إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَغَيَّرَ مَعْنَاهُ

إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَغَيَّرَ مَعْنَاهُ

((إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ

رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَغَيَّرَ مَعْنَاهُ))

 

((ضَرُورَةُ التَّوْعِيَةِ بِكَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَةِ الْقُرْآنِ لِلشُّبُهَاتِ الْفِكْرِيَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((خُطُورَةُ الشُّبُهَاتِ وَفِتْنَتُهَا))

 فَـ((الْفِتْنَةُ نَوْعَانِ: فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ، وَهِىَ أَعْظَمُ الْفِتْنَتَيْنِ، وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ.

وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ لِلْعَبْدِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ بِإِحْدَاهُمَا:

فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ مِنْ ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ؛ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ فَسَادُ الْقَصْدِ، وَحُصُولُ الْهَوَى، فَهُنَالِكَ الْفِتْنَةُ الْعُظْمَى، وَالْمُصِيبَةُ الْكُبْرَى، فَقُلْ مَا شِئْتَ فِي ضَلَالِ سَيِّئِ الْقَصْدِ، الْحَاكِمِ عَلَيْهِ الْهَوَى لَا الْهُدَى، مَعَ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: ٢٣].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: ٢٦].

وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ -يَعْنِي: فِتْنَةَ الشُّبُهَاتِ- مَآلُهَا إِلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَهِيَ فِتْنَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَفِتْنَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ بِدَعِهِمْ، فَجَمِيعُهُمْ إِنَّمَا ابْتَدَعُوا مِنْ فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى بِالضَّلَالِ.

وَلَا يُنْجِي مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إِلَّا تَجْرِيدُ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَتَحْكِيمُهُ ﷺ فِي دِقِّ الدِّينِ وَجِلِّهِ، ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، عَقَائِدِهِ وَأَعْمَالِهِ، حَقَائِقِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَيَتَلَقَّى عَنْهُ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُثْبِتُهُ للهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، وَمَا يَنْفِيهِ عَنْهُ، كَمَا يَتَلَقَّى عَنْهُ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ، وَأَوْقَاتَهَا، وَأَعْدَادَهَا، وَمَقَادِيرَ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَمُسْتَحِقِّيهَا، وَوُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَمَا يَتَلَقَّى عَنْهُ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا يَجْعَلُهُ رَسُولًا فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، بَلْ هُوَ رَسُولٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، لَا يُتَلَقَّى إِلَّا عَنْهُ، وَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنْهُ؛ فَالْهُدَى كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْهَا فَهُوَ ضَلَالٌ.

فَإِذَا عَقَدَ قَلْبَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَاهُ، وَوَزَنَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ؛ فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ، لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْقَائِلِ قَالَهُ، بَلْ لِمُوَافَقَتِهِ لِلرِّسَالَةِ، وَإِنْ خَالَفَهُ رَدَّهُ وَلَوْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ، فَهَذَا الَّذِي يُنْجِيهِ مِنْ فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ، وَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ أَصَابَهُ مِنْ فِتْنَتِهَا بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْهُ.

وَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ تَنْشَأُ تَارَةً مِنْ فَهْمٍ فَاسِدٍ، وَتَارَةً مِنْ نَقْلٍ كَاذِبٍ، وَتَارَةً مِنْ حَقٍّ فَائِتٍ خَفِيَ عَلَى الرَّجُلِ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ، وَتَارَةً مِنْ غَرَضٍ فَاسِدٍ وَهَوًى مُتَّبَعٍ؛ فَهِيَ مِنْ عَمًى فِي الْبَصِيرَةِ، وَفَسَادٍ فِي الْإِرَادَةِ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْفِتْنَةِ: فَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ.

وَقَدْ جَمَعَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ ذِكْرِ الْفِتْنَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: ٦٩].

أَيْ: تَمَتَّعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَالْخَلَاقُ: هُوَ النَّصِيبُ الْمُقَدَّرُ، ثُمَّ قَالَ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}: فَهَذَا الْخَوْضُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ الشُّبُهَاتُ.

فَأَشَارَ -سُبْحَانَهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ فَسَادُ الْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ؛ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ، وَالْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ، أَوْ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ.

فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْبِدَعُ وَمَا وَالَاهَا، وَالثَّانِي: فِسْقُ الْأَعْمَالِ.

فَالْأَوَّلُ: فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ.

وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ صِنْفَيْنِ: صَاحِبَ هَوًى قَدْ فَتَنَهُ هَوَاهُ، وَصَاحِبَ دُنْيَا أَعْمَتْهُ دُنْيَاهُ.

وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

وَأَصْلُ كُلِّ فِتْنَةٍ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّأْيِ عَلَى الشَّرْعِ، وَالْهَوَى عَلَى الْعَقْلِ.

فَالْأَوَّلُ: أَصْلُ فِتْنَةِ الشُّبْهَةِ، وَالثَّانِي: أَصْلُ فِتْنَةِ الشَّهْوَةِ.

فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ تُدْفَعُ بِالْيَقِينِ، وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ تُدْفَعُ بِالصَّبْرِ؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَ -سُبْحَانَهُ- إِمَامَةَ الدِّينِ مَنُوطَةً بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤].

فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ.

وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا -أَيْضًا- فِي قَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ٣].

فَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ، وَبِالصَّبْرِ الَّذِي يَكُفُّ عَنِ الشَّهَوَاتِ.

وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥].

فَالْأَيْدِي: الْقُوَى وَالْعَزَائِمُ فِي ذَاتِ اللهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَائِرُ فِي أَمْرِ اللهِ، وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ تَدُورُ عَلَى ذَلِكَ.

فَبِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشَّهْوَةِ، وَبِكَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشُّبْهَةِ)).

((الْقُرْآنُ كِتَابُ هُدًى وَنُورٌ وَدَحْضٌ لِلشُّبُهَاتِ))

((لَقَدْ وَصَفَ اللهُ كِتَابَهُ بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ عَظِيمَةٍ تَنْطَبِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، وَتَدُلُّ أَكْبَرَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْفُنُونِ الْمُرْشِدَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَصَفَهُ بِالْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَالْفُرْقَانِ، وَأَنَّهُ مُبِينٌ وَتِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى، وَيَهْدِي الْخَلْقَ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى كُلِّ طَرِيقٍ نَافِعٍ، وَيُفَرِّقُ لَهُمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَبَيْنَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ بِذِكْرِ أَوْصَافِ الْفَرِيقَيْنِ.

وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بِذِكْرِ أَدِلَّتِهَا النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، فَوَصَفَهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ عَنْهَا شَيْءٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَقَيَّدَ هِدَايَتَهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِعِدَّةِ قُيُودٍ: قَيَّدَ هِدَايَتَهُ بِأَنَّهُ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَيَتَفَكَّرُونَ، وَلِمَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ -تَعَالَى- لِشَرْطِ هِدَايَتِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَعَامِلًا، فَلَا بُدَّ لِهِدَايَتِهِ مِنْ عَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ وَتَدَبُّرٍ لِآيَاتِهِ؛ فَالْمُعْرِضُ الَّذِي لَا يَتَفَكَّرُ وَلَا يَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَمَنْ لَيْسَ قَصْدُهُ الْحَقَّ، وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الرَّشَادِ، بَلْ قَصْدُهُ فَاسِدٌ، وَقَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، لَيْسَ لَهُ مِنْ هِدَايَتِهِ نَصِيبٌ؛ فَالْأَوَّلُ حُرِمَ هِدَايَتَهُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي لِوُجُودِ الْمَانِعِ؛ فَأَمَّا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهِ، وَتَدَبَّرَهَا بِحُسْنِ فَهْمٍ، وَحُسْنِ قَصْدٍ، وَسَلِمَ مِنَ الْهَوَى؛ فَإِنَّهُ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَيَنَالُ بِهِ كُلَّ غَايَةٍ جَلِيلَةٍ وَمَرْغُوبٍ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ، وَهِيَ الْخَيْرُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ اهْتِدَاءً بِهِ؛ فَلَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ؛ وَذَلِكَ لِبَيَانِهِ وَتَوْضِيحِهِ الْعُلُومَ النَّافِعَةَ، وَالْمَعَانِيَ الْكَامِلَةَ، وَأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ جَمِيعِ الظُّلُمَاتِ -ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَالْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي، وَالشَّقَاءِ- إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَالْيَقِينِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ، وَالرَّشَادِ الْمُتَنَوِّعِ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ؛ فَالْقُرْآنُ يُوَضِّحُ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ وَيُشَخِّصُهَا، وَيُرْشِدُ الْعِبَادَ إِلَى كُلِّ وَسِيلَةٍ يَحْصُلُ بِهَا زَوَالُهَا وَشِفَاؤُهَا، فَيَذْكُرُ لَهُمْ أَمْرَاضَ الْجَهْلِ وَالشُّكُوكِ وَالْحَيْرَةِ، وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى قَلْعِهَا بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْيَقِينِ الصَّادِقِ، وَسُلُوكِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الْمُزِيلَةِ لِهَذِهِ الْعِلَلِ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ أَمْرَاضَ الشَّهَوَاتِ وَالْغَيِّ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْبَابَهَا وَعَلَامَاتِهَا وَآثَارَهَا الضَّارَّةَ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ مَا بِهِ تُعَالَجُ؛ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالتَّذَكُّرِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْأُمُورِ، وَتَرْجِيحِ مَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، وَكُلَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْحُسْنِ، وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ، مُحْكَمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

فَأَمَّا وَصْفُهُ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّهُ كُلَّهُ مُحْكَمٌ؛ فَلِبَلَاغَتِهِ وَبَيَانِهِ التَّامِّ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى غَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي تَنْزِيلِ الْأُمُورِ مَنَازِلَهَا، وَوَضْعِهَا مَوَاضِعَهَا، وَأَنَّهُ مُتَّفِقٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

وَأَمَّا حُسْنُهُ؛ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ التَّامِّ لِجَمِيعِ الْحَقَائِقِ، وَلِأَنَّهُ بَيَّنَ أَحْسَنَ الْمَعَانِي النَّافِعَةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، فَهِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَآثَارُهَا أَحْسَنُ الْآثَارِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُثَنَّاةِ فِي الْقُرْآنِ يَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَأَمَّا وَصْفُهُ بِأَنَّ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ؛ فَالْمُتَشَابِهَاتُ هِيَ الَّتِي يَقَعُ الْإِشْكَالُ فِي دَلَالَتِهَا؛ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْعِبَارَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَأَمَرَ اللهُ بِرَدِّهَا إِلَى الْمُحْكَمَاتِ الْوَاضِحَةِ، بَيِّنَةِ الْمَعَانِي، الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُرَادِ؛ فَإِذَا رُدَّتِ الْمُتَشَابِهَاتُ إِلَى الْمُحْكَمَاتِ؛ صَارَتْ كُلُّهَا مُحْكَمَاتٍ، وَزَالَ الشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ، وَحَصَلَ الْبَيَانُ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ.

وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاحٌ، وَيَهْدِي إِلَى الْإِصْلَاحِ، وَإِلَى أَقْوَمِ الْأُمُورِ وَأَرْشَدِهَا، وَأَنْفَعِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ دُونِ اسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ الْمُحِيطُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ إِصْلَاحٌ لِلْعَقَائِدِ وَالْقُلُوبِ، وَلِلْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَهْدِي إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ؛ بِحَيْثُ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ، وَتَعْتَدِلُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْكَمَالُ الْمُتَنَوِّعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالْإِرْشَادِ إِلَى كُلِّ وَسِيلَةٍ نَافِعَةٍ تُؤَدِّي إِلَى الْمَقَاصِدِ وَالْغَايَاتِ الْمَطْلُوبَةِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَّا بِسُلُوكِ الطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَحَثَّ الْعِبَادَ عَلَيْهَا.

إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ كِتَابُ تَعْلِيمٍ يُزِيلُ الْجَهَالَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ، وَكِتَابُ تَرْبِيَةٍ يُقَوِّمُ الْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ، فَهُوَ يُعَلِّمُ، وَيُقَوِّمُ، وَيُهَذِّبُ، وَيُؤَدِّبُ بِأَعْلَى مَا يَكُونُ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِلْحُكَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ أَنْ يَقْتَرِحُوا مِثْلَهَا، وَلَا مَا يُقَارِبُهَا)).

((وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ هُدًى، وَرَحْمَةٌ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ أَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ، وَأَمْرَاضِ الشَّهَوَاتِ.

وَأَنَّهُ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَحْتَاجُهُ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ.

وَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِ، فَيَفْصِلُ النِّزَاعَ، وَيَحُلُّ الْمُتَشَابِهَاتِ بِلَفْظِهِ الصَّرِيحِ، أَوْ بِمَعَانِيهِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ، وَبَلَّغَهَا النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ.

وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِتَدَبُّرِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحْكَامَهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ، وَأَخْبَارَهُ أَصْدَقُ الْأَخْبَارِ، وَمَوَاعِظَهُ أَنْجَعُ الْمَوَاعِظِ؛ فَهُوَ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ الْخَلْقُ، وَهُوَ الْمُفَصِّلُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ؛ كُلُّهُ مُحْكَمٌ مِنْ جِهَةِ الْحِكَمِ وَالْحُكْمِ وَالْإِتْقَانِ وَالِانْتِظَامِ، وَكُلُّهُ مُتَشَابِهٌ فِي حُسْنِهِ وَبَيَانِهِ وَحَقِّهِ، وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ، وَبَعْضُهُ مُحْكَمٌ مِنْ جِهَةِ التَّوْضِيحِ وَالتَّصْرِيحِ، وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالْإِطْلَاقِ، يَجِبُ تَرْجِيعُهُ وَرَدُّهُ إِلَى الْمُحْكَمِ لِيَتَّضِحَ الْأَمْرُ، وَيَزُولَ اللَّبْسُ، فِيهِ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ، يَحْتَوِي عَلَى جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْفِطْرِيَّةِ، قَدْ جَمَعَ اللهُ فِيهِ كُلَّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلْعِبَادِ)).

((خَصَائِصُ الْمَنْهَجِ الْقُرْآنِيِّ فِي دَحْضِ الشُّبُهَاتِ))

اتَّسَمَ الْمَنْهَجُ الْقُرْآنِيُّ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِعَدَدٍ مِنَ الْخَصَائِصِ، مِنْ أَبْرَزِهَا:.

* الشُّمُولُ:

جَاءَ الْمَنْهَجُ الْقُرْآنِيُّ فِي رَدِّهِ لِلشُّبُهَاتِ فِي صُورَةٍ عَامَّةٍ شَامِلَةٍ لِمُخْتَلَفِ الشُّبَهِ الَّتِي

أَثَارَهَا الطَّاعِنُونَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، أَوْ مَا قَابَلَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ رُسُلَهَا مِمَّا اتَّصَلَ بِهَذِهِ الشُّبُهَاتِ، وَمِنْهَا: الطَّعْنُ فِي الْوَحْيِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

وَمَا عَظَّمَ كُبَرَاءُ مُشْرِكِي مَكَّةَ اللهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ عِنْدَمَا قَالُوا مُرَدِّدِينَ مَقُولَةَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَاتَّهَمُوهُ -سُبْحَانَهُ- بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَاسْتَهَانُوا بِعِقَابِ اللهِ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَهُمَ مُؤَيَّدُونَ مِنْهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدِيرٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ، وَلَعَلِمُوا أَنَّهُ يُعَاقِبُ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ الصَّادِقِينَ بِالْخُلُودِ فِي عَذَابِ النَّارِ يَوْمَ الدِّينِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].

وَالطَّعْنُ فِي النَّبِيِّ ﷺ: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 6-7].

* الْوُضُوحُ وَالْيُسْرُ: اتَّسَمَ الْمَنْهَجُ الْقُرْآنِيُّ فِي دَفْعِ الشُّبُهَاتِ وَمُحَاجَّةِ الْخُصُومِ بِالْوُضُوحِ وَالسُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ، مَعَ الدِّقَّةِ فِي الْعَرْضِ وَالرَّدِّ، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ رَسُولٍ قَبْلَكَ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِ؛ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.

((وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- حَاجَّ عِبَادَهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ فِيمَا أَرَادَ تَقْرِيرَهُمْ بِهِ وَإِلْزَامَهُمْ إِيَّاهُ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ إِلَى الْعَقْلِ، وَأَسْهَلِهَا تَنَاوُلًا، وَأَقَلِّهَا تَكَلُّفًا، وَأَعْظَمِهَا غَنَاءً وَنَفْعًا، وَأَجَلِّهَا ثَمَرَةً وَفَائِدَةً؛ فَحُجَجُهُ -سُبْحَانَهُ- الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ جَمَعَتْ بَيْنَ كَوْنِهَا عَقْلِيَّةً سَمْعِيَّةً ظَاهِرَةً وَاضِحَةً، قَلِيلَةَ الْمُقَدِّمَاتِ، سَهْلَةَ الْفَهْمِ، قَرِيبَةَ التَّنَاوُلِ، قَاطِعَةً لِلشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ، مُلْزِمَةً لِلْمُعَانِدِ وَالْجَاحِدِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَعَارِفُ الَّتِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهَا فِي الْقُلُوبِ أَرْسَخَ، وَلِعُمُومِ الْخَلْقِ أَنْفَعَ.

وَإِذَا تَتَبَّعَ الْمُتَتَبِّعُ مَا فِي كِتَابِ اللهِ مِمَّا حَاجَّ بِهِ عِبَادَهُ فِي إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ، وَطُرُقِ إِثْبَاتِ عِلْمِهِ بِكُلِّ خَفِيٍّ وَظَاهِرٍ، وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ؛ وَجَدَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُخَاطَبَةِ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- فِي ذَلِكَ عَلَى أَجَلِّ وُجُوهِ الْحِجَاجِ، وَأَسْبَقِهَا إِلَى الْقُلُوبِ، وَأَعْظَمِهَا مُلَاءَمَةً لِلْعُقُولِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ، فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْيَنِهِ وَأَعْذَبِهِ وَأَحْسَنِهِ وَأَرْشَقِهِ وَأَدَلِّهِ عَلَى الْمُرَادِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- فِيمَا حَاجَّ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقَطْعِ أَسْبَابِهِ وَحَسْمِ مَوَادِّهِ كُلِّهَا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22-23].

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَخَذَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَجَامِعِ الطُّرُقِ الَّتِي دَخَلُوا مِنْهَا إِلَى الشِّرْكِ وَسَدَّتْهَا عَلَيْهِمْ أَحْكَمَ سَدٍّ وَأَبْلَغَهُ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْبُودِ لِمَا يَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَرْجُ مِنْهُ مَنْفَعَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مَالِكًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْفَعُ بِهَا عَابِدَهُ، أَوْ شَرِيكًا لِمَالِكِهَا، أَوْ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا وَمُعَاوِنًا لَهُ، أَوْ وَجِيهًا ذَا حُرْمَةٍ وَقَدْرٍ يَشْفَعُ عِنْدَهُ، فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَطَلَتْ انْتَفَتْ أَسْبَابُ الشِّرْكِ وَانْقَطَعَتْ مَوَادُّهُ، فَنَفَى -سُبْحَانَهُ- عَنْ آلِهَتِهِمْ أَنْ تَمْلُكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَدْ يَقُولُ الْمُشْرِكُ: هِيَ شَرِيكَةٌ لِمَالِكِ الْحَقِّ، فَنَفَى شِرْكَتَهَا لَهُ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُ: قَدْ تَكُونُ ظَهِيرًا وَوَزِيرًا وَمُعَاوِنًا، فَقَالَ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}.

فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ، فَنَفَاهَا عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ لِلشَّافِعِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالشَّفَاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّافِعِ وَمُعَاوَنَتِهِ لَهُ، فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا.

وَأَمَّا مَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِدُونِ إِذْنِهِ!

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ- مُقَرِّرًا لِبُرْهَانِ التَّوْحِيدِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ وَأَوْجَزَهُ وَأَبْلَغَهُ: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: ٤٢]؛ فَإِنَّ الْآلِهَةَ الَّتِي كَانُوا يُثْبِتُونَهَا مَعَهُ -سُبْحَانَهُ- كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ وَمُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانُوا آلِهَةً -كَمَا يَقُولُونَ- لَعَبَدُوهُ وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَقَدْ أَفْصَحَ -سُبْحَانَهُ- بِهَذَا يُعَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: ٥٧].

أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي هُمْ عَبِيدِي كَمَا أَنْتُمْ عَبِيدِي يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي، كَمَا تَرْجُونَ أَنْتُمْ رَحْمَتِي وَتَخَافُونِ عَذَابِي، فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي.

وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: ٩١].

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الْبَيِّنِ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ -سُبْحَانَهُ- إِلَهٌ لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى بِشَرِكَةِ الْإِلَهِ الْآخَرِ مَعَهُ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِهِ كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا عَنْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِمَمَالِكِهِمْ)).

* تَأْسِيسُ الْيَقِينِ: فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ أَنْ تَكُونَ مُؤَسِّسَةً لِلْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

وَفِي قَوْلِ اللهِ -تَعَالَى- عَنْ قَوْلِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي التَّعْرِيفِ بِاللهِ -تَعَالَى-: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28].

* مُخَاطَبَةُ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ: اتَّسَمَتْ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي مُوَاجَهَةِ الشُّبُهَاتِ وَإِبْطَالِهَا بِمُخَاطَبَةِ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].

وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 60-62].

 ((دَحْضُ الْقُرْآنِ شُبُهَاتٍ مُتَعَلِّقَةً بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

أَبْطَلَ كِتَابُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا مِنَ الْمَقُولَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ بِالْحُجَجِ النَّقْلِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْفِطْرِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَقُولَاتٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

* وَمِنْ ذَلِكَ: إِنْكَارُ وُجُودِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنْكَارُ رُبُوبِيَّتِهِ؛ كَمَقُولَةِ الدَّهْرِيَّةِ قَدِيمًا، الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْمُلْحِدِينَ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ؛ فَالْإِلْحَادُ: مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يَقُومُ عَلَى فِكْرَةٍ عَدَمِيَّةٍ أَسَاسُهَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ الْخَالِقِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فيَدَّعِي الْمُلْحِدُونَ بِأَنَّ الْكَوْنَ وُجِدَ بِلَا خَالِقٍ، وَأَنَّ الْمَادَّةَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَهِيَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ!

وَهُنَاكَ مَعْنًى ثَانٍ لِلْإِلْحَادِ يُعَدُّ مِنْ إِضَافَاتِ أَفْلَاطُونَ، وَهُوَ: إِثْبَاتُ وُجُودِ خَالِقٍ أَوْ صَانِعٍ؛ وَلَكِنَّهَا لَا تُعْنَى بِشَيْءٍ مِنْ حَيَاةِ الْخَلْقِ، فَهِيَ مُوجِدَةٌ لِلْخَلْقِ؛ لَكِنَّهَا تَرَكَتِ التَّصَرُّفَ فِي الْكَوْنِ، وَتَفَرَّغَتْ لِحَيَاتِهَا الْمِثَالِيَّةِ.

قَالَ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ عَنْ هَذِهِ الْمَقُولَةِ وَبَيَانِ بُطْلَانِهَا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

((يَقُصُّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ وَالسَّالِفِينَ مَا بِهِ تَتَبَيَّنُ الْحَقَائِقُ، وَتَقُومُ الْبَرَاهِينُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ حَيْثُ حَاجَّ هَذَا الْمَلِكَ الْجَبَّارَ، وَهُوَ (نُمْرُودُ الْبَابِلِيُّ) الْمُعَطِّلُ الْمُنْكِرُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَانْتُدِبَ لِمُقَاوَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَمُحَاجَّتِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ شَكًّا وَلَا إِشْكَالًا وَلَا رَيْبًا؛ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتُهُ الَّذِي هُوَ أَجْلَى الْأُمُورِ وَأَوْضَحُهَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ غَرَّهُ مُلْكُهُ وَأَطْغَاهُ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ نَفَاهُ، وَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الرَّسُولَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الرُّسُلِ سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ مُنَاظِرًا لَهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَذَكَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَظْهَرَهَا، وَهُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ، فَقَالَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ مُبَاهِتًا: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}: وَعَنَى بِذَلِكَ أَنِّي أَقْتُلُ مَنْ أَرَدْتُ قَتْلَهُ، وَأَسْتَبْقِي مَنْ أَرَدْتُ اسْتِبْقَاءَهُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا تَمْوِيهٌ وَتَزْوِيرٌ، وَحَيْدَةٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِإِيجَادِ الْحَيَاةِ فِي الْمَعْدُومَاتِ، وَرَدِّهَا عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمِيتُ الْعِبَادَ وَالْحَيَوَانَاتِ بِآجَالِهَا بِأَسْبَابِ رَبْطِهَا وَبِغَيْرِ أَسْبَابٍ.

فَلَمَّا رَآهُ الْخَلِيلُ مُمَوِّهًا تَمْوِيهًا رُبَّمَا رَاجَ عَلَى الْهَمَجِ الرَّعَاعِ؛ قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُلْزِمًا لَهُ بِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ إِنْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أَيْ: وَقَفَ، وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ، وَاضْمَحَلَّتْ شُبْهَتُهُ.

وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْخَلِيلِ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْزَامٌ لِنُمْرُودَ بِطَرْدِ دَلِيلِهِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَأَتَى بِهَذَا الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّرْوِيجَ وَالتَّزْوِيرَ وَالتَّمْوِيهَ.

فَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ قَدْ قَامَتْ شَاهِدَةً بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُعْتَرِفَةً بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، وَجَمِيعُ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ، مُمَاثِلٌ لِهَذَا الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، فَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) ۞ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 9-10].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَمَّا دَارَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ رُسُلِهِمْ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَمَهُمْ لَمَّا وَاجَهُوهُمْ بِالشَّكِّ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَتْ الرُّسُلُ: {أَفِي اللهِ شَكٌّ

وَهَذَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ؛ فَإِنَّ الْفِطَرَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ، وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ؛ فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ، فَتَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ الْمُوصِلِ إِلَى وُجُودِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ تُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: الَّذِي خَلَقَهَا وَابْتَدَعَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ؛ فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْحُدُوثِ وَالْخَلْقِ وَالتَّسْخِيرِ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا؛ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ صَانِعٍ، وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهُهُ، وَمَلِيكُهُ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِمْ: {أَفِي اللهِ شَكٌّ} أَيْ: أَفِي إِلَهِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَهُ شَكٌّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَإِنَّ غَالِبَ الْأُمَمِ كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ؛ وَلَكِنْ تَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْوَسَائِطِ الَّتِي يَظُنُّونَهَا تَنْفَعُهُمْ، أَوْ تُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللهِ زُلْفَى)).

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخَوِّفًا عِبَادَهُ مَا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ فَكَذَّبُوهُمْ، فَعَاقَبَهُمْ بِالْعِقَابِ الْعَاجِلِ الَّذِي رَآهُ النَّاسُ وَسَمِعُوهُ فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قَصَصَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَبَسَطَهَا، {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ}: مِنْ كَثْرَتِهِمْ، وَكَوْنِ أَخْبَارِهِمُ انْدَرَسَتْ؛ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ : بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءُوا بِهِ، فَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤْمِنُ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ؛ فَحِينَ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ لَمْ يَنْقَادُوا لَهَا، بَلِ اسْتَكْبَرُوا عَنْهَا، {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أَيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَفَوَّهُوا بِشَيْءٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ؛ كَقَوْلِهِ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}، وَقَالُوا صَرِيحًا لِرُسُلِهِمْ: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أَيْ : مُوقِعٌ فِي الرِّيبَةِ.

وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَظَلَمُوا؛ وَلِهَذَا قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أَيْ: فَإِنَّهُ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ وَأَجْلَاهَا؛ فَمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي وُجُودُ الْأَشْيَاءِ مُسْتَنِدٌ إِلَى وُجُودِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ثِقَةٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ؛ حَتَّى الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ؛ وَلِهَذَا خَاطَبَتْهُمُ الرُّسُلُ خِطَابَ مَنْ لَا يَشُكُّ فِيهِ، وَلَا يَصْلُحُ الرَّيْبُ فِيهِ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ {لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} أَيْ : لِيُثِيبَكُمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَتِهِ بِالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَلَمْ يَدْعُكُمْ لِيَنْتَفِعَ بِعِبَادَتِكُمْ، بَلِ النَّفْعُ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ.

فَرَدُّوا عَلَى رُسُلِهِمْ رَدَّ السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالُوا لَهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أَيْ: فَكَيْفَ تَفْضُلُونَنَا بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ؟! {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}: فَكَيْفَ نَتْرُكُ رَأْيَ الْآبَاءِ وَسِيرَتَهُمْ لِرَأْيِكُمْ؟! وَكَيْفَ نُطِيعُكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا؟! {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أَيْ: بِحُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَمُرَادُهُمْ: بَيِّنَةٌ يَقْتَرِحُونَهَا هُمْ؛ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رُسُلَهُمْ جَاءَتْهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)).

وَمِنْ أَمْثِلَةِ دَحْضِ الْقُرْآنِ لِشُبُهَاتِ مُنْكِرِي الرُّبُوبِيَّةِ: قَوْلُهُ -تَعَالَى- عَنْ فِرْعَوْنَ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23-28].

(({قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}: وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ لِرَبِّهِ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، مَعَ تَيَقُّنِ صِحَّةِ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى.

{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيِ: الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ، وَدَبَّرَهُ بِأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، وَرَبَّاهُ بِأَنْوَاعِ التَّرْبِيَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ؛ فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ خَالِقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَفَاطِرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}؟!

فَقَالَ فِرْعَوْنُ مُتَجَرْهِمًا وَمُعْجَبًا لِقَوْلِهِ: أَلا تَسْتَمِعُونَ مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ؟!

فَقَالَ مُوسَى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}؛ تَعَجَّبْتُمْ أَمْ لَا، اسْتَكْبَرْتُمْ أَمْ أَذْعَنْتُمْ.

فَقَالَ فِرْعَوْنُ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ، قَادِحًا بِمَنْ جَاءَ بِهِ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}: حَيْثُ قَالَ خِلَافَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَخَالَفَنَا فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، فَالْعَقْلُ عِنْدَهُ وَأَهْلُ الْعَقْلِ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا، أَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَا زَالَتَا مَوْجُودَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ، وَأَنَّهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ، وَالْعَقْلُ عِنْدَهُ أَنْ يُعْبَدَ الْمَخْلُوقُ النَّاقِصُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ! وَالْجُنُونُ عِنْدَهُ أَنْ يُثْبَتَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَالْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَيُدْعَى إِلَى عِبَادَتِهِ، وَزَيَّنَ لِقَوْمِهِ هَذَا الْقَوْلَ، وَكَانُوا سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ، خَفِيفِي الْعُقُولِ، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

 فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُجِيبًا لِإِنْكَارِ فِرْعَوْنَ وَتَعْطِيلِهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}، فَقَدْ أَدَّيْتُ لَكُمْ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ؛ فَمَا بَالُكُمْ تَتَجَاهَلُونَ فِيمَا أُخَاطِبُكُمْ بِهِ؟!

وَفِيهِ إِيمَاءٌ وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي رَمَيْتُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْجُنُونِ أَنَّهُ دَاؤُكُمْ، فَرَمَيْتُمْ أَزْكَى الْخَلْقِ عَقْلًا، وَأَكْمَلَهُمْ عِلْمًا بِالْجُنُونِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الْمَجَانِينُ؛ حَيْثُ ذَهَبَتْ عُقُولُكُمْ عَنْ إِنْكَارِ أَظْهَرِ الْمَوْجُودَاتِ، خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِذَا جَحَدْتُمُوهُ فَأَيَّ شَيْءٍ تُثْبِتُونَ؟! وَإِذَا جَهِلْتُمُوهُ فَأَيَّ شَيْءٍ تَعْلَمُونَ؟! وَإِذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَبِآيَاتِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ تُؤْمِنُونَ؟!

تَاللَّهِ! إِنَّ الْمَجَانِينَ الَّذِينَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ أَعْقَلُ مِنْكُمْ، وَإِنَّ الْأَنْعَامَ السَّارِحَةَ أَهْدَى مِنْكُمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36].

(({أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}: وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِمْ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُهُمْ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِلْحَقِّ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنْ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ مُنْكِرُونَ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُكَذِّبُونَ لِرَسُولِهِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ.

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

- إِمَّا أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ: لَا خَالِقَ خَلَقَهُمْ، بَلْ وُجِدُوا مِنْ غَيْرِ إِيجَادٍ وَلَا مُوجِدٍ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ.

- أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا -أَيْضًا- مُحَالٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوجِدُوا أَنْفُسَهُمْ .

- فَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ، وَبَانَ اسْتِحَالَتُهُمَا؛ تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَإِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ -تَعَالَى-.

وَقَوْلُهُ: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}: وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ يَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِ النَّفْيِ، أَيْ: مَا خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ جِدًّا، بَلِ الْمُكَذِّبُونَ {لا يُوقِنُونَ} أَيْ: لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ تَامٌّ، وَيَقِينٌ يُوجِبُ لَهُمْ الِانْتِفَاعَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ)).

* وَمِنَ الْمَقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي دَحَضَهَا الْقُرْآنُ، وَأَزَالَهَا بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ: نِسْبَةُ الْوَلَدِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30].

((هَذَا إِغْرَاءٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ لِمَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ، وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-.

فَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَالُوا فِي الْعُزَيْرِ: (إِنَّهُ ابْنُ اللهِ)،  تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَأَمَّا ضَلَالُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ فَظَاهِرٌ؛ وَلِهَذَا كَذَّبَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أَيْ: لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ سِوَى افْتِرَائِهِمْ وَاخْتِلَاقِهِمْ، {يُضَاهِئُونَ} أَيْ: يُشَابِهُونَ {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ } أَيْ: مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، ضَلُّوا كَمَا ضَلَّ هَؤُلَاءِ، {قَاتَلَهُمُ اللهُ}: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَنَهُمُ اللهُ، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؟ أَيْ: كَيْفَ يَضِلُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَعْدِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ؟!!)).

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151-152].

(({أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} أَيْ: كَذِبِهِمُ الْوَاضِحِ {لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ})).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].

((اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللهِ-، وَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللهِ، فَأَكْذَبَ اللهُ جَمِيعَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ للهِ وَلَدًا، فَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ} أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا افْتَرَوْا، وَإِنَّمَا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَمُقَدِّرُهُمْ وَمُسَخِّرُهُمْ، وَمُسَيِّرُهُمْ وَمُصَرِّفُهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَالْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ، وَمِلْكٌ لَهُ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُمْ وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ؟! وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مُشَارِكٌ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟! كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88-95]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].

فَقَرَّرَ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَرْبُوبَةٌ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؟!)).

((وَهُمْ قَانِتُونَ لَهُ، مُسَخَّرُونَ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، فَإِذَا كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدَهُ، مُفْتَقِرِينَ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَكُونُ لَهُ وَلَدًا وَالْوَلَدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ؟!

وَاللهُ -تَعَالَى- الْمَالِكُ الْقَاهِرُ، وَأَنْتُمُ الْمَمْلُوكُونَ الْمَقْهُورُونَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ؛ فَكَيْفَ مَعَ هَذَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟!!

هَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ وَأَسْمَجِهِ.

وَالْقُنُوتُ نَوْعَانِ: قُنُوتٌ عَامٌّ: وَهُوَ قُنُوتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ تَحْتَ تَدْبِيرِ الْخَالِقِ، وَخَاصٌّ: وَهُوَ قُنُوتُ الْعِبَادَةِ)).

* وَمِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الْقُرْآنُ، وَدَحَضَهَا بِالْأَدِلَّةِ النَّيِّرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ الْبَاهِرَةِ: الشِّرْكُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، قَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

(({أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا} أَيْ: أَزَعَمَ أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟! أَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ -قَبَّحَهُمُ اللهُ تَعَالَى-، وَتَعَجَّبُوا مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ بِاللهِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَلَقَّوْا عَنْ آبَائِهِمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمَّا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى خَلْعِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِفْرَادِ اللهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ؛ أَعْظَمُوا ذَلِكَ وَتَعَجَّبُوا، وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ})).

قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

((يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ} أَيِ: الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} أَيْ: لَا تَمْلِكُ لَهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنَ النَّفْعِ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ شَيْئًا.

وَيَقُولُونَ قَوْلًا خَالِيًا مِنَ الْبُرْهَانِ: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ: يَعْبُدُونَهُمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَلَامٌ ابْتَكَرُوهُ هُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى -مُبْطِلًا لِهَذَا الْقَوْلِ-: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أَيِ: اللَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وَلَا إِلَهَ مَعَهُ؛ أَفَأَنْتُمْ -يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ- تَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُوجَدُ لَهُ فِيهَا شُرَكَاءُ؟! أَفَتُخْبِرُونَهُ بِأَمْرٍ خَفِيَ عَلَيْهِ، وَعَلِمْتُمُوهُ؟! أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟!

فَهَلْ يُوجَدُ قَوْلٌ أَبْطَلُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالَ الْجُهَّالَ السُّفَهَاءَ أَعْلَمُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!

فَلْيَكْتَفِ الْعَاقِلُ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّهُ يَجْزِمُ بِفَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ: تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَا إِلَهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا هُوَ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ سِوَاهُ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً.

{ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 30])).

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ -إِبْطَالًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ- أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ لَا تَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُ لِعَابِدِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، قَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59-64].

(({أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}: فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ حَتَّى يُعْبَدَ مَعَهُ، وَيُشْرَكَ بِهِ؟!!)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

(({فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}: يَقُولُ: أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَ اللهِ عَلَى شِرْكِكُمْ وَادِّعَائِكُمْ رَبًّا غَيْرَ مَنْ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ، وَعِبَادَتِكُمْ مَعَهُ مَنْ لَا يَرْزُقُكُمْ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَفْعَلُ فِعْلًا؟!!)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا شَامِلٌ لِذِكْرِهَا بِالْقَلْبِ اعْتِرَافًا، وَبِاللِّسَانِ ثَنَاءً، وَبِالْجَوَارِحِ انْقِيَادًا؛ فَإِنَّ ذِكْرَ نِعَمِهِ -تَعَالَى- دَاعٍ لِشُكْرِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى أُصُولِ النِّعَمِ؛ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ، فَقَالَ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.

وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ إِلَّا اللَّهُ؛ نَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: تُصْرَفُونَ مِنْ عِبَادَةِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ لِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقِ الْمَرْزُوقِ)).

وَقَرَّرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَانِيَّتَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَلَا للهِ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، خَالِصَةٌ لَا شِرْكَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهَا، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ مِلْكُهُ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ طَاعَةُ مَالِكِهِ، لَا مَنْ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا)).

* وَمِنَ الْمَقُولَاتِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي رَدَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَأَزَالَهَا بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ: وَصْفُ اللهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ- بِالْبُخْلِ-، قَالَ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ الشَّنِيعَةِ، وَعَقِيدَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ، فَقَالَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أَيْ: عَنِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}: وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِجِنْسِ مَقَالَتِهِمْ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ مُتَضَمِّنٌ لِوَصْفِ اللَّهِ الْكَرِيمِ بِالْبُخْلِ، وَعَدَمِ الْإِحْسَانِ، فَجَازَاهُمْ بِأَنْ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مُنْطَبِقًا عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا أَبْخَلَ النَّاسِ، وَأَقَلَّهُمْ إِحْسَانًا، وَأَسْوَأَهُمْ ظَنًّا بِاللَّهِ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَلَأَتْ أَقْطَارَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ.

وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}: لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِمَّا أَرَادَ؛ فَإِنَّهُ -تَعَالَى- قَدْ بَسَطَ فَضْلَهُ وَإِحْسَانَهُ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَأَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ جُودِهِ، وَأَلَّا يَسُدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَبْوَابَ إِحْسَانِهِ بِمَعَاصِيهِمْ.

فَيَدَاهُ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَيْرُهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِدْرَارٌ، يُفَرِّجُ كَرْبًا، وَيُزِيلُ غَمًّا، وَيُغْنِي فَقِيرًا، وَيَفُكُّ أَسِيرًا، وَيَجْبُرُ كَسِيرًا، وَيُجِيبُ سَائِلًا، وَيُعْطِي فَقِيرًا عَائِلًا، وَيُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ، وَيَسْتَجِيبُ لِلسَّائِلِينَ، وَيُنْعِمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَيُعَافِي مَنْ طَلَبَ الْعَافِيَةَ، وَلَا يَحْرِمُ مِنْ خَيْرِهِ عَاصِيًا، بَلْ خَيْرُهُ يَرْتَعُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَيَجُودُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِالتَّوْفِيقِ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ يَحْمَدُهُمْ عَلَيْهَا، وَيُضِيفُهَا إِلَيْهِمْ وَهِيَ مِنْ جُودِهِ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْوَصْفُ، وَلَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْعَبْدِ، وَيَلْطُفُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَيُوصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ مَا لَا يَشْعُرُونَ بِكَثِيرٍ مِنْهُ.

فَسُبْحَانَ مَنْ كُلُّ النِّعَمِ الَّتِي بِالْعِبَادِ فَمِنْهُ، وَإِلَيْهِ يَجْأَرُونَ فِي دَفْعِ الْمَكَارِهِ، وَتَبَارَكَ مَنْ لَا يُحْصِي أَحَدٌ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَتَعَالَى مَنْ لَا يَخْلُو الْعِبَادُ مِنْ كَرَمِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، بَلْ وَلَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا بَقَاءَ إِلَّا بِجُودِهِ!

وَقَبَّحَ اللَّهُ مَنِ اسْتَغْنَى بِجَهْلِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، بَلْ لَوْ عَامَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ الْقَائِلِينَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ حَالُهُ كَحَالِهِمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِمْ لَهَلَكُوا وَشَقُوا فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ، وَهُوَ -تَعَالَى- يَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَصْفَحُ، وَيُمْهِلُهُمْ وَلَا يُهْمِلُهُمْ)).

((الْقُرْآنُ يَرُدُّ عَلَى الشُّبُهَاتِ.. دِفَاعٌ إِلَهِيٌّ عَنْ كِتَابِهِ))

لَقَدْ أَوْلَى الْقُرْآنُ عِنَايَةً كَبِيرَةً بِالرَّدِّ عَلَى شُبُهَاتِ مُنْكِرِي الرِّسَالَاتِ وَالْكُتُبِ، وَدَحْضِ الْمَقُولَاتِ الْبَاطِلَةِ حَوْلَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

((هَذَا تَشْنِيعٌ عَلَى مَنْ نَفَى الرِّسَالَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَا أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَمَنْ قَالَ هَذَا فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ؛ إِذْ هَذَا قَدْحٌ فِي حِكْمَتِهِ، وَزَعْمٌ أَنَّهُ يَتْرُكُ عِبَادَهُ هَمَلًا لَا يَأْمُرُهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ، وَنَفْيٌ لِأَعْظَمِ مِنَّةٍ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ؛ وَهِيَ الرِّسَالَةُ الَّتِي لَا طَرِيقَ لِلْعِبَادِ إِلَى نَيْلِ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْفَلَاحِ إِلَّا بِهَا؛ فَأَيُّ قَدْحٍ فِي اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟!

قُلْ لَهُمْ مُلْزِمًا بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ، وَقَرِّرْهُمْ بِمَا بِهِ يُقِرُّونَ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}: وَهُوَ التَّوْرَاةُ الْعَظِيمَةُ نُورًا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَهَادِيًا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي شَاعَ وَذَاعَ، وَمَلَأَ ذِكْرُهُ الْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ؛ حَتَّى أَنَّهُمْ جَعَلُوا يَتَنَاسَخُونَهُ فِي الْقَرَاطِيسِ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِمَا شَاءُوا، فَمَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْهُ أَبْدَوْهُ وَأَظْهَرُوهُ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ أَخْفَوْهُ وَكَتَمُوهُ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ.

{وَعُلِّمْتُمْ} مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْجَلِيلِ {مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ}، فَإِذَا سَأَلْتَهُمْ عَمَّنْ أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؛ فَأَجِبْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَ {قُلِ اللَّهُ} الَّذِي أَنْزَلَهُ؛ فَحِينَئِذٍ يَتَّضِحُ الْحَقُّ، وَيَنْجَلِي مِثْلَ الشَّمْسِ، وَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، ثُمَّ إِذَا أَلْزَمْتَهُمْ بِهَذَا الْإِلْزَامِ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أَيِ: اتْرُكْهُمْ يَخُوضُوا فِي الْبَاطِلِ، وَيَلْعَبُوا بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)).

وَأَوْرَدَ اللهُ شُبُهَاتِ الْمُشَكِّكِينَ فِي الْقُرْآنِ شُبْهَةً شُبْهَةً، وَأَزَالَهَا وَدَحَضَهَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ ((الْكَافِرِينَ بِاللهِ قَالُوا: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ، وَأَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ آخَرُونَ، وَقَالُوا عَنِ الْقُرْآنِ: هُوَ أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ الْمُسَطَّرَةُ فِي كُتُبِهِمْ، اسْتَنْسَخَهَا مُحَمَّدٌ، فَهِيَ تُقْرَأُ عَلَيْهِ صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَالَ اللهُ: قُلْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: إِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُوَ اللهُ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 4-6].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ سَخَافَةِ عُقُولِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ:{إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ}: أَيْ: كَذِبٌ {افْتَرَاهُ}: يَعْنُونَ النَّبِيَّ ﷺ، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أَيْ: وَاسْتَعَانَ عَلَى جَمْعِهِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} أَيْ: فَقَدِ افْتَرَوْا هُمْ قَوْلًا بَاطِلًا هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ.

{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يَعْنُونَ: كُتُبَ الْأَوَائِلِ، اسْتَنْسَخَهَا {فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ} أَيْ: تُقْرَأُ عَلَيْهِ {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أَيْ: فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ.

وَهَذَا الْكَلَامُ -لِسَخَافَتِهِ وَكَذِبِهِ وَبَهْتِهِ مِنْهُمْ- كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُنْ يُعَانِي شَيْئًا مِنَ الْكِتَابَةِ، لَا فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَقَدْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَوْلِدِهِ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ اللهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ يَعْرِفُونَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ، وَصِدْقَهُ، وَبِرَّهُ وَأَمَانَتَهُ، وَنَزَاهَتَهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَهُ فِي صِغَرِهِ إِلَى أَنْ بُعِثَ إِلَّا الْأَمِينَ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِدْقِهِ وَبِرِّهِ.

فَلَمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ نَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَرَمَوْهُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُ مِنْهَا، وَحَارُوا مَاذَا يَقْذِفُونَهُ بِهِ، فَتَارَةً مِنْ إِفْكِهِمْ يَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: شَاعِرٌ ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: كَذَّابٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي جَوَابِ مَا عَانَدُوا هَاهُنَا وَافْتَرَوْا: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِخْبَارًا حَقًّا صِدْقًا، مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ، مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا {أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} أَيِ: اللهُ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ السَّرَائِرَ كَعِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24-25].

((أَيْ: مَا هَذَا كَلَامُ اللهِ، بَلْ كَلَامُ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ -أَيْضًا- كَلَامَ الْبَشَرِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كَلَامُ الْفُجَّارِ مِنْهُمْ وَالْأَشْرَارِ مِنْ كُلِّ كَاذِبٍ سَحَّارٍ.

فَتَبًّا لَهُ، مَا أَبْعَدَهُ مِنَ الصَّوَابِ، وَأَحْرَاهُ بِالْخَسَارَةِ وَالتَّبَابِ!

كَيْفَ يَدُورُ فِي الْأَذْهَانِ، أَوْ يَتَصَوَّرُهُ ضَمِيرُ كُلِّ إِنْسَانٍ؛ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْكَلَامِ وَأَعْظَمُهُ كَلَامُ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الْمَاجِدِ الْكَرِيمِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ الْفُقَرَاءِ النَّاقِصِينَ؟!

أَمْ كَيْفَ يَتَجَرَّأُ هَذَا الْكَاذِبُ الْعَنِيدُ عَلَى وَصْفِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ لِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى؟!)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ كِتَابًا عَرَبِيًّا عَلَى الرَّسُولِ الْعَرَبِيِّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ لَهُمْ زِيَادَةَ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَالتَّلَقِّيَ لَهُ وَالتَّسْلِيمَ، وَأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا بِلُغَةِ غَيْرِ الْعَرَبِ لَاعْتَرَضَ الْمُكَذِّبُونَ وَقَالُوا: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أَيْ: هَلَّا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ، وَوُضِّحَتْ، وَفُسِّرَتْ؟! {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ مُحَمَّدٌ عَرَبِيًّا، وَالْكِتَابُ أَعْجَمِيًّا؟! هَذَا لَا يَكُونُ.

فَنَفَى اللهُ -تَعَالَى- كُلَّ أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ شُبْهَةٌ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ عَنْ كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُ بِكُلِّ وَصْفٍ يُوجِبُ لَهُمْ الِانْقِيَادَ، وَلَكِنِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَفَّقُونَ انْتَفَعُوا بِهِ وَارْتَفَعُوا، وَغَيْرُهُمْ بِالْعَكْسِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ)).

وَتَحَدَّى اللهُ الْمُعَارِضِينَ لِكِتَابِهِ الْمُنْكِرِينَ لَهُ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].

((أَيْ: إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَّكْتُمْ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَقُلْتُمْ كَذِبًا وَمَيْنًا: إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ؛ فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ؛ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، أَيْ: مِنْ جِنْسِ الْقُرْآنِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ.

وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى- تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ؛ فَلْتُعَارِضُوهُ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَاسْتَعِينُوا بِمَنْ شِئْتُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].

ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ، فَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ -وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ- تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقَالَ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الْآيَةَ. [البقرة: 24].

هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارُهُمْ وَمُعَلَّقَاتُهُمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ؛ وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ، وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ، وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ، وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ، وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ، وَأَشَدَّهُمْ لَهُ انْقِيَادًا)).

وَقَدْ شَهِدَ اللهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، وَكَفَى بِشَهَادَةِ اللهِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّهُ كَلَامُهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].

((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أَيْ: وَإِنْ كَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِمَّنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ؛ فَاللهُ يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أَيْ: فِيهِ عِلْمُهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَ الْعِبَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ -تَعَالَى- الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ؛ إِلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ اللهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وَقَالَ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110])).

((دِفَاعُ الْقُرْآنِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ))

أَثَارَ الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ وَبِرِسَالَاتِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ؛ إِنْكَارًا لِنُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ، فَرَدَّ الْقُرْآنُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ، وَدَحَضَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ.

* فَمِنَ الْمَقُولَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَنِ الْمُكَذِّبِينَ: تَكْذِيبُهُمُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْحُجَّةِ لِرِسَالَةِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].

(({وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا}: أَيْ: يُكَذِّبُونَكَ وَيُكَذِّبُونَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، {قُلْ}: لَهُمْ إِنْ طَلَبُوا عَلَى ذَلِكَ شَهِيدًا: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: وَشَهَادَتُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ فَبِمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى أَصْدَقِ خَلْقِهِ مِمَّا يُثْبِتُ بِهِ رِسَالَتَهُ، وَأَمَّا فِعْلُهُ فَلِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَيَّدَ رَسُولَهُ، وَنَصَرَهُ نَصْرًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ وَقُدْرَةِ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَهَذَا شَهَادَةٌ مِنْهُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَالتَّأْيِيدِ، وَأَمَّا إِقْرَارُهُ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الرَّسُولَ عَنْهُ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَأَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَلَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ وَكَرَامَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ فَلَهُ النَّارُ وَالسُّخْطُ، وَحَلَّ لَهُ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَاللَّهُ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ .

{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}: وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ؛ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلرَّسُولِ، مَنْ آمَنَ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ صَرَّحَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَمَنْ كَتَمَ ذَلِكَ فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُ أَنَّ عِنْدَهُ شَهَادَةً أَبْلَغَ مِنْ خَبَرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَرَدَّ اسْتِشْهَادَهُ بِالْبُرْهَانِ، فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ شَهَادَةً مَكْتُومَةً، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاسْتِشْهَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ، وَكُلُّ أَمْرٍ إِنَّمَا يُسْتَشْهَدُ فِيهِ أَهْلُهُ وَمَنْ هُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ؛ كَالْأُمِّيِّينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِشْهَادِهِمْ؛ لِعَدَمِ خِبْرَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4].

وَعَجِبَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ بَشَرٌ مِنْهُمْ يُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ اللهِ بَعْدَ أَنْ بَلَّغَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ، وَأَقَامَ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَقَالَ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، الْمُعَانِدُونَ الْمُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، السَّاتِرُونَ لِأَدِلَّةِ الْحَقِّ وَبَرَاهِينِهِ الْوَاضِحَةِ.. قَالُوا: هَذَا سَاحِرٌ مُمَوِّهٌ شَدِيدُ الْكَذِبِ.

* وَأَبْطَلَ الْقُرْآنُ مَزَاعِمَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ سَحَرَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52-55].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُسَلِّيًا نَبِيَّهُ ﷺ: وَكَمَا قَالَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ الْمُكَذِّبُونَ الْأَوَّلُونَ لِرُسُلِهِمْ: {كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}!

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أَيْ: أَوَصَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؟!

{بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أَيْ: لَكِنْ هُمْ قَوْمٌ طُغَاةٌ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ مُتَأَخِّرُهُمْ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُهُمْ)).

* وَمِنَ الْأَبَاطِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: إِنْكَارُهُمْ لِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ؛ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَصْلُحُ لِلْبَشَرِ.

قَالَ -تَعَالَى- عَنْ قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33].

وَقَالَ عَنْ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186].

وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَلَيْسَ لَكَ مِنَ الصِّفَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نِظَامِ الْبَشَرِ مَا يُؤَهِّلُكَ لِأَنْ تَكُونَ نَبِيًّا تَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنَ اللهِ، وَنُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّنَا نَظُنُّكَ كَاذِبًا مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.

* وَدَافَعَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَنْ مَرْيَمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- مِنَ الِاتِّهَامَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي اتَّهَمَهَا بِهَا الْيَهُودُ، وَبَرَّأَهَا الْقُرْآنُ مِنَ افْتِرَاءَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَادِّعَاءَاتِهِمُ الْفَاجِرَةِ الظَّالِمَةِ الْكَاذِبَةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 155-156].

وَكَذَلِكَ لَعَنَّاهُمْ وَطَرَدْنَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا، وَسَخِطْنَا عَلَيْهِمْ، وَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا -يَعْنِي: الْيَهُودَ-؛ بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمْ قُدْرَةَ اللهِ عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ كَذِبًا وَبَاطِلًا فَاحِشًا؛ حَتَّى رَمَوْهَا بِالزِّنَا مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى بَرَاءَتِهَا.

قَالَ -تَعَالَى- فِي بَرَاءَتِهَا: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [مريم: 27-35].

لَاذَتْ بِالصَّمْتِ، وَأَشَارَتْ مَرْيَمُ إِلَى عِيسَى أَنْ كَلِّمْهُمْ، وَلَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا وَتَعَجَّبُوا، وَقَالُوا مُسْتَنْكِرِينَ وَمُتَعَجِّبِينَ: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ لَا يَزَالُ فِي مَهْدِهِ طِفْلًا رَضِيعًا؟!

قَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي مَهْدِهِ: إِنِّي عَبْدُ اللهِ؛ فَأَنَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَعَبْدٌ كَسَائِرِ عَبِيدِهِ، سَبَقَ فِي قَضَائِهِ بِأَنْ يُؤْتِيَنِي الْإِنْجِيلَ، وَبِأَنْ يَجْعَلَنِي نَبِيًّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْوَحْيِ.

فِي الْآيَةِ: إِعْلَانُ بَرَاءَتِهَا وَطَهَارَتِهَا وَعِفَّتِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلَّ عِنَايَةِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِذِ اصْطَفَاهَا لِحَمْلِ هَذَا الْوَلِيدِ الْمُبَارَكِ.

* وَرَدَّ الْقُرْآنُ وَكَذَّبَ دَعْوَى الْيَهُودِ قَتْلَهُمْ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 157-159].

وَبِسَبَبِ ادِّعَائِهِمُ الْكَاذِبِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَسُولَ اللهِ وَصَلَبْنَاهُ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا يُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ، وَارْتِكَابِ أَفْظَعِ الْجَرَائِمِ، وَهُمْ مَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ.

وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ كَمَا زَعَمُوا تَبَجُّحًا بِالْجَرِيمَةِ، وَمَا صَلَبُوهُ كَمَا ادَّعَوْا وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَلْقَى اللهُ شَبَهَ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى قُتِلَ غَيْرُهُ وَصُلِبَ.

وَإِنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ عِيسَى لَفِي تَرَدُّدٍ وَحَيْرَةٍ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ، مَا لَهُمْ دَلِيلٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنُونَ أَنَّهُ هُوَ، فَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ بِقَتْلِ عِيسَى عِلْمًا تَامًّا كَامِلًا، بَلْ كَانُوا فِي ذَلِكَ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ.

إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا عِيسَى، وَلَمْ يَصْلُبُوهُ، وَلَكِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- رَفَعَهُ إِلَيْهِ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ، وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ؛ فَهُوَ حَيٌّ فِي السَّمَاءِ، وَسَيَنْزِلُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ.

وَكَانَ اللهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ قَوِيًّا غَالِبًا فِي اقْتِدَارِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، حَكِيمًا فِي إِنْجَاءِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْيَهُودِ.

وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ السَّمَاءِ قُبَيْلَ السَّاعَةِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِيمَانًا صَحِيحًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَهَذَا الْإِيمَانُ سَيَكُونُ قَبْلَ مَوْتِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَيًّا، وَسَيَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ لِيُقِيمَ أَحْكَامَ الشَّرْيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- شَاهِدًا عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ وَطَعَنُوا فِيهِ، وَعَلَى النَّصَارَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ رَبًّا، وَأَشْرَكُوا بِهِ، وَيَشْهَدُ عَلَى تَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ مِنْهُمْ وَآمَنَ بِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاللَّهِ! لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، ولَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((دَحْضُ الْقُرْآنِ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ حَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ ))

إِنَّهُ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَوْحَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ مَا أَوْحَى تَبَيَّنَ لِلرَّسُولِ ﷺ حَجْمُ الْعَدَاوَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.

وَقَدْ أَجْرَى بَيَانَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عِنْدَمَا ذَهَبَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِرَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَيْهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).

قَالَ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ)).

قَالَ: ((مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)).

وَهَذِهِ الْعَدَاوَةُ شَمِلَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي ذَاتِهِ فِي بَدَنِهِ، وَشَمِلَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي عَقْلِهِ وَرُوحِهِ وَقَلْبِهِ، وَشَمِلَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَشَمِلَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي الْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.

وَأَثَارَ الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَحَوْلَ الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَاتَّهَمُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقْلِهِ، وَاتَّهَمُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي سُلُوكِهِ؛ حَيْثُ إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَسْلُكُ فِي أَمْرِ هَذَا الْوَحْيِ الْمَسْلَكَ الْمَعِيبَ، وَأَنَّهُ ﷺ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.

وَهَذِهِ الشُّبُهَاتُ الَّتِي ظَهَرَ أَمْرُهَا، وَاتَّضَحَ غِشْيَانُهَا لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ.. هَذِهِ الشُّبُهَاتُ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْعَدَاوَةِ حَوْلَ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ ﷺ.

وَمَا يَزَالُ النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ مِمَّنْ أَجْرَمَ، وَلَمْ يَرْقُبْ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، مَا زَالَ النَّاسُ مِمَّنْ رَكِبَ الشَّيْطَانُ أَكْتَافَهُمْ، وَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي عُقُولِهِمْ، مَا زَالَ النَّاسُ عَلَى امْتِدَادِ الْأَدْهَارِ وَكَرِّ الْأَعْصَارِ يُثِيرُونَ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ.

وَلَوْ أَنَّنَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِي كَثِيرٍ وَلَا قَلِيلٍ عَمَّا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالَّتِي دَافَعَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَنِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ بِدَحْضِهَا وَتَفْنِيدِهَا وَبَيَانِ زَيْفِهَا، وَهَذَا مِنْ كَبِيرِ عِنَايَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَبِيِّهِ ﷺ؛ دَفْعُ شُبُهَاتِ وَأَكَاذِيبِ الْمُتَقَوِّلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ حَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ بِقُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

وَالنَّاسُ هُمُ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا دَفَعَ شُبُهَاتِ الْمُكَذِّبِينَ وَأَكَاذِيبَ الْمُعَانِدِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ وَضَعَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمِقْيَاسَ، وَحَدَّ لَنَا الْحَدَّ، وَوَضَّحَ لَنَا الْأَمْرَ، فَمَا تَكَادُ شُبْهَةٌ حَدِيثَةٌ تَخْرُجُ عَنْ شُبْهَةٍ قَدِيمَةٍ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.

وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ رَجَعُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَتَفَكَّرُوا فِي ثَنَايَا آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ وَبَرَاهِينِهِ الْجَلِيلَةِ؛ لَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ دَفَعَ عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ تَقَوُّلَ الْمُتَقَوِّلِينَ، وَادِّعَاءَ الْمُدَّعِينَ، وَأَظْهَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

((قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ۖ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 4-6].

ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذَا قَدْحَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِدْلَاءَهُمْ بِهَذِهِ الشُّبَهِ الَّتِي يَعْلَمُونَ وَيَعْلَمُ النَّاسُ بُطْلَانَهَا، فَزَعَمُوا أَنَّهُ افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ، وَأَنَّهُ سَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ!

فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الْمُنْتَهِيَةَ فِي الْقُبْحِ بِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَجَرَاءَةٌ يَعْجَبُ السَّامِعُ كَيْفَ سَوَّلَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ الْهُرَاءَ، وَأَنَّهُ مِنَ الزُّورِ وَالظُّلْمِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِلَا شَكٍّ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ الَّتِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا رَحَلَ فِي طَلَبِهِ، وَقَدْ نَشَأَ بَيْنَ أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَقَدْ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَطْرُقِ الْعَالَمَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَى مَعَانِيَ وَأَغْزَرُ عِلْمًا، وَلَا أَبْلَغُ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَأَتَمُّ مِنْ حُكْمِهِ وَحِكَمِهِ وَمَبَانِيهِ.

وَقَدْ تَحَدَّى أَقْصَاهُمْ وَأَدْنَاهُمْ، وَأَفْرَادَهُمْ وَجَمَاعَتَهُمْ، وَأَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَصَرَّحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ مِثْلِهِ فَهُمْ صَادِقُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ، فَعَجَزُوا غَايَةَ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَاتَّضَحَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ عِيُّهُمْ وَعَجْزُهُمْ، وَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ دَعْوَاهُمْ.

وَكُلُّ مَنْ حَاوَلَ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ يُعَارِضُ بِهِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَارَ كَلَامُهُ ضُحْكَةً لِلصِّبْيَانِ؛ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعُقُولِ، وَكُلُّ شُبْهَةٍ يُدْلُونَ بِهَا فِي مُعَارَضَةِ الرَّسُولِ مِنْ حِينَ يُوَجَّهُ لَهَا النَّظَرُ الصَّحِيحُ تَضْمَحِلُّ وَتَزْهَقُ، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].

وَمِنْ جَرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، اكْتَتَبَهَا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الْمَسْطُورَةِ، فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا؛ فَيَا وَيْحَهُمْ!

مَنِ الَّذِي عِنْدَهُمْ فِي بَطْنِ مَكَّةَ يُمْلِيهَا؟!

وَهَلْ يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَّةَ أَوْ مَا حَوْلَهَا كُتُبٌ تُمْلَى؟!

وَلَوْ فُرِضَ وَقُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ أَحَدٌ؛ لِمَ يَخْتَصُّ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ بِالْأَخْذِ عَنْهُ؟!

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ مَقَالَةَ زُورٍ وَافْتِرَاءٍ لَا يَخْفَى كَذِبُهَا عَلَى أَحَدٍ؛ تَشَبَّثُوا وَقَالُوا: كَانَ مُحَمَّدٌ يَجْلِسُ إِلَى قَيْنٍ حَدَّادٍ فِي مَكَّةَ فَارِسِيٍّ فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ؛ فَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]: بَالِغٌ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ نِهَايَتَهَا وَغَايَتَهَا.

فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ: أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْ هَذَا الْأَبْكَمِ أَعْجَمِيِّ اللِّسَانِ، الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ عِلْمٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَلَا مَعْرِفَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا، وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعَ كَمَالِ بَلَاغَتِهِ حَوَى عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ، وَالْمُكَابَرَةُ الَّتِي تَجَرَّءُوا عَلَيْهَا قَدْ عَلِمَ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ كَذِبَهَا وَافْتِرَاءَهَا، وَكَانَ جَمِيعُ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ لَهُمْ وَرَثَةً، يَقُومُونَ بِالْعَدَاوَةِ لِلرَّسُولِ وَالدِّينِ، وَيُعْطُونَهَا حَقَّهَا وَلَوْ جَلَبَتْ عَلَيْهِمْ مَا جَلَبَتْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْمُكَابَرَةِ.

وَقَدْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ -الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ ﷺ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَعْدَاءِ الْأَوَّلِينَ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَكَرِّ الْعُصُورِ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، كَأُولَئِكَ الْمُسْتَشْرِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَصِّرِينَ الَّذِينَ يَتَّهِمُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُ إِنَّمَا افْتَرَى هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، وَإِنَّمَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ تَكَلَّمَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَوْحَى بِهِ إَلَيْهِ-.. وَقَدْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ مُكَابَرَةَ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا تَكْذِيبَ الرَّسُولِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَقَالَتَهُمْ قَدْ بَطُلَتْ وَاضْمَحَلَّتْ، وَبَانَ زُورُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، صَاغَهَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِعِبَارَةٍ مَوَّهُوهَا، وَظَنُّوا أَنَّهَا بِهَذَا التَّمْوِيهِ تَرُوجُ، فَزَعَمُوا -وَمَا أَسْمَجَهُ وَأَكْذَبَهُ مِنْ زَعْمٍ!- أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْلُو بِالطَّبِيعَةِ: السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، فَيُعْطِيهَا لُبَّهُ، وَيُنَاجِيهَا بِقَلْبِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَصْنَافُ التَّخَايِيلِ، فَيَأْتِي بِهَا إِلَى النَّاسِ زَاعِمًا أَنَّهَا مِنْ وَحْيِ اللهِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ، وَأَنَّ هَذِهِ التَّخْيِيلَاتِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَالِيَةِ الَّتِي يَعْتَادُ الْإِتْيَانَ بِهَا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْحِجَى.

وَلَمَّا رَأَوْا آثَارَهَا الْجَلِيلَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتَعَالِيمِهِ وَتَقْوِيمِهِ لِلْأُمَمِ، وَبَهَرَهُمْ هَذَا النُّورُ الْعَظِيمُ؛ لَجَأُوا إِلَى هَذَا التَّحَذْلُقِ الَّذِي مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ صَوَّرُوا النَّبِيَّ ﷺ وَرَقُّوهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ، كَمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْإِفْرِنْسِيِّينَ، وَتَلَقَّاهَا عَنْهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْعَصْرِيِّينَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنْكَارِ وُجُودِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ إِلَّا عَمَلُ الطَّبِيعَةِ!

وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُزَوَّرَ أَعْظَمُ مُكَابَرَةً وَمُبَاهَتَةً مِنْ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ هَذَا الِافْتِرَاءَ الَّذِي وَلَدُوهُ بَعْدَ مِئَاتِ السِّنِينَ أَوْضَحُ ضَلَالًا وَظُلْمًا وَجَرَاءَةً وَوَقَاحَةً مِنْ زُورِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرَاذِلَ الَّذِينَ أُعْجِبُوا بِآرَائِهِمْ وَتَاهُوا بِعُقُولِهِمْ قَدْ بَيَّنَ اللهُ كَذِبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ، وَأَنَّ عُقُولًا وَلَدَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمُؤْتَفَكَةَ، وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَالْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةَ لَعُقُولٌ سَافِلَةٌ، وَآرَاءٌ سَاقِطَةٌ، يُعْرَفُ فَسَادُهَا بِنَتَائِجِهَا وَمُكَابَرَتِهَا، وَإِنْكَارِهَا أَجْلَى الْحَقَائِقِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6].

فَالرَّبُّ الْقَادِرُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأَسْرَارِ، وَعَلِمَ أَحْوَالَ الْعِبَادِ حَاضِرَهَا وَمُسْتَقْبَلَهَا، فَأَنْزَلَهُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَجَعَلَهُ مَنَارًا وَعَلَمًا يَهْتَدِي بِهِ الْمُهْتَدُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ.

فَجَمِيعُ الْحَقَائِقِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا هَذَا الرَّسُولُ وَهَذَا الْقُرْآنُ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ نَافِعَةٌ لِلْعِبَادِ، لَا يَأْتِي مِنَ الْحَقَائِقِ مَا يُغَيِّرُهَا، وَمُحَالٌ أَنْ يَأْتِيَ شَيْءٌ أَصْلَحُ مِنْهَا، أَوْ مِثْلُهَا، أَوْ يُقَارِبُهَا: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وَمِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ: أَنَّهُ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمَّا أَيَّدَ مَنْ جَاءَ بِهَا بِنَصْرِهِ وَحُجَجِهِ، وَرَأَى الْعِبَادُ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ، الَّتِي يُتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ ضَلَالٌ؛ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ أَصْدَقُ الْخَلْقِ، وَأَنْصَحُهُمْ وَأَبَرُّهُمْ، وَأَعْلَمُهُمْ، وَأَخْشَاهُمْ وَأَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ أَكْذَبُ الْخَلْقِ وَأَغَشُّهُمْ، وَأَعْظَمُهُمْ جَهْلًا وَضَلَالًا، وَغَيًّا وَفَسَادًا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَمِنْ مُكَابَرَةِ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا يَتَنَاقَضُونَ فِي مَقَالَاتِهِمْ، وَيَتَفَنَّنُونَ فِي إِفْكِهِمُ الْمَكْشُوفِ كَذِبُهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَسْحُورٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَوْ كَانَ صَادِقًا لَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ تُؤَيِّدُهُ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا لَأَغْنَاهُ اللهُ عَنِ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَجَعَلَ لَهُ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارًا وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً!

وَكُلٌّ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ -مَعَ تَنَاقُضِهَا- لَيْسَتْ مِنَ الشُّبَهِ؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا مِنَ الْحُجَجِ؛ وَلِهَذَا قَالَ -تَعَالَى- مُعَجِّبًا: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48].

وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَذْكُرُهَا اللهُ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ هِيَ بِنَفْسِهَا تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ بُطْلَانُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى، وَإِذَا وَزَنْتَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْجَارِيَةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ رَأَيْتَ نَظِيرَهَا وَأَقْبَحَ مِنْهَا جَارِيَةً مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].

فَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الصَّلَاحُ الْمُطْلَقُ أَكْبَرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَكْبَرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِبْطَالِ كُلِّ مَا نَاقَضَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُؤْتَفِكِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم: 1-7].

يُقْسِمُ -تَعَالَى- بِالْقَلَمِ، وَالْقَلَمُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ شَامِلٌ لِلْأَقْلَامِ الَّتِي تُكْتَبُ بِهَا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ، وَيُسْطَرُ بِهَا الْمَنْثُورُ وَالْمَنْظُومُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ وَمَا يُسْطَرُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْسِمَ بِهَا عَلَى بَرَاءَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْجُنُونِ؛ فَنَفَى عَنْهُ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ؛ إِذْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ، وَالرَّأْيِ السَّدِيدِ، وَالْكَلَامِ الْفَصْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَسَطَرَهُ الْأَنَامُ، وَهَذَا هُوَ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا.

ثُمَّ ذَكَرَ سَعَادَتَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أَيْ: لَأَجْرًا عَظِيمًا -كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ- غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُتَتَابِعٌ مُسْتَمِرٌّ؛ وَذَلِكَ لِمَا أَسْلَفَهُ ﷺ مِنَ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّفِيعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]: فَعَلَا ﷺ بِخُلُقِهِ الْعَظِيمِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَفَاقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْعَظِيمُ -كَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- هَذَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَثُّ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ.

فَكَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ امْتِثَالًا لَهَا وَسَبْقًا إِلَيْهَا وَإِلَى تَكْمِيلِهَا، فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا وَأَعْلَاهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، فَكَانَ سَهْلًا لَيِّنًا قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَمْرًا وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.

وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةٍ وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ.

فَلَمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ بِأَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَكَانَ أَعْدَاؤُهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَفْتُونٌ قَالَ: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5-6].

وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ أَهْدَى النَّاسِ، وَأَكْمَلَهُمْ، وَأَنْفَعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ أَضَلُّ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَتَنُوا عِبَادَ اللهِ، وَأَضَلُّوهُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، وَكَفَى بِعِلْمِ اللهِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ الْمُحَاسِبُ الْمُجَازِي، وَ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم: 7].

وَفِيهِ تَهْدِيدٌ لِلضَّالِّينَ، وَوَعْدٌ لِلْمُهْتَدِينَ، وَبَيَانٌ لِحِكْمَةِ اللهِ فِي هِدَايَتِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِ)).

((نَقْضُ الْقُرْآنِ الدَّعَاوَى حَوْلَ الْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ))

لَقَدْ أَنْكَرَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مَقُوَلَاتٍ بَاطِلَةً، وَدَحَضَ شُبُهَاتٍ كَاذِبَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

* وَمِنْ ذَلِكَ: تَسْمِيَةُ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا؛ فَمِنَ الِافْتِرَاءَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَمَّ الْقُرْآنُ قَائِلِيهَا: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ -تَعَالَى اللهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-.

أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19].

حَكَمَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَأَثْبَتُوا الْأُنُوثَةَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ دَلِيلٌ خَبَرِيٌّ عَنِ اللهِ، وَدُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شُهُودٌ حِسِّيٌّ؛ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حِينَ خُلِقُوا، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ إِنَاثٌ؟!

سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ إِنْ شَهِدُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُمْ إِنَاثًا بِشُهُودٍ بَصَرِيٍّ، وَيُسْأَلُونَ عَنْ شَهَادَتِهِمُ الْكَاذِبَةِ هَذِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُجَازَوْنَ عَلَيْهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا ۚ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 149-157].

فَأَبْطَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ادِّعَاءَهُمْ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا}، {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ}.

* وَأَبْطَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ شُبْهَةَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَالْجَزَاءِ، وَالْحِسَابِ؛ فَقَدْ أَنْكَرَ الْكَافِرُونَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ.

وَهَذَا الزَّعْمُ بَاطِلٌ، دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ الشَّرْعُ، وَالْحِسُّ، وَالْعَقْلُ.

أَمَّا مِنَ الشَّرْعِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].

وَقَدِ اتَّفَقَتْ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْحِسُّ؛ فَقَدْ أَرَى اللهُ عِبَادَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: قِصَّةُ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ مَيِّتَةٍ، فَاسْتَبْعَدَ أَنْ يُحْيِيَهَا اللهُ -تَعَالَى-، فَأَمَاتَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ، وَفِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ حِينَ سَأَلَ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِى الْمَوْتَى، فَأَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ يَذْبَحَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَيُفَرِّقَهُنَّ أَجْزَاءً عَلَى الْجِبَالِ الَّتِي حَوْلَهُ، ثُمَّ يُنَادِيَهُنَّ، فَتَلْتَئِمُ الْأَجْزَاءُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَأْتِينَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ سَعْيًا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 259-260].

((هَذَانِ دَلِيلَانِ عَظِيمَانِ مَحْسُوسَانِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ،  وَاحِدٌ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ شَاكٍّ فِي الْبَعْثِ -عَلَى الصَّحِيحِ-، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَالْآخَرُ عَلَى يَدِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَهَذَا الرَّجُلُ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ قَدْ دُمِّرَتْ تَدْمِيرًا، وَخَوَتْ عَلَى عُرُوشِهَا، قَدْ مَاتَ أَهْلُهَا، وَخَرِبَتْ عِمَارَتُهَا، فَقَالَ -عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ وَالِاسْتِبْعَادِ-: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ: ذَلِكَ بَعِيدٌ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، يَعْنِي: وَغَيْرُهَا مِثْلُهَا، بِحَسَبِ مَا قَامَ بِقَلْبِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَأَرَادَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ وَرَحْمَةَ النَّاسِ؛ حَيْثُ أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، وَكَانَ مَعَهُ حِمَارٌ، فَأَمَاتَهُ مَعَهُ، وَمَعَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَأَبْقَاهُمَا اللَّهُ بِحَالِهِمَا كُلَّ هَذِهِ الْمُدَدِ الطَّوِيلَةِ، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَعْوَامُ الْمِائَةُ بَعَثَهُ اللَّهُ فَقَالَ: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ، فَقَالَ اللَّهُ: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُجَاوَبَةَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ.

وَمِنْ تَمَامِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ وَبِالنَّاسِ: أَنَّهُ أَرَاهُ الْآيَةَ عِيَانًا؛ لِيَقْتَنِعَ بِهَا، فَبَعْدَمَا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ قَدْ أَحْيَاهُ اللَّهُ قِيلَ لَهُ: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أَيْ: لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي هَذِهِ الْمُدَدِ الطَّوِيلَةِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ -خُصُوصًا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّهُ فَاكِهَةٌ وَعَصِيرٌ- لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَغَيَّرَ، وَهَذَا قَدْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، وَقِيلَ لَهُ: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}: فَإِذَا هُوَ قَدْ تَمَزَّقَ وَتَفَرَّقَ، وَصَارَ عِظَامًا نَخِرَةً، {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أَيْ: نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَنَصِلُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بَعْدَمَا تَفَرَّقَتْ، {ثُمَّ نَكْسُوهَا} بَعْدَ الِالْتِئَامِ {لَحْمًا}، ثُمَّ نُعِيدُ فِيهِ الْحَيَاةَ.

{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} رَأْيَ عَيْنٍ لَا يَقْبَلُ الرَّيْبَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فَاعْتَرَفَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَصَارَ آيَةً لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا مَوْتَهُ وَمَوْتَ حِمَارِهِ، وَعَرَفُوا قَضِيَّتَهُ، ثُمَّ شَاهَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْكُبْرَى، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الرَّجُلِ.

وَأَمَّا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُؤْمِنٌ، أَوْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِمَّا عُزَيْرٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} يَعْنِي: كَيْفَ تُعَمَّرُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَرَابًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ لِيُرِيَهُ مَا يُعِيدُ لِهَذِهِ الْقَرْيَةِ مِنْ عِمَارَتِهَا بِالْخَلْقِ، وَأَنَّهَا عُمِّرَتْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَصَارَتْ عَامِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ دَامِرَةً؛ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، بَلْ يُنَافِيهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى؛ فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ بِرُجُوعِ الْبُلْدَانِ الدَّامِرَةِ إِلَى الْعِمَارَةِ، وَهَذِهِ لَمْ تَزَلْ تُشَاهَدُ، تُعَمَّرُ قُرًى وَمَسَاكِنُ، وَتُخَرَّبُ أُخْرَى.

وَإِنَّمَا الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ فِي إِحْيَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِحْيَاءِ حِمَارِهِ، وَإِبْقَاءِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَعَفَّنْ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ إِلَّا بَعْدَمَا شَاهَدَ هَذِهِ الْحَالَ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ عِيَانًا.

وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الْآخَرُ؛ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ طَالِبًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}؛ لِيُزِيلَ الشُّبْهَةَ عَنْ خَلِيلِهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: بَلَى يَا رَبِّ، قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُجَازِي الْعِبَادَ؛ وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وَأَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ، فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ كَرَامَةً لَهُ، وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ.

{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ}: وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ الطُّيُورِ هِيَ، فَالْآيَةُ حَاصِلَةٌ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْهَا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أَيْ: ضُمَّهُنَّ، وَاذْبَحْهُنَّ، وَمَزِّقْهُنَّ، {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَفَرَّقَ أَجَزَاءَهُنَّ عَلَى الْجِبَالِ الَّتِي حَوْلَهُ، وَدَعَاهُنَّ بِأَسْمَائِهِنَّ، فَأَقْبَلْنَ إِلَيْهِ، أَيْ: سَرِيعَاتٍ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ: السُّرْعَةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ جِئْنَ عَلَى قَوَائِمِهِنَّ، وَإِنَّمَا جِئْنَ طَائِرَاتٍ عَلَى أَكْمَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَخَصَّ الطُّيُورَ بِذَلِكَ لِأَنَّ إِحْيَاءَهُنَّ أَكْمَلُ وَأَوْضَحُ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَأَيْضًا أَزَالَ فِي هَذَا كُلَّ وَهْمٍ رُبَّمَا يَعْرِضُ لِلنُّفُوسِ الْمُبْطِلَةِ، فَجَعَلَهُنَّ مُتَعَدِّدَاتٍ أَرْبَعَةً، وَمَزَّقَهُنَّ جَمِيعًا، وَجَعَلَهُنَّ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَنًا، يُشَاهَدُ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعْدٍ، وَأَنَّهُ نَحَّاهُنَّ عَنْهُ كَثِيرًا؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا حِيلَةً مِنَ الْحِيَلِ، وَأَيْضًا أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ، فَجِئْنَ مُسْرِعَاتٍ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَكْبَرَ بُرْهَانٍ عَلَى كَمَالِ عِزَّةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ فِيهِ يُظْهِرُ لِلْعِبَادِ كَمَالَ عِزَّةِ اللَّهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَسِعَةِ سُلْطَانِهِ، وَتَمَامِ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ)).

وَأَمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، خَالِقُهُمَا ابْتِدَاءً، وَالْقَادِرُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِعَادَتِهِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].

وَقَالَ آمِرًا بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79].

الثَّانِي: أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مَيِّتَةً هَامِدَةً، لَيْسَ فِيهَا شَجَرَةٌ خَضْرَاءُ، فَيَنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَطَرُ، فَتَهْتَزُّ خَضْرَاءَ حَيَّةً فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وَالْقَادِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].

* وَدَافَعَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنِ السُّنَّةِ، وَهَدَمَ دَعَاوَى وَشُبُهَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِالسُّنَّةِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

لَا شَكَّ أَنَّ السُّنَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الحِفظِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ لِشَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ، الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنكَارُهُ، وَلَا التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ؛ بَلْ مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرَفُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِمَا، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الأَدِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَت حُجِّيَّتُهَا بِهِمَا.

فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ إِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ –جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -كِتَابِهَا وَسُنَّتِهَا-، كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

فَنُورُ اللَّهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، وَكَلَّفَهُم بِهِ، وَضَمِنَهُ لِمَصَالِحِهِمْ، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ -مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيرِهِ-؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

* فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرآنِ دُونَ السُّنَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ، بَلْ قَلَّ أَنْ يُذْهَبَ إِلَيهِ، وَالآيَةُ الكَرِيمَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ضَمِيرِ الغَيْبَةِ فِيهَا قَوْلَان:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالآيَةِ -حِينَئذٍ-.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى الذِّكرِ، فَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ-؛ فَلَا تَمَسُّكَ بِهَا -أَيْضًا-، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالقُرآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الآيَةِ حَصرًا حَقِيقِيًّا -أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا عَدَا القُرآنَ-؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَد حَفِظَ أَشيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا عَدَاهُ؛ مِثْلَ حِفْظِهِ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الكَيْدِ وَالقَتْلِ، وَحِفْظِهِ العَرْشَ وَالسَّمَواتِ وَالأَرضَ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالحَصْرُ الإِضَافِيُّ بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ يَحتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ المَخْصُوصِ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَيهِ؛ سَواءٌ أَكَانَ سُنَّةً أَمْ غَيرَهَا، فَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجرُورِ لَيْسَ لِلحَصْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لمُنَاسَبَةِ رُؤوسِ الآي.

بَلْ لَوْ كَانَ فِي الآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ هُوَ السُّنَّةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ القُرآنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حِفْظِ السُّنَّةِ، وَصَوْنَهُ مُستَلْزِمٌ لِصَوْنِهَا بِمَا أَنَّهَا حِصْنُهُ الحَصِينُ، وَدِرْعُهُ المَتِينُ، وَحَارِسُهُ الأَمِينُ، وَشَارِحُهُ المُبِينُ؛ تُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وَتُفَسِّرُ مُشْكِلَهُ، وَتُوَضِّحُ مُبْهَمَهُ، وَتُقَيِّدُ مُطلَقَهُ، وَتَبْسُطُ مُختَصَرَهُ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ عَبَثَ العَابِثِينَ وَلَهْوَ اللَّاهِينَ، وَتَأْوِيلَهُم إِيَّاهُ عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِهِم وَأَغرَاضِهِم، وَوَفْقَ مَا يُمْلَى عَلَيهِم مِنْ رُؤسَائِهِمْ وَشَيَاطِينِهِم؛ فَحِفظُ السُّنَّةِ مِنْ أَسبَابِ حِفْظِ القُرآن، وَصِيَانَتُهَا صِيَانَةٌ لَهُ.

وَلَقَد حَفِظَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- كَمَا حَفِظَ القُرآنَ، فَلَمْ يَذهَب مِنهَا -وَللَّهِ الحَمْدُ وَمِنْهُ الفَضْلُ- شَيْءٌ عَلَى الأُمَّةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَستَوْعِبْهَا كُلُّ فَرْدٍ عَلَى حِدَةٍ.

وَمَعلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَفَّلَ بِحِفظِ المُبَيَّنِ المَشرُوحِ، وَلَمْ يَتَكَفَّل بِحِفْظِ الشَّارِحِ المُبَيِّن؛ لَأَحَالَنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِشَيءٍ مَعدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الوَاقِع، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ بِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْنَا مِنْ طَرِيقٍ مَوثُوقٍ بِهِ، وَلَمْ نَعرِف صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِه، وَلَا المَقبُولَ مِنهُ مِنَ المَردُود؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ فِي الجُملَةِ وَرَدَتْ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ مُجْمَلَةً؛ ثُمَّ تَأتِي السُّنَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا، وَبِبَيَانِ مُجْمَلِهَا، وَبِتَفْسِيرِ وَشَرحِ مَا أُجْمِلَ فِيهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَلَاقَةِ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ العَزِيزِ.

فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَفِظَ هَذَا المُبَيَّنَ –وَهُوَ الكِتَابُ العَزِيزُ-، وَلَمْ يَحفَظِ المُبَيِّنَ –وَهُوَ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ-؛ لَأَحَالَنَا عِندَمَا يَأْمُرُنَا فِي المُبَيَّنِ –وَهُوَ القُرآن- عَلَى مَا لَا يُوثَقُ بِهِ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُومٌ إِنْ لَمْ يَحفَظِ السُّنَّةَ كَمَا حَفِظَ القُرآنَ؛ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ إِذْ كَيفَ نَتَعَبَّدُ بشَيْءٍ وَقَد أُزِيلَ مِنَ الوُجُودِ تَمَامًا، أَوْ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ وُجُودًا شَكْلِيًّا فَاقِدًا لِلقِيمَةِ؟!!

إِنَّ فِقْدَانَ الشَّارِحِ المُبَيِّنِ بِكَامِلِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِقْدَانُ أَكثَرِ المُبَيَّنِ المَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ وَشَرحَهُ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا غَالِبًا عَلَى الشَّارِحِ المُبَيِّنِ.

وَمِنَ المَعلُومِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي الكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ، فَهِيَ -بِهَذَا المَعْنَى- فَرْعٌ عَنْهُ فَرْعِيَّةَ المَدلُولِ عَلَى الدَّالِّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَهَا عَنهُ فِي الاعتِبَارِ وَالاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ يُوجِبُ المُسَاوَاةَ.

فَإِنَّ إِهدَارَهَا –أَيِ: السُّنَّةَ- لِلمُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِ آيَةٍ مُعَارِضَةٍ لَهَا يُوجِبُ إِهدَارَ الآيَاتِ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى حُجِّيَّتِهَا، فَنَكُونُ -حِينَئذٍ- قَدْ فَرَرْنَا مِنْ إِهْدَارِ آيَةٍ -بَلْ مِنْ عَدَمِ المُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا- إِلَى إِهدَارِ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ تَدُلُّ بِمَجمُوعِهَا دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنهُ ﷺ.

وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الفَرْعِيَّةَ تَستَلْزِمُ تَأَخُّرَ الفَرعِ عَنِ الأَصلِ فِي الاعْتِبَارِ؛ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الفَرْعِ إِلَّا ذَلِكَ الأَصْلُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ آخَرُ يَستَقِلُّ بِإِثبَاتِ حُجِّيَّتِهِ فَلَا اسْتِلْزَامَ، وَحُجِّيَّةُ السُّنَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهَا عَلَى الكِتَابِ، بَلْ يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصدُرُ مِنهُ ﷺ عِصْمَتُهُ الثَّابِتَةُ بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيرِ القُرآنِ شَاهَدَهَا الصَّحَابَةُ، وَتَوَاتَرَ إِلَينَا القَدْرُ المُشتَرَكُ مِنهَا.

لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ؛ لِفَهْمِ عَدِيدٍ مِنَ الأَحْكَامِ، وَكُلُّ دَارِسٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ -وَلَا سِيَّمَا آيَاتُ الأَحكَامِ وَأَحَادِيثُ الأَحكَامِ- يُدْرِكُ تَمَامَ الإِدرَاكِ أَنَّ لِلسُّنَّةِ دَوْرًا هَامًّا لَا يُسْتَهَانُ بِهِ فِي بَيَانِ الأَحكَامِ المُجْمَلَةِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ؛ هِيَ الَّتِي تُقَيِّدُ المُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ العَامَّ، وَتُبَيِّنُ المُجْمَلَ، وَتُوَضِّحُ المُشْكِلَ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بإِقَامَةِ الصَّلَاةِ –وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَركَانِ الإِسْلَام-، فَقَالَ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]؛ فَكَيْفَ إِقَامَتُهَا؟

السُّنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤالِ.

وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ الأَمْرُ بِالزَّكَاةِ إِجمَالًا دُونَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وَتَوَلَّتِ السُّنَّةُ بَيَانَ الأَموَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَبَيَانَ الأَنْصِبَةِ، وَالمِقدَارِ المَأخُوذِ مِنْ كُلِّ نِصَابٍ، إِلَى آخِرِ البَيَانِ الشَّامِلِ لهَذَا الرُّكنِ العَظِيمِ.

كَمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِقدَارَ صَدَقَةِ الفِطرِ وَمُسْتَحِقِّيهَا، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَحكَامَ الصِّيَامِ، وَسُنَنَهُ، وَمَكْرُوهَاتِهِ، وَمُبْطِلَاتِهِ، وَالقَضَاءَ وَالكَفَّارَةَ، وَالرُّخَصَ وَأَهْلَهَا، وَغَيرَ ذَلِكَ مِنْ أَحكَامِ هَذَا الرُّكْنِ العَظِيمِ، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَنَاسِكِ، وَالبُيُوعِ، وَالحُدُودِ، وَغَيرِهَا.

  ((دَحْضُ الْقُرْآنِ شُبُهَاتِ الْخَوَارِجِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا))

مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي أَضَرَّتْ بِالْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: الْخَوَارِجُ، وَقَدْ دَحَضَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ شُبُهَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ زَيْفَ أَفْكَارِهِمُ الْمُضِلَّةِ، وَأَبْطَلَ عَقِيدَتَهُمُ الْفَاسِدَةَ.

(الْمُحَكِّمَةُ) هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ، وَهُمُ (الْحَاكِمِيُّونَ)، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْخَوَارِجُ الْأَوَّلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا عَلِيًّا وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ التَّحْكِيمِ؛ عِلْمًا بِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالْقَبُولِ، وَقَالُوا كَلِمَتَهُمْ: ((لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ))، وَقَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا، وَمُعَاوِيَةَ، وَالْحَكَمَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْكِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَـ(الْمُحَكِّمَةُ) وَسُمُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِـ(الحَرُورِيَّةِ) رَتَّبُوا عَلَى مَقُولَتِهِمْ فِي الْحَاكِمِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا وَالصَّحَابَةَ قَدْ كَفَرُوا؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا تَحْكِيمَ الشَّرِيعَةِ، وَلَجَئُوا إِلَى تَحْكِيمِ الرِّجَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ افْتِرَاقٍ عَلَنِيٍّ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَايَعُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ وَهْبٍ الرَّاسِبِيَّ فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ (10 شوال 37هـ)، وَهَذَا هُوَ تَارِيخُ أَوَّلِ افْتِرَاقٍ فِعْلِيٍّ مُعْلَنٍ فِي الْأُمَّةِ.

فَـ(الْمُحَكِّمَةُ) -إِذَنْ- جَعَلُوا شِعَارَهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَحْكِيمِ الشَّرِيعَةِ، وَجَعَلُوا مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَافِرًا قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا مَقُولَةُ خَوَارِجِ الْعَصْرِ -أَيِ: (الْمُحَكِّمَةِ) فِي هَذَا الْعَصْرِ-، وَهِيَ بِعَيْنِهَا مَقُولَةُ سَيِّد قُطْب، وَالْمَوْدُودِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

لِلْخَوَارِجِ صِفَاتٌ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَهَا؛ حَتَّى لَا نَقَعَ فِي بَرَاثِنِ مَنْهَجِهِمُ الْفَاسِدِ.

- وَمِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ الْخَوَارِجِ: الْجَهْلُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ ﷺ: ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)).

إِذَا أَرَدْنَا السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالدِّينِ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

فَالضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ سَبَبُهُمَا أَنْ يُسْتَفْتَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يُجِيبَ عَلَى مُقْتَضَى جَهْلِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

وَمَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ هُمَا سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ هُمَا سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ، وَأَنَّ سَبَبَ الْإِضْلَالِ: إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ، وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُتَّبعِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ، وَحَتَّى لَا يُشْبِهَ الْخَوَارِجَ عَلَى -سَبِيلِ الْمِثَالِ-؛ فَهَؤُلَاءِ أَبْرَزُ سِمَاتِهِمُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ، وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ نَبِيَّهُ ﷺ مُبَلِّغًا لِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ))، فَلَا يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَفْقَهُونَهُ، وَلَا يَعُونَهُ، وَلَا يَفْهَمُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ وَالضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ: ((يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ -يَعْنِي: الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ- وَهُوَ عَلَيْهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

لَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضَ صِفَاتِ الْخَوَارِجِ.

وَجَاءَ ذِكْرُ صِفَاتٍ أُخَرَ لِلْخَوَارِجِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَغَيْرِهِمَا.

- مِنْ أَبْرَزِ عَقَائِدِ فِرْقَةِ الْخَوَارِجِ وَأَعْمَالِهَا: الْغُلُوُّ فِي التَّكْفِيرِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ تَسْلِيطَ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِيهِ مِنَ الدِّينِ)).

- ومِنْ سِمَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ: تَخْطِئَةُ مَنْ خَالَفَهُمْ؛ مَهْمَا كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ مِنَ الْعِلْمِ، مَعَ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ قِلَّةُ الْعِلْمِ، يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْجَهْلُ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ خَطَّئُوا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ، وَجَمِيعَ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِمْ قَدْ خَالَفُوهُمْ، وَحَكَمُوا بِضَلَالِهِمْ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِصِفَاتِ الْخَوَارِجِ: ((فَهَؤُلَاءِ أَصْلُ ضَلَالَتِهِمُ اعْتِقَادُهُمْ فِي أَئِمَّةِ الْهُدَى وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الْعَدْلِ، وَأَنَّهُمْ ضَالُّونَ، ثُمَّ يَعُدُّونَ مَا يَرَوْنَ أَنَّهُ ظُلْمٌ عِنْدَهُمْ.. يَعُدُّونَهُ كُفْرًا، ثُمَّ يُرَتِّبُونَ عَلَى الْكُفْرِ أَحْكَامًا ابْتَدَعُوهَا)).

وَقَالَ -أَيْضًا- عِنْدَ كَلَامِهِ عَنِ الْخَوَارِجِ وَمَقَالَاتِهِمْ: ((قَالُوا: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ وَالَاهُمَا لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ!)).

فَمَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ حَكَمُوا عَلَى خَلِيفَتَيْنِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ؟!!

- فِي رِسَالَةِ ((الْخَوَارِجِ)) عِنْدَ ذِكْرِ صِفَاتِ الْخَوَارِجِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ: ((مِنْ صِفَاتِهِمُ: الْغُرُورَ، وَالتَّعَالُمَ، وَالتَّعَالِيَ عَلَى الْعُلَمَاءِ))، حَتَّى قَالَ: ((زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَالْتَفُّوا عَلَى الْأَحْدَاثِ الصِّغَارِ الْجَهَلَةِ قَلِيلِي الْعِلْمِ مِنْ رُؤُوسِهِمْ)).

- مِنْ صِفَاتِهِمُ: الْخُرُوجُ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَدْ خَرَجَ أَوَائِلُهُمْ عَلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ خَرَجَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ عَلَى خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَصَلَ مِنْهُمْ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ؛ مِنَ اخْتِلَالِ الْأَمْنِ، وَحُصُولِ الْفَوْضَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمينَ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُمُّوا الْخَوَارِجَ.

وَفِي هَذِهِ الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ ظَهَرَ أَقْوَامٌ جُلُّهُمْ مِنَ الشَّبَابِ قَلِيلِي الْعِلْمِ، كَثِيرِي الْجَهْلِ، شَابَهُوا الْخَوَارِجَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آرَائِهِمْ.

وَمِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الَّتِي شَابَهُوا فِيهَا الْخَوَارِجَ الْأَوَّلِينَ -وَهُمْ سَلَفُهُمُ الطَّالِحُونَ-:

- التَّسَرُّعُ فِي التَّكْفِيرِ، وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ، وَالْغُلُوُّ فِيهِ بِالتَّكْفِيرِ بِاللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ، وَبِالتَّضْيِيقِ فِي مَوَانِعِ التَّكْفِيرِ، مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْكُفْرِ خَطِيرٌ جِدًّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُوضَ فِيهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الَّذِينَ تَوَفَّرَتْ لَدَيْهِمْ آلَةُ الِاجْتِهَادِ.

وَفِى ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ)).

- وَمِمَّا شَابَهَ فِيهِ خَوَارِجُ الْعَصْرِ أَسْلَافَهُمُ الْمُتَقَدِّمِينَ: ازْدِرَاءُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى عَدَمِ الْأَخْذِ بِآرَائِهِمْ، وَرُبَّمَا تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَتَّهِمُ الْعُلَمَاءَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التُّهَمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُوَافِقُوهُ فِي آرَائِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا قَوْلَهُ؛ وَلِهَذَا يَرَى أَنَّهُمْ عَلَى بَاطِلٍ، وَأَمَّا هُوَ فَعَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصْلًا، وَلَيْسَ بِمَسْلُوكٍ فِي عِدَادِهِمْ.

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّبَابِ الْمُعَاصِرِينَ تَشَابَهُوا تَمَامًا؛ بَلْ تَطَابَقُوا تَمَامًا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ مَعَ الْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَسِمَاتُهُمْ سِمَاتُهُمْ، وَشِيَاتُهُمْ شِيَاتُهُمْ، وَكَلامُهُمْ كَلَامُهُمْ، وَمُعْتَقَدَاتُهُمْ مُعْتَقَدَاتُهُمْ!

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي وَاقِعِ أَكْثَرِ أَصْحَابِ التَّوَجُّهَاتِ الَّتِي يَمِيلُ أَصْحَابُهَا إِلَى سِمَاتِ الْخَوَارِجِ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِالْجَهْلِ، وَضَعْفِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَضَحَالَةِ الْحَصِيلَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحِينَ يَتَصَدُّونَ لِلْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالْمَصَالِحِ الْعُظْمَى لِلْأُمَّةِ يَكْثُرُ مِنْهُمُ التَّخَبُّطُ وَالْخَلْطُ، وَالْأَحْكَامُ الْمُتَسَرِّعَةُ، وَالْمَوَاقِفُ الْمُتَشَنِّجَةُ، وَيَتَصَدَّرُ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ -كَمَا وَصَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ- وَأَشْبَاهُهُمْ لِلدَّعْوَةِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا فِقْهٍ!

وَقَدِ اتَّخَذَ بَعْضُ الشَّبَابِ مِنْهُمْ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَكَمُوا فِي الْأُمُورِ بِلَا فِقْهٍ، وَوَاجَهُوا الْأَحْدَاثَ الْجِسَامَ بِلَا تَجْرِبَةٍ، وَبِلَا رَأْىٍ، وَلَا رُجُوعٍ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالرَّأْيِ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَنَقَّصُ الْعُلَمَاءَ وَالْمَشَايِخَ، وَلَا يَعْرِفُ لَهُمْ قَدْرَهُمْ!

فَسَبِيلُ النَّجَاةِ: الْعِلْمُ، وَالْعَمَلُ بِهِ.

لَقَدْ دَحَضَ الْقُرْآنُ شُبُهَاتِ الْخَوَارِجِ، وَحَارَبَ ضَلَالَهُمْ، وَحَارَبَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالرَّاسِخُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ شُبُهَاتِهِمْ بِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ النَّيِّرَةِ، وَحُجَجِهِ الْبَاهِرَةِ.

لَا شَكَّ أَنَّ عَقِيدَةَ الْخَوَارِجِ مُنْتَشِرَةٌ بَيْنَ الشَّبَابِ، فَكَيْفَ نُعَالِجُ هَذَا الِانْحِرَافَ وَنُنَجِّي أَنْفُسَنَا وَأَوْطَانَنَا مِنَ الدَّمَارِ؟

هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الرَّئِيسَةُ، كَيْفُ يُعَالَجُ هَذَا الْأَمْرُ؟

لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِمُحَارَبَةِ هَذَا الْفِكْرِ، كَانُوا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ أَهْلٍ لِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِطَبِيعَةِ فِكْرِ الْخَوَارِجِ، وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِمُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَخْلِطُونَ بَيْنَ هَذَا الِانْحِرَافِ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ، وَبَيْنَ الْجِهَادِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْإِفْسَادِ بِاسْمِ الْجِهَادِ.

إِنَّ انْتِشَارَ مَظَاهِرِ الْفَسَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّمَاحَ لِدُعَاةِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ بِالتَّعَدِّي وَالظُّهُورِ وَالتَّحَدُّثِ ضِدَّ الْإِسْلَامِ، عَلَانِيَةً، مَعَ انْتِشَارِ مَظَاهِرِ الِانْحِرَافِ الْأَخْلَاقِيِّ، هَذِهِ كُلُّهَا لَا شَكَّ شَجَّعَتْ عَلَى رُدُودِ الْفِعْلِ لَدَى الشَّبَابِ، فَوَجَبَ إِزَالَتُهَا، وَالسَّعْيُ لِتَطْبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ، وَجَعْلُ الدِّينِ الْمُسْيَطِرِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِنْشَاءُ الْمُوَاطِنِ الصَّالِحِ.

لَقَدْ تَصَدَّى الْعُلَمَاءُ الرَّبَانِيُّونَ لِلْخَوَارِجِ مُنْذُ ظُهُورِهِمْ، فَنَسَفُوا شُبُهَاتِهِمْ، وَأَحْكَمُوا قَبْضَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِقَابِ حُجَجِهِمْ، فَهَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَحَمَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِبَاكِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ -وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنُسِبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ- لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحُرُورِيَّةُ يَخْرُجُونَ عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((جَعَلَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَلَيْكَ)).

فَيَقُولُ: ((دَعْهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا)).

فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ قُلْتُ -وَالْقَائِلُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ -وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ هُوَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يُتَمَكَّنَ مِنَ الْمَشْيِ فِي الْفَيْحِ- قَالَ: أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَفُوتُنِي حَتَّى آتِيَ الْقَوْمَ.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ -مِنَ الْقَيْلُولَةِ- فَإِذَا هُمْ مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ -أَيْ مُتَغَيِّرَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ- قَدْ أَثَّرَ السُّجُودُ فِي جِبَاهِهِمْ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ ثَفِنُ الْإِبِلِ -وَالثِّفِنُ: جَمْعُ ثَفِنَةٍ وَهِيَ مَا وَلِيَ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ إِذَا بَرَكَتْ، كَالرُّكْبَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ فِيهِمَا غِلَظٌ مِنْ أَثَرِ الْبُرُوكِ- عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ- أَيْ مَغْسُولَةٌ-)).

فَقَالُوا: ((مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ عَلَيْكَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((مَا تَعِيبُونَ هَذِهِ؛ فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ ثِيَابٍ الْيَمَنِيَّةِ، ثُمَّ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32])).

فَقَالُوا: ((مَا جَاءَ بِكَ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، جِئْتُ؛ لِأُبْلِغَهُمْ عَنْكُمْ، وَلِأُبْلِغَكُمْ عَنْهُمْ)).

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ((لَا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58])).

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ((بَلَى فَلْنُكَلِّمْهُ)).

قَالَ: ((فَكَلَّمَنِي مِنْهُمْ رَجَلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَاذَا نَقِمْتُمْ عَلَيْهِ -أَيْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -؟)).

قَالُوا: ((ثَلَاثًا)).

قَالَ: ((فَقُلْتُ مَا هُنَّ؟)).

قَالُوا: ((حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40])).

قَالَ: قُلْتُ: ((هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَمَاذَا أَيْضًا؟)).

قَالُوا: ((فَإِنَّهُ قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغنَمْ -يُرِيدُونَ يَوْمَ الْجَمَلِ- فَلَإنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ، وَلِإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ لَقَدْ حَلَّ قِتَالُهُمْ وَسَبْيُهُمْ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((وَمَاذَا أَيْضًا؟)).

قَالُوا: ((وَمَحَا نَفْسَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:  قُلْتُ: ((أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا يَنقُضُ قَوْلَكُمْ هَذَا، أَتْرْجِعُونَ؟)).

قَالُوا: ((وَمَا لَنَا لَا نَرْجِعُ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95].

وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].

فَصَيَّرَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ الرِّجَالِ، فَنَاشَدْتُكُمُ اللهَ أَتْعَلَمُونَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَفْضَلُ أَوْ فِي دَمِ أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، وَفِي بُضْعِ امْرَأَةٍ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى، هَذَا أَفْضَلُ)).

قَالَ: ((أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: نَسْبِيهَا، فَنَسْتَحِلَّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ بِأُمِّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَأَنْتُمْ تَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، أَخَرَجْتُ مِنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ، إِنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ، حِينَ صَالَحَ أَبَا سُفْيَانَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اُكْتُبْ يَا عَلِيُّ، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَان وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: ((مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا قَاتَلْنَاكَ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، اُمْحُ يَا عَلِيُّ، وَاُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ)).

إِنَّ فِتْنَةَ الْعَصْرِ هِيَ فِي التَّكْفِيرِ بِلَا مُوجِبٍ، وَإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَالتَّكِأَةُ الَّتِي يَتَّكِأُ عَلَيْهَا الْمُكَفِّرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ مَشَارِبِهِمْ، وَتَنَوُّعِ انْتِمَاءَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ جَمِيعًا إِلَى حَمْأَةٍ مُنْتِنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ التَّكِأَةُ الَّتِي يَتَّكِأُ عَلَيْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذِهِ الْبَابَةِ هِيَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ.

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِح الْعُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ اللهِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالِ مُلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللهُ -تَعَالَى- الْمَتْبُوعِينَ فِي غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- أَرْبَابًا لِمُتَّبِعِيهِمْ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فَسَمَّى اللهُ -تَعَالَى- الْمَتْبُوعِينَ أَرْبَابًا؛ حَيْثُ جُعِلُوا مُشَرِّعِينَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى-، وَسَمَّى الْمُتَّبِعِينَ عُبَّادًا؛ حَيْثُ إِنَّهُمْ ذَلُّوا لَهُمْ وَأَطَاعُوهُمْ فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- )).

فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَيْسَ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ التَّوْحِيدِ يَقُومُ بِرَأْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَتَنْفِيذُ حُكْمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ مُقْتَضَى رُبُوبِيَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((وَقَدْ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ))، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلْ إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ، وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ؛ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ».

إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَرَدَتْ فِيهِ آيَاتٌ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُ، وَآيَاتٌ بِكُفْرِهِ وَظُلْمِهِ وَفِسْقِهِ.

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ؛ فَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 60-65].

فَوَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ لِلْإِيمَانِ وَهُمْ مُنَافِقُونَ بِصِفَاتٍ:

الْأُولَى: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَهُوَ كُلُّ مَا خَالَفَ حُكْمَ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ؛ لِأَنَّ مَا خَالَفَ حُكْمَ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ طُغْيَانٌ وَاعْتِدَاءٌ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ؛ وَهُوَ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صَدُّوا وَأَعْرَضُوا.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ إِذَا أُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَمِنْهَا: أَنْ يُعْثَرَ عَلَى صَنِيعِهِمْ-؛ جَاءُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ؛ كَحَالِ مَنْ يَرْفُضُ الْيَوْمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَيَحْكُمُ بِالْقَوَانِينِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا؛ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمُوَافِقُ لِأَحْوَالِ الْعَصْرِ.

ثُمَّ حَذَّرَ -سُبْحَانَهُ- هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ لِلْإِيمَانِ، الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَا يُكِنُّونَهُ مِنْ أُمُورٍ تُخَالِفُ مَا يَقُولُونَ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَعِظَهُمْ، وَيَقُولَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ: أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعَ الْمَتْبُوعَ، لَا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ؛ مَهْمَا قَوِيَتْ أَفْكَارُهُمْ، وَاتَّسَعَتْ مَدَارِكُهُمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِرُبُوبِيَّتِهِ لِرَسُولِهِ، الَّتِي هِيَ أَخَصُّ أَنْوَاعِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالَّتِي تَتَضَمَّنُ الْإِشَارَةَ إِلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ ﷺ؛ أَقْسَمَ بِهَا قَسَمًا مُؤَكَّدًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ فِي كُلِّ نِزَاعٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

الثَّانِي: أَنْ تَنْشَرِحَ الصُّدُورُ بِحُكْمِهِ، وَلَا يَكُونَ فِي النُّفُوسِ حَرَجٌ وَضِيقٌ مِنْهُ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَحْصُلَ التَّسْلِيمُ بِقَبُولِ مَا حَكَمَ بِهِ، وَتَنْفِيذِهِ بِدُونِ تَوَانٍ أَوِ انْحِرَافٍ.

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي؛ فَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وَقَوْلِهِ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وَقَوْلِهِ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

وَهَلْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَنَزَّلُ عَلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؟ بِمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَصَفَ الْكَافِرِينَ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].

فَكُلُّ كَافِرٍ ظَالِمٌ فَاسِقٌ.

أَوْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ تَتَنَزَّلُ عَلَى مَوْصُوفِينَ بِحَسَبِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؟ هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي -وَاللهُ أَعْلَمُ-)).

وَهَذَا هُوَ مَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى مَوْصُوفِينَ، وَهَؤُلَاءِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ:

-فَقَدْ يَكُونُ الَّذِي لَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا.

-وَقَدْ يَكُونُ ظَالِمًا.

-وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا.

عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.

إِذَنْ؛ فِيهَا تَفْصِيلٌ، هَذَا هُوَ مَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْخَوَارِجِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ، انْشَعَبُوا مِنْ هَذِهِ النُّقْطَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَيَقُولُونَ: هُوَ الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، وَالظُّلْمُ الْأَكْبَرُ، وَالْفِسْقُ الْأَكْبَرُ؛ كُلُّ ذَلِكَ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ!!

فَلَمْ يُفَصِّلُوا.

فَهَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَطِيرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِحْنَةٌ لِلْأُمَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

((مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ)) هِيَ مِحْنَةُ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَبِسَبَبِهَا وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْبَلَاءِ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْفَعَ الْكَرْبَ بِرَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ-.

قَاعِدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ -تَلْخِيصُ الْقَاعِدَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ- هِيَ:

-مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ فَهُوَ طَاغُوتٌ، يَعْنِي: يَقُولُ: حُكْمِي بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ حَلَالٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُطْلَقًا، لَمْ يَنْهَ عَنْهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَا رَسُولُهُ.

هَذَا طَاغُوتٌ.

-وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ: هَذَا حَلَالٌ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِشَرْعِ اللهِ، أَوْ هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ؛ فَهَذَا طَاغُوتٌ.

-وَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَهُوَ يُقِرُّ أَنَّ حُكْمَ اللهِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ بِبَاطِلٍ؛ فَهَذا كُفْرٌ أَصْغَرُ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ؛ لَكِنَّهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ.

-وَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ، بَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ، وَاجْتَهَدَ وَلَمْ يُصِبْ حُكْمَ اللهِ، يَعْنِي: إِذَا قَالَ: الْحُكْمُ كَذَا وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيَكُونُ الَّذِي قَالَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللهِ؛ يَكُونُ -حِينَئِذٍ- حَاكِمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أُوتِيَ مِنْ قِبَلِ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، فَهَذا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».

فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، يَعْنِي: الْحَاكِمَ الْقَاضِيَ الَّذِي يَحْكُمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ خَطَأً، لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ، فَيَقْضِي فِيهَا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، يَكُونُ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ هَذَا حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ -يَعْنِي: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ-؛ فَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ؟

لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ، بَلْ إِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ؛ بَلْ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا تَمَلَّكَ الْأَدَاةَ الَّتِي بِهَا يَنْطِقُ، وَعَلَى أَسَاسِهَا يَحْكُمُ فَلَهُ أَجْرٌ؛ وَلَكِنَّهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَخْطَرِ الْمَسَائِلِ، افْتَرَقَ فِيهَا طُلَّابُ الْعِلْمِ، وَافْتَرَقَتْ طَوَائِفُ أَتْبَاعِ السَّلَفِ، وَانْشَعَبَتِ الطُّرُقُ تَحْتَ أَقْدَامِهَا، وَضَلَّ فِيهَا مَنْ ضَلَّ، وَزَلَّ بِسَبَبِهَا مَنْ زَلَّ، هِيَ أَخْطَرُ الْأُمُورِ الَّتِي عَرَضَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهِيَ أَخْطَرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُجَابِهُ الْأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا.

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْقِتَالِ، وَالْخُرُوجِ، وَنَزِيفِ الدِّمَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مَعْلُومَةٌ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَأَسَّى خُطَى النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُحْكِمَهُ إِحْكَامًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَصْدُرَ فِيهَا عَمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَمِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ حَتَّى يَكُونَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ، لَا بِالْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.

قَالَ الشَّيْخُ الْعُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَنَقُولُ: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ اسْتِخْفَافًا بِهِ، أَوِ احْتِقَارًا لَهُ، أَوِ اعْتِقَادًا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلَحُ مِنْهُ، وَأَنْفَعُ لِلْخَلْقِ، أَوْ مِثْلُهُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عَنِ الْمِلَّةِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَضَعُونَ لِلنَّاسِ تَشْرِيعَاتٍ تُخَالِفُ التَّشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ؛ لِتَكُونَ مِنْهَاجًا يَسِيرُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا تِلْكَ التَّشْرِيعَاتِ الْمُخَالِفَةَ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَّا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا أَصْلَحُ وَأَنْفَعُ لِلْخَلْقِ؛ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْجِبِلَّةِ الْفِطْرِيَّةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْدِلُ عَنْ مِنْهَاجٍ إِلَى مِنْهَاجٍ يُخَالِفُهُ إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فَضْلَ مَا عَدَلَ إِلَيْهِ، وَنَقْصَ مَا عَدَلَ عَنْهُ.

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَهُوَ لَمْ يَسْتَخِفَّ بِهِ، وَلَمْ يَحْتَقِرْهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلَحُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا ظَالِمٌ؛ وَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ ظُلْمِهِ بِحَسَبِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَوَسَائِلِ الْحُكْمِ.

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَا اسْتِخْفَافًا بِحُكْمِ اللهِ، وَلَا احْتِقَارًا، وَلَا اعْتِقَادًا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلَحُ وَأَنْفَعُ لِلْخَلْقِ، أَوْ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِغَيْرِهِ مُحَابَاةً لِلْمَحْكُومِ لَهُ، أَوْ مُرَاعَاةً لِرِشْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؛ فَهَذَا فَاسِقٌ، وَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ فِسْقِهِ بِحَسَبِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَوَسَائِلِ الْحُكْمِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيمَنِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ أَنَّهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ اللهِ، فَيَتْبَعُونَهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ، وَيَعْتَقِدُونَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللهُ؛ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا دِينَ الرُّسُلِ؛ فَهَذَا كُفْرٌ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ شِرْكًا.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِتَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ ثَابِتًا؛ لَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مَعَاصٍ؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حُكْمُ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ)).

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ -أَعْنِي: مَسْأَلَةَ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ- مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا حُكَّامُ هَذَا الزَّمَانِ؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يَتَسَرَّعَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَطِيرَةٌ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ لِلْمُسْلِمِينَ وُلَاةَ أُمُورِهِمْ وَبِطَانَتَهُم.

كَمَا أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ الْعِلْمَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِهَؤُلَاءِ الْحُكَّامِ؛ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَتَتَبَيَّنَ الْمَحَجَّةُ، فَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلَا يَحْقِرَنَّ نَفْسَهُ عَنْ بَيَانِهِ، وَلَا يَهَابَنَّ أَحَدًا فِيهِ؛ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

يَصْعَدُ بَعْضُ النَّاسِ الْمِنْبَرَ، وَيُكَفِّرُ الْحَاكِمَ، فَتَقُولُ لَهُ: يَا أَخِي! لَعَلَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، يَقُولُ: لَا، هُوَ يَعْلَمُ!!

مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَعْلَمُ؟!!

يَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ!!

سُبْحَانَ اللهِ!

يَعْنِي: هَلْ أَقَامَ أَحَدٌ الْحُجَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الرَّبَّانِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ الرَّسُولِيَّةَ، لَا الْحُجَّةَ الَّتِي تَزْعُمُهَا أَنْتَ؟!!

يَعْنِي: قَدْ يَقُولُ إِنْسَانٌ قَوْلًا، وَيَقُولُ: قَدْ أَقَمْتُ بِهِ الْحُجَّةَ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ بَاطِلًا، أَوْ يَكُونُ غَيْرَ وَاضِحٍ، أَوْ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَحْجُوجِ الَّذِي تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ.

بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَرِيدَةٍ مِنَ الْجَرَائِدِ السَّيَّارَةِ، وَيَقُولُ: أَقَمْتُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ!!

هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ.

تَوَفُّرُ الشُّرُوطِ، انْتِفَاءُ الْمَوَانِعِ، إِقَامَةُ الْحُجَّةِ، وَالْحُجَّةُ بِشُرُوطِهَا؛ هَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ.

التَّفْصِيلُ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْفِيرِ لِمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبِهِ افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ إِلَى هَذِهِ الشُّعَبِ، الَّذِينَ كَانُوا تَحْتَ رَايَةِ السَّلَفِ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، الَّذِي لَا يُفَصِّلُ يُكَفِّرُ قولًا وَاحِدًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ مَا يَتَرَتَّبُ مِنَ الْخُرُوجِ، وَالتَّنْظِيمِ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِحْلَالِ الْأَبْدَانِ بِالدِّمَاءِ، وَاسْتِحْلَالِ نَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَسَلْبِ الثَّرْوَاتِ، وَالْحَرْبِ الْمُقَدَّسَةِ؛ تَقَدَّمُوا يَا رِجَالُ!!

يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: تَقَدَّمُوا يَا رِجَالُ، اللهُ أَكْبَرُ!!

وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ إِنَّمَا وَجَدُوا مِيرَاثًا وَرِثُوهُ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِنَ الْجَهْلِ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَدُلَّهُمْ مَنْ عِنْدَهُمْ وَلَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَثِقُونَ فِيهِمْ؛ لَمْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى خُطُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَطِيرَةِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَارِعَ فِيهَا الْإِنْسَانُ إِلَى الْحُكْمِ، هَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَإِلَّا وَقَعَ فِي التَّكْفِيرِ، وَكَفَّرَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَمَا يُكَفِّرُونَ الْحُكَّامَ يُسْقِطُونَ الْوِلَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ، إِذَا كَفَرَ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ، لَا يُطَاعُ، لَيْسَتْ لَهُ طَاعَةٌ؛ وَحِينَئِذٍ تَبْدَأُ الْجَمَاعَاتُ فِي الْعَمَلِ وَالتَّشْكِيلَاتِ وَالتَّنْظِيمَاتِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَالَّتِي تَبْتَغِي الْخُرُوجَ فِي النِّهَايَةِ خُرُوجًا مُسَلَّحًا مِنْ أَجْلِ إِزَاحَةِ مَنْ كَفَرَ، وَإِقَامَةِ الْحُكْمِ -بِزَعْمِهِمْ-.

وَلَمْ يَحْدُثْ ذَلِكَ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْجَزَائِرِ، وَلَا فِي فِلَسْطِينَ؛ بَلْ غَزَّةَ كَمَا تَرَى.. وَسَنَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى كَرَاسِيِّ الْحُكْمِ قِيلَ لَهُمُ: احْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.

قَالُوا: لَا نَسْتَطِيعُ الْآنَ!! وَأَتَوْا بِبَعْضِ الْكُفَّارِ، جَعَلُوهُمْ مَعَهُمْ فِي الْوَزَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَبَعْضِ النِّسْوَةِ مِنَ السَّافِرَاتِ الْعَلْمَانِيَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا.

إِذَنْ؛ الْقَضِيَّةُ قَضِيَّةُ الْكُرْسِيِّ فَقَطْ، لَيْسَتْ قَضِيَّةَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ!!

وَقَدْ سُئِلَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي فَتْوَى (رَقْم 5741)، فِي الْإِجَابَةِ عَلَى السُّؤَالِ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَنَصُّهَا كَالْآتِي: ((السُّؤَالُ: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ؟

الْجَوَابُ: الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ، وَآلِهِ، وَصَحْبِهِ، وَبَعْدُ:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

لَكِنْ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ جَائِزًا فَهُوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَظُلْمٌ أَكْبَرُ، وَفِسْقٌ أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، أَمَّا إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الرِّشْوَةِ، أَوْ لِمَقْصِدٍ آخَرَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ آثِمٌ، يُعْتَبَرُ كَافِرًا كُفْرًا أَصْغَرَ، وَظَالِمًا ظُلْمًا أَصْغَرَ، وَفَاسِقًا فِسْقًا أَصْغَرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمِلَّةِ، كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.

عَبْدُ اللهِ بْنُ غُدَيَّان، وَعَبْدُ الرَّزَّاق عَفِيفِي، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَاز)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:

*مَنْ قَالَ: أَنَا أَحْكُمُ بِهَذَا لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ.

*وَمَنْ قَالَ: أَنَا أَحْكُمُ بِهَذَا لِأَنَّهُ مِثْلُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْحُكْمُ بِهَذَا جَائِزٌ، وَبِالشَّرِيعَةِ جَائِزٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ.

*مَنْ قالَ: أَنَا أَحْكُمُ بِهَذَا، وَالْحُكْمُ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَفْضَلُ؛ لَكِنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ جَائِزٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ.

*وَمَنْ قَالَ: أَنَا أَحْكُمُ بِهَذَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَا يَجُوزُ، وَيَقُولُ: الْحُكْمُ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَفْضَلُ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِغَيْرِهَا؛ وَلَكِنَّهُ مُتَسَاهِلٌ، أَوْ يَفْعَلُ هَذَا لِأَمْرٍ صَادِرٍ مِنْ حُكَّامِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَصْغَرَ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ)).

وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَاتَلَ التَّتَارَ تَحْتَ رَايَةِ الْمَمَالِيكِ فِي عَصْرِهِ، وَكَانُوا مُمَكَّنِينَ، لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْقُوَى الْعُظْمَى فِي الْعَالَمِ يَوْمَئِذٍ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَمَامِ التَّطْبِيقِ لِشَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ التَّبْدِيلَ وَالتَّغْيِيرَ.. إِنَّ الْحُيُودَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِنَّمَا هُوَ قَدِيمٌ، مِنْ بَعْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ جَدَّتْ عَلَى الْأُمَّةِ أُمُورٌ؛ فَمُقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.

فَقَاتَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- التَّتَارَ تَحْتَ رَايَةِ الْمَمَالِيكِ، وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ، مَعَ أَنَّ الْقُوَّةَ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَمَامِ التَّطْبِيقِ وَكَمَالِهِ؛ وَلَكِنْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ ذَلِكَ خَرْطَ الْقَتَادِ -كَمَا يَقُولُونَ-؛ لِأَنَّ أُمُورًا تَجِدُّ، وَلِأَنَّ أَحْوَالًا لَا تَسْتَقِرُّ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ غَالِبٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَاشٍ فِيهِمْ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لِتَمَامِ فِقْهِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

سُئِلَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَيْضًا -أَعْنِي: الْمُفْتِيَ السَّابِقَ لِلْمَمْلَكَةِ-: ((مَا حُكْمُ سَنِّ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ الْحَاكِمُ بِسَنِّهِ لِهَذِهِ الْقَوَانِينِ؟

الْجَوَابُ: إِذَا كَانَ الْقَانُونُ يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَلَا بَأْسَ، إِذَا سَنَّ قَانُونًا فِي شَأْنِ الطُّرُقَاتِ، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ وَلَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ، وَلَكِنْ لِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ فَلَا بَأْسَ بِهَا.

أَمَّا الْقَوَانِينُ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ فَلَا، إِذَا سَنَّ قَانُونًا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّانِي، وَلَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ، وَلَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذِهِ الْقَوَانِينُ بَاطِلَةٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّهَا الْوَالِي كَفَرَ، إِذَا قَالَ: إِنَّهَا حَلَالٌ وَلَا بَأسَ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ كُفْرًا -أَيْ: هَذَا الِاسْتِحْلَالُ يَكُونُ كُفْرًا-، مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ كَفَرَ)).

وَسُئِلَ -أَيْضًا-: ((هَلْ يُعْتَبَرُ الْحُكَّامُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كُفَّارًا؟ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ؛ فَمَاذَا نَقُولُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]؟

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِقَوْلِهِ: الْحُكَّامُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ أَقْسَامٌ، تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمْ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ؛ فَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، يَرَى أَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ شَرْعِ اللهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَكَذَا مَنْ يُحَكِّمُ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ بَدَلًا مِنْ شَرْعِ اللهِ، وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ وَلَوْ قَالَ: إِنَّ تَحْكِيمَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِكَوْنِهِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ.

أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، أَوْ لِرِشْوَةٍ، أَوْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ عَاصٍ للهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَحْكِيمُ شَرْعِ اللهِ؛ فَهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ قَدْ أَتَى كُفْرًا أَصْغَرَ، وَظُلْمًا أَصْغَرَ، وَفِسْقًا أَصْغَرَ، كَمَا جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَعَنْ طَاوُوسَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِح، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ)).

وَسُئِلَ -أَيْضًا-: ((كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَسَاهَلُونَ فِي الْحُكْمِ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ اللهِ، وَالْبَعْضُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ التَّسَاهُلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَمَسُّكِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ يَسْتَحِلُّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ؟

الْجَوَابُ: هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَأَنَّهُ خَالَفَ الشَّرْعَ؛ وَلَكِنِ اسْتَبَاحَ هَذَا الْأَمْرَ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ اللهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ؛ كَالْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الرِّجَالُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ  مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، أَوْ زَعَمَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ حُكْمِ اللهِ، أَوْ زَعَمَ أَنَّهَا تُسَاوِي حُكْمَ اللهِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ حَكَمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ شَاءَ حَكَمَ بِغَيْرِهِمَا؛ مَنِ اعْتَقَدَ هَذَا كَفَرَ بِإجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ -كَمَا تَقَدَّمَ-.

أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِهَوًى، أَوْ لِحَظٍّ عَاجِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَاصٍ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ فَعَلَ مُنْكَرًا عَظِيمًا، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَرْعِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ الْكُفْرَ الْأَكْبَرَ؛ لَكِنَّهُ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا عَظِيمًا وَمَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَكُفْرًا أَصْغَرَ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ بِذَلِكَ كُفرًا دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمًا دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقًا دُونَ فِسْقٍ، وَلَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ الْأَكْبَرَ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)).

وَقَدْ يَحُولُ دُونَ التَّطْبِيقِ حَائِلٌ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْخَيْرِ، فَيَأْتِي الْأَمْرُ تَدْرِيجِيًّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.

سُئِلَ الشَّيْخُ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَنْ تَبْدِيلِ الْقَوَانِينِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنَ الْمِلَّةِ؟

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِقَوْلِهِ: إِذَا اسْتَبَاحَهَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرَ، أَمَّا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ؛ مِنْ أَجْلِ الرِّشْوَةِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ أَشْخَاصٍ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ  -يَعْنِي- لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الْمِلَّةِ-.

إِذَا فَعَلَهَا مُسْتَبِيحًا؛ يَكُونُ كُفْرًا أَكْبَرَ، أَيْ: إِذَا اسْتَحَلَّ الْحُكْمَ بِتِلْكَ الْقَوَانِينِ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا، أَمَّا إِذَا فَعَلَهَا لِأَسْبَابٍ؛ كَالرِّشْوَةِ، أَوِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ بَعْضِ النَّاسِ، أَوْ لِمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِمَّا لَا يُطِيقُهُ مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، فَهُوَ يَتَلَمَّسُ السُّبُلَ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ -حِينَئِذٍ- كَافِرًا.

إِذَا اسْتَحَلَّ الْحُكْمَ بِقَانُونٍ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا، أَمَّا إِذَا فَعَلَهَا لِأَسْبَابٍ؛ كَالرِّشْوَةِ، أَوِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ إِرْضَاءِ بَعْضِ النَّاسِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ؛ سَوَاءٌ التَّبْدِيلُ وَغَيْرُ التَّبْدِيلِ.

وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْكُمَ بِشَرْعِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَمْكَنَهُ)).

فَدَعْكَ مِنْ كَلَامِ الْخَوَارِجِ الْمُعَاصِرِينَ، وَدَعْكَ مِنْ كَلَامِ الْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَلْقِ بِهِ إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أَمُّ قَشْعَمِ، وَأَقْبِلْ عَلَى الْحَقِّ الْمَبْنِىِّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

أَلَا إِنَّ فِتْنَةَ الْعَصْرِ هُمْ أُولَئِكَ الْخَوَارِجُ الْأَنْجَاسُ الْأَرْجَاسُ -عَامَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعَدْلِهِ-.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَمَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِهِمُ الْفَائِلِ، وَمِنْ طَرِيقِهِمُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

((الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ))

((التَّفْسِيرُ: هُوَ بَيَانُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

وَتَعَلُّمُ التَّفْسِيرِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: ٢٩]، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤].

وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُبَارَكِ أَنْ يَتَدَبَّرَ النَّاسُ آيَاتِهِ، وَيَتَّعِظُوا بِمَا فِيهَا.

وَالتَّدَبُّرُ: هُوَ التَّأَمُّلُ فِي الْأَلْفَاظِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعَانِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَاتَتِ الْحِكْمَةُ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَصَارَ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ لَا تَأْثِيرَ لَهَا.

وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاتِّعَاظُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ.

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَبَّخَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِقْفَالِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَدَمِ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهَا.

وَكَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْوَاجِبَةِ، يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ عَلَى مُرَادِ اللهِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: ((حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ؛ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ؛ لَا يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يَسْتَشْرِحُوهُ؛ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللهِ -تَعَالَى- الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ، وَسَعَادَتُهُمْ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ)).

وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُبَيِّنُوهَ لِلنَّاسِ عَنْ طَرِيقِ الْكِتَابَةِ أَوِ الْمُشَافَهَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: ١٨٧].

 وَتَبْيِينُ الْكِتَابِ لِلنَّاسِ شَامِلٌ لِتَبْيِينِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ مِمَّا أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَيَانِهِ.

وَالْغَرَضُ مِنْ تَعَلُّمِ التَّفْسِيرِ: هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالثَّمَرَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَهِيَ التَّصْدِيقُ بِأَخْبَارِهِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، وَتَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ؛ لِيُعْبَدَ اللهُ بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَنْ يُشْعِرَ نَفْسَهُ حِينَ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ مُتَرْجِمٌ عَنِ اللهِ -تَعَالَى-، شَاهِدٌ عَلَيْهِ بِمَا أَرَادَ مِنْ كَلَامِهِ، فَيَكُونُ مُعَظِّمًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، خَائِفًا مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، فَيَقَعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، فَيُخْزَى بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: ٦٠].

وَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ إِلَى مَا يَأْتِي:

1* كَلَامُ اللهِ -تَعَالَى-: فَيُفَسَّرُ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ بِهِ.

مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: ٦٢].

فَقَدْ فُسِّرَ أَوْلِيَاءُ اللهِ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: ٦٣].

وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق: ٢].

فَقَدْ فُسِّرَ الطَّارِقُ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: ٣].

2* كَلَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَيُفَسَّرُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمُرَادِ اللهِ -تَعَالَى-.

مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦].

فَفَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الزِّيَادَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَعَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ: ((فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦])).

وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: ٦٠].

فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

3*كَلَامُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لَا سِيَّمَا ذَوُو الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْعِنَايَةِ بِالتَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَفِي عَصْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ أَصْدَقُ النَّاسِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَأَسْلَمُهُمْ مِنَ الْأَهْوَاءِ، وَأَطْهَرُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ التَّوْفِيقِ لِلصَّوَابِ.

 مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: ٤٣].

فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّهُ فَسَّرَ الْمُلَامَسَةَ بِالْجِمَاعِ)).

4*كَلَامُ التَّابِعِينَ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِأَخْذِ التَّفْسِيرِ عَنِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ التَّابِعِينَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَأَسْلَمُ مِنَ الْأَهْوَاءِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ تَغَيَّرَتْ كَثِيرًا فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا أَجْمَعُوا -يَعْنِي: التَّابِعِينَ - عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ، أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ، أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إِلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ؛ بَلْ مُبْتَدِعًا؛ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ، وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا)).

5*مَا تَقْتَضِيهِ الْكَلِمَاتُ مِنَ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوِ اللُّغَوِيَّةِ حَسَبَ السِّيَاقِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: ١٠٥]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: ٣]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [ابراهيم: 4].

فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ وَاللُّغَوِيُّ أُخِذَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لِبَيَانِ الشَّرْعِ، لَا لِبَيَانِ اللُّغَةِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَتَرَجَّحُ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ فَيُؤْخَذُ بِهِ)).

((إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَغَيَّرَ مَعْنَاهُ))

عِبَادَ اللهِ! لِيُحْذَرْ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ؛ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَوَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ)).

وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ؛ غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؛ الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟)).

قَالَ: ((بَلِ الرَّامِي)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْحَابَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ يَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبُهَاتِ، ((وَمَوْقِفُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَمَوْقِفُ الزَّائِغِينَ مِنْهُ بَيَّنَهُ اللهُ -تَعَالَى-، فَقَالَ فِي الزَّائِغِينَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: ٧].

وَقَالَ فِي الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧].

فَالزَّائِغُونَ يَتَّخِذُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشْتَبِهَاتِ وَسِيلَةً لِلطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَفِتْنَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَتَأْوِيلِهِ لِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ.

وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- فَهُوَ حَقٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢]، وَمَا جَاءَ مُشْتَبِهًا رَدُّوهُ إِلَى الْمُحْكَمِ؛ لِيَكُونَ الْجَمِيعُ مُحْكَمًا.

وَيَقُولُونَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: إِنَّ للهِ -تَعَالَى- يَدَيْنِ حَقِيقِيَّتَيْنِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، لَا تُمَاثِلَانِ أَيْدِيَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا أَنَّ لَهُ ذَاتًا لَا تُمَاثِلُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى- يَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]

وَيَقُولُونَ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي: إِنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ كِلْتَاهُمَا بِتَقْدِيرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لَكِنَّ الْحَسَنَةَ سَبَبُهَا التَّفَضُّلُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ، أَمَّا السَّيِّئَةُ فَسَبَبُهَا فِعْلُ الْعَبْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠].

فَإِضَافَةُ السَّيِّئَةِ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ، لَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى مُقَدِّرِهِ، أَمَّا إِضَافَةُ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ فَمِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مُقَدِّرِهِ، وَبِهَذَا يَزُولُ مَا يُوهِمُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ.

وَيَقُولُونَ فِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَكٌّ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ، وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا، كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي نَفْسِ السُّورَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [يونس: ١٠٤] الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْهُ فَأَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، بَلْ أَكْفُرُ بِهِمْ، وَأَعْبُدُ اللهَ.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: ٩٤] أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ جَائِزًا عَلَى الرَّسُولِ ﷺ، أَوْ وَاقِعًا مِنْهُ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: ٨١]؛ هَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ جَائِزًا عَلَى اللهِ -تَعَالَى- أَوْ حَاصِلًا؟! كَلَّا، فَهَذَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا وَلَا جَائِزًا عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا} [مريم: 92-٩٣].

وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ، وَظَنُّ مَا لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ ﷺ.

الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَصْحَابُ الْعُقُولِ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُخْرِجُونَ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى مَعْنًى يَتَلَاءَمُ مَعَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، فَيَبْقَى الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ)).

((السَّلَامَةُ مِنَ الشُّبُهَاتِ سَبِيلُ الْهُدَى وَالسَّعَادَةِ))

((إِذَا سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ حَصَلَ لَهُ أَعْظَمُ غَايَتَيْنِ مَطْلُوبَتَيْنِ، بِهِمَا سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ، وَهُمَا: الْهُدَى، وَالرَّحْمَةُ.

قَالَ -تَعَالَى- عَنْ مُوسَى وَفَتَاهُ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: ٦٥].

فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: ١٠].

فَإِنَّ الرَّشَدَ: هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يَنْفَعُ، وَالْعَمَلُ بِهِ.

وَالرَّشَدُ وَالْهُدَى إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ، وَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَالْهُدَى هُوَ الْعِلْمُ بِالْحَقِّ، وَالرَّشَدُ هُوَ الْعَمَلُ بِهِ، وَضِدُّهُمَا: الْغَيُّ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى.

وَقَدْ يُقَابَلُ الرَّشَدُ بِالضَّرِّ وَالشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: ٢١].

وَقَالَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: ١٠].

فَالرُّشْدُ يُقَابِلُ الْغَيَّ تَارَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: ١٤٦].

وَيُقَابِلُ الضَّرَّ وَالشَّرَّ -كَمَا تَقَدَّمَ-؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَيَّ سَبَبُ حُصُولِ الشَّرِّ وَالضَّرِّ، وَوُقُوعِهِمَا بِصَاحِبِهِ.

فَالضَّرُّ وَالشَّرُّ غَايَةُ الْغَيِّ وَثَمَرَتُهُ، كَمَا أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْفَلَاحَ غَايَةُ الْهُدَى وَثَمَرَتُهُ.

فَلِهَذَا يُقَابَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنَقِيضِهِ وَسَبَبِ نَقِيضِهِ؛ فَيُقَابَلُ الْهُدَى بِالضَّلَالِ؛ كَقَوْلِهِ: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [النحل: ٩٣]، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} [النحل: ٣٧].

وَهُوَ كَثِيرٌ -يَعْنِي: مُقَابَلَةَ الْهُدَى بِالضَّلَالِ-.

وَيُقَابَلُ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه: ١٢٣].

فَقَابَلَ الْهُدَى بِالضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ.

وَجَمَعَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ، وَالضَّلَالِ وَالْعَذَابِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: ٤٧].

فَالضَّلَالُ ضِدُّ الْهُدَى، وَالسُّعُرُ: الْعَذَابُ، وَهُوَ ضِدُّ الرَّحْمَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: ١٢٤].

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنْ فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَالْفَلَاحِ وَالْهُدَى)).

((احْذَرْ مَنْ تَشَبَّهَ بِالْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ!))

اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ، وَالْزَمِ الْجَادَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ، وَاحْذَرْ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، فَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَتَزَيُّونَ بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسُوا هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصْلًا، فَاحْذَرْ هَؤُلَاءِ؛ فَخَطَرُهُمْ عَظِيمٌ، وَضَرَرُهُمْ جَسِيمٌ.

وَهَؤُلَاءِ قَعَدُوا عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهَا بِأَقْوَالِهِمْ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهَا بِأَفْعَالِهِمْ.

هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ مَنْهَجِ السَّلَفِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ السِّتَّةِ؛ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِالْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ.

فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدُّخَلَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفَوْا، وَأَنْ يُطْرَحُوا طَرْحَ النَّوَاةِ، وَأَنْ يَكُونُوا مَزْجَرَ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى سَالِكِي هَذَا الطَّرِيقِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنَظِّفَ هَذَا الطَّرِيقَ مِنْهُمْ، وَأَنْ يُرِيحَ مِنْهُمُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: 

إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ

رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَغَيَّرَ مَعْنَاهُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  نَبيُّنَا مُحَمَّد ﷺ
  الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  حدث في رمضان
  وَأَعِدُّوا ‌لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
  مواعظ رمضانية - الجزء الأول
  الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ السَّادِسُ: احْذَرُوا عَوَاقِبَ الذُّنُوبِ!))
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان