((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا!))
فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَقُدِّمَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ جُمَّارٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ -وَالْجُمَّارُ: قَلْبُ النَّخْلَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-، فَأَقْبَلَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ -فِي رِوَايَةٍ: مَثَلُهَا مَثَلُ المُؤْمِنِ-؛ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟)).
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرُ -وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ- قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: ((فَوَقَعَ الْقَوْمُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي)).
قَالَ عَبْدُ اللهِ: ((وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ)).
ثُمَّ قَالُوا: ((حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)).
قَالَ: ((هِيَ النَّخْلَةُ)).
أَخَذُوا يَقُولُونَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ كَذَا وَكَذَا؛ كَالْأَثْلِ، كَالطُّرَفَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَشْجَارِ، فَلَمَّا بَلَغَ بِهِمُ الْمَدَى مُنْتَهَاهُ قَالُوا: ((حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ؟)).
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((هِيَ النَّخْلَةُ)).
فِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)).
لَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَعَ أَبِيهِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ مَعَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ؛ قَالَ: يَا أَبَتِ.. يَا أَبَتَاهُ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ؛ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ.
قَالَ: وَلِمَ لَمْ تَقُلْ؟! لِمَ لَمْ تُجِبْ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟!
قَالَ: يَا أَبَتِ -عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِيهِ- قَالَ: يَا أَبَتِ! نَظَرْتُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ فَاسْتَحْيَيْتُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ؛ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشْرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ)).
نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكُلُّهُمْ أَسَنُّ مِنِّي -أَيْ: أَكْبَرُ مِنِّي عُمْرًا-، قَالَ: فَاسْتَحْيَيْتُ.
اسْتَحْيَا أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ بِالَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِهِ -وَكَانَ صَوَابًا-، وَالْقَوْمُ يَقَعُونَ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَالرَّسُولُ ﷺ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِمُ الْمَدَى مُنْتَهَاهُ أَجَابَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ.
* الْمُسْلِمُ مَثَلُهُ مَثَلُ النَّخْلَةِ:
إِذَنِ؛ الشَّجَرَةُ الَّتِي مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ هِيَ النَّخْلَةُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي جَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّخْلَةِ لَهُ خَلْفِيَّتُهُ الَّتِي تَظْهَرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.
* ضَرْبُ النَّبِيِّ ﷺ الْأَمْثِلَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ:
بِدَايَةً؛ النَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ التَّوْضِيحِيَّةَ، وَيَأْخُذُ بِالْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَرِّبَ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ إِلَى أَذْهَانِ السَّامِعِينَ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مَا يَأْخُذُ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ التَّوْضِيحِيَّةَ؛ لِكَيْ يُقَرِّبَ الْمَعَانِيَ إِلَى أَذْهَانِ السَّامِعِينَ الْمُتَلَقِّينَ لِلْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الصَّحِيحِ.
فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَتَفَلَ فِي رَاحَةِ يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ وَضَعَ السَّبَّابَةَ -وَلَا سَبَّابَةَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ السَّبَّاحَةُ سَبَّابَةً لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَبَّ أَخَاهُ أَشَارَ إِلَيْهِ بِهَا، يَقُولُ: أَنْتَ وَأَنْتَ، وَفِيكَ وَفِيكَ، فَيُشِيرُ بِهَا، فَسُمِّيَتْ سَبَّابَةً، وَلَيْسَتْ بِسَبَّابَةٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هِيَ السَّبَّاحَةُ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يُشِيرُ بِهَا مُجَرَّدَةً إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ فَيُشِيرُ بِيَدِهِ جَمِيعِهَا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى جِهَةٍ.. إِلَى مَكَانٍ.. أَشَارَ بِيَدِهِ جَمِيعِهَا ﷺ، وَيَدَّخِرُ السَّبَّاحَةَ لِلتَّوْحِيدِ، يُشِيرُ بِهَا فِي خُطَبِهِ دَاعِيًا؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ لِلْخَطِيبِ فِي حَالِ دُعَائِهِ لَا يَكُونُ كَحَالِ السَّامِعِينَ الْمُؤَمِّنِينَ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ أَوْ إِلَى الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الْخَطِيبُ أُصْبُعَهُ السَّبَّاحَةَ إِلَى السَّمَاءِ مُشِيرًا إِلَيْهَا دَاعِيًا، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُشِيرُ بِهَا لِلتَّوْحِيدِ، وَحَالَ الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ-.
((بَزَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي كَفِّهِ، ثُمَّ وَضَعَ أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ وَقَالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَّى تُعْجِزُنِي ابْنَ آدَمَ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ!)).
يُقَرِّبُ ذَلِكَ الْمَنِيَّ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ مِنْهُ الْمَرْءُ حِينَمَا يَصْحُو مِنَ النَّوْمِ فَيَجِدُهُ فِي ثِيَابِهِ، لِكَيْ يُظْهِرَ لِلْإِنْسَانِ بَدْءَ خَلْقِهِ، وَلِكَيْ يُظْهِرَ لِلْإِنْسَانِ حَقَارَةَ وَضْعِهِ، وَلِكَيْ يُبَيِّنَ لِلْمَرْءِ أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا -بَيْنَ النُّطْفَةِ الْمَذِرَةِ وَالْجِيفَةِ الْقَذِرَةِ- يَحْمِلُ الْعَذِرَةَ))؛ يَحْمِلُ الْغَائِطَ، مِرْحَاضٌ مُتَحَرِّكٌ، الْإِنْسَانُ مَهْمَا كَانَ، وَمَهْمَا كَانَتْ حَيْثِيَّتُهُ، وَمَهْمَا تَرَبَّعَ عَلَى تُخُوتِ سَلَاطِينِ الْأَحْكَامِ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ فِي الْمُنْتَهَى لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ بَدْءًا وَمُنْتَهًى، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالنُّطْفَةِ الْمَذِرَةِ إِلَى الْجِيفَةِ الْقَذِرَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا يَحْمِلُ الْعَذِرَةَ.
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ بِالْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَيُبَيِّنُ بِالْأَمْثِلَةِ التَّوْضِيحِيَّةِ الْمَعَانِيَ الْمُطْلَقَةَ؛ لِكَيْ يُقَرِّبَهَا إِلَى أَذْهَانِ الْمُتَلَقِّينَ.
* أَوْجُهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّخْلَةِ:
فِي هَذَا الَّذِي ضَرَبَهُ الرَّسُولُ ﷺ مَثَلًا مَثَلٌ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ: كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا، ولَا، ولَا، ولَا)). هَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ.
فَلَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا إِلَّا الَّتِي نَفَاهَا أَوَّلًا، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ: كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا، ولَا، ولَا، ولَا)). هَكَذَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ -كَمَا يَقُولُ الْبَلَاغِيُّونَ-.
النَّبِيُّ ﷺ ضَرَبَ النَّخْلَةَ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِ لِلْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْتَهِي فَائِدَتُهَا؛ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهَا، بَعْدَ اجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا تَظَلُّ فَائِدَتُهَا قَائِمَةً، وَمَا مِنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا وَلَهُ فَائِدَةٌ.
- فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ النَّخْلَةَ ثَابِتَةً فِي الْأَصْلِ، فِي الْأَرْضِ ثَابِتَةَ الْأَصْلِ، وَكَذَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِي إِيمَانِهِ، هُوَ ثَابِتُ الْإِيمَانِ.
- ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ النَّخْلَةَ قَلْبُهَا جُمَّارٌ يُؤْكَلُ.
- وَجُذُوعُهَا تُسْقَفُ بِهَا الْأَسْطُحُ، وَتُجْعَلُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- ظُلًّا.
- ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ النَّخْلَةَ لِيفُهَا لِلْحِبَالِ.
- وَخُوصُهَا مَعْلُومٌ فَائِدَتُهُ وَجَرِيدُهَا.
- بَلْ حَتَّى إِنَّ أَقْحَافَهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا.
- وَعَرَاجِينُهَا يَسْتَفِيدُ مِنْهَا النَّاسُ -أَيْضًا-.
- وَأَمَّا ثَمَرُهَا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، يُسْتَفَادُ مِنْ ثَمَرِهَا فِي جَمِيعِ حَالَاتِ تَطَوُّرِهِ بُسْرًا وَرُطَبًا وَتَمْرًا فِي بِدَايَةِ النُّضْجِ، وَفِي مُنْتَهَاهُ، وَبَعْدَ الْمُنْتَهَى حِينَمَا يَجِفُّ فَيَصِيرُ تَمْرًا، فَهَذَا ثَمَرُهَا.
- وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذِهِ النَّخْلَةَ يَقْذِفُهَا النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ فَتَقْذِفُهُمْ بِالثِّمَارِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ.
وَإِذَنْ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ ضَرَبَ الْمَثَلَ -مَثَلَ الْمُسْلِمِ- هَكَذَا بِهَذَا الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ الْخَلْقُ كَافَّةً.
- وَالَّذِي بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمَ نَافِعٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَمِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ؛ حَتَّى بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ، الْمُسْلِمُ فِيهِ نَفْعٌ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ: ((مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ قَعَدَ حَتَّى يُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مِثْلُ قَرَارِيطِنَا هَذِهِ؟)).
قَالَ: ((لَا، بَلْ مِثْلُ أُحُدٍ، أَوْ: أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ)).
مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ، فَإِذَا مَا شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى تُغَيَّبَ فِي قَبْرِهَا، وَتُوَارَى فِي لَحْدِهَا؛ فَلَهُ قِيرَاطَانِ -قِيرَاطَانِ مِنَ الْأَجْرِ-، الْقِيرَاطُ كَمَثَلِ جَبَلِ أُحُدٍ أَجْرًا.
فَالْمُسْلِمُ نَافِعٌ لِإِخْوَانِهِ حَتَّى وَهُوَ مَيِّتٌ.
* حَيَاءُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَأَدَبُهُ مَعَ الْكِبَارِ:
وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا انْصَرَفَ مَعَهُ وَلَدُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ لَهُ: ((وَاللَّهِ! لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ)).
فَقَالَ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ؟)).
قَالَ: ((لَمْ أرَكُمْ تَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا)).
قَالَ عُمَرُ: ((لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)).
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((نَظَرْتُ فَوَجَدْتُنِي عَاشِرَ عَشْرَةٍ أَنَا أَصْغَرُهُمْ سِنًّا، كُلُّهُمْ أَسَنُّ مِنِّي، فَاسْتَحْيَيْتُ)).
فَأَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يَقْبَلْ حَيَاءً يَمْنَعُ عَنْ خَيْرٍ، وَكُلُّ حَيَاءٍ أَقْعَدَ الْمَرْءَ عَنِ الْخَيْرِ فَلَيْسَ بِحَيَاءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، الْحَيَاءُ مَا حَجَزَ الْإِنْسَانَ عَنِ التَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ حَقِّ ذِي الْحَقِّ، هَذَا هُوَ الْحَيَاءُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ خُلُقُ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)). هَكَذَا عَلَى الْإِبْهَامِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))؛ وَهِيَ أَنْفَسُ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَأَغْلَاهَا وَأَعْظَمُهَا ثَمَنًا.
قَالَ: ((لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)).
يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: لِأَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَوْ كَانَ أَجَابَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّوَابِ؛ لَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ دَعَا لَهُ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَلَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَضَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُ، وَكُلُّ هَذَا حَاصِلٌ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْنَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُوهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
* الْمُسْلِمُ خَيْرٌ كُلُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا:
إِذَنِ؛ الْمُسْلِمُ -عِبَادَ اللهِ- خَيْرٌ كُلُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا..
الْمُسْلِمُ لَا يَنْطَوِي عَلَى الشَّرِّ كَمَا أَنَّ النَّخْلَةَ لَا تَنْطَوِي عَلَى شَرٍّ قَطُّ، فِي جَمِيعِ حَالَاتِهَا فِيهَا نَفْعٌ وَفِيهَا خَيْرٌ؛ حَتَّى بَعْدَ أَنْ تُجْتَثَّ مِنْ أَصْلِهَا وَأَنْ تَذْهَبَ حَيَاتُهَا هِيَ -أَيْضًا- نَافِعَةٌ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، يَسْتَفِيدُ مِنْهَا النَّاسُ، وَيَتَحَصَّلُونَ مِنْهَا عَلَى الْمَنَافِعِ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي -يَقْصِدُ أَيَّ أَخٍ لَهُ ﷺ مِنْ أَصْحَابِهِ- وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاعْتِكَافٌ هُوَ اعْتِكَافُ الرَّسُولِ ﷺ-، يَقُولُ: لَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا)).
فَقَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ.. هُوَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ يَتَعَدَّى أَثَرُهُ مِنْ فَاعِلِهِ إِلَى غَيْرِهِ، الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي هَاهُنَا بِحَاجَةٍ غَيْرِ مُسَمَّاةٍ وَلَا مُتَعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِحَاجَةٍ مُطْلَقَةٍ: ((لَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي)) فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَضْطَرِبُ بِنَا الْمَسَالِكُ وَالْمَوَارِدُ، ((لَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ))، وَلَعَلَّ الْحَاجَةَ تَكُونُ مَقْضِيَّةً بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ فِيهَا لِمَكَانِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْخَلْقِ، يَقُولُ: ((لَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ- شَهْرًا)).
وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ صَلَاةٌ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الْأَرْضِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ فَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ، فَلَوْ بَقِيتَ شَهْرًا مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ تُصَلِّي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَعَبِّدًا، كَافًّا شَرَّكَ وَأَذَاكَ عَنِ الْخَلْقِ؛ إِذْ أَنْتَ مُقِيمٌ فِي بُقْعَةٍ مُقَدَّسَةٍ، وَفِي حَرَمٍ آمِنٍ مُطَهَّرٍ، فَلَا يَتَعَدَّى مِنْكَ إِلَى غَيْرِكَ إِلَّا الْخَيْرُ، وَيُقْصَرُ شَرُّكَ عَلَيْكَ فَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى غَيْرِكَ شَيْءٌ؛ لَا إِلَى إِنْسَانٍ، وَلَا حَيَوَانٍ، وَلَا نَبَاتٍ؛ بَلْ وَلَا إِلَى جَمَادٍ، وَإِنَّمَا تَظَلُّ قَارًّا طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَابِدًا مُتَعَبِّدًا شَهْرًا كَامِلًا؛ لَأَنْ تَمْضِيَ فِي حَاجَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ اعْتِكَافِ نَفْسِهِ -مِنَ اعْتِكَافِ الرَّسُولِ ﷺ- فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا كَامِلًا.
* الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَذَاهُ:
إِذَنِ؛ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ نَفْعٌ كُلُّهُ، الْمُسْلِمُ نَفْعٌ كُلُّهُ، نَافِعٌ لِإِخْوَانِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَا يَنْطَوِي عَلَى الشَّرِّ، وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحِقْدِ، وَلَا يَعْرِفُ الْحَسَدَ، وَلَا يُحِيطُ بِنَفْسِهِ غِلٌّ، وَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَصِلَ مِنْهُ إِلَى أَخِيهِ أَذًى، وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُقَرَّرٌ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّرُورَةِ، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ)): يُعَرِّفُ الْمُسْلِمَ؛ مَنْ هُوَ الْمُسْلِمُ؟
كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فَقَالَ: مَنِ الْمُسْلِمُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
وَلَكِنْ هَاهُنَا (ال) هَذِهِ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: هَلْ هِيَ لِلْعَهْدِ -الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ-، يَعْنِي: الْمُسْلِمُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا إِلَّا إِذَا أَتَى فِيهِ مَا سَيَتَأَتَّى مِنَ الْوَصْفِ؛ بِحَيْثُ إِذَا مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا يَتَأَتَّى بَعْدُ مِنَ الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا؟
أَمْ أَنَّ (ال) هَاهُنَا لِلْكَمَالِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْمُسْلِمَ الْكَامِلَ هُوَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ؟
الصَّوَابُ الرَّاجِحُ: أَنَّهَا لِلْكَمَالِ؛ فَالْمُسْلِمُ الْكَامِلُ فِي إِسْلَامِهِ، الرَّاسِخُ فِي دِينِهِ هُوَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرِ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمُسْلِمِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ، هِيَ غَيْرُ مُتَحَيِّزَةٍ لِلرِّجَالِ، لَيْسَتْ لُغَةً ذُكُورِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ لُغَةٌ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحْتَوَاهَا وَمَبْنَاهَا مُتَّسِعًا لِأَعْظَمِ كَلَامٍ -لِكَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-؛ وَلِذَلِكَ يَتَأَتَّى التَّغْلِيبُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَقْبَلَ عَلَيْنَا أَلْفُ امْرَأَةٍ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَحَضَرُوا الْمَجْلِسَ لَا نَقُولُ: حَضَرْنَ الْمَجْلِسَ، وَإِنَّمَا لِأَجْلِ هَذَا الْوَاحِدِ فِي أَلْفِ امْرَأَةٍ؛ بَلْ فِي مِلْءِ الْأَرْضِ مِنَ النِّسَاءِ نَقُولُ: حَضَرَ.. حَضَرَ الْقَوْمُ، مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلرِّجَالِ.
وَمَا أَدْري وَلَسْتُ أَخَالُ أَدْرِي = أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
فَجَعَلَ الْقَوْمَ فِي مُقَابِلِ النِّسَاءِ، فَعُلِمَ لُغَةً أَنَّهَا لِلرِّجَالِ.
الْمُهِمُّ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَذْكُرِ الْمُسْلِمَةَ اكْتِفَاءً بِالْمُسْلِمِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، فَالْمُسْلِمُ وَالْمُسْلِمَةُ -أَيْضًا- مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَمِنْ لِسَانِهَا وَيَدِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ بَيَّنَهُ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَهَذَا الْحَدِيثُ سُئِلَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَنِ امْرَأَةٍ تَصُومُ شَهْرَهَا، وَتُصَلِّي خَمْسَهَا، وَتَتَصَدَّقُ بِأَثْوَارٍ مِنَ الْأَقِطِ -وَالْأَقِطُ: هُوَ اللَّبَنُ الْمُجَفَّفُ بَعْدَ نَزْعِ الدَّسَمِ مِنْهُ، وَالْأَثْوَارُ: جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْجُبْنِ-، فَهَذِهِ امْرَأَةٌ تَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ يَسِيرَةٍ قَدْ أُحْصِيَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ-، وَأَيْضًا هِيَ تُصَلِّي خَمْسَهَا، وَتَصُومُ شَهْرَهَا؛ وَلَكِنَّهَا لَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)).
فَقِيلَ لَهُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَفُلَانَةُ تَصُومُ، وَتَتَصَدَّقُ -تَتَصَدَّقُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْمَحْذُوفِ-، وَتَتَصَدَّقُ -يَعْنِي: بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ- تَصُومُ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَصَّدَّقُ؛ وَلَكِنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
قَالَ: ((هِيَ فِي النَّارِ)) ﷺ.
((الْمُسْلِمُ مِنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
وَالرَّسُولُ ﷺ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ -أَيْضًا- لِمَنْ هُوَ مُعَامَلٌ؛ وَإِلَّا فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَ الْمُسْلِمِينَ لَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ؛ اكْتَفَى الرَّسُولُ ﷺ بِذِكْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
هَلْ مَا اكْتَفَى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ يَفْتَحُ الْمَجَالَ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِلَ الْأَذَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الْيَدِ وَاللِّسَانِ؟
حَاشَا وَكَلَّا، وَلَكِنْ لِأَنَّ اللِّسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْذِيَ الْأَمْوَاتَ وَالْأَحْيَاءَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْذِيَ الْأَفْرَادَ وَالْجَمَاعَاتِ، بَلْ وَيُؤْذِي الشُّعُوبَ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ فِي جُمْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْبَشَرِ؛ بَلْ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَالْيَدُ هِيَ غَالِبُ مَا يَقَعُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ اعْتِدَاءٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبِيلِهَا وَعَنْ طَرِيقِهَا.
وَلِذَلِكَ اكْتَفَى الرَّسُولُ ﷺ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَلَا يَحْسَبَنَّ إِنْسَانٌ أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ إِنْسَانًا بِقَدَمِهِ -مَثَلًا- فَرَكَلَهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ فِي صَدْرِهِ أَنَّهُ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالْوَعِيدِ فِي مَفْهُومِهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَتَى بِالْمَنْطُوقِ فَقَالَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ))، كَمَا تَسْمَعُ قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))، هَذَا هُوَ مَنْطُوقُ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَفْهُومُهُ الَّذِي هُوَ بَاطِنُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ كَامِلٍ مَنْ لَمْ يَسْلَمِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
((حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ وَإِعْمَالُ الْعَقْلِ وَتَنْمِيَةُ الْفِكْرِ))
وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ -الَّذِي مَرَّ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ يُحَفِّزُ الْعُقُولَ عِنْدَمَا يَسُوقُ الْمَسْأَلَةَ مَسَاقَ السُّؤَالِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعْمِلَ الْمُسْلِمُ عَقْلَهُ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَغْفُلُ عَنْهُ الْخَلْقُ كَافَّةً -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْمِلَ عَقْلَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَلَّا يُهْمِلَ مَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ نِعْمَةِ الْعَقْلِ الَّذِي مَيَّزَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ.
الرَّسُولُ ﷺ يَسْأَلُ مَنْ حَضَرَ فَيَقُولُ: ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً))، مَعَ قَرِينَةٍ حَاضِرَةٍ، وَهِيَ الْجُمَّارُ الَّذِي قُدِّمَ إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ ﷺ.
وَعَلَيْهِ؛ فَعَلَى الْمُلْغِزِ الَّذِي يَسُوقُ الْعِلْمَ عَلَى هَيْئَةِ الْأَلْغَازِ.. عَلَى الْمُلْغِزِ إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يُلْغِزَ بِسُؤَالٍ أَلَّا يَشُقَّ عَلَى الْمُلْغَزِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُقَرِّبَ إِلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الشَّجَرَةِ -وَهِيَ النَّخْلَةُ- كَانَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرَادَ مِنَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يُعْمِلُوا عُقُولَهُمْ؛ حَتَّى إِذَا مَا وَقَعُوا عَلَى الْجَوَابِ أَوْ قَارَبُوهُ كَانَ الْأَمْرُ مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ، وَمُشَاهَدٌ فِي السَّلِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَتَحَرَّاهُ الْإِنْسَانُ وَالَّذِي يَكِدُّ الْإِنْسَانُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِي نَفْسِهِ عَصِيًّا عَلَى النِّسْيَانِ.
وَهَذَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُوحِي إِلَيْهِ مَا يَشَاءُ، وَقْتَمَا يَشَاءُ، كَيْفَمَا يَشَاءُ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ، وَعَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يُرِيدُ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ مَا أَوْحَى؛ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَهِيَ مَطْرُوحَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْأُمَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهَا الْأُسْوَةَ وَالْقُدْوَةَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُونَ فِي تَعْلِيمِهِمْ آخِذِينَ بِالْوَسِيلَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي التَّعْلِيمِ؛ حَتَّى تَصِلَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُتَلَقِّينَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ.
((أَهَمِّيَّةُ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
إِنَّ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَسَلَامَةَ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ هُمَا أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَصِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ؛ عَلَيْهِمَا يَقُومُ، وَعَلَيْهِمَا يَرْتَكِزُ.
وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ يُنَجِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْ سَبِيلِ الضَّالِّينَ، وَأَمَّا بِسَلَامَةِ الْقَصْدِ فَيُنَجِّيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ وَسَلَامَةِ الْقَصْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَسْأَلَهُ بِأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، نَطْلُبُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ.
صِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدِهِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ، وَثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.
وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ، وَمِنَّةٌ وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبِهَا تَفَاوَتَتْ سُبُلُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ؛ فَعُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدٍ.
وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، وَهِيَ مِنَّةٌ مَمْنُونَةٌ وَنِعْمَةٌ مُنْعَمٌ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يُنْعِمَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ عُمَرَ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يُقَرِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ مَجْلِسَهُ الْخَاصَّ -مَجْلِسَ مَشُورَتِهِ مَعَ الْأَشْيَاخِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ-، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: هَذَا مِثْلُ أَبْنَائِنَا! فَكَيْفَ يَدْخُلُ مَعَنَا، وَيَجْلِسُ فِي مِثْلِ مَجْلِسِنَا؟!!
وَعَلِمَ ذَلِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا: احْضُرْ مَجْلِسَنَا.
قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ.
فَلَمَّا اسْتَتَمَّ الْمَجْلِسُ وَفِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَقْبَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَشْيَاخِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟
فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَمِنْ سَاكِتٍ لَا يَنْبِسُ بِبِنْتِ شَفَةٍ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟
قَالَ: قُلْتُ: هُوَ نَعْيُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ إِعْلَامٌ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، أَخْبَرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ وَأَعَزَّهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى دُنُوِّ أَجَلِهِ وَاقْتِرَابِ نِهَايَةِ عُمُرِهِ.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمْتَ)).
لَا أَعْلَمُ مِنْهَا سِوَى مَا عَلِمْتَ.. لَا عِلْمَ لِي بِشَيْءٍ فَوْقَ الَّذِي قُلْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَمِنْ أَيْنَ أَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِهَذَا الْفَهْمِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا بَاطِنَةٍ عَلَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْفَهْمِ فِي قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1-3].
لَيْسَ فِي الْآيَاتِ فِي ظَاهِرِهَا مَا يَدُلُّ دَلَالَةً خَاصَّةً عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ فَهْمِهِ بِالنُّورِ الَّذِي قَذَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ مِنْ صِحَّةِ الْفَهْمِ وَجَوْدَتِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْمَمْنُونَةِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ.
وَصَدَّقَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.. مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَلْ إِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي الْآيَاتِ فَوْقَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَيْئًا.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ الْآخَرُونَ -وَهُمْ أَطْوَلُ مُلَازَمَةٍ لِلنَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ- فَلَمْ يَقْذِفْ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا قَذَفَ فِي قَلْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا- تِجَاهَ مَا سَأَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ تَأْوِيلٍ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشَرَّفَاتِ فِي سُورَةِ النَّصْرِ.
صِحَّةُ الْفَهْمِ.. وَهَذَا الْفَهْمُ لَهُ أَدَوَاتٌ بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
فَذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفُؤَادَ، وَالْقُرْآنُ جَارٍ عَلَى ذِكْرِ الْفُؤَادِ وَالْقَلْبِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمَعُ الْإِدْرَاكِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنَاطُ الْفَهْمِ والْمَعْرِفَةِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَنْ رَسُولِهِ ﷺ.
فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَسْتَوُونَ؛ عَالِمَهُمْ وَجَاهِلَهُمْ، وَكَاتِبَهُمْ وَقَارِئَهُمْ، وَأُمِّيَّهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا الْمَبَالِغَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّثَبُّتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَمَنْ كَانَ بَالِغًا الْمَدَارِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَضِدِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مَخْرَجًا وَاحِدًا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} جَمِيعًا.
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا مَيَّزَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ وَوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَطَرَائِقِ الْمَعْرِفَةِ؛ فَقَالَ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُكَلِّفَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّكْرَ يَرْتَكِزُ عَلَى أُمُورٍ بِأَرْكَانٍ إِذَا مَا أَتَى بِهَا الْمَرْءُ عُدَّ شَاكِرًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا جَمِيعِهَا عُدَّ جَاحِدًا، وَإِلَّا فَنَقْصٌ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ.
فَأَمَّا مَدَارُ أَرْكَانِ الشُّكْرِ فَهِيَ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ:
أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا.
وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا.
ثُمَّ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحُيُودِ عَنْ شُكْرِ رَبِّنَا الْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمٍ مُتَوَالِيَاتٍ لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا عَدَّ، وَلَكِنْ لَا تُصَرَّفُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ؛ فَلَا يَصِيرُ الشُّكْرُ -حِينَئِذٍ- إِلَّا جُحُودًا وَنُكْرَانًا وَاتِّهَامًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَحَالًا بِأَنَّهُ مَا أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَانَ.
لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعْتَرِفًا بِهَا بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَهَا فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ وَأَسْدَاهَا إِلَيْهِ.
فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَلَهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِهَا بِالنُّطْقِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يُصَرِّفِ النِّعْمَةَ فِي شُكْرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِيهِ فَهُوَ جَاحِدٌ نَاكِرٌ غَيْرُ شَاكِرٍ.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَأَنْتُمْ لَمْ تَشْكُرُوا إِلَّا مَنِ اعْتَرَفْتُمْ بِوُجُودِهِ بَدْءًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْكُمْ ثَانِيًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِأُلُوهِيَّتِهِ لَكُمْ بِتَصْرِيفِ عِبَادَتِكُمْ لَهُ وَقَصْرِهَا عَلَيْهِ ثَالِثًا، ثُمَّ إِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ مُسْتَحْوِذًا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا.
وَإِذَنْ؛ فَهَذَا تَوْحِيدٌ خَالِصٌ يَجْعَلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْفَذَّةِ الْمُفْرَدَةِ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وَشُكْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى (السَّمْعِ) بِأَنْ يَعْتَرِفَ الْمَرْءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا ظَاهِرًا بِالنُّطْقِ لِسَانًا، ثُمَّ أَنْ يُصَرِّفَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ قَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَرْعِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ (الْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ).
إِنَّ الْوَعْيَ بِالْمَخَاطِرِ يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي كَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الْإِنْسَانَ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ: انْظُرُوا بِقُلُوبِكُمْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَذَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ: مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ؛ فَإِذَا نَظَرْتُمْ هَذَا النَّظَرَ التَّدَبُّرِيَّ تَحَقَّقْتُمْ مِنْ صِدْقِ رَسُولِكُمْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنْ رَبِّكُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36].
لَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَدَيِّهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَسْمَعُوا سَمَاعًا وَاعِيًا وَاصِلًا إِلَى مَدَارِكِهِمْ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْجَاهِلُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ؟!! أَفَقَدْتُمْ مَا وَهَبْنَاكُمْ مِنْ عَقْلٍ فَلَا تَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ؟!!
وَحَثَّ اللهُ عَلَى الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11-12].
وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ -الَّذِينَ عَاقَبَهُمُ اللهُ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ- قَوْمُ نُوحٍ؛ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ حِينَ طَغَى الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَعَلَا عَلَى مَوَاضِعِهَا الرَّفِيعَةِ.
وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمَوْجُودِينَ بِعْدَهُمْ أَنْ حَمَلَهُمْ {فِي الْجَارِيَةِ} -وَهِيَ السَّفِينَةُ- فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمُ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ.
فَاحْمَدُوا اللَّهَ، وَاشْكُرُوا الَّذِي نَجَّاكُمْ حِينَ أَهْلَكَ الطَّاغِينَ، وَاعْتَبِرُوا بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِنَجْعَلَهَا}؛ أَيِ: الْجَارِيَةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُهَا، {لَكُمْ تَذْكِرَةً} تُذَكِّرُكُمْ أَوَّلَ سَفِينَةٍ صُنِعَتْ، وَمَا قِصَّتُهَا، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ، فَإِنَّ جِنْسَ الشَّيْءِ مُذَكِّرٌ بِأَصْلِهِ.
{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}؛ أَيْ: يَعْقِلُهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَيَعْرِفُونَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَوَجْهَ الْآيَةِ بِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ وَأَهْلِ الْبَلَادَةِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمُ انْتِفَاعٌ بِآيَاتِ اللَّهِ لِعَدَمِ وَعْيِهِمْ عَنِ اللَّهِ، وَلِعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ.
وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَالْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، قَالَ ﷺ: ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى الْحِفْظِ السَّلِيمِ وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْكَلَامِ بنَصِّهِ، ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).
وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى صَاحِبِ الْفَهْمِ الضَّعِيفِ.
وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ, وَأَنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ قَدْ يَسْتَنْبِطُ مِمَّا سَمِعَ مَا لَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الرَّاوِي الَّذِي نَقَلَ الْكَلَامَ.
هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
إِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ أَطْيَبِ الْخِصَالِ.
وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ:
مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ بِإِجْمَالٍ.. الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فِي لِسَانِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ يَشْمَلُ الْفَهْمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ، لَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ، وَالْعِبَادَةَ، وَالْمُعَامَلَةَ، وَيَشْمَلُ الْأَخْلَاقَ وَالسُّلُوكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
رَتَّبَ النَّبِيُّ ﷺ الْخَيْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، وَعِظَمِ شَأْنِهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا». هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«إِذَا فَقِهُوا»: إِذَا صَارُوا فُقَهَاءَ.
فَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمَةٌ، وَدَرَجَتُهُ فِي الثَّوَابِ كَبِيرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَفَقَّهَ فِي أُمُورِ دِينِهِ، وَعَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ وَوَاجِبَاتٍ، إِذَا تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَرَفَ ذَلِكَ؛ عَبَدَ رَبَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَيُوَفَّقُ لِلْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
((عَاقِبَةُ إِهْمَالِ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ))
فِي مُقَابِلِ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ يَسْتَخْدِمُ أَدَوَاتِ الْوَعْيِ وَالْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ؛ يُخْبِرُنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَّنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِيمَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَخْدَمَ فِيهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
وَأَعْيُنٌ لَا تَرَى.. {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، فَفَارِقٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْإِبْصَارِ.
أَمَّا النَّظَرُ فَمُطْلَقٌ يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ نَاظِرٍ مِنْ شَاخِصٍ إِلَى شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا عَنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدْرِكٍ لِحَقِيقَتِهِ.
النَّظَرُ شَيْءٌ وَالْإِبْصَارُ شَيْءٌ آخَرُ بِنَصِّ الْآيَةِ الْمُكَرَّمَةِ، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ..} شَاخِصِينَ بِأَبْصَارِهِمْ مُهْطِعِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ، {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}، سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَفُؤَادٌ.. هَذِهِ أَدَوَاتُ الْفَهْمِ وَأَدَوَاتُ الْإِدْرَاكِ وَأَدَوَاتُ الْمَعْرِفَةِ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ وَالَّذِينَ لَا يُصَرِّفُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ، فَيَقُولُ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا}؛ أَيْ: خَلَقْنَا وَأَنْشَأْنَا.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}؛ فَذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ.. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ كَلَّفَهُ وَقَبِلَ تَحْمُّلَ الْأَمَانَةِ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ).. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِدْرَاكَ وَالْفَهْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِأَدَوَاتِهِ، ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ مِنْ عَقْلٍ يُدْرِكُ وَقَلْبٍ يَعِي، وَمِنْ بَصَرٍ يُبْصِرُ لَا يَنْظُرُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فَيُبْصِرُ، وَمِنْ أُذُنٍ تَسْمَعُ فَتَعِي، وَلَا تَسْمَعُ ثُمَّ لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ.
بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَلَا يُعَدُّ الْمَرْءُ شَاكِرًا رَبَّهُ عَلَيْهَا.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ.
يَقُولُ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}.. أَنْشَأْنَا وَخَلَقْنَا وَكَوَّنَّا لِجَهَنَّمَ {كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}.
هَلْ خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّارِ بَدْءًا مِنْ غَيْرِ مَا إِعْطَاءِ إِدْرَاكٍ بِفَهْمٍ وَوَعْيٍ وَاخْتِيَارٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْتَارُوا بَعْدَمَا بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَطَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، وَطَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَطَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ لَعُدَّ ظُلْمًا -وَحَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}، مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَدَوَاتِ الْإِدْرَاكِ وَوَسَائِلَ الْفَهْمِ لَا يَسْتَخْدِمُونَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمُوهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُونَ دُخُولَ النَّارِ، فَكَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ بِسَابِقِ عِلْمِهِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ صِفَةُ انْكِشَافٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.
فَهَذَا الْغُلَامُ غُلَامُ الْخَضِرِ وَغُلَامُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ((الصَّحِيحِ)) ؛ إِذْ قَلَعَ رَأْسَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ صَنِيعِ الْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا.
هُوَ مَا زَالَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بَعْدُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا مَا كَبُرَ.. وَإِذَا مَا وَصَلَ إِلَى الْحُلُمِ.. وَإِذَا مَا شَبَّ فَاسْتَوَى عَلَى سَاقَيْهِ سَيَكُونُ ضَالًّا يُرْهِقُ أَبَوَيْهِ عُدْوَانًا وَكُفْرَانًا وَإِثْمًا وَظُلْمًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْدِلَهُمَا خَيْرًا مِنْهُ إِيمَانًا وَأَقْرَبَ إِلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ رَحِمًا وَقُرْبَةً وَقُرْبًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذَا الْغُلَامِ أَلَّا تَسْتَمِرَّ بِهِ حَيَاةٌ، فَأَمَرَ الْخَضِرَ بِأَنْ يَقْلَعَ رَأْسَهُ كَمَا أَخْبَرَ الرُّسُولُ ﷺ.
هَذَا عِلْمُ مَا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَحْدُثْ فِي وَاقِعِ النَّاسِ وَفِي دُنْيَا اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.
فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا}؛ قُلُوبٌ نَابِضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْقِطَعِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ اللَّحْمِيَّةِ تَدُقُّ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ مَا تَدُقُّ مُنْذُ الْمَرْحَلَةِ الْجَنِينِيَّةِ إِلَى حِينِ السُّكُوتِ بِهُمُودِ الْوَفَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدُ تُرَابًا، وَفِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَجَاوَزَتْ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ لَا تَجِدُ هَذَا الْقَلْبَ النَّابِضَ الْحَيَّ الْمُتَحَرِّكَ يَذْكُرُ شَيْئًا وَلَا يَعِي أَمْرًا، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَفَكِّرًا.
{وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} سَمَاعًا، لَيْسُوا بِأَصَمِّينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ؛ وَلَكِنَّهُ سَمَاعٌ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، لَا يَسْمَعُونَ بِهَا سَمَاعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، يَفْقَهُونَ بِهِ الرُّشْدَ، يَقْتَرِبُونَ بِهِ مِنْ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي خَلَقَهَا سَائِمَةً فِي أَرْضِهِ، سَارِحَةً فِي كَوْنِهِ؛ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَمِنَ الْغَرِيزَةِ مَا تَسْعَى بِهِ لِنَفْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُؤَدِّيَ الْوَظِيفَةَ الَّتِي نَاطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ أَعْنَاقَهَا، فَهِيَ مُؤَدِّيَةٌ لِلْوَظِيفَةِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى النَّحْوِ، وَآتِيَةٌ بِالْوَظِيفَةِ عَلَى الْوَجْهِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَهُمْ لِوَظِيفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَمَاذَا صَنَعُوا؟!
عَطَّلُوا وَسَائِلَ الْإِدْرَاكِ، وَنَفَوْا وَسَائِلَ الْفَهْمِ وَأَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ جَانِبًا؛ فَصَارُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَضَلَّ مِنْهَا، فَيَأْتِي الْبَيَانُ الدَّامِغُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} يُضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْوَصْفِ بِالتَّشْبِيهِ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ أَحَطُّ مِنْ دَرَكَةِ الْأَنْعَامِ.
{أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الَّذِينَ غَفَلُوا عَمَّا يُصْلِحُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ فَائِدَتُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ حَيَاتُهُمُ الْحَقِيقِيَّةُ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَنْهَجِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ، وَعَلَى مَنْهَجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
إِذَنْ؛ صِحَّةُ الْفَهْمِ، وَسَلَامَةُ الْمُعْتَقَدِ.. صِحَّةُ الْفَهْمِ، وَسَلَامَةُ الْإِدْرَاكِ هُمَا الرَّكِيزَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا يَقُومُ سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَإِذَا مَا أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِحَّةِ الْفَهْمِ عَلَى عَبْدِهِ؛ فَقَدِ اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدُومُ حَسَرَاتُهُمْ، وَيُعْلِنُونَ نَدَمَهُمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10-11].
وَقَالُوا -يَعْنِي الَّذِينَ كَفَرُوا- مُعْتَرِفِينَ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ فَنَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ طُرُقَ الْهُدَى، وَهِيَ السَّمْعُ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْعَقْلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَيُوقِفُهُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ كُلِّ مَا عَاقِبَتُهُ ذَمِيمَةٌ، فَلَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ.
وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ وَأَرْبَابِ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُمْ أَيَّدُوا إِيمَانَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَسَمِعُوا مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَجَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا، وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَالْحَسَنِ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ، وَهُمْ -فِي الْإِيمَانِ- بِحَسَبِ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخَيْرِ.
قَالَ -تَعَالَى- عَنْ هَؤُلَاءِ الدَّاخِلِينَ لِلنَّارِ، الْمُعْتَرِفِينَ بِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ أَيْ: بُعْدًا لَهُمْ وَخَسَارَةً وَشَقَاءً، فَمَا أَشْقَاهُمْ وَأَرْدَاهُمْ، حَيْثُ فَاتَهُمْ ثَوَابُ اللَّهِ، وَكَانُوا مُلَازِمِينَ لِلسَّعِيرِ الَّتِي تَسْتَعِرُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ!!
((خُطُورَةُ تَغْيِيبِ وَعْيِ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ))
إِنَّ أَعْدَاءَنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُضَيِّقُونَ عَلَيْنَا الْحَلْقَةَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي مَحْقِنَا وَفِي قَتْلِنَا، وَفِي إِزَالَتِنَا، وَفِي مَحْوِ تَارِيخِنَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نُبَالِي!!
وَأَخْطَرُ مِنَ الْخَطَرِ أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي خَطَرٍ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُحِسًّا بِأَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَسَيَسْعَى حَتْمًا لِتَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي الْخَطَرِ، بَلْ فِي عَيْنِ الْخَطَرِ وَسَوَائِهِ.. أَلَّا يُحِسَّ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَهَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْخَطَرِ!
هَذِهِ مَرْحَلَةٌ فَاصِلَةٌ مِنْ تَارِيخِ هَذَا الْوَطَنِ، نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُمَرِّرَهَا عَلَيْنَا بِأَمْنٍ وَسَلَامٍ.
إِنَّ حَرْبَ أَعْدَاءِ الْأُمَّةِ بِتَغْيِيبِ وَعْيِ أَبْنَائِهَا قَدِيمٌ، وَذَلِكَ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ وَكَيْلِ الِاتِّهَامَاتِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].
وَعَجِبَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ بَشَرٌ مِنْهُمْ يُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ اللهِ بَعْدَ أَنْ بَلَّغَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ، وَأَقَامَ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ؛ وَقَالَ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الْمُعَانِدُونَ الْمُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمُ السَّاتِرُونَ لِأَدِلَّةِ الْحَقِّ وَبَرَاهِينِهِ الْوَاضِحَةِ؛ قَالُوا: هَذَا سَاحِرٌ مُمَوِّهٌ شَدِيدُ الْكَذِبِ؛ أَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْآلِهَةَ الْمُتَعَدِّدَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟!! إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ وَدَعَا إِلَيْهِ لَشَيْءٌ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّعَجُّبِ.
وَذَهَبَ رُؤَسَاءُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِمْ مُسْرِعِينَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْضُوا عَلَى طَرِيقَةِ آبَائِكُمْ، وَاثْبُتُوا صَابِرِينَ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمُ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا تَتَأَثَّرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ دَعْوَةً إِلَى التَّوْحِيدِ، وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ فَمَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ شَيْءٌ مُدَبَّرٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الرِّيَاسَةُ وَالْمُلْكُ.
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمِلَلِ! مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ إِلَّا كَذِبٌ وَافْتِعَالٌ.
وَكَذَلِكَ يُغَيِّبُونَ الْوَعْيَ بِعَدَمِ إِفْسَاحِ الْمَجَالِ لِمُجَرَّدِ سَمَاعِ كَلِمَةِ الْحَقِّ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ- حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
وَقَالَ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ فِي مَكَّةَ لِجَمَاهِيرِ قَوْمِهِمْ لَمَّا انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ حَوْلَ الْقُرْآنِ، وَرَأَوا تَأْثِيرَهُ الْعَجِيبَ عَلَى قُلُوبِ النَّاسِ؛ قَالُوا لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ؛ لِئَلَّا تَشْغَلُوا أَفْكَارَكُمْ بِدَلَالَاتِ آيَاتِهِ، وَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالصِّيَاحِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَا يَسْتَمِعُ لِتِلَاوِتَهَ أَحَدٌ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ بِتَشْوِيشِكُمْ بَيَانَاتِ الْقُرْآنِ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ.
لَجَأَ الْكَافِرُونَ فِي جِدَالِهِمْ إِلَى أُسْلُوبِ الْمُشَاغَبَةِ رَجَاءَ أَنْ يَغْلِبُوا الْحَقَّ؛ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ الْغَوْغَائِيُّ أَتْقَنَهُ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَأَحْزَابُ الْفِتْنَةِ وَالتَّخْرِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
وَاللُّجُوءُ إِلَى خُطَّةِ الْمُشَاغَبَةِ يُقَدِّمُ الدَّلِيلَ ضِدَّ الْمُشَاغِبِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ غَدَوْا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ مُنْهَزِمِينَ فِي مَعْرَكَةِ الْبَيَانِ وَالْقُرْآنِ، وَمُتَحَوِّلِينَ إِلَى مَعْرَكَةِ اللَّغَطِ وَالضَّجِيجِ وَالْغَوْغَائِيَّةِ.
((هَلْ أَنْتَ نَافِعٌ كَالنَّخْلَةِ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ؟!))
الدِّينُ -عِبَادَ اللهِ- لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَلَيْسَ ظَوَاهِرَ تُتَّخَذُ، الدِّينُ حَقِيقَةٌ فِي بِدَايَتِهِ، الدِّينُ اعْتِقَادٌ رَاسِخٌ فِي الْقَلْبِ يُلَوِّنُ الْحَيَاةَ كُلَّهَا مَا دَامَ اعْتِقَادًا رَاسِخًا فِي الْقَلْبِ يَمُرُّ مِنْ خِلَالِهِ تَرْشِيحًا، يَعْنِي: يَتَرَشَّحُ فِيهِ كَالْمِصْفَاةِ، هُوَ كَالْمِصْفَاةِ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْ خِلَالِهِ، فَاللِّسَانُ مِنْ وَرَاءِ الْقَلْبِ، مِنْ وَرَاءِ الْقَلْبِ بِاعْتِقَادِهِ، وَالْعَيْنُ مِنْ وَرَاءِ الْقَلْبِ بِاعْتِقَادِهِ، وَالسَّمْعُ مِنْ وَرَاءِ الْقَلْبِ بِاعْتِقَادِهِ، وَكَذَلِكَ الْفِكْرُ وَالتَّصَوُّرُ مِنْ وَرَاءِ الْقَلْبِ بِاعْتِقَادِهِ، هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ كَمَا بَيَّنَهَا لَنَا النَّبِيُّ ﷺ.
وَالْإِنْسَانُ يَقِيسُ نَفْسَهُ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ؛ هَلْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ؟!
إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَسْتَ بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا هَلْ أَنْتَ نَافِعٌ لِإِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِمُجْتَمَعِكَ الْمُسْلِمِ؟!
هَلْ أَنْتَ نَافِعٌ لِلْبَشَرِيَّةِ لِلْكَوْكَبِ الْأَرْضِيِّ؟!
هَلْ أَنْتَ نَافِعٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ؟!
هَلْ أَنْتَ نَافِعٌ لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ نَفْعًا يَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ كَتَعَدِّي نَفْعِ النَّخْلَةِ إِلَى النَّاسِ وَغَيْرِ النَّاسِ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!
إِنْ كَانَ ذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ الرَّسُولُ ﷺ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الظِّلَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَالْعُودُ أَعْوَجُ، لَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ، إِذَا كَانَ الْعُودُ مُعْوَجًّا.. إِذَا كَانَ الْعُودُ أَعْوَجًا لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ ظِلُّهُ عَلَى الْأَرْضِ مُسْتَقِيمًا، هَذِهِ بَدَهِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ نِقَاشًا، وَلَا تَحْتَمِلُ جِدَالًا؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ مَادِّيٌّ مُشَاهَدٌ مُحَسٌّ.
وَإِذَنْ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِلْإِنْسَانِ لِسَانٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا فِكْرٌ وَلَا تَصَوُّرٌ إِذَا كَانَ قَلْبُهُ قَدِ اعْوَجَّ، فَالْأَصْلُ فِي الْقَضِيَّةِ كُلِّهَا هُوَ الْقَلْبُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ)).
فَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ رَجُلٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ رَجُلٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِيَدِهِ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ رَجُلٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِجَوَارِحِهِ، بِفِكْرِهِ بِتَصَوُّرِهِ، بِظُنُونِهِ بِشُكُوكِهِ، مَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ رَجُلٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِدَخِيلَةِ نَفْسٍ خَبِيثَةٍ قَدِ انْطَوَتْ عَلَيْهَا جَوَارِحُهُ فَاعْلَمْ أَنَّ إِيمَانَهُ لَيْسَ بِذَلِكَ.
فَاللهم يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْمُثْلَى أَنْ تُطَهِّرَ قُلُوبَنَا، اللهم طَهِّرْ قُلُوبَنَا، اللهم طَهِّرْ قُلُوبَنَا، اللهم طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَنَقِّ أَرْوَاحَنَا، اللهم طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَنَقِّ أَرْوَاحَنَا، اللهم طَهِّرْ قُلُوبَنَا، وَنَقِّ أَرْوَاحَنَا، اللهم ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا، اللهم ثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا!