حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

((حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اسْتِخْلَافُ اللهِ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا))

فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].

وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ وَبَنُو آدَمَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.

وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

 ((قِيمَةُ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ الدُّنْيَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ، وَمُقَدِّمَةً وَمُمَهِّدَةً وَوَسِيلَةً لَهَا؛ فَهِيَ دَارُ عَمَلٍ وَاخْتِبَارٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، فَأَعْطَتْ شَرِيعَتُنَا الْغَرَّاءُ لِلْحَيَاةِ أَهَمِّيَّةً كَبِيرَةً وَقِيمَةً عَظِيمَةً فِي تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَطَاعَتِهِ، وَمِنْ تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ لِلْحَيَاةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى النَّفْسِ.

لَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى فَضْلِ طُولِ الْعُمُرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ، فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟)).

قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).

قَالَ: ((فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟)).

قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

خَيْرُكُم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ.

وَهَذَا وَرَدَ -أَيْضًا- فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا)).

فَخَيْرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ إِلَّا فَضْلًا، وَلَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا خَيْرًا، وَلَا يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنَ اللهِ إِلَّا قُرْبًا.

وَأَمَّا شَرُّ النَّاسِ فَمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَزْدَادُ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطُولِ عُمُرِهِ إِلَّا بُعْدًا.

خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ.

إِنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فُرْصَةٌ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فَرَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ عُمُرُهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا)). وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَنْ يُخَلِّفَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَتَعْبُدَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ تَسْجُدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي وَقْتٍ خَلَّفَكَ فِيهِ، وَإِنْ وَجَدْتَ مِنَ النَّصَبِ وَالْمَشَقَّةِ مَا وَجَدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ؛ إِذْ أَبْقَاكَ لِعِبَادَتِهِ، وَوَفَّقَكَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَعَانَكَ وَأَقْدَرَكَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا، وَنَحَّى عَنْكَ سُبُلَ الْقَطْعِ لَهَا.

هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)): ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا)).

وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللهم أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)).

فَرَعَى الضَّعْفَ الْإِنْسَانِيَّ، وَالْجَزَعَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ النُّفُوسُ، وَالطَّمَعَ الَّذِي تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ، وَتَخْضَعُ لَهُ الرِّقَابُ وَتَذِلُّ، فَرَعَى هَذَا كُلَّهُ؛ وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْوُجْهَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّائِبَةَ، فَقَالَ ﷺ: ((فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا..))؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ رُبَّمَا فَارَتْ بِهِ مَرَاجِلُ نَفْسِهِ غَلَيَانًا بِحَنَقٍ وَغَضَبٍ حَتَّى يَعْشَى فَيَعْمَى عَنِ اسْتِبْصَارِ سَبِيلِ الرَّشَادِ، حِينَئِذٍ يَنْطَلِقُ دَاعِيًا عَلَى نَفْسِهِ مُتَمَنِّيًا الْمَوْتَ، فَضَبَطَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ تِلْكَ الْحَالَةَ النَّفْسِيَّةَ، ((فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللهم أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)).

وَهُوَ تَفْوِيضٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدَرِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ قَسَمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَلَا يَسْتَعْجِلَنَّهُ أَحَدٌ؛ فَإِنَّهُ آتٍ فِي وَقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِ: ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)).

((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ)): جِبْرِيلُ جَاءَهُ بِهَذَا الْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي)): فِي نَفْسِي، وَالنَّفْثُ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَمَرَ اللهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، ((إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ أَجَلَهَا))، فَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ مَحْسُومَتَانِ أَزَلًا كَمَا قَضَاهُمَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدَّرَهُمَا، لَا يَتَقَدَّمَانِ وَلَا يَتَأَخَّرَانِ، وَلَا يَزِيدَانِ وَلَا يَقِلَّانِ؛ الْأَجَلُ وَالرِّزْقُ.

((فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)).

((حَقُّ الْحَيَاةِ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْعُظْمَى))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى؛ يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا، فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ؛ ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ خَلَقَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ وَكَرَّمَهُ، وَأَعْطَاهُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ؛ لِيَحْكُمَ حَيَاتَهُ، وَيَرْتَقِيَ بِهَا، خِلَافًا لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأُخْرَى، وَمِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ الرَّئِيسَةِ: الْحَقُّ فِي الْحَيَاةِ، كَمَا يَنْبَغِي الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ كَفَلَتْ حَقَّ الْحَيَاةِ لِلْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهَدِ، وَحَرَّمَتْ قَتْلَهُمْ إِلَّا بِالْحَقِّ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33].

((وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ نَفْسٍ {حَرَّمَ اللَّهُ} قَتْلَهَا؛ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَمُسْلِمٍ، وَكَافِرٍ لَهُ عَهْدٌ.

{إِلَّا بِالْحَقِّ}: كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْبَاغِي فِي حَالِ بَغْيِهِ إِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32].

((قَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ} قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا: {كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: شَرَعْنَا لَهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أَيْ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ؛ مِنْ قَصَاصٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا جِنَايَةٍ؛ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أَيْ: حَرَّمَ قَتْلَهَا وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ سَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا})).

((يَقُولُ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ، وَقَتْلِ أَحَدِهِمَا أَخَاهُ، وَسَنِّهِ الْقَتْلَ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَأَنَّ الْقَتْلَ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ وَخَسَارَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَهْلِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَى التَّبْيِينِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِحَقٍّ، فَلَمَّا تَجَرَّأَ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي لَمْ تَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ هَذَا الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، فَتَجَرُّؤُهُ عَلَى قَتْلِهِ كَأَنَّهُ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا؛ أَيِ: اسْتَبْقَى أَحَدًا فَلَمْ يَقْتُلْهُ مَعَ دُعَاءِ نَفْسِهِ لَهُ إِلَى قَتْلِهِ، فَمَنَعَهُ خَوْفُ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ قَتْلِهِ؛ فَهَذَا كَأَنَّهُ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْخَوْفِ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ يَجُوزُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ مُتَعَمِّدًا فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَتْلُهُ إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا مُكَافِئًا، لَيْسَ بِوَالِدٍ لِلْمَقْتُولِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِهِ لِأَدْيَانِ النَّاسِ، أَوْ أَبْدَانِهِمْ، أَوْ أَمْوَالِهِمْ؛ كَالْكُفَّارِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُحَارِبِينَ، وَالدُّعَاةِ إِلَى الْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُمْ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ لِقَتْلِهِمْ، أَوْ أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ)).

 ((مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ:

تَحْرِيمُ الشَّرِيعَةِ كُلَّ مَعَالِمِ الْإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ))

إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ إِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَخْلُقْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبَثًا، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي الْبَاطِلِ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَبَائِثَ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْمِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَأْكُلَ، وَأَنْ يَشْرَبَ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ، وَأَنْ يَزْدَانَ بِمَا خَلَقَ اللهُ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمُتَعِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

فَأَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُضْوٍ مِنْهُ.

وَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْخَمْرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُفَتِّرَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُخَدِّرَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بِسِوَاهَا.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الدِّينِ، وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ.

وَلا صَلَاحَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِالْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمَا وَرَاءَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الدِّيَاتِ قَائِمَةً، مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا نُصَّ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ؛ حِفْظًا لِلنَّفْسِ، وَحِفْظًا لِلْجَسَدِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُمْتَهَنَ، أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِ.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، وَمَنَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَنَهَى عَنْهَا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَجَعَلَ لَنَا دِينُنَا الْأَغَرُّ الْوَسَائِلَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الشَّرِّ مَحَرَّمَةً كَهُوَ؛ فَكُلُّ مَا أَفْضَى إِلَى شَرٍّ وَحَرَامٍ فَهُوَ شَرٌّ وَحَرَامٌ، وَكُلُّ مَا أَفْضَى إِلَى خَيْرٍ وَبِرٍّ فَهُوَ خَيْرٌ وَبِرٌّ؛ فَجَعَلَ لِلْوَسَائِلِ مَا لِلْمَقَاصِدِ مِنَ الْأَحْكَامِ.

فَنَهَى الدِّينُ الْحَنِيفُ عَنْ كُلِّ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْإِنْسَانِ؛ لِكَيْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَقُومَ الْإِنْسَانُ بِوَظِيفَتِهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ إِعْمَارَ هَذِهِ الْأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَبِإِقَامَةِ الدِّينِ، لَا تُعْمَرُ الْأَرْضُ إِلَّا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّورَ كُلَّهُ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ شَمْسِ الرِّسَالَةِ، فَمَهْمَا سَطَعَتْ أَنْوَارُ شَمْسِ الرِّسَالَةِ فِي مَكَانٍ عَمَّهُ الْخَيْرُ وَالْفَلَاحُ، وَالْبَرَكَةُ وَالنَّجَاحُ، وَمَهْمَا غَابَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ عَنْ مَكَانٍ فَهُوَ ظُلْمٌ كُلُّهُ، وَجَوْرٌ كُلُّهُ، وَهُوَ هَلَكَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى هَلَكَةٍ.

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِكُلِّ مَا يُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْإِنْسَانَ مُسْتَخْلَفًا فِي الْأَرْضِ؛ لِكَيْ يَقُومَ عَلَى عِمَارَتِهَا بِدِينِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحِيَاطَةِ شَرْعِهِ، وَعِبَادَةِ مَوْلَاهُ الَّذِي أَنْشَاهُ وَبَرَأَهُ، وَأَمَدَّهُ بِمَا أَمَدَّهُ بِهِ مِنْ أَلْوَانِ التَّسْخِيرِ فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعًا عَبَثًا، وَلَا كَائِنًا سُدًى، وَإِنَّمَا هُوَ لِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَحِكْمَةٍ بَاهِرَةٍ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ.

نَهَى الدِّينُ الْعَظِيمُ عَنْ كُلِّ شَرٍّ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّ نَبِيَّنَا ﷺ أُرْسِلَ إِلَيْنَا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَجَاءَ بِالْإِيمَانِ وَبِالْعَمَلِ، فَجَاءَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَمَهْمَا سَارَ الْمَرْءُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ اسْتَحْكَمَتْ أَوَاصِرُ الشَّرِّ بَعِيدًا عَنْ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَطَأَهَا بِقَدَمَيْهِ، وَاسْتَحْكَمَتْ أَوَاصِرُ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فِي نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ حَتَّى اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إِنَّكَ لَتَرَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ لَا يُحْسِنُونَ كَثِيرًا مِنْ دُرُوبِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَفْقَهُونَ كَثِيرًا مِنْ مُوَاضَعَاتِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَعَلُّمًا وَعَمَلًا، وَعِبَادَةً وَدَعْوَةً، وَإِقَامَةً لِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي يَنْفِي الْخَبَائِثَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ، وَيُعْلِي رَايَةَ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِي هَذَا الْأَمْرِ.

وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ نَادَى بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَنَادَى بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ شَرَعَ فِي نِدَاءِ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، فَنَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ، وَقَالَ: ((اعْمَلْ؛ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا))، وَنَادَى صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَمَرَهَا بِالْعَمَلِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا مِنَ اللهِ شَيْئًا، ثُمَّ وَصَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى غَايَةِ الْقُرْبَى بِالْقُرْبِ وَالْقَرَابَةِ، فَقَالَ: ((يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ؛ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

فَالْأَوَاصِرُ كُلُّهَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْأَنْسَابُ مَقْطُوعَةٌ؛ إِلَّا مَا كَانَ للهِ، وَمَعَ اللهِ، وَبِاللهِ ((وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ لَمْ يُغْنِ عَنْ أَبِيهِ شَيْئًا، وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ نُوحًا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُغْنِ عَنِ ابْنِهِ شَيْئًا، وَلَا عَنِ امْرَأَتِهِ، وَكَذَا لُوطٌ لَمْ يُغْنِ عَنِ امْرَأَتِهِ شَيْئًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَالِغَةِ، فَيَشْفَعُ فِيهِ لَا لِخُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا لِيُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ، وَلَهُ جَمْرَتَانِ مِنَ النَّارِ بِإِخْمَصَيْ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَغْلِي مِنْهُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّارِ دِمَاغُهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَدِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْعَدْلُ كُلُّهُ، وَهُوَ الْحَقُّ كُلُّهُ، وَهُوَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ النُّورُ كُلُّهُ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ كُلُّهَا، وَهُوَ الْبِرُّ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ ظُلْمَةٌ، وَظُلْمٌ وَجَوْرٌ، وَفِسْقٌ، وَطُغْيَانٌ، وَبُهْتَانٌ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذَا الْكِيَانِ الْإِنْسَانِيِّ؛ لِأَنَّنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ نُؤَدِّيَ الْوَظِيفَةَ فِي الْحَيَاةِ بِالْأَجْسَادِ الْمُتَهَالِكَةِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ الْحَمْلَ الْأَعْمَى مِنْ غَيْرِ مَا بَصِيرَةٍ تَلُوحُ فِي أُفُقِ الرُّوحِ.

((مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ:

نَهْيُ الشَّرِيعَةِ عَنِ الدُّعَاءِ عَلَى أَنْفُسِنَا))

لَقَدْ نَهَانَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ أَنْ نَدْعُوَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَنَهَانَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ أَنْ يَتَمَنَّى الْوَاحِدُ مِنَّا الْمَوْتَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُزْهِقَ رُوحَهُ بِيَدِهِ، فَإِذَا كَانَ الدِّينُ الْأَغَرُّ.. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِهِ يَأْمُرُ النَّاسَ أَلَّا يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَلَّا يَدْعُوَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَلَّا يَتَمَنَّى أَحَدُهُمُ الْمَوْتَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)).

فَإِذَا دَعَوْتَ عَلَى نَفْسِكَ فَقَدْ دَعَوْتَ بِلِسَانِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللهَ قَطُّ، وَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِكَ، وَالتَّأْمِينُ دُعَاءٌ، كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ فِي شَأْنِ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]، مَعَ أَنَّ مُوسَى كَانَ دَاعِيًا، وَكَانَ هَارُونُ مُؤَمِّنًا؛ فَنَزَّلَ الْمُؤَمِّنَ عَلَى الدُّعَاءِ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

فَإِذَا دَعَوْتَ عَلَى نَفْسِكَ فَقَدْ دَعَوْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ، وَالْمَلَكُ لَمْ يَعْصِ اللهَ قَطُّ؛ فَمَا أَحْرَى هَذَا أَنْ يُسْتَجَابَ.

((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)). هَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ)).

فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الشَّرِّ؛ فَكَيْفَ بِمُوَاقَعَتِهِ؟! فَكَيْفَ بِالْوُلُوغِ فِيهِ، وَالسَّيْرِ فِي أَوْحَالِهِ؟!

((مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ:

حُرْمَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ))

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ؛ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء:93].

وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].

فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ؛ فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!

إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ، وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ  كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى؛ فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَان-.

إِنَّ تَأْشِيرَةَ الدُّخُولِ الَّتِي يُشْتَرَطُ تَوَفُّرُهَا لِدُخُولِ أَيِّ أَجْنَبِيٍّ لِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ تُمَثِّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ عَقْدًا يُشْبِهُ عَقْدَ الْأَمَانِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ؛ لَا سِيَّمَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ التَّأْشِيرَةُ صَادِرَةً بِنَاءً عَلَى دَعْوَةٍ مُقَدَّمَةٍ مِنْ مُسْلِمٍ لِأَجْنَبِيٍّ؛ لِزِيَارَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، أَوْ لِلْعَمَلِ بِهَا.

وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السَّائِحَ أَوِ الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَمَا يُقْبِلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ؛ عِنْدَمَا يَحْصُلُ عَلَى تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ قَبُولُهُ لِلْمَجِيءِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ التَّأْشِيرَةَ لَا تَعْنِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ -أَيْ: مِنْ تَأْمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَعِرْضِهِ-.

وَالْأَمَانُ هُوَ: عَهْدٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى؛ بِأَنْ تُؤَمِّنَ غَيْرَكَ، أَوْ أَنْ يُؤَمِّنَكَ غَيْرُكَ، وَهُوَ تَعَهُّدٌ بِعَدَمِ لُحُوقِ الضَّرَرِ مِنْ جِهَتِكَ إِلَيْهِ؛ وَلَا مِنْ جِهَتِهِ إليْكَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عَقْدٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ عَلَى الْحَصَانَةِ مِنْ لُحُوقِ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَلَا مِمَّنْ وَرَاءَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ.

وَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التَّوْبَة: 6].

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ».

وَمَنْحُ الْأَمَانِ مِنْ حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا، فَيَصِحُّ مِنَ الْإِمَامِ، وَمِنْ آحَادِ النَّاسِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَفِي صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْأَمَانِ مِنْ مَجْنُونٍ وَنَحْوِهِ.

يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَمَانَ إِذَا أُعْطِيَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ حَرُمَ قَتْلُهُمْ، وَمَالُهُمْ، وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ، وَيَصِحُّ -يَعْنِي: عَقْدَ الْأَمَانِ- مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ؛ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا.

وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَقْدِيمِ مَصْلَحَتِهِمْ.

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ».

يَعْنِي: إِذَا اسْتَقْدَمَ صَاحِبُ عَمَلٍ -فَرْدًا كَانَ أَوْ شَرِكَةً- بَعْضَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَلِ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ دَخَلَ بِتَأْشِيرَةٍ لِلدُّخُولِ صَحِيحَةٍ؛ فَهَذَا عَقْدُ أَمَانٍ، فَمَنْ أَخْفَرَ ذِمَّتَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجَرْتُ أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ.

فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، إنَّمَا يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ». وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ دُونَ قُيُودٍ، أَمَّا آحَادُ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَانُهُمْ لِلْوَاحِدِ، أَوْ لِلْعَشَرَةِ، أَوْ لِلْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ : «وَيَصِحُّ أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلْوَاحِدِ، وَللْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ الَّذِي مرَّ حَدِيثُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ وَجَمْعٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ».

إِذَا انْعَقَدَ الْأَمَانُ صَارَتْ لِلْحَرْبِيِّ لِلْمُقَاتِلِ، لِلْمُحَارِبِ-؛ صَارَتْ لَهُ حَصَانَةٌ مِنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ؛ سَوَاءٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَمَّنَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الذِّمِّيِّينَ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا» .

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «الْأَمَانُ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ الْحَرْبِ حَرُمَ قَتْلُهُمْ، وَمَالُهُمْ، وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ».

فَعِنْدَمَا نَنْظُرُ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمَانِ؛ نَجِدُ تَشَابُهًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ؛ سَوَاءٌ فِي تَحْدِيدِ الْجِهَةِ الَّتِي يُمْكِنُ صُدُورُ أَيٍّ مِنْهَا عَنْهَا، أَوْ فِي حُدُودِ حَقِّ كُلِّ جِهَةٍ فِي مَنْحِ الْأَمَانِ أَوِ التَّأْشِيرَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ؛ مِنْ عِصْمَةِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْحَصَانَةِ، وَمِنْ تَعَمُّدِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِمَنْ صَدَرَ بِحَقِّهِ الْأَمَانُ، أَوْ حَصَلَ عَلَى التَّأْشِيرَةِ.

أَمَّا كَوْنُ تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ الْيَوْمَ تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أَمَانٍ تَمْنَعُ مِنْ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْأَجَانِبِ وَالسُّيَّاحِ -يَعْنِي: حَتَّى لَوْ قَالُوا: لَا يُعَدُّ أَمَانًا!-؛ فَيُقَالُ: شُبْهَةُ أَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ نَفْسُهُ؛ فَالْعِبْرَةُ فِي انْعِقَادِ الْأَمَانِ بِمَا يَفْهَمُهُ مَنْ يَطْلُبُ الْأَمَانَ.

وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ وَالسَّائِحِ إِذَا دَخَلَ الْبِلَادَ بِأَمَانٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْأَجْنَبِيُّ أَوِ السَّائِحُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ يَظُنُّهُ صَحِيحًا وَهُوَ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَإنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، أَوْ أنْ يُقِرَّ الْإِمَامُ مِثْلَ هَذَا الْأَمَانِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَصِحُّ قَتْلُهُ.

فَإِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ تَأْشِيرَةَ الدُّخُولِ لَا تُمَثِّلُ أَمَانًا صَحِيحًا فَعَلَى كُلِّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ: لَا يَصِحُّ قَتْلُ الْأَجَانِبِ وَالسُّيَّاحِ الَّذِينَ دَخَلُوا بِهَا الْبِلَادَ -أَيْ بِتِلْكَ التَّأْشِيرَةِ-، وَاعْتَقَدُوا صِحَّتَهَا؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْنُوحَةً لَهُمْ مِمَّنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ.

وَبِنَاءً عَلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ: فَإِنَّ اعْتِبَارَ تَأْشِيرَةِ الدُّخُولِ بِمَثَابَةِ الْأَمَانِ، أَوْ تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أَمَانٍ يَمْنَعُ اسْتِهْدَافَ الْأَجَانِبِ بِالقَتْلِ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ؛ انْطِلَاقًا مِنْ كَوْنِهَا أَكْثَرَ دَلَالَةً عَلَى الْأَمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الفُقَهَاءُ دَلِيلًا عَلَى انْعِقَادِ الْأَمَانِ.

بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي انْعِقَادِ الْأَمَانِ بِمَا يَفْهَمُهُ الْأَجْنَبِيُّ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ تَأْشِيرَةَ الدُّخُولِ لَا تُعَدُّ أَمَانًا صَحِيحًا؛ فَالْوَاجِبُ الرَّاجِحُ رَدُّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ.

إِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْقِفَ الْإِسْلَامِ مِنِ امْتِدَادِ الْحَرْبِ، وَالْقِتَالِ لِغَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ؛ أَدْرَكْتَ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ، وَعُمْقَ سَمَاحَتِهِ؛ فَعِنْدَمَا يَأْتِي النَّهْيُ الْقَاطِعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِنْ خُلَفَائِهِ عَنِ اسْتِهْدَافِ: النِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى -يَعْنِي: أَصْحَابَ الْعَاهَاتِ-، وَالرُّهْبَانِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَالْأُجَرَاءِ ؛ تَعْلَمُ عِنْدَئِذٍ الْمَوْقفَ الْحَقِيقِيَّ لِلْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِهْدَافِ «الْمَدَنِيِّينَ» بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ: «النِّسَاءَ، الْوِلْدَانَ، الشُّيُوخَ، الْمَعْتُوهِينَ، الْأُجَرَاءَ، الْفَلَّاحِينَ، الرُّهْبَانَ، الْعَبِيدَ، الْوُصَفَاءَ»؛ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ أَدْرَكْتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي مَجْمُوعِهِمْ يُمَثِّلُونَ مَنْ لَا يَنْتَصِبُونَ لِلْقِتَالِ، وَلَا يُشَارِكُونَ فِي وَقَائِعِهِ؛ وَهَلْ تَعْبِيرُ «الْمَدَنِيِّينَ» الْيَوْمَ لَهُ دَلَالَةٌ سِوَى هَذَا؟!

وَمِنْ هُنَا جَاءَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُمَانَعَةِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْمَدَنِيِّينَ بِالْمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.

وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ اسْتِهْدَافِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُقَاتَلةِ وَالْمُمَانَعَةِ لَمْ يَأْتِ نَتِيجَةَ اخْتِيَارٍ فِقْهِيٍّ، وَلَا تَرْجِيحٍ مَصْلَحِيٍّ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِهْدَافِ أَغْلَبِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِبَيَانٍ نَبَوِيٍّ وَوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، مِمَّا يَرْفَعُ دَرَجَةَ هَذَا النَّهْيِ فِي نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحَذَرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .

وَعَنِ ابْنِ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟»

فَقَالَ: عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ».

قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ: «قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، قَالَ: «حَسَنٌ صَحِيحٌ».

وَالْعَسِيفُ: هُوَ الْأَجِيرُ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَجْتَهِدَ فِي نُصْرَةِ دِينِنَا، لَا فِي خِذْلَانِهِ، لَا فِي مُحَارَبَتِهِ، يَنْبَغِي أَنْ نَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَمِنْ أَوْلِيَاءِ رَسُولِ اللهِﷺ، وَأَلَّا نَكُونَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، وَلَا مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِهِﷺ، وَأَلَّا نَصُدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.

((مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ: حُرْمَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ))

مَنْ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَاسْتَعْجَلَ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِهِ، وَارْتَكَبَ بَابًا عَظِيمًا مِنَ الْإِثْمِ، وَاقْتَرَفَ كَبِيرَةً عَظِيمَةً مِنَ الْكَبَائِرِ -كَبَائِرِ الذُّنُوبِ-.

عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ السِّكِّينَ فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ -يَعْنِي: لِرَجُلٍ مِمَّنْ يُدْعَى بِالْإِسْلَامِ- قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُ: ((هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).

فَلَمَّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدَا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ لَهُ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِنَّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِلَى النَّارِ)).

فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ؛ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ((اللهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) ﷺ.

ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: ((إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)). هَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْغَالِّ، وَقَاتِلِ نَفْسِهِ)).

فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

لَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29-30].

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْبَخْعِ كَمَا تَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْهِنْدِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ صَحِيحًا أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَأَوَّلَهُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ.

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} بِارْتِكَابِ مَا يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.

{إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أَيْ: أَمَرَ بِمَا أَمَرَ، وَنَهَى عَمَّا نَهَى؛ لِفَرْطِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ.

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّكُمْ أَهلُ دِينٍ وَاحِدٍ، فَأَنْتُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ)).

فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟))

الْمَاءُ حَاضِرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِ قَادِرٌ؛ وَلَكِنَّهُ خَشِيَ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، فَتَيَمَّمَ، وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!))

قَالَ: ((فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَهْلِكَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَقُلْتُ -أَيْ: بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الِاغْتِسَالِ- وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا)). هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَانْفَرَدَ بِه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

دَلَّ عَلَى أَنَّ عَمْرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ هَلَاكَ نَفْسِهِ، لَا نَفْسِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَقَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}: قَالَ عَطَاءٌ: {ذَلِكَ} إِشَارَةٌ إِلَى الْقَتْلِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ.

{وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} فَالْإِشَارَةُ هَاهُنَا عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ إِلَى الْقَتْلِ؛ فَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ.

كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: الْإِشَارَةُ تَعُودُ إِلَى كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَعِيدُ رَاجِعٌ إِلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}، قَالُوا: إِنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَيْنِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {عُدْوَانًا وَظُلْمًا}: مَعْنَى الْعُدْوَانِ أَيْ: أَنْ يَعْدُوَ أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} الْعُدْوَانُ: أَنْ تَتَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَالظُّلْمُ: أَنْ تَضَعَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

{وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أَيْ: إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ)).

نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

قَتْلُ النَّفْسِ عَظِيمٌ؛ بَلْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ كُفْرٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هُنَالِكَ أَقْوَالًا:

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ -أَيْ: مَنْ رَمَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَهَلَكَ- مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا -يَضْرِبُ بِهَا نَفْسَهُ- فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)).

قَوْلُهُ ﷺ: ((خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ، فَهَذَا كَافِرٌ، وَهَذِهِ عُقُوبَتُهُ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ: طُولُ الْمُدَّةِ، وَالْإِقَامَةُ الْمُتَطَاوِلَةُ، لَا حَقِيقَةُ الدَّوَامِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ؛ وَلَكِنَّ تَكَرُّمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ وَقَعَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا.

يَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُتَنَازَعًا فِيهِ؛ هَلْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، أَوْ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ بِرَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَلِمَ هَذَا كُلُّهُ؟!!

إِنَّ الْأَمْرَ لَأَهْوَنُ مِنْ هَذَا جَمِيعِهِ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَمَا يَأْذَنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِوُقُوعِهِ، وَكُنْ فِي الْحَيَاةِ مُحْسِنًا وَلَا عَلَيْكَ، أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ.

وَلَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ بِالذِّكْرِ لَانْشَرَحَ الصَّدْرُ، وَاتَّسَعَ أُفُقُ الرُّوحِ، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَابَ إِلَى مَوْلَاهُ، وَانْطَرَحَ بِأَسْبَابِ اسْتِجْلَابِ رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَلَى عَتَبَاتِ الِاسْتِجْلَابِ لِلرَّحَمَاتِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لَعَاشَ فِي جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ.

الْحَدِيثُ الَّذِي مَرَّ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، وَهُوَ -أَيْضًا- عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَفِيهِ: ((وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)). وَهَذَا صَحِيحٌ -أَيْضًا-.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ -يَشْنُقُ نَفْسَهُ- يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ)).

فَمَنْ أَشْعَلَ النَّارَ فِي نَفْسِهِ؛ فَالنَّارُ مُشْعَلَةٌ فِيهِ بِفِعْلِهِ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَالَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ.

هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِيهِ: أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَالْحَسَنُ إِمَامٌ؛ وَلَكِنَّهُ مُدَلِّسٌ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَذَاكَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -وَهُوَ يُؤَكِّدُ عَلَى ثَبَاتِ الْمَحْفُوظِ فِي ذَاكِرَتِهِ-، فَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَدِيثًا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: بَدَرَنِي عَبْدِي بنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)).

((بَدَرَنِي)) أَيْ: لَمْ يَصْبِرْ حَتَّى تُقْبَضَ رُوحُهُ حَتْفَ أَنْفِهِ، ((بَدَرَنِي عَبْدِي بنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ فِيهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ -فَمَا جَفَّ وَسَكَنَ جَرَيَانُ الدَّمِ حَتَّى مَاتَ الرَّجُلُ-، فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ)) الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ((إِنَّ رَجُلًا كَانَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِوَجْهِهِ قَرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ الْقَرْحَةُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ -وَالْكِنَانَةُ: جُعْبَةُ السِّهَامِ-، انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا -أَيْ: نَخَسَ الْقَرْحَةَ وَفَجَّرَهَا-، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ -لَمْ يَجِفَّ، وَلَمْ يَسْكُنْ جَرَيَانُهُ- حَتَّى مَاتَ الرَّجُلُ، قَالَ رَبُّكُمْ: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ، فَأَتَى قَرْنًا لَهُ -وَالْقَرْنُ: جُعْبَةُ السِّهَامِ-، فَأَخَذَ مِشْقَصًا -وَهُوَ سَهْمٌ فِيهِ نَصْلٌ عَرِيضٌ كَالسِّكِّينِ-، فَأَخَذَ مِشْقَصًا فَذَبَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ )). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظ: ((لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَاعِنُ الْمُؤْمِنِ كَقَاتِلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَاتِلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عَذَّبَهُ اللهُ بِمَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً -وَالشَّاذَّةُ وَالْفَاذَّةُ: مَا انْفَرَدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ-، لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).

فَقَالُوا: ((فَأَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ!)).

لَا يُعْجِبَنَّكَ عَمَلُ عَامِلٍ حَتَّى تَنْظُرَ بِمَ يُخْتَمُ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ-.

قَالُوا: ((فَأَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ!)).

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: ((أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا)).

قَالَ: ((فَخَرَجَ مَعَهُ، فَكُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ بِالْأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ -وَذُبَابُ السَّيْفِ: طَرَفُهُ الْأَسْفَلُ-، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ -الَّذِي كَانَ مُرَاقِبًا لِهَذَا-؛ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((أَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ)).

وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ؛ وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي رَآهَا بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

أَلَمْ تَشْهَدْ قَبْلُ؟!

بَلَى؛ قَدْ شَهِدَ.

قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟!)).

قَالَ: ((الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ)).

فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((مِنْ دَلَائِلِ حَقِّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ:

تَحْرِيمُ قَتْلِ الْأَطْفَالِ))

لَقَدْ أَعْطَى دِينُنَا الْحَنِيفُ الطِّفْلَ الْحَقَّ فِي الْحَيَاةِ، وَحَرَّمَ قَتْلَهُ خَشْيَةَ الْفَقْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَكُمْ فِي كِتَابِهِ أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ بِسَبَبِ الْفَقْرِ، وَضِيقِكُمْ مِنْ رِزْقِهِمْ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الظَّالِمَةِ.

نَحْنُ تَكَفَّلْنَا بِرِزْقِ الْجَمِيعِ، فَلَسْتُمُ الَّذِينَ تَرْزُقُونَ أَوْلَادَكُمْ؛ بَلْ وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ ضِيقٌ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ تَخَلُّصًا مِنْ أَزْمَةِ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ؛ فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ لِتَتَخَلَّصُوا مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ خَوْفَ حُدُوثِ فَقْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْنُ نَتَكَفَّلُ بِرِزْقِ الْأَوْلَادِ، وَرِزْقِ آبَائِهِمُ الْمُنْفِقِينَ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].

وَالْإِنْسَانُ يَرَى الرِّزْقَ يَنْفَتِحُ إِذَا وُلِدَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ذِي حَيَاةٍ تَمْشِي بِهُدُوءٍ رُوَيْدًا رُوَيْدًا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَكْبَرِ حَيَوَانٍ يَدِبُّ فِيهَا حَتَّى أَصْغَرِ حَيَوانٍ كَالْفَيْرُوسَاتِ إِلَّا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْزُقَهَا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِهِ الَّتِي يَخْتَارُهَا.

مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ: تَحْرِيمُ الشَّرِيعَةِ لِلْإِجْهَاضِ إِلَّا لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْـتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ)).

فَقَالَ: ((لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ)).

فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ)) .

إِمْلَاصُ الْمَرْأَةِ: أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا.

اسْتَشَارَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النَّاسَ فِي الْجَنِينِ إِذَا سَقَطَ بِجِنَايَةٍ؛ يَعْنِي: امْرَأَةٌ حَامِلٌ ضَرَبَهَا إِنْسَانٌ فَكَانَ سَبَبًا لِإِمْلَاصِهَا؛ أَيْ لِوَضْعِ جَنِينِهَا مَيِّتًا بِغَيْرِ تَمَامٍ، فَسَقَطَ الْجَنِينُ -حِينَئِذٍ- بِجِنَايَةٍ، فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَضَعَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا قَبْلَ أَوَانِ الْوِلَادَةِ عَلَى إِثْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ.

وَكَانَ مِنْ عَادَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَسْتَشِيرَ أَصْحَابَهُ وَعُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْأُمُورِ وَالْقَضَايَا خَاصَّةً مَا يَسْتَجِدُّ، مَعَ مَا أُوتِيَ مِنْ وَاسِعِ الْعِلْمِ، وَقُوَّةِ الْفِكْرِ، وَقُوَّةِ الْعَقْلِ.

فَلَمَّا أَخَذَ رَأْيَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ حِينَ أَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينًا مَيِّتًا لِغَيْرِ تَمَامٍ بِجِنَايَةٍ، فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي دِيَتِهِ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.

وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَثَبَّتَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ سَيَكُونُ تَشْرِيعًا عَامًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَكَّدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ نَقْلِهِ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَنَهَى الْوَالِدَيْنِ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْذَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَسْقَطِهَا: قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةً مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ؛ فَفِيهِ عِدَّةُ جِنَايَاتٍ:

قَتْلُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ.

وَأَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ هُمْ فِلَذُ الْأَكْبَادِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمُ الْبَلِيغُ؛ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ وُجُودَهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، فَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِقِيَامِهِ بِرِزْقِ الْجَمِيعِ.

فَأَيْنَ هَذَا الْخُلُقُ الشَّنِيعُ مِنْ أَخْلَاقِ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْلَادُهُمْ وَعَوَائِلُهُمْ قَوِيَ ظَنُّهُمْ بِاللهِ، وَرَجَوْا زِيَادَةَ فَضْلِهِ، وَقَامُوا بِمَؤُونَتِهِمْ مُطْمَئِنَّةً نُفُوسُهُمْ، حَامِدِينَ رَبَّهُمْ أَنْ جَعَلَ رِزْقَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمُثْنِينَ عَلَى رَبِّهِمْ إِذْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَاجِينَ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمُشَاهِدِينَ لِمِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟!!

قَالَ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ!!)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «.. بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ».

((مِنْ دَلَائِلِ حَقِّ الْحَيَاةِ:

فَرْضُ الْعُقُوبَاتِ الشَّدِيدَةِ عَلَى الْقَتْلِ))

لَقَدْ شَرَعَ الْإِسْلَامُ الْعُقُوبَاتِ الشَّدِيدَةَ عَلَى جَرِيمَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعَلَى تَهْدِيدِ حَيَاةِ النَّاسِ؛ حِفَاظًا عَلَى حَقِّ الْحَيَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: ((شَرْعُ الْقَصَاصِ، وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ، فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ: وَهِيَ بَقَاءُ الْمُهَجِ وَصَوْنُهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ انْكَفَّ عَنْ صَنِيعِهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةُ النُّفُوسِ، وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي الْقُرْآنِ أَفْصَحَ، وَأَبْلَغَ، وَأَوْجَزَ .

قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}: وَجَعَلَ اللهُ الْقِصَاصَ حَيَاةً؛ فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ، فَتَمْنَعَهُ مَخَافَةُ أَنْ يُقْتَلَ!!)).

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].

((بَيَّنَ -تَعَالَى- حِكْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصَاصِ فَقَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَيْ: تَنْحَقِنُ بِذَلِكَ الدِّمَاءُ، وَتَنْقَمِعُ بِهِ الْأَشْقِيَاءُ؛ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ إِذَا قَتَلَ لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْهُ الْقَتْلُ، وَإِذَا رُئِيَ الْقَاتِلُ مَقْتُولًا انْذَعَرَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ وَانْزَجَرَ، فَلَوْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْقَاتِلِ غَيْرَ الْقَتْلِ لَمْ يَحْصُلِ انْكِفَافُ الشَّرِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، فِيهَا مِنَ النِّكَايَةِ وَالِانْزِجَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْغَفَّارِ.

وَنَكَّرَ (الْحَيَاة)؛ لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا أَهْلُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ وَالْأَلْبَابِ الثَّقِيلَةِ؛ خَصَّهُمْ بِالْخِطَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُعْمِلُوا أَفْكَارَهُمْ وَعُقُولَهُمْ فِي تَدَبُّرِ مَا فِي أَحْكَامِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَحَمْدِهِ، وَعَدْلِهِ، وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ وَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ، وَنَادَاهُمْ رَبُّ الْأَرْبَابِ، وَكَفَى بِذَلِكَ فَضْلًا وَشَرَفًا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ، وَعَرَفَ مَا فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْعَظِيمَةِ، وَالْحِكَمِ الْبَدِيعَةِ، وَالْآيَاتِ الرَّفِيعَةِ؛ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْقَادَ لِأَمْرِ اللهِ، وَيُعَظِّمَ مَعَاصِيَهُ فَيَتْرُكَهَا، فَيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33-34].

((الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِي أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَيُخِيفُونَهُمْ، فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّتِي هُمْ بِهَا؛ فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ جَزَاءَهُمْ وَنَكَالَهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ.

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَأَنَّ كُلَّ قَاطِعِ طَرِيقٍ يَفْعَلُ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مَا رَآهُ الْمَصْلَحَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ.

أَوْ أَنَّ عُقُوبَتَهُمْ تَكُونُ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، فَكُلُّ جَرِيمَةٍ لَهَا قِسْطٌ يُقَابِلُهَا، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِحِكْمَتِهَا وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-.

وَأَنَّهُمْ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا مَالًا تَحَتَّمَ قَتْلُهُمْ وَصَلْبُهُمْ؛ حَتَّى يَشْتَهِرُوا وَيَخْتَزُوا، وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُمْ.

وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا تَحَتَّمَ قَتْلُهُمْ فَقَطْ.

وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا وَلَمْ يَقْتُلُوا تَحَتَّمَ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ؛ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى.

وَإِنْ أَخَافُوا النَّاسَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَا أَخَذُوا مَالًا؛ نُفُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ.

وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.

ذَلِكَ النَّكَالُ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ: فَضِيحَةٌ وَعَارٌ، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فَدَلَّ هَذَا أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، مُوجِبٌ لِفَضِيحَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ عِظَمِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ؛ عُلِمَ أَنَّ تَطْهِيرَ الْأَرْضِ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَتَأْمِينَ السُّبُلِ وَالطُّرُقِ عَنِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ.

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ لِلَّهِ مِنْ تَحَتُّمِ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ، وَالنَّفْيِ، وَمِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ -أَيْضًا-، إِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُسْلِمًا فَإِنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ.

وَدَلَّ مَفْهُومُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ -بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ- أَنَّهَا لَا تُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ.

وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْحِرَابَةِ؛ فَغَيْرُهَا مِنَ الْحُدُودِ إِذَا تَابَ مِنْ فِعْلِهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى)).

((مِنْ مَظَاهِرِ حَقِّ الْحَيَاةِ فِي الْإِسْلَامِ:

حَقُّ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْحَيَاةِ بِضَوَابِطَ))

إِنَّ مِنَ الْخَصَائِصِ الْمُمَيِّزَةِ فِي الْإِسْلَامِ الشُّمُولِيَّةَ؛ فَقَدْ شَمِلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ دَقَائِقِ الْحَيَاةِ، وَنَظَّمَ عَلَاقَةَ الْبَشَرِ بِخَالِقِهِمْ، وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ وَبَيْنَ كَافَّةِ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَا أَعْلَنَتْهُ مَبَادِئُ شَرِيعَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مَجَالِ الرِّفْقِ بِالْحَيَوانِ تَقْرِيرُ أَنَّ عَالَمِ الْحَيَوَانِ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا وَهِيَ أُمَمٌ مُمَاثِلَةٌ لَكُمْ فِي أَنَّ اللهَ خَلَقَهُمْ وَتَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} [الأنعام: 38].

((جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ كُلُّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ خَلَقْنَاهَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ، وَرَزَقْنَاهَا كَمَا رَزَقْنَاكُمْ، وَنَفِذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُنَا وَقُدْرَتُنَا كَمَا كَانَتْ نَافِذَةً فِيكُمْ)).

فَلِلْحَيَوَانَاتِ فِي الْإِسْلَامِ حَقُّ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحَيَاةِ؛ فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فَأَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا)).

قَالَ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا، رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ» وَفِي غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا، رَحِمَكَ اللهُ»: كَمَا قَالَ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ».

فَمَنْ رَحِمَ رُحِمَ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوانٍ أَوْ طَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ.

وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَبْحِ الشَّاةِ بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَأَلَّا يُحِدَّ الشَّفْرَةَ أَمَامَهَا فَهَذَا مِنَ الرَّحْمَةِ بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ -خُلُقُ الرَّحْمَةِ لَا يتَجَزَّأُ- كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي خُلُقِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ رَحْمَتُهُ عَامَّةً وَغَامِرَةً وَشَامِلَةً، وَقَدْ شَمِلَتِ الطُّيُورَ وَالْحَيَوَانَاتِ، بَلْ شَمِلَتِ الْحَشَرَاتِ لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ حَرْقًا، وَدُونَ ذَلِكَ فِي الْإْثِم أَنْ تُقْتَلَ بِالْمَاءِ إِغْرَاقًا، فَهَذَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ تَبْدُو مَظَاهِرُ رَحْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﷺ.

لَقَدْ مَنَحَ الْإِسْلَامُ الْحَيَوَانَاتِ حَقَّ الْحَيَاةِ بِضَوَابِطِهِ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا فَأَخَذَ رَجُلٌ بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟».

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا أَخَذْتُ بَيْضَتَهَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ارْدُدْ؛ رَحْمَةً لَهَا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

«حُمَّرَةٌ»: طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ.

«تَرِفُّ»؛ أَيْ: تَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهَا؛ تَعَطُّفًا وَإِظْهَارًا لِتَعَلُّقِهَا بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «ارْدُدْ، رَحْمَةً لهَا»: تَأَمَّلْ فِي تَكَامُلِ هَذَا الدِّينِ، إِذْ هُوَ الدِّينُ الْخَاتَمُ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لَقَدِ اتَّسَعَ وَقْتُ وَاهْتِمَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْحُمَّرَةِ بِذَلِكَ الطَّائِرِ، وَيَأْمُرُ بِرَدِّ بَيْضَةِ الْحُمَّرَةِ إِلَيْهَا رَحْمَةً لَهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَفِي إِقَامَةِ دِينِ اللهِ وَفِي مُجَالَدَةِ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِقَامَةً لِلدِّينِ، وَتَأْسِيسًا لِدَعَائِمِ الْمِلَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَصْرِفُ هَذَا الْوَقْتَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُمَّرَةِ.

«فَجَاءَتْ تَرِفُّ»: جَعَلَتْ تَفْرُشُ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى «تَعْرُشُ»؛ أَيْ: بِجَنَاحَيْهَا بِفَرْشِ الْجَنَاحِ وَبَسْطِهِ، وَ«التَّعْرِيشُ»: أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّائِرُ، ويُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهِ.

«فَجَعَ هَذِهِ ببَيْضَتِهَا»؛ أَيْ: وَجَعَ قَلْبَهَا وَأَقْلَقَهَا وَأَوْحَشَهَا.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْجَمَلِ الَّذِي حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟»؛ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ كَدَّهُ وَتُتْعِبُهُ».

لِأَنَّ هَذَا الْجَمَلَ كَانَ نَافِرًا، وَكَانَ فِي حَائِطٍ، فَتَحَاشَاهُ النَّاسُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا نَخْشَى عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَدَخَلَ فَلَمَّا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ ﷺ، جَاءَ حَتَّى جَعَلَ رَأْسَهُ عَلَى كَتِفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخَذَ يَبْكِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى رَأسِهِ وَدِفْرَاهُ قَدْ وَضَعَ ﷺ عَلَيْهِمَا يَدَهُ، وَقَالَ: «لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالْبَهَائِمِ وَبِالطُّيُورِ وَبِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ في دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، بَيَانُ كَمَالِ رَحْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ دَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكُمُ الْغَيْرُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ عَالَمِ الطَّيْرِ.

((حَقِيقَةُ الْحَيَاةِ وَوَاجِبُ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ))

إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْأَغَرَّ إِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا فِيهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْوَحْيَيْنِ -فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لِيُنَعِّمَنَا، وَلَا لِتَكُونَ الْحَيَاةُ عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِنَا وَمُرَادَاتِ أَنْفُسِنَا، بَلْ خَلَقَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْحَيَاةِ لِلْمِحْنَةِ، وَجَعَلَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الْوُجُودِ لِلِابْتِلَاءِ وَالْمَشَقَّةِ؛ فَإِنَّ ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ))، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَعَبَثًا يُحَاوِلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ عَلَى جَادَّةِ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لَا عَلَى جَادَّةِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَهَذِهِ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَايَةً، وَأَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى سُلُوكِ سَبِيلِهَا؛ لِتَحْصِيلِهَا بِمَرْدُودِهَا فِي الْحَيَاةِ، وَبِمَآلِهَا فِي الْآخِرَةِ.

السَّعَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِالْقُرْبِ مِنَ اللهِ، وَالرِّضَا بِعَطَائِهِ، وَالْقَنَاعَةِ بِمَا قَسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ لِلْعَبْدِ، مَعَ النَّظَرِ إِلَى حِكْمَتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِكَيْ يَرْضَى الْعَبْدُ عَمَّا قَسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْسُومَ إِنَّمَا قُسِمَ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الَّذِي يُصَرِّفُ أَمْرَهُ هُوَ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَمِنْ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ إِلَّا لِيَخْتَبِرَنَا لَمَّا كَلَّفَنَا بِعِبَادَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّهُ، وَخَطَّ لَنَا مَعَالِمَهُ فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الشَّرْعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ سَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا مُنِعَهُ إِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا أُعْطِيَهُ، وَأَنَّ الْحِرْمَانَ قَدْ يَكُونُ عَيْنَ الْعَطَاءِ، وَأَنَّ الْعَطَاءَ الظَّاهِرَ قَدْ يَكُونُ عَيْنَ الْمَنْعِ وَالْحِرْمَانِ.

فَإِذَا رَاعَى الْمَرْءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ وُجُوهِ اللَّذَّةِ وَتَصَارِيفِ الْمَتَاعِ، وَمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ مَقْسُومًا مِنْ صُنُوفِ الرِّزْقِ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُحْرَمْ شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ تَفَضُّلٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمِنَّةٍ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّ الْعَطَاءَ مِنْ قِبَلِهِ، وَأَنَّ الْحِرْمَانَ بِأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَاكِبٌ اسْتَظَلَّ بِظِلِّ شَجَرَةٍ، سَرْعَانَ مَا يَقُومُ فَائِتًا إِيَّاهَا رَاحِلًا عَنْهَا؛ وَهَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا يَبْنِي بَيْتًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ لِكَيْ يَنْعَمَ بِهَذَا الظِّلِّ أَبَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُسَافِرٌ وَابْنُ سَبِيلٍ؟!!

وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُنْذُ خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّاعَةَ؛ لَعُدَّ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي جَنْبِ مَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَيْهِ.

وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ- أَنْ نَقُولَ: {إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وَ(اللَّامُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {للهِ} هِيَ لَامُ الْمِلْكِ، لَامُ الِاخْتِصَاصِ، فَنَحْنُ مِلْكُهُ، وَمَنْ حَكَمَ فِي مَالِهِ فَمَا ظَلَمَ؛ فَكَيْفَ إِذَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَا بِذَلِكَ لِلْبَشَرِ وَنَحْنُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا نُسَلِّمُ بِهِ لِرَبِّ الْبَشَرِ، مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟!!

لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنْ يُصِيبَنَا مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَتَأَتَّى مِنْ قَدَرِهِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَلَا يُقَدِّرُ إِلَّا خَيْرًا؛ حَتَّى مَا يُصِيبُ بِهِ الْعَبْدَ مِنَ الْمَقْدُورِ فِي الشَّرِّ، وَالشَّرِّ فِي الْمَقْدُورِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورِ لَا بِالْقَدَرِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ، وَلَا يُقَدِّرُ إِلَّا الْخَيْرَ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَبِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

فَمَهْمَا أَصَابَكَ مِنْ شَيْءٍ؛ بِضِيقٍ فِي رِزْقٍ، أَوْ هَمٍّ فِي نَفْسٍ، أَوْ كَرْبٍ فِي رُوحٍ، أَوْ تَعَثُّرٍ فِي طَرِيقِ حَيَاةٍ؛ فَاعْلَمْ أَنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ، وَإِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى جَنَابِ مَوْلَاكَ وَإِلَهِكَ، وَأَنْ تُرَاجِعَ نَفْسَكَ مِنْ أَيْنَ أُوتِيتَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ تَسَلَّطَ عَلَيْكَ الْعَدُوُّ فَمَا بِقُدْرَتِهِ تَسَلَّطَ، وَإِنَّمَا النَّصِيرُ تَخَلَّفَ!

إِذَا تَسَلَّطَ عَلَيْكَ الْعَدُوُّ فَمَا بِقُوَّتِهِ وَلَا بِقُدْرَتِهِ تَسَلَّطَ، وَإِنَّمَا عَنْكَ النَّصِيرُ تَوَلَّى!

فَرَاجِعْ نَفْسَكَ!

الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ مُكَلَّفٌ، وَالتَّكْلِيفُ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ مَا فِيهِ كَلَفَةٌ، وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ مُبْتَلًى، وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ مُخْتَبَرٌ، وَاجِبُهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ وَالِاخْتِبَارَ مَا دَامَ آتِيًا مِنْ قِبَلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاجِبُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي ذَلِكَ الِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ الْخَيْرَ، وَسَيَنْكَشِفُ عَنْ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ، فَيَرْضَى بِمَا فِيهِ مِنْ حُلْوٍ وَمُرٍّ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مُرِّهِ، وَأَنْ يَشْكُرَ عَلَى خَيْرِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ}، لَمْ يَقُلْ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَكْثَرُ، وَلَا أَعْظَمُ، وَلَا أَوْفَرُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْكَ شَيْئًا يَنْبَغِي أَنْ تُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَلْتَفِتَ إِلَيْهِ، وَأَنْ تَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضَرًا بِإِزَاءِ عَيْنِ بَصِيرَتِكَ مَهْمَا تَوَجَّهْتَ وَأَنَّى سَلَكْتَ؛ يُرِيدُ مِنْكَ الْإِخْلَاصَ، وَالتَّوْحِيدَ، وَالْإِنَابَةَ، وَالْخُشُوعَ بِصَرْفِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ.

{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

قَالَ رَسُولُ اللهِ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)).

لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي طَبَقَاتِ الْخَيْرِ وَمَعَارِجِ السُّلُوكِ صُعُودًا إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ فِيمَا قَضَاهُ رَبُّهُ وَقَدَّرَهُ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَمَامَ مُزْعِجَاتِ الْحَيَاةِ وَمُلِمَّاتِ صُرُوفِ النَّوَازِلِ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي أَنْ يَصْبِرَ وَأَنْ يُصَابِرَ، وَأَنْ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالرِّضَا عَمَّا قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَضَى.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَثِقَ بِالْفَرَجِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- ابْتَلَى بِالْمَصَائِبِ، وَمَنِ ابْتَلَى بِالْمَصَائِبِ فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُفَرِّجَهَا، وَأَنْ يَكْشِفَ الضُّرَّ، وَيَرْفَعَ الْكَرْبَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيَانِ حَالِ مَنْ جَزِعَ، أَوْ أَصَابَتْهُ لُوثَةٌ بِتَطَلُّعٍ لِدُنْيَا، فَلَمْ يَرْضَ عَنْ وَاقِعِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْوَاقِعِ بِمَا أَسْلَفَ وَقَدَّمَ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ الْتَفَتُوا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَحَرَّرُوهُ لَاسْتَقَامَتْ أَقْدَامُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَيْأَسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ، {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

الْفَرَجُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ لَوْ فُتِحَتْ عَيْنُ بَصِيرَتِكَ، فَأَبْصَرْتَ مَا يُقَدِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ مِنْ صُنُوفِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

((أُمَّتُنَا أُمَّةٌ مَحْفُوظَةٌ، دَاعِيَةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ))

هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةُ دَعْوَةٍ تَدْعُو الْعَالَمِينَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ مُعْرِضَةٌ عَنْهَا، لَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَهِيَ مُغَيَّبَةٌ عَنْهُمَا.

إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ الْأُمَّةُ الْخَاتَمَةُ، وَهِيَ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ، وَلَا يُدْرَى أَوَّلُهَا خَيْرٌ أَمْ آخِرُهَا؛ كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى آخِرُهُ خَيْرٌ أَمْ أَوَّلُهُ.

قَدْ تَكَفَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهَا ﷺ أَلَّا تُهْلَكَ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَلَا بِجُوعٍ شَامِلٍ، وَقَحْطٍ عَامٍّ، وَجَدْبٍ مُحِيطٍ، فَمَا يَزَالُ ذَلِكَ فِيهَا كَذَلِكَ، وَلَوْ تَكَافَلَ أَبْنَاؤُهَا عَلَى امْتِدَادِ رُقْعَتِهَا مَا وُجِدَ فِيهَا مُحْتَاجٌ، وَلَوْ أَمْسَكَ السُّفَهَاءُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَكَفَّ الْأَغْنِيَاءُ الْأَغْبِيَاءُ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِيمَا لَا يَلِيقُ وَلَا يَجْمُلُ، عَنِ الْإِنْفَاقِ فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَعَادُوا بِالْمُوَاسَاةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ؛ مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا مُحْتَاجٌ مِنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

إِنَّ التَّمْكِينَ فِي الْأَرْضِ، وَالِاسْتِعْلَاءَ بِالْإِيمَانِ فِيهَا، وَإِنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهَا لَهَا أَسْبَابُهَا الَّتِي لَا تُتَحَصَّلُ إِلَّا بِهَا، وَلَا يُنْتَهَى إِلَى غَايَتِهَا إِلَّا بِسُلُوكِ سَبِيلِهَا؛ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَهْمَا حَاوَلَ الْمَرْءُ أَنْ يَسْلُكَ سِوَى هَذِهِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ خَابِطٌ خَبْطَ الْعَمْيَاءِ فِي لَيْلٍ دَاجٍ،  وَإِنَّهُ لَآخِذٌ كَحَاطِبِ اللَّيْلِ بِمَا يَلْقَاهُ، وَرُبَّمَا أَخَذَ مَا آذَاهُ، فَيَأْخُذُ حَيَّةً يَحْسَبُهَا حَطَبَةً، وَقَدْ أَعْمَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نُورَ بَصِيرَتِهِ.

فَلْتُسْلَكْ إِلَى الْغَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْوَسَائِلُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْرُوعَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِذَلِكَ، وَلْيُنْظَرْ فِيمَا عَلَيْهِ حَالُ الْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ!!

فَنَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُدْرِكَ أَبْنَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالسَّكِينَةِ الشَّامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ لِإِقَامَةِ شَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ، وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

اللهم سَلِّمْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِين.

سَلِّمْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَاحْفَظْ عَلَى هَذَا الْوَطَنِ وَعَلَى جَمِيعِ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنَّتَكَ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِين.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 المصدر: حَقُّ الْحَيَاةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ
  شعار الفاتيكان .. النجاسة من الإيمان !!
  الْآدَابُ وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّهِ وَبِنَاءِ حَضَارَتِهِ
  مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
  حُرْمَةُ المَالِ العَامِّ وَخطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ
  الْآدَابُ الْعَامَّةُ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّ الْأُمَمِ
  مع سيد قطب رحمه الله
  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ
  رمضان .. كيف نحياه؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان