعْمَالًا يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ لَمْ يَعْمَلْهَا فِي أَيَّامِ الشَّهْرِ الْأُخْرَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِفَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ، وَلِمَا خَصَّهَا اللهُ -تَعَالَى- بِهِ مِنْ مَزِيدِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ؛ فَلِهَذِهِ الْعَشْرِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ: إِحْيَاءُ اللّيْلِ؛ أَيْ: سَهَرُهُ وَإِمْضَاءُ أَوْقَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ فِي الطَّاعَةِ، مُتَذَلِّلًا خَاضِعًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْكَرِيمِ، مُنْقَطِعًا عَنْ كُلِّ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ يَعْتَزِلُ نِسَاءَهُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ، وَكَانَ فِي لَيَالِيهَا يَجْعَلُ عَشَاءَهُ سَحُورًا.

فَقِيَامُ اللَّيْلِ فَضْلُهُ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

كَمَا يُسْتَحَبُّ حَثُّ الْأَهْلِ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَامِ، وَتَعْوِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَأْلَفُوهُ، وَقَدْ كَانَ ﷺ يُوقِظُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِاللَّيْلِ إِذَا قَضَى تَهَجُّدَهُ وَأَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، وَكَانَ يَطْرُقُ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَيَقُولُ لَهُمَا: ((أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ)).

وَفِي الْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ إِعَانَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَسْبٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُصَلِّيَ، حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ، وَقَالَ لَهُمْ: ((الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَيَتْلُو قَوْلَ اللهِ -تَعَالَى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132])). رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)).

وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى إِحْيَاءِ اللَّيْلِ بِصَلَاةِ الْقِيَامِ يَكُونُ إِحْيَاؤُهُ -أَيْضًا- بِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالدُّعَاءِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.

 ((سُنَّةُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَتَأَكَّدُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا وَرَدَ مِنِ اعْتِكَافِهِ ﷺ فِيهَا؛ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ -تَعَالَى-، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ، وَيَتَأَكَّدُ فِي رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ خَاصَّةً.

وَالِاعْتِكَافُ: لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ.

فَيَخْلُو الْمُعْتَكِفُ لِطَاعَةِ رَبِّهِ، مُنْقَطِعًا عَنِ الدُّنْيَا وَمَشَاغِلِهَا الَّتِي طَالَمَا لَهَثَ فِي سَبِيلِهَا، وَأَمْضَى مُعْظَمَ حَيَاتِهِ يَتْبَعُ زُخْرُفَهَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَقَدْ حَرَصَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الِاعْتِكَافُ، فَاعْتَكَفُوا مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَوَاظَبُوا عَلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ.

وَالْمُعْتَكِفُ قَدْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِهِ وَمَوْلَاهُ، وَنَأَى بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا يُلْهِيهِ وَيَصُدُّهُ عَنْ ذِكْرِ الْإِلَهِ، وَعَكَفَ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ عَلَى الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ، وَعَمَلِ مَا يُرْضِيهِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُصُورِ الْهِمَمِ، وَالِانْشِغَالِ بِالْعَاجِلِ عَنِ الْآجِلِ.

 ((الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ.. فَضَائِلُ وَوَقَفَاتُ تَأَمُّلٍ!))

إِنَّ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ خَصَّهَا اللهُ بِفَضَائِلَ وَمَكَارِمَ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، تَدْفَعُنَا إِلَى الْوُقُوفِ مَعَهَا وَقْفَاتِ تَأَمُّلٍ وَتَوْجِيهٍ:

الْأُولَى: أَنَّ قُدْوَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَيْرَهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُعْطِيهَا مِنَ الِاهْتِمَامِ مَا لَا يُعْطِي غَيْرَهَا، وَيُفْرِدُهَا بِعِبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَاجْتِهَادَاتٍ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.

الثَّانِيَةُ: تَفَرُّدُ الْعَشْرِ بِكَوْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِحْدَى لَيَالِيهَا، هَذِهِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5].

الثَّالِثَةُ: الِاعْتِكَافُ الَّذِي هُوَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِلطَّاعَةِ طِيلَةَ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَدِ اعْتَكَفَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَاعْتَكَفَ نِسَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ.

الرَّابِعَةُ: مَا يَمُنُّ بِهِ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ الْعَشْرِ بِالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ.

الْخَامِسَةُ: الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَالْإِلْحَاحُ فِيهِ، وَيَتَأَكَّدُ الدُّعَاءُ وَيُطْلَبُ فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

السَّادِسَةُ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ بِعُمْرَةٍ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِلْعُمْرَةِ فِيهَا مَزِيَّةٌ؛ وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَتَخْصِيصَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ -لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ- بِعُمْرَةٍ بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدَعِ الْمَرْذُولَةِ؛ التَّخْصِيصُ -لَا أَنْ تَقَعَ اتِّفَاقًا- فَتَخْصِيصُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ بِالْعُمْرَةِ فِيهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِعِبَادَةٍ فِي زَمَنٍ لَمْ يُخَصِّصْهُ الشَّارِعُ، وَإِنَّمَا الَّذِي تُخَصُّ بِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ هُوَ الْقِيَامُ.

السَّابِعَةُ: تَأَمَّلْ فِي حَالِ الْمِسْكِينِ الْغَافِلِ أَوِ الْمُتَغَافِلِ الْجَاهِلِ أَوِ الْمُتَجَاهِلِ الَّذِي تَفُوتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْفُرَصُ وَالْمُنَاسَبَاتُ دُونَ أَنْ يَرْفَعَ بِذَلِكَ رَأْسًا، أَوْ يُحْدِثَ تَوْبَةً أَوِ اسْتِغْفَارًا وَإِقْبَالًا عَلَى اللهِ، وَانْقِطَاعًا وَتَرْكًا لِلذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ!

((التَّحْذِيرُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي أَوْقَاتِ الْعَشْرِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّهُ لَمِنَ التَّفْرِيطِ الْوَاضِحِ فِي أَوْقَاتِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ الْبُعْدُ فِيهَا عَنِ الْعِبَادَةِ، وَعَدَمُ التَّعَلُّقِ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَإِمْضَاءُ أَوْقَاتِهَا النَّفِيسَةِ الْغَالِيَةِ بِالسَّهَرِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُفِيدُ، وَاللَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْقُلُوبَ وَيُوقِظُهَا، فَيَحْرِمُ الْمُفَرِّطُ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ الْفُرْصَةِ الْغَالِيَةِ وَالْغَنِيمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي رُبَّمَا أَدْرَكَ فِيهَا نَفْحَةً مِنْ نَفْحَاتِ الْبَارِي -جَلَّ وَعَلَا- يَسْعَدُ بِهَا فِي دُنْيَاهُ وَفِي أُخْرَاهُ.

 وَالشَّيْطَانُ حَرِيصٌ عَلَى صَرْفِ الْعِبَادِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَإِشْغَالِهِمْ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَيُسَوِّلُ لَهُمْ، وَيَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، وَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى أَمَانِيِّهِ، وَأَنَّ عَدَاءَهُ لِلْإِنْسَانِ مُسْتَحْكِمٌ مُسْتَأْصِلٌ، فَيَجِبُ أَلَّا يَخْدَعَنَا الشَّيْطَانُ، فَهُوَ يَدْعُو إِلَى الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

وَلْيَأْخُذْ أَحَدُنَا مِنِ اجْتِهَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ، وَمِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَسَلَفِ الْأُمَّةِ الْأَخْيَارِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- فَلْيَأْخُذِ الْقُدْوَةَ الْمُثْلَى فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ، فَكَانُوا يَجِدُّونَ فِيهَا وَيَجْتَهِدُونَ، وَيُضَاعِفُونَ فِيهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ؛ لِإِدْرَاكِهِمُ الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ السَّامِيَةَ لَهَا، وَالْمَكَانَةَ الْعَظيمَةَ لِلْقُرْبَةِ فِيهَا.

 ((أَقْوَى الدَّوَافِعِ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ))

إِنَّ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْقَاتٌ نَفِيسَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَثْمِرَهَا الْعَبْدُ، وَلَا يُضَيِّعَ شَيْئًا مِنْ أَوْقَاتِهَا بِمَا يُلْهِيهِ وَيَشْغَلُهُ عَنِ الْعِبَادَةِ.

مَا الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْفَرَاغِ مَخَافَةَ الشُّغُلِ؟!!

وَأَنْ يُضَحِّيَ بِهَذِهِ اللَّذَّةِ الْقَرِيبَةِ إِلَى النَّفْسِ الْحَبِيبَةِ إِلَى الْقَلْبِ بِإِنْفَاقِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ ثَقِيلٌ أَحْيَانًا عَلَى الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْأَخْذِ بِأُمُورِ الْعِبَادَاتِ؟!!

مَا الَّذِي يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ اللَّذَائِذِ أَخْذًا بِهَذِهِ الشَّدَائِدِ مَا لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ هَدَفٌ قَدْ سَيْطَرَ عَلَى كِيَانِهِ وَحَيَاتِهِ؟!!

إِنَّهَا الْآخِرَةُ..

وَالْهَدَفُ رِضْوَانُ اللهِ..

الْهَدَفُ جَنَّةُ الْخُلْدِ..

الْهَدَفُ الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ..

فَإِذَا رَكَّزَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ هَدَفَ حَيَاتِهِ حَقِيقَةً تَجَمَّعَتِ الْقُوَى كُلُّهَا لِكَيْ تَصُبَّ فِي هَذَا الْمَجْرَى الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْهَدَفِ.

((جَدَّ)): بَذَلَ الْجُهْدَ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَأَنْفَقَ الْمَجْهُودَ كُلَّهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُ الْأَهْلِ وَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالنِّسَاءُ بِالصَّلَاةِ، فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوقِظَ أَهْلَهُ بِهَدَفِ الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِفَضْلِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يُوقِظُونَ أَهْلِيهِمْ حَتَّى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ.

((اعْتَقِدْ أَنَّ هَذَا هُوَ رَمَضَانُ الْأَخِيرُ لَكَ!))

الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِهَذِهِ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي إِنْ بَلَّغَهُ اللهُ إِيَّاهَا وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِمًا صَحِيحًا أَيُدْرِكُ رَمَضَانَ فِيمَا هُوَ آتٍ أَمْ يَكُونُ رَمَضَانُ هَذَا آخِرَ الْعَهْدِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟!

اجْعَلْهُ مِنْكَ كَذَلِكَ، اعْتَقِدْ أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ هُوَ آخِرُ رَمَضَانَ لَكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، اعْتَقِدْ هَذَا، لَنْ يَضُرَّكَ، وَقَدْ يَكُونُ، أَنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى يَأْتِي الْمَوْتُ؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

***

الدَّرْسُ الْعِشْرُونَ

((فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَخَصَائِصُهَا))

فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ خَصَّهَا اللهُ بِخَصَائِصَ عَظِيمَةٍ تُنَبِّهُ عَنْ فَضْلِهَا وَرِفْعَةِ شَأْنِهَا؛ مِنْهَا:

أَنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].

فَفِي تَخْصِيصِهَا بِذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهَا، وَتَنْوِيهٌ لِفَضْلِهَا، حَيْثُ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا أَعْظَمَ الذِّكْرِ، وَأَشْرَفَ الْكُتُبِ، فَفِي قِرَاءَتِهِ فِيهَا أَخْذٌ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْهُدَى وَدَوَاعِي التُّقَى.

 وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] الْآيَةَ.

فَهِيَ مُبَارَكَةٌ؛ لِكَثْرَةِ خَيْرِهَا، وَعِظَمِ فَضْلِهَا، وَجَلِيلِ مَا يُعْطِي اللهُ مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا.. مَا يُعْطِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْأَجْرِ الْوَفِيرِ.

وَمِنْ خَصَائِصِهَا: إِخْبَارُهُ -تَعَالَى- عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] أَيْ: يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى صُحُفِ الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْحَوَادِثِ وَالْآجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ شَرَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَيُبَيِّنُ عِظَمَ شَأْنِهَا.

وَمِنْ خَصَائِصِهَا: مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ قِيَامِهَا، وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ فِيهَا، مَعَ مُضَاعَفَةِ الْعَمَلِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ اللهِ -تَعَالَى- وَمَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَيْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِبَادَةِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ خَالِيَةٍ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ يُنَيِّفُ وَيَزِيدُ عَلَى ثَمَانِينَ سَنَةً، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يُضَاعَفُ فِي رَمَضَانَ وَيُضَاعَفُ ثَوَابُهُ فَكَيْفَ إِذَا وَقَعَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟!

لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ -تَعَالَى- مَا يَفُوزُ بِهِ مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْكَرِيمِ.

وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا إِلَى الْأَرْضِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4-5]؛ وَلِذَا فَهِيَ لَيْلَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ تَكْثُرُ فِيهَا السَّلَامَةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى طَاعَةِ الْغَفُورِ التَّوَّابِ.

وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: مَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهِيَ لَيْلَةٌ تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، وَتُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ الْخَيْرِ، وَتَعْظُمُ فِيهَا الْأُجُورُ، وَتُيَسَّرُ فِيهَا الْأُمُورُ.

فَلِهَذِهِ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ وَالْخَصَائِصِ الْجَلِيلَةِ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَثِّ عَلَى تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ، وَبَيَانِ فَضْلِهَا، وَفِي سُنَّتِهِ ﷺ فِي قِيَامِهَا، وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْتِمَاسِهَا، فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا يَبْعَثُ هِمَمَ طُلَّابِ الْآخِرَةِ، وَالرَّاغِبِينَ فِي الْعِتْقِ وَالْمَغْفِرَةِ، مَعَ وَافِرِ الْأَجْرِ وَكَرِيمِ الْمَثُوبَةِ مَا يَدْفَعُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِإِحْسَانٍ الْتِمَاسًا لِرِضَا الرَّحْمَنِ وَالْفَوْزِ بِفَسِيحِ الْجِنَانِ.

((الْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا))

وَلَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَصٌّ صَرِيحٌ أَنَّهَا فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا تَتَعَدَّاهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَمَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي تَحْدِيدِهَا بِلَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْمُرَادُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهَا فِيهَا، وَحَثَّ عَلَى قِيَامِهَا بِعَيْنِهَا؛ وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ، وَتُفِيدُ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى؛ فَقَدْ تَكُونُ فِي سَنَةٍ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَفِي أُخْرَى لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَفِي ثَالِثَةٍ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا.

قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ)).

وَمِمَّا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِشَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا تُتَحَرَّى وَتُطْلَبُ فِي لَيَالِي الشَّفْعِ كَمَا تُطْلَبُ فِي لَيَالِي الْوِتْرِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَحْدِيدُهَا فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ فِي لَيَالِي الشَّفْعِ مِنَ الْعَشْرِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ لَيَالِي الْعَشْرِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ﷺ: ((الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَإِنَّمَا أَخْفَى اللهُ عِلْمَهَا عَنِ الْعِبَادِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَكْثُرَ فِي طَلَبِهَا اجْتِهَادُهُمْ، وَتَظْهَرَ فِيهَا رَغْبَتُهُمْ، وَتَكْثُرُ فِيهَا الْعِبَادَةُ لِيَحْصُلُوا عَلَى جَلِيلِ الْعَمَلِ وَجَلِيلِ الْأَجْرِ بِقِيَامِهِمْ تِلْكَ اللَّيَالَِ الْمُبَارَكَةَ، فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

((حَثُّ الْأَهْلِ عَلَى قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَضْيِيعِهَا))

وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ تَرْبِيَةُ الْأَهْلِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهَذِهِ اللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ، وَإِظْهَارُ تَعْظِيمِهَا، وَالْأَخْذُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهَا؛ فَقَدْ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ -يَعْنِي: فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ-، وَيُوقِظُ كُلَّ مَنْ يُطِيقُ الْقِيَامَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، مَعَ التَّنَافُسِ فِيمَا يَنَالُ بِهِ عَظِيمَ الْأَجْرِ مِنْ خِصَالِ الْبِرِّ حِرْصًا عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ فِيمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهَا فُرَصُ الْعُمُرِ، وَغَنَائِمُ الدَّهْرِ.

وَمِمَّا يَدْعُو إِلَى الْقَلَقِ وَعَظِيمِ الْحُزْنِ تَسَاهُلُ بَعْضِ النَّاسِ -هَدَانَا اللهُ وَإِيَّاهُمْ- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَزُهْدُهُمْ فِي خَيْرِهَا، حَيْثُ يَظْهَرُ مِنْهُمُ الْكَسَلُ فِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا سَبَقَهَا مِنَ الشَّهْرِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْفَرَائِضِ، وَيَهْجُرُونَ الْمَسَاجِدَ، وَيَزْدَحِمُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَرْتَكِبُونَ بَعْضَ خِصَالِ النِّفَاقِ -فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى لَنَا وَلَهُمُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّاتِ، الْمُتَنَافِسِينَ فِي الْخَيْرَاتِ، الْفَائِزِينَ بِعَظِيمِ الْأُجُورِ وَأَعَالِي الْجَنَّاتِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ-.

((الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ))

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ فِي اللَّيَالِي الَّتِي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَيَدْعُو بِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَمَا قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟)).

قَالَ: ((قُولِي: اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرَ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ أَكْثَرَ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ -أَيْ: أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ- أَكْثَرَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْخَيْرِ، وَالْحُصُولِ عَلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالتِّلَاوَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالتَّضَرُّعِ بِالدُّعَاءِ، وَالصَّدَقَةِ، وَبِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ.

 وَعَلَيْهِ بِالْمُبَادَرَةِ لِحُضُورِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ، وَذُلٍّ وَانْكِسَارٍ، مُتَأَمِّلًا فِي مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ، مُتَدَبِّرًا آيَاتِهِ، يَسْأَلُ اللهَ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ، وَيَتَعَوَّذُ عِنْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا عَذَابٌ.

وَمَا هِيَ إِلَّا لَيَالٍ مَعْدُودَاتٌ يَرْبَحُ فِيهَا الْمُمْتَثِلُ الْمُطِيعُ، وَيَخْسَرُ فِيهَا الْعَاصِي الْمُضَيِّعُ، وَالْعَاقِلُ يَعْرِفُ قَدْرَ عُمُرِهِ، وَقِيمَةَ أَنْفَاسِهِ، فَيَغْتَنِمُ مَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكَهُ، وَمَنْ عَرَفَ شَرَفَ الْمَوَاسِمِ وَأَوْقَاتِ الْفَضَائِلِ اغْتَنَمَهَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

 

 

الدَّرْسُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 8))

((الْكَلَامُ عَنِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ 1))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((بُطْلَانُ اتِّخَاذِ الْعَبْدِ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ))

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَرْقَ بَيْنَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ إِذَا أَنْكَرَ عَلَى الْقَبْرِيِّينَ مَا يَأْتُونَ مِنْ أَفَانِينِ الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعِ التَّضَرُّعَاتِ لِتِلْكَ الْقُبُورِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ عَمَلَكُمْ هَذَا شِرْكٌ، غَضِبُوا وَقَالُوا: كَيْفَ تَصِفُنَا بِالشِّرْكِ وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ؟!

وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّنَا نَجْعَلُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ أَوِ الصُّلَحَاءَ شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَنَا عِنْدَ اللهِ؛ لِأَنَّنَا مُلَطَّخُونَ بِأَنْجَاسِ الذُّنُوبِ، لَيْسَ لَنَا قَدْرٌ حَتَّى نَطْلُبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَنَا، أَوْ يَقْضِيَ حَاجَتَنَا، أَوْ يَدْفَعَ ضُرَّنَا، فَنَسْتَشْفِعُ بِهَؤُلَاءِ وَنَجْعَلُهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ؛ لِمَا نَعْلَمُهُ لَهُمْ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ بِمَثَابَةِ الْوَزِيرِ عِنْدَ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّ أَفْرَادَ الرَّعِيَّةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْمَلِكِ إِذَا حَلَّ بِهِمْ ظُلْمٌ أَوْ كَارِثَةٌ، فَيَتَوَسَّلُونَ بِالْوَزِيرِ أَوِ الْمُقَرَّبِ؛ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ أَوِ السُّلْطَانِ أَوِ الْوَزِيرِ لِيَقْضِيَ لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُمُ الظُّلْمَ!

فَنَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجُهَلَاءِ فِي الْجَوَاب:

أَوَّلًا: إِنَّ عَقِيدَتَكُمْ هَذِهِ هِيَ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ بِذَاتِهَا.

قَالَ اللهُ إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ السَّالِفِينَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: ١٨].

وَقَالَ اللهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: ٣].

فَالْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي مَعْبُودَاتِهِمْ أَنَّهَا تَخْلُقُ أَوْ تَمْلِكُ أَوْ تُدَبِّرُ، وَلَكِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَهَا قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ فَنَحْنُ إِنَّمَا نَتَّخِذُهَا شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ؟!!

فَاعْتِقَادُ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، وَلَمْ يَحْقِنْ دِمَاءَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللهِ، وَلِيَشْفَعُوا لَهُمْ، وَلَمْ يَعْبُدُوهَا لِأَنَّهَا خَالِقَةٌ وَرَازِقَةٌ أَوْ مُدَبِّرَةٌ لِلْأُمُورِ.

ثَانِيًا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَلَاءَ قَدْ شَبَّهُوا الرَّبَّ الْعَظِيمَ بِالْمَلِكِ الْبَشَرِيِّ، شَبَّهُوا رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالسُّلْطَانِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ!

قَدْ شَبَّهُوا اللهَ بِالْمَخْلُوقِ وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ وَالْأَنْدَادِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَلِكَ الْبَشَرِيَّ قَدْ لَا يَعْلَمُ بِالظُّلْمِ الْوَاقِعِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَسِّلِ بِالْوَزِيرِ؛ فَهَلِ اللهُ لَا يَعْلَمُ بِالظُّلْمِ الْوَاقِعِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَعْلَمُ بِحَاجَتِهِ؟!!

وَهَلْ للهِ وَزِيرٌ أَوْ مُعِينٌ أَوْ ظَهِيرٌ حَتَّى يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ؟!!

فَمَا أَفْسَدَ هَذَا الْقِيَاسَ وَأَخْبَثَهُ! وَمَا أَجْهَلَ هَؤُلَاءِ وَأَكْفَرَهُمْ بِاللهِ!

لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إِلَّا فِي تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ:

وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى وَاسِطَةٍ وَاللهُ يَقُولُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: ١٦].

وَيَقُولُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وَالْوَاسِطَةُ لِلتَّبْلِيغِ هُمُ الرُّسُلُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

أَمَّا الْوَاسِطَةُ فِي رَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ فَتِلْكَ عَقِيدَةُ الْمُشْرِكِينَ!

كَيْفَ تَكُونُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: ٦٠].

لَمْ يَقُلِ اللهُ: ادْعُوا أَوْلِيَائِي، أَوِ ادْعُوا أَنْبِيَائِي، أَوِ اسْتَغِيثُوا بِأَحِبَّائِي وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي، بَلْ قَالَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠]، وَقَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: ١٨٦].

وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).

وَكَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ)).

وَلَمْ يَقُلِ الرَّسُولُ ﷺ: ادْعُوا الْأَنْبِيَاءَ حَتَّى يَطْلُبُوا مِنَ اللهِ لَكُمْ، أَوْ تَوَسَّلُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

((عَدَمُ ثُبُوتِ التَّوَسُّلِ عَنِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ))

وَلِذَا لَمْ يَثْبُتِ التَّوَسُّلُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، كَمَا لَمْ يَثْبُتِ التَّوَسُّلُ عَنِ الصَّحَابَةِ بِالرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ التَّابِعِينَ، وَلَا عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ.

التَّوَسُّلُ قِسْمَانِ: مَشْرُوعٌ وَمَمْنُوعٌ.

أَمَّا الْمَشْرُوعُ: فَهُوَ قِسْمَانِ -أَيْضًا-:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ، وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءً كَانَ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَشْرُوعِ: التَّوسُّلُ بِدُعَائِهِ ﷺ يَوْمَ كَانَ حَيًّا؛ بِأَنْ يَأْتِيَ السَّائِلُ فَيَسْأَلَ الرَّسُولَ ﷺ أَنْ يَطْلُبَ لَهُ مِنَ اللهِ الْعَافِيَةَ.

كَمَا طَلَبَ الْأَعْرَابِيُّ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ.

وَكَمَا طَلَبَ الْأَعْمَى مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِرَدِّ بَصَرِهِ.

وَكَمَا طَلَبَتِ الْجَارِيَةُ السَّوْدَاءُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُعَافِيَهَا مِنَ الصَّرَعِ، فَخَيَّرَهَا الرَّسُولُ بَيْنَ الصَّبْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا، فَاخْتَارَتِ الصَّبْرَ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ عِنْدَمَا يَأْتِيهَا الصَّرَعُ، فَدَعَا لَهَا، فَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تُصْرَعُ وَلَا تَتَكَشَّفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَهَذَا التَّوَسُّلُ الَّذِي هُوَ بِدُعَائِهِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ ﷺ.

فَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَيَسْأَلُهُ حَاجَةً، أَوْ غُفْرَانَ ذَنْبٍ، أَوْ كَشْفَ ضُرٍّ، أَوْ زِيَادَةَ غِنًى، أَوْ رَدَّ غَائِبٍ، أَوْ نَقْلَ مَرِيضٍ مِنْ حَالِ الْمَرَضِ إِلَى حَالِ الْعَافِيَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ، وَطَلَبَ مِنَ الْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُمْ، فَقَالَ: ((اللهم إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا)) ثُمَّ قَالَ: ((قُمْ يَا عَبَّاسُ فَادْعُ اللهَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالرَّسُولِ بَعْدَ مَوْتِهِ جَائِزًا لَمَا عَدَلَتِ الصَّحَابَةُ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَذَهَبُوا إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَاذُوا -حَاشَاهُمْ- بِهِ مُسْتَغِيثِينَ بِهِ، مُتَوَسِّلِينَ بِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِأُمُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقِيدَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، لِذَلِكَ قَدَّمَ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَوَسَّلَ بِدُعَائِهِ عِنْدَ اللهِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا التَّوَسُّلَ هُوَ بِجَاهِ الْعَبَّاسِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هَذَا التَّوَسُّلُ إِنَّمَا هُوَ بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهَذَا مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ أَعْمَاهُ التَّعَصُّبُ وَالْعِنَادُ، وَسَلَكَ سَبِيلَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ، فَتَوَسَّلَ أَحَدُهُمْ بِبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالثَّانِي تَوَسَّلَ بِتَعَفُّفِهِ عَنِ الزِّنَى بَعْدَ أَنْ جَلَسَ مِنَ الْمَرْأَةِ مَجْلِسَ الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، وَالثَّالِثُ تَوَسَّلَ بِتَنْمِيَةِ أَجْرِ الْأَجِيرِ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ وَتَرَكَ أُجْرَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَطَلَبَ أُجْرَتَهُ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَإِذَا هِيَ مَالٌ كَثِيرٌ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: ٣٥]؛ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْوَسِيلَةَ هُنَا مَعْنَاهَا: التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَمَا بَيَّنَّا فِي التَّوَسُّلِ الْمَشْرُوعِ، لَا كَمَا يَقُولُ الْمُبْتَدِعُونَ، أَنْ نَجْعَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ شُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِنَبِيِّنَا ﷺ؛ فَالْجَوَابُ:

لَا رَيْبَ أَنَّ لِلرَّسُولِ ﷺ شَفَاعَاتٍ مُتَعَدِّدَةً:

أَعْظَمُهَا: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ عَنَاءِ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَلَهُ شَفَاعَةٌ أُخْرَى فِي إِخْرَاجِ بَعْضِ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ.

وَأُخْرَى فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ.

وَلَكِنَّ اعْتِقَادَنَا بِثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لَهُ لَا يُسَوِّغُ لِلْمُسْلِمِ اتِّكَالًا عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ فِي الدُّنْيَا شَفَاعَتَهُ أَوْ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: يَا مُحَمَّدُ! اشْفَعْ لِي، يَا مُحَمَّدُ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، أَدْرِكْنِي، أَسْتَجِيرُ بِكَ مِمَّنْ ظَلَمَنِي، أَوْ أَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ الشَّفَاعَةَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَجُوزُ.

بَلْ يَقُولُ مُتَوَجِّهًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: اللهم ارْزُقْنِي شَفَاعَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، اللهم شَفِّعْ فِيَّ مُحَمَّدًا، أَوْ يَقُولُ: اللهم لَا تَحْرِمْنِي مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

 

فَإِذَا لَمْ يَجُزْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ مُخَاطِبًا الرَّسُولَ ﷺ: اشْفَعْ لِي، أَوْ أَغِثْنِي، أَوْ أَسْتَجِيرُ بِكَ؛ فَأَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 9))

((الرَّدُّ عَلَى حُجَجِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ مِنَ الِاسْتِغَاثَاتِ وَالنِّدَاءَاتِ لِلرَّسُولِ ﷺ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ التَّوَسُّلَاتِ وَالِاسْتِغَاثَاتِ، وَتَجْوِيزِهِمْ لَهُمَا بِشُبَهٍ وَاهِيَةٍ لَيْسَ عَلَيْهَا شُبْهَةُ الصَّوَابِ فَضْلًا عَنِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِهِمْ:

أَوَّلًا: أَنَّ التَّوَسُّلَ بِدْعَةٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَإِنَّمَا الْكُفْرُ هُوَ الِاسْتِغَاثَةُ بِرَسُولِ اللهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.

وَثَانِيًا: لَيْسَ فِي التَّوَسُّلِ بِالْأَمْوَاتِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ إِمَّا ضَعِيفٌ وَإِمَّا مَوْضُوعٌ.

1* فَأَمَّا حَدِيثُ الِاحْتِجَاجِ بِتَوَسُّلِ آدَمَ: قِيلَ: ((لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي، فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ! وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟ قَال: يَا رَبِّ! لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، ادْعُنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ))؛ فَحَدِيثٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ، وَلَمْ يَتَوَسَّلْ أَبُونَا آدَمُ بِمُحَمَّدٍ كَمَا زَعَمَ الزَّاعِمُونَ.

2* وَأَمَّا حَدِيثُ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ))؛ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ.

عَلَى أَنَّنَا لَوْ سَلَّمْنَا بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَقَّ السَّائِلِينَ مَخْلُوقٌ؛ إِذْ حَقُّهُمْ هُوَ إِجَابَةُ اللهِ وَإِعْطَاؤُهُمْ سُؤَالَهُمْ، وَهُمَا صِفَتَانِ لَهُ -تَعَالَى-، فَحَقُّ الْخَلْقِ قَدْ يَكُونُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

3*وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ: قِيلَ: ((لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -وَكَانَتْ قَدْ رَبَّتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا وَقَالَ: ((رَحِمَكِ اللهُ يَا أُمِّي بَعْدَ أُمِّي))- إِلَى أَنْ قَالَ لَمَّا أَدْخَلَهَا اللَّحْدَ: ((اللهم اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي؛ فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

وَعَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَحَقُّ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ إِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ نُصْرَتُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ.

4*وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]

فَهِيَ اسْتِغَاثَةُ حَيٍّ بِحَيٍّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ.

عَلَى أَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ الْإِسْرَائِيلِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِجَابَةُ مُوسَى لَهُ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ هُوَ فِي شَرِيعَتِنَا.

5*وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: ٦٤] الآية.

فالْجَوَابُ: أَنَّ غَايَتَهَا تَعْلِيقُ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ عَلَى مَجِيئِهِمْ إِلَيْهِ ﷺ وَاسْتِغْفَارِهِمُ اللهَ، وَاسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ طَلَبُوهُ وَلَا أُمِرُوا أَنْ يَطْلُبُوهُ.

وَثَانِيًا: أَنَّ الْآيَةَ مُعَلِّقَةٌ ذَلِكَ عَلَى إِتْيَانِهِ ﷺ، وَإِتْيَانُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ.

ثَالِثًا: هِيَ وَاقِعَةٌ مُعَيَّنَةٌ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ بِمَعْنَاهَا وَلَا لَفْظِهَا، وَقَعَتْ فِي حَيَاتِهِ ﷺ؛ فَمِنْ أَيْنَ أَخَذُوا التَّعْمِيمَ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ؟!!

وَلَوْ دَلَّتْ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ لَكَانَتْ مُخَصَّصَةً وَمَقْصُورَةً عَلَى الْحَيَاةِ، وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ الْأَخْبَارُ الشَّرْعِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْوَاتَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢].

وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا فَهِمُوا شُمُولَهَا لِلْمَوْتِ، وَلِذَا لَمْ يَأْتِ إِلَيْنَا أَنَّهُمْ دَعَوْهُ ﷺ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا قَدْ أَتَى إِلَيْنَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الدُّعَاءَ فِي حَيَاتِهِ ﷺ.

وَكَانَتْ تُصِيبُهُمُ الشِّدَّةُ وَالْقَحْطُ وَيُمْسِكُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْثَ السَّمَاءِ -كَمَا مَرَّ- فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَقْدِيمُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِكَيْ يَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ مُسْتَسْقِيًا.

تَعَلَّقَ الْقَبْرِيُّونَ الْمُبْتَدِعُونَ بِحَدِيثِ الْقَلِيبِ: أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَجَابَ عُمَرَ: ((مَا أَنْتَ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ))، وَبِحَدِيثِ: ((وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ الْآنَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذْ أَتَاهُ الْمَلَكَانِ)).

فَاحْتَجُّوا عَلَى سَمَاعِ الْأَمْوَاتِ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَدِيثَ الْقَلِيبِ وَقَعَ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَخَوَارِقُ الْعَادَاتِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ وَاللهُ يَقُولُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].

وَيَقُولُ: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52].

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: ((وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ الْآنَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذْ أَتَاهُ الْمَلَكَانِ)).

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي سَيَأْتِيهِ الْمَلَكَانِ فِيهَا، وَلَيْسَ سَمَاعُهُ هُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ.

6*وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ((لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فِي جَوَازِ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَا ثَبَتَ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ ثَبَتَ لِلْآخَرِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُبُورِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَى مَقَامًا مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَجَازَتْ الِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّوَسُّلُ بِهِمْ وَبِالشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ)).

فَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُصَادِمَةٌ لِلْقُرْآنِ مُصَادَمَةً صَرِيحَةً؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: ٢٢].

فَسُبْحَانَ اللهِ الَّذِي أَعْمَى بَصَائِرَ هَؤُلَاءِ الْقَبْرِيِّينَ الدَّجَاجِلَةِ الْمُضِلِّينَ حَتَّى سَوَّوْا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ!

وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تَتَصَرَّفُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّهَا حَيَّةٌ؛ فَكَلامٌ بَاطِلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ.

وَأَيُّ تَصَرُّفٍ لَهَا؟!!

وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ حَيَاتِهَا أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً مُجِيبَةً لِلْمُسْتَغِيثِينَ وَالسَّائِلِينَ؟!!

وَلَوْ جَازَ لَنَا أَنْ نَسْتَغِيثَ بِهَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، جَازَ لَنَا أَنْ نَسْتَغِيثَ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا خِلَافَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَبِالْحُورِ وَالْوِلْدَانِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!

اللهم اهْدِنَا وَاهْدِهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

7*وَأَمَّا حَدِيثُ: ((إِذَا أَعْيَتْكُمُ الْأُمُورُ فَعَلَيْكُمْ بِأَهْلِ الْقُبُورِ))؛ فَإِنَّهُ مَكْذُوبٌ وَمِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَصَدُوا إِفْسَادَ الدِّينِ.

8* وَحَدِيثُ: ((تَوَسَّلُوا بِجَاهِي)) مَوْضُوعٌ، لَمْ يَخْتَلِفْ فِي وَضْعِهِ اثْنَانِ.

وَلَا رَيْبَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ أَنَّ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ جَاهًا عَظِيمًا وَمَقَامًا مَحْمُودًا، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْوَرَى وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يُسَوِّغُ لَنَا التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ.

وَإِنْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءً فِي قُبُورِهِمْ حَيَاةً بَرْزَخِيَّةً كَامِلَةً لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الْبَرْزَخِيَّةَ لَا تُقَاسُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا تُعْطَى أَحْكَامَهَا، فَإِذَا جَازَ أَنْ نَسْأَلَهُ ﷺ فِي حَيَاتِهِ الدُّعَاءَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَنَا مِنَ اللهِ قَضَاءَ حَاجَةٍ أَوْ غُفْرَانَ ذَنْبٍ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ مَمَاتِهِ أَنْ نَسْأَلَهُ قِيَاسًا عَلَى حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

لَا تُقَاسُ حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْحَيَاةِ الْبَرْزَخِيَّةِ عَلَى حَيَاتِنَا الدُّنْيَا.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

((إِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدِي مُتَنَعِّمُونَ فِي رِزْقِي)).

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُمْ وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَأَرْوَاحُهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ فِي دَارِ الْقَرَارِ)).

حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ بَرْزَخِيَّةٌ لَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إِلَّا اللهُ -سُبْحَانَهُ-، وَلِكُلِّ دَارٍ حُكْمٌ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُطَبِّقَ عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ الدُّنْيَوِيَّةَ.

وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي تُنَادِي بِأَنْ لَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ أَمْرٌ أَوْ تَصَرُّفٌ، أَوْ قُدْرَةٌ فِي دَفْعِ ضَرٍّ، أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ، سَوَاءً أَكَانَ نَبِيًّا أَمْ غَيْرَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: ٢١-٢٢].

وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٨٨].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ﷺ مُبَيِّنًا أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تُغْنِي شَيْئًا، وَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَعَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ.

وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ اعْتَقَدَ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ لَصَارَ قَلْبُهُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، يَعْلَمُ أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَيُصَرِّفُهَا؛ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْحَيَاةِ فِي مَسَارِهَا الصَّحِيحِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَسِيرَ فِيهِ، وَلَعَادَ الْمَرْءُ عَابِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَلَعُتِقَ مِنْ قُيُودِ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: ٢١٤]: ((يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] أَيْ: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ وَلَا نَعْبُدُ سِوَاكَ، وَنَسْتَعِينُ بِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِأَحَدٍ غَيْرِكَ.

وَحَدِيثُ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

لَوْ تَدَبَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ، وَرَاجَعُوا تَفَاسِيرَ الْأَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ لِتِلْكَ الْآيَاتِ وَشُرُوحَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ؛ لَعَلِمُوا أَنَّ تَوَسُّلَاتِهِمْ بِالرَّسُولِ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الْمُبِينِ.

إِنَّ الْعَقْلَ قَاضٍ بِأَنَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ وَلَا أَنْ يَضُرَّهَا هُوَ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَنْفَعَ غَيْرَهُ أَوْ يَضُرَّهُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ

((تَعَلَّمْ عَقِيدَتَكَ 10))

((تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَعْنَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَجُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا))

فَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَبْدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَوْصَافِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَكَذَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ هِيَ حَقٌّ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. فَمِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ: صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِصَرِيحِ الْعَقْلِ، وَبِالْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَمْ يُصِبْهَا زَيْغٌ وَلَا غَبَشٌ.

قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255].

الْحَيُّ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَضَمِّنٌ لِصِفَةِ الْحَيَاةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَإِيمَانُنَا بِذَلِكَ: أَنْ نُثْبِتَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الِاسْمَ، وَأَنْ نُؤْمِنَ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْمُ مِنْ صِفَةٍ، فَنُثْبِتُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَةَ الْحَيَاةِ، وَنُثْبِتُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الِاسْمَ الشَّرِيفَ وَهُوَ الْحَيُّ.

وَصِفَةُ الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: ٢٥٥].

صِفَةُ الْعِلْمِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْسَتْ كَصِفَةِ الْعِلْمِ لِلْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِلْمًا؛ فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ مَسْبُوقٌ بِجَهْلٍ مَلْحُوقٌ بِنِسْيَانٍ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ فَلَيْسَ مَسْبُوقًا بِجَهْلٍ وَلَا مَلْحُوقًا بِنِسْيَانٍ -حَاشَاهُ-، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.

وَصِفَةُ الْإِرَادَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢].

وَالْقُدْرَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: ٢٠].

وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ١٣٤].

وَالْكَلَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤].

وَالرَّحْمَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: ١].

وَصِفَةُ الْحُبِّ؛ لِقَوْلِهِ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤].

وَالْيَدَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥].

وَالْوَجْهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: ٢٧].

وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]. وَالنُّزُولِ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُنَادِي: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ)).

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا نَسْتَطِيعُ حَصْرَهَا.

وَالْوَاجِبُ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ، إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ.

وَالْقَوْلُ الشَّامِلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَن يُوصَفَ اللهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ.

مَذْهَبُ السَّلَفِ حَقٌّ بَيْنَ بَاطِلَيْنِ؛ بَيْنَ بَاطِلِ التَّمْثِيلِ وَبَاطِلِ التَّعْطِيلِ.

فَالْمُشَبِّهُ يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالْمُوَحِّدُ يَعْبُدُ إِلَهَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

وَالْآيَةُ الْجَامِعَةُ لِذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١].

فَصَدْرُ الْآيَةِ تَنْزِيهٌ للهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ.

وَآخِرُ الْآيَةِ إِثْبَاتُ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ.

فَالسَّلَفُ الصَّالِحُ لَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِ اللهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، كَمَا لَا يُمَثِّلُونَ ذَاتَهُ بِذَاتِ خَلْقِهِ، وَلَا يُعَطِّلُونَهَا.

فَالْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَنِ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ، فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ لَا تُشْبِهُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.

فَإِذَا قُلْنَا للهِ عِلْمٌ وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ، كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٩]، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: ٢٨].

وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].

فَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَ اللهِ لَيْسَ كَعِلْمِ يُوسُفَ أَوْ إِسْحَاقَ (سلم2).

وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١١٧]، وَقَالَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ ﷺ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨].

فَلَيْسَتْ رَحْمَةُ اللهِ كَرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا رَأْفَتُهُ كَرَأْفَةِ الْمَخْلُوقِ.

وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: ٧٥]، وَقَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: ٢].

وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ حَقٌّ، فَللهِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ لَائِقَانِ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ سَمْعًا وَبَصَرًا حَقِيقِيَّيْنِ مُنَاسِبَيْنِ لِحَالِهِ مِنْ فَقْرِهِ وَفَنَائِهِ.

وَبَيْنَ سَمْعِ وَبَصَرِ الْخَالِقِ وَسَمْعِ وَبَصَرِ الْمَخْلُوقِ كَمَثَلِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَذَاتِ الْمَخْلُوقِ.

وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْحَيَاةِ، فَقَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: ٢٥٥]، وَوَصَفَ بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ بِالْحَيَاةِ فَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٣٠].

فَلَيْسَتْ حَيَاةُ الْخَالِقِ كَحَيَاةِ الْمَخْلُوقِ.

حَيَاةُ الْخَالِقِ لَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَيَاةُ الْمَخْلُوقِ مِنَ اللهِ، حَيَاةُ الْخَالِقِ لَيْسَتْ مَسْبُوقَةً بِعَدَمٍ وَلَا يَلْحَقُهَا مَوْتٌ وَلَا فَنَاءٌ، وَهِيَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى كَمَالِ الْحَيَاةِ، وَحَيَاةُ الْمَخْلُوقِ مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ وَيَلْحَقُهَا مَوْتٌ وَفَنَاءٌ.

وَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: ٤٤].

فَلَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ -تَعَالَى اللهُ وَتَنَزَّهَ-.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّنَا لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، وَلَا نُؤَوِّلُ صِفَاتِ اللهِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَحْيَيْنِ بِتَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ أَوْ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، يَقُولُونَ: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] أَيْ: قُدْرَتُهُ أَوْ نِعْمَتُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَيُقَالُ: وَلَكِنَّ اللهَ قَالَ: {بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] أَفَلَهُ قُدْرَتَانِ؟!!

وَيَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ، وَالْوَجْهُ بِمَعْنَى الذَّاتِ، وَالرّحْمَةُ بِمَعْنَى التَّفَضُّلِ، وَنُزُولُهُ بِمَعْنَى نُزُولِ أَمْرِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ النَّابِعَةِ مِنْ مَنَابِعِ الْفَلْسَفَةِ وَالْهَوَى.

تِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ الَّتِي تَؤُولُ بِالْإِنْسَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَجْعَلُ الشَّرِيعَةَ أُلْعُوبَةً بِأَيْدِي الْمُبْطِلِينَ وَالْهَدَّامِينَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُرِيدُ مُبْطِلٌ أَنْ يَهْدِمَ عَقِيدَةً أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا إِلَّا وَأَتَى مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، وَكَفَى بِهَذَا قُبْحًا وَضَلَالًا.

((اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ))

وَعَلَى اعْتِقَادِ مَا وَصَفَ اللهُ بِه نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ رَسُولُهُ بِمَا أَتَى فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ مَضَى عَصْرُ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ؛ كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِمَامِ مَالِكٍ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ، وَاللُّغَوِيِّينَ الْمُحَقِّقِينَ؛ كَالْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، وَثَعْلَبٍ، وَغَيْرِهِمَا.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَأَنْ نُثْبِتَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

***

الدَّرْسُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ

((الدِّينُ يَحْكُمُكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((دِينُ اللهِ حَاكِمٌ حَيَاةَ الْأَنَاسِيِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا))

فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ -لِأَنَّهُ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي لَا يَرْضَى دِينًا سِوَاهُ- لَمْ يَدَعْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَّا وَجَعَلَ لَهَا حُكْمًا.

مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَغِيبَ عَنْ ذِهْنِ الْمُسْلِمِ لَحْظَةً أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَكَمَ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَبِمُرَاقَبَةِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْقَصْدِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَاشَ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي حيَاتِهِ لَحْظَةً غَيْرَ مَحْكُومَةٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَجِدُ حَرَكَةً وَلَا سَكَنَةً إِلَّا وَللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهَا حُكْمٌ.

حَتَّى تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ مِنْ تَوَافِهِ الْأُمُورِ لِلْإِسْلَامِ فِيهِ حُكْمٌ.

لَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ حَكَمَهُ الدِّينُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْخَلَاءِ حَكَمَهُ الدِّينُ بِهَيْئَةٍ وَذِكْرٍ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ هَيْئَةٌ وَذِكْرٌ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُوَضِّحُهُ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْءَ لَيَجِدُ نَفْسَهُ عَائِشًا مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ مُنْذُ أَنْ يُصْبِحَ إِلَى أَنْ يُصْبِحَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ حَكَمَ هَيْئَتَهُ فِي الْمَنَامِ، يَنَامُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ذَاكِرًا دَاعِيًا وَمُبتَهِلًا وَمُنِيبًا كَمَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَيَتَجَنَّبُ النَّوْمَةَ الَّتِي يَكْرَهُهَا اللهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَأَى الرَّجُلَ نَائِمًا عَلَى بَطْنِهِ قَالَ: ((تِلْكَ نَوْمَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)).

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كُلَّ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِنَا مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، حَتَّى تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ لِلدِّينِ فِيهِ حُكْمٌ، حَتَّى نَتْفُ الْإِبِطِ لِلدِّينِ فِيهِ حُكْمٌ، حَتَّى الِاسْتِحْدَادُ -وَهُوَ حَلْقُ الْعَانَةِ- لِلدِّينِ فِيهِ حُكْمٌ، حَتَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلدِّينِ فِيهِ حُكْمٌ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَهْلِهِ لِلدِّينِ فِيهِ حُكْمٌ؛ يَتَّقِي الرَّجُلُ الْحَيْضَةَ وَالدُّبُرَ، يُقْبِلُ أَوْ يُدْبِرُ مَا دَامَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ، وَيَأْتِي بِالذِّكْرِ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((حَالُ الْإِنْسَانِ الْمُنْعَتِقِ مِنْ حُكْمِ الدِّينِ))

إِذَا انْعَتَقَ الْإِنْسَانُ مِنَ الدِّينِ كِتَابًا وَسُنَّةً صَارَ كَالْبَهِيمِ الْأَعْجَمِ؛ لَا ذِكْرَ، وَلَا تَبَتُّلَ، وَلَا عِبَادَةَ، وَلَا إِنَابَةَ، بَلِ الْبَهِيمُ الْأَعْجَمُ خَيْرٌ مِنْهُ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ذَكَرَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأنعام: 179]؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- خَلَقَ كُلَّ مَخْلُوقٍ وَقَدَّرَ خَلْقَهُ، وَنَظَّمَ سُلُوكَهُ وَحَرَكَتَهُ، وَعَرَّفَهُ قَصْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا فَقَدْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ، وَبُيِّنَ لَهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ مَا دُونَهُ فَكُلٌّ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.

((اجْعَلُوا حَرَكَةَ حَيَاتِكُم مَحْكُومَةً بِدِينِ رَبِّكُمْ!))

عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ دِينَنَا يَحكُمُنَا فِي كُلِّ شَيءٍ؛ فِي أَحزَانِنَا وَفِي أَفرَاحِنَا, فَيَنبَغِي أَنْ تَكُونَ حَرَكَةُ الحَيَاةِ مَحكُومَةً بدِينِ اللهِ، وَهَذا مِن عَلَامَاتِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

أَنَّ الدِّينَ يَحكُمُك.. يَحكُمُكَ فِي ضَحِكِكَ وَفِي بُكَائكَ!

فِي كَلَامِكَ وَفِي صَمتِك!

فِي قِيَامِكَ وَفِي قُعُودِك!

فِي قُعُودِك؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لمَّا رَأَى الرَّجُلَ قَدِ اتَّكَأَ عَلَى أَلْيَةِ يَدِهِ اليُسرَى خَلْفَهُ قَالَ: ((لَا تَجْلِسْ جِلْسَةَ الْمَغضُوبِ عَلَيْهِمْ)) ﷺ.

يَحكُمُكَ فِي قُعُودِكَ وَفِي قِيَامِكَ!

وَفِي مَنَامِكَ؛ رَأَى النَّبِيُّ رَجُلًا قَدْ نَامَ عَلَى بَطنِهِ؛ قَالَ: ((هَذِهِ نَوْمَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ))،

((هَذِهِ النَّوْمَةُ -أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى بَطنِهِ- نَوْمَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ)).

فَإِذَن؛ يَحكُمُكَ الدِّينُ فِي كُلِّ شَيءٍ..

فِي طَعَامِكَ وَفِي شَرابِكَ!

يَحكُمُكَ الدِّينُ فِي تَصَوُّرِكَ!

يَحكُمُكَ الدِّينُ فِي مَكْسَبِكَ، وَفِي تَصرِيفِ مَا كَسَبْتَهُ!

يَحكُمُكَ الدِّينُ فِي لَفْظِكَ, فَلَا تَتَكَلَّمْ بِاللَّفْظَةِ الْعَوْرَاءِ!

يَحكُمُكَ الدِّينُ فِي حَرَكَةِ قَلْبِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُنْضَبِطًا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ مِنْ كِتَابِهِ -سُبْحَانَهُ- وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ

((جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ زَكَاةِ الْفِطْرِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَعْنَى زَكَاةِ الْفِطْرِ وَأَدِلَّتُهَا وَشُرُوطُهَا))

فَهَذِهِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ.

الزَّكَاةُ تَطْهِيرٌ لِلْمَالِ، وَهِيَ دَافِعَةٌ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّأْفَةِ بِالْفُقَرَاءِ، جَاعِلَةٌ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ حَبْلَ مَوَدَّةٍ.

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ هَذَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْنَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)).

وَالصَّاعُ: أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَالْمُدُّ: حَفْنَةٌ بِكَفَّيِ الرَّجُلِ الْمُعْتَدِلِ الْكَفَّيْنِ.

((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ -يَعْنِي: لِصَلَاةِ الْعِيدِ-)).

وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى تَأْخِيرِهَا؛ لِيَسْتَفِيدَ بِهَا الْفَقِيرُ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ -وَهُوَ اللَّبَنُ الْمُجَفَّفُ الَّذِي لَمْ تُنْزَعْ زُبْدَتُهُ-، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ -أَيْ: تَطْهِيرًا لِلصَّائِمِ- مِنَ اللَّغْوِ -وَاللَّغْوُ: مَا لَا فَائِدَةَ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ- وَالرَّفَثِ -وَهُوَ فَاحِشُ الْكَلَامِ-، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ)).

((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ)).

الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَالطَّهَارَةُ وَالْبَرَكَةُ.

زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الِاصْطِلَاحِ فَهِيَ: الصَّدَقَةُ تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ.

وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عُمُومُ الْكِتَابِ وَصَرِيحُ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ.

أَمَّا عُمُومُ الْكِتَابِ فَقِيلَ: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15].

وَعُمُومُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَفِيهِ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرْضٌ.

وَأَمَّا شُرُوطُ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَثَلَاثَةٌ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ؛ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَفِيهِ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْغِنَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ صَاعٌ زَائِدٌ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ وَحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: دُخُولُ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ)).

((حِكَمُ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَمِقْدَارُهَا وَمَوْعِدُ إِخْرَاجِهَا))

وَأَمَّا الْحِكْمَةُ مِنْ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ؛ مِنْ أَهَمِّهَا:

-أَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ.

-وَأَنَّهَا طُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَإِغْنَاءٌ لَهُمْ عَنِ السُّؤَالِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِدْخَالٌ لِلسُّرُورِ عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ يَوْمَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لِجَمِيعِ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ.

-وَمِنْ حِكَمِ وُجُوبِ وَإِيجَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: أَنَّهَا مُوَاسَاةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَتَفَرَّغُ الْجَمِيعُ لِعِبَادَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالسُّرُورِ وَالِاغْتِبَاطِ بِنِعْمَتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

-وَمِنْ حِكَمِهَا: حُصُولِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِدَفْعِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا فِي وَقْتِهَا الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّرْعُ.

-وَهِيَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الصَّائِمِينَ بِإِتْمَامِ الصِّيَامِ.

زَكَاةُ الْفِطْرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَضُلَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَيْلَتَهُ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)). وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ)).

وَيُسْتَحَبُّ إِدْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْحَمْلِ؛ لِفِعْلِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَمِقْدَارُ زَكَاةِ الْفِطْرِ: صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ؛ مِنْ بُرٍّ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقِطٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ كَالْأُرْزِ.

وَمِقْدَارُ الصَّاعِ: كِيلُوَانِ وَرُبُعُ الْكِيلُو مِنَ الْبُرِّ الْجَيِّدِ (2.25كجم).

وَيُخْرِجُهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِفِعْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

((كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يُخْرِجُهَا قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ)).

وَقْتُ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ هُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ حِينَذَاكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَلَوْ بِدَقَائِقَ لَمْ تَجِبِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَلَوْ بِدَقَائِقَ وَجَبَ إِخْرَاجُ فِطْرَتِهِ، وَلَوْ وُلِدَ شَخْصٌ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلَوْ بِدَقَائِقَ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ، لَكِنْ يُسَنُّ إِخْرَاجُهَا.

وَأَمَّا زَمَنُ دَفْعِهَا فَلَهُ وَقْتَانِ؛ وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَوَقْتُ جَوَازٍ:

فَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَهُوَ صَبَاحُ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ)).

وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَهُوَ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ نَافِعٍ قَالَ: ((كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إن كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ)).

إِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ بِلَا عُذْرٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعِيدِ إِلَّا بَعْدَ صَلَاتِهِ، أَوْ كَانَ وَقْتُ إِخْرَاجِهَا فِي بَرٍّ أَوْ بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ مُسْتَحِقٌّ -يَعْنِي: يُخْرِجُ إِلَيْهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ- أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.

وَيُخْرِجُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُوَافِيهِ تَمَامُ رَمَضَانَ وَهُوَ فِيهِ.

وَيُخْرِجُهَا الْإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعيُوا أَنْ يُخْرِجُوهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَطَاعُوا أَخْرَجُوهَا هُمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَكَّدَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ آخِذِهَا.

وَيَجُوزُ لِلْفَقِيرِ إِذَا أَخَذَ الْفِطْرَةَ -أَيْ: صَدَقَةَ الْفِطْرِ- مِنْ شَخْصٍ أَنْ يَدْفَعَهَا زَكَاةً عَنْ نَفْسِهِ أَوْ أَحَدِ عَائِلَتِهِ إِذَا تَأَكَّدَ مِنْ كَيْلِهَا.

وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إِخْرَاجُ الرَّدِيءِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا.

وَالْمُسْتَحِقُّونَ لِزَكَاةِ الْفِطْرِ: هُمُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ وَفَاءَهَا، فَيُعْطَوْنَ مِنْهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ.

((عَدَمُ جَوَازِ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قِيمَةً بَدَلَ الطَّعَامِ))

وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ بَدَلَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ((قِيلَ لِأَحْمَدَ -وَأَنَا أَسْمَعُ-: يُعْطِي دَرَاهِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَلَّا يُجْزِئَهُ، خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

الْأَوْلَى لِلْعَبْدِ الرَّاغِبِ فِي السَّلَامَةِ أَنْ يُخْرِجَهَا طَعَامًا مِنْ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ مُتَابَعَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى إِجْزَائِهِ.

لَا يَحْسُنُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ نَقْدًا، بَلْ لَا يَجُوزُ لِأُمُورٍ:

-أَنَّ الْعِبَادَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَأَنَّهُ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللهِ وَرَسُولِهِ.

 -وَزَكَاةُ الْفِطْرِ شَعِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِخْرَاجُهَا نَقْدًا يُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي فَرَضَهَا الشَّارِعُ لِحِكْمَةٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: ((طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ))، وَإِذَا أُخْرِجَتْ نَقْدًا فَقَدْ يَتَمَوَّنُهَا الْفَقِيرُ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ، فَيَضِيعُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فَرَضَ الشَّارِعُ هَذِه الشَّعِيرَةَ.

-وَالصَّحَابَةُ أَهْلُ تَيْسِيرٍ وَتَوْسِعَةٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَمُرَاعَاةٍ لِلْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ)).

فَإِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يُخْرِجُونَ زَكَاةَ الْفْطِرِ إِلَّا طَعَامًا فَلْيَسَعْنَا مَا وَسِعَهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

-وَالشَّارِعُ نَصَّ عَلَى الطَّعَامِ، وَإِخْرَاجُ الْقِيمَةِ عُدُولٌ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.

-وَإِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ مِنْ غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ مُجْزِئٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، وَإِخْرَاجُهَا نَقْدًا مُجْزِئٌ فِي قَوْلِ نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُسْلِمُ يَسْتَبْرِئُ لِدِينِهِ.

-إِيجَابُ الصَّاعِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مَعَ تَفَاوُتِ قِيمَتِهَا غَالِبًا هَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيمَةِ.

((زَكَاةُ الْفِطْرِ سَبِيلُ الْمَحَبَّةِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ الْعِيدِ))

فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِشَاعَةُ الْمَحَبَّةِ وَالْمَسَرَّةِ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْمُجْتَمَعِ، وَخَاصَّةً الْمَسَاكِينَ وَأَهْلَ الْحَاجَةِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِيدَ يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ؛ فَيَنْبَغِي تَعْمِيمُ هَذَا الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لِيَشْمَلَ جَمِيعَ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ وَمِنْهَا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ

((سُنَنٌ مَهْجُورَةٌ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبْيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

((كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ ))

فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ, وَمَا ظَهَرَتِ السُّنَّةُ فِي مَكَانٍ إِلَّا كَثُرَ فِيهِ الْخَيْرُ وَقَلَّ فِيهِ الشَّرُّ, وَإِنَّمَا يَكْثُرُ الشَّرُّ فِي الْمَكَانِ بِسَبَبِ قِلَّةِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ.

وَسُنَنُ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرَةٌ تَشْمَلُ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ كُلَّهَا؛ بِحَيْثُ إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا عَلِمَ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَحْوَالِهِ مُنْذُ يَسْتَيْقِظُ إِلَى أَنْ يَنَامَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَخَذَ بِمُعْظَمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِ.

((مَعْنَى السُّنَّةِ وَحِرْصُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى اتِّبَاعِهَا))

وَالسُّنَّةُ: هِيَ مَا أُثِرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.

وَالسُّنَّةُ يُثَابُ فَاعِلُهَا وَلَا يُعَاقَبُ تَارِكُهَا.

وَقَد حَرِصَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الْأَخْذِ بِأَوَامِرِ الرَّسُولِ ﷺ, وَالنَّهْلِ مِنْ مَعِينِهِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ, وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ)).

كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْمَلُونَ مَا يَعْمَلُهُ الرَّسُولُ, وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُهُ ﷺ, وَلَمْ يَقُولُوا: هَذِهِ سُنَّةٌ لَا نُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا, بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ يَأْبَى؟!)).

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)).

((خُطُورَةُ مَوْتِ السُّنَنِ))

وَمَوْتُ السُّنَنِ وَانْدِثَارُهَا, وَجَهْلُ النَّاسِ بِهَا, وَعَدَمُ تَطْبِيقِهَا عَلَامَةٌ عَلَى ظُهُورِ الْبِدَعِ وَفُشُوِّهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً, وَأَمَاتُوا سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَوْ تُرِكَتِ السُّنَنِ لِلْعَمَلِ لَتَعَطَّلَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَدَرَسَتْ رُسُومُهَا, وَعَفَتْ آثَارُهَا)).

((جُمْلَةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمَهْجُورَةِ))

وَهُنَاكَ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ قَلَّ الْعَمَلُ بِهَا وَهُجِرَتْ, وَمَا صَارَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ هَدَى اللهُ -تَعَالَى- قَلْبَهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ.

1- فَمِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ الَّتِي هُجِرَتْ أَوْ قَلَّ الْعَمَلُ بِهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ, وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ مَاجَه, وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

2- وَمِنَ السُّنَنِ الَّتِي جُهِلَت: الْبِدَايَةُ بِالْيُمْنَى عِنْدَ لُبْسِ النَّعْلِ, وَبِالْيُسْرَى عِنْدَ الْخَلْعِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى, وَإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ, أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَميعًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

3- وَمِنَ السُّنَنِ الَّتِي هُجِرَتْ أَوْ كَادَت: السِّوَاكُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ, مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ فِي كُلِّ وَقْتٍ, وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ: الْوُضُوءِ, وَالصَّلَاةِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ, وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ, وَعِنْدَ تَغَيُّرِ رَائِحَةِ الْفَمِ, وَسَوَاءٌ كَانَ مُفْطِرًا أَمْ كَانَ صَائِمًا, فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ فِي آخِرِهِ.

وَيَتَأَكَّدُ اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ -أَيْضًا-: عِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ.

وَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ مُنْدَثِرَةٌ عِنْدَ النِّسَاءِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَخْذِهِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ, وَفِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ.

4- وَمِمَّا تُرِكَ -أَوْ كَادَ-: صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).

5- وَمِمَّا تُرِكَ -أَوْ كَادَ-: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَمَضْمَضَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ, فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

6- وَمِنَ السُّنَنِ -أَيْضًا- الَّتِي كَادَتْ أَنْ تُهْجَرَ: الْوُضُوءُ قَبْلَ النَّوْمِ, وَالنَّوْمُ عَلَى الْجَنْبِ الْأَيْمَنِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلْ: اللهم أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْري إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

7- وَمِنَ السُّنَنِ: تَخْفِيفُ إِفْطَارِ الصَّائِمِ عِنْدَ الْمَغْرِبِ, ثُمَّ يَأْكُلُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَشَاءَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ, فَإِن لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

8- وَمِنَ السُّنَنِ الْمَهْجُورَةِ: سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ, أَوِ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ:

وَهُوَ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؛ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا للهِ -تَعَالَى-)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ: بِصَلَاةِ الشُّكْرِ؛ بَلْ هُوَ سُجُودُ الشُّكْرِ؛ وَهُوَ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ.

9- كَذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ: تَرْكُ السَّهَرِ فِي اللَّيْلِ وَالتَّبْكِيرُ بِالنَّوْمِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ؛ كَمُدَارَسَةِ عِلْمٍ, أَوْ مُعَالَجَةِ مَرِيضٍ, وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ, وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا)).

10- وَمِنَ السُّنَنِ: مُتَابَعَةُ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ, فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

11- وَمِنَ السُّنَنِ: الْمُسَابَقَةُ إِلَى الْأَذَانِ, وَالتَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلَاةِ, وَالْحِرْصُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ -أَيِ: الْأَذَانِ- وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ -أَيِ: التَّبْكِيرِ إِلَى الصَّلَاةِ- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ -أَيْ: صَلَاةِ الْعِشَاءِ- وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

12- وَمِنَ السُّنَنِ -أَيْضًا-: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ, بَلْ لَوْ قِيلَ لَهُ: ارْجِعْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ غَضَبًا وَلَا وَجْدًا؛ فَهَذَا أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَغْضَبُ إِذَا أَتَى عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ, وَقَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28].

قَالَ ﷺ: ((الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ؛ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ, وَإِلَّا فَارْجِعْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

13- وَمِنَ السُّنَنِ: نَفْضُ الْفِرَاشِ عِنْدَ النَّوْمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ -أَيْ: طَرَفَهُ- فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ, وَلْيُسَمِّ اللهَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ, فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ, وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللهم رَبِّي, بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ, إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

14- وَمِنَ السُّنَنِ: رُقْيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ, فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ, وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

15- وَكَذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ؛ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً, ثُمَّ يَقُولُ: ((اللهم لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ, أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

16- وَمِنَ السُّنَنِ: السَّلَامُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمُ الصِّبْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: ((أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟)).

قَالَ: ((تُطْعِمُ الطَّعَامَ, وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

17- وَمِنَ السُّنَنِ: الْوُضُوءُ قَبْلَ الْغُسْلِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ, ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ, ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ, ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ, ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

18- وَمِنَ السُّنَنِ -كَذَلِكَ-: التَّأْمِينُ خَلْفَ الْإِمَامِ, وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّأْمِينِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ السَّلَفُ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّأْمِينِ حَتَّى يَرْتَجَّ الْمَسْجِدُ.

19- وَكَذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ -بَلْ هَذَا وَاجِبٌ-: اتِّخَاذُ السُّتْرَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا -أَيْ: لِيَقْتَرِبْ مِنْهَا-، وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا, فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَمُرُّ فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَابْنُ مَاجَه, وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) وَغَيْرِهِ.

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَتَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَهَاوَنُ فِي اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ عِنْدَمَا يُصَلُّونَ النَّوَافِلَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

اجْتَهِدْ فِي أَنْ تَكُونَ حَيَاتُكَ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, اجْتَهِدْ فِي أَلَّا تَحُكَّ جِلْدَكَ بِظُفُرِكَ إِلَّا بِسُنَّةٍ وَأَثَرٍ؛ حَتَّى تَكُونَ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ, فَإِنَّكَ كُلَّمَا كُنْتَ مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ هَدَأَ قَلْبُكَ, وَارْتَاحَ ضَمِيرُكَ, وَانْشَرَحَ صَدْرُكَ, وَصَلُحَ بَالُكَ, وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُكَ؛ لِأَنَّكَ تَكُونُ مُتَّبِعًا لِخَيْرِ الْهَدْيِ, خَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ.

***

الدَّرْسُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ

((فِقْهُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ, وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّوَاصِي بِالْحَقِّ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ))

فَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ وَأَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ: التَّنَاصُحُ, وَالتَّوْجِيهُ إِلَى الْخَيْرِ, وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ, وَالتَّحْذِيرُ مِمَّا يُخَالِفُهُ, وَيُغْضِبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَيُبَاعِدُ مِنْ رَحْمَتِهِ.

((مَنْزِلَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ))

وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مَنْزِلَتُهُ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الرُّكْنَ السَّادِسَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ, وَقَدَّمَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الْإِيمَانِ فِي الذِّكْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وَقَدَّمَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ((سُورَةِ بَرَاءَة)) عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].

وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ إِيضَاحٌ لِعِظَمِ شَأْنِ هَذَا الْوَاجِبِ, وَبَيَانٌ لِأَهَمِّيَّتِهِ فِي حَيَاةِ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ وَالشُّعُوبِ, وَبِتَحْقِيقِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ تَصْلُحُ الْأُمَّةُ, وَيَكْثُرُ فِيهَا الْخَيْرُ, وَيَقِلُّ فِيهَا الشَّرُّ وَيَضْمَحِلُّ، وَيَتَنَاهَى فِيهَا الْمُنْكَرُ, وَبِإِضَاعَتِهِ تَكُونُ الْعَوَاقِبُ الْوَخِيمَةُ, وَالْكَوَارِثُ الْعَظِيمَةُ, وَالشُّرُورُ الْكَثِيرَةُ, وَتَتَفَرَّقُ الْأُمَّةُ, وَتَقْسُو الْقُلُوبُ أَوْ تَمُوتُ, وَتَظْهَرُ الرَّذَائِلُ وَتَنْتَشِرُ, وَيَظْهَرُ وَيَعْلُو صَوْتُ الْبَاطِلِ, وَيَفْشُو الْمُنْكَرُ.

((مِنْ فَضَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ))

1- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّهُ مِنْ مَهَامِّ وَأَعْمَالِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

2- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112].

عَلَى عَكْس أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

3- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ خِصَالِ الصَّالِحِينَ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114].

4- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّهُ مِنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَمِنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

5- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

6- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40-41].

7- وَمِنْ فَضْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أَنَّ الْقِيَامَ بِهِمَا عَظِيمُ الْمَقَامِ عِنْدَ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ، {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

قَالَ ﷺ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ, لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

8- وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَسْبَابِ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ ﷺ: ((فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ, وَالصَّلَاةُ, وَالصَّدَقَةُ, وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

9- وَفِي الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: حِفْظٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ؛ فِي الدِّينِ, وَالنَّفْسِ, وَالْعَقْلِ, وَالنَّسْلِ, وَالْمَالِ.

وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْفَضَائِلِ سِوَى مَا ذُكِرَ الْكَثِيرُ.

((عَوَاقِبُ تَرْكِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ))

وَإِذَا تُرِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَعُطِّلَتْ رَايَتُهُ وَنُكِثَتْ؛ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ, وَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ؛ مِنْهَا:

أَوَّلًا: وُقُوعُ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ, وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ, ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَلَمَّا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟)).

قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: عَدَمُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ, وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ؛ وَمِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَرْفُوعًا: ((مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا يُسْتَجَابَ لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

3- كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: انْتِفَاءُ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

فَخَيْرِيَّةُ الْأُمَّةِ مَنُوطَةٌ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

4- وَيَتَسَلَّطُ الْفُسَّاقُ وَالْفُجَّارُ وَالْكُفَّارُ بِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي, وَإِشَاعَةِ الْمُنْكَرَاتِ, وَاسْتِمْرَاءِ الذُّنُوبِ.

5- وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ, وَيَنْدَثِرُ الْعِلْمُ, وَتَخْبِطُ الْأُمَّةُ فِي ظُلْمَةٍ حَالِكَةٍ لَا فَجْرَ لَهَا, وَيَكْفي عَذَابُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ تَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَيْهِ, وَضَعْفِ شَوْكَتِهِ, وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ, وَذَهَابِ هَيْبَتِهِ.

لَوْ قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا يَصُومُ النَّهَارَ, وَيَقُومُ اللَّيْلَ, وَيَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يَغْضَبُ للهِ، وَلَا يَتَمَعَّرُ وَجْهُهُ وَلَا يَحْمَرُّ؛ فَلَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَهَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ، وَأَقَلِّهِمْ دِينًا، وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ أَحْسَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ.

((الْخُطُوَاتُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ))

وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالْخُطُوَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْإِنْكَارِ وَفِي الْأَمْرِ:

وَأَوَّلُ ذَلِكَ: التَّعْرِيفُ؛ فَإِنَّ الْجَاهِلَ يَقُومُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَظُنُّهُ مُنْكًرا؛ فَيَجِبُ إِيضَاحُهُ لَهُ, وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَيُبَيِّنُ لَهُ عِظَمَ أَجْرِهِ, وَجَزِيلَ ثَوَابِ مَنْ قَامَ بِهِ, وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحُسْنِ أَدَبٍ وَلِينٍ وَرِفْقٍ.

وَأَمَّا الْخُطْوَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْوَعْظُ؛ وَذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعِقَابِهِ, وَذِكْرِ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِشَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ لَهُ.

وَأَمَّا الْخُطْوَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّهَا بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِ الْيَأْسِ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَأَعْظَمُهُ التَّوْحِيدُ, وَحَذَّرُوا مِنَ الْمُنْكَرِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ؛ سَنَوَاتٍ طَوِيلَاتٍ دُونَ كَلَلٍ وَلَا مَلَلٍ.

وَالْخُطْوَةُ الرَّابِعَةُ: إِهْدَاءُ مَا يَنْفَعُهُ؛ مِنْ نُسْخَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, أَوْ رِسَالَةٍ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَعِظَمِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ يَسْتَوْجِبُ مِنَ الْإِنْسَانِ الرِّفْقَ, وَالْحِلْمَ, وَسَعَةَ الصَّدْرِ, وَالصَّبْرَ, وَعَدَمَ الِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ, وَرَحْمَةَ النَّاسِ, وَالْإِشْفَاقَ عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةٌ إِلَى الْحِرْصِ وَبَذْلِ النَّفْسِ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُوَفِّقَنَا جَمِيعًا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ, وَأَنْ يَأْخُذَ بِأَيْدِينَا إِلَى الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافِ وَالْغِنَى, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

الدَّرْسُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ

((رَمَضَانُ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوْبَةِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ التَّوْبَةِ))

فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ, وَجَعَلَهُ فَجْرًا تَبْدَأُ مَعَهُ رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ بِقُلُوبِ مُنْكَسِرَةٍ, وَدُمُوعٍ مُنْسَكِبَةٍ, وَجِبَاهٍ خَاضِعَةٍ.

قَالَ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 50].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وَقَالَ -تَعَالَى- حَاثًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالْأَوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)).

وَهَذَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ -وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ- يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَتَأَمَّلْ فِي فَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى التَّائِبِ الْعَابِدِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه, وَالْبَيْهَقِيُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا, ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ, فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَدُلَّ عَلَى عَابِدٍ, فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

قَالَ: لَا, فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ, ثُمَّ حَنَّتْ نَفْسُهُ إِلَى التَّوْبَةِ, فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ, فَقَالَ: قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

قَالَ: وَمَنِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! وَلَكِنَّ أَرْضَكَ أَرْضُ سُوءٍ, فَدَعْهَا وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ كَذَا؛ فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ.

فَخَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ فَقُبِضَ, فَتَنَازَعَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, تَقُولُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: مَا عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ!! وَتَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ تَائِبًا.

فَأَرْسَلَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَيْهِمْ مَلَكًا عَلَى هَيْئَةِ رَجُلٍ فَحَكَّمُوهُ, فَقَالَ: قِيسُوا بَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ, وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي ذَهَبَ مُهَاجِرًا إِلَيْهِ, فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ فَلْتَقْبِضْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ بَشِبْرٍ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ)).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ, وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ, وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)).

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ)).

فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ وَلِيَّهَا فَقَالَ: ((أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا)).

فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ((تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟!)).

فَقَالَ: ((لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ, وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((رَمَضَانُ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوْبَةِ))

إِنَّ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوْبَةِ لِمَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَا يَكُونَنَّ الْمُفرِطُ مِمَّنْ رَغِمَ أَنْفُهُ وَخَسِرَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ؛ فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

((رَغِمَ أَنْفُهُ)) أَيْ: أَذَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقَهَرَهُ, وَجَعَلَ أَنْفَهُ عَلَى الرَّغَامِ -وَهُوَ التُّرَابُ-.

فَلَا يَأْخُذَنَّ الْهَوَى وَمُلْهِيَاتُ النَّفْسِ عَبْدًا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)) أَيْ: إِلَّا مَنْ رَفَضَ وَامْتَنَعَ. قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟)).

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ إِلَّا صِنْفًا مِنْهُمْ لَا يُرِيدُونَ دُخُولَ الْجَنَّةِ، لَا زُهْدًا فِيهَا، وَلَكِنْ جَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، وَتَرَاخِيًا وَتَكَاسُلًا عَنْ دُخُولِهَا، وَتَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْمُتَعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ.

فَجِدَّ فِي التَّوْبَةِ، وَسَارِعْ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا تَحْتَ شَجَرَةِ طُوبَى، وَلَا لِلْمُحِبِّ قَرَارٌ إِلَّا يَوْمَ الْمَزِيدِ.

فَسَارِعْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهُبَّ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِكَ يَوْمُ الْعَوْدَةِ إِلَى رَبِّكَ، فَاصْدُقْ فِي ذَلِكَ السَّيرَ، وَلْيَهْنِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: ((للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهم أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ عِنْدِي: التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ مَعَ رَجَاءِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْر نَدَامَةٍ، وَتَوَقُّعُ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- بِغَيْرِ طَاعَةٍ، وَانْتِظَارُ زَرْعِ الْجَنَّةِ بِبَذْرِ النَّارِ، وَطَلَبُ دَارِ الْمُطِيعِينَ بِالْمَعَاصِي، وَانْتِظَارُ الْجَزَاءِ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَالتَّمَنِّي عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الْإِفْرَاطِ، وَمَنْ أَحَبَّ الْجَنَّةَ انْقَطَعَ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ خَافَ النَّارَ انْصَرَفَ عَنِ السَّيِّئَاتِ)).

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ، لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْجَؤُهُ الشَّيْءُ يُعْجِبُهُ فَيَقُولُ: وَاللهِ! إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي، وَلَكِنْ -وَاللهِ- مَا مِنْ وُصْلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيُفْرِطُ الشَّيْءُ فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللهِ! مَا لِي عُذْرٌ بِهَا، وَاللهِ! لَا أَعُودُ لِهَذَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ.

إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْثَقَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ».

إِنَّ جِهَادَ النَّفْسِ جِهَادٌ طَوِيلٌ، وَطَرِيقٌ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ، مَذَاقُهُ مُرٌّ، وَمَلْمَسُهُ خَشِنٌ؛ فَعَلَيْكَ بِالسَّيْرِ فِي رِكَابِ التَّائِبِينَ، حَتَّى تَحُطَّ رِحَالَكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.

قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: ((مَنْ خَلَا قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَرْبَعَةِ أَخْطَارٍ فَهُوَ مُغْتَرٌّ لَا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ:

الْأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي؛ فَلَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ؟!

الثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ, فَنَادَى الْمَلَكُ بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ, وَلَا يَدْرِي أَمِنَ الْأَشْقِيَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟!

الثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ, فَلَا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللهِ أَمْ بِسَخَطِهِ؟!

الرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، فَلَا يَدْرِي أَيَّ الطَّرِيقَيْنِ يُسْلَكُ بِهِ؟!)).

((تُوبُوا وَأَعِينُوا إِخْوَانَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ))

يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ.

فَيَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ وَفِطْنَةٍ أَنْ يَحْذَرَ عَوَاقِبَ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَبَيْنَ اللهِ -تَعَالَى- قَرَابَةٌ وَلَا رَحِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، حَاكِمٌ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ حِلْمُهُ يَسَعُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ عَفَا، فَعَفَا عَنْ كُلِّ كَثِيفٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَخَذَ بِالْيَسِيرِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ!

وَكُلُّنَا أَصْحَابُ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَكِنَّ خَيْرَنَا مَنْ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيُبَادِرُ إِلَى الْعَوْدَةِ، تَحُثُّهُ الْخُطَى، وَتُسْرِعُ بِه الدَّمْعَةُ، وَيُعِينُهُ أَهْلُ الْخَيْرِ وَرُفَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِ الْأُخُوَّةِ فِي اللهِ: عَدَمَ تَرْكِ الْعَاصِي يَسْتَمِرُّ فِي مَعْصِيَتِهِ، بَلْ يُحَاطُ بِإِخْوَانِهِ، وَيُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ، وَلَا يُهْمَلُ وَلَا يُتْرَكُ فَيَضِلَّ وَيَشْقَى.

أَرَأَيْتَ إِنْ نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ شَأْنٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَقِفُ مَعَهُ وَتُعِينُهُ؟!

فَالْآخِرَةُ أَوْلَى وَأَبْقَى.

وَلَوْ تَفَقَّدَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَخَاهُ وَقَرِيبَهُ وَجَارَهُ؛ لَصَلَحَتِ الْحَالُ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، خَاصَّةً فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي صَفَتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَاطْمَأَنَّتْ فِيهِ النُّفُوسُ، وَسَارَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّهَا فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُصْحِ الْمُذْنِبِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ.

وَالْحَالُ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((رَأَيْتُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي صَفِّ مُحَارَبَةٍ، وَالشَّيَاطِينُ يَرْمُونَهُمْ بِنَبْلِ الْهَوَى، وَيَضْرِبُونَهُمْ بِأَسْيَافِ اللَّذَّةِ، فَأَمَّا الْمُخَلِّطُونَ فَصَرْعَى مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ اللِّقَاءِ، وَأَمَّا الْمُتَّقُونَ -جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ- فَفِي جَهْدٍ جَهِيدٍ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ، فَلَا بُدَّ مَعَ طُولِ الْوَقْتِ فِي الْمُحَارَبَةِ مِنْ جِرَاحٍ، مِنْهُمْ يُجْرَحُونَ وَيُدَاوَوْنَ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنَ الْقَتْلِ مَحْفُوظُونَ، بَلْ إِنَّ الْجِرَاحَةَ فِي الْوَجْهِ شَيْنٌ بَاقٍ؛ فَلْيَحْذَرْ ذَلِكَ الْمُجَاهِدُونَ)).

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا لَا نَعْصِيهِ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا, وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهَا حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَى الْإِخْلَاصِ مُؤْمِنِينَ مُتَّقِينَ مُحْسِنِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

***

 

 

 

 

الدَّرْسُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ

((وَدَاعُ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالْقُرْآنِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

((وَدَاعُ رَمَضَانَ وَالتَّأَمُّلُ فِي أَسْرَارِ وَمَقَاصِدِ الصِّيَامِ))

فَنَحْنُ عَلَى وَشْكِ أَنْ نُوَدِّعَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، هَذِهِ الْعِبَادَةُ الَّتِي لَا تَعُودُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كُلَّ عَامٍ.

نُوَدِّعُ هَذِهِ الْعِبَادَةَ وَنَرَى حَقًّا عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ فِي مَعَانِيهَا وَأَسْرَارِهَا الْعَظِيمَةِ وَمَقَاصِدِهَا الْجَلِيلَةِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الصَّوْمِ تَحْقِيقُ التَّقْوَى، هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي مَتَى مَا قَامَ بِالْعَبْدِ فَقَدْ أَخَذَ اللهُ -تَعَالَى- بِنَاصِيَتِهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، ذَلِكَ أَنَّ التَّقْوَى تَحْمِلُ عَلَى امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحْظُورِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فَمَنْ أَدَّى هَذِهِ الْعِبَادَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاءِ الذِّمَّةِ فَقَطْ دُونَ تَلَمُّحٍ لِمَعَانِيهَا وَأَسْرَارِهَا وَحِكَمِهَا فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَقَفَ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِهَا، وَنَظَرَ هَلْ قَامَ بِالْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ مَعَهُ مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ)).

وَأَمَرَ مَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشَّهْوَةِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَصَالِحَ الصَّوْم لَمَّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِم، وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنَّةً.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي أَحْوَالِنَا وَنَحْنُ نُوَدِّعُ شَهْرَ الصَّوْمِ هَلْ زَادَ إِيمَانُنَا؟!

هَلْ زَادَتْ طَاعَاتُنَا وَعِبَادَاتُنَا؟!

هَلِ انْفَطَمْنَا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ؟!

هَلْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ شُرُورِنَا؟!

هَلِ انْفَطَمْنَا عَنْ فُضُولِ الطَّعَامِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالنَّوْمِ؟!

فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوى، فَلِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَالدَّعَاوَى لَا بُدَّ لَهَا مِنْ بَيِّنَاتٍ، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123].

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِتَرْكِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ إِلَّا بَعْدَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِتَرْكِ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كُلِّ حَالٍ؛ مِنَ الْكَذِبِ، وَالظُّلْمِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ؛ وَلِهَذا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ)).

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((أَهْوَنُ الصِّيَامِ تَرْكُ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ)).

وَقَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْجَارِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ يَوْمَ صَوْمِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً))».

إِذَنْ؛ حَقِيقَةُ الصِّيامِ هِيَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى، فَتَصُومُ الْجَوَارِحُ، وَتَنْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَتَنْبَعِثُ الْجَوَارِحُ لِطَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-.

قَالَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَيْسَ تَقْوَى اللهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ)).

حَقِيقَةُ التَّقْوَى حِفْظُ الْجَوَارِحِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى-، وَلُزُومُهَا طَاعَتَهُ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْمَرْفُوعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: ((الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى)).

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُلُ فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْقَلْبِ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُحَرَّمٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَيَتَضَمَّنُ -أَيْضًا- حِفْظَ الْبَطْنِ مِنْ إِدْخَالِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ.

فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ بِلَفْظٍ قَرِيبٍ».

فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ حَقَائِقُهَا، وَرُوحُهَا، لَيْسَ صُوَرَهَا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج: 37])).

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْإِخْلَاصُ وَتَقْوَى اللهِ كَانَتْ كَالْقُشُورِ الَّذِي لَا لُبَّ فِيهِ، وَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ)).

((وَدَاعُ رَمَضَانَ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ))

نُوَدِّعُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ مَا نُوَدِّعُ، وَكُلُّنَا وَجِلُونَ خَائِفُونَ، أَنَدْرِي مَا الَّذِي قَبِلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَعْمَالِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: يُعْطُونَ الْعَطَاءَ وَهُمْ خَائِفُونَ أَلَّا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ؛ لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعْطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ وَالِاحْتِيَاطِ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؟)).

قَالَ: ((لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتصَدَّقُ وَيَخَافُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )). وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: ((لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ)) )).

((حَالُ الْمُسْلِمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ))

الشَّأْنُ بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ فِي أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ:

الْأَوَّلُ: حِفْظُ الطَّاعَةِ.

وَالثَّانِي: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنَ الْخَيْرِ.

حِفْظُ الطَّاعَةِ.. فَأَنْتَ قَدْ جَاهَدْتَ نَفْسَكَ، وَأَسْهَرْتَ لَيْلَكَ، فَاحْفَظْ أَجْرَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ عَنْ أَنْ تَذْهَبَ لِغَيْرِكَ، فَلَا تَضْرِبْ هَذَا، وَلَا تَشْتِمْ هَذَا، وَلَا تَغْتَبْ هَذَا، فَحَسَنَاتٌ أَتَتْ بِجَهْدٍ كَبِيرٍ، فَلَا تُهْدِرْهَا بِسُهُولَةٍ لِغَيْرِكَ، كُنْ عَاقِلًا، وَأَلْجِمْ نَفْسَكَ!

الثَّانِي: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا اعْتَدْتَهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ فَقَدْ وَفَّقَكَ اللهُ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَدَاوِمْ عَلَى فِعْلِهَا، حَافِظْ عَلَيْهَا، لَا تُضَيِّعْ أَجْرَهَا، لِأَيِّ شَيْءٍ تَتْرُكُ ذَلِكَ وَتُضَيِّعُهُ؟!!

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92].

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَادَ الْخَيْرَ وَعَمِلَ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى الرَّغْبَةِ عَنِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بَعْدَ الْإِقْدَامِ شَرٌّ مِنْ عَدَمِ الْإِقْدَامِ، فَلُزُومُ الطَّاعَةِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ شُكْرِ اللهِ الَّذِي يَسَّرَ لَكَ فِعْلَهَا وَأَدَاءَهَا، وَتَرْكُهَا وَتَضْيِيعُهَا هُوَ كُفْرَانٌ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ)).

إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ.

وَاسْتِمْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ مَعَالِمِ فَلَاحِهِ وَمَظَاهِرِ تَوْفِيقِهِ، وَعُنْوَانُ قَبُولِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَمَلَهُ مِنْهُ؛ وَلِذَا عُنِيَ النَّبِيُّ الرَّحِيمُ ﷺ بِحَثِّ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَقِبَ انْصِرَامِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ عَلَى شَرِيعَةِ رَمَضَانَ الْعُظْمَى الصِّيَامِ، فَقَالَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَقَالَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ))؛ لِأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، وَالْحَسَنَةُ تَقُولُ: أُخْتِي أُخْتِي، وَالسَّيِّئَةُ كَذَلِكَ؛ وَلِذَا فَقَدْ كَانَ كُلُّ عَمَلِ النَّبِيِّ ﷺ دِيمَةً، وَكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

كَيْفَ لَا يُدَاوِمُ الْحَازِمُ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ ﷺ.. كَيْفَ لَا يُدَاوِمُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَقِبَ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ، وَرَبُّ الشُّهُورِ وَاحِدٌ؟!!

((ضَرُورَةُ حِفْظِ الْعُمُرِ))

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي رِعَايَةِ الْوَقْتِ وَحِفْظِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَبَّهُ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَمَدَّ فِي عُمُرِهِ حَتَّى يَشْهَدَ هَذَا الشَّهْرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، فَوَجَدَ نَفْسَهُ -حِينَئِذٍ- قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ فِي الدُّنْيَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا مَنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -تَعَالَى- أَنْ نَدْعُوَهُ بِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ بِالْتِزَامِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ.

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمَسْؤُولُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنا، وَأَنْ يُفْضِلَ عَلَيْنَا، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَ سُنَّتَهُ وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

***

الدَّرْسُ الثَّلَاثُونَ

((سُنَنُ الْعِيدِ وَجُمْلَةٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ فِيهِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اسْتِمْرارُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ رَمَضَانَ))

فَاسْتِمْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ مَعَالِمِ فَلَاحِهِ وَمَظَاهِرِ تَوْفِيقِهِ، وَعُنْوَانُ قَبُولِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَلَهُ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ عُنِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِحَثِّ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَقِبَ انْصِرَامِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ عَلَى شَعِيرَةِ رَمَضَانَ الْكُبْرَى وَهِيَ الصِّيَامُ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

لِأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، وَالْحَسَنَةُ تَقُولُ: أُخْتِي أُخْتِي، وَالسَّيِّئَةُ كَذَلِكَ؛ وَلِذَا فَقَدْ كَانَ كُلُّ عَمَلِ النَّبِيِّ ﷺ دِيمَةً.

((مَعَانِي الْعِيدِ وَغَايَاتُهُ فِي الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ شَارَفَ مَسِيرُ هَذَا الشَّهْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، يَعْقُبُهُ مَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ الْعِيدُ، وَهُوَ مَوْسِمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَاجْتِمَاعٍ، يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ دَوْرَةِ الزَّمَنِ.

سُمِّيَ عِيدًا اشْتِقَاقًا مِنْ: (عَادَ يَعُودُ)، وَلَمَّا كَانَ مَوْسِمُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ هَذَا يَعُودُ كُلَّمَا عَادَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لَهُ حَسُنَ فِي أَذْوَاقِ وَاضِعِي اللُّغَةِ أَنْ يُسَمُّوهُ عِيدًا.

الْعِيدُ فِي اللُّغَةِ -أَيْضًا-: الْعَادَةُ، فَقِيلَ: اشْتُقَّ الْعِيدُ مِنَ الْعَادَةِ، وَجَمْعُ الْعِيدِ: أَعْيَادٌ، وَيُقَالُ: عَيَّدَ النَّاسُ إِذَا شَهِدُوا عِيدَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: جَمَّعُوا إِذَا شَهِدُوا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ.

الْعِيدُ فِي الْإِسْلَامِ دَلَّتْ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ نُصُوصِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ -كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ))- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ((قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى -أَيْ: وَيَوْمَ الْأَضْحَى-)).

عِيدُ الْفِطْرِ مَوْسِمُ فَرْحَةٍ عَقِبَ تَأْدِيَةِ فَرِيضَةِ الصِّيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ، فَهُوَ عِيدُ الْفَرْحَةِ بِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَالظَّفَرِ بِجَائِزَةِ الْغُفْرَانِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-، وَاسْتِحْقَاقِ الدُّخُولِ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَهُوَ الْبَابُ الْمُخَصَّصُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ لِلصَّائِمِينَ.

وَعِيدُ الْأَضْحَى مَوْسِمُ فَرْحَةٍ عَقِبَ تَأْدِيَةِ جُمْهُورٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَهَمَّ وَأَكْبَرَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَقَدْ جَاءَ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ)) أَيْ: هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ.

فَالْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يُشَارِكُونَ فِي الْفَرَحِ بِهَذَا الْعِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.

الْأَعْيَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَوَاسِمُ فَرَحٍ عَامٍّ تَكُونُ عَقِبَ تَأْدِيَةِ عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَعِيدُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ تَتْوِيجٌ لِصَلَوَاتِ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ.

إِنَّ ظَاهِرَةَ الْأَعْيَادِ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ مُثِيرَةٌ لِلْإِعْجَابِ، إِنَّهَا تُشْعِرُ بِأَنَّ أَعْظَمَ فَرْحَةٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا هِيَ فَرْحَتُهُمْ بِانْتِصَارِ إِرَادَتِهِمُ الْخَيِّرَةِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَبِخَلَاصِهِمْ مِنْ أَسْرِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَسُلْطَانِ تَسْوِيلَاتهِ، وَبِفَرْحَتِهِمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَالظَّفَرِ بِجَوَائِزِ الْغُفْرَانِ، وَالْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، وَالْوَعْدِ الْكَرِيمِ بِالْجِنَانِ.

وَالْعِيدُ فَاصِلٌ ضَرُورِيٌّ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ؛ لِلتَّرْوِيحِ عَنِ النَّفْسِ، وَإِطْلَاقِهَا مِنْ رَوَابِطِ الْعَمَلِ الْمُتَتَابِعِ الْجَادِّ.

إِنَّ أَيَّامَ الْأَعْيَادِ فِي الْإِسْلَامِ لَا صَوْمَ فِيهَا، هِيَ أَيَّامُ ضِيَافَةِ الرَّحْمَنِ، أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَيَّامُ فُسْحَةٍ لِشَيْءٍ مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّهْوِ مِمَّا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ.

الْعِيدُ مُنَاسَبَةٌ كَرِيمَةٌ لِالْتِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ، وَتَفَقُّدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهَذَا مِنَ الْغَايَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُحَقِّقُهَا الْأَعْيَادُ فِي الْإِسْلَامِ.

إِنَّ الْعِيدَ فَاصِلٌ زَمَنِيٌّ يَلْتَفِتُ فِيهِ الْمُسْلِمُ إِلَى أَدَاءِ وَاجِبَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَتَعَمَّقُ بِهَا مَعَانِي الْوِحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَعَانِي الْجَسَدِيَّةِ الْوَاحِدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْأَعْيَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَوْقِيفِيَّةٌ عَنِ الشَّارِعِ لَا يَصِحُّ التَّعْدِيلُ فِيهَا، وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا؛ إِذِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْبِدَعِ الْمَرْفُوضَةِ.

((عِبَادَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي خِتَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ))

لَقَدْ شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ فِي خِتَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ عِبَادَاتٍ تَزِيدُهُمْ قُرْبًا إِلَيْهِ -تَعَالَى-، وَتَزِيدُ فِي إِيمَانِهِمْ قُوَّةً، وَفِي مَوَازِينِ أَعْمَالِهِمْ حَسَنَاتٍ؛ مِنْهَا:

-زَكَاةُ الْفِطْرِ فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُؤَدَّى إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، فَتُدْفَعُ إِلَى أَهْلِهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الطَّعَامِ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ.

-وَمِمَّا شَرَعَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي خِتَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ: التَّكْبِيرُ عِنْدَ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ مِنْ غُرُوبِ شَمْس آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ أَنْ يَقُولَ: ((اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَيَسْتَمِرُّ فِي التَّكْبِيرِ مِنْ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنَ الْخُطْبَةِ.

((أَدِلَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَحُكْمُهَا))

لَقَدْ شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- لَنَا صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أُمَّتَهُ.

وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُ فِيهَا أُمُورًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ:

الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}  [الكوثر: 2].

وَالْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ؛ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: حُكْمُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ:

قِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فَرْضُ عَيْنٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}  [الكوثر: 2].

وَلِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَمَرَنَا -تَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ- أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 ((الْعَوَاتِقَ)): وَهُنَّ الْأَبْكَارُ، ((وَذَوَاتِ الْخُدُورِ)): الْخُدُورُ: الْبُيُوتُ، وَقِيلَ: الْخِدْرُ: سِتْرٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ.

مِمَّا يُؤَكِّدُ فَرْضِيَّةَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَاظَبَ عَلَيْهَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّيَرِ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ (2هـ)، وَلَمْ يَزَلْ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، وَوَاظَبَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ الْوُجُوبَ.

وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- الْقَوْلَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فَرْضُ عَيْنٍ.

((جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْعِيدِ))

آدَابُ صَلَاةِ الْعِيدِ كَثِيرَةٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا النُّصُوصُ؛ مِنْهَا:

-الْغُسْلُ يَوْمَ الْعِيدِ، ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ نَافِعٍ: ((أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى)).

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((سُنَّةُ الْفِطْرِ ثَلَاثٌ: الْمَشْيُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْأَكْلُ قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَالِاغْتِسَالُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ)): ((رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)).

فَمِنْ آدَابِ الْعِيدِ: الْغُسْلُ يَوْمَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ)).

وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً -وَالْجُبَّةُ: ثَوْبٌ- مِنَ اسْتَبْرَقٍ -وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالدِّيبَاجُ: الثِّيَابُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ إِبْرَيْسَمٍ- أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنَ اسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ)).

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْخَلَاقُ: النَّصِيبُ يَعْنِي: لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْإِيمَانِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ((وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّجَمُّلَ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُورًا, قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ)).

-وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ تَمْرَاتٍ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ وِتْرًا، وَأَمَّا عِيدُ الْأَضْحَى فَالْأَفْضَلُ أَلَّا يَأْكُلَ حَتَّى يَرْجِعَ مِنَ الْمُصَلَّى فَيَأْكُلُ مِنْ أُضْحِيَتِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفِطْرِ أَلَّا يَظُنّ ظَانٌّ لُزُومَ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّي الْعِيدَ.

-وَيَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ؛ فَعَنْ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَمَّا عِنْدَ الضَّعْفِ أَوْ عِنْدَ الْمَرَضِ أَوْ عِنْدَ بُعْدِ الْمُصَلَّى عَنْ مَوْطِنِ الْمُصَلِّي فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّ السُّنَّةَ أَنْ تَأْتِيَ الْمُصَلَّى مَاشِيًا.

«مِنْ آدَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ: أَنْ تُصَلَّى صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى، وَلَا يُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا لِحَاجَةٍ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى؛ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ خَرَجَ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى وَتَرَكَ الْمَسْجِدَ)).

-وَالسُّنَّةُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْمُصَلَّى مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَعْظَمُ الْحِكَمِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الْمُسْلِمُ هِيَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمِمَّا قِيلَ فِي حِكْمَةِ مُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ يَوْمَ الْعِيدِ مَا يَلِي:

قِيلَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِيَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ.

وَقِيلَ: لِيَشْهَدَ لَهُ سُكَّانُهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.

وَقِيلَ: لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ فِي الطَّرِيقَيْنِ.

وَقِيلَ: لِإِظْهَارِ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى-.

وقِيلَ: لِيَغِيظَ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ.

وَقِيلَ: لِيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ.

وَقِيلَ: لِزِيَارَةِ الْأَقْرِبَاءِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ.

وَقِيلَ: لِيَتَفَاءَلَ بِتَغْيِيرِ الْحَالِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرِّضَا.

وَقِيلَ: لِتَخْفِيفِ الزِّحَامِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقِفُ فِي الطُّرُقَاتِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ.

-وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ التَّبْكِيرُ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَمَّا الْإِمَامُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى؛ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْتَظَرُ وَلَا يَنْتَظِرُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالدَّلِيلُ عَلَى سُنِّيَّةِ الْخُرُوجِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَا يَلِي:

عَمَلُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْمُصَلَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ حَضَرُوا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَقَدَّمُوا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْبَقُ إِلَى الْخَيْرِ)).

-وَيُكَبِّرُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

وَقَدْ جَاءَ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، وَحَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ)).

وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَوْقُوفًا أَنَّهُ: ((كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى إِذَا غَدَا إِلَى الْمُصَلَّى حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ بِتَكْبِيرِهِ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ ((أَحْكَامِ الْعِيدَيْنِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ)).

قَالَ أَحْمَدُ: ((يُكَبِّرُ جَهْرًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى)).

قَالَ الْقَاضِي فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: ((حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ)).

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: ((يُكَبِّرُ النَّاسُ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِصَلَاتَيِ الْعِيدَيْنِ جَهْرًا حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى)).

وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ: ((وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّكْبِيرِ جَهْرًا فِي الطّرِيقِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَأُوا يَتَسَاهَلُونَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُصْبِحَ فِي خَبَرِ كَانَ؛ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ مِنْهُمْ، وَخَجَلِهِمْ مِنَ الصَّدْعِ بِالسُّنَّةِ، وَالْجَهْلِ بِهَا.

وَمِمَّا يَحْسُنُ التَّذْكِيرُ بِهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْجَهْرَ بِالتّكْبِيرِ هُنَا لَا يُشْرَعُ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْبَعْضُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِكْرٍ يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الصَّوْتِ أَوْ لَا يُشْرَعُ؛ فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ الْمَذْكُورُ، فَلْتَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلْتَذْكُرْ دَائِمًا قَوْلَ نَبِيِّكَ ﷺ: ((وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ )) )).

هَذِهِ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِكُمْ أَمَرَكُمْ بِهَا رَبُّكُمْ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَنَا بِالتَّكْبِيرِ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ بُيُوتِنَا لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَفِي الْمُصَلَّى حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامُ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ التَّكْبِيرُ، لَا نَسْتَحِي مِنْ ذَلِكَ.

-السُّنَّةُ أَلَّا يُصَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهَا، فَهَذَا إِذَا كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا وَمَعَهُ بِلَالٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَمْ يَكُنْ هُوَ ﷺ وَلَا أَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ إِذَا انْتَهَوْا إِلَى الْمُصَلَّى شَيْئًا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا)).

لَكِنْ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ لِخَوْفٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ أَوْ رِيحٍ شَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ فَلَا يَجْلِسُ الْمُسْلِمُ -يَعْنِي: إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ- حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَوَاضِحٌ أَنَّهُمَا لَا عَلَاقَةَ لَهُمَا بِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا هُمَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ.

-وَالسُّنَّةُ أَنَّهُ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْعِيدَيْنِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَا: ((لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

-مِنَ السُّنَنِ خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ مُتَحَجِّبَاتٍ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((تَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ -أَوِ: الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ فِي رِوَايَةٍ- وَالْحُيَّضُ؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى)).

وَفِي لَفْظٍ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ -لِأَنَّهُنَّ لَا يُصَلِّينَ- فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ)).

قَالَ: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

صَلَاةُ الْعِيدِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْمَرْأَةِ، لَكِنَّهَا سُنَّةٌ فِي حَقِّهَا، وَتُصَلِّيهَا فِي الْمُصَلَّى مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَخُرُوجُ النِّسَاءِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ)).

وَيَخْرُجْنَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَلَا مُخْتَلِطَاتٍ بِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضَوَابِطِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا.

-كَذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ: خُرُوجُ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدُوا دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَابٌ: خُرُوجُ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى))، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى فَصَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)).

قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: بَابٌ: خُرُوجُ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى أَيْ: فِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا))».

فَمِنَ السُّنَّةِ خُرُوجُ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدُوا دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مَعَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَضْبِطُهُمْ عَنِ اللَّعِبِ، وَعَمَّا يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ صَلَاتَهُمْ، أَوْ عَنْ وُقُوعِ الْمُشَاجَرَاتِ بَيْنَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

«وَيَقْضِي صَلَاةَ الْعِيدِ مَنْ فَاتَتْهُ مَعَ الْإِمَامِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَابٌ: إِذَا فَاتَتْهُ الْعِيدَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ)), وَقَالَ عَطَاءٌ: ((إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ) )).

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حُكْمَانِ:

مَشْرُوعِيَّةُ اسْتِدْرَاكِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْجَمَاعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالِاضْطِرَارِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ.

وَالْحُكْمُ الثَّانِي: كَوْنُهَا تُقْضَى رَكْعَتَيْنِ كَأَصْلِهَا))».

-«مِنَ السُّنَّةِ: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَرُوِّينَا فِي ((الْمُحَامِلِيَّاتِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ)).

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ التَّهْنِئَةِ فِي الْعِيدِ فَأَجَابَ: ((أَمَّا التَّهْنِئَةُ يَوْمَ الْعِيدِ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ، وَأَحَالَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ))».

-وَلَا بَأْسَ بِاللَّعِبِ بِالدُّفِّ لِلْجَوَارِي، وَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ)).

((تُغَنِّيَانِ)) أَيْ: تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ شِعْرِ الْعَرَبِ، وَهُوَ إِنْشَادٌ بِصَوْتٍ رَقِيقٍ فِيهِ تَمْطِيطٌ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْحُدَاةِ -أَيْ: مَا يَصْنَعُهُ الْحَادِي أَمَامَ الْإِبِلِ لِتَنْشِيطِهَا عَلَى الْمَسِيرِ-.

وَهُنَا أَمْرٌ مُهِمٌّ: يَنْبَغِي عَلَيْكَ دَائِمًا أَلَّا تُخْضِعَ الْمُصْطَلَحَاتِ الشَّرْعِيَّةَ وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظَ الْقُرْآنِيَّةَ وَالنَّبَوِيَّةَ وَمَا جَرَى عَلَى لِسَانِ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي عِنْدَكَ عَنْ مَعَانِي هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ وَالْأَلْفَاظِ؛ يَعْنِي: إِذَا قُلْنَا الْآنَ (الْغِنَاءَ)؛ فَإِنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى ذِهْنِكَ عَلَى حَسَبِ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ هُوَ غِنَاءُ أَهْلِ الْعَصْرِ.

إِذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: ((تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ))؛ إِيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ غِنَاءَ الْجَارِيَتَيْنِ كَغِنَاءِ فُلَانَةٍ وَفُلَانَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ، هَذَا ظُلْمٌ لِنَفْسِكَ لَا لِلدِّينِ وَلَا لِلْجَارِيَتَيْنِ وَلَا لِعَائِشَةَ، بَلْ لِنَفْسِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي هَذَا وَفِيمَا هُوَ أَخْطَرُ مِنْهُ.

 ((تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ)): وَ(بُعَاثٌ): مَوْضِعٌ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى لَيْلَتَيْنِ، قِيلَ: هُوَ اسْمُ حِصْنٍ لِلْأَوْسِ، مَوْضِعُ الْوَقْعَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَقُتِلَ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ صَنَادِيدُ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ شِعْرًا وَقَالَ هَؤُلَاءِ شِعْرًا، وَمَضَى الْعَمَلُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَغَنُّونَ بِتِلْكَ الْأَشْعَارِ.

((فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ ﷺ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، قَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((دَعْهُمَا))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا)).

قَالَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَانَ الشِّعْرُ الَّذِي تُغَنِّيَانِ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَفِي ذِكْرِهِ مَعُونَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَأَمَّا الْغِنَاءُ بِذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَالِابْتِهَارِ بِالْحَرَامِ -يَعْنِي: الِاشْتِهَارِ بِالْحَرَامِ- وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْلِ فَهُوَ الْمَحْظُورُ مِنَ الْغِنَاءِ، وَحَاشَاهُ ﷺ أَنْ يَجْرِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَيُغْفِلُ النَّكِيرَ لَهُ، وَكُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ جَاهِرًا بِهِ وَمُصَرِّحًا بِاسْمِهِ لَا يَسْتُرُهُ وَلَا يُكَنِّي عَنْهُ فَقَدْ غَنَّى)).

 ((جُمْلَةٌ مِنْ مُخَالَفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعِيدِ))

-مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدَيْنِ: الْقَوْلُ بِمَشْرُوعِيَّةِ إِحْيَاءِ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ مُحْتَسِبًا للهِ -تَعَالَى- لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ))، وَحَدِيثِ: ((مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَلَيْلَةَ الْأَضْحَى لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ)). هَذَانِ حَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ لَا أَصْلَ لَهُمَا.

فَتَخْصِيصُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ اللَّيَالِي لَا يَجُوزُ، أَمَّا مَنْ كَانَ يَقُومُ سَائِرَ اللَّيَالِي فَلَا حَرَجَ أَنْ يَقُومَ لَيْلَةَ الْعِيدِ.

-وَمِنَ الْمُخَالَفَاتِ: تَرْكُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الصَّلَاةَ -صَلَاةَ الْعِيدِ- مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ تَرْكُهُمُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.

-وَمِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدَيْنِ: سَهَرُ النَّاسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَبِالتَّالِي يَنَامُونَ عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَجَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْعِيدِ فِي الْإِسْلَامِ.

-وَمِنَ الْمُخَالَفَاتِ: هَجْرُهُمْ لِبَعْضِ سُنَنِ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ؛ مِنْ ذَلِكَ: يَتْرُكُونَ سُنَّةَ التَّكْبِيرِ فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ وَيَوْمِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالتَّشْرِيقِ، مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَشَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي عِيدِهِمْ.

وَالْجَهْرَ بِهِ -أَيْ: بِالتَّكْبِيرِ- فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.. الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ إِعْلَانٌ لِتَعْظِيمِ اللهِ، وَإِظْهَارٌ لِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَإِحْيَاءٌ لِلسُّنَّةِ، وَتَذْكِيرٌ لِلْغَافِلِينَ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُسِرُّ بِالتَّكْبِيرِ.

يَهْجُرُونَ سُنَنَ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ؛ كَالتَّكْبِيرِ فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ وَيَوْمِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَالتَّبْكِيرِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَكَمُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ، وَأَكْلِ تَمْرَاتٍ وِتْرًا قَبْلَ الْخُرُوجِ لِمُصَلَّى الْعِيدِ فِي الْفِطْرِ، وَلَا يَأْكُلُ فِي الْأَضْحَى شَيْئًا حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، وَكَذَلِكَ يُخَالِفُ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمُصَلَّى الذَّهَابَ مَاشِيًا وَالْعَوْدَ مَاشِيًا.

-وَمِنَ السُّنَّةِ -كَمَا مَرَّ- عَدَمُ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهَا إِلَّا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَقَطْ.

-وَالتَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ: كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ)).

هَذِهِ التَّهْنِئَةُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ: كُلُّ عَامٍ وَأَنْتُمْ بِخَيْرٍ -مَعَ أَنَّهَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ الصِّيَاغَةُ، الصَّوَابُ: كُلَّ عَامٍ أَنْتُمْ بِخَيْرٍ-؛ لِأَنَّهَا تَهْنِئَةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))، فَهِيَ تَهْنِئَةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَلِأَنَّ فِيهَا دُعَاءً وَتَهْنِئَةً.

-التَّكْبِيرُ الْجَمَاعِيُّ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، التَّكْبِيرُ الْجَمَاعِيُّ: هُوَ الِاجْتِمَاعُ لِلتَّكْبِيرِ وَجَعْلُهُ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، وَبِاتِّبَاعِ صَوْتِ الْغَيْرِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ فِي الْعِيدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَمَا رَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  مَنْ يُكَبِّرُ جَمَاعِيًّا قَالَ لَهُمْ: ((لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عِلْمًا، أَوْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا)).

-وَكَذَا قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: صَلَاةُ الْعِيدِ أَثَابَكُمُ اللهُ، أَوِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، صَلَاةُ الْعِيدِ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا لَا أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ وَلَا قَوْلُ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، وَلَا غَيْرُهَا، فَالنِّدَاءُ لِلْعِيدِ بِدْعَةٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ.

-مِنَ الْمُخَالَفَاتِ: أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ يَخْرُجْنَ بِالتَّمْرِ مَعَهُنَّ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ يُفْطِرْنَ فِيهِ، وَهَذَا الْعَمَلُ بِدْعَةٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَبَعْضُهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْعِيدِ بَعْدَ الْفَجْرِ، يَقُلْنَ: مَا نُفْطِرُ إِلَّا بِالْمُصَلَّى، وَهَذَا -أَيْضًا- لَا أَصْلَ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِنْسَانُ الْفِطْرَ مِنْ حِينَ يَثْبُتُ الْعِيدُ؛ لِأَنَّ إِمْسَاكَ يَوْمِ الْعِيدِ حَرَامٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْخُرُوجُ بِالتَّمْرِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ وَأَكْلُهُ هُنَاكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْبِدَعِ.

-اعْتَادَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ لِزِيَارَةِ وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ أَوْ قَرِيبٍ قَبْلَ أَيِّ عَمَلٍ آخَرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُعَايِدُونَ بِالْمَوْتَى، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُمْ أَسْبَقُ النَّاسِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ.

-وَمِمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ -أَيْضًا- فِي الْأَعْيَادِ: حَلْقُ اللِّحَى؛ فَأَوَّلُ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ هُوَ التَّزَيُّنُ بِحَلْقِ اللِّحَى، مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مُحَرَّمٌ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى حُرْمَةِ حَلْقِ اللِّحَى.

-وَكَذَا الْإِسْبَالُ فِي الثِّيَابِ وَالْأُزُرِ وَالسَّرَاوِيلِ؛ فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْهَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ نَازِلًا فَهُوَ فِي النَّارِ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ لِلْخُيَلَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْخُيَلَاءِ فَأَعْظَمُ إِثْمًا.

وَالْإِسْبَالُ فِي الثِّيَابِ مِمَّا يَحْسَبُهُ النَّاسُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، وَهُوَ: إِطَالَةُ اللِّبَاسِ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.

-وُجُوبُ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الْعِيدِ، وَالْمُنْكَرَاتُ فِي الْعِيدِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا.

مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ:

-الشِّرْكُ بِاللهِ -تَعَالَى-: بِالتَّقَرُّبِ لِأَصْحَابِ الْقُبُورِ، وَدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِ اللهِ الْعَزِيزِ الْغَفُورِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ وَالْبُلْدَانِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106-107].

-مِمَّا تَرَاهُ -أَيْضًا- مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الْكَبِيرَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: الْكِبْرُ؛ فَبَعْضُ النَّاسِ أَيَّامَ الْعِيدِ يَحْتَقِرُ النَّاسَ، وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِمْ، وَيُعْجَبُ بِنَفْسِهِ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَقَدْ تَرَى هَذَا فِي الْمُصَلَّى، هُوَ يَأْنَفُ أَنْ تَكُونَ بِجَانِبِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ نِيَّتَهُ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي طَوِيَّتِهِ، وَأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ!     

-وَمِنْ مُنْكَرَاتِ الْعِيدِ: الْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ وَالْمَعَازِفُ؛ فَبَعْضُ النَّاسِ يُضَيِّعُونَ أَوْقَاتَ الْعِيدِ الْمُبَارَكِ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِلشَّيْطَانِ: {اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 63-64].

قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ الصَّوْتِ هُنَا: ((هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ؛ أَيِ: اسْتَشْغِفْهُمْ بِذَلِكَ، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ})).

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6-7].

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: ((الْغِنَاءُ -وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ-)) يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَتَبِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَمُجَاهِدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ-.

وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَجَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ  الْمَاءُ الْبَقْلَ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ)).

-وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: مُصَافَحَةُ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ فِي هَذَا الْمُحَرَّمِ خَاصَّةً أَيَّامَ الْأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ تَحْرِيمَ مُصَافَحَةِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

-وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا.

 التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي أَزْيَائِهِمْ وَمَلَابِسِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَذَلِكَ فِي لُبْسِ كَثِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا يَنُمُّ عَنْ تَشَبُّهٍ وَاضِحٍ وَتَقْلِيدٍ أَعْمَى لِلْكُفَّارِ، مِمّا غَزَانَا بِهِ أَعْدَاؤُنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّا اسْتَحْدَثُوهُ مِنْ هَذِهِ الْأَزْيَاءِ الْفَاضِحَةِ وَالْمُوضَاتِ الَّتِي  وَضَعُوا أَشْكَالَهَا وَتَفْصِيلَهَا وَرَاجَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ لَا تَسْتُرُ الْعَوْرَةَ؛ لِقِصَرِهَا، أَوْ شَفَافِيَتِهَا، أَوْ ضِيقِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ حَتَّى بَيْنَ النِّسَاءِ وَأَمَامَ الْمَحَارِمِ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَلْبِسَةِ مَا تَلْبَسُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ مِمَّا يَكُونُ ذَا فَتْحَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الْأَسْفَلِ، أَوْ مَشْقُوقًا مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ، فَإِذَا جَلَسَتْ ظَهَرَ مِنْ عَوْرَتِهَا مَا ظَهَرَ!!

وَمِنَ الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ كَذَلِكَ مَا يُوجَدُ عَلَى بَعْضِ الْمَلَابِسِ مِنَ الصُّوَرِ السَّيِّئَةِ كَصُوَرِ الْمُغَنِّينَ وَالْفِرَقِ الْمُوسِيقِيَّةِ، وَالْجَمْعِيَّاتِ الْخَبِيثَةِ كَالْمَاسُونِيَّةِ وَإِشَارَاتِهَا، أَوِ الْعِبَارَاتِ الرَّدِيئَةِ، أَوِ الشِّعَارَاتِ الْمُخِلَّةِ بِالشَّرَفِ وَالْعِفَّةِ وَالْعَقِيدَةِ، أَوْ مَا فِيهِ سَبٌّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي كَثِيرًا مَا تَكُونُ مَكْتُوبَةً بِلُغَاتٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَكَانَ لِزَامًا عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَحَقَّقَ مِمَّا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ أَوْ لِأَوْلَادِهِ.

-وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْفَاشِيَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: تَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِي الْمَلَابِسِ أَوِ الْحَرَكَاتِ أَوِ الزِّينَةِ، أَوْ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ النِّسَاءِ، وَتَشَبُّهُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْأَعْيَادِ وَفِي غَيْرِهَا، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ)).

-وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْفَاشِيَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: الْخَلْوَةُ بِالنِّسَاءِ أَيَّامَ الْأَعْيَادِ أَوْ فِي الْأَفْرَاحِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَمَنْ خَلَا بِامْرَأَةٍ فَالشَّيْطَانُ ثَالِثُهُمَا؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)).

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)).

قَالَ: ((الْحَمْوُ الْمَوْتُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْحَمْوُ: قَرِيبُ الزَّوْجِ.

وَالْمَعْنَى: فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلْ.

وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)).

-وَمِمَّا هُوَ فَاشٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ: تَبَرُّجُ النِّسَاءِ، وَخُرُوجُهُنَّ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَيَكْثُرُ أَيَّامَ الْعِيدِ خُرُوجُ النِّسَاءِ مُتَبَرِّجَاتٍ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ--.

-وَمِمَّا هُوَ فَاشٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي الْأَعْيَادِ: التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ.

يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

-وَمِمَّا هُوَ فَاشٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: عَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَكَثِيرًا مَا يُظْهِرُ أَبْنَاءُ الْأَغْنِيَاءِ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ، وَيَأْكُلُونَ الْمَأْكُولَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَمَامَ الْفُقَرَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ دُونَ رَحْمَةٍ وَلَا شَفَقَةٍ وَلَا تَعَاوُنٍ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

-وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: عَدَمُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ بِمَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ مُسَاعَدَاتٍ أَوْ زِيَارَاتٍ أَوْ إِحْسَانٍ أَوْ إِدْخَالِ سُرُورٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).

-وَمِمَّا يَكْثُرُ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ: عَبَثُ الْمُرَاهِقِينَ بِالْأَلْعَابِ النَّارِيَّةِ، وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا حَرَامٌ؛ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِضَاعَةُ الْمَالِ مُحَرَّمٌ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: أَنَّ فِيهَا أَذِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ بِأَصْوَاتِهَا الْمُزْعِجَةِ الْمُخِيفَةِ، وَرُبَّمَا يَحْدُثُ مِنْهَا حَرَائِقُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ قَابِلٍ لِلِاحْتِرَاقِ.

-وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ تَجْرِي عَادَةٌ  فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فِي أَيَّامِ الْفِطْرِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْمُنَاسَبَاتِ الدِّينِيَّةِ: وَهِيَ تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ؛ بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ إِنَارَتِهَا بِإِيقَادِ  السُّرُجِ عَلَيْهَا، أَوْ تَعْلِيقِ مَصَابِيحِ الْكَهْرُبَاءِ فَوْقَهَا أَوْ حَوْلَهَا، أَوْ فَوْقَ مَنَارَاتِهَا، وَتَعْلِيقِ الرَّايَاتِ وَالْأَعْلَامِ، وَوَضْعِ الزُّهُورِ عَلَيْهَا تَزْيِينًا وَإِعْظَامًا لَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْبِدَعِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ -أَيْضًا- عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَفِيهَا تَشَبُّهٌ بِالْكُفَّارِ فِيمَا يَصْنَعُونَ بِكَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَقَدْ نَهَى ﷺ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ.

-وَالِاخْتِلَاطُ فِي الْأَعْيَادِ فِي الْحَدَائِقِ وَفِي الْمَلَاهِي بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَنْ مُعَاكَسَاتٍ، وَالتَّجَمُّعَاتُ الَّتِي يُرْتَكَبُ فِيهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَكَذَا يُؤْتَى فِيهَا مَا يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ.

-وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْرًا مِنَ الدُّنْيَا يُسَافِرُونَ لِلْخَارِجِ لِلْمَعْصِيَةِ.

-إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْرَحُونَ بِالْعِيدِ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا رَمَضَانَ، وَانْتَهَوْا مِنَ الصِّيَامِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ فَإِنَّ الْعِيدَ يَفْرَحُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَفَّقَهُمْ لِإِكْمَالِ عِدَّةِ الشَّهْرِ وَإِتْمَامِ الصِّيَام، وَلَيْسَ الْفَرَحُ بِسَبَبِ إِنْهَاءِ الصِّيَامِ الَّذِي يَعُدُّهُ بَعْضُ النَّاسِ عِبْئًا ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((مَا فَرِحَ أَحَدٌ بِغَيْرِ اللهِ إِلَّا لِغَفْلَتِهِ عَنِ اللهِ)).

فَالْغَافِلُ يَفْرَحُ بِلَهْوِهِ وَهَوَاهُ، وَالْعَاقِلُ يَفْرَحُ بِمَوْلَاهُ، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

((نَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْعِيدِ))

أَعْيَادُ الْمُسْلِمِينَ تَنْبُعُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعِبَادِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِكَيْ لَا يَتْرُكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلنَّاسِ تَحْدِيدَ أَعْيَادِهِمْ دُونَ ضَابِطٍ أَوْ وَازِعٍ، وَلِكَيْ لَا يَكُونَ لِلنَّاسِ مَجَالٌ لِلِابْتِدَاعِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْمُسْلِمِينَ عِيدَيْنِ، فَالْأَعْيَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَوْقِيفِيَّةٌ عَنِ الشَّارِعِ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُطِيعَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ يُطِيعَ رَسُولَهُ ﷺ مَا اسْتَطَاعَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى سَلَامَةِ الْقَلْبِ وَصِحَّةِ الضَّمِيرِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَالصَّفْحِ، وَالتَّجَاوُزِ، وَالرَّحْمَةِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ.

((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

((الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)).

((الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)).

لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأَلْفَاظُ وَالنُّصُوصُ، لَا أَنْ يَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالنُّصُوصِ مَعَ الدَّوَرَانِ بَعِيدًا عَنْ تَحْقِيقِ مَعَانِيهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحَقِّقُ الْخَيْرِيَّةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الْأُمَّةِ.

يَمُرُّ الْعِيدُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَقُلُوبُهُمْ مَلِيئَةٌ بِالْحِقْدِ وَالضَّغِينَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَغْسِلُوهَا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا  آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفَضْلَ وَبَلَغَّهُ الْعِيدَ؛ فَالْعِيدُ فُرْصَةٌ لِأَنْ تَصْفُوَ النُّفُوسُ، وَتَتآلَفَ الْقُلُوبُ.

كَيْفَ يَمُرُّ الْعِيدُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ يَهْجُرُ أَخَاهُ بَلْ قَرِيبَهُ، وَالسَّبَبُ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ!

إِنَّ فُرْصَةَ الْعِيدِ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوَاصُلِ وَمُحَارَبَةِ الْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ، وَتَطْيِيبِ خَاطِرِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَأَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، فَلَا حِقْدَ وَلَا هَجْرَ، وَلَا شَحْنَاءَ وَلَا ضَغِينَةَ.

لَا يَحْمِلُ الْحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ     =       وَلَا يَنَالُ الْعُلَى مَنْ طَبْعُهُ الْغَضَبُ

لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُضَيِّعَ أَوْقَاتَ عُمُرِهِ فِي لَعِبِ الْأَوْرَاقِ، وَفِي قِيلَ وَقَالَ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْبَحْثِ عَنْ مَكْنُونِ السَّيِّئَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ السُّفَهَاءِ، وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ وَقْتٍ يَمُوتُ، وَمَنْ مَاتَ نَدِمَ غَايَةَ النَّدَمِ بَعْدَ فَوَاتِ الْفُرْصَةِ عَلَى ضَيَاعِ هَذِهِ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ الَّتِي هِيَ أَيَّامُ عُمُرِهِ فِي قِيلَ وَقَالَ، وَرُبَّمَا كَانَ ضَيَّعَ الْعُمُرَ فِي أَشْيَاءَ لَا تُرْضِي مَنْ خَلَقَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي.

فَعَلَيْنَا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَنْ نَعْرِفَ قَدْرَ رَأْسِ مَالِنَا، وَأَنْ نُقَدِّرَ أَعْمَارَنَا، وَنَعْرِفَ قِصَرَهَا، فَلَا نُضَيِّعُهُ فِيمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْمُجُونِ وَالْعَبَثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَهَذَا فِعْلُ السُّفَهَاءِ!

وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَتَذَكَّرُ بِتَفَاضُلِهِمْ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ التَّفَاضُلَ الْأَكْبَرَ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].

وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- وَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَعْمُرَ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ بِالطَّاعَةِ، وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَلَا يُمْضِهَا فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

أَيَّامُ الْعِيدِ لَيْسَتْ أَيَّامَ لَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، بَلْ هِيَ أَيَّامُ عِبَادَةٍ وَشُكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَتَقَلَّبُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَلَا يَعْرِفُ لَهَا حَدًّا، وَمِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ وَيَرْضَاهَا صِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَزِيَارَةُ الْأَقَارِبِ، وَتَرْكُ التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْفَقِيرِ.

وَتَأَمَّلْ دَوْرَةَ الْأَيَّامِ وَاسْتَوْحِشْ مِنْ سُرْعَةِ انْقِضَائِهَا، وَافْزَعْ إِلَى التَّوْبَةِ وَصِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَلْزِمْهَا الْعِبَادَةَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَهْدَأُ قَلْبُ الْمَؤْمِنِ وَلَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ حَتَّى تَطَأَ قَدَمُهُ الْجَنَّةَ، فَسَارِعْ إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَجَنِّبْ نَفْسَكَ نَارًا تَلَظَّى، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى.

اللهم ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَحْيِنَا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْآلِ وَالصَّحْبِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المصدر: مِنْ دُرُوسِ شَهْرِ رَمَضَانَ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ.. مَاذَا قَدَّمَتْ لِدِينِهَا وَدُنْيَاهَا وَوَطَنِهَا
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  ذِكْرُ اللهِ فِي رَمَضَانَ
  الْآدَابُ الْعَامَّةُ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّ الْأُمَمِ
  القنوط من رحمة الله
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  إلى أهل السودان الشقيق
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان