الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ

الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ

((الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:


الْمَالُ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا

فَإِنَّ الْمَالَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا، بِهَذَا نَطَقَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ الْمَرْضِيَّاتُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ذَاتُ الْآثَارِ الْبَاقِيَاتِ الْمُسْعِدَاتِ لِفَاعِلِهَا هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا مِنْ كُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ زِينَةٌ لَهُ، وَهِيَ خَيْرٌ أَمَلًا.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ} [آل عمران: 14].

يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، فَبَدَأَ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِهِنَّ أَشَدُّ، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ)).

فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِهِنَّ الْإِعْفَافَ، وَكَثْرَةَ الْأَوْلَادِ؛ فَهَذَا مَطْلُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، قال ﷺ: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)). ((إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)).

وَحُبُّ الْبَنِينَ تَارَةً يَكُونُ لِلتَّفَاخُرِ وَالزِّينَةِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَهَذَا مَحْمُودٌ مَمْدُوحٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: ((تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَحُبُّ الْمَالِ -كَذَلِكَ- تَارَةً يَكُونُ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالتَّجَبُّرِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ فَهَذَا مَذْمُومٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّفَقَةِ فِي الْقُرُبَاتِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْقَرَابَاتِ، وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ؛ فَهَذَا مَمْدُوحٌ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ شَرْعًا.


مَعْنَى الْمَالِ

الْمَالُ هُوَ: ((كُلُّ مَا يَتَمَوَّلُهُ وَيَمْلِكُهُ الْفَرْدُ، أَوْ تَمْلِكُهُ الْجَمَاعَةُ؛ مِنْ مَتَاعٍ، أَوْ عُرُوضِ تِجَارَةٍ، أَوْ عَقَارٍ، أَوْ نُقُودٍ، أَوْ حَيَوَانٍ))، وَكَانَتْ أَمْوَالُ الْعَرَبِ أَنْعَامَهُمْ.

وَقِيلَ: ((سُمِّيَ الْمَالُ مَالًا؛ لِأَنَّهُ مَالَ بِالنَّاسِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-))، فَبِالْمَالِ يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَبِهِ يَصْلُحُ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ: الْفَقْرُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ)). الْحَدِيثَ.


فِتْنَةُ الْمَالِ

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْمَالَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَاخْتِبَارًا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِلْمُؤْمِنِينَ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمُ الَّتِي خَوَّلَكُمُوهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَوْلَادُكُمُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لَكُمُ اخْتِبَارٌ وَبَلَاءٌ، أَعْطَاكُمُوهَا لِيَخْتَبِرَكُمْ بِهَا وَيَبْتَلِيَكُمْ؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ أَنْتُمْ عَامِلُونَ؛ مِنْ أَدَاءِ حَقِّ اللهِ عَلَيْكُمْ فِيهَا، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فِيهَا)).

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].

مَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ إِلَّا بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُبَاشِرُوا الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تُؤْثِرُوهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ رَبِّكُمْ، وَاللهُ عِنْدَهُ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي الْجَنَّةِ لِمَنْ آثَرَ طَاعَتَهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ.

بَلْ إِنَّ الْمَالَ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ وَأَعْظَمِهَا وَأَخْطَرِهَا؛ خُصُوصًا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاتِمَةِ؛ فَفِي ((التِّرْمِذِيِّ)) عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ)). وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.

أَيِ: اللَّهْوُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُشْغِلُ الْبَالَ عَنِ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ، وَيُنْسِي الْآخِرَةَ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي الْغَنِيَّ بِغِنَاهُ، وَالْفَقِيرَ بِفَقْرِهِ، يَبْتَلِي ذَاكَ بِشُكْرِهِ، وَذَا بِصَبْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].

يَخْتَبِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحَسَنَةِ كَمَا يَخْتَبِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسَّيِّئَةِ؛ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مِنْ مُحَادَّةِ أَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمُجَانَبَةِ أَمْرِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

وَنَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْمُؤْلِمَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالنِّعَمِ وَالْأُمُورِ السَّارَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِنَمْتَحِنَ إِرَادَاتِكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَنِ اجْتَازَ الِابْتِلَاءَ بِنَجَاحٍ؛ كَانَتِ الْمَصَائِبُ وَالْمُؤْلِمَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ سَبَبَ خَيْرٍ كَبِيرٍ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَمَنْ تَجَاوَزَ حُدُودَ اللهِ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا؛ لَمْ تَنْفَعْهُ النِّعَمُ وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَاتُ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ، بَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ وَبَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَإِلَيْنَا وَحْدَنَا تُرْجَعُونَ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ أَنَّ الْأَمْوَالَ قَدْ شَغَلَتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].

وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الْمَالَ أَلْهَى الْكَثِيرِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1-2].

يَقُولُ -تَعَالَى- مُوَبِّخًا عِبَادَهُ عَنِ اشْتِغَالِهِمْ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: أَلْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ التَّكَاثُرُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَكَاثَرَ بِهِ؛ لِيَشْمَلَ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَتَكَاثَرُ بِهِ الْمُتَكَاثِرُونَ، وَيَفْتَخِرُ بِهِ الْمُفْتَخِرُونَ؛ مِنَ التَّكَاثُرِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَنْصَارِ، وَالْجُنُودِ، وَالْخَدَمِ، وَالْجَاهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ مُكَاثَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَجْهَ اللهِ.

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}؛ فَاسْتَمَرَّتْ غَفْلَتُكُمْ، وَاسْتَمَرَّ لَهْوُكُمْ وَتَشَاغُلُكُمْ {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَانْكَشَفَ -حِينَئِذٍ- لَكُمُ الْغِطَاءُ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ مَا تَعَذَّرَ عَلَيْكُمُ اسْتِئْنَافُهُ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أَنَّ الْبَرْزَخَ دَارٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا النُّفُوذُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ زَائِرِينَ، وَلَمْ يُسَمِّهِمْ مُقِيمِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي دَارٍ بَاقِيَةٍ غَيْرِ فَانِيَةٍ.

وَاللهُ -تَعَالَى- يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، ((وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُعْطِي الْمَالَ مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ)). رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ)).

«وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ أَحَبَّ»: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ؛ كَسُلَيْمَانَ وَعُثْمَانَ، «وَمَنْ لَا يُحِبُّ»: كَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، قَالَ تَعَالَى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: ٢٠]؛ أَيْ: مَمْنُوعًا.

فَلَا يَغْتَرَّنَّ الْمَرْءُ إِذَا رَأَى أَهْلَ الْمَعَاصِي قَدْ أُعْطُوا الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ وَدَلِيلُهُ فِي كِتَابِ رَبِّنَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزُّخْرُف: ٣٣- ٣٥].

«وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ»: كَالنَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعْطِيَنَا الْإِيمَانَ، وَأَلَّا يَنْزِعَهُ مِنَّا، وَأَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يَتَوَفَّانَا مُسْلِمِينَ.


حَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ بِالْمَالِ

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَخْشَى عَلَى أُمَّتِهِ الْفَقْرَ، بَلْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَسْطِ الدُّنْيَا، وَمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَتِهَا، فَقَالَ ﷺ: ((فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ؛ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟)).

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ))؛ أَيْ: نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ -رِوَايَةً-، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا)).

قَالُوا: ((وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((بَرَكَاتُ الْأَرْضِ)).

((أَرَادَ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ نَمَاءَهَا وَمَا يَخْرُجُ مِنْ نَبَاتِهَا)).

((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا)).

قَالُوا: ((وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((بَرَكَاتُ الْأَرْضِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟)).

قَالَ: ((لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ؛ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ)).

((إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ) أَيْ: يُقَارِبُ الْقَتْلَ.

((إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ)): قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((النِّهَايَةِ)): ((الْخَضِرُ -بِكَسْرِ الضَّادِ-: نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ))؛ فَهَذَا مَثَلٌ لِلْمُقْتَصِدِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ وَجَيِّدِهَا الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ بِتَوَالِي أَمْطَارِهِ فَتَحْسُنُ وَتَنْعُمُ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَيْجِ الْبُقُولِ وَيُبْسِهَا؛ حَيْثُ لَا تَجِدُ سِوَاهَا، فَلَا تَرَى الْمَاشِيَةَ تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا، وَلَا تَسْتَمْرِؤُهَا.

فَضَرَبَ آكِلَةَ الْخَضِرِ مِنَ الْمَوَاشِي مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَهُوَ بِنَجْوَةٍ مِنْ وَبَالِهَا كَمَا نَجَتْ آكِلَةُ الْخَضِرِ؛ فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا؛ اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ -اجْتَرَّ الْبَعِيرُ؛ الْجِرَّةُ: مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ بَطْنِهِ لِيَمْضُغَهُ، ثُمَّ يَبْلَعُهُ-، ثُمَّ اجْتَرَّتْ وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ -أَيْ: خَرَجَ رَجِيعُهَا عَفْوًا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ لِاسْتِرْخَاءِ ذَاتِ بَطْنِهَا، فَيَبْقَى نَفْعُهَا، وَيَخْرُجُ فُضُولُهَا، وَلَا يَتَأَذَّى بِهَا-، وَثَلَطَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ)).

((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ؛ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ؛ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)).

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِيهِ مَثَلَانِ، ضَرَبَ أَحَدَهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا، وَمَنْعِ مَا جَمَعَ مِنْ حَقِّهِ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الْآخَرُ؛ فَضَرَبَهُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي جَمْعِ الْمَالِ، وَبَذْلِهِ فِي حَقِّهِ)).

وَحَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ بِالْمَالِ كَسَائِرِ أُمُورِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. وَاضِحَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

الْحَيَاةُ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ بِلَا فَارِقٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَالْحَيَاةُ ابْتِلَاءٌ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي تَفْصِيلَاتِهَا.

وَالْحَيَاةُ فِي جَمِيعِ لَحَظَاتِهَا وَفِي جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهَا ابْتِلَاءٌ؛ إِمَّا بِالْخَيْرِ وَإِمَّا بِالشَّرِّ، إِمَّا بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَإِمَّا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ.

الْحَيَاةُ كُلُّهَا ابْتِلَاءٌ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ الْإِنْسَانَ وَيَمْتَحِنَهُ وَيَخْتَبِرَهُ؛ لِيَعْرِفَ عَزْمَهُ وَصَبْرَهُ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَيَسْتَخْرِجَ مَكْنُونَ فُؤَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ؛ لِيَعْلَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنَ الطَّائِعَ مِنَ الْمُنْحَرِفِ الْفَاجِرِ؛ لِيُثِيبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ غَيْرِ مَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، تَعَالَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

مَفْهُومُ الْحَيَاةِ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.

وَلِذَا تَرَى النَّاسَ مَعَ الْمَالِ عَلَى أَصْنَافٍ؛ بَيْنَ مُنْفِقٍ وَمُمْسِكٍ، وَمُسْرِفٍ وَمُقَتِّرٍ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100].


بَسْطُ الدُّنْيَا وَسَعَةُ الرِّزْقِ لَيْسَتْ كَرَامَةً لِلْعَبْدِ

لَقَدْ أَنْكَرَ رَبُّنَا -جَلَّ جَلَالُهُ- عَلَى أَقْوَامٍ تَوَهَّمُوا أَنَّ بَسْطَ الدُّنْيَا وَسَعَةَ الرِّزْقِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَامَةِ اللهِ لَهُمْ، وَأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْفَقْرِ دَلِيلٌ عَلَى هَوَانِ الْمَرْءِ عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15-17] أَيْ: ((لَمْ أَبْتَلِهِ بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ الْمَرْءَ بِطَاعَتِهِ، وَيُهِينُهُ بِمَعْصِيَتِهِ))، كَمَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي ((التَّفْسِيرِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56] ((يَعْنِي: أَيَظُنُّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ أَنَّ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا، وَمَعَزَّتِهِمْ عِنْدَنَا؟! كَلَّا؛ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِهِمْ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 35-36].

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56].

أَخْطَئُوا وَخَابَ رَجَاؤُهُمْ، بَلْ إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمُ اسْتِدْرَاجًا وَإِنْظَارًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ؛ لِذَلِكَ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {بَل لَا يَشْعُرُونَ})).

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 37].


نِعْمَةُ الْمَالِ

إِنَّ الْمَالَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَهُوَ عَصَبُ الْحَيَاةِ، وَرَكِيزَةُ تَحْقِيقِ الْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَالرُّقِيِّ إِلَى مَدَارِجِ التَّقَدُّمِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَحْقِيقِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ؛ كَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-{وَالَّذِينَ فِي أَمْــوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُـومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25].

وَقال تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

وَالْمَالُ وَسِيلَةٌ، لَا غَايَةٌ، إِذَا اسْتُخْدِمَ فِي الصَّلَاحِ كَانَ نِعْمَةً، وَإِذَا اسْتُخْدِمَ فِي الْفَسَادِ كَانَ نِقْمَةً؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: بَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلَاحِي، ثُمَّ آتِيَهُ، فَفَعَلْتُ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ إِلَيَّ الْبَصَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ، وَأَرْغَبَ لَكَ رَغْبَةً مِنَ الْمَالِ صَالِحَةً».

قُلْتُ: ((إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؛ فَأَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).

فَقَالَ: «يَا عَمْرُو! نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ». هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُ عَمْرٍو: «أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلَاحِي»: أَنْ أُعِدَّ ثِيَابِي وَسِلَاحِي.

قَوْلُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «فَصَعَّدَ» أَيْ: رَفَعَ إِلَيَّ الْبَصَرَ، «ثُمَّ طَأْطَأَ» أَيْ: خَفَضَ.

قَوْلُهُ ﷺ: «فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ» أَيْ: يُعْطِيَكَ اللهُ الْغَنِيمَةَ.

قَوْلُهُ: «أَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً» أَيْ: أُعْطيكَ دَفْعَةً مِنَ الْمَالِ صَالِحَةً.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ» أَيْ: نِعْمَ الْمَالُ الْحَلَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي حَاجَتِهِ، ثُمَّ فِي ذَوِي رَحِمِهِ وَأَقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ، ثُمَّ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ.. «لِلْمَرْءِ الصَّالحِ»: الَّذِي يُرَاعِي حَقَّ اللهِ، وَحَقَّ عِبَادِ اللهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ -عِبَادَ اللهِ- الْعَمَلُ عَلَى تَحْسِينِ الْمُسْتَوَى الِاقْتِصَادِيِّ لِلْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَعَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ: بِـ«الْمَالِ الصَّالِحِ»؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ-: «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي».

وَفِيهِ: بَيَانُ قِيمَةِ الْمَالِ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ، وَمَا أَشَدَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا؛ لِتَقْوِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأُمَّةِ؛ وَلِإِعْدَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْمَالَ لِمَعَاشِ الْعِبَادِ، وَلِصَلَاحِ دِينِهِمْ، فَقَالَ تعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ: لِمَعَاشِكُمْ، وَصَلَاحِ دِينِكُمْ.

 ((وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))؛ فَجَعَلَ الْغِنَى مَعَ الْإِنْفَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ مَعَ الْقِيَامِ بِهِ.

وَقَدْ سَمَّى -سُبْحَانَهُ- الْمَالَ خَيْرًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ أَنَّ ((الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ))، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِالشَّرِّ مَعْصِيَةُ اللهِ فِي الْخَيْرِ، لَا نَفْسُهُ.

وَأَعْلَمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِهَا، وَنَهَى أَنْ يُؤْتَى السُّفَهَاءَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمَدَحَهُ النَّبِيُّ بِقَوْلِهِ: ((نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الْمَرْءِ الصَّالِحِ)).

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ((لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُرِيدُ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَيُعْطِي حَقَّهُ)).

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: ((كَانُوا يَرَوْنَ السَّعَةَ عَوْنًا عَلَى الدِّينِ)).

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: ((نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى التُّقَى الْغِنَى)).

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: ((الْمَالُ فِي زِمَانِنَا هَذَا سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ)).

وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: ((مَا كَانَ الْمَالُ فِي زَمَانٍ مُنْذُ خُلِقَتِ الدُّنْيَا أَنْفَعَ مِنْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ))، وَالْخَيْرُ كَالْخَيْلِ؛ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ.

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْمَالَ سَبَبًا لِحِفْظِ الْبَدَنِ، وَحِفْظُهُ سَبَبٌ لِحِفْظِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ سَبَبُ عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنْهُ مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَصُرِفَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَاسْتَعْبَدَ صَاحِبَهُ، وَمَلَكَ قَلْبَهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُذَمُّ مِنْهُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ صَاحِبُهُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ شَغَلَهُ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْمَحْمُودَةِ، فَالذَّمُّ لِلْجَاعِلِ، لَا لِلْمَجْعُولِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ))؛ فَذَمَّ عَبْدَهُمَا دُونَهُمَا)).


مِنْ أَبْوَابِ إِنْفَاقِ الْمَالِ الضَّرُورِيَّةِ

إِنَّ إِنْفَاقَ الْأَمْوَالِ فِي طَاعَةِ اللهِ لَهُ أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: إِنْفَاقُ الْأَمْوَالِ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللهِ: أَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَهْلِهِ؛ مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْآبَاءِ، وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ طَاعَةٌ للهِ وَبِرٌّ وَأَجْرٌ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَذَهَبَ سَلْمَانُ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ؛ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً يَعْنِي: فِي ثِيَابِ الْمِهْنَةِ-؛ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ بَعْلٍ.

فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ؟!

فَقَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.

فَكَنَّتْ عَنِ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهَا، وَعَدَمِ قُرْبَانِهِ مِنْهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّفِيفَةِ الَّتِي لَا تَخْدِشُ، وَلَا يَفْعَلُ فِعْلَهَا النَّسِيمُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.

فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَدَّمَ إِلَيْهِ- يَعْنِي: إِلَى سَلْمَانَ- طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ.

فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.

قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي صَائِمٌ.

قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.

فَأَكَلَ مَعَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ حَتَّى صَلَّيَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا رَجَعَا؛ قَامَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِكَيْ يُصَلِّيَ.

فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: نَمْ، فَنَامَ.

ثُمَّ قَامَ لِيُصَلِّيَ، فَقَالَ: نَمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ الْأَعْلَى قَالَ: الْآنَ فَقُمْ، فَصَلَّيَا مَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُصَلِّيَا، ثُمَّ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي صَدَّقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).

فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ قَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)). فَاعْتَمَدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ بِهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ زَوَّجَهُ، فَلَمْ يَكْشِفْ لِأَهْلِهِ سِتْرًا، ثُمَّ ذَهَبَ عَمْرٌو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ النَّبِيَّ ﷺ بِحَالِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِذَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِبَصِيرَةٍ وَوَعْيٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ نَصَبًا فِي الْأَخْذِ بِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَدَقَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: ((عِنْدِي دِينَارٌ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ».

قَالَ: ((عِنْدِي آخَرُ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى زَوْجَتِكَ».

قَالَ: ((عِنْدِي آخَرُ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، ثُمَّ أَنْتَ أَبْصَرُ». الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

«بِصَدَقَةٍ»: الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا: النَّفَقَةُ.

«أَنْتَ أَبْصَرُ» أَيْ: أَنْتَ أَدْرَى بِذَوِي قُرْبَاكَ؛ فَقَدِّمِ الْأَحْوَجَ مِنْهُمْ فَالْأَحْوَجَ، فَرَتَّبَ ﷺ أَوْلَوِيَّةَ النَّفَقَاتِ، وَبَيَّنَ أَهَمِّيَّتَهَا، فَأَعْظَمُهَا نَفَقَةُ الْمَرْءِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ عَلَى الزَّوْجَةِ، ثُمَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ -الْخَادِمِ-، ثُمَّ أَنْتَ أَبْصَرُ.

هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ تَوْجِيهٌ وَتَعْلِيمٌ لِلسَّائِلِ أَيْنَ يَضَعُ صَدَقَتَهُ؛ إِذْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ» يَعْنِي: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ الْبَدْءَ بِالنَّفْسِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْبَدْءِ بِالْغَيْرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الَّذِي يَمْلِكُهُ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، فَيَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ، وَيَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ.

ثُمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّفَقَةِ الزَّوْجَةُ الَّتِي هِيَ تَحْتَ يَدِهِ، وَنَفَقَتُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ، لَا عَلَى أَبَوَيْهَا، وَلَا عَلَى أَقَارِبِهَا، فَيَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ بِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ بِوَالِدَيْهِ، ثُمَّ بِأَوْلَادِهِ، وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَإِذَا كَثُرَ الْمَالُ بِيَدِهِ؛ فَيَتَوَسَّعُ فِي الصَّدَقَاتِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا زَادَ عَنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ» أَيْ: تَضَعُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَكُونُ لَكَ فِيهِ الْأَجْرُ.

إِنَّ إِطْعَامَكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ؛ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ، وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ، وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ، وَالْمَرْكَبُ.. تَحْتَسِبُهُ؛ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ؛ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَيَكُونَ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ -ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى- لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا؛ حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ.. لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

إِنَّ الْمَرْءَ يُؤْجَرُ عَلَى إِنْفَاقِهِ فِي بَيْتِهِ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ -يعني عِتْقًا-، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ؛ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لَا أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا زَائِدًا مَعَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الدِّينَارِ الَّذِي يُنْفَقُ فِي تَرَفٍ، وَيُوضَعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.


التَّرْغِيبُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ

((لَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ كَرَمًا، وَرَهَّبَ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالِادِّخَارِ شُحًّا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَلَفْظُهُ: ((إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ يُجْزَ غَدًا، وَمَلَكٌ بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا))، وَحَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا عَبْدِي! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا بِيَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((لَا يَغِيضُهَا)) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ؛ أَيْ: لَا يَنْقُصُهَا.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ -وَالْفَضْلُ: مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، أَيْ: مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ- يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ -أَيْ: إِنَّ قَدْرَ الْحَاجَةِ لَا لَوْمَ عَلَى صَاحِبِهِ-، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا وِبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: اللهم مَنْ أَنْفَقَ فَأَعْقِبْهُ خَلَفًا، وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تَلَفًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ، وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ، وَلَفْظُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَا خَلَقَ اللهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلَا آبَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا فِي قَوْلِ الْمَلَكَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

وَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى} [الليل: 1-10])).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْجُنَّةُ -بِضَمِّ الْجِيمِ-: مَا أَجَنَّ الْمَرْءَ وَسَتَرَهُ، الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا: الدِّرْعُ- مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ؛ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ؛ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُنْفِقَ كُلَّمَا أَنْفَقَ؛ طَالَتْ عَلَيْهِ وَسَبَغَتْ حَتَّى تَسْتُرَ بَنَانَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَأَنَّ الْبَخِيلَ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يُنْفِقَ؛ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ، شَبَّهَ اللهُ -تَعَالَى- نِعَمَ اللهِ -تَعَالَى- وَرِزْقَهُ بِالْجُنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِالْجُبَّةِ))؛ فَالْمُنْفِقُ كُلَّمَا أَنْفَقَ؛ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ، وَسَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى تَسْتُرَهُ سَتْرًا كَامِلًا شَامِلًا، وَالْبَخِيلُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يُنْفِقَ؛ مَنَعَهُ الشُّحُّ، وَالْحِرْصُ، وَخَوْفُ النَّقْصِ، فَهُوَ يَمْنَعُهُ، يَطْلُبُ أَنْ يَزِيدَ مَا عِنْدَهُ، وَأَنْ تَتَّسِعَ عَلَيْهِ النِّعَمُ فَلَا تَتَّسِعُ، وَلَا تَسْتُرُ مِنْهُ مَا يَرُومُ سِتْرَهُ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْأَخِلَّاءُ ثَلَاثَةٌ: فَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بَابَ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَرْجِعُ وَأَتْرُكُكَ، فَذَلِكَ أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ يُشَيِّعُونَكَ حَتَّى تَأْتِيَ قَبْرَكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ فَيَتْرُكُونَكَ، وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ لَكَ: مَا أَعْطَيْتَ وَمَا أَمْسَكْتَ فَلَيْسَ لَكَ، فَذَلِكَ مَالُكَ، وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ حَيْثُ دَخَلْتَ وَحَيْثُ خَرَجْتَ، فَذَلِكَ عَمَلُكَ، فَيَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَهْوَنِ الثَّلَاثَةِ عَلَيَّ)). رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَا عِلَّةَ لَهُ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ)).

قَالَ: ((فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبَرٌ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟)).

قَالَ: ((أُعِدُّ ذَلِكَ لِأَضْيَافِكَ)).

الصَّبْرَةُ: الْكَوْمَةُ.

قَالَ: ((أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَكَ دُخَانٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟! أَنْفِقْ يَا بِلَالُ! وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْأَلْبَانِيِّ.

وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَقَالَ: ((أَمَا تَخْشَى أَنْ يَفُورَ لَهُ بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟!)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَادَ بِلَالًا، فَأَخْرَجَ لَهُ صُبَرًا مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟)).

قَالَ: ((ادَّخَرْتُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((أَمَا تَخْشَى أَنْ يُجْعَلَ لَكَ بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟! أَنْفِقْ يَا بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا)). قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ((رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) وَ((الْأَوْسَطِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ))، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تُوكِي فَيُوكَ عَلَيْكِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَنْفِقِي، أَوِ انْفَحِي، أَوِ انْضَحِي، وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِ اللهُ عَلَيْكِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((وَانْفَحِي -بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ-، وَانْضَحِي، وَأَنْفِقِي)) الثَّلَاثَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: ((لَا تُوكِي)) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ((لَا تَدَّخِرِي، وَالْإِكَاءُ: شَدُّ رَأْسِ الْوِعَاءِ بِالْوِكَاءِ، وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ، يَقُولُ: لَا تَمْنَعِي مَا فِي يَدِكِ فَتُقْطَعَ مَادَّةُ بَرَكَةِ الرِّزْقِ عَنْكِ)) )).

قَوْلُهُ ﷺ: «لَا تُوعِي.. لَا تُوكِي»: مِنَ الْمُرَادِفَاتِ، أَيْ: لَا تَجْمَعِي وَتَشِحِّي بِالنَّفَقَةِ فَيُشَحَّ عَلَيْكِ، وَتُجَازَيْ بَتَضْيِيقِ الرِّزْقِ، وَ((لَا تُوكِي)) أَيْ: لَا تَدَّخِرِي مَا عِنْدَكِ، وَتَمْنَعِي مَا فِي يَدِكِ، تَجْعَلْنَهُ فِي وِعَاءٍ يُشَدُّ بِوِكَاءٍ؛ فَتَنْقَطِعَ مَادَّةُ الرِّزْقِ عَنْكِ، وَلَعَلَّ مَا يُؤَيِّدُ مَا فَعَلَتْ أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: مَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ». أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «مُخْتَصَرِ الشَّمَائِلِ».

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى» ﷺ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَخَاوَةِ نَفْسِ النَّبِيِّ ﷺ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ.

وَلِذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ جَابِرٌ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئا فَقَالَ: لَا».

وَمَعْنَاهُ: مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا -يَعْنِي: مَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا- فَمَنَعَهُ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا يُطْلَبُ مِنْهُ جَزْمًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِالرَّدِّ، بَلْ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ؛ أَعْطَاهُ إِنْ كَانَ الْإِعْطَاءُ سَائِغًا؛ وَإِلَّا سَكَتَ.

مَعْنَاهُ: لَمْ يَقُلْ: لَا؛ مَنْعًا لِلْعَطَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَلَّا يَقُولَهَا اعْتِذَارًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: ٩٢].

وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: «لَا أَجِدُ» وَبَيْنَ «لَا أَحْمِلُكُمْ» وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِعَظِيمِ سَخَاوَتِهِ، وَغَزَارَةِ جُودِهِ ﷺ.

فَعَلَى كُلِّ مَنْ حَرِصَ عَلَى الْخَيْرِ، وَتَعَرَّضَ لِلدَّعْوَةِ أَنْ يَتَأَسَّى بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَيَتَخَلَّقَ بِهَذَا الْخُلُقِ الْقُرْآنيِّ الطَّيِّبِ؛ إِذْ يَجْنِي ثَمَرَتَهُ طُمَأْنِينَةً فِي الْقَلْبِ، وَسَعَادَةً فِي النَّفْسِ، وَاسْتِجَابَةً مِنْ قِبَلِ النَّاسِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَلِيُحَصِّلَ ثَوَابًا عَظِيمًا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: ((أَيْ قَوْمُ أسْلِمُوا؛ فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ)).

قَالَ أَنَسٌ: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».

وَأَقْفَالُ الْقُلُوبِ لَهَا مَفَاتِحُهَا، وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ -تَعَالَى- يَنْظُرُ لِكُلِّ قُفْلٍ مِفْتَاحَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصِبْ مِفْتَاحَ قُفْلِ الْقَلْبِ لَمْ يَفْتَحْ، وَبَعْضُ النَّاسِ مَفَاتِحُ قُلُوبِهِمْ بِالْعَطَاءِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ النَّاسِ جُودًا، وَأَكْثَرَهُمْ كَرَمًا، فَعَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ وَالْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ الْجُودَ وَالْكَرَمَ.

 (( ((وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا، وَيُعَلِّمُهَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَسَدِ هُنَا: الْغِبْطَةُ، وَهُوَ تَمَنِّي مِثْلَ مَا لِلْمُغْتَبَطِ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَهُ نِيَّتُهُ، فَإِنْ تَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ؛ فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَهُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ.

وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ جَدَّتِهِ سُعْدَى -وَهِيَ امْرَأَةُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ- قَالَتْ: ((دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى طَلْحَةَ -تَعْنِي: ابْنَ عُبَيْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، قَالَتْ: فَرَأَيْتُ مِنْهُ ثِقَلًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟ لَعَلَّكَ رَابَكَ مِنَّا شَيْءٌ فَنُعْتِبَكَ؟)) أَيْ: فَنُرْضِيَكَ، نُعْطِيَكَ الْعُتْبَى، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى مَا يُرْضِي الْقَلْبَ.

قَالَ: ((لَا، وَلَنِعْمَ حَلِيلَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْتِ، وَلَكِنِ اجْتَمَعَ عِنْدِي مَالٌ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ)).

قَالَتْ: ((وَمَا يَغُمُّكَ مِنْهُ؟! ادْعُ قَوْمَكَ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ)).

فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! عَلَيَّ بِقَوْمِي)).

فَسَأَلْتُ الْخَازِنَ: ((كَمْ قَسَمَ؟)).

قَالَ: ((أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ مَالِكِ الدَّارِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَخَذَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي سُرَّةٍ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: ((اذْهَبْ بِهَا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَهَّ فِي الْبَيْتِ سَاعَةً)) يَعْنِي: تَشَاغَلْ عَنْهُ فِي الْبَيْتِ سَاعَةً تَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ.

فَذَهَبَ بِهَا الْغُلَامُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ)).

فَقَالَ: ((وَصَلَهُ اللهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ يَا جَارِيَةُ! اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلَانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلَانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلَانٍ، حَتَّى أَنْفَدَهَا)) أَيْ: أَنْفَقَهَا كُلَّهَا، وَأَجْهَزَ عَلَيْهَا.

وَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَقَالَ: ((اذْهَبْ بِهَا إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَتَلَهَّ فِي الْبَيْتِ سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ)).

فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ)).

فَقَالَ: ((رَحِمَهُ اللهُ وَوَصَلَهُ، تَعَالَيْ يَا جَارِيَةُ! اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلَانٍ بِكَذَا، وَاذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلَانٍ بِكَذَا، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلَانٍ بِكَذَا))، فَاطَّلَعَتِ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، وَقَالَتْ: ((نَحْنُ -وَاللهِ- مَسَاكِينُ فَأَعْطِنَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلَّا دِينَارَانِ، فَدَحَى بِهِمَا إِلَيْهَا)) أَيْ: رَمَى بِهِمَا إِلَيْهَا.

وَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ؛ فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفًا.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَضَعَهَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مَرَضِهِ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! ابْعَثِي بِالذَّهَبِ إِلَيَّ))، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَشَغَلَ عَائِشَةَ مَا بِهِ؛ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُغْمَى عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَيَشْغَلُ عَائِشَةَ مَا بِهِ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ فَتَصَدَّقَ بِهَا، وَأَمْسَى رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فِي جَدِيدِ الْمَوْتِ -أَيْ: فِي أَوَّلِهِ-، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ بِمِصْبَاحٍ لَهَا إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا، فَقَالَتْ: ((أَهْدِ لَنَا فِي مِصْبَاحِنَا مِنْ عُكَّتِكَ السَّمْنَ -وَبِهِ إِضَاءَةُ الْمِصْبَاحِ-؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ أَمْسَى فِي جَدِيدِ الْمَوْتِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَخَرَجَ عَطَاؤُهُ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَتْ تَقْضِي حَوَائِجَهُ، فَفَضَلَ مَعَهَا سَبْعَةٌ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ فُلُوسًا، قَالَ: قُلْتُ: لَوْ أَخَّرْتَهُ لِلْحَاجَةِ تَنُوبُكَ، أَوْ لِلضَّيْفِ يَنْزِلُ بِكَ؟

قَالَ: ((إِنَّ خَلِيلِي عَهِدَ إِلَيَّ أَيُّمَا ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُوكِئَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَمْرٌ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُفْرِغَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ -أَيْضًا-، وَالطَّبَرَانِيُّ بِاخْتِصَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ أَوْكَى عَلَى ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ كَانَ جَمْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُكْوَى بِهِ)). هَذَا لَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا أَبْقَى صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ؛ إِلَّا شَيْئًا أُعِدُّهُ لِدَيْنٍ)). رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا ابْنَ أَخِي! كُنْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ آخِذًا بِيَدِهِ، فَقَالَ لِي: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا وَفِضَّةً أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قِنْطَارًا؟)).

قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! أَذْهَبُ إِلَى الْأَقَلِّ وَتَذْهَبُ إِلَى الْأَكْثَرِ؟!! أُرِيدُ الْآخِرَةَ وَتُرِيدُ الدُّنْيَا؟!! قِيرَاطًا)) فَأَعَادَهَا عَلَيَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

رَوَاهُ الْبَزَّارُ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ((بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا تَحَوَّلَ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ؛ إِلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِلدَّيْنِ إِنْ كَانَ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: ((دَخَلْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ نَعُودُهُ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا يَقُولُونَ؛ وَلَكِنْ لَيْتَ مَا فِي تَابُوتِي هَذَا جَمْرٌ، فَلَمَّا مَاتَ نَظَرُوا؛ فَإِذَا فِيهِ أَلْفٌ أَوْ أَلْفَانِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ((بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: ((انْظُرُوا إِلَى دَاخِلَةِ إِزَارِهِ))، فَأُصِيبَ دِينَارٌ أَوْ دِينَارَانِ، فَقَالَ: ((كَيَّتَانِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيَّةٌ))، ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيَّتَانِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوَجَدُوا فِي شَمْلَتِهِ دِينَارَيْنِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((كَيَّتَانِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

قَالَ الْحَافِظُ: ((وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ادَّخَرَ مَعَ تَلَبُّسِهِ بِالْفَقْرِ ظَاهِرًا، وَمُشَارَكَتِهِ الْفُقَرَاءَ فِيمَا يَأْتِيهِمْ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَهَذَا سَبَبُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((كَيَّةٌ، كَيَّتَانِ)) كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ)).

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأُتِيَ بِجَنَازَةٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: ((هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ؟)).

قَالُوا: ((لَا)).

قَالَ: ((فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ، ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ)).

فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ: ((ثَلَاثُ كَيَّاتٍ)). الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْبُخَارِيُّ بِنَحْوِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))».

فَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَفْرُوضَةٍ: الصَّدَقَةُ، وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البَقَرَة: 177].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البَقَرَة: 280].

وَقَالَ ﷺ كَمَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ...))، ذَكَرَ مِنْهُمْ:

((وَرَجَلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).

وَصَدَقَةُ السِّرِّ -عِبَادَ اللهِ- أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271].

وَذَلِكَ لِأَنَّها أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ؛ إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ وَإِعْلَانِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ.. مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِالمتَصَدِّقِ.

وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاج؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البَقَرَة: 264].

وَالصَّدَقَةُ فِي حَالِ الصِّحَةِ أَفْضَلُ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: ((أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَالصَّدَقَةُ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَلُ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البَلَد: 14-16].

كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإِسْرَاء: 26].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)).

وَفِي رِوَايَةِ ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:

- نَحْوُ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذَّارِيَات: 19].

- وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكِسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ.

بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ؛ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُم كُلَّهَا.

- كَمَا أَنَّهُ يُشْرَعُ لِمَنْ حَصَلَ عَلَى مَالٍ وَبِحَضْرَتِهِ أُنَاسٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُكْتَسَبِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النِّسَاء: 8]

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ.

فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!


التَّرْهِيبُ مِنْ إِمْسَاكِ الْمَالِ بُخْلًا وَشُحًّا

إِنَّ مُمْسِكَ الْمَالِ مُعَذَّبٌ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ؛ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ صَاحِبٍ إِبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا -وَالظِّلْفُ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَالْحَافِرِ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلَةِ، وَكَالْخُفِّ لِلْبَعِيرِ- تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرُبَّ مُعَذَّبٍ فِي أَمْوَالِهِ وَثَرْوَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، قَدْ تَفَرَّقَ شَمْلُهُ، وَصَارَ فَقْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَصَدَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ إِذْ يَقُولُ: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].

وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ حَيْثُ قَالَ: ((مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ؛ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ -وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ أي: وَهِيَ ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، تَابِعَةٌ بِهِ، لَا يَحْتَاجُ فِي طَلَبِهَا إِلَى سَعْيٍ كَثِيرٍ، بَلْ تَأْتِيهِ هَيِّنَةً لَيِّنَةً عَلَى رَغْمِ أَنْفِهَا وَأَنْفِ أَرْبَابِهَا- وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ؛ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.


ضَرُورَةُ حِفَاظِ الْعَبْدِ عَلَى مَالِهِ

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لِأَهَمِّيَّةِ الْمَالِ كَانَ حِفْظُهُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَيَجِبُ صَوْنُهُ وَحِمَايَتُهُ مِنْ كُلِّ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، أَوْ تَضْيِيعِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

وَلَا تُؤْتُوا -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ- نَاقِصِي الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.. لَا تُؤْتُوهُمْ أَمْوَالَهُمُ الَّتِي تَحْتَ أَيْدِيكُمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ سَبَبًا لِلْقِيَامِ بِمَعَايِشِكُمْ وَصَلَاحِ أُمُورِكُمْ؛ خَشْيَةَ إِسَاءَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَإِتْلَافِهَا فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا مَصْلَحَةَ مِنْ وَرَائِهِ؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ أَمْوَالِ الْأَفْرَادِ صِيَانَةٌ لِلثَّرْوَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلْيَكُنْ مِنْ عُقَلَائِكُمْ أَوْلِيَاءُ عَلَيْهِمْ، يَقُومُونَ بِشُؤُونِهِمْ، وَيَسْتَثْمِرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ.

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْمَالِ: مُجَانَبَةُ الْإِسْرَافِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].

وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.

فَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ: التَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَعَ عَدَمِ الْإِسْرَافِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالْإِنْفَاقِ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

يَا بَنِي آدَمَ! كُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، لَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.

وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ؛ فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 29-30].

وَلَا تُمْسِكْ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَدِّهَا، وَلَا تَبْسُطْهَا بِالْعَطَاءِ كُلَّ الْبَسْطِ، فَتُعْطِيَ جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ، فَتَقْعُدَ مَلُومًا عِنْدَ أَصْحَابِكَ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِكَ بِسَبَبِ إِمْسَاكِكَ شُحًّا وَبُخْلًا، مُنْقَطِعًا عَاجِزًا عَنْ تَحْقِيقِ مَطْلُوبَاتِكَ بِسَبَبِ بَسْطِكَ يَدَكَ تَبْذِيرًا وَإِسْرَافًا.

إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي يُمِدُّكَ بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ دَوَامًا -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمَوْضُوعُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَوْضِعَ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ- إِنَّ رَبَّكَ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ وَيُكَثِّرُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ وَيَقْتُرُ؛ لِيُتِمَّ امْتِحَانَ النَّاسِ فِي الْمَجَالَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الشُّكْرُ بِالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَيُطْلَبُ فِيهَا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ دَاءِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَيُطْلَبُ فِيهَا الصَّبْرُ وَالرِّضَا عَنِ اللهِ، وَالْقَنَاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ لِمَقَادِيرِهِ الْحَكِيمَةِ.

إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا بِأَحْوَالِ جَمِيعِ عِبَادِهِ وَمَا يُصْلِحُهُمْ عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ، بَصِيرًا بِخَفَايَا نُفُوسِهِمْ، لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 26-27].

وَلَا تُنْفِقْ مَالَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِسْرَافِ وَالْعَبَثِ إِنْفَاقًا فِي غَيْرِ حَقِّهِ، يَحْكُمُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرُّشْدِ بِأَنَّهُ مِنَ التَّبْذِيرِ.

إِنَّ الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ كَانُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَفِيمَا يَسْتَدْرِجُونَهُمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ إِلَى الْمَكْرُوهَاتِ، فَإِلَى الْمُحَرَّمَاتِ الصُّغْرَى، فَإِلَى الْكَبَائِرِ الْكُبْرَى، ثُمَّ إِلَى الْكُفْرِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

وَكَانَ الشَّيْطَانُ شَدِيدَ الْجُحُودِ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ؛ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُمْ إِذَا بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِيمَا أَذِنَ اللهُ بِبَذْلِهِ؛ لَمْ يُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى يَدْخُلَ حَدَّ التَّبْذِيرِ، وَلَمْ يُضَيِّقُوا النَّفَقَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ، وَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ، {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أَيْ: وَسَطًا مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، غَيْرَ مَائِلٍ وَلَا مُعْوَجٍّ.

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ وَتَضْيِيعِ الْمَالِ؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ.

هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَالِ فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَجَنُّبِ الْأُمُورِ الضَّارَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْعِبَادِ، بِهِ تَقُومُ أَحْوَالُهُمُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ.

وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ -اسْتِخْرَاجًا وَاسْتِعْمَالًا، وَتَدْبِيرًا وَتَصْرِيفًا- إِلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ وَأَنْفَعِهَا، وَأَحْسَنِهَا عَاقِبَةً حَالًا وَمَآلًا.

أَرْشَدَ فِيهِ إِلَى السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ وَالنَّافِعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ جَمِيلًا، وَلَا كَسَلَ مَعَهُ وَلَا فُتُورَ، وَلَا انْهِمَاكَ فِي تَحْصِيلِهِ انْهِمَاكًا يُخِلُّ بِحَالَةِ الْإِنْسَانِ.

وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالرَّدِيئَةِ، ثُمَّ إِذَا تَحَصَّلَ؛ سَعَى الْإِنْسَانُ فِي حِفْظِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ، وَالْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، هُوَ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٍ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا تَبْذِيرٍ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلْغَيْرِ؛ فَيُخْرِجُهُ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تَنْفَعُهُ، وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهَا وَخَيْرُهَا؛ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَالْجِيرَانِ، وَنَحْوِهِمْ، وَكَالْإِهْدَاءِ، وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي جَرَى الْعُرْفُ بِهَا.

وَكُلُّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الْإِسْرَافِ، وَقَصْدِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتِيًا بِكُلِّ الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَالتَّصَدُّقِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [ الفرقان: 67].

فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ فِي تَدْبِيرِ الْمَالِ؛ أَنْ يَكُونَ قَوَامًا بَيْنَ رُتْبَتَيِ الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبِذَلِكَ تَقُومُ الْأُمُورُ وَتَتِمُّ، وَمَا سِوَى هَذَا فَإِثْمٌ وَضَرَرٌ، وَنَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحَالِ.

فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَأَنْ يَلْبَسَ وَيَتَصَدَّقَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَمَا دَامَ فِي إِنْفَاقِهِ فِي أَكْلِهِ، وَشُرْبِهِ، وَلِبَاسِهِ، وَصَدَقَتِهِ؛ يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ، وَمِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَمَا بَيَّنَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ مَا خُرُوجٍ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِغُلُوٍّ، وَمِنْ دُونِ وُقُوعٍ دُونَ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَفَاءٍ، بَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْأَغَرُّ.

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَبَوَّبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بَابًا، فَقَالَ: ((بَابٌ: السَّرَفُ فِي الْمَالِ))؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«السَّرَفُ فِي الْمَالِ»: هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ أَنْ يَزِيدَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِهِ.

قَالَ ﷺ: «يَكْرَهُ لَكُمْ.. -وَذَكَرَ-: إِضَاعَةَ الْمَالِ»: هُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، أَوْ تَعْطِيلُهُ وَتَرْكُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، أَوْ إِعْطَاءُ الدَّيْنِ دُونَ إِشْهَادٍ لِغَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِ.

وَسَبَبُ النَّهْيِ: أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَنَّ فِي حِفْظِهِ مَالَهُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ، وَمَصْلَحَةَ دِينِهِ.

وَمَصْلَحَةُ دُنْيَاهُ صَلَاحٌ لِأَمْرِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّغُ حِينَئِذٍ لِأَمْرِ الدِّينِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي الْمَالِ قُوَّةُ الْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا الْمَالِ بِنَاءُ اقْتِصَادِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ.

إِنَّ مَنْ تَخَبَّطَ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ كَانَ بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ؛ فَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ.

وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا، وَلَمْ يَزْرُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ غَايَةَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَبَثِ فِي الْمَالِ، وَإِيقَاعِهِ فِي الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْوَاجِبِ فِيهِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((((يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ)) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ)).


ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ

عِبَادَ اللهِ! لِقِيمَةِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَهَمِّيَّتِهِ الْبَالِغَةِ صَارَ حِفْظُهُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ كُلُّهَا.

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَنَا بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَتَحَرِّيهِ، وَحَذَّرَنَا مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَرَهَّبَنَا مِنَ التَّوَرُّطِ فِيهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].

فَسَوَّى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ.

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَإِذَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُرْسَلِينَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ فَإِنَّ مَنْ دُونَهُمْ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ وَالتَّشْدِيدُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ؛ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ.

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البَقَرة: 172]، فَوَجَّهَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ.

وَالْمَالُ الْحَرَامُ بِكُلِّ صُوَرِهِ عَوَاقِبُهُ وَخِيمَةٌ؛ فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ؛ كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ، وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.

وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ، وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِغْلَالٍ، وَضَيَاعٍ، وَهَلَاكٍ.

وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ؛ فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدِيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.

ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ يَمْنَعُ بِهَا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمَا.

وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيَدْخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ.

قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا؛ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ!)).

وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ؛ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).

وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ؛ قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).

قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)).

قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ!)).

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))، تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

يَعْنِي: إِذَا قَضَيْتُ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْحَنَ وَأَبْيَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ عَيِيٍّ ذِي حَقٍّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبِينَ وَلَا أَنْ يُعْرِبَ عَنْ حَقِّةِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبَيِّنَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ((فَإِنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِفَتْوَايَ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ))، إِذَا أَخَذَ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ ((أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

لَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا؛ أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ حَكَمَتِ الشَّرِيعَةُ بِقَطْعِ الْيَدِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ يُسْرَقُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ)).

وَآخِذُ الْمَالِ عَنْ طَرِيقِ السَّرِقَةِ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلَعْنَةِ اللهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عَبْدَ اللهِ! اتَّقِ اللهَ! وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَائِلُكَ، وَأَنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَاخِذَ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَكَ.

الدَّمُ وَالْمَالُ.. إِيَّاكَ أَنْ تَعْتَدِيَ عَلَى مَالِ أَخِيكَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَحَرَّمَ الْغَصْبَ، وَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.

 


التَّرْهِيبُ مِنَ التَّعَدِّي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْحِفَاظِ عَلَى الْمَالِ، وَالْحَذَرِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، وَكَسْبِهِ بِغَيْرِ الطُّرُقِ الْقَانُونِيَّةِ؛ فَالْمَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَالِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ الْعَامِّ أَشَدُّ؛ لِكَثْرَةِ الذِّمَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ سَرِقَةً، أَمِ اخْتِلَاسًا، أَمْ رِشْوَةً، أَمْ إِتْلَافًا؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204-206].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

الْيَوْمَ عِنْدَمَا تَنْظُرُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ -مَالِي وَمَالُكَ، مَالُ كُلِّ مَنْ يَقْطُنُ هَذَا الْبَلَدَ، مَالُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ-، الْمَالُ الْعَامُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ؛ تَجِدُ النَّاسَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ -مَالٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْيَانِهِمْ- لَا يَرْقُبُونَ فِي هَذَا الْمَالِ الْعَامِّ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا يُرَاعُونَهُ بِحَالٍ أَبَدًا!!

لَا يَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِ وَاحِدٍ وَلَا فِي وِجْدَانِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْإِثْمَ فِيهِ أَكْبَرُ مِنَ الْإِثْمِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلَى مَالٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي أَرْوَاحِنَا مِنْ دِمَاءٍ، وَمَا فِي عُرُوقِنَا مِنْ دِمَاءٍ.

* خُطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَعَاقِبَتُهُ:

عِبَادَ اللهِ! لِلْغُلُولِ عُقُوبَةٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ الْوَفَاةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ.

وَالْغُلُولُ فِي الْأَصْلِ هُوَ: الْخِيَانَةُ.

وَأَصْلُهُ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ.

وَهُوَ فِي زَمَانِنَا -كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا-: ((الْمَالُ الْعَامُّ)).

فَالْمَالُ الْعَامُّ.. مَا أُخِذَ مِنْهُ فَهُوَ غُلُولٌ، وَالَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْغُلُولِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ -كَالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ.

وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا يَخُصُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَالتَّوَرُّطُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ بِأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ، أَوْ إِتْلَافِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُتْلَفَ -كَالْأَخْذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ- هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْخَاصَّ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الْمَالُ الْعَامُّ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

فَعُقُوبَةُ الغُلُولِ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عِمْرَان: 161].

وَأمَّا عُقُوبَتُهُ فِي الْقَبْرِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: أنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ ﷺ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ قَبْلَ المَقَاسِمِ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ نَارًا».

وَالشَّمْلةُ: تَلْفِيعَةٌ، أَوْ هِيَ كِسَاءٌ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ بِهِ المَرْءُ بَدَنَهُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا في «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ مَعَ الصَّحَابَةِ (ض3) على قُبُورٍ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْقَبْرِ الثَّالِثِ: «كلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ».

إِذَنْ؛ الْغُلُولُ: هُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرْءُ في قَبْرِهِ؛ اشْتِعَالًا لَهُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَةُ بِهِ فِي الْمَوْقِفِ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وَهُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ فِيمَا دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ يَعْنِي: غَلَّ ثِيَابًا أَوْ مَا يَسِيرُ مَسَارَ ذَلِكَ، وَيُدْرَجُ فِي سِلْكِهِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ يَعْنِي: ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».

لَقَدْ عَظَّمَ الرَّسُولُ ﷺ وَشَدَّدَ فِي أَمْرِ الْغُلُولِ، وَهُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ سَرِقَةً وَاغْتِصَابًا وَنَهْبًا؛ فَكَأَنَّمَا سَرَقَ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ الْمَغْلُولَ الْمُغْتَصَبَ الْمَنْهُوبَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَمِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ؛ فَقَدْ تَعَلَّقَت ذِمَّتُهُ بِهَذَا الَّذِي سَرَقَ مِنْهُ وَحْدَهُ.

أَعَلِمْتَ لِمَاذَا يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي سَرِقَةِ الْمَالِ الْعَامِّ؟!!

أَعَلِمْتَ لِمَ يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي مُوَاقَعَةِ الْمَرْءِ لِلْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ تَخْرِيبًا وَإِفْسَادًا؟!!

وَلِمَ يُشَدِّدُ الدِّينُ فِي نَهْبِ وَسَلْبِ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ فِي الْمُؤَسَّسَاتِ، فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَفِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَفِي الْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةِ؟!!

لِأَنَّهُ مَالُ الْأُمَّةِ.

وَهَلْ رَأَيْتَ عَاقِلًا يَسْرِقُ نَفْسَهُ؟!!

فَالَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، وَالَّذِي يُخَرِّبُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ إِنَّمَا يُخَرِّبُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُعَجِّلُ بِدَمَارِ أُمَّتِهِ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ-.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! النَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا جَاءَ بِالْخَيْرِ وَبِالْحَقِّ؛ فَاتَّبِعُوهُ تَهْتَدُوا.


حَقِيقَةُ الْغِنَى

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ». الْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

لَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مِنَ السَّخَاوَةِ الْحِرْصَ عَلَى الْغِنَى، وَالْخَوْفَ مِنَ الْفَقْرِ؛ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْغِنَى يَكُونُ بِغِنَى النَّفْسِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَرَضِ، والْفَقْرَ إِنَّمَا هُوَ فَقْرُ النَّفْسِ؛ فَحِينَئِذٍ تَجُودُ النَّفْسُ وَتَسْخُو بِالْمَالِ وَالْعَطَاءِ.

وَ«الْعَرَضُ»: هُوَ مَتَاعُ الدُّنْيَا، وَ«غِنَى النَّفْسِ»: عَدَمُ إِشْرَافِ الْقَلْبِ وَتَطَلُّعِهِ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَالْغِنَى الْحَقِيقِيُّ الْمَحْمُودُ: هوَ غِنَى النَّفْسِ، وَشِبَعُهَا، وَقِلَّةُ حِرْصِهَا، لَا كَثْرَةُ الْمَالِ مَعَ الْحِرْصِ عَلَى الزِّيَادَةِ.

إِنَّ غِنَى النَّفْسِ يَحْصُلُ بِغِنَى الْقَلْبِ؛ بِأَلَّا يَفْتَقِرَ الْعَبْدُ إِلَّا إِلَى رَبِّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيَرْضَى بِقَضَاءِ اللهِ، وَيَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ فِي كَشْفِ ضَرَّائِهِ، وَيُسَلِّمُ أَمْرَهُ كُلَّهُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِسَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ.

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرْءِ، وَحَقِيقَةِ قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ مَذْخُورٌ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ لَهُ الْعَطِيَّةَ، وَالنَّاسُ لَا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي عَدِّ مَا عِنْدَهُمْ، فَإِذَا آتَى اللَّهُ -تَعَالَى- الْإِنْسَانَ خُلُقًا حَسَنًا، وَسَجِيَّةً مُسْتَقِيمَةً؛ فَهَذَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ بِمَالٍ وَلَا عَرَضٍ، كَمَا بَيَّنَ ﷺ.

قَالَ تَعَالَى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67].

لَيْسَ حَقِيقَةُ الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْمَالِ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ، فَهُوَ يَجْتَهِدُ فِي الِازْدِيَادِ، وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ؛ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَهُوَ مَنِ اسْتَغْنَى بِمَا أُوتِيَ، وَقَنَعَ بِهِ وَرَضِيَ، وَلَمْ يَحْرِصْ عَلَى الِازْدِيَادِ، وَلَا أَلَحَّ فِي الطَّلَبِ؛ فَكَأَنَّهُ غَنِيٌّ، كَمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ الْآخِرَةَ؛ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا هَمَّهُ؛ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ».

فَمَهْمَا تَوَجَّهَ رَآهُ.. مَهْمَا آتَاهُ اللَّهُ، وَمَهْمَا مَلَكَ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَرَى إِلَّا فَقْرَهُ مَاثِلًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ!!

إِنَّ الْغِنَى النَّافِعَ أَوِ الْعَظِيمَ أَوِ الْمَمْدُوحَ غِنَى النَّفْسِ، وَإِذَا اسْتَغْنَتِ النَّفْسُ؛ كَفَّتْ عَنِ الْمَطَامِعِ، فَعَزَّتْ وَعَظُمَتْ، وَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْحَظْوَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالشَّرَفِ وَالْمَدْحِ أَكْثَرَ مِنَ الْغِنَى الَّذِي يَنَالُهُ فَقِيرُ النَّفْسِ لِحَصْرِهِ؛ فَإِنَّهُ يُوَرِّطُهُ ذَلِكَ فِي رَذَائِلِ الْأُمُورِ وخَسَائِسِ الْأَفْعَالِ؛ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ، وَبُخْلِهِ، وَيَكْثُرُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنَ النَّاسِ، وَيَصْغُرُ قَدْرُهُ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُ أَحْقَرَ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ، وَأَذَلَّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِغِنَى النَّفْسِ يَكُونُ قَانِعًا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ، لَا يَحْرِصُ عَلَى الِازْدِيَادِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا يُلِحُّ فِي الطَّلَبِ، وَلَا يُلْحِفُ فِي السُّؤَالِ، بَلْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ؛ فَكَأَنَّهُ وَاجِدٌ أَبَدًا.

وَالْمُتَّصِفُ بِفَقْرِ النَّفْسِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَقْتَنِعُ بِمَا أُعْطِيَ، بَلْ هُوَ أَبَدًا فِي طَلَبِهِ لِلِازْدِيَادِ مِنْ أيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ، ثُمَّ إِذَا فَاتَهُ الْمَطْلُوبُ حَزِنَ وَأَسِفَ؛ فَكَأنَّهُ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا أُعْطِي؛ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ.

وَغِنَى النَّفْسِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ، عِلْمًا بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ الْحِرْصِ وَالطَّلَبِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ:

غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ=فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا

وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِـ(غِنَى النَّفْسِ): حُصُولُ الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ=مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ

أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ أَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ: تَحْصِيلُ الْكَمَالَاتِ، لَا فِي جَمْعِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ الْجَمْعِ مَعَ فَقْرِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ إِلَّا فَقْرًا، فَخَيْرِيَّةُ الْمَالِ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ، بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ -وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى خَيْرًا فِي الْجُمْلَةِ-، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ لَيْسَ غَنِيًّا لِذَاتِهِ، بَلْ بِحَسَبِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ غَنِيًّا؛ لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي إِنْفَاقِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَقِيرًا؛ أَمْسَكَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ؛ خَشْيَةً مِنْ نَفَادِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَقِيرٌ صُورَةً وَمَعْنَى؛ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْأُخْرَى، بَلْ رُبَّمَا كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ.

عَنْ أبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِي: «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟».

قُلْتُ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: «أَفَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ»؟

قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ».


خُطُورَةُ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ

لَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ دِينَهُ مِنْ أَجْلِ مَالِهِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلًا عَظِيمًا تَتَجَلَّى فِيهِ خُطُورَةُ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ، وَأَنَّ سَلَامَةَ الدِّينِ مَعَ الْحِرْصِ أَمْرٌ عَزِيزٌ؛ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا مَثَلٌ عَظِيمٌ جِدًّا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِفَسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِ بِالْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ بِذَلِكَ لَيْسَ بِدُونِ فَسَادِ الْغَنَمِ بِذِئْبَيْنِ جَائِعَيْنِ ضَارِيَيْنِ بَاتَا فِي الْغَنَمِ وَقَدْ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا لَيْلًا، فَهُمَا يَأْكُلَانِ فِي الْغَنَمِ، وَيَفْتَرِسَانِ فِيهَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْغَنَمِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لَيْسَ إِفْسَادُهُ لِدِينِهِ بِأَقَلَّ مِنْ إِفْسَادِ هَذَيْنِ الذِّئْبَيْنِ لِهَذِهِ الْغَنَمِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَزْيَدَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ دِينِ الْمَرْءِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْقَلِيلُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْغَنَمِ مَعَ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِمَا إِلَّا الْقَلِيلُ، فَهَذَا الْمَثَلُ الْعَظِيمُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّحْذِيرِ مِنْ شَرِّ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا)).

وَالصُّورَةُ وَاضِحَةٌ جِدًّا، وَالْمَثَلُ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ.

يَعْنِي: لَوْ أَنَّكَ تَصَوَّرْتَ حَظِيرَةً فِيهَا أَغْنَامٌ، فَجَاءَ ذِئْبَانِ مُفْتَرِسَانِ شَرِسَانِ ضَارِيَانِ، فَدَخَلَا تِلْكَ الْحَظِيرَةَ؛ فَتَصَوَّرْ إِفْسَادَ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ الشَّرِسَيْنِ الضَّارِيَيْنِ لِهَذِهِ الْغَنَمِ، وَهِيَ بَيْنَ قَتِيلٍ وَجَرِيحٍ وَمَأْكُولٍ وَمُفْتَرَسٍ، مَعَ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْفَوْضَى الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَغْنَامِ!!

تَصَوَّرْ هَذَا تَصَوُّرًا صَحِيحًا، وَتَصَوَّرْ دِينَكَ كَالْحَظِيرَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَغْنَامُ، وَدَخَلَ تِلْكَ الْحَدِيقَةَ ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ شَرِسَانِ مُفْتَرِسَانِ مُتَوَحِّشَانِ جَائِعَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا، فَإِفْسَادُ هَذَيْنِ الذِّئْبَيْنِ-أَعْنِي: الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَعَلَى الشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا- لِدِينِ الْمُؤْمِنِ لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لِلْغَنَمِ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ.

الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَاضِحٌ جِدًّا، وَهُوَ مَخُوفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَرَصَ عَلَى الْمَالِ، وَحَرَصَ عَلَى الشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْسَدَ لِدِينِهِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْغَنَمِ.

فَهَذَا الْمَثَلُ الْعَظِيمُ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّحْذِيرِ مِنْ شَرِّ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا.

فَأَمَّا الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ؛ فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: شِدَّةُ مَحَبَّةِ الْمَالِ مَعَ شِدَّةِ طَلَبِهِ مِنْ وُجُوهِهِ الْمُبَاحَةِ، مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِهِ، وَالْجِدِّ فِي تَحْصِيلِهِ وَاكْتِسَابِهِ مِنْ وُجُوهِهِ، مَعَ الْجُهْدِ وَالْمَشَقَّةِ.

فَالْحَرِيصُ يُضَيِّعُ زَمَانَهُ الشَّرِيفَ، وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ الَّتِي لَا قِيمَةَ تَعْدِلُهَا فِي الْأَسْفَارِ وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ؛ لِجَمْعِ مَالٍ يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا قِيلَ:

وَمَنْ يُنْفِقِ الْأَيَّامَ فِي جَمْعِ مَالِهِ=مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ

قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: ((إِنَّ فُلَانًا جَمَعَ مَالًا)).

فَقَالَ: ((هَلْ جَمَعَ أَيَّامًا يُنْفِقُهُ فِيهَا؟!!)).

قِيلَ: ((لَا)).

قَالَ: ((مَا جَمَعَ شَيْئًا)).

الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا مُعَذَّبٌ صَاحِبُهُ، مَشْغُولٌ، لَا يُسَرُّ وَلَا يَلَذُّ بِجَمْعِهِ؛ لِشُغُلِهِ، فَلَا يَفْرُغُ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا لِآخِرَتِهِ؛ لِالْتِفَاتِهِ لِمَا يَفْنَى، وَغَفْلَتِهِ عَمَّا يَدُومُ وَيَبْقَى.

وَلِبَعْضِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:

لَا تَغْبِطَنَّ أَخَا حِرْصٍ عَلَى سَعَةٍ=وَانْظُرْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَاقِتِ الْقَالِي

إِنَّ الْحَرِيصَ لَمَشْغُولٌ بِثَرْوَتِهِ=عَنِ السُّرُورِ بِمَا يَحْوِي مِنَ الْمَالِ

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ حَتَّى يَطْلُبَ الْمَالَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَمْنَعَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ، وَهَذَا مِنَ الشُّحِّ الْمَذْمُومِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا الشُّحَّ)).

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ((إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ -وَالشُّحُّ: الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ- أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَوَافَقَهُمَا الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)).

وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي ((شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ)): ((قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ هُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا؛ بِأَنَّهُمْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ هَلَاكُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ -كَمَا مَرَّ- عَلَى وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَغْرِقَ أَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ وَالْمَشَقَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الْمَالِ، وَالِاسْتِحْوَاذِ عَلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَهَذَا فِيهِ تَضْيِيعُ الْعُمُرِ، وَفِيهِ تَبْدِيدُ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنَ الْأَنْفَاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِيَقُومَ بِعِبَادَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وَجْهَيِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي أَشَدُّ مِنْهُ وَأَنْكَى: وَهُوَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ عُمُرَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ مَجْهُودَهُ وَوَقْتَهُ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُحَرَّمَةِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يُمَارِي فِيهَا أَحَدٌ مِنْ وُقُوعِ الْفَسَادِ فِي الْغَنَمِ بِدُخُولِ هَذَيْنِ الذِّئْبَيْنِ، فَكَذَلِكَ ذِئْبَانِ جَائِعَانِ شَرِسَانِ مُتَوَحِّشَانِ، وَهُمَا: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الشَّرَفِ يَفْتِكَانِ بِالدِّينِ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَفْتِكُ الذِّئْبَانِ بِالْأَغْنَامِ فِي الْحَظِيرَةِ.

وَقَدْ نَصَحَكَ نَبِيُّكَ ﷺ، وَوَعَظَكَ، وَبَيَّنَ لَكَ؛ فَلَا عُذْرَ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنْ تَتَقَاعَسَ عَنْ مُرَاعَاةِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَأَنْ تَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِكَ الْبَاطِنَةِ.


مَالُ اللهِ وَدِيعَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ

عِبَادَ اللهِ! الْمَالُ فِي الْأَصْلِ مَالُ اللهِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33].

إِنَّمَا هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ يَرُدَّهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى)).

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((((أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى)) مَعْنَاهَا: ادَّخَرَهُ لِآخِرَتِهِ؛ أَيِ: ادَّخَرَ ثَوَابَهُ)).

((يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَا الْمَالُ وَالْأَهْلُونَ إِلَّا وَدِيعَةٌ=وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ

وَالدُّنْيَا لَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ، فَالْيَوْمَ مَالُكَ بِيَدِكَ، وَغَدًا بِيَدِ وَارِثِكَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْكَ غُرْمُهُ، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

وَلْيَتَذَكَّرِ الْعَبْدُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ مَالِهِ، فَيُسْأَلُ عَنْ تَحْصِيلِهِ، وَيُسْأَلُ عَنْ تَصْرِيفِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَمَحَبَّةُ الْمَالِ أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ فَلَا يَزَالُ يَسْتَكْثِرُ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ الزِّيَادَةَ، قَالَ تَعَالَى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]؛ وَالْخَيْرُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمَالُ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ النَّاسِ أَنَّ مَنْ سَأَلَهُمْ أَمْوَالَهُمُ اسْتَثْقَلُوهُ وَمَلُّوهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ مَا يَعِزُّ عَلَيْهِمْ مُفَارَقَتُهُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ بَذْلُهُ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ)).

فَقَالَ: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي أَيْدِينَا، لَا فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ يَقِيَنَا شُحَّ أنْفُسِنَا، إِنَّهُ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَأَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُوَسَّعًا فِيهِ، مُبَارَكًا فِيهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الشهامةُ وإغاثةُ المَلْهُوفِ
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  ثورة الحرائر وإهانة المصاحف !!
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  مَخَاطِرُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَالِانِفْلَاتِ الْأَخْلَاقِيِّ
  أحداث البطرسية
  الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ
  أيها المصريون لا عذر لكم
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  [ طليعة الرد على الحلبي [ الجزء الأول
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان