التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ

التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ

((التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ

سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ))

الْحَمْدُ لِلَّه نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ))

((فَإِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهَا الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَرْضِ؛ فَالْإِبِلُ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطُّيُورُ تَحِنُّ إِلَى أَعْشَاشِهَا وَأَوْكَارِهَا، أَمَّا الْإِنْسَانُ؛ فَحَنِينُهُ إِلَى وَطَنِهِ أَشَدُّ، وَشَوْقُهُ إِلَيْهِ أَكْبَرُ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: ((عَالَجْتُ الْعِبَادَةَ، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى الْوَطَنِ)) .

فَهُوَ إِذَا جَلَسَ فِي مَكَّةَ -مَثَلًا-؛ نَازَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ بَغْدَادَ.

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا قَاسَيْتُ فِيمَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ)) .

وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي تَسْخِيرِ النَّاسِ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ: أَنْ جَعَلَ حُبَّ الْوَطَنِ -حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْوَطَنُ قَلِيلَ الْخَيْرِ- مُتَأَصِّلًا فِي النُّفُوسِ، مَجْبُولَةً عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْ لَا حُبُّ الْوَطَنِ لَخَرِبَ الْبَلَدُ السُّوءُ)). ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ)) .

وَجَاءَ عِنْدَ ابْنِ حَمْدُونَ فِي ((التَّذْكِرَةِ)) بِلَفْظ: ((عَمَّرَ اللهُ الْبُلْدَانَ بِحُبِّ الْأَوْطَانِ)) .

فَتَرَى الْبَلَدَ الْقَلِيلَ الْأَمْطَارِ، الْكَثِيرَ الْحَرِّ أَوِ الْكَثِيرَ الْأَوْبِئَةِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَعْدِلُ بِهِ أَهْلُهُ جَنَّاتٍ فِي الْأَرْضِ وَأَنْهَارًا.

قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَكُنَّا أَلِفْنَاهَا وَلَمْ تَكُ مَأْلَفًا=وَقَدْ يُؤْلَفُ الشَّيْءُ الَّذِي لَيْسَ بِالْحَسَنْ

كَمَا تُؤْلَفُ الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ بِهَا=هَوَاءٌ وَلَا مَاءٌ وَلَكِنَّهَا وَطَنْ

وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطَنَ قَرِينُ النَّفْسِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: ((الْخُرُوجُ مِنَ الدِّيَارِ مَقْرُونٌ بِالْقَتْلِ فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-))، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ -كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ-: ((... نُفُوسَ الدِّيَارِ)) ، فَخُرُوجُهُمْ مِنْهَا قَتْلُهَا، وَانْتِقَالُ وِلَايَتِهِمْ عَنْهَا عَزْلُهَا.

وَهُوَ يُشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.

قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: ((لَوْ شَدَدْنَا عَلَى النَّاسِ التَّكْلِيفَ؛ كَأَنْ نَأْمُرَهُمْ بِالْقَتْلِ -قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ-، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَوْطَانِ؛ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمَا فَعَلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ.

فَلَمَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، بَلْ كَلَّفْنَاهُمْ مِنَ الْأُمُورِ مَا يُطِيقُونَ؛ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَجِيبُوا، وَيُؤْمِنُوا، وَيَتْرُكُوا الْعِنَادَ وَالتَّمَرُّدَ)) .

فَفِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ، وَالْخُرُوجَ مِنَ الْوَطَنِ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ؛ وَلِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ عَلَيْنَا كَمَا جَعَلَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُقُوبَةً أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَلَّا يَسْتَقِرُّوا فِي وَطَنٍ، فَالْحَمْدُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّذِي عَافَانَا.

وَبِمَا أَنَّ الْوَطَنَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَلَهُ هَذِهِ الْمَكَانَةُ؛ فَهَلْ حُبُّهُ وَالْحَنِينُ إِلَيْهِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ؟ وَهَلِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؟

إِنَّ حُبَّ الْمُسْلِمِ لِوَطَنِهِ الَّذِي قَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ، وَارْتَفَعَ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحَ وَطَنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادَهُمْ هُوَ حُبٌّ مَشْرُوعٌ، يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ الْغَرِيزِيُّ، وَالْحُبُّ الشَّرْعِيُّ.

وَمَا تَوَلَّدَ حُبُّ الْوَطَنِ إِلَّا عَنْ حُبِّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، ثُمَّ عَنْ تَعَلُّقِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَحَلِّ وِلَادَتِهِ وَمَكَانِ نَشْأَتِهِ.

كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ=مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا

إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ=عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا

فَقَدْ أَلِفَتْهُ النَّفْسُ حَتَّى كَأَنَّهُ    لَهَا جَسَدٌ إِنْ بَانَ غُودِرْتُ هَالِكًا

وَقَدْ قِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَتَشْتَاقُ إِلَى وَطَنِكَ؟

قَالَ: كَيْفَ لَا أَشْتَاقُ إِلَى رَمْلَةٍ كُنْتُ جَنِينَ رُكَامِهَا، وَرَضِيعَ غَمَامِهَا؟!!

وَأَبْيَاتُ الشُّعَرَاءِ وَمَقَالَاتُ الْحُكَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، هَذَا مِنْ جَانِبٍ.

وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ: حُبُّ الْوَطَنِ تَوَلَّدَ مِنْ حُبِّ شَعَائِرِ اللهِ الَّتِي تُقَامُ عَلَيْهِ، وَمِنْ حُبِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْمُسْلِمُ فِيهِ، وَمِنْ حُبِّ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنْظِيمِ أُمُورِهِمْ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ عَلَى تُرَابِهِ.

فَحُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا: مَا جَاءَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مَشْرُوعٌ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ؛ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ أَيْ: أَسْرَعَ بِهَا-، وَإِذَا كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا؛ مِنْ حُبِّهَا))  أَيْ: مِنْ حُبِّ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ -عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ-.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَالَ الْحَافِظُ: ((فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ، وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ))، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((اللهم حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْوَحْيِ أَنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).

قَالَ ﷺ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!)).

قَالَ: ((نَعَمْ)) .

قَالَ الْحَلَبِيُّ فِي ((السِّيرَةِ))  وَغَيْرُهُ: ((الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ، وَعُسْرِ مُفَارَقَتِهِ؛ خُصُوصًا وَذَلِكَ الْوَطَنُ حَرَمُ اللهِ، وَجِوَارُ بَيْتِهِ، وَمَسْقَطُ رَأْسِهِ)).

((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!!)).

وَفِي إِشَارَةٍ نَبَوِيَّةٍ كَرِيمَةٍ نَبَّهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَنَّ تُرْبَةَ الْأَرْضِ يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ عُنْصُرًا مِنْ عَنَاصِرِ الدَّوَاءِ الَّذِي يَشْفِيهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ، فَهَذَا طِبٌّ نَبَوِيٌّ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَيْثُ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْقِي الْمَرِيضَ، فَيَجْعَلُ فِي أُصْبُعِهِ رِيقَهُ، ثُمَّ يَضَعُ الْأُصْبُعَ عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهِ التُّرَابُ، ثُمَّ يَقُولُ: ((بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).

وَمِنْهَا مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَالْكَلِمَةِ الْمَقْرُوءَةِ أَوِ الْمَسْمُوعَةِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ: إِذَا دَهَمَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45].

وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ..، وَذَكَرَ مِنْهَا: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيُؤَكِّدُ الْقِتَالَ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246].

فَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالدِّينِ الْمُسْتَقِيمِ يَجِدُ حُرْمَةَ بَلَدِهِ فِي قَلْبِهِ كَحُرْمَةِ أَهْلِهِ، كَحُرْمَةِ أَبَوَيْهِ، كَحُرْمَةِ إِخْوَانِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((تُرْبَةُ الصِّبَا تَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ حُرْمَةً كَمَا تَغْرِسُ الْوِلَادَةُ فِي الْقَلْبِ رِقَّةً)) .

لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنَّا هَذَّبَهُ الْإِسْلَامُ، وَامْتَلَأَ وَفَاءً، وَبَقِيَ عَلَى فِطْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا وَهُوَ يَحْمِلُ فِي نَفْسِهِ حُبَّ وَطَنِهِ، وَإِكْبَارَهُ، وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ، قَلْبُهُ مُشْبَعٌ بِالْإِعْزَازِ لِوَطَنِهِ، مُفْعَمٌ بِالتَّفَاخُرِ بِهِ، وَالِاعْتِزَازِ بِهِ)).

((التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الْوَطَنِ))

لَا شَكَّ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ، أَوْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، إِنَّمَا هُوَ سُلُوكٌ وَتَضْحِيَاتٌ، فَحُبُّ الْوَطَنِ سَاحَةٌ لِلْعَطَاءِ وَالتَّضْحِيَةِ لِأَجْلِهِ بِكُلِّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، وَقَدْ قَالُوا: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ وَفَاءَ الرَّجُلِ، وَأَصَالَتَهُ، وَنُبْلَهُ، وَشَهَامَتَهُ؛ فَانْظُرْ إِلَى صِحَّةِ عَقِيدَتِهِ، وَمَدَى وَلَائِهِ لِوَطَنِهِ، وَحُسْنِ انْتِمَائِهِ لَهُ، وَحَنِينِهِ لَهُ، وَعَمَلِهِ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ وَالْأَوْفِيَاءِ.

((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ، حَقُّ اللهِ وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.

فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ، يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.

رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ، وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.

فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.

وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ تُوجِبُ: ((أَنْ يَبْذُلَ الْمَرْءُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْخِبْرَةِ، وَالنُّصْحِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ لِمَنْفَعَةِ بَنِي وَطَنِهِ؛ فَيَسْتَقِيمُ فِي وَظِيفَتِهِ، وَيَنْصَحُ فِي تِجَارَتِهِ، وَلَا يَغُشُّ فِي حِرْفَتِهِ.

وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْسِينِ حَالِتِهِ؛ وَلَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى الْمَمَالِكِ الْبَعِيدَةِ؛ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ يُفِيدُ بِهِ قَوْمَهُ، أَوْ صَنْعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي وَطَنِهِ، أَوْ تِجَارَةٍ يَجْلِبُ مِنْهَا لِبِلَادِهِ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ)) .

((مِنْ صُوَرِ التَّضْحِيَةِ لِأَجْلِ الْوَطَنِ:

التَّضْحِيَةُ بِالنَّفْسِ))

إِنَّ لِلتَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِ الْوَطَنِ صُوَرًا مُتَعَدِّدَةً، أَعْلَاهَا وَأَشْرَفُهَا: التَّضْحِيَةُ بِالنَّفْسِ؛ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحِمَايَةِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ، وَقَدْ عَدَّ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ التَّضْحِيَةَ بِالنَّفْسِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَقَدِ اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعْلِي مِنْ شَأْنِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ بِعَطَايَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الشَّهَادَةِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ الَّتِي يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى- بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ للهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى؛ مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ؛ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -تَعَالَى-، وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.

وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.

وَمَعَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمَعَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ.

وَنِعْمَتُ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى- مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَالشَّهِيدُ: هُوَ الَّذِي قُتِلَ بَاذِلًا دَمَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ أَجْلِ اللهِ، يُعَوِّضُهُ اللهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ -أَيْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ-، وَفِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى- الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ ذَكَرَ نَمُوذَجًا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ؛ لِمَشَقَّتِهَا فِي نَفْسِهِ، وَلِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا لِلْقَتْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ الَّتِي إِنَّمَا يَرْغَبُ الرَّاغِبُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؛ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ وَلَوَازِمِهَا، فَكُلُّ مَا يَتَصَرَّفُونَ بِهِ فَإِنَّهُ سَعْيٌ لَهَا، وَدَفْعٌ لِمَا يُضَادُّهَا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَتْرُكُهُ الْعَاقِلُ إِلَّا لِمَحْبُوبٍ أَعْلَى مِنْهُ وَأَعْظَمُ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِهِ؛ بِأَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينُهُ الظَّاهِرَ، لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تَفُتْهُ الْحَيَاةُ الْمَحْبُوبَةُ؛ بَلْ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةٌ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ مِمَّا تَظُنُّونَ وَتَحْسِبُونَ.

فَالشُّهَدَاءُ.. {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 169-171].

فَهَلْ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقُرْبِ مِنَ اللهِ، وَتَمَتُّعِهِمْ بِرِزْقِهِ الْبَدَنِيِّ فِي الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ اللَّذِيذَةِ، وَالرِّزْقِ الرُّوحِيِّ، وَهُوَ الْفَرَحُ، وَهُوَ الِاسْتِبْشَارُ، وَزَوَالُ كُلِّ خَوْفٍ وَحُزْنٍ، وَهَذِهِ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ أَكْمَلُ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ بَلْ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 169-171].

فَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى- عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ فِي دَارِ الْقَرَارِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6].

وَقَدِ اشْتَرَى اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نُفُوسَهُمْ؛ لِنَفَاسَتِهَا لَدَيْهِ؛ إِحْسَانًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَكَتَبَ ذَلِكَ الْعَقْدَ الْكَرِيمَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ يُقْرَأُ أَبَدًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُتْلَى، قَالَ تَعَالَى- مُبَيِّنًا لُزُومَ هَذَا الْعَقْدِ أَزَلًا فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «يُخْبِرُ تَعَالَى- أَنَّهُ عَاوَضَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِذَا بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ قَبِلَ الْعِوَضَ عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عَبِيدِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ.

لِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: ((بَايَعَهُمُ اللهُ فَأْغَلَى ثَمَنَهُمْ)) )).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69].

فَقَرَنَ تَعَالَى- ذِكْرَ الشُّهَدَاءِ مَعَ النَّبِيِّينَ؛ تَكْرِيمًا لَهُمْ، وَبَيَانًا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: «وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِلشُّهَدَاءِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى حُبِّ اللهِ إِيَّاهُمْ؛ حَيْثُ قَالَ: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}، وَلَا يُقَالُ: اتَّخَذْتُ، وَلَا اتَّخَذَ؛ إِلَّا فِي مُصْطَفًى مَحْبُوبٍ، قَالَ تَعَالَى-: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، وَقَالَ تَعَالَى-: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن: 3]، فَالِاتِّخَاذُ إِنَّمَا هُوَ اقْتِنَاءٌ وَاجْتِبَاءٌ)).

وَلَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ الشُّهَدَاءَ بِمَنَاقِبَ عَدِيدَةٍ؛ فَمِنْهَا:

*شَرَفُ مَكَانِهِمْ وَجِوَارِهِمْ، وَعَظِيمُ أَجْرِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].

وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَقُتِلُوا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَجْرٌ جَزِيلٌ، وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا فِي أَعْمَالِهِمْ.

فَهَذِهِ الْمَكَانَةُ لِلشُّهَدَاءِ خَاصَّةً، وَلَا أَدَّلَ عَلَى عِظَمِ هَذَا الشَّرَفِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى-؛ لِيُكْتَبَ لَهُ أَجْرُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ لَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ؛ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

لَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَضْلَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَيَّنَ عَظِيمَ قَدْرِ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ لَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدَ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ! كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟

فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! خَيْرَ مَنْزِلٍ.

فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّهْ.

فَيَقُولُ: وَمَا أَسْأَلُكَ وَأَتَمَنَّى؟!! أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ -وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ- أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ -وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، أَيْ: لَا يُدْرَى رَامِيهِ- فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ)).

قَالَ: ((يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

*وَالشَّهِيدُ تُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ؛ إِلَّا الدَّيْنَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ تُكَفِّرُ جَمِيعَ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَامَ فِيهِمْ، فَذَكَرَ ((أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ))، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ قُلْتَ؟)).

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ؛ إِلَّا الدَّيْنَ؛ فَإِنَّ جَبْرَائِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

*وَمِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ: أَنَّ رِيحَ دَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحُ الْمِسْكِ؛ ((فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)) .

((مَا مِنْ مَكْلُومٍ)): مَجْرُوحٍ، ((يُكْلَمُ)): يُجْرَحُ، ((فِي سَبِيلِ اللهِ)) يَعْنِي: بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.

((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)) أَيْ: وَجُرْحُهُ يَثْعُبُ مِنْهُ الدَّمُ، وَيَسِيلُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ جُرِحَ.

((اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)): اللَّوْنُ أَحْمَرُ كَلَوْنِ الدَّمِ؛ وَلَكِنَّ الرِّيحَ رِيحُ الْمِسْكِ، وَلَيْسَ بِرِيحِ دَمٍ.

أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بَاذِلًا نَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، طَائِعًا رَاجِيًا مِنَ اللهِ ثَوَابَهُ، خَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ؛ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى -يَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ- كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.

وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ رَائِحَةَ دَمِهِ تَنْتَشِرُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَشُمُّهَا النَّاسُ جَمِيعًا، كَأَنَّهَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ.

يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُظْهِرَ شَرَفَ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ الدَّمَ بِلَوْنِهِ، وَجَعَلَ الرَّائِحَةَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ)) .

((مِنْ صُوَرِ التَّضْحِيَةِ لِأَجْلِ الْوَطَنِ:

التَّضْحِيَةُ بِالْعَمَلِ وَالْجُهْدِ))

إِنَّ مِنْ صُوَرِ التَّضْحِيَةِ لِأَجْلِ الْوَطَنِ: التَّضْحِيَةَ بِالْعَمَلِ وَالْجُهْدِ؛ فَالْإِسْلَامُ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ؛ فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخِرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيُهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي صَحَابَتِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْظَمُ قُدْوَةٍ، وَخَيْرُ أُسْوَةٍ؛ كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا جِدًّا وَاجْتِهَادًا، وَعَمَلًا وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَثَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ -رِزْقِ اللهِ- بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]؛ يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ؛ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ؛ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

((مِنْ صُوَرِ التَّضْحِيَةِ لِأَجْلِ الْوَطَنِ:

التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ))

مِنْ صُوَرِ التَّضْحِيَةِ لِلْوَطَنِ: التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254].

يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي سَبِيلِهِ سَبِيلِ الْخَيْرِ؛ لِيَدَّخِرُوا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَلِيكِهِمْ، وَلِيُبَادِرُوا إِلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ} يَعْنَي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} أَيْ: لَا يُبَاعُ أَحَدٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يُفَادَى بِمَالٍ لَوْ بَذَلَهُ، وَلَوْ جَاءَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَا تَنْفَعُهُ خُلَّةُ أَحَدٍ، يَعْنِي: صَدَاقَتُهُ؛ بَلْ وَلَا نَسَابَتُهُ، كَمَا قَالَ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [ المؤمنون: 101 ] {وَلَا شَفَاعَةٌ} أَيْ: وَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ.

لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ.

فَلَمَّا جَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَفَرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمَ)) .

لَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَوَادًا مُمَدَّحًا، جَهَزَّ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَحْدَهُ، وَاشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ، وَوَهَبَهَا لِلْمُسْلِمِينَ.

((حَقِيقَةُ الْوَطَنِيَّةِ فِي الشَّرْعِ وَدَلَائِلُهَا))

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَنْظُومَةُ تَضْحِيَاتٍ مُتَكَامِلَةٍ، فَالْجُنْدِيُّ بِثَبَاتِهِ، وَصَبْرِهِ، وَفِدَائِهِ، وَالشُّرْطِيُّ بِسَهَرِهِ عَلَى أَمْنِ وَطَنِهِ، وَالْفَلَّاحُ، وَالْعَامِلُ، وَالصَّانِعُ بِإِتْقَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِعَمَلِهِ، وَالطَّبِيبُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَالْمُهَنْدِسُ بِمَا يُقَدِّمُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي خِدْمَةِ وَطَنِهِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ وَالصِّنَاعَاتِ، فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ عَطَاءٌ وَبَذْلٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

وَاكْسَبُوا بِإِرَادَاتِكُمْ كُلَّ عَمَلٍ قَلْبِيٍّ أَوْ جَسَدِيٍّ يُحَقِّقُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا بَاقِيًا، وَسَعَادَةً خَالِدَةً، وَثَوَابًا حَسَنًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ شَاقًّا، أَوْ مُضْنِيًا، أَوْ مُؤْلِمًا؛ رَغْبَةً مِنَّا فِي أَنْ تَسْعَدُوا، وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ.

وَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ».

إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِلَى الدَّوْلَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ.

وَالْوَطَنِيَّةُ فِي الشَّرْعِ: هِيَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَالدَّوْلَةِ الَّتِي يَعِيشُ مَعَهَا، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ.

أَوْ هِيَ الِانْتِمَاءُ إِلَى الْأَرْضِ بِرِبَاطِ الدِّينِ بِمَا لَا يُخَالِفُ شَرْعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالْمُوَاطَنَةُ: تَفْعِيلُ هَذَا الِانْتِمَاءِ؛ فَحُبُّ الْوَطَنِ -بِمَعْنَى: أَرْضِ الْمَوْلِدِ وَمَحَلِّ الْإِقَامَةِ- مِنَ الْإِيمَانِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَوْمِيَّةُ الَّتِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا تُرَاعَى فِي حُدُودِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ.

وَمُقَوِّمَاتُ الْمُوَاطَنَةِ:

*تَفْعِيلُ الشُّعُورِ بِالِانْتِمَاءِ لِلْأَرْضِ أَوْ لِلدَّوْلَةِ.

*وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ.

*وَعَدَمُ مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ هِيَ مُقَوِّمَاتُ الْمُوَاطَنَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)). أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِ بَعْضُ شَيْءٍ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِي مَرَّ.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: الْبَدْءُ بِأَسَاسِ الْجَمَاعَةِ وَأَصْلِهِ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

وَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ.

وَمُنَاصَحَةُ وَلِيِّ الْأَمْرِ.

وَهَذِهِ الثَّلَاثُ قَدْ نُصَّ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثُ خِصَالٍ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبِ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ -وَفِي رِوَايَةٍ- تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)).

وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ جَمَعَتْ مَا يَقُومُ بِهِ دِينُ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ.

((وَلَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).

وَأَسَاسُ الْجَمَاعَةِ، وَائْتِلَافُ الْقُلُوبِ الثَّابِتُ أَمَامَ إِرْهَابِ الْفِتَنِ هُوَ التَّوْحِيدُ؛ وَالْوَطَنِيَّةُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ تُحَقِّقُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ)).

((الْوَطَنِيَّةُ صِفَةٌ، وَهِيَ الْعَاطِفَةُ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ وَلَاءِ الْمَرْءِ لِبَلَدِهِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنْ يَكُونَ وَلَاءُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِبَلَدِهِ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الظَّاهِرَةِ، وَشَرَائِعِ الدِّينِ الْمُطَبَّقَةِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ الْوَطَنَيَّةَ: هِيَ قِيَامُ الْفَرْدِ الْمُسْلِمِ بِحُقُوقِ وَطَنِهِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ.

فَالْأَصْلُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ يُحِبَّ وَطَنَهُ، وَيَتَشَبَّثَ بِالْعَيْشِ فِيهِ، وَلَا يُفَارِقَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَعْنِي هَذَا انْقِطَاعَ الْحَنِينِ وَالْحُبِّ لِلْوَطَنِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَ بِلَالُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى وَطَنِهِ مَكَّةَ.

وَحُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي النُّفُوسِ، تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْبَقَاءِ فِيهِ، وَيَحِنُّ إِلَيْهِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ إِذَا هُوجِمَ، وَيَغْضَبُ لَهُ إِذَا انْتُقِصَ».

الْوَطَنِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَاطِفَةٌ تُعَبِّرُ عَنِ انْتِمَاءِ الْمَرْءِ لِبَلَدِهِ؛ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ لِبَلَدِهِ وَوَطَنِهِ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الطَّاهِرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَشَرَائِعِ الدِّينِ الْمُعْلَنَةِ، وَمِنْ حَيْثُ هِيَ قِيَامُ الْمُسْلِمِ بِحُقُوقِ وَطَنِهِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، الْوَطَنِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ.

((حُبُّ مِصْرَ دَمِي وَفُؤَادِي))

أَلِي فِي الْهَوَى مَا لِي وَلِلَّائِمِ الْعُذْرُ؟!=أَمَا يَعْلَمُ اللُّوَّامُ أَنَّ الْهَوَى مِصْرُ؟!

فَإِنْ يَسْأَلُوا مَا حُبُّ مِصْرَ فَإِنَّهُ=دَمِي وَفُؤَادِي وَالْجَوَانِحُ وَالصَّدْرُ

لِنَفْسِي وَفَائِي إِنْ وَفَيْتُ بِعَهْدِهَا=وَبِي لَا بِهَا إِنْ خُنْتُ حُرْمَتَهَا الْغَدْرُ

أَخَافُ وَأَرْجُو وَهْيَ جَهْدُ مَخَافَتِي=وَمَرْمَى رَجَائِي لَا خَفَاءٌ وَلَا نُكْرُ

هِيَ الْعَيْشُ وَالْمَوْتُ الْمُبَغَّضُ وَالْغِنَى=لِأَبْنَائِهَا وَالْفَقْرُ وَالْأَمْنُ وَالذُّعْرُ

***

وَهَبْتُ الصِّبَى وَالشَّيْبَ وَالشَّوْقَ وَالْهَوَى=لِمِصْرَ وَإِنْ لَمْ أَقْضِ حَقَّ الْهَوَى مِصْرَا

بِلَادٌ حَبَتْنِي أَرْضُهَا وَسَمَاؤُهَا=حَيَاتِي، وَأَجْرَى نِيلُهَا فِي فَمِي الدُّرَّا

وَمَا حَادِثٌ يَوْمًا وَإِنْ رَاعَ وَقْعُهُ=بِمَاحٍ هَوَاهَا أَوْ يُطَاوِلُهَا ذِكْرَا

***

وَطَنِي أَسِفْتُ عَلَيْكَ فِي عِيدِ الْمَلَا=وَبَكَيْتُ مِنْ وَجْدٍ وَمِنْ إِشْفَاقِ

لَا عِيدَ لِي حَتَّى أَرَاكَ بِأُمَّةٍ=شَمَّاءَ رَاوِيَةٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ

ذَهَبَ الْكِرَامُ الْجَامِعُونَ لِأَمرِهِمْ=وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ بِغَيْرِ خَلَاقِ

أَيَظَلُّ بَعْضُهُمُ لِبَعضٍ خَاذِلًا=وَيُقَالُ شَعْبٌ فِي الْحَضَارَةِ رَاقِ؟!

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِشْقَاءَ الْقُرَى=جَعَلَ الْهُدَاةَ بِهَا دُعَاةَ شِقَاقِ

***

يَا أَهْلَ مِصْرَ كِلُوا الْأُمُورَ لِرَبِّكُمْ=فَاللَّهُ خَيْرٌ مَوْئِلًا وَوَكِيلَا

جَرَتِ الْأُمُورُ مَعَ الْقَضَاءِ لِغَايَةٍ=وَأَقَرَّهَا مَنْ يَمْلِكُ التَّحْوِيلَا

أَخَذَتْ عِنَانًا مِنْهُ غَيْرَ عِنَانِهَا=سُبْحَانَهُ مُتَصَرِّفًا وَمُدِيلَا

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:

((التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ))

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الحَمَّادُون
  المد الشيعي في مصر
  عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ
  الرد على الملحدين:دليل العناية على وجود الله عز وجل
  الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  التكفير .. أصوله وضوابطه
  الْجيْشُ الْمِصْرِيُّ الْأَبِيُّ وَشَيْخُ الْحَدَّادِيَّةِ
  عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ
  الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان