التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّدَيُّنِ فَقَطْ!

التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّدَيُّنِ فَقَطْ!

((التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّدَيُّنِ فَقَطْ!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((شَرِيعَةُ الْوَسَطِيَّةِ وَمُجَانَبَةِ التَّطَرُّفِ))

فَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطِيَّةَ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأُمُورُ الْفِطْرَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِبِلَّةِ، فَهِيَ كَائِنَةٌ فِي النُّفُوسِ، فَسَهُلَ عَلَيْهَا قَبُولُهَا.

وَمِنَ الْفِطْرَةِ: النُّفُورُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْإِعْنَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].

وَقَدْ أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ شَرِيعَةً عَامَّةً وَدَائِمَةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ سَهْلًا مُيَسَّرًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا انْتَفَى عَنْهَا الْإِعْنَاتُ وَالْمَشَقَّةُ، فَكَانَ مِنْ أَهَمِّ سِمَاتِهَا: الْوَسَطِيَّةُ، وَالْيُسْرُ، وَالسَّمَاحَةُ.

((الْوَسَطِيَّةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ))

وَالْوَسَطِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى الْوَسَطِ، وَقَدْ وَرَدَتْ كَلِمَةُ (الْوَسَطِ) بِاشْتِقَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةِ الْمَعَانِي؛ وَلَكِنْ يَظْهَرُ مَفْهُومُ الْوَسَطِيَّةِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَشْمَلُ، وَذَلِكَ وَفْقَ النُّصُوصِ.

فَالْوَسَطِيَّةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ، وَجَمِيعَ جَوَانِبِ التَّشْرِيعِ، وَالتَّنْظِيمِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْعَدْلِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالتَّوَازُنِ فِي كُلِّ الْمُجَرَّبَاتِ.

كَمَا تَعْنِي الْوَسَطِيَّةُ الْخَيْرِيَّةَ وَالْفَضْلَ، وَحُسْنَ السُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَدَبَ، وَفِي مُقَدِّمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ -تَعَالَى-.

وَهَذِهِ الشُّمُولِيَّةُ فِي مَفْهُومِ الْوَسَطِيَّةِ تُسْهِمُ -وَلَا شَكَّ- فِي بَيَانِ مَجَالَات تَطْبِيقَاتها الْمُتَعَدِّدَة فِي الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ هِيَ وَسَطِيَّةُ عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَاتِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَذَلِكَ اتِّسَاقًا مَعَ وَصْفِ اللهِ -تَعَالَى- لَهَا بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وَلِأَنَّهَا أُمَّةُ الْخَيْرِ الَّتِي وَصَفَهَا اللهُ -تَعَالَى- أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

فَوَسَطِيَّةُ الْإِسْلَامِ تَعْنِي جُمْلَةَ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهَا سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَبْقَاهَا اللهُ وَشَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ لِعُمُومِ الْخَلَائِقِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَتَعَارَضُ فِيهَا النَّقْلُ وَالْعَقْلُ الْبَتَّةَ، بَلْ يَتَصَادَقَانِ وَيَتَوَافَقَانِ.

((دِينُ اللهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ))

وَدِينُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَاللهُ -تَعَالَى- مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرٍ إِلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ؛ إِمَّا إِفْرَاطٌ، وَإِمَّا تَفْرِيطٌ.

وَمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ؛ إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، وَإِمَّا إِلَى إِفْرَاطٍ وَغُلُوٍّ.

وَدِينُ اللهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَافِي عَنْهُ وَالْغَالِي فِيهِ؛ كَالْوَادِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَالْهُدَى بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، وَالْوَسَطِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ ذَمِيمَيْنِ، فَكَمَا أَنَّ الْجَافِيَ عَنِ الْأَمْرِ مُضَيِّعٌ لَهُ؛ فَالْغَالِي فِيهِ مُضَيِّعٌ لَهُ، هَذَا بِتَقْصِيرٍ عَنِ الْحَدِّ، وَهَذَا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ.

((دَعْوَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الْوَسَطِيَّةِ))

وَالْقُرْآنُ الْمَجِيدُ زَاخِرٌ بِكَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29].

وَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23].

فَدِينُنَا دِينُ الْوَسَطِيَّةِ..

وَرَسُولُنَا ﷺ رَسُولُ الْوَسَطِيَّةِ..

وَأُمَّتُنَا أُمَّةٌ وَسَطٌ..

وَقَدْ جَاءَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ لِيَنْشُرَ الرَّحْمَةَ وَالْوَسَطِيَّةَ وَالِاعْتِدَالَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، بَعِيدًا عَنِ التَّعْقِيدِ وَالْجُمُودِ، وَالتَّشَدُّدِ وَالتَّزَمُّتِ، وَالْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

وَمِنْ دَوَاعِي فَخْرِنَا وَعِزِّنَا، وَشُكْرِنَا لِرَبِّنَا: أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ، وَهُوَ دِينٌ وَاضِحٌ لَا غُمُوضَ فِيهِ، وَلَا لَبْسَ فِيهِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَتَعَالِيمُهُ سَهْلَةٌ مُيَسَّرَةٌ تُنَاسِبُ الْإِنْسَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: ((وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)).

قَالَ أَحَدُهُمْ: ((أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا)).

وَقَالَ آخَرُ: ((أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ)).

وَقَالَ آخَرُ: ((أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا)).

فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ للهِ؛ وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَهَكَذَا وَضَعَ نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ النِّقَاطَ عَلَى الْحُرُوفِ؛ لِيُرَسِّخَ مَنْهَجِيَّةَ التَّيْسِيرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلِيَقْضِيَ عَلَى التَّشَدُّدِ وَالتَّزَمُّتِ، وَالْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

((التَّحْذِيرُ مِنَ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ))

وَالِانْحِرَافُ عَنْ مَنْهَجِ الْوَسَطِيَّةِ لَهُ صُورَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ؛ هُمَا: الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْغُلُوُّ وَالْجَفَاءُ.

وَالْغُلُوُّ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ بِأَنْ يُزَادَ فِي الشَّيْءِ فِي حَمْدِهِ أَوْ ذَمِّهِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((الْغُلُوُّ: الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ)).

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الشَّاطِبِيُّ.

وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْغُلُوِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ؛ سَوَاءٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ:

قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَوَسِّطِينَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفْرِطِ وَالْمُفَرِّطِ، وَالْغَالِي وَالْمُقَصِّرِ؛ كَانَتِ الْوَسَطِيَّةُ صِفَةً مُلَازِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ.

وَالتَّطَرُّفُ وَالتَّنَطُّعُ وَالْغُلُوُّ وَالتَّشْدِيدُ كَلِمَاتٌ ذَاتُ مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ التَّطَرُّفُ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ فِي الشَّيْءِ؛ فَهُوَ نَقِيضُ التَّقْصِيرِ، وَقَدْ نَهَى -تَعَالَى- عَنِ الْأَمْرَيْنِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ: التَّكَلُّفُ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالْبَحْثُ عَنْ غَوَامِضِ الْأَشْيَاءِ، وَالْكَشْفُ عَنْ عِلَلِهَا وَغَوَامِضِ مُتَعَبَّدَاتِهَا.

((نَبْذُ الْعَصَبِيَّةِ الْعَمْيَاءِ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَذَّرَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَيُقْتَلُ لِلْعَصَبِيَّةِ؛ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ.

قَالَ ﷺ: ((مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ مُنْتِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ)).

كَسَعَهُ، أَيْ: ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ أَوْ عَلَى عَجِيزَتِهِ بِيَدِهِ، أَوْ بِرِجْلِهِ، أَوْ بِعُرْضِ سَيْفِهِ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَى الْقَوْمُ.

فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ)).

فَقَالَ: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).

حَوْلَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.. حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَلَقَبَيْنِ تَدَاعَى مَنْ تَدَاعَى عَصَبِيَّةً، فَرَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُهَاجِرِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمَدَحَ الْأَنْصَارَ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْصَارَ فِي صَحِيحِ سُنَّتِهِ، وَمَدَحَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ ﷺ؛ وَلَكِنْ لَمَّا تَدَاعَوْا حَوْلَ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَصَبِيَّةً غَضِبَ ﷺ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ! دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).

((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُه، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)).

كَفَى بِالْمُسْلِمِ إِثْمًا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ.

قَالَ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: ٢٦].

((يَقُولُ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}: حَيْثُ أَنِفُوا مِنْ كِتَابَةِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وَأَنِفُوا مِنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِئَلَّا يَقُولُ النَّاسُ: دَخَلُوا مَكَّةَ قَاهِرِينَ لِقُرَيْشٍ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ تَزَلْ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى أَوْجَبَتْ لَهُمْ مَا أَوْجَبَتْ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي، {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الْغَضَبُ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا قَابَلُوهُمْ بِهِ، بَلْ صَبَرُوا لِحُكْمِ اللَّهِ، وَالْتَزَمُوا الشُّرُوطَ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مَا كَانَتْ، وَلَمْ يُبَالُوا بِقَوْلِ الْقَائِلِينَ وَلَا لَوْمِ اللَّائِمِينَ.

{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ}: وَهِيَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَحُقُوقُهَا، أَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِهَا، فَالْتَزَمُوهَا وَقَامُوا بِهَا، {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} مِنْ غَيْرِهِمْ {و} كَانُوا {أَهْلَهَا}: الَّذِينَ اسْتَأْهَلُوهَا؛ لِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ عِنْدَهُمْ وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا})).

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لُحْمَةً وَسُدًى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ شِعَارُهُمُ الَّذِي يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ أَقْوَامًا سَيَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْجُعَلِ يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِأَنْفِهِ!

((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ)).

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، ((كَالْجُعَلِ -وَهُوَ الْجُعْرَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ- يُدَهْدِهُ -أَيْ: يُدَحْرِجُ- الْخِرَاءَ -أَعَزَّكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- بِأَنْفِهِ))؛ لِوَضَاعَتِهِ وَحَقَارَتِهِ.

((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ)).

بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ الْعَصَبِيَّةِ..

وَخُطُورَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الشِّعَارَاتِ الْقَوْمِيَّةِ..

وَإِلَى الشِّعَارَاتِ الْحِزْبِيَّةِ..

وَإِلَى الِانْتِمَاءَاتِ الضَّيِّقَةِ الرَّدِيَّةِ..

وَلَمْ يَجْعَلِ انْتِمَاءً صَحِيحًا سِوَى الِانْتِمَاءِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ، وَلَا تُكْنُوهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ، وَلَا تُكَنُّوا)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنِ انْتَمَى أَوِ انْتَسَبَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ عَصَبِيَّةً بِشِعَارٍ مِنْ شِعَارَاتِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ: ((فَأَعِضُّوهُ -فَأَمِصُّوهُ- بِهَنِ أَبِيهِ، وَلَا تُكْنُوهُ))، هَكَذَا ظَاهِرًا، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْعَى لِفُحْشٍ؛ وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ قُبْحِ الْعَصَبِيَّةِ بِانْتِمَائِهَا.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ قَدْ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ؛ ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ))؛ فَلَا يَفْخَرَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.

((النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))؛ حَتَّى لَا يَتَكَبَّرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ.

وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَأَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ.

((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَ أَرْضٍ، وَلَا يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَ شِعَارٍ، وَلَا يَنْتَمُونَ إِلَى وَطَنٍ يَتَعَصَّبُونَ إِلَيْهِ عَصَبِيَّةً جَاهِلِيَّةً.

الِانْتِمَاءُ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ، وَالِانْتِمَاءُ إِلَى الْأَرْضِ مَحَلُّ الْمَوْلِدِ، وَحُبُّ الْوَطَنِ مِمَّا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ، وَبِاسْتِقْرَاءِ تَصَرُّفَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَجِدُهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْبَلَدِ وَالْوَطَنِ مَحَلِّ الْمَوْلِدِ سَائِغٌ عِنْدَهُمْ.

الِانْتِمَاءُ إِلَى الدَّوْلَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ؛ فَالْوَطَنِيَّةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَالدَّوْلَةِ الَّتِي يَعِيشُ مَعَهَا، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ.

أَوْ هِيَ الِانْتِمَاءُ إِلَى الْأَرْضِ بِرِبَاطِ الدِّينِ بِمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ.

وَالْوَطَنِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَاطِفَةٌ تُعَبِّرُ عَنِ انْتِمَاءِ الْمَرْءِ لِبَلَدِهِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ لِبَلَدِهِ وَوَطَنِهِ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الظَّاهِرَةِ، وَشَرَائِعِ الدِّينِ الْمُعْلَنَةِ، وَمِنْ حَيْثُ هِيَ قِيَامُ الْمُسْلِمِ بِحُقُوقِ وَطَنِهِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْإِسْلَامِ، الْوَطَنِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ.

وَحُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ.

إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَصَّبُونَ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ مَقَتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ إِذْ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ وَالْبِيَعِ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَهُوَ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ.

لَمَّا عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.. عَيَّرَهُ بِلَوْنِ أُمِّهِ فَقَالَ: ((يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ!)).

وَاشْتَكَى بِلَالٌ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ، ((مَنِ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟)).

فَقَالَ: ((وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؛ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ)).

لَا انْتِمَاءَ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَمِي إِلَى عَائِلَةٍ، وَلَا قَبِيلَةٍ، وَلَا شَعْبٍ، وَلَا وَطَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ أَنْسَابِنَا مَا نَصِلُ بِهِ أَرْحَامَنَا فَقَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ)).

وَلَكِنْ لَا عَصَبِيَّةَ، وَلَا انْتِمَاءَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ، إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ.

وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يُخْبِرُكُمْ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).

وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، اعْمَلُوا؛ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ؛ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

لَا أَحْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا أَنْسَابَ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، فَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ مُسْلِمًا مُوقِنًا مُحْسِنًا فَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى عِنْدَ رَبِّهِ، وَهُوَ مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ، وَمَنْ جَاءَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا- بِالْعَمَلِ الطَّالِحِ فَلَهُ الْمَكَانُ الْأَرْدَى وَلَا كَرَامَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا- كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.

فَاتَّقُوا اللهَ، وَصَحِّحُوا انْتِمَاءَاتِكُمْ، وَطَلِّقُوا شِعَارَاتِكُمْ دُونَ شِعَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، تَحَلَّقُوا حَوْلَ تَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَحَوْلَ اتِّبَاعِكُمْ لِنَبِيِّكُمْ ﷺ!

  ((التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّدَيُّنِ فَقَطْ.. وَالرِّيَاضَةُ مِثَالٌ))

التَّطَرُّفُ حَيْثُ أُطْلِقَ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْأَفْكَارِ الدِّينِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، حَاوَلَ الْمُتَطَرِّفُونَ مِنْ خِلَالِهَا إِثَارَةَ الْحِقْدِ فِي النُّفُوسِ، وَالنَّيْلَ مِنَ السُّلْطَاتِ الْحَاكِمَةِ، وَزَعْزَعَةَ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ.

وَمَفْهُومُ التَّطَرُّفِ الْمُعَاصِرِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُجَاوَزَةَ الِاعْتِدَالِ فِي الْفِكْرِ وَالسُّلُوكِ مِنْ خِلَالِ تَبَنِّي أَفْكَارٍ دِينِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ يَتَجَاوَزُ مَدَاهَا الْحُدُودَ.

إِنَّ التَّطَرُّفَ فِي الرِّيَاضَةِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّطَرُّفِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَيَتَجَلَّى في التَّعَصُّبِ الْأَعْمَى، وَقَدْ أَصْبَحَ التَّعَصُّبُ الرِّيَاضِيُّ مِنْ أَشْهَرِ أَمْرَاضِ الْعَصْرِ الَّتِي أَصَابَتِ الرِّجَالَ كِبَارًا وَصِغَارًا، وَطَالَ حَتَّى النِّسَاءَ، وَلَا يَخْلُو هَذَا التَّطَرُّفُ الرِّيَاضِيُّ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ صَاحِبَهُ عَلَى ارْتِكَابِ أَفْعَالٍ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنِ ارْتِكَابِهَا شَرْعًا؛ كَالسُّخْرِيَةِ، وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ، وَإِطْلَاقِ عِبَارَاتِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ، وَالِاحْتِقَارِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ رُبَّمَا تَدْفَعُهُ إِلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنَ اشْتِبَاكٍ بِالْأَيْدِي، وَاعْتِدَاءٍ عَلَى الْآخَرِينَ، فَتَتَحَوَّلُ الرِّيَاضَةُ مِنْ كَوْنِهَا وَسِيلَةً لِلتَّنَافُسِ الشَّرِيفِ إِلَى خُصُومَةٍ وَصِرَاعٍ.

* مِنْ آفَاتِ التَّعَصُّبِ الرِّيَاضِيِّ: السُّخْرِيَةُ، وَالتَنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ، ((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

السُّخْرِيَةُ: هِيَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِازْدِرَاءُ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}؛ فَيُخَاطِبُنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِوَصْفِ الْإِيمَانِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وَيَنْهَانَا أَنْ يَسْخَرَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَضِّلَ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِذَا كَانَ هُوَ اللهُ؛ لَزِمَ مِنْ سُخْرِيَتِكَ بِهَذَا الشَّخْصِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ أَنْ تَكُونَ سَاخِرًا بِتَقْدِيرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَلِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ فِي الْمَالِ، أَوْ فِي الْخُلُقِ، أَوْ فِي الْخِلْقَةِ، أَوْ فِي الْحَسَبِ، أَوْ فِي النَّسَبِ؟!! لِمَاذَا تَسْخَرُ مِنْهُ؟!!

أَلَيْسَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْفَضْلَ هُوَ اللهُ الَّذِي حَرَمَهُ هَذَا -فِي تَصَوُّرِكَ-؟!! فَلِمَاذَا؟!!

وَلِهَذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}: رُبَّ سَاخِرٍ الْيَوْمَ مَسْخُورٌ مِنْهُ فِي الْغَدِ، وَرُبَّ مَفْضُولٍ الْيَوْمَ يَكُونُ فَاضِلًا فِي الْغَدِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ.

إِذَنْ؛ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِمَا أَدَّبَهُ اللهُ بِهِ، فَلَا يَسْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ؛ عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ، {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}: وَنَصَّ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِالتَّفْصِيلِ؛ حَتَّى لَا يَقُولَ أَحَدٌ: (إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالرِّجَالِ) لَوْ ذَكَرَ الرِّجَالَ وَحْدَهُمْ، أَوْ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.

وَهَذَا الْأَدَبُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ.

فَمِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسَبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ: بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزِ: بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةُ، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}؛ أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}؛ أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بِاسْتِحْلَالِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

* مِنْ آفَاتِ التَّعَصُّبِ الرِّيَاضِيِّ: الْفُحْشُ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ،  عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.


وَعَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ صَحِيحٌ.

«الطَّعَّانُ»: الْوَقَّاعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ بِالذَّمِّ وَالْغِيبَةِ.

«اللَّعَّانُ»: هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ اللَّعْنَ .

«الْفَاحِشُ»: الْمُتَعَدِّي بِزِيَادَةِ الْقُبْحِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

«الْبَذِيءُ»: الَّذِي لَا حَيَاءَ لَهُ، وَهُوَ بَذِيءُ اللِّسَانِ.

قَوْلُهُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ»: نَفْيٌ لِكَمَالِهِ، لَا لِأَصْلِهِ؛ أَيْ: لَيْسَ كَامِلُ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ طَعَّانًا، أَوْ لَعَّانًا، أَوْ فَاحِشًا، أَوْ بَذِيئًا، لَا أَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ أَصْلَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ كَافِرًا.

«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ»: اخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْكَامِلَ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مِنَ الْمَنْقَصَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْمَعْصُومُ هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

«الْفَاحِشُ»: ذُو الْفُحْشِ فِي قَوْلِهِ وَفَعَالِهِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي؛ فَكَثِيرًا مَا تَرِدُ الْفَاحِشَةُ بِمَعْنَى الزِّنَا، وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَهِيَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْفَاحِشَةُ إِذَا أُطْلِقَتِ انْصَرَفَتْ عَلَى حَسَبِ الْمَعْهُودِ ذِهْنِيًّا إِلَى الزِّنَا؛ وَلَكِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ فَاحِشَةٌ، «ولَا الْبَذِيءِ»: وَهُوَ الْفَاحِشُ فِي قَوْلِهِ: «وَبَذَأَ الرَّجُلُ» إِذَا سَاءَ خُلُقُهُ، وَ«الْبَذَاءُ»: الْكَلَامُ الْقَبِيحُ.

فَالْمُسْلِمُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ بَيَّنَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَوَضَّحَهَا، وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُعْلَى بِهِ الدَّرَجَاتُ فِي الْجِنَانِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَنَالُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وأَحَاسِنُ النَّاسِ أَخْلَاقًا هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ مَجْلِسًا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ بِمَعَالِمِهِ، وَتَتَبُّعِ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فِي مَظَانِّهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ إِلَى وَاقِعٍ يَعِيشُهُ، فَيَلْتَزِمُ بِأَوَامِرِ اللهِ؛ فَيَجْتَنِبُ نَوَاهِيَ اللهِ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وُجُوبُ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَوُجُوبُ الِامْتِنَاعِ عَنْ قَبِيحِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَوُجُوبُ الِامْتِنَاعِ عَنْ بَذَاءَةِ اللِّسَانِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: ((أَلْأَمُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْفُحْشُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

«أَلْأَمُ»: اللَّئِيمُ ضِدُّ الْكَرِيمِ، وَاللُّؤْمُ: هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْإِنْسَانِ الشُّحُّ، وَمَهَانَةُ النَّفْسِ، وَدَنَاءَةُ الْآبَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَذَمِّ مَا يُهْجَى بِهِ -يَعْنِي «اللُّؤْمَ»-.

«الْفُحْشُ»: هُوَ الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

«اللَّئِيمُ»: هُوَ الدَّنِيُّ الْأَصْلِ، الشَّحِيحُ النَّفْسِ.

وَ(اللُّؤْمُ): اسْمُ لِخِصَالٍ تَجْتَمِعُ، وَهِيَ: الْبُخْلُ، وَاخْتِيَارُ مَا تَنْفِيهِ الْمُرُوءَةُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الدَّنِيَّةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: شَنَاعَةُ صِفَةِ الْفُحْشِ فِي الْمَرْءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْفَلَتَ لِسَانُهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ كَالسَّبُعِ، إِذَا مَا أُطْلِقَ عَلَى حَسَنَاتِ الْمَرْءِ الْتَهَمَهَا وَافْتَرَسَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».

فَإِذَا انْفَلَتَ لِسَانُ الْمَرْءِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ، وَيَكُونُ هَذا دَاعِيًا لِلْقَبِيحِ مِنَ الْفِعْلِ، وَالْفُحْشُ هُوَ: الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، «وَأَلْأَمُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْفُحْشُ».

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«إِنَّ اللَّعَّانِينَ»: الَّذِينَ يُكْثِرُونَ اللَّعْنَ، «لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ»: لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلى الْأُمُمِ بِتَبْلِيغِ رُسُلِهِمْ إِلَيْهِمْ، أَوْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِفِسْقِهِمْ، أَوْ لَا يُرْزَقُونَ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تعَالَى-.

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ ﷺ: «شُهَدَاءَ».

«وَلَا شُفَعَاءَ»: فَيُحْرَمُ اللَّعَّانُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِهِمْ، وَأَقَارِبِهِمْ، وَلِمَنْ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِمْ.

فِي الْحَدِيثِ: الزَّجْرُ عَنِ اللَّعْنِ، وَأَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ لَا يَكُونُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّعَاءِ يُرَادُ بِهَا الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَيْسَ الدُّعَاءُ بِهَذَا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالرَّحْمَةِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَجَعَلَهُمْ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَمَنْ دَعَا عَلَى أَخِيهِ بِاللَّعْنَةِ-وهِيَ الْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ- فَهِيَ مِنْ نِهَايَةِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُدَابَرَةِ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يَوَدُّهُ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ، وَيَدْعُو بِهِ عَلَيْهِ.

الْمُؤْمِنُ عَفُّ اللِّسَانِ، طَاهِرُ الْجَنَانِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ)).

قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنْ بُعِثْتُ رَحْمَةً». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ رَحِيمًا بِالنَّاسِ، شَفِيقًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَرَفِيقًا بِمُخَالِفِيهِ؛ لِذَلِكَ أَبَى ﷺ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا.

* وَمِنْ آفَاتِ التَّعَصُّبِ الرِّيَاضِيِّ: التَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ، وَالتَّدَابُرُ وَالتَّقَاطُعُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ)) أَيْ: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ ((أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أُمُورٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((لَا تَحَاسَدُوا)) يَعْنِي: لَا يَحْسُدُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.

الْحَسَدُ مَرْكُوزٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَنَاجَشُوا))؛ فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّجَشِ فِي الْبَيْعِ: هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا؛ إِمَّا لِنَفْعِ الْبَائِعِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ لَهُ، أَوْ بِإِضْرَارِ الْمُشْتَرِي بِتَكْثِيرِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: ((النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ)).

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ((أَجْمَعُوا أَنَّ فَاعِلَهُ عَاصٍ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ بِالنَّهْيِ عَالِمًا)).

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التَّبَاغُضِ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا))؛ فَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللهِ؛ بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ إِخْوَةً، وَالْإِخْوَةُ يَتَحَابُّونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَتَبَاغَضُونَ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَامْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ الْمَشْيَ بِالنَّمِيمَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَرَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَغَّبَ اللهُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].

وَأَمَّا الْبُغْضُ فِي اللهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ لِرَجُلٍ مِنْ أَخِيهِ شَرٌّ فَأَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعْذُورًا فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ أُثِيبَ الْمُبْغِضُ لَهُ وَإِنْ عُذِرَ أَخُوهُ.

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِ وَقَطِيعَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ: ((وَلَا تَدَابَرُوا))، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّدَابُرُ: الْمُصَارَمَةُ وَالْهِجْرَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التَّقَاطُعُ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)).

وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السَّلْمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) ، وَغَيْرِهَا.

((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)) يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ، وَكُلُّ هَذَا فِي التَّقَاطُعِ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأَمَّا لِأَجْلِ الدِّينِ؛ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِجْرَانِهِمْ لَمَّا خَافَ مِنْهُمُ النِّفَاقَ، وَأَبَاحَ هِجْرَانَ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى الْأَهْوَاءِ.

وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ.. أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا.

وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْقَطِعُ الْهِجْرَانُ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ بِدُونِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَوَدَّةِ.

وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَقَالَ فِي الْأَجَانِبِ: تَزُولُ الْهِجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِوُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)) هَذَا قَدْ تَكَاثَرَ النَّهْيُ عَنْهُ؛ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَاخْتَلَفُوا: هَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ.

وَمَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَبْذُلُ لِلْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ لِيَشْتَرِيَهَا، وَيَفْسَخُ بَيْعَ الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا))؛ هَذَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَرَكُوا التَّحَاسُدَ، وَالتَّنَاجُشَ، وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّدَابُرَ، وَبَيْعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ؛ كَانُوا إِخْوَانًا.

وَفِيهِ أَمْرٌ بِاكْتِسَابِ مَا يَصِيرُ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِخْوَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالنُّصْحِ لِلْغَيْرِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ))؛ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً أُمِرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَآلُفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَهَا، وَنُهُوا عَمَّا يُوجِبُ تَنَافُرَ الْقُلُوبِ وَاخْتِلَافَهَا.

قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) يَعْنِي: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))، هَذَا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ بِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ بِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً؛ لِيَتَعَاطَفُوا وَيَتَرَاحَمُوا.

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)).

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: ((لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْكَ ثَلَاثَةً: إِنْ لَمْ تَنْفَعَهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ)).

هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ -كَمَا مَرَّ- مُبْتَدِعًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَبَاحُ عِرْضُهُ بِهِ، كَــ((لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ بَيَّنَ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَصِّلَهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ الَّتِي دَلَّنَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ ضَاعَتْ فِي هَذَا الْوَاقِعِ الْمُعَاصَرِ!!

فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ صَارَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحَقِّقُوهَا فِي حَيَاتِهِمْ، فَضَاعَتْ حُقُوقُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ إِغْفَالِ هَذِهِ الْآدَابِ.

* وَمِنْ آفَاتِ التَّطَرُّفِ الرِّيَاضِيِّ: النِّزَاعُ وَالْفُرْقَةُ، وَشَأْنُ الْإِسْلَامِ دَائِمًا التَّرْغِيبُ فِي كُلِّ مَا يَجْمَعُ الْقُلُوبَ وَلَا يُفَرِّقُهَا، وَيُقِيمُ الرَّوَابِطَ وَلَا يَهْدِمُهَا، وَيَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ مَعَانِيَ الْأُلْفَةِ وَالْوِئَامِ بَدَلَ الْبَغْضَاءِ وَالْخِصَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

((هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا حَثُّ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَمْسِكُوا بِحَبْلِهِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ السَّبَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ دِينُهُ وَكِتَابُهُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ، وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ.

وَذَكَّرَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ؛ وَهُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً مُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، وَنَهَجَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّعَادَةِ، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إِلَى شُكْرِ اللَّهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِهِ)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}: {وَلَا تَفَرَّقُوا}: أَمَرَهُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفْرِقَةِ)).

وَقَدْ نَهَى رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

(({وَلا تَنَازَعُوا}: تَنَازُعًا يُوجِبُ تَشَتُّتَ الْقُلُوبِ وَتَفَرُّقَهَا {فَتَفْشَلُوا} أَيْ: تَجْبُنُوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أَيْ: تَنْحَلَّ عَزَائِمُكُمْ، وَتَفَرَّقَ قُوَّتُكُمْ، وَيُرْفَعَ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

{وَاصْبِرُوا}: نُفُوسَكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}: بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ)).

* وَمِنْ آفَاتِ التَّطَرُّفِ الرِّيَاضِيِّ: حُزْنُ الْقَلْبِ الَّذِي يُصِيبُ الْمُتَعَصِّبِينَ عَصَبِيَّةً عَمْيَاءَ، وَفِى ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَكَانَ يَقُولُ ﷺ فِي دُعَائِهِ: ((اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)).

فَاسْتَعَاذَ ﷺ بِرِبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ كُلُّ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ؛ فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ، وَهُمَا الْأَلَمُ الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ؛ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فَهُوَ الْحَزَنُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ الْهَمُّ، فَالْأَلَمُ الْوَارِدُ إِنْ كَانَ مَصْدَرُهُ فَوْتَ الْمَاضِي أَثَّرَ الْحَزَنَ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرُهُ خَوْفَ الْآتِي أَثَّرَ الْهَمَّ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ الْحَزَنَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَزَنَ يُضْعِفُ الْقَلْبَ، وَيُوهِنُ الْعَزْمَ، وَيَضُرُّ الْإِرَادَةَ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ حُزْنِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10].

فَالْحَزَنُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ، يَمْنَعُهُ مِنْ نُهُوضِهِ وَسَيْرِهِ وَتَشْمِيرِهِ، وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْمَصَائِبِ الَّتِي يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ كَالْمَرَضِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَأْمُورًا بِتَحْصِيلِهَا وَطَلَبِهَا فَلَا، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَمَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْبَلِيَّاتِ.

وَلَكِنْ يُحْمَدُ فِي الْحَزَنِ سَبَبُهُ وَمَصْدَرُهُ وَلَازِمُهُ، لَا ذَاتُهُ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِمَّا أَنْ يَحْزَنَ عَلَى تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي خِدْمَة رَبِّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْزَنَ عَلَى تَوَرُّطِهِ فِي مُخَالَفَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَضَيَاعِ أَيَّامِهِ وَأَوْقَاتِهِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى حَيَاتِهِ، حَيْثُ شُغِلَ قَلْبُهُ بِمِثْلِ هَذَا الْأَلَمِ فَحَزِنَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ مَيْتًا لَمْ يُحِسَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَحْزَنْ وَلَمْ يَتَأَلَّمْ، فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ، وَكُلَّمَا كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ حَيَاةً كَانَ شُعُورُهُ بِهَذَا الْأَلَمِ أَقْوَى، وَلَكِنَّ الْحُزْنَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يُضْعِفُهُ، بَلِ الَّذِى يَنْفَعُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ السَّيْرَ وَيَجِدَّ وَيُشَمِّرَ، وَيَبْذُلَ جُهْدَهُ.

* وَمِنْ آفَاتِ التَّطَرُّفِ وَالتَّعَصُّبِ الرِّيَاضِيِّ الْأَعْمَى: ضَيَاعُ الْعُمُرِ، وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ: قَضِيَّةُ الزَّمَنِ.. قَضِيَّةُ الْوَقْتِ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَيْهِ، فَيُبَدِّدُهَا تَبْدِيدًا، وَلَا يُرَاقِبُ فِيهَا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- سَائِلُهُ عَنْهَا إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ((لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ))، عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ؛ مَاذَا صَنَعَ فِيهِ؟!!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّمَا ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهَا بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ الْعُمُرَ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَإِذَا بَدَّدَهُ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَابِحًا بِحَالٍ.

إِنَّ الزَّمَنَ هُوَ أَجَلُّ وَأَشْرَفُ مَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ هُوَ الْعُمُرُ الْإِنْسَانِيُّ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ لَحْظَةِ الْوَضْعِ، وَتَنْتَهِي بِأَنَّةِ النَّزْعِ.

وَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهُوَ مَادَّةُ مَعِيشَتِهِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.

وَالْعُمُرُ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَبِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْ وَقْتٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ؛ وَإِنْ عَاشَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبَطَالَةُ؛ فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ!

يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ.

وَالْعَاقِلُ الْمُوَفَّقُ مَنْ أَدْرَكَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، فَاغْتَنَمَ عُمُرَهُ فِي عِلْمٍ نَافِعٍ يَحْفَظُهُ، وَيَحْفَظُ الْأُمَّةَ بِهِ فِي نَفْسِهَا وَمِنْ عَدُوِّهَا؛ لِيَجْعَلَهَا أُمَّةً تَكُونُ يَدُهَا هِيَ الْعُلْيَا، وَلَيْسَتِ السُّفْلَى؛ فِي جِهَادٍ مُبَارَكٍ قَلَمًا وَلِسَانًا وَسِنَانًا، فِي أَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ، فِي تَرْبِيَةٍ لِعُقُولٍ وَأَفْئِدَةٍ وَأَحَاسِيسَ لِكَيْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ النَّاسُ، وَلِتَمْكُثَ فِي الْأَرْضِ لِتُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.

مَنْ أَمْضَى يَوْمَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَضَاهُ، أَوْ فَرْضٍ أَدَّاهُ، أَوْ مَجْدٍ أَثَّلَهُ، أَوْ حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أَوْ خَيْرٍ أَسَّسَهُ، أَوْ عِلْمٍ اقْتَبَسَهُ؛ فَقَدْ عَقَّ يَوْمَهُ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَظُلْمُهُ هَذَا يَتَحَسَّسُهُ أَشَدَّ مَا يَكُونُ عِنْدَ سَاعَةِ احْتِضَارِهِ، عِنْدَمَا يَرَاهُ قَدْ أَوْدَى بِهِ إِلَى الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، فَيَتَمَنَّى عَلَى اللهِ أَنْ يُؤَخَّرَ حَتَّى يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ، وَيَتَدَارَكَ مَا فَاتَ، وَأَنَّى لَهُ أَنْ يُمْهَلَ وَقَدْ تَحَتَّمَ الْأَجَلُ، وَنَزَلَ الْمَوْتُ فِي سَاحَتِهِ، وَارْتَحَلَ الْأَمَلُ!

إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي حَالِ صِحَّتِنَا، وَلَا فِي حَالِ فَرَاغِنَا وَعَدَمِ شُغُلِنَا، وَلَا فِي حَالِ شَبَابِنَا، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الصِّحَّةِ لِلْمَرَضِ، وَأَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْفَرَاغِ لِلشُّغُلِ، وَمِنَ الشَّبَابِ لِلْهَرَمِ؛ فَلْيَحْرِصِ الشَّابُّ الْمُسْلِمُ عَلَى أَوْقَاتِهِ وَسَاعَاتِهِ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَلْيَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ)).

وَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟)).

قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».

قَالَ: ((فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟)).

قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

إِنَّمَا هُوَ عُمُرُكَ يُؤَدِّي بِكَ إِلَى إِحْدَى نَتِيجَتَيْنِ؛ إِمَّا إِلَى السَّعَادَةِ، وَإِمَّا إِلَى الشَّقَاوَةِ، احْرِصْ عَلَى وَقْتِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ فَوَّتَّهُ فَأَنْتَ مَمْقُوتٌ؛ فَاتَّقِ اللهَ وَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ، وَاشْغَلْ وَقْتَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَالطَّاعَةِ، وَالذِّكْرِ، وَبِالتَّعَلُّمِ، وَالْعَمَلِ، وَبِالتَّعْلِيمِ إِنْ كُنْتَ لَهُ أَهْلًا.

وَاتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نَفْسِكَ وَفِيمَنْ حَوْلَكَ، وَكُنْ كَمَا كَانَ سَلَفُكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُهْتَدِينَ الرَّبَّانِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَابِقُونَ السَّاعَاتِ، وَيُبَادِرُونَ اللَّحَظَاتِ ضَنًّا مِنْهُمْ بِالْوَقْتِ، وَحِرْصًا عَلَى أَلَّا يَذْهَبَ مِنْهُمُ الْوَقْتُ هَدَرًا.

((مُمَارَسَةُ الرِّيَاضَةِ فِي مِيزَانِ الشَّرِيعَةِ))

((الرِّيَاضَةُ: هِيَ التَّمَرُّنُ وَالتَّمْرِينُ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَالتَّدْرِيبُ عَلَى سُلُوكِ الْوَسَائِلِ النَّافِعَةِ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا الْمَقَاصِدُ الْجَلِيلَةُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رِيَاضَةُ الْأَبْدَانِ، وَرِيَاضَةُ الْأَخْلَاقِ، وَرِيَاضَةُ الْأَذْهَانِ.

وَوَجْهُ الْحَصْرِ: أَنَّ كَمَالَ الْإِنْسَانِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ بَدَنِهِ؛ لِمُزَاوَلَةِ الْأَعْمَالِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَتَكْمِيلُ أَخْلَاقِهِ؛ لِيَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً مَعَ اللهِ وَمَعَ خَلْقِهِ، وَتَحْصِيلُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ الصَّادِقَةِ.

وَبِذَلِكَ تَتِمُّ أُمُورُ الْعَبْدِ، وَالنَّقْصُ إِنَّمَا يَكُونُ بِفَقْدِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، أَوِ اثْنَيْنِ، أَوْ كُلِّهَا.

وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مِمَّا حَثَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَهِيَ: أَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوِ اسْتِحْبَابٍ؛ لَكَفَى دَلِيلًا وَبُرْهَانًا عَلَى الْعِنَايَةِ بِالرِّيَاضَةِ بِأَنْوَاعِهَا.

الرِّيَاضَةُ الْبَدَنِيَّةُ: بِتَقْوِيَةِ الْبَدَنِ بِالْحَرَكَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَبِالْمَشْيِ، وَالرُّكُوبِ، وَأَصْنَافِ الْحَرَكَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ عَادَةٌ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ فِيهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَحْذُورٌ.

وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْعَوَائِدَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةِ عَرَفْتَ أَنَّهَا مُغْنِيَةٌ عَنْ غَيْرِهَا؛ كَحَرَكَاتِ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْمَشْيِ إِلَى الْعِبَادَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا؛ خُصُوصًا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَلَذُّذُ الْعَبْدِ بِهَا، وَحَرَكَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَحَرَكاتِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّمْرِينِ عَلَى الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالْكِتَابَةِ، أَصْنَافُ الصِّنَاعَةِ وَالْحِرَفِ كُلُّهَا دَاخِلٌ فِي الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّةِ.

وَيَخْتَلِفُ نَفْعُ الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ قُوَّةً وَضَعْفًا، نَشَاطًا وَكَسَلًا.

وَمَتَى تَمَرَّنَ عَلَى الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّةِ قَوِيَتْ أَعْضَاؤُهُ، وَاشْتَدَّتْ أَعْصَابُهُ، وَخَفَّتْ حَرَكَاتُهُ، وَزَادَ نَشَاطُهُ، وَاسْتَحْدَثَ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِهِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ؛ لِأَنَّ الرِّيَاضَةَ الْبَدَنِيَّةَ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُقْصَدُ لِغَيْرِهَا، لَا لِنَفْسِهَا.

وَأَيْضًا إِذَا قَوِيَتِ الْأَبْدَانُ وَحَرَكَاتُهَا ازْدَادَ الْعَقْلُ، وَقَوِيَ الذِّهْنُ، وَقَلَّتِ الْأَمْرَاضُ أَوْ خَفَّتْ، وَأَغْنَتِ الرِّيَاضَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا أَوْ يُضْطَرُّ لَهَا مَنْ لَا رِيَاضَةَ لَهُ.

وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّيَاضَةَ الْبَدَنِيَّةَ غَايَتَهُ وَمَقْصُودَهُ؛ فَيَضِيعَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ، وَيَفْقِدَ الْمَقْصُودَ وَالْغَايَةَ النَّافِعَةَ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ، وَيَخْسَرَ خُسْرَانًا كَثِيرًا، كَمَا هُوَ دَأْبُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لَا غَايَةَ لَهُمْ شَرِيفَةً، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ مُشَارَكَةُ الْبَهَائِمِ فَقَطْ، وَهَذِهِ غَايَةٌ مَا أَحْقَرَهَا، وَمَا أَرْذَلَهَا، وَمَا أَقَلَّ بَقَاءَهَا!)).

عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ ((حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ -هَذِهِ رِيَاضَةٌ-، كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُسَابِقُ عَائِشَةَ، فَسَبَقَهَا، وَسَبَقَتْهُ - - وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- )).

بَلْ كَانَ الْأَحْبَاشُ يَلْعَبُونَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((وَاللَّهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِالْحِرَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِأَنْظُرَ إلَى لَعِبِهِمْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ)).

الْأَئِمَّةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانَتْ لَهُمْ رِيَاضَةٌ -أَيْضًا- مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْخَطَرِ جِدًّا أَلَّا يُحَرِّكَ الْبَدَنَ الْحَرَكَةَ الْكَافِيَةَ لِتَحْصِيلِ الِاعْتِدَالِ فِي الصِّحَّةِ، هَذَا يُؤَدِّي إِلَى سَوْدَاوِيَّةٍ فِي الْفِكْرِ، وَيُؤَدِّي إِلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّظْرَةِ الْمُتَشَائِمَةِ؛ لِمَا يَنْبَعِثُ -حِينَئِذٍ- مِنَ الْأَخْلَاطِ الَّتِي تُؤَثِّرُ عَلَى الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ هَذِهِ الْحَالُ مِنَ السُّكُونِ وَعَدَمِ الْحَرَكَةِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَ أَكُولًا، إِلَى مَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ.

فَالْأَئِمَّةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يُرَاعُونَ ذَلِكَ، وَالَّذِي كَانَ مِنْهُمْ لَا يُرَاعِي ذَلِكَ مُرَاعَاةً ظَاهِرَةً كَانَ يُقَلِّلُ الطَّعَامَ جِدًّا، فَيَسْتَعِيضُ بِهَذَا عَنْ هَذَا.

الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يَرْمِي، وَيُحَافِظُ عَلَى مَهَارَتِهِ فِي الرَّمْيِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَمَعْلُومٌ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((طَلَبْتُ الْفِقْهَ وَالرَّمْيَ، فَصِرْتُ فِي الرَّمْيِ بِحَيْثُ أُصِيبُ عَشْرَةً مِنْ عَشْرَةٍ))، وَسَكَتَ عَنِ الْفِقْهِ.

قَالُوا: ((وَاللهِ! إِنَّكَ فِي الْفِقْهِ لَأَحْذَقُ مِنْكَ بِالرَّمْيِ)).

هُوَ فِي الرَّمْيِ يُصِيبُ عَشْرَةً مِنْ عَشْرَةٍ، قَالُوا: أَنْتَ فِي الْفِقْهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْكَ فِي الرَّمْيِ!

لِأَنَّهُ سَكَتَ تَوَاضُعًا -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَكَانُوا يُرَاعُونَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مِنْ صَنِيعِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي صَنِيعِ غَيْرِهِمْ.

الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يَذْهَبُ إِلَى اللِّقَاطِ، -أَحْيَانًا- عِنْدَمَا تَشْتَدُّ بِهِ الْحَالُ، وَلَا يَجِدُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَأْكُلُهُ، وَالنَّاسُ يَحْصُدُونَ زُرُوعَهُمْ كَالْبُرِّ -مَثَلًا-، وَكَانَ هَذَا شَائِعًا إِلَى عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَكَانَ أَقْوَامٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَطُوفُونَ بِالْقُرَى فِي مَوْسِمِ الْحَصَادِ، فَإِذَا مَا حَصَدَ الزَّارِعُونَ أَوِ الْفَلَّاحُونَ، وَحَمَلُوا زَرْعَهُمْ نَاحِيَةً؛ أَطْلَقُوا هَؤُلَاءِ فِي الْأَرْضِ يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ قَدْ سَقَطَ فِي أَثْنَاءِ الْحَصَادِ أَوْ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْلِ، فَيَأْخُذُونَهُ، ثُمَّ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى إِعْدَادِهِ.

كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ -أَحْيَانًا-، فَيَخْرُجُ مَعَ الْفُقَرَاءِ إِلَى اللِّقَاطِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَالْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَصِّلَ قَدْرًا كَبِيرًا مِمَّا يُلْقَطُ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي تَمْشِي عَلَى يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، فَكَانَ الْفُقَرَاءُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَيَلْتَقِطُونَ وَقَدِ انْحَنوا رَاكِعِينَ، وَأَيْدِيهِمْ إِلَى أَسْفَلَ، فَيَكُونُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَيْئَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ.

كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَأْنَفُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، فَكَانَ يَجْلِسُ الْقُرْفُصَاءَ وَيَلْتَقِطُ، فَكَانَ لَا يَلْتَقِطُ مِثْلَهُمْ.

الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ -مَثَلًا- وَلَا يَجِدُ شَيْئًا؛ كَانَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ فِي الْقَافِلَةِ، فَيَكُونُ فِي الْخِدْمَةِ، يُنْزِلُ الرِّحَالَ عَنِ الْإِبِلِ إِذَا مَا أُنِيخَتْ، وَيَضَعُهَا عَلَيْهَا إِذَا أَرَادُوا الِانْطِلَاقَ وَالسَّفَرَ، وَرُبَّمَا تَخَلَّفَ بَعْدَهُمْ قَلِيلًا يَسِيرًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ مَا سَقَطَ مِنْ أَحَدِ الْمُسَافِرِينَ، يَقُومُ بِالْخِدْمَةِ، كَانَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ نَظِيرَ أَنْ يُسْمَحَ لَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَافِلَةِ، فَيَذْهَبُ إِلَى الْحَجِّ مَاشِيًا، وَرُبَّمَا ذَهَبَ إِلَى صَنْعَاءَ الْيَمَنِ مِنْ مَكَّةَ كَذَلِكَ.

بَلْ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ مَعَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا- مِنْ أَجْلِ الْحَجِّ، ثُمَّ الذَّهَابِ إِلَى صَنْعَاءَ لِلِقَاءِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَلَمَّا كَانَ يَحْيَى فِي الطَّوَافِ أَبْصَرَ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، فَرَجَعَ إِلَى الْإِمْامِ أَحْمَدَ فَقَالَ لَهُ: ((أَبْشِرْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! كَفَاكَ اللهُ الْمَؤُونَةَ)).

قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

قَالَ: ((عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمَوْسِمِ، فَنَسْمَعُ مِنْهُ هَاهُنَا)).

فَقَالَ لَهُ: ((لَا وَاللهِ! لَا أُغَيِّرُ نِيَّتِي)).

فَلَمَّا انْقَضَى الْمَوْسِمُ، وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إِلَى الْجَنُوبِ، إِلَى الْيَمَنِ، إِلَى صَنْعَاءَ؛ سَافَرَ مَعَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَسَمِعَ مِنْهُ فِي صَنْعَاءَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يَبْذُلُونَ الْمَجْهُودَ الْبَدَنِيَّ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ؛ فَتَصْفُو بِذَلِكَ عُقُولُهُمْ، وَتَسْتَضِيءُ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَخْلَاطَ الْفَاسِدَةَ بِكَثْرَةِ الْحَرَكَةِ تَذْهَبُ عَنِ الْإِنْسَانِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ أَنْ يَكُونَ صَافِيَ الذِّهْنِ، مُتَوَقِّدَ الْفِكْرِ.

وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّيَاضَةَ الْبَدَنِيَّةَ غَايَتَهُ وَمَقْصُودَهُ؛ فَإِنَّ إِنْسَانًا قَدْ يُبَالِغُ فِي هَذَا فَيُضَيِّعُ وَقْتَهُ، وَيَقُولُ: هَذِهِ الرِّيَاضَةُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ، فَيَنْبَغِي عَلَيَّ أَنْ أَحْرِصَ عَلَيْهَا! يَضِيعُ عُمُرُهُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ، وَلَا يُغْرِقُ فِي شَيْءٍ، فَهُوَ لَا يُقْبِلُ عَلَى الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُصَارِعًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ بَطَلًا فِي مَجَالٍ كَرَمْيِ الرُّمْحِ أَوْ مَا أَشْبَهَ، هُوَ لَا يَقْصِدُ هَذَا.

وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَالْخُشُونَةِ؛ خَاصَّةً إِنْ كَانَ الْوَلَدُ جَمِيلَ الْمَطْلَعِ، فَيُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، وَيُعَوِّدُهُ الرِّيَاضَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي تَبْنِي جِسْمَهُ، وَتُخَشِّنُ جِلْدَهُ.

((التَّطَرُّفُ الرِّيَاضِيُّ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَوَاقِعٌ مُؤْلِمٌ!))

إِنَّ الشُّرُوخَ تَتَعَمَّقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ الَّذِي يَجْمَعُهُمُ الْمَصِيرُ الْمُشْتَرَكُ، الَّذِينَ وَحَّدَ بَيْنَهُمُ الدِّينُ؛ لِأَمْرٍ تَافِهٍ اسْتُدْرِجُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُبَارَيَاتِ وَهَذِهِ الْمُسَابَقَاتِ فِي الرِّيَاضَةِ، وَفِي الْجَمَالِ -كَمَا يَدَّعُونَ-، وَفِي الْمُوسِيقَى، وَفِي الْمَسْرَحِ، وَفِي السِّينِمَا؛ بَلْ وَفِي الْأَدَبِ؛ كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ يَهُودَ!

وَمَنْ قَرَأَ بُرُوتُوكُولَاتِهِمْ عَرَفَ خَبِيئَةَ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّمَا يَحْرِفُونَ الْبَشَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنَ الْأُمَمِيِّينَ.. مِنَ الْجُويِيم -وَهُمْ: كُلُّ مَنْ لَيْسَ بِيَهُودِيٍّ-، يَحْرِفُونَهُمْ عَنِ الْوُجْهَةِ الصَّحِيحَةِ، مَزَّقُوا رَوَابِطَ الْأُسَرِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ، لَطَّخُوا الشَّرَفَ بِالْعَارِ، وَلَوَّثُوا الْفَضِيلَةَ بِالرَّذِيلَةِ؛ فَلَمْ يَعُدْ شَرَفٌ وَلَا فَضِيلَةٌ، وَصَارَ أَوْلَادُ الْخَنَا يَشْغَلُونَ حَيِّزًا كَبِيرًا مِنْ طِبَاقِ الْأَرْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُكِّنَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ مِنَ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ إِفَاقَةً، وَلَا يُرِيدُونَ مِنَ النَّوْمِ قَوْمَةً، وَإِنَّمَا اسْتَمْرَءُوا لَذِيذَ الْغُمْضِ عَلَى رُعْبٍ وَفَزَعٍ، وَهُمْ مُهَدَّدُونَ فِي مَصِيرِهِمُ الْمُشْتَرَكِ!

فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِيرُ فِيهِ الْأَعْدَاءُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُلْحِدِينَ إِلَى اتِّحَادَاتٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجْمَعُونَ بِهَا صُفُوفَهُمْ، وَيُكَتِّلُونَ بِهَا قُوَاهُمْ؛ يَصِيرُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَهُمُ الدِّينُ، وَأَلْغَى الْفُرُوقَ؛ أَلْغَى فُرُوقَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الِانْتِمَاءَ لِشَيْءٍ يَعْلُو عَلَى الِانْتِمَاءِ لِلْإِسْلَامِ:

أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ         =          إِنِ افْتَخَرُوا بِعَمْرٍو أَوْ تَمِيمِ

فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ الْأُمَّةَ مُتَّحِدَةً عَلَى مَعْنَى الْأُمَّةِ، لَا عَلَى مَعْنَى الْقَوْمِيَّةِ، تَخْرُجُ الْأُمَّةُ حَتَّى مِنْ مَعْنَى الْقَوْمِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْوَطَنِيَّةِ، مِنْ مَعْنَى الرُّقْعَةِ الْمُمْتَدَّةِ مِنَ الْمُحِيطِ إِلَى الْخَلِيجِ قَوْمِيَّةً لَمْ يَتَوَقَّفُوا عِنْدَهَا نُزُولًا، وَلَا حَتَّى صَارَتْ عَلَى حُدُودٍ صَنَعَهَا الْأَعْدَاءُ الَّذِينَ يَتَّحِدُونَ الْيَوْمَ، هُمْ يُلْغُونَ حُدُودَهُمْ، وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِحُدُودِنَا الَّتِي صَنَعُوهَا لَنَا هُمْ، فَهَذِهِ الْحُدُودُ مِنْ صُنْعِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ خَطُّوهَا عَشْوَائِيًّا؛ مِنْ أَجْلِ إِثَارَةِ النَّزْعَاتِ، وَإِقَامَةِ الْحُرُوبِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ!

وَغَفْلَةٌ غَافِلَةٌ، وَمُلَهِّيَةٌ سَادِرَةٌ، وَحَيْرَةٌ عَمْيَاءُ، وَلَا وُجْهَةَ تُحَدَّدُ، وَإِنَّمَا هِيَ انْفِعَالَاتٌ تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ اللَّحْظَةِ!

النَّبِيُّ ﷺ يُعْلِنُ لِلْأُمَّةِ؛ بَلْ لِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمِيعِهَا وَيَقُولُ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

فَهَلْ مِنْ مُسْتَمِعٍ؟! وَهَلْ مِنْ فَاقِهٍ إِذَا اسْتَمَعَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ -وَالْعِرْضُ أَشْمَلُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، الْعِرْضُ: مَوْضِعُ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالْمَدْحِ مِنَ الْإِنْسَانِ؛ فَهُوَ أَشْمَلُ مِنَ الْعِرْضِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّيِّ الْمَأْلُوفِ- إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))، بِلَا تَفْرِيقٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ تَخْتَلِفُ الْأَجْنَاسُ ﷺ، وَتَحْتَ مَوَاقِعِ أَلْفَاظِهِ الشَّرِيفَةِ مَسَامِعُ تَفَاوَتَتْ حَالًا وَمَآلًا.

قَالَ ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا -وَلَيْسَ بِالْكُفْرِ الْأَكْبَرِ- يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

وَقَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).

فِي زَرْعِ الْبَغْضَاءِ، وَإِثَارَةِ الْكَرَاهِيَةِ بِزَرْعِ الِانْتِمَاءَاتِ لِلْأَرْضِ، لِلْقَوْمِيَّةِ، لِلْجِنْسِ، لِلَّوْنِ، لِمَا يُسَمَّى تُرَاثًا وَتَارِيخًا، وَمَا مِنْ تُرَاثٍ يُحْتَرَمُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ إِلَّا تُرَاثَ الْأُمَّةِ، هُوَ وَحْدَهُ الْمُحْتَرَمُ؛ لِأَنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ، وَهُوَ ضَارِبٌ فِي أَعْمَاقِ التَّارِيخِ بِنُزُولِهِ إِلَى آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَهِيَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، أُمَّةُ التَّوْحِيدِ، مُنْذُ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ يُوحِي إِلَيْهِ مَعَانِيَ التَّوْحِيدِ، وَمَعَانِيَ الْفَضِيلَةِ، يُوحِي إِلَيْهِ بِحَقِيقَةِ الْقِيَمِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِي ظِلِّ الدِّينِ الْعَظِيمِ.

إِنَّ الْأَصَابِعَ الْخَفِيَّةَ تَعْمَلُ عَلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ بَيْنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدِيمًا قَالَ قَائِلُ الْمُسْلِمِينَ مُعْتَذِرًا: خَدِّي مَدَاسٌ لَكَ حَتَّى تَرْضَى!

مَنْ أَخْطَأَ يَعْتَذِرُ، وَيَنْتَهِي الْأَمْرُ، وَالْحُقُوقُ تُؤَدَّى فِي ظِلِّ الشَّرِيعَةِ الْغَلَّابَةِ، وَفِي ظِلِّ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ؛ لِأَنَّهَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأُمَّةُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، مَعْنًى دِينِيٌّ، الْأُمَّةُ مَعْنًى إِسْلَامِيٌّ، وَأَمَّا الْقَوْمِيَّةُ وَالْوَطَنِيَّةُ فَأُمُورٌ عَصَبِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالدِّينِ.

أَمَّا الِانْتِمَاءُ إِلَى الدَّوْلَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ؛ فَالْوَطَنِيَّةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ انْتِمَاءُ الْمُسْلِمِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَالدَّوْلَةِ الَّتِي يَعِيشُ مَعَهَا، وَالْقَوْمِيَّةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَا وَقَعَ بَعْضُ شَيْءٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ قَائِلُ الْمُهَاجِرِينَ: ((يَا لَلْمُهَاجِرِينَ))، وَقَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: ((يَا لَلْأَنْصَارِ)).

وَهُمَا لَفْظَانِ شَرِيفَانِ مَمْدُوحَانِ فِي الْكِتَابِ وَفِي السُّنَّةِ، لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ ﷺ تَعَصُّبًا حَوْلَهُمَا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ خَرَجَ فَقَالَ: ((أَوَقَدْ قُلْتُمُوهَا؟! دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ!)).

الْعَصَبِيَّةُ مُنْتِنَةٌ..

الْجُنْدِيُّ الَّذِي يُعَانِي مِنَ الْبَطَالَةِ يُجِيدُ الْمُشَاغَبَاتِ، طَاقَاتٌ لَا تُصْرَفُ فِي الْحَقِّ، طَاقَاتٌ لَا تُصْرَفُ فِي الْعَمَلِ الْجَادِّ الَّذِي يُعَلِّي الْحَيَاةَ، وَيُرَقِّيهَا، وَيُثَمِّرُهَا، وَيُنَمِّيهَا، طَاقَاتٌ تُهْدَرُ، وَجُهُودٌ تَتَبَدَّدُ، وَشَبَابٌ يُسْلَبُ؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟!

وَأَمَّا الدِّينُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ يُوَظِّفُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَجْعَلُ كُلًّا مِنْهُ فِي مَحَلِّهِ بِلَا تَجَاوُزٍ، وَبِلَا تَفْرِيطٍ.

وَنَبِيُّكُمْ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُوصِيكُمْ بِالِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْفُرْقَةِ وَالتَّمَزُّقِ وَالتَّشَتُّتِ، وَقَدْ دَلَّكُمْ قَبْلُ أَنَّكُمْ مَتَى صِرْتُمْ ((غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ تَدَاعَتِ الْأَكَلَةُ عَلَيْكُمْ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ كَثْرَةٌ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ مِنْ قُلُوبِ أَعْدَائِكُمْ)).

 لَمْ يَكُونُوا قَبْلُ يُفَكِّرُونَ مُجَرَّدَ تَفْكِيرٍ فِي الْمُنَابَذَةِ بِالسِّلَاحِ مُوَاجَهَةً، لَا يُقَاتِلُونَكُمْ أَبَدًا جَمِيعًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حُصُونٍ وَجُدُرٍ؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ يَقْتُلُهُمْ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ يُقْعِدُهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ لِخَوَارِ قُلُوبِهِمْ، وَضَعَةِ نُفُوسِهِمْ؛ إِذْ لَا يُقَاتِلُونَ لِمَبْدَإٍ، وَلَا يُحَارِبُونَ لِدِينٍ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا مُقْعَدِينَ، لَا يُوَاجِهُونَ إِلَّا لِمَامًا، وَإِذَا وَاجَهُوا -كَمَا وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ- وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا غَزَا بِإِخْوَانِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خَيْبَرَ، وَعَلِمَتْ بِهِ يَهُودُ؛ دَخَلُوا حُصُونَهُمْ، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ، وَتَرَكُوا خَارِجَهَا -وَهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، وَأَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ- تَرَكُوا خَارِجَ الْأَسْوَارِ أَنْعَامَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَتَرَكُوا خَارِجَ الْأَسْوَارِ -أَسْوَارِ الْحُصُونِ- مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ ذَرَارِيهِمْ، وَمِمَّنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْهُمْ.

يَقُولُونَ فِي عَدْوِهِمْ كَالْحُمُرِ الْفَزِعَةِ: ((مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ))، وَالْخَمِيسُ: الْجَيْشُ، وَقِيلَ لَهُ: خَمِيسٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَمَّسٌ فِي تَكْوِينِهِ؛ مِنْ قَلْبٍ، وَمُقَدِّمَةٍ، وَمُؤَخَّرَةٍ، وَمَيْمَنَةٍ، وَمَيْسَرَةٍ.

مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ مَعَهُ، وَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: ((إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ)) ﷺ.

((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).

وَكَذَا الْأُمَّةُ إِذَا تَمَسَّكَتْ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ فَالْعَطِيَّةُ لَهَا مِنْ بَعْدِهِ، ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).

تَتَوَحَّدُ الْأُمَّةُ، وَأَنْ يَتَوَحَّدَ أَبْنَاؤُهَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَلَّغَ الدِّينَ، وَفِي آخِرِ مَحْفِلٍ لَقِيَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).

((وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَي أُمَّتِهِ مِنْ خَارِجِهَا مَنْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا، وَيَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهَا، وَأَعْطَاهُ لِأُمَّتِهِ أَلَّا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ -بِمَجَاعَةٍ شَامِلَةٍ، وَلَا بِجَدْبٍ شَامِلٍ، وَقَحْطٍ عَامٍّ-؛ وَلَكِنْ لَمْ يُعْطِهِ أَنْ يَكُونَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهَا يَقْتُلُ بَعْضًا، وَحَتَّى يَسْبِيَ بَعْضُهَا بَعْضًا)).

 وَهُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ، لَا تَتَمَكَّنُ أُمَّةٌ قَطُّ مِنْ سَوَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، أُمَّةٌ مَحْفُوظَةٌ، قَدْ تُقْتَصُّ كَمَا يَقْتَصُّ الْمَوْتُ طَرَفًا مِنْ هُنَا، وَطَرَفًا مِنْ هُنَالِكَ، وَقَلْبُ الْأُمَّةِ نَابِضٌ بِالتَّوْحِيدِ، حَيٌّ بِالِاتِّبَاعِ، فَإِذَا فَرَّطَتْ يَكُونُ مَاذَا؟! اللهُ الْمُسْتَعَانُ.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يُعَلِّمُ أَبْنَاءَهُ أَنْ يَكُونُوا مُتَّحِدِينَ مُتَمَاسِكِينَ مُتَرابِطِينَ، يَجْمَعُهُمُ الْأَذَانُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ، يَجْتَمِعُونَ مَعًا، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ كَمَا فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ، فَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا لِعُذْرٍ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي أَصْلِهَا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، فَأَمَرَهُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَهُمْ أَمْرًا آخَرَ؛ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَأَيْنَ يَرْكَعُ الرَّاكِعُونَ؟ فِي بُيُوتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى نُصُوصٍ مُتَكَاثِرَةٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا لِعُذْرٍ.

وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يَقِفُوا صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً؛ الْمَنْكِبُ فِي الْمَنْكِبِ، وَالْكَعْبُ فِي الْكَعْبِ، يَسْتَوُونَ كَالْقِدَاحِ كَالرُّمْحِ، يَصْطَفُّونَ كَمَا تَصْطَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ صُفُوفًا صُفُوفًا، وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَدَعُوا بَيْنَهُمْ فُرَجًا لِلشَّيْطَانِ يَمُرُّ مِنْ بَيْنِهِمْ كَصِغَارِ الْخِرَافِ تَعْبَثُ بِهِمْ عَبَثَهَا، أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَلَاحَمُوا، أَنْ يَكُونُوا صَفًّا وَاحِدًا، وَبُنْيَانًا مُتَمَاسِكًا؛ لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ وَاحِدٌ، الَّذِينَ يُعْلِنُونَ أَنَّهُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَلَا يُطَاعُ بِحَقٍّ إِلَّا الرَّسُولُ ﷺ، وَكُلُّ طَاعَةٍ فَهِيَ لِطَاعَتِهِ تَبَعٌ.

الَّذِينَ يُعْلِنُونَ بِهَذَا مُسْتَهْدَفُونَ مِنْ قُوَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ، يَرْفَعُ لَهُمُ الرَّايَةَ إِبْلِيسُ -عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ-، يَؤُزُّهُمْ جَحَافِلَ جَحَافِلَ، وَكَتَائِبَ كَتَائِبَ؛ لِكَيْ تَحْمِلَ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ؛ وَلَكِنَّ الْمُوَحِّدِينَ يَحْمِيهِمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

الْجُمْهُورُ يَنْقَادُ كَمَا يَنْقَادُ الْقَطِيعُ!

وَلَكِنْ مَنْ يُخَطِّطُ لِلصِّدَامِ؟!

مَنْ يُخَطِّطُ لِلْفُرْقَةِ؟!

مَنْ يُخَطِّطُ لِلتَّبَاعُدِ؟!

مَنْ يُخَطِّطُ لِلْعَدَاءِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالشَّحْنَاءِ؟!

هَذَا الْإِعْلَامُ.

إِنَّ الْإِعْلَامَ صَنِيعَةُ يَهُودَ، وَلَوْ قَرَأْتَ (الْبُرُتُوكُولَ الثَّانِيَ عَشَرَ) لَعَلِمْتَ مَا أَقُولُ، عِنْدَمَا يُثِيرُ الْجَمَاهِيرَ، وَيُحَرِّكُهَا وَيُوَجِّهُهَا، وَلَا عَقْلَ لَهَا كَالْقَطِيعِ، فَإِذَا انْقَادَتْ وَرَاءَ نَاعِقٍ يَنْعَقُ بِخَيْرٍ فَذَلِكَ، وَإِذَا انْقَادَتْ وَرَاءَ نَاعِقٍ يَنْعَقُ بِشَرٍّ فَذَلِكَ، وَهِيَ تُوَجِّهُ تَوْجِيهَهَا.

((حَقِيقَةُ كُرَةِ الْقَدَمِ وَبَيَانُ الرِّيَاضَةِ الْحَقَّةِ))

تِلْكَ الْمُبَارَيَاتُ الَّتِي تَكُونُ لَهَا قِمَّةٌ سَامِقَةٌ يَطْمَحُ إِلَيْهَا الْجُمْهُورَ -جُمْهُورٌ فَارِغٌ بِطَبْعِهِ-!

الرِّيَاضَةُ الْحَقَّةُ مَا مَارَسْتَهُ أَنْتَ، وَانْتَفَعْتَ بِهِ أَنْتَ، لَا مَا تَعَصَّبْتَ لَهُ!

 وَمِنَ الْمُحْزِنِ أَنْ تَتَقَلَّصَ الْأَهْدَافُ الْكُبْرَى فِي حَيَاةٍ أُمَّةٍ حَتَّى تَنْحَصِرَ فِي قِرْبَةٍ قَدْ مُلِئَتْ هَوَاءً، وَأَنْ يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى إِحْبَاطٍ زَاعِقٍ، وَيَأْسٍ قَاتِلٍ، وَنَظْرَةٍ سَوْدَاءَ لِلْحَيَاةِ، كَأَنَّمَا صِرْنَا عَلَى حَافَةِ وَشَفَا الْحَيَاةِ لِمُجَرَّدِ أَنَّ أَمْرًا لَا تُحِبُّهُ جُمُوعُ الْجَمَاهِيرِ قَدْ وَقَعَ؛ وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا؟!!

الرِّيَاضَةُ الْحَقَّةُ مَا مَارَسْتَهُ أَنْتَ..

 وَلِذَلِكَ أَيْنَ مَبْدَؤُهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ.. عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً؟!!

وَأَيْنَ الرُّوحُ الرِّيَاضِيَّةُ الَّتِي تَؤْخَذُ بِهَا الْأُمُورُ كَمَا يَقُولُونَ؟!!

هَذَا كُلُّهُ دَلَّ عَلَى عُمْقِ الشَّرْخِ فِي النَّفْسِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَعْدَاءَ قَدْ وَصَلُوا إِلَى نَتَائِجَ مُبْهِرَةٍ، حُقَّ لَهُمْ أَنْ يَنْعَمُوا بِهَا، فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَخِ وَأَخِيهِ، وَزَرَعُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُحَرِّجُ؛ ((كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((السُّنَنِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي طَوَافِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَقُولُ: ((مَا أَطْيَبَكِ، وَمَا أَطْيَبَ رِيحَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ، ثُمَّ قَالَ: مَالُهُ، وَدَمُهُ، وَأَنْ تَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا)). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ بِشَوَاهِدِهِ.

((مَا أَطْيَبَكِ، وَمَا أَطْيَبَ رِيحَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ)).

لَوْ أَخَذَ عَبْدٌ مِعْوَلَهُ فَرَقِيَ الْكَعْبَةَ، فَنَقَضَهَا حَجَرًا حَجَرًا، فَهَدَمَ بُنْيَانَهَا؛ أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَدْمِ بُنْيَانِ مُسْلِمٍ بِقَتْلِهِ، هَذَا كَبِيرٌ.

((لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ -عَبْدٍ مُسْلِمٍ-؛ لَكَبَّهُمُ اللهُ فِي النَّارِ))؛ حُرْمَةُ الْمُسْلِمِ!

فَقَدْ أَفْلَحَ أَعْدَاؤُنَا فِي أَنْ يَجْعَلُونَا كَالْجُزُرِ الْمُنْعَزِلَةِ، كُلٌّ يُحِسُّ إِحْسَاسًا لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ، لَا يَجْمَعُنَا شَيْءٌ، وَلَا يُوَحِّدُنَا هَدَفٌ؛ حَتَّى تِلْكَ الْجَمَاهِيرُ الْغَافِيَةُ اللَّاهِيَةُ مِنَ الشُّبَّانِ وَالشَّابَّاتِ لَمْ تَعُدْ حَتَّى تَنْتَمِي لِلْأَرْضِ الْمُسْلِمَةِ، لِلْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا يَنْتَمُونَ لِلْأَرْضِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ لِلْعِرْضِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، وَحَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لَكَانَ مِنْكُمْ مَنْ يَفْعَلُهَا)).

تَقْلِيدُ الْقُرُودِ، وَالتَّقْلِيدُ يُفْسِدُ الْعَقَائِدَ، يُفْسِدُ الدِّيَانَةَ، يُدَمِّرُ الْقِيَمَ، يَجْعَلُ الْمَرْءَ مَمْسُوخًا مُشَوَّهًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَأَشْبَاهِ الْقُرُودِ، كَأَشْبَاهِ الْخَنَازِيرِ!

إِذَا مَا صَارَ إِلَى التَّقْلِيدِ الْمَحْضِ فَارَقَ الدِّيَانَةَ، وَتَنَكَّرَ لِلتَّوْحِيدِ، وَصَارَ حَرْبًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَصَارَ أُلْعُوبَةً فِي يَدِ أَعْدَاءِ وَطَنِهِ، يُسَخِّرُونَهُ مِنْ أَجْلِ ضُرِّهِ، وَإِنْزَالِ الْمَسَاءَةِ بِهِ، وَلَا يُبَالِي مِنْ أَجْلِ لَذَّةٍ حَاصِلَةٍ وَلُقْمَةٍ قَاصِرَةٍ.

التَّقْلِيدُ يَمْسَخُ الْعَقِيدَةَ، يُؤَثِّرُ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ، فَمَرُّوا بِسِدْرَةٍ -بِشَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ-، فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سُبْحَانَ اللهِ، اللهُ أَكْبَرُ! قُلْتُمْ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)).

الْبِيئَةُ مُهِمَّةٌ جِدًّا فِي تَرْبِيَةِ الْمُسْلِمِ تَرْبِيَةً صَحِيحَةً، وَمَثَلٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ: ((إِذَا أَخَذْتَ جَزَرَةً فَشَقَقْتَهَا بِنِصْفَيْنِ، فَجَعَلْتَ أَحَدَ الشِّقَّيْنِ فِي مَاءٍ مُذَابٍ فِيهِ السُّكَّرُ؛ صَارَتْ تِلْكَ مُرَبَّى الْجَزَرِ، وَإِذَا أَخَذْتَ الشِّقَّ الثَّانِيَ فَجَعَلْتَهُ فِي مَاءٍ قَدْ أَذَبْتَ فِيهِ مِلْحًا؛ صَارَ طُرْشِيًّا)).

الْبِيئَةُ تَفْعَلُ هَذَا وَأَكْثَرَ مِنْهُ.

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، تَمَسَّكُوا بِدِينِ رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّهُ عِرْضُكُمْ، وَشَرَفُكُمْ، وَلَحْمُكُمْ، وَدِمَاكُمْ، حَيَاتُكُمُ الَّتِي يُعْلِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الدِّينِ إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّمَسُّكِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَي بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ أُسْبُوعٍ تَجْتَمِعُ الْأَحْيَاءُ بَلِ الْبَلْدَةُ كُلُّهَا إِنِ اتَّسَعَ مَسْجِدُهَا الْجَامِعُ لِأَهْلِهَا؛ لِتُصَلِّيَ كُلُّهَا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، لَا أَنْ تُصَلَّى الْجُمَعُ فِي مَسَاجِدِ الْأَحْيَاءِ، هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بَلْ تُغْلَقُ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ -صَلَاةِ الْجُمُعَةِ- فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَيَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا عَلَى تَبَاعُدِ الْمَسَافَاتِ بَيْنَهُمْ.. يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا وَرَاءَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَسْمَعُونَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَيُصَلُّونَ صَلَاةً وَاحِدَةً، يَرْكَعُونَ مَعًا، وَيَسْجُدُونَ مَعًا، وَيُمَرِّغُونَ أُنُوفَهُمْ فِي التُّرَابِ جَمِيعَا؛ ذِلَّةً لِرَبِّهِمْ وَتَوَاضُعًا.

((خَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ وَبَيَانُ الْوَسَطِيَّةِ الْحَقَّةِ))

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((خَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ الْغَالِي، وَيَلْحِقُ بِهِمُ الْجَافِي)).

وَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي حِكْمَتِهِمُ الْخَالِدَةِ: ((حُبُّ التَّنَاهِي شَطَطٌ)).

وَمَعْنَاهَا: حُبُّ التَّنَاهِي، أَيْ: طَلَبُ الْوُصُولِ إِلَى أَقْصَى النِّهَايَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالسَّعْيُ وَرَاءَ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ.

وَالشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالْإِفْرَاطُ، وَالْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ.

أَيْ: أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ سَعَى لِبُلُوغِ غَايَةِ الْغَايَاتِ دُونَ حُدُودٍ أَوْ قُيُودٍ؛ خَرَجَ مِنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ إِلَى الْإِفْرَاطِ، وَمِنْهُ إِلَى الْهَلَاكِ.

فَحُبُّ التَّنَاهِي شَطَطٌ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ، وَالْكَمَالُ للهِ وَحْدَهُ.

وَكُلُّ مَنْ طَلَبَ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ فِي الْجَمَالِ، أَوِ الْمَالِ، أَوِ الْعِلْمِ، أَوِ الْعِبَادَةِ؛ وَقَعَ فِي الْإِفْرَاطِ وَالْخَلَلِ، فَالْوَسَطِيَّةُ رُوحُ الْإِسْلَامِ، وَالْغُلُوُّ وَالتَّشَدُّدُ مُصَادَرَةٌ لِخَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.

الْوَسَطِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شِعَارٍ، بَلْ هِيَ أُسْلُوبُ حَيَاةٍ، وَسُلُوكٌ نُمَارِسُهُ فِي كُلِّ جَوَانِبِ حَيَاتِنَا، تُوَازُنُ الْأُمُورِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتُؤَسِّسُ الْوَسَطِيَّةُ لِشَتَّى أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ عَلَى أُسُسٍ رَشِيدَةٍ.

وَالْوَسَطِيَّةُ ضَرُورِيَّةٌ تُجَابِهُ الْغُلُوَّ وَالتَّطَرُّفَ بِمَا يَنْطَوِيَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَخْطَارٍ وَاعْتِدَاءٍ لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ فَحَسْبُ، بَلْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى رُوحِ الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ.

وَتَطْبِيقُ مَفْهُومِ الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ مُهِمٌّ جِدًّا، وَلَا بُدَّ مِنْ فَهْمِهَا فَهْمًا سَلِيمًا؛ لِأَنَّنَا نَسْمَعُ مَنْ يَقُولُ: مَنْهَجُ الْوَسَطِيَّةِ، وَلَفْظُ (الْوَسَطِيَّةِ) كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ دُونِ ضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنْ مَرْجِعَ الْوَسَطِ دَائِمًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ؛ فَمَنْ يُحَدِّدُ الطَّرَفَيْنِ؟

مَنْ يَصِفُ الْمَنْهَجَ الْوَسَطَ؟

مَنْ يَقُولُ إِنَّ هَذَا وَسَطٌ، وَإِنَّ خِلَافَهُ لَيْسَ بِوَسَطٍ؟

الْجَوَابُ: لَا بُدَّ مِنْ قَوَاعِدَ تَحْكُمُ ذَلِكَ؛ حَتَّى لَا يَجُرَّنَا هَذَا الْمَنْهَجُ إِلَى نَبْذِ مُسَلَّمَاتٍ مِنَ الدِّينِ أَوِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ؛ طَلَبًا لِوَصِيَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ.

فَالْوَسَطِيَّةُ وَالِاعْتِدَالُ مَطْلُوبَانِ شَرْعًا وَفْقَ ضَوَابِطِهِمَا الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّرْعُ، وَالَّتِي يُقِرُّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ.

الْإِسْلَامُ عَقِيدَةٌ وَشَرِيعَةٌ؛ فَعَقِيدَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَسَطِيَّةِ كَمَا نَصَّ أَهْلُ الْعَقَائِدِ، وَشَرِيعَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْوَسَطِيَّةِ -أَيْضًا- وَالِاعْتِدَالِ كَمَا نَصَّ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْقَوَاعِدِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْأُصُولِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُمَّةً وَسَطًا} كَمَا فَسَّرَهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً عَدْلًا خِيَارًا بِمَا تَتَوَسَّطُونَ فِيهِ بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي؛ فَهُنَاكَ غُلُوٌّ وَجَفَاءٌ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، هُنَاكَ غُلُوٌّ وَجَفَاءٌ فِي الْفِرَقِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، هُنَاكَ غُلُوٌّ وَجَفَاءٌ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَائِعِ الَّتِي سَبَقَتْنَا فِي الْجَمَاعَاتِ وَالتَّحَزُّبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى هَذَا الْمَبْدَأِ: قَوْلُ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29].

وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)) أَيْ: غَلَبَهُ الدِّينُ.

((وَالنَّبِيُّ ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي ((بَعْضِ السُّنَنِ)) وَفِي غَيْرِهَا -وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ- مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى)).

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ -أَيْضًا- كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)): ((أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ)).

وَلَمَّا أَرْسَلَ صَاحِبَيْهِ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُمَا: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ الدَّعْوَةِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ.

أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللهِ أَوْسَاطُهَا..

فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةَ وَهَذَا الِاعْتِدَالَ مَطْلُوبٌ، وَأَنَّ دَلَائِلَ الشَّرْعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْحَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ؛ لِكَيْ تَبْقَى وَتَسْتَمِرَّ، وَأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْغُلَاةِ، وَلَا بَقَاءَ لِلْجُفَاةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَبْقَى النَّاصِحُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَبْقَى الْمُخْلِصُ وَالْعَالِمُ وَالْمُعَلِّمُ لَهَا، وَالَّذِي يُؤَثِّرُ فِيهِمْ هُوَ مَنْ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَسُلُوكُ الْخُلَفَاءِ وَأَقْوَالُهُمْ، وَأَعْمَالُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمُصَنَّفَاتُهُمْ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُوَحِّدَ صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَجْمَعَ كَلِمَتَهُمْ، وَأَنْ يَرْفَعَ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ بَيْنِهِمْ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: التَّطَرُّفُ لَيْسَ فِي التَّدَيُّنِ فَقَطْ!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ
  الدعاء لولي الأمر
  التَّكَافُلُ الْمُجْتَمَعِيُّ وَاجِبُ الْوَقْتِ
  بيان للمصريين عامة وللدعاة خاصة
  الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ
  الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  مصر وخيانة الأمانة
  صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  رِقَابَةُ السِّرِّ وَرِعَايَةُ الضَّمِيرِ
  السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان