الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ

الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ غِذَاءُ الرُّوحِ))

فَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ خِلْقَةً مُتَفَرِّدَةً: قَبْضَةً مِنْ طِينٍ، وَنَفْخَةً مِنْ رُوحٍ.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلٍّ غِذَاءً، لَا يُغْنِي سِوَاهُ غِنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا يَقُوتُهُ مَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ غِذَاءً، وَيَشْفِيهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ شِفَاءً.

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْجَسَدِ غِذَاءً يَقُومُ بِهِ، وَبِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ؛ فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْجَسَدِ الثِّمَارَ، وَالْحُبُوبَ، وَاللُّحُومَ، فَلَا يُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غِذَاءً لِلْجَسَدِ التُّرَابُ، وَالْحَطَبُ، وَالْقَشُّ، وَمَا أَشْبَهَ.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ لِلرُّوحِ غِذَاءً لَا يَقُومُ سِوَاهُ مَقَامَهُ، وَلَا يُغْنِي غَيْرُهُ غَنَاءَهُ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَحْيَا الرُّوحُ وَإِلَّا مَاتَتْ.

وَكَمْ مِنْ حَيٍّ مَيِّتٌ فِي آنٍ!

وَكَمْ مِنْ حَيٍّ يَتَحَرَّكُ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَتْ لَهُ حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ فِي مِيزَانِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَأَمَّا غِذَاءُ الرُّوحِ فَكِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا دَارَ فِي الْفَلَكِ ذَلِكَ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْيًا عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ؛ مِنْ سُنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ وَمُقَيِّدَةٍ وَمُفَسِّرَةٍ لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((الْقُرْآنُ مُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ ))

اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- شَاءَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَشَرِ رُسُلًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ غَيْبٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَعْيُنُ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الظُّنُونُ.

وَلَوْ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- خَاطَبَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ مَا وَاسِطَةٍ؛ لَانْتَفَتْ حِكْمَةُ الْخَلْقِ مِنَ الْخَلْقِ.

وَلَكِنْ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ؛ لِيُقِيمُوا الْحُجَّةَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ؛ لِكَيْ تَسْقُطَ حُجَّةُ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْعَرْضِ.

أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى النَّاسِ رُسُلًا مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مَلَائِكَةً يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ مُطْمَئِنِّينَ لَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا؛ لِيَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَتَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَيَّدَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِبَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ رَسُولٍ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ صِدْقَهُ إِلَّا وَلَدَيْكَ جُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ تَقُومُ شَاهِدَةً قَائِمَةً عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ.

فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ الْمُرْسَلِينَ، وَآتَاهُمُ الْمُعْجِزَاتِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً؛ مِنْ تَأْيِيدٍ خَفِيٍّ، وَتَثْبِيتٍ غَيْرِ جَلِيٍّ؛ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ يُدْرِكُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُحِسُّهُ فِي ذَاتِهِ، وَيَتَحَرَّكُ بِهِ فِي دُنْيَا اللهِ.

لَمَّا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ أَيَّدَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا مِنْ رَسُولٍ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ صِدْقَهُ إِلَّا وَلَدَيْكَ جُمْلَةٌ وَافِرَةٌ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ الصَّادِقَةِ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَهُنَاكَ مَنْهَجٌ يُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلُّ رَسُولٍ بِرِسَالَتِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمُعْجِزَاتِهِ.

فَمَتَى مَا تَحَقَّقَتِ الدَّلَائِلُ وَثَبَتَتِ الشَّوَاهِدُ فَهُوَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُنْظَرُ فِي سِيرَتِهِ، وَيُنْظَرُ فِي رِسَالَتِهِ، وَيُنْظَرُ فِي آيَاتِهِ.

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ.. مَعَ كُلِّ رَسُولٍ آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ قَائِمَةً؛ لَوْ أَنَّ اللهَ  رَبَّ الْعَالَمِينَ خَاطَبَنَا كِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ لَقَامَتْ مَقَامَ قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِّي))

فَالْمُعْجِزَةُ: أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، يُجْرِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ مُدَّعٍ لِلنُّبُوَّةِ، وَيَتَحَدَّى بِهِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ  قَابِلٍ لِلنَّقْضِ؛ يَأْتِي بِمُعْجِزَةٍ تَخْرِقُ الْعَادَةَ، وَلَا  يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ عِنْدَ التَّحَدِّي بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَثِيلٍ لَهَا.

وَهُنَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ مِنْ جَانِبٍ، وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةَ مَهْمَا بَلَغَتْ فِي دِقَّةِ الصُّنْعِ، وَفِي جَوْدَةِ الْأَدَاءِ، وَفِي تَعْقِيدِ التِّقْنِيَةِ؛ مَهْمَا بَلَغَتْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَهِيَ مَصِيرُهَا إِلَى الْمُنْتَهَى الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ.

الْمُعْجِزَةُ لَا تَنْتَهِي إِلَى سَبَبٍ.

وَأَمَّا هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتُ الْحَدِيثَةُ فَمُنْتَهِيَةٌ إِلَى سَبَبٍ عَلَى حَسَبِ الْقَوَانِينِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَاعِلَةً فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَهِيَ -أَيْضًا- لَا يُتَحَدَّى بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَا يَهْدِي إِلَيْهِ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ الْيَوْمَ مُتَفَرِّدًا بِهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَلْحَقَهُ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ مِئَاتُ الْمِئَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الَّتِي نَوَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَنَبَاتِهَا، فَيَسْتَطِيعُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدُ أَنْ يَتَخَطَّوُا الْمَرْحَلَةَ الَّتِي أَتَى إِلَيْهَا مَا أَتَى مِنْ أُمُورِ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتِ.

وَتَلْحَظُ الْفَارِقَ ضَخْمًا وَقَائِمًا بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ يَأْتِي بِهَا نَبِيٌّ يَتَحَدَّى بِهَا الْقَوْمَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا، وَهَذَا الَّذِي يَتَأَتَّى فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أُمُورِ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتِ.

وَأَيْضًا تَسْتَطِيعُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ فِي نَاحِيَةٍ، وَالسِّحْرِ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ فِي غَالِبِيَّةِ الْأَمْرِ شَعْوَذَةٌ وَدَجَلٌ، وَضَحِكٌ عَلَى الذُّقُونِ -كَمَا يَقُولُونَ-.

ثُمَّ هُوَ فِيمَا يَتَأَتَّى مِنْهُ فِعْلًا مَصِيرُهُ إِلَى أُمُورٍ بِقَوَانِينَ يَسْتَطِيعُهَا الْبَشَرُ، وَيَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَحْذِقُوهَا مَتَى مَا تَمَلَّكُوا الْوَسِيلَةَ إِلَيْهَا.

وَإِذَنْ؛ فَلَيْسَتْ بِغَيْرِ ذَاتِ سَبَبٍ، وَإِنَّمَا لَهَا أَسْبَابُهَا، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ لَدَى الْعُقَلَاءِ أَجْمَعِينَ.

وَتَسْتَطِيعُ  -أَيْضًا- أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ فِي نَاحِيَةٍ، وَالْكَرَامَةِ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى:

الْكَرَامَةُ: أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، يُجْرِيهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ أَتْبَاعِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ فِي عَصْرِهِ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ.. فِي عَصْرِ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ ﷺ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَحَدَّى بِهَا وَهِيَ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا كَرَامَةٌ لِلنَّبِيِّ الَّذِي يَتَّبِعُهُ الصَّالِحُ الَّذِي أَجْرَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَرَامَةَ عَلَى يَدَيْهِ.

إِذَنْ؛ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَجْرَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَتْ نَاطِقَةً بِصِدْقِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صِفَةَ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَنْبَغِي وَيَجِبُ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيهِ صِفَاتٌ، هِيَ: الصِّدْقُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالتَّبْلِيغُ، وَالْفَطَانَةُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ؛ وَلَكِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ أَجْمَعِينَ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ كَانَتْ مُعْجِزَاتٍ حِسِّيَّةً ظَاهِرَةً أَمَامَ الْأَعْيُنِ، تُدْرِكُهَا الْحَوَاسُّ مُشَاهَدَةً، وَمُلَامَسَةً، وَحَيَاةً، وَحَرَكَةً.

فَلَمَّا جَاءَ خَيْرُ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ كَانَ وَالْقِيَامَةُ عَلَى مِيعَادٍ ﷺ: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ)) إِمَّا تَلَازُمًا، وَإِمَّا كَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ، وَالْفَرْقُ صَغِيرٌ.

((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ)).

فَبُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ خِتَامًا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَخَاتِمًا لِلْمُرْسَلِينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ رَسُولٌ أُرْسِلَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ لَدُنْ بَعْثَتِهِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ، وَإِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْبَشَرِيَّةُ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى حَدِّ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ، وَتَرَكَتْ طَوْرَ الْبَدَاءَةِ وَالطُّفُولَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَخَلَّفَتْهُ وَرَاءَ ظَهْرِهَا بِبَعْثَةِ نَبِيِّهَا وَسَيِّدِهَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لَمَّا أَنْ بَلَغَتِ الْبَشَرِيَّةُ حَدَّ الرُّشْدِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَةُ مُعْجِزَةً عَقْلِيَّةً مَعْنَوِيَّةً، نَاطِقَةً شَاهِدَةً فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِصِدْقِ الْمُرْسَلِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يُعْطِ مُحَمَّدًا ﷺ مِثْلَمَا آتَى الْأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ آتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا مِثْلَمَا آتَى الْأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ الشَّافِعِيُّ الْعَظِيمُ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُعْجِزَةٍ آتَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيًّا قَبْلَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا آتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا خَيْرًا مِنْهَا)).

قِيلَ لَهُ: ((فَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى لِعِيسَى؛ أَيْنَ ذَلِكَ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ؟)).

قَالَ: ((إِحْيَاءُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمَوَاتَ فِي الْخَشَبِ الْمَيِّتِ غَيْرِ النَّاطِقِ الْحَيِّ أَعْظَمُ مِنْ رَدِّ الْحَيَاةِ عَلَى مَنْ كَانَ حَيًّا)).

قِيلَ: ((وَكَيْفَ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: ((الْحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى نَخْلَةٍ.. إِلَى جِذْعٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا نَصْنَعُ لَكَ مِنْبَرًا تَقِفُ عَلَيْهِ خَطِيبًا إِذَا مَا أَرَدْتَ الْخَطَابَةَ فِي الْجُمُعَةِ، وَأَرَدْتَ الْبَيَانَ بِالْبَيَانِ فِي  الْمُلِمَّاتِ بَيَانًا لِأُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((دُونَكُمْ فَافْعَلُوا)).

فَصَنَعُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا أَوَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَتَرَكَ الْجِذْعَ الَّذِي كَانَ يَقُومُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ حَانِيًا عَلَيْهِ، يَأْوِي إِلَيْهِ الْجِذْعُ، وَلَا يَأْوِي إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ لَمَّا تَرَكَهُ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ حَنَّ الْجِذْعُ بُكَاءً وَأَنِينًا بِصَوْتٍ يُسْمَعُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ.

فَنَزَلَ الرَّسُولُ ﷺ، فَأَخَذَ يُرَبِّتُ عَلَى الْجِذْعِ الْمَيِّتِ، يُرَبِّتُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ، يُسَكِّنُهُ حَتَّى سَكَنَ، وَيُهَدِّئُهُ حَتَّى هَدَأَ.

فَلَمَّا أَنْ هَدَأَ وَانْقَطَعَ الصَّوْتُ قَالَ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ! وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ أَفْعَلْ لَظَلَّ يَحِنُّ إِلَيَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﷺ )).

لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ الدَّاخِلُ إِلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ يَسْمَعُ حَنِينَ الْجِذْعِ إِلَيْهِ ﷺ.

يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: ((فَرَدُّ الْحَيَاةِ عَلَى هَذَا الْمَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ إِحْيَاءِ مَنْ كَانَ حَيًّا)).

يَقُولُ لَهُ مَنْ يَقُولُ: ((وَإِذَنْ؛ فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي شَقَّتِ الْبَحْرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟))

قَالَ: ((مَا آتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ))

قَالُوا: ((وَمَا هُوَ؟)).

قَالَ: ((آيَةٌ سَمَاوِيَّةٌ؛ إِذِ انْشَقَّ الْقَمَرُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ )).

وَأَمَّا مَا أَتَى مِنْ هَذَا الَّذِي عُرِضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ ضَرْبِ الْحَجَرِ بِالْعَصَا، فَانْبَجَسَتْ مِنْهَا مَا انْبَجَسَتْ مِنْ عُيُونِ الْمَاءِ، وَانْفَجَرَ مِنْهَا مَا انْفَجَرَ مِنَ الْمَاءِ الْمَعِينِ الزُّلَالِ حَتَّى عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.

قَالَ: ((وَمَا فِي ذَلِكَ؟! إِنَّ الْمَاءَ قَدْ نَبَعَ مِنَ اللَّحْمِ الْحَيِّ، وَأَمَّا الْحَجَرُ فَمَظِنَّةٌ أَنْ يَنْبُعَ مِنْهُ الْمَاءُ فِي دُنْيَا اللهِ.

وَأَمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، مِنَ اللَّحْمِ الْحَيِّ؛ فَهَذَا مَا آثَرَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ.

((آتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّنَا ﷺ أَلْفًا وَمِئَتَيْنِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ))، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا رَوَاهُ إِمَامُنَا النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- )).

وَإِذَنْ؛ فَنَبِيُّنَا ﷺ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ، وَبَقِيَتْ آيَةٌ بَاهِرَةٌ عَظِيمَةٌ بَاقِيَةٌ، هِيَ أَعْظَمُ آيَاتِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا عَلَى مِثْلِه آمَنَ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ؛ فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

مَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيًّا إِلَّا وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُعْجِزَةً؛ لِكَيْ تَكُونَ حُجَّةً ظَاهِرَةً عَلَى قَوْمِهِ، فَتَنْقَطِعُ حُجَّةُ الْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ.

وَأَمَّا مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَقَدْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا قَائِمًا فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هُوَ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6].

فَهُوَ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَلَامُ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى قَدْرِ عَظَمَتِهِ، عَلَى قَدْرِ حِكْمَتِهِ، عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ صِفَاتُ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ صِفَةَ الْكَلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صِفَةُ ذَاتٍ وَصِفَةُ فِعْلٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا لَهُ حَالَانِ:

حَالُ نُطْقٍ وَكَلَامٍ بِالْقُوَّةِ.

وَحَالُ نُطْقٍ وَكَلَامٍ بِالْفِعْلِ.

فَأَنْتَ الْآنَ تَسْتَمِعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ؛ وَلَكِنَّكَ -عَافَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ- لَسْتَ أَبْكَمَ؛ فَلَدَيْكَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكَلَامِ مَعَ السُّكُوتِ، فَأَنْتَ مُتَكَلِّمٌ بِالْقُوَّةِ، تَمْلِكُ الْقُوَّةَ عَلَى الْكَلَامِ مَتَى مَا أَرَدْتَ؛ وَلَكِنَّكَ لَا تَتَكَلَّمُ الْآنَ.

فَإِذَا مَا تَكَلَّمْتَ كُنْتَ مُتَكَلِّمًا بِالْفِعْلِ.

لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صِفَةُ الْكَلَامِ: صِفَةُ ذَاتٍ وَصِفَةُ فِعْلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي إِطَارِ قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مُعْجِزَةً بَاقِيَةً يُحِسُّهَا الْمَرْءُ فِي ذَاتِهِ، وَيَجِدُها الْإِنْسَانُ بِفِطْرَتِهِ فِي يَقِينِهِ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

مُعْجِزَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ بَلْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَالَمِ جَمِيعِهِ يَتَأَمَّلُ فِيهَا، وَيَنْظُرُ فِي أَطْوَائِهَا، وَهِيَ بُرْهَانٌ قَائِمٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ﷺ.

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ الْجَمِيلِ كَلَامِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، عِنْدَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ؛ كَانَتِ الصَّدْمَةُ مُرِيعَةً فِي قَلْبِ مَنْ  فِي بَدْءِ الْأَمْرِ؟

فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ نَفْسِهِ ﷺ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْطِقًا، وَلِأَنَّ لَهُ بَيَانًا، وَلِأَنَّ لَهُ أُسْلُوبًا وَطَرِيقَةً فِي الْأَدَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مُقْتَضَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي كَانَ يَتَخَاطَبُ بِقَانُونِهِ ﷺ.

فَلَمَّا جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْغَارِ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِهِ الشَّرِيفِ مَا أَنْزَلَ مِنْ كَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَجَدَ كَلَامًا غَرِيبًا، وَوَجَدَ نَفْسَهُ يَنْطِقُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ هِيَ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ لَدَيْهِ هُوَ؛ حَتَّى خَشِيَ عَلَى عَقْلِهِ ﷺ.

فَكَانَ الْقُرْآنُ ظَاهِرَةً مُتَفَرِّدَةً حَتَّى فِي حَيَاةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَفَ بِإِزَائِهَا طَوِيلًا، وَنَزَلَ يَرْتَجِفُ مِنَ الْغَارِ يَطْلُبُ الدِّثَارَ ﷺ،  وَيَتَلَمَّسُ الْغِطَاءَ حَتَّى أَتَى التَّثْبِيتُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي مَنْطِقِ خَدِيجَةَ وَعَلَى لِسَانِهَا.

هُوَ نَفْسُهُ ﷺ يَجِدُ الْأُسْلُوبَ مُتَفَاوِتًا.

وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِلَ إِلَى مَا كَانَ يُحِسُّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ عِنْدَمَا قَرَعَ سَمْعَهُ وَآذَانَ قَلْبِهِ ﷺ بَيَانُ رَبِّنَا الْأَوَّلُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، تَسْتَطِيعُ أَنْ تُحِسَّ مَا كَانَ يُحِسُّ أَوْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِبًا لِلَّذِي كَانَ يُحِسُّ مُحَمَّدٌ ﷺ بِأَنْ تَأْتِيَ بِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فَتَجْعَلُهُ مَنْشُورًا بَيْنَ يَدَيْكَ، ثُمَّ تَأْتِي بِكِتَابِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فَتَجْعَلُهُ مَنْشُورًا بَيْنَ يَدَيْكَ، ثُمَّ تَنْظُرُ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، وَتَتَأَمَّلُ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، وَعَلَيْكَ بَعْدُ أَنْ تُحِسَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا مَا جَاءَ بِهِمَا وَاحِدٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُدْرِكًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أُسْلُوبَانِ فِي حَالَتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ.

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْمَرْءَ مَتَى مَا كَانَ عَجِيبًا مُتَمَكِّنًا، وَعَضِيلًا بَلِيغًا مُتَمَرِّسًا؛ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِأُسْلُوبَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ، بَلْ حَقُّهُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ؛ هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْلُوبٌ مُتَفَرِّدٌ إِذَا مَا نَظَرَ الْمُتَأَدِّبُونَ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ قَالُوا: هَذَا أُسْلُوبُ فُلَانٍ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيَانَانِ مُتَفَاوِتَانِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْلُوبَانِ مُتَغَايِرَانِ؛ فَهَذَا مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَبَدًا.

نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَمَتْهُ بِالْوَهْلَةِ الْأُولَى الظَّاهِرَةُ الْقُرْآنِيَّةُ، فَنَزَلَ مِنَ الْغَارِ وَالِهًا، وَأَتَى إِلَى خَدِيجَةَ رَاعِدًا مُرْتَعِدًا يَطْلُبُ الدِّثَارَ وَالْغِطَاءَ ﷺ، حَتَّى أَتَى التَّثْبِيتُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا هُوَ مَنْهَجُهُ فِي بَيَانِ رِسَالَتِهِ إِلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ رَسُولٍ أُرْسِلَ قَبْلَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا وَأُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً؛ خَلَا مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ عَامَّةً، كَمَا صَحَّ عَنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ﷺ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا هُوَ مَنْهَجُهُ وَمِنْهَاجُهُ إِلَى خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ.

وَلَكِنَّ هُنَاكَ فَارِقًا: الْأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ وَالْمُرْسَلُونَ السَّالِفُونَ - صَلَوَاتُ رَبِّي عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَامُهُ- لَمَّا آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا كَانَ مِنْهَاجَهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، وَتَأْتِي الْمُعْجِزَةُ مُغَايِرَةً لِلْمَنْهَجِ إِلَّا مُحَمَّدًا ﷺ؛ فَقَدْ أَتَى بِكِتَابٍ هُوَ عَيْنُ الْمُعْجِزَةِ، وَبِمُعْجِزَةٍ هِيَ عَيْنُ الْكِتَابِ، وَأَتَى بِمَنْهَجٍ هُوَ عَيْنُ الْإِعْجَازِ، وَبِإِعْجَازٍ هُوَ عَيْنُ الْمَنْهَجِ.

فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.

أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَالسُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُشَرَّفَةَ، وَحْيًا مُوحًى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ الْكَرِيمُ ﷺ نَزَلَ مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، تَنْزِلُ الْآيَاتُ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ، ثُمَّ يَجْعَلُهَا النَّبِيُّ ﷺ مُلْحَقَةً بِسُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَعْوَامٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَلَا تَجِدُ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَفَاوُتًا، وَإِنَّمَا كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَلَيْسَ بِكَلَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ وَإِلَّا فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ! لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لَمَّا جَاءَتْ حَادِثَةُ الْإِفْكِ؛ لِمَ انْتَظَرَ الْوَحْيُ مَتَلَبِّسًا خَمْسِينَ لَيْلَةً، لَا يَنْزِلُ بُرْهَانُ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالنَّبِيُّ ﷺ وَالصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ وَالصَّحَابَةُ الْمُكَرَّمُونَ يَتَقَلَّبُونَ فِي فُرُشِهِمْ عَلَى أَمْثَالِ الشَّوْكِ؛ بَلْ عَلَى أَمْثَالِ الْجَمْرِ الْمُتَّقِدِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا تَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتي، فَوَاللَّهِ! مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي)).

لِمَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ، لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ تَأْلِيفِهِ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِمَ لَمْ يَأْتِ بِبُرْهَانٍ شَاهِدٍ عَلَى صِدْقِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ بَدْءِ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ مَاسٌّ بِالْعِرْضِ.. بِالشَّرَفِ؟!! وَتَعْلَمُ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ فَضْلًا عِنْدَ الصَّالِحِينَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

((الْقُرْآنُ سَبِيلُ رِفْعَةِ الْمَرْءِ دُنْيَا وَآخِرَةً))

الْقُرْآنُ هُوَ كَلَامُ اللهِ  رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْزَلَهُ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْفَضَائِلَ الْبَاهِرَةَ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مُقَدِّمًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمُقَدِّمًا لِلنَّاسِ فِي الْقَبْرِ، وَمُقَدِّمًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّ النَّاسِ، وَمُقَدِّمًا لِلنَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَمُقَدِّمًا لِلنَّاسِ فِي عَالِي الْجَنَّاتِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا فِيمَا أَتَى مِنْ فِعْلِهِ ﷺ: ((لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَ شُهَدَاءَ أُحُدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ كَانَ يَجْعَلُ الرَّجُلَيْنِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يَسْأَلُ: ((أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ قُرْآنًا؟)).

فَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ؛ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ)).

فَالْقُرْآنُ يُقَدِّمُ فِي الْقَبْرِ عِنْدَمَا يَصِيرُ الْمَرْءُ جِيفَةً فِي قَبْرِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْقُرْآنَ يُقَدِّمُ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

وَأَمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ؛ فَدُونَكَ الْحَدِيثَ الْحَسَنَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، قَالَ: ((يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَكَ، وَأُظْمِئُ هَوَاجِرَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا تَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَيَقُولَانِ: يَا رَبِّ! أَنَّى لَنَا هَذَا؟

فَيُقَالُ لَهُمَا: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ)).

هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَدْفَعُ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، وَيَرْفَعُ الْإِنْسَانَ فِي الْجَنَّاتِ عَالِيًا عَلَى حَسَبِ حِفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا)).

إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ -عِبَادَ اللهِ- يَسْلُكُ الْعَبْدَ الْفَانِيَ الضَّعِيفَ، يَسْلُكُ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ مِنَ الصَّعَالِيكِ الْمَفَالِيكِ، بِلَا نَسَبٍ وَلَا مَالٍ وَلَا قَشَبٍ، وَلَا حِيَازَةٍ لِشَيْءٍ مِنَ الْعَقَارِ وَلَا مِنَ الْمَالِ، يَسْلُكُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْلُكُهُ؟

فِي الْأَهْلِينَ الَّذِينَ هُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ)).

قِيلَ: ((مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)).

الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ الَّذِي يُعْلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أَقْدَارَ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ.

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ آخَرِينَ؛ فَعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ أَنَّهُ لَقِيَ عُمَرَ بِـ(عُسْفَانَ)، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟)).

فَقَالَ: ((ابْنَ أَبْزَى)).

قَالَ: ((وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟)).

قَالَ: ((مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا)) يَعْنِي: كَأَنَّمَا هُوَ مِنْ خَدَمِنَا، كَانَ عَبْدًا لَنَا فَحَرَّرْنَاهُ، وَكَانَ قِنًّا مَمْلُوكًا فَأَطْلَقْنَا سَرَاحَهُ مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ مُقَيَّدًا.

إِذَنْ؛ فَهُوَ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ عَالِي الْمَنْزِلَةِ، وَغَيْرُ سَامِقِ الرِّفْعَةِ وَالْمَكَانَةِ.

قَالَ: ((فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟!)).

قَالَ: ((إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ)).

قَالَ عُمَرُ: ((أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)).

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

((الْقُرْآنُ سَبِيلُ حَيَاةِ الْقُلُوبِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 1-3].

فَقَدَّمَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ ذِكْرًا؛ فَكَأَنَّمَا يُومِئُ النَّصُّ إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ جِدًّا: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يُخْلَقُ وَلَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ لَيْسَ مَخْلُوقًا، بَلْ هُوَ عَدَمٌ، مَعْدُومُ مُطْلَقٌ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ {الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4].

فَأَتَى بِالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَالْمِنَّةِ الْكُبْرَى مُقَدَّمَةً عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْحَيَاةَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ كَلَامَهُ مُحْيِيًا لِلْمَوَاتِ مَوَاتِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا مَا سَمِعْتَ كَلَامَ اللهِ مُسْتَجِيبًا لِلَّهِ؛ أَتَتْكَ الْحَيَاةُ مِنْ بَعْدِ الْمَوَاتِ، مِنْ بَعْدِ الْعَدَمِ، وَإِذَا مَا سَمِعْتَ كَلَامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَتَتْكَ الْحَيَاةُ مِنْ بَعْدِ الْمَوَاتِ، مِنْ بَعْدِ الْعَدَمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا جَاءَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَتَى بِالرُّوحِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رُوحًا يُحْيِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمَوَاتَ، يَمَسُّ مَوَاتَ الْقُلُوبِ فَيُحْيِيهِ؛ فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ مُحْيِيًا لِعَدَمِ الْقُلُوبِ، مُزِيلًا لِمَوَاتِ الْقُلُوبِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ))

إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَکَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75-80].

((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالنُّجُومِ وَمَوَاقِعِهَا -أَيْ: مَسَاقِطِهَا فِي مَغَارِبِهَا-، وَمَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْحَوَادِثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَتَوْحِيدِهِ.

ثُمَّ عَظَّمَ هَذَا الْمُقْسَمَ بِهِ فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}: وَإِنَّمَا كَانَ الْقَسَمُ عَظِيمًا؛ لِأَنَّ فِي النُّجُومِ وَجَرَيَانِهَا وَسُقُوطِهَا عِنْدَ مَغَارِبِهَا آيَاتٍ وَعِبَرًا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا.

وَأَمَّا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ يَعْتَرِيهِ، وَأَنَّهُ {كَرِيمٌ} أَيْ: كَثِيرُ الْخَيْرِ، غَزِيرُ الْعِلْمِ؛ فَكُلُّ خَيْرٍ وَعِلْمٍ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ.

{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أَيْ: مَسْتُورٍ عَنْ أَعْيُنِ الْخَلْقِ، وَهَذَا الْكِتَابُ الْمَكْنُونُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، أَيْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، مُعَظَّمٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَلَائِكَتِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمَكْنُونِ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُنْزِلُهُمُ اللَّهُ لِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنَّهُ مَسْتُورٌ عَنِ الشَّيَاطِينِ، لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَلَا الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَاسْتِرَاقِهِ.

{لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أَيْ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ الَّذِينَ طَهَّرَهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الْآفَاتِ وَالذُّنُوبِ وَالْعُيُوبِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْخُبْثِ وَالشَّيَاطِينَ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمْ وَلَا يَدَانِ إِلَى مَسِّهِ؛ دَلَّتِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ.

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ هُوَ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي يُرَبِّي عِبَادَهُ بِنِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَجَلُّ تَرْبِيَةٍ رَبَّى بِهَا عِبَادَهُ: إِنْزَالُهُ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَرَحِمَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ رَحْمَةً لَا يَقْدِرُونَ لَهَا شُكُورًا، وَمِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِهِ، وَيُعْلِنُوهُ، وَيَدْعُوا إِلَيْهِ، وَيَصْدَعُوا بِهِ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].

(({لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أَيْ: لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ لَا بِسَرِقَةٍ، وَلَا بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِهِ، وَلَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ؛ فَهُوَ مَحْفُوظٌ فِي تَنْزِيلِهِ، مَحْفُوظَةٌ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ، قَدْ تَكَفَّلَ مَنْ أَنْزَلَهُ بِحِفْظِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَهُ، {حَمِيدٍ} عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَعَلَى مَا لَهُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِفْضَالِ؛ فَلِهَذَا كَانَ كِتَابُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَمَامِ الْحِكْمَةِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا)).

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ))

الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].

(({وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ} أَيْ: بَيَّنَّا فِيهِ جَمِيعَ الْمَطَالِبِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ {عَلَى عِلْمٍ} مِنَ اللَّهِ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ وَمَا لَا يَصْلُحُ، لَيْسَ تَفْصِيلُهُ تَفْصِيلَ غَيْرِ عَالِمٍ بِالْأُمُورِ، فَتَجْهَلُهُ بَعْضُ الْأَحْوَالِ فَيَحْكُمُ حُكْمًا غَيْرَ مُنَاسِبٍ، بَلْ تَفْصِيلُ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ.

{هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْهِدَايَةُ مِنَ الضَّلَالِ، وَبَيَانُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْغَيِّ وَالرُّشْدِ، وَيَحْصُلُ -أَيْضًا- لَهُمْ بِهِ الرَّحْمَةُ، وَهِيَ الْخَيْرُ وَالسَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُمْ بِذَلِكَ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].

((أَيْ: لَا يَزَالُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ لَكَ فِي تَعَنُّتٍ وَعِنَادٍ؛ وَلَوْ جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ لَمْ يَنْقَادُوا.

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ الَّتِي يُعَيِّنُونَهَا {قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} أَيْ: هَلَّا اخْتَرْتَ الْآيَةَ، فَصَارَتِ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ، أَوِ الْمُعْجِزَةَ الْفُلَانِيَّةَ؟!! كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْزِلُ لِلْآيَاتِ، الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا اخْتَرَعْتَهَا مِنْ نَفْسِكَ!!

{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}: فَأَنَا عَبْدٌ مُتَّبِعٌ مُدَبَّرٌ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْآيَاتِ وَيُرْسِلُهَا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ حَمْدُهُ، وَطَلَبَتْهُ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ آيَةً لَا تَضْمَحِلُّ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَوْقَاتِ، وَحُجَّةً لَا تَبْطُلُ فِي جَمِيعِ الْآنَاتِ؛ فَهَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} يُسْتَبْصَرُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ؛ فَمَنْ تَفَكَّرَ فِيهِ وَتَدَبَّرَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ؛ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ؛ وَإِلَّا فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ هُدًى لَهُ مِنَ الضَّلَالِ، وَرَحْمَةٌ لَهُ مِنَ الشَّقَاءِ، فَالْمُؤْمِنُ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ، مُتَّبِعٌ لَهُ، سَعِيدٌ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَإِنَّهُ ضَالٌّ شَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُرَغِّبًا لِلْخَلْقِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ الْحَسَنَةِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْعِبَادِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: تَعِظُكُمْ، وَتُنْذِرُكُمْ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِسُخْطِ اللَّهِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِعِقَابِهِ، وَتُحَذِّرُكُمْ عَنْهَا بِبَيَانِ آثَارِهَا وَمَفَاسِدِهَا.

{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}: وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ، شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ أَمْرَاضِ الشَّهَوَاتِ الصَّادَّةِ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلشَّرْعِ، وَأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ؛ فَإِنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِمَّا يُوجِبُ لِلْعَبْدِ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ.

وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ، وَالرَّهْبَةُ مِنَ الشَّرِّ، وَنَمَتَا عَلَى تَكَرُّرِ مَا يَرِدُ إِلَيْهَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ مُرَادِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ النَّفْسِ، وَصَارَ مَا يُرْضِي اللَّهَ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ شَهْوَةِ نَفْسِهِ.

وَكَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي صَرَّفَهَا اللَّهُ غَايَةَ التَّصْرِيفِ، وَبَيَّنَهَا أَحْسَنَ بَيَانٍ؛ مِمَّا يُزِيلُ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِي الْحَقِّ، وَيَصِلُ بِهِ الْقَلْبُ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْيَقِينِ.

وَإِذَا صَحَّ الْقَلْبُ مِنْ مَرَضِهِ، وَرَفَلَ بِأَثْوَابِ الْعَافِيَةِ؛ تَبِعَتْهُ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا؛ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ بِصَلَاحِهِ، وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ.

{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}: فَالْهُدَى هُوَ الْعِلْمُ بِالْحَقِّ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالرَّحْمَةُ هِيَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ؛ فَالْهُدَى أَجَلُّ الْوَسَائِلِ، وَالرَّحْمَةُ أَكْمَلُ الْمَقَاصِدِ وَالرَّغَائِبِ؛ وَلَكِنْ لَا يَهْتَدِي بِهِ وَلَا يَكُونُ رَحْمَةً إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا حَصَلَ الْهُدَى، وَحَلَّتِ الرَّحْمَةُ النَّاشِئَةُ عَنْهُ؛ حَصَلَتِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ، وَالرِّبْحُ وَالنَّجَاحُ، وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

((الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الشِّفَاءِ وَالرَّحْمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِآيَاتِهِ، الْعَامِلِينَ بِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُونَ بِعَدَمِ التَّصْدِيقِ بِهِ، أَوْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ؛ فَلَا تَزِيدُهُمْ آيَاتُهُ إِلَّا خَسَارًا؛ إِذْ بِهِ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ.

فَالشِّفَاءُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ عَامٌّ لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ مِنَ الشُّبَهِ وَالْجَهَالَةِ، وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالِانْحِرَافِ السَّيِّئِ، وَالْقُصُودِ السَّيِّئَةِ؛ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي تَزُولُ بِهِ كُلُّ شُبْهَةٍ وَجَهَالَةٍ، وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ كُلُّ شَهْوَةٍ تُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ، وَلِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ مِنْ آلَامِهَا وَأَسْقَامِهَا.

وَأَمَّا الرَّحْمَةُ؛ فَإِنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ الَّتِي يَحُثُّ عَلَيْهَا، مَتَى فَعَلَهَا الْعَبْدُ فَازَ بِالرَّحْمَةِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 2-3].

((يُشِيرُ -تَعَالَى- إِشَارَةً دَالَّةً عَلَى التَّعْظِيمِ إِلَى: {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أَيْ: آيَاتُهُ مُحْكَمَةٌ صَدَرَتْ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ بِأَجَلِّ الْأَلْفَاظِ، وَأَفْصَحِهَا وَأَبْيَنِهَا، الدَّالَّةِ عَلَى أَجَلِّ الْمَعَانِي وَأَحْسَنِهَا.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَالتَّحْرِيفِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ كُلِّهَا مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ، مُطَابِقٌ لَهَا الْوَاقِعُ، لَمْ يُخَالِفْهَا كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِخِلَافِهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَأْتِ وَلَنْ يَأْتِيَ عِلْمٌ مَحْسُوسٌ وَلَا مَعْقُولٌ صَحِيحٌ يُنَاقِضُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا مَا أَمَرَتْ بِشَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ خَالِصُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ رَاجِحُهَا، وَلَا نَهَتْ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ خَالِصُ الْمَفْسَدَةِ أَوْ رَاجِحُهَا، وَكَثِيرًا مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مَعَ ذِكْرِ حِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ مَعَ ذِكْرِ مَضَرَّتِهِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْظِ الْبَلِيغِ الَّذِي تَعْتَدِلُ بِهِ النُّفُوسُ الْخَيِّرَةُ، وَتَحْتَكِمُ، فَتَعْمَلُ بِالْحَزْمِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّكَ تَجِدُ آيَاتِهَا الْمُتَكَرِّرَةَ؛ كَالْقِصَصِ، وَالْأَحْكَامِ، وَنَحْوِهَا قَدِ اتَّفَقَتْ كُلُّهَا وَتَوَاطَأَتْ؛ فَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ.

فَكُلَّمَا ازْدَادَ بِهَا الْبَصِيرُ تَدَبُّرًا، وَأَعْمَلَ فِيهَا الْعَقْلَ تَفَكُّرًا؛ انْبَهَرَ عَقْلُهُ، وَذُهِلَ لُبُّهُ مِنَ التَّوَافُقِ وَالتَّوَاطُؤِ، وَجَزَمَ جَزْمًا لَا يُمْتَرَى فِيهِ أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

وَلَكِنْ مَعَ أَنَّهُ حَكِيمٌ يَدْعُو إِلَى كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ خُلُقٍ لَئِيمٍ؛ أَكْثَرُ النَّاسِ مَحْرُومُونَ الِاهْتِدَاءَ بِهِ، مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهِ؛ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- وَعَصَمَهُ، وَهُمُ الْمُحْسِنُونَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَالْمُحْسِنُونَ إِلَى الْخَلْقِ؛ فَإِنَّهُ هُدًى لَهُمْ، يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُمُ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ)).

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 3-6].

((هَذَا قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَأَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} أَيْ: كَثِيرَةِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ أَفْضَلَ الْكَلَامِ بِأَفْضَلِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ عَلَى أَفْضَلِ الْأَنَامِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الْكِرَامِ؛ لِيُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا عَمَّتْهُمُ الْجَهَالَةُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ، فَيَسْتَضِيئُوا بِنُورِهِ، وَيَقْتَبِسُوا مِنْ هُدَاهُ، وَيَسِيرُوا وَرَاءَهُ؛ فَيَحْصُلَ لَهُمُ الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ وَالْخَيْرُ الْأُخْرَوِيُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}.

{فِيهَا} أَيْ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أَيْ: يُفْصَلُ وَيُمَيَّزُ وَيُكْتَبُ كُلُّ أَمْرٍ قَدَرِيٍّ وَشَرْعِيٍّ حَكَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهَذِهِ الْكِتَابَةُ وَالْفُرْقَانُ الَّذِي يَكُونُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَحَدُ الْكِتَابَاتِ الَّتِي تُكْتَبُ وَتُمَيَّزُ، فَتُطَابِقُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ بِهِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ، وَآجَالَهُمْ، وَأَرْزَاقَهُمْ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ وَكَّلَ مَلَائِكَةً تَكْتُبُ مَا سَيَجْرِي عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ثُمَّ وَكَّلَهُمْ بَعْدَ وُجُودِهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَكَّلَ بِهِ كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَكْتُبُونَ وَيَحْفَظُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ -تَعَالَى- يُقَدِّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَمَامِ عِلْمِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَإِتْقَانِ حِفْظِهِ، وَاعْتِنَائِهِ -تَعَالَى- بِخَلْقِهِ.

{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: هَذَا الْأَمْرُ الْحَكِيمُ أَمْرٌ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِنَا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لِلرُّسُلِ، وَمُنْزِلِينَ لِلْكُتُبِ، وَالرُّسُلُ تُبَلِّغُ أَوَامِرَ الْمُرْسِلِ، وَتُخْبِرُ بِأَقْدَارِهِ؛ {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: إِنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي أَفْضَلُهَا الْقُرْآنُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِالْعِبَادِ؛ فَمَا رَحِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِرَحْمَةٍ أَجَلَّ مِنْ هِدَايَتِهِمْ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَنَالُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ.

{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيْ: يَسْمَعُ جَمِيعَ الْأَصْوَاتِ، وَيَعْلَمُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَقَدْ عَلِمَ -تَعَالَى- ضَرُورَةَ الْعِبَادِ إِلَى رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، فَرَحِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ؛ فَلَهُ -تَعَالَى- الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَالْإِحْسَانُ)).

((الرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا الْعُلَى))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ وَرَدَتْ مَادَّةُ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَي مَرَّةٍ؛ حَيْثُ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ ((فَإِنَّ اللهَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلًا؛ فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ، وَعَمَّ إِحْسَانُهُ الْبَرَايَا، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ.

وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].

فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)).

وَسَمَّى -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ ((((الرَّحْمَنَ))، وَهَذَا الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعُمُومِ إِحْسَانِهِ، وَجَزِيلِ بِرِّهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ)).

((وَ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-.

وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، فَـ((الرَّحْمَنُ)) لِلْوَصْفِ، وَ((الرَّحِيمُ)) لِلْفِعْلِ.

فَـ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ((الرَّحْمَنَ)): هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَ((الرَّحِيمَ)): هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ))؛ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، عَظِيمُهَا، بَلِيغُهَا وَوَاسِعُهَا.

وَرَحْمَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَأَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ مَرْحُومُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَلَوْ لَا رَحْمَةُ اللهِ مَا أَكَلُوا وَمَا شَرِبُوا، وَمَا اكْتَسَوْا وَمَا سَكَنُوا؛ وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ؛ فَهَيَّأَ لَهُمْ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنَ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَمِرُّ رَحْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَدْيَانُهُمْ.

((وَرَحْمَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ كَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَحَيَاتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَضَبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ، بَلْ يَقُولُ رُسُلُهُ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي ((حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ)) -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ)).

كَذَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الْخَلْقُ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَدْءِ الْحِسَابِ؛ فَيَقُولُ كُلٌّ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

فَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، صِفَاتُ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي إِذَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَتَى بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْفِعْلِ، وَمِنْهَا: الْغَضَبُ، وَمِنْهَا: الضَّحِكُ، وَمِنْهَا: الرِّضَا، وَمِنْهَا: النُّزُولُ، وَمِنْهَا: الِاسْتِوَاءُ؛ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ: فَهِيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِهَا، وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنِ الذَّاتِ، صِفَاتُ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالٍ، فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ، وَمِنْهَا: صِفَةُ الرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْغَضَبِ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَغَضِبَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

رَحْمَةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَضَبُهُ لَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَلَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ غَضَبًا وَانْتِقَامًا))، -سُبْحَانَهُ- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ اللَّيِّقُ بِشَأْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَكُنَّا جَمِيعًا خَاسِرِينَ هَالِكِينَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ سَخَطِهِ، وَمِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَكَرَمَهُ، وَفَضْلَهُ، وَلُطْفَهُ.

فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً=وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَرَحْمَتُهُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَوْلَادِنَا، وَأَنْفُسِنَا.

((فَكُلُّ رَاحِمٍ لِلْعَبْدِ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ؛ إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ، فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ وَحَنَانًا وَبِرًّا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ: الْأُمُّ بِوَلَدِهَا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا؛ حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).

قُلْنَا: ((لَا)) -وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ-.

فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟! فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ، وَرَضَاعِهِ، وَفِصَالِهِ.

كُلُّ الرَّاحِمِينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ رَحَمَاتُهُمْ كُلِّهِمْ؛ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ ﷺ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) )).

هَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ.

وَأَمَّا الرَّحْمَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ، فَالرَّحْمَةُ صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ؛ حَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الرَّحْمَةِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِعْمَالُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَرْحَمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ.

هُنَاكَ صِفَاتٌ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ بِاعْتِبَارٍ وَصِفَةَ فِعْلٍ بِاعْتِبَارٍ:

صِفَةُ الْخَلْقِ: صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، فَذَاتُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ، وَلَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ الْعَظِيمَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَبَرْئِهِمْ، وَتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ بِخَلْقِهِمْ؛ فَهِيَ -حِينَئِذٍ- تَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ.

كَذَلِكَ صِفَةُ الْكَلَامِ: فَذَاتُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ؛ لِتَعَلُّقِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ.

هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَعَنَا: فِيهِ انْقِسَامُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ إِلَى مِائَةِ جُزْءٍ، جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.

صِفَةُ الْفِعْلِ: هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.

وَأَمَّا صِفَةُ الذَّاتِ؛ فَهِيَ مَوْصُوفٌ بِهَا الذَّاتُ، لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ.

((بَعْضُ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ اللهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يُدْرِكُ رَحْمَةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْعَالَمِينَ؛ فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ الْحَقَّ -سُبْحَانَهُ- أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ۚ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].

(({أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} أَيْ: إِمَّا أَنْ تَعْتَذِرُوا بِعَدَمِ وُصُولِ أَصْلِ الْهِدَايَةِ إِلَيْكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَعْتَذِرُوا بِعَدَمِ كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا، فَحَصَلَ لَكُمْ بِكِتَابِكُمْ أَصْلُ الْهِدَايَةِ وَكَمَالُهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ، {وَهُدًى} مِنَ الضَّلَالَةِ {وَرَحْمَةٌ} أَيْ: سَعَادَةٌ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، فَهَذَا يُوجِبُ لَكُمْ الِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِهِ، وَالْإِيمَانَ بِأَخْبَارِهِ)).

((إِنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي أَفْضَلُهَا الْقُرْآنُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِالْعِبَادِ؛ فَمَا رَحِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِرَحْمَةٍ أَجَلَّ مِنْ هِدَايَتِهِمْ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَنَالُونَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ.

{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيْ: يَسْمَعُ جَمِيعَ الْأَصْوَاتِ، وَيَعْلَمُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَقَدْ عَلِمَ -تَعَالَى- ضَرُورَةَ الْعِبَادِ إِلَى رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، فَرَحِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ؛ فَلَهُ -تَعَالَى- الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَالْإِحْسَانُ)).

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 4-5].

(({إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ: إِلَى النَّاسِ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ كَانَتْ مَاسَّةً إِلَيْهِ; وَلِهَذَا قَالَ: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ})).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ -يَا مُحَمَّدُ- إِلَّا رَحْمَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَمَنْ آمَنَ بِكَ سَعِدَ وَنَجَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ خَابَ وَخَسِرَ)).

((الرَّسُولُ ﷺ هُوَ رَحْمَتُهُ الْمُهْدَاةُ لِعِبَادِهِ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِهِ قَبِلُوا هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرُوهَا، وَقَامُوا بِهَا، وَغَيْرُهُمْ كَفَرَهَا، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، وَأَبَوْا رَحْمَةَ اللهِ وَنِعْمَتَهُ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

((لَقَدْ جَاءَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- رَسُولٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، يَشُقُّ عَلَيْهِ مَا تَلْقَوْنَ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْعَنَتِ، حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَصَلَاحِ شَأْنِكُمْ، وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ، وَأَجْلَى مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ بِهِمْ: تَوْحِيدُهُ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

((ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلشِّرْكِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا} أَيْ: عَبْدًا {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ}: فَهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَيْسُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَحَالَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ حَتَّى تُمْكِنَ رَاحَتُهُ، بَلْ هُمْ مُتَشَاكِسُونَ مُتَنَازِعُونَ فِيهِ، كُلٌّ لَهُ مَطْلَبٌ يُرِيدُ تَنْفِيذَهُ، وَيُرِيدُ الْآخَرُ غَيْرَهُ؛ فَمَا تَظُنُّ حَالَ هَذَا الرَّجُلِ مَعَ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَشَاكِسِينَ؟!!

{وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أَيْ: خَالِصًا لَهُ، قَدْ عَرَفَ مَقْصُودَ سَيِّدِهِ، وَحَصَلَتْ لَهُ الرَّاحَةُ التَّامَّةُ؛ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} أَيْ: هَذَانِ الرَّجُلَانِ {مَثَلا}؟!

لَا يَسْتَوِيَانِ.

كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ؛ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، يَدْعُو هَذَا، ثُمَّ يَدْعُو هَذَا، فَتَرَاهُ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ فِي مَوْضِعٍ، وَالْمُوَحِّدُ مُخْلِصٌ لِرَبِّهِ، قَدْ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرِكَةِ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ فِي أَتَمِّ رَاحَةٍ وَأَكْمَلِ طُمَأْنِينَةٍ؛ فَـ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا}؟! {الْحَمْدُ لِلَّهِ} عَلَى تَبْيِينِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِرْشَادِ الْجُهَّالِ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ})).

إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْفَرْضُ الْأَعْظَمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَبِيدِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمُتَنَوِّعَةِ مِثْلَ مَا لِلتَّوْحِيدِ؛ فَإِنَّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَفَضَائِلِهِ.

وَمِنْ أَجَلِّ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَمْنَعُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ إِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَإِذَا كَمُلَ فِي الْقَلْبِ مَنَعَ دُخُولَ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرُهَا إِلَّا مِنْ بَعْضِ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ وَآثَارِهِ.

وَالتَّوْحِيدُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ لِتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعِ عُقُوبَتِهِمَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِنَيْلِ رِضَا اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ.

وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مُتَوَقِّفَةٌ فِي قَبُولِهَا، وَفِي كَمَالِهَا، وَفِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا عَلَى التَّوْحِيدِ؛ فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ كَمُلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَتَمَّتْ.

وَالتَّوْحِيدُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَالْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ تَخِفُّ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ؛ لِمَا يَرْجُو مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي؛ لِمَا يَخْشَى مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ.

وَمَتَى كَمُلَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَلْبِ حَبَّبَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ.

فَالتَّوْحِيدُ يُخَفِّفُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَكَارِهَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ، وَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ الْعَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ يَكُونُ تَلَقِّيهِ لِلْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.

وَالتَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ، وَخَوْفِهِمْ، وَرَجَائِهِمْ، وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي.

وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ، وَحُصُولِ الْهِدَايَةِ، وَالتَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى، وَإِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّسْدِيدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَدْفَعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الْإِيمَانِ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِذِكْرِهِ، وَالشِّرْكُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ اللهِ بِالْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ رَحْمَةً لِجَمِيعِ خَلْقِهِ؛ حَتَّى يُسْتَرَاحَ بِاللَّيْلِ، وَيُسْعَى بِالنَّهَارِ لِتَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ، وَعِمَارَةِ الْكَوْنِ، كَمَا أَنْزَلَ -سُبْحَانَهُ- الْمَطَرَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].

((وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ-: أَنْ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَخَالَفَ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ هَذَا اللَّيْلَ ظَلَامًا؛ لِتَسْتَقِرُّوا فِيهِ وَتَرْتَاحَ أَبْدَانُكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ النَّهَارَ ضِيَاءً؛ لِتَطْلُبُوا فِيهِ مَعَايِشَكُمْ، وَلِتَشْكُرُوا لَهُ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

((وَاللهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ الطَّيِّبَةَ اللَّيِّنَةَ مُبَشِّرَاتٍ بِالْغَيْثِ الَّذِي تُثِيرُهُ بِإِذْنِ اللهِ، فَيَسْتَبْشِرُ الْخَلْقُ بِرَحْمَةِ اللهِ، حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ الْمُحَمَّلَ بِالْمَطَرِ سَاقَهُ اللهُ بِهَا لِإِحْيَاءِ بَلَدٍ قَدْ أَجْدَبَتْ أَرْضُهُ، وَيَبَسَتْ أَشْجَارُهُ وَزَرْعُهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ بِهِ الْمَطَرَ، فَأَخْرَجَ بِهِ الْكَلَأَ وَالْأَشْجَارَ وَالزُّرُوعَ، فَعَادَتْ أَشْجَارُهُ مُحَمَّلَةً بِأَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ.

كَمَا نُحْيِي هَذَا الْبَلَدَ الْمَيِّتَ بِالْمَطَرِ نُخْرِجُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ فَنَائِهِمْ؛ لِتَتَّعِظُوا، فَتَسْتَدِلُّوا عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ)).

كَمَا دَعَا الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ النَّاسَ إِلَى الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ فِي رَحْمَتِهِ، وَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

((يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ؛ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}، فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ؛ إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ)).

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْحَالَ الَّتِي أَدْرَكَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ حَاصَرَهُمُ الْأَحْزَابُ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرُوهُ لِلدِّفَاعِ عَنْ وُجُودِهِمْ، وَحِمَايَةِ بَلَدِهِمْ مِنْ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَوَامِعَ الْبِشْرِ وَمَسَالِكَ النَّصْرِ الَّذِي آتَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي تَبْدِيدِ هَذِهِ الْمَخَاوِفِ، وَكَسْرِ عَصَا هَذِهِ الْجُمُوعِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَقَالَ -أَيْضًا- فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].

فَالزَّلْزَلَةُ، وَالِاضْطِرَابُ، وَالْخَوْفُ، وَبُلُوغُ الرُّعْبِ وَالشِّدَّةِ قُلُوبَ الْعِبَادِ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ، أَمَّا الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ عِبَادِهِ بِالْفَرَجِ؛ فَحَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ حَالِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعِبَادُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَ عِبَادَهَ بِأَلَّا يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ، عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَمِّلُوا فِي رَوْحِ اللهِ، وَأَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ وَسِيعِ رَحْمَتِهِ.

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

((يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِسَعَةِ كَرَمِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَلَّا يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ؛ {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا: قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا، وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا؛ فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا، وَلَا سَبِيلٌ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ، وَلَكِنِ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَيْ: وَصْفُهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا أَبَدًا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ، وَالْفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ)).

((التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ»: بِالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ، وَيُطْعِمُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعُرْيَانَ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فِيهِ: الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَهَائِمُ، والْمَمْلُوكُ مَنْها وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَاهُدُ بِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْحَمْلِ، وَتَرْكِ التَّعَدِّي بِالضَّرْبِ».

بَيَانُ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَنْ تَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةٌ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ لِذَا وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعَزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

{أَذِلَّةٍ} يَعْنِي: مُتَوَاضِعِينَ وَرَاحِمِينَ لَهُمْ، وَعَاطِفِينَ عَلَيْهِمْ، وَمُحِبِّينَ إِلَيْهِمْ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِمْ رَحْمَةٌ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَبَادَلًا وَمُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، مَنْ تَعَارَفُوا وَمَنْ لَمْ يَتَعَارَفُوا؛ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَرْحَمُ بَعْضًا، وَيُوَقِّرُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَيَرْحَمُ كَبِيرُهُمْ صَغِيرَهُمْ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْمُؤْمِنِينَ مَثَلًا بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، أَنْ يَكُونَ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّحْمَةُ، وَالتَّقْدِيرُ، وَالتَّوْقِيرُ، وَالتَّعَاطُفُ، وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهَذِهِ صِفَاتُ أَهْلِ الْإِيمَانِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ، يَعْنِي: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا-، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فسَقَتِ الْكَلْبَ-، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فَأَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا)).

قَالَ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ»، وَفِي غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ»: كَمَا قَالَ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

فَمَنْ رَحِمَ رُحِمَ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لِإِنْسَانٍ، أَوْ حَيَوانٍ، أَوْ طَائِرٍ، أَوْ نَحْوِهِ.

وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَبْحِ الشَّاةِ بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَأَلَّا يُحِدَّ الشَّفْرَةَ أَمَامَهَا، فَهَذَا مِنَ الرَّحْمَةِ بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ، خُلُقُ الرَّحْمَةِ لَا يَتَجَزَّأُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي خُلُقِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ رَحْمَتُهُ عَامَّةً وَغَامِرَةً وَشَامِلَةً، وَقَدْ شَمِلَتِ الطُّيُورَ وَالْحَيَوَانَاتِ؛ بَلْ شَمِلَتِ الْحَشَرَاتِ، لِمَا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ حَرْقًا، وَدُونَ ذَلِكَ فِي الْإِثْمِ أَنْ تُقْتَلَ بِالْمَاءِ إِغْرَاقًا، فَهَذَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ تَبْدُو مَظَاهِرُ رَحْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﷺ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَخَذَ رَجُلٌ بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟».

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا أَخَذْتُ بَيْضَتَهَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ارْدُدْهُ؛ رَحْمَةً لَهَا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

«حُمَّرَةٌ»: طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ.

«تَرِفُّ» أَيْ: تَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهَا؛ تَعَطُّفًا وَإِظْهَارًا لِتَعَلُّقِهَا بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «ارْدُدْهُ؛ رَحْمَةً لهَا»: تَأَمَّلْ فِي تَكَامُلِ هَذَا الدِّينِ؛ إِذْ هُوَ الدِّينُ الْخَاتَمُ، دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَقَدِ اتَّسَعَ وَقْتُ وَاهْتِمَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْحُمَّرَةِ.. بِذَلِكَ الطَّائِرِ، وَيَأْمُرُ بِرَدِّ بَيْضَةِ الْحُمَّرَةِ إِلَيْهَا رَحْمَةً لَهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَفِي إِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَفِي مُجَالَدَةِ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِقَامَةً لِلدِّينِ، وَتَأْسِيسًا لِدَعَائِمِ الْمِلَّةِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْرِفُ هَذَا الْوَقْتَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُمَّرَةِ.

«فَجَاءَتْ تَرِفُّ»: جَعَلَتْ تَفْرُشُ -كَمَا فِي رِوَايَةٍ-، وَفِي أُخْرَى «تَعْرُشُ» أَيْ: بِجَنَاحَيْهَا، بِفَرْشِ الْجَنَاحِ وَبَسْطِهِ، وَ«التَّعْرِيشُ»: أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّائِرُ، ويُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهِ.

«فَجَعَ هَذِهِ ببَيْضَتِهَا» أَيْ: وَجَعَ قَلْبَهَا، وَأَقْلَقَهَا، وَأَوْحَشَهَا.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْجَمَلِ الَّذِي حَنَّ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟» لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ أَيْ: تُكِدُّهُ وَتُتْعِبُهُ-».

لِأَنَّ هَذَا الْجَمَلَ كَانَ نَافِرًا، وَكَانَ فِي حَائِطٍ، فَتَحَاشَاهُ النَّاسُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا، نَخْشَى عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَدَخَلَ، فَلَمَّا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ ﷺ؛ جَاءَ حَتَّى جَعَلَ رَأْسَهُ عَلَى كَتِفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخَذَ يَبْكِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى رَأسِهِ وَذِفْرَاهُ، قَدْ وَضَعَ ﷺ عَلَيْهِمَا يَدَهُ، وَقَالَ: «لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالْبَهَائِمِ، وَبِالطُّيُورِ، وَبِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ في دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

بَيَانُ كَمَالِ رَحْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ مِنْ آدَمِيٍّ، وَغَيْرِهِ.

تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ دَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكُمُ الْغَيْرُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ عَالَمِ الطَّيْرِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ؛ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ بَيْنَهُمْ، وَالْإِسْلَامُ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِفَةِ الرَّحْمَةِ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَلَا يُغْفَرُ لِمْنَ لَا يَغْفِرُ، وَلَا يُعْفَى عَمَّنْ لَمْ يَعْفُ، وَلَا يُوَقَّى مَنْ لَا يَتَوَقَّى)). وَهَذَا حَدِيثُ صَحِيحٌ.

((مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ))، «وَلَا يُغْفَرُ لِمْنَ لَا يَغْفِرُ»: يُغْفَرُ أَيْ: يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ.

وَالْمَعْنَى: مَنْ لَا يَتَجَاوَزُ عَنْ خَطَايَا النَّاسِ وَإِسَاءَتِهِمْ لَا يَغْفِرُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ؛ إِذِ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ». صَحَّحَهُ فِي «الصَّحِيحَةِ».

يَعْنِي: كُنْ سَمْحًا حَتَّى تُعَامَلَ بِالسَّمَاحَةِ.

«وَلَا يُعْفَى عَمَّنْ لَمْ يَعْفُ»: الْعَفْوُ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ، وَتَرْكُ الْعِقَابِ.

صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَقُلِ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ.

فِي رِوَايَةٍ: «ولَا يُتَابُ عَلَى مَنْ لَا يَتُوبُ»: مَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِلتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ؛ حَتَّى يُوَفَّقَ لِذَلِكَ «وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» كَمَا قَالَ ﷺ.

«وَلَا يُوَقَّى مَنْ لَا يَتَوَقَّى»: وُقِيتُ الشَّيْءَ وَوَقَيْتُهُ أَقِيهِ إِذَا صُنْتُهُ، وَسَتَرْتُهُ عَنِ الْأَذَى.

وَالْمَعْنَى: لَا يُحْفَظُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْآثَامِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا، وَهَذا كَقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ»، وَأَمَّا مَنْ لَا يُوَقَّهُ فَإِنَّهُ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَتَوَقَّى لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ.

فَالَّذِي يَطْمَعُ فِي رَحْمَةِ رَبِّهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَمَ النَّاسَ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، وَأَنْ يُسَامِحَهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ قَوْلَ اللهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: ٢٢].

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَإِنَّما يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

((الْقُرْآنُ طَوْقُ نَجَاةِ الْأُمَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أُسَّ الْعَمَلِ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَصْلَهُ هُوَ كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّ الْمِحْوَرَ الَّذِي تَدُورُ حَوْلَهُ الْأُمَّةُ، وَإِنَّ الْمِحْوَرَ الَّذِي تَدُورُ فِي فَلَكِهِ الْأُمَّةُ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.

مَتَى مَا تَخَلَّفَتِ الْأُمَّةُ عَنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَالذُّلُّ نَازِلٌ بِهَا بِقَدْرِ تَخَلُّفِهَا عَنْ كِتَابِ رَبِّهَا، وَمَتَى مَا تَمَسَّكَتْ بِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَالْعِزُّ نَازِلٌ بِسَاحَاتِهَا عَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِهَا بِكِتَابِ رَبِّهَا.

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ))، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

الْأُمَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ لَا تَذِلُّ وَلَا تَخْزَى.

الْأُمَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ لَا تَضْحَى وَلَا تَشْقَى.

الْأُمَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ لَا يُصِيبُهَا الذُّلُّ أَبَدًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُنْزِلُ عَلَيْهَا رَحَمَاتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

هَذِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ تُعْرَفُ فِي اللَّيْلِ.. فِي الشَّوَارِعِ وَالْحَوَارِي وَالْأَزِقَّةِ بِالْقُرْآنِ يُتْلَى، لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فِي بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَوَارِي، مِنَ النِّسَاءِ، مِنَ الْأَطْفَالِ مِنَ الْغِلْمَانِ، مِنَ الشِّيبِ مِنَ الشُّيُوخِ، مِنَ الشَّبَابِ؛ الْكُلُّ مُقْبِلٌ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْتِيلًا، وَفَهْمًا، وَتَطْبِيقًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّهُ الْعِزُّ الدَّائِمُ، وَالنَّهْجُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَمَّا أَنْ تَأْخُذَنَا بُنَيَّاتُ الطُّرُقِ، وَأَمَا أَنْ نَتَلَطَّمَ فِي دَيَاجِيرِ الظُّلْمَةِ بِاخْتِلَافِ مَنَاهِجِ الْخَلْقِ؛ فَأَمْرٌ لَا يَرْضَاهُ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ.

هَذَا هُوَ النَّهْجُ الْقَاصِدُ -عِبَادَ اللهِ-؛ كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)).

وَمَنْ عَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا مَا تُلِيَتْ، لَا يَضْبِطُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

لَوْ عَلَّمْتَ إِنْسَانًا الْفَاتِحَةَ فَضَبَطَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمُسْتَقِيمِ، لَوْ عَلَّمْتَ إِنْسَانًا آيَةً وَاحِدَةً، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ {آلم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))، فَلَوْ عَلَّمْتَ مُسْلِمًا حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَكَ مِثْلُ أَجْرِهِ مَا تُلِيَ.

فَيَا  لَهَا مِنْ مَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ!!

((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))، وَمَنْ قَامَ عَلَى حِيَاطَتِهِ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَامَ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمِحْوَرُ الَّذِي تَدُورُ حَوْلَهُ الْأُمَّةُ، وَتَرْتَبِطُ بِهِ، وَتَؤُوبُ إِلَيْهِ.

وَمَهْمَا حَدَثَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَهْمَا جَرَى لَهَا، مَتَى مَا تَمَسَّكَتْ بِكِتَابِ رَبِّهَا، وَعَادَتْ إِلَى جَنَابِ أَنْوَارِ رِحَابِ كَلَامِ رَبِّهَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَفَاءَتْ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُبِينِ؛ أَخْرَجَهَا اللهُ  رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَخْرَجَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ إِلَى الِائْتِلَافِ وَالْمَحَبَّةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَعَادَ بِهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ.

فَحَذَارِ أَنْ يَفُوتَكُمْ نَصِيبُكُمْ  مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!

حَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْكَ الشَّهْرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَخْتِمَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَتْمَةً!

حَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ أَلَّا تُقْرَأَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ!

حَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ أَنْ تَؤُوبَ إِلَى ضَلَالٍ فِي ظِلَالٍ بَعِيدًا عَنْ ظِلَالِ كَلَامِ رَبِّنَا رَبِّ الْعَالَمِينَ!

فَفِيئُوا إِلَيْهِ؛ إِلَى النُّورِ الْمُبِينِ فِي هَذَا الظِّلِّ الظَّلِيلِ بِأَنْوَارِ كَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ، بِأَعْظَمِ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: (({اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255])).

قَالَ: ((فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: ((وَاللَّهِ! لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ)).

وَأَقْرَأُ الْأُمَّةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، مَنْ قَرَأَهَا حِينَ يُصْبِحُ، وَحِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ؛ لَا يَزَالُ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَمَسُّهُ شَيْطَانٌ.

اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا،  وَجَلَاءَ حُزْنِنَا، وَجَلَاءَ حُزْنِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا، وَذَهَابَ غُمُومِنَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ قَائِدًا لَنَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا تَجْعَلْهُ سَائِقًا لَنَا إِلَى النَّارِ.

اللَّهُمَّ رُدَّ الْأُمَّةَ إِلَى الْقُرْآنِ رَدًّا جَمِيلًا.

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ؛ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَاجْمَعِ الْجَمِيعَ عَلَى طَاعَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ، صُنْ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ، اسْتُرْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ فُرُوجَ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ صُنْ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ. 

 المصدر: الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلِ السَّيِّءِ
  أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ
  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله
  النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالِانْتِصَارَاتِ
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  اللجان النوعية والثورة المسلحة
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان