الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ

الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ

((الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 ((خَلْقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ))

فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- خَلَقَ الْإِنْسَانَ خِلْقَةً مُتَمَيِّزَةً؛ خَلَقَهُ مِنْ جَسَدٍ وَرُوحٍ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ -تَعَالَى- الْإِنْسَانَ الْأَوَّلَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ تُرَابٍ خَالَطَهُ الْمَاءُ، فَصَارَ طِينًا لَازِبًا لَزِجًا، وَتُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ، فَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا -وَهُوَ الطِّينُ الَّذِي تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ-، ثُمَّ صَارَ صَلْصَالًا -وَهُوَ الطِّينُ الْمُجَوَّفُ الَّذِي جَفَّ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيُصَلْصِلُ إِذَا نُقِرَ عَلَيْهِ-، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ.

وَالنَّاظِرُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ يَرَى ذِكْرَ مَرَاحِلِ خَلْقِ آدَمَ مَذْكُورَةً عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ؛ فَمَرَّةً مِنْ تُرَابٍ، وَمَرَّةً مِنْ طِينٍ، وَمِنْ طِينٍ لَازِبٍ، وَمَرَّةً مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمَرَّةً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ.

وَالْعَجُولُ وَصَاحِبُ الْهَوَى وَالْغَرَضِ يَتَوَهَّمُ تَنَاقُضًا وَاضْطِرَابًا، وَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ جَهْلِهِ أَوْ مِنْ هَوَاهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَرَاحِلُ الْخَلْقِ قَدْ تَتَابَعَتْ.

وَلَمَّا كَانَ هَدْمُ الشَّيْءِ عَلَى عَكْسِ بِنَائِهِ؛ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يُنْقَضُ آخِرُ شَيْءٍ يُبْنَى، وَآخِرُ شَيْءٍ يُبْنَى هُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْقَضُ؛ كَالْبِنَاءِ.. أَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَسَاسُهُ، ثُمَّ تُجْعَلُ عَلَى الْأَسَاسِ حَوَائِطُهُ وَجُدْرَانُهُ، ثُمَّ يُجْعَلُ عَلَيْهَا سَقْفُهُ، فَالْأَسَاسُ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ الْبُنْيَانُ، وَالسَّقْفُ آخِرُ مَا كَانَ، فَعِنْدَ نَقْضِهِ وَهَدْمِهِ يُبْدَأُ بِالسَّقْفِ، ثُمَّ بِالْجُدْرَانِ، ثُمَّ بِالْأَسَاسِ.

لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَمَوْتُ الْإِنْسَانِ عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ تَخْرُجُ الرُّوحُ، وَهِيَ آخِرُ مَا دَخَلَ، ثُمَّ بَعْدَ سَاعَاتٍ يُصِيبُ الْجَسَدَ التَّصَلُّبُ الرِّمَمِيُّ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلْصَالِ، ثُمَّ يُنْتِنُ الْجَسَدُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُ فَيُفَارِقُهُ الْمَاءُ.. يُفَارِقُ الْمَاءُ الطِّينَ مُتَبَخِّرًا فَيَصِيرُ الطِّينُ تُرَابًا، وَالْجَسَدُ الْإِنْسَانِيُّ إِذَا فَارَقَتْهُ جُزْئِيَّاتُ الْمَاءِ صَارَتْ عَنَاصِرُهُ عَنَاصِرَ التُّرَابِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ!

وَقَدْ نَوَّعَ اللهُ -تَعَالَى- فِي الْخَلْقِ الْإِنْسَانِيِّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى طَلَاقَةِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِهَا وَكَمَالِ الْإِرَادَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِهِ الْعُلَى -جَلَّ وَعَلَا-، فَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ، وَخَلَقَ زَوْجَهُ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

فَخَلَقَ اللهُ آدَمَ بِلَا وَاسِطَةِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا وَاسِطَةِ أُنْثَى، وَخَلَقَ الْمَسِيحَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ أُنْثَى بِلَا وَاسِطَةِ ذَكَرٍ، وَخَلَقَ النَّاسَ عَامَّةً بِوَاسِطَةِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.

وَالْخَلْقُ الْإِنْسَانِيُّ كُلُّهُ مِنْ تُرَابٍ كَمَا خُلِقَ أَبُوهُمْ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَالنُّطْفَةُ وَالْبُوَيْضَةُ وَاللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَالدَّمُ وَالْعِظَامُ وَغَيْرُهَا تَعُودُ إِلَى الْغِذَاءِ، وَهُوَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا تُخْرِجُ الْأَرْضُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ عَنَاصِرِ الْأَرْضِ وَمُكَوِّنَاتِهَا، فَالْإِنْسَانُ -إِذَنْ- جَسَدٌ وَرُوحٌ، وَالرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.

((غِذَاءُ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَقِوَامُهُمَا))

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلٍّ مِنَ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ غِذَاءَهُ وَقِوَامَهُ، لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَمَنْ خَالَفَ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللهُ الْجَسَدَ وَالرُّوحَ عَلَيْهَا؛ اضْمَحَلَّ جَسَدُهُ، وَاعْتَلَّتْ رُوحُهُ، وَمَآلُهُ إِلَى الْبَوَارِ وَالْهَلَاكِ.

جَعَلَ اللهُ قِوَامَ الْجَسَدِ وَبَقَاءَهُ فِي غِذَاءِ الْجَسَدِ؛ مِنَ الْخُبْزِ، وَالْبُقُولِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَاللُّحُومِ، وَغَيْرِهَا، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعِيضَ عَنْ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ، وَالرِّيشِ، وَالتِّبْنِ، وَالْحَطَبِ، وَغَيْرِهَا؛ هَلَكَ جَسَدُهُ لَا مَحَالَةَ.

وَجَعَلَ اللهُ قِوَامَ الرُّوحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُمَا غِذَاءُ الرُّوحِ وَمَادَّةُ حَيَاتِهَا، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعِيضَ عَنْ ذَلِكَ بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ وَمَزَامِيرِهِ، وَأَنْغَامِ الْمَزَاهِرِ وَالْعِيدَانِ؛ هَلَكَتْ رُوحُهُ لَا مَحَالَةَ.

((سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ))

إِنَّ اسْتِقَامَةَ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَسَلَامَةَ بَقَائِهِ جَسَدًا وَرُوحًا بِإِحْدَاثِ التَّوَازُنِ بَيْنَ مُتَطَلَّبَاتِ كُلٍّ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَقَدْ وَقَعَ وَيَقَعُ إِهْمَالٌ وَإِجْحَافٌ بِأَحَدِ الْمُكَوِّنَيْنِ لِلْإِنْسَانِ؛ وَهُمَا الرُّوحُ وَالْجَسَدُ، وَنَتَجَ تَبَعٌ لِذَلِكَ خَلَلٌ عَظِيمٌ، فَكَثِيرٌ مِنَ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ أَهْمَلُوا أَمْرَ الْجَسَدِ إِهْمَالًا تَامًّا، وَاكْتَفَوْا فِي غِذَائِهِ بِقَلِيلٍ مِنَ الْبَاقِلَّاءِ، أَوْ بِبَعْضٍ مِنْ أَعْشَابِ الْأَرْضِ، وَصَامُوا عَنِ الزَّادِ صَوْمًا مُنْكَرًا، كَمَا يَفْعَلُ زُهَّادُ الْهِنْدِ وَنَاسِكُوهَا، وَالَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِنْ غَيْرِهَا.

وَالْفُجَّارُ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ أَهْمَلُوا الرُّوحَ إِهْمَالًا عَظِيمًا، وَابْتَغَوْا غِذَاءَهَا فِي غَيْرِ مَا هُوَ غِذَاءٌ لَهَا؛ بَلْ فِيمَا يَضُرُّهَا وَيُهْلِكُهَا، فَضَمُرَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَقَوِيَتْ رَغَبَاتُهُمْ وَنَزَوَاتُهُمْ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

وَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، بَلْ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

زَاهِدٌ الْهِنْدِ نَعَى الدُّنْيَا وَصَام          =      أَنَا أَنْعَاهَا وَلَكِنْ لَا أَصُوم

يَعْنِي: لَا أَصُومُ صَوْمَهُ، بَلْ أَصُومُ صَوْمَ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ الَّذِي يُورِثُ التُّقَى وَالْبِرَّ.

 

زَاهِدٌ الْهِنْدِ نَعَى الدُّنْيَا وَصَام               =      أَنَا أَنْعَاهَا وَلَكِنْ لَا أَصُوم

طَامِعُ الْغَرْبِ رَعَى الدُّنْيَا وَهَام    =       أَنَا أَرْعَاهَا وَلَكِنْ لَا أَهِيم

بَيْنَ هَذَيْنِ لَنَا حَدٌّ قَوَام             =       وَلْيَلُمْ مِنْ كُلِّ حِزْبٍ مَنْ يَلُوم

وَسَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَاسْتِقَامَةُ أَمْرِهِ فِي هَذَا الْوُجُودِ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَ عُنْصُرَيْنِ، وَإِعْطَاءِ كُلٍّ مَا هُوَ لَهُ كَمَا حَدَّدَهُ الدِّينُ وَقَرَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدِّينَ وَقَرَّرَ الشَّرِيعَةَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَسَوَّاهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُ وَبِمَا يُفْسِدُهُ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

((دَلَائِلُ التَّوَازُنِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-33].

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

وَفِي السُّنَّةِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ مِنْ هَذَا، مِنْ ذَلِكَ: حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ النَّفَرِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: ((وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا)).

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِم، فَقَالَ: ((أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟!! أَمَا -وَاللَّهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)).

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: الْحَدِيثُ الَّذِي قَرَّرَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَقَرَّ مَا قَالَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَدْ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَذَهَبَ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِزِيَارَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَاتُ الْحِجَابِ-، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً -يَعْنِي: فِي هَيْئَةٍ أَهْمَلَتْ فِيهَا نَفْسَهَا، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ بَعْلٍ-، فَقَالَ لَهَا: ((مَا شَأْنُكِ؟)).

قَالَتْ: ((أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا)).

فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: ((كُلْ)).

قَالَ: ((فَإِنِّي صَائِمٌ)).

قَالَ: ((مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ)).

قَالَ: ((فَأَكَلَ)).

فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: ((نَمْ))، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: ((نَمْ)).

فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: ((قُمِ الْآنَ))، فَصَلَّيَا.

فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).

فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يَحْتَرِمُ الطَّبِيعَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْضَحُ مَا يَكُونُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَرَعَ اللهُ لَنَا عَلَى لِسَانِهِ وَفِي فِعْلِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، فَجَعَلَ لِذَلِكَ جَبْرًا بِسُجُودِ السَّهْوِ بِشَرَائِطِهِ وَأَحْكَامِهِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَسْهُو لَمَا جُبِرَ سَهْوُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَلَأُمِرَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ إِذَا سَهَا فِيهَا.

((دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا الْحَبْلُ؟)).

قَالُوا: ((هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ -تُصَلِّي عِنْدَهُ-، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)).

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ الْمَرْءَ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي حَالِ غَلَبَةِ النُّعَاسِ عَلَيْهِ، قَالَ: ((إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ)).

وَ((بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَسَأَل عَنْهُ، قَالُوا: ((هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ)).

قَالَ: ((مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)).

فَأَمَرَهُ بِأَنْ يُتِمَّ مَا نَذَرَهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ؛ بَلْ بِمَا يَضُرُّهُ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَظِيمَةَ فِي هَذَا الدِّينِ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ مُتَوَازِنًا بَيْنَ حَاجَاتِ رُوحِهِ وَحَاجَاتِ جَسَدِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرَسَ يَسُوسُهُ فَارِسُهُ، فَإِذَا قَوِيَتِ الْفَرَسُ عَلَى فَارِسِهَا فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضْبِطَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَجْفَاءَ هَزِيلَةً فَإِنَّ الْفَارِسَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْ وَرَائِهَا خَيْرًا.

الْجَسَدُ كَالْفَرَسِ، وَالرُّوحُ كَالْفَارِسِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ: الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَمُتَطَلَّبَاتِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ عَلَى السَّوَاءِ.

((أَسْبَابُ التَّعَبِ وَالْأَلَمِ وَالْأَزْمَاتِ مُجَاوَزَةُ أَمْرِ اللهِ))

لْيَعْلَمِ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَلَنْ يَجِدَ مَسَّ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ إِلَّا إِذَا جَاوَزَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ؛ فَلْيُرَاجِعْ -حِينَئِذٍ- نَفْسَهُ.

فِي قِصَّةِ رِحْلَةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلِقَاءِ الْخَضِرِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: ((فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)).

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ -أَيِ: التَّعَبِ- حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ)).

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ((وَلَمْ يُصِبْهُمْ نَصَبٌ -أَيْ: تَعَبٌ- حَتَّى تَجَاوَزَا)).

((أَعْظَمُ غِذَاءٍ لِلرُّوحِ وَحْيُ اللهِ الْمُنَزَّلُ))

وَأَعْظَمُ غِذَاءٍ لِلرُّوحِ وَحْيُ اللهِ الْمُنَزَّلُ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُوحٌ، إِذَا مَسَّ بِهَدَايَتِهِ وَنُورِهِ الْمَوَاتَ أَحْيَاهُ.

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْنَا الْوَحْيَ الْمَعْصُومَ لِنَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ مَعَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى قِسْمَةٍ ثُنَائِيَّةٍ، فَهُمَا اثْنَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ إِمَّا مُتَدَبِّرٌ، وَإِمَّا عَلَى قَلْبِهِ قُفْلٌ.

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

فَإِمَّا أَنْ يَتَدَبَّرُوا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْقُلُوبِ أَقْفَالُهَا؛ وَلَكِنَّ التَّدَبُّرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلْحُوظًا فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَمَا طَبَّقَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: ((حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).

وَهَذَا لَا يُفْهَمُ -هَكَذَا- مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَتَدَبُّرٍ وَرَوِيَّةٍ، فَهُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ: بِتِلَاوَةِ التَّعَبُّدِ، وَهَذِهِ -فِي الْجُمْلَةِ- إِنَّمَا هِيَ لِتَثْبِيتِ الْمَحْفُوظِ، وَلِلْإِقْبَالِ عَلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعَدَمِ هَجْرِهِ، فَهَذِهِ التِّلَاوَةُ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ مَا هُنَاكَ، وَلَكِنْ عِنْدَ أَخْذِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مَفْهُومًا، وَأَنْ تُفْقَهَ مَعَانِيهِ، وَأَنْ يُتَدَبَّرَ فِي مَطَاوِيهِ وَمَغَازِيهِ؛ لِأَنَّ رَبَّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةً لِلنَّاسِ، وَالنَّاسُ إِذَا كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ مَا يَكُونُونَ بِهِ مُهْتَدِينَ؛ فَكَيْفَ يَهْتَدِي هَؤُلَاءِ؟!!

فَلَا بُدَّ مِنْ فِقْهِهِ وَفَهْمِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْثَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْخَيْرِ.

وَلَكِنْ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْهَمَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ؟!!

لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ بِالتَّفَاسِيرِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وِجْهَةٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَلْحَظُ الْبَلَاغَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَكِّزُ عَلَى النَّحْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّجِهُ إِلَى الْأَحْكَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْهَبُ غَيْرَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ التَّفَاسِيرِ.

وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْمَعْنَى الْقَرِيبِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، لَا أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّفَاسِيرِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِي عَشْرِ آيَاتٍ، فَيَبْقَى دَهْرًا طَوِيلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَصِّلَ الْمَعَانِيَ، وَتَبَعًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا بِمَا لَمْ يَتَعَلَّمْهُ وَلَمْ يَفْقَهْهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْحَظَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْأَمْرَ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ بِعَيْنِ رِعَايَتِهِ.

((صَلَاحُ الْقَلْبِ بِاسْتِعْمَالِ قُوَّتَيِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ))

لَمَّا كَانَ فِي الْقَلْبِ قُوَّتَانِ: قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ؛ كَانَ كَمَالُ الْقَلْبِ وَصَلَاحُهُ بِاسْتِعْمَالِ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ فِيمَا يَنْفَعُهُ، وَيَعُودُ عَلَيْهِ بِصَلَاحِهِ وَسَعَادَتِهِ، فَكَمَالُ الْقَلْبِ بِاسْتِعْمَالِ قُوَّةِ الْعِلْمِ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، وَبِاسْتِعْمَالِ قُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَمَحَبَّتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَصِحَّتَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لِلْحَقِّ، مُرِيدًا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ-، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَهُوَ ضَالٌّ، وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَآثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ فَهُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ نَسْأَلَهُ فِي صَلَاتِنَا أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

وَقَدْ جَمَعَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ فَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ وَالْإِيمَانِ بِهِ.

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وَقَالَ تَعَالَى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.. إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي وَسَطِ السُّورَةِ -سُورَةِ الْبَقَرَةِ-: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}.. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [البقرة: 177].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].

فَأَقْسَمَ -جَلَّ وَعَلَا- بِالدَّهْرِ الَّذِى هُوَ زَمَنُ الْأَعْمَالِ الرَّابِحَةِ وَالْخَاسِرَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي خُسْرَانٍ؛ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَهَذَا كَمَالُهُ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ كَمَّلَ غَيْرَهُ بِوَصِيَّتِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِهِ، وَبِمِلَاكِ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّبْرُ، فَكَمَّلَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ ذَلِكَ، وَوَصِيَّتِهِ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِي سُورَةِ (الْعَصْرِ) لَكَفَتْهُمْ)).

وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، يُخْبِرُ اللهُ -تَعَالَى- أَنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ، وَأَنَّ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ هُمُ الَّذِينَ جَهِلُوا الْحَقَّ وَضَلُّوا عَنْهُ، أَوْ عَلِمُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَاتَّبَعُوا غَيْرَهُ.

وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ لَا تَتَعَطَّلَانِ مِنَ الْقَلْبِ، بَلْ إِنِ اسْتَعْمَلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَإِدْرَاكِهِ؛ وَإِلَّا اسْتَعْمَلَهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَ قُوَّتَهُ الْإِرَادِيَّةَ الْعَمَلِيَّةَ فِي الْعَمَلِ بِهِ؛ وَإِلَّا اسْتَعْمَلَهَا فِي ضِدِّهِ، فَالْإِنْسَانُ حَارِثٌ هَمَّامٌ بِالطَّبْعِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ)).

فَالْحَارِثُ: الْكَاسِبُ الْعَامِلُ، وَالْهَمَّامُ: الْمُرِيدُ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ مُتَحَرِّكَةٌ بِالْإِرَادَةِ، وَحَرَكَتُهَا الْإِرَادِيَّةُ لَهَا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهَا، وَالْإِرَادَةُ تَسْتَلْزِمُ مُرَادًا يَكُونُ مُتَصَوَّرا لَهَا، مُتَمَيِّزًا عِنْدَهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَصَوَّرِ الْحَقَّ وَتَطْلُبْهُ وَتُرِدْهُ؛ تَصَوَّرَتِ الْبَاطِلَ وَطَلَبَتْهُ وَأَرَادَتْهُ لَا مَحَالَةَ.

((مُرَاعَاةُ الدِّينِ لِلْمَشَاعِرِ وَالْأَحَاسِيسِ الْبَشَرِيَّةِ))

الرَّسُولُ ﷺ فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْبَشَرِ لَا يَخْلُو مِنْهَا بَشَرٌ، فِي حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْحُزْنِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَرْءَ فَتَكَادُ تَعْصِرُ الْقَلْبَ عَصْرًا، فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَشْرَعُ الرَّسُولُ ﷺ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَيُوَضِّحُ الْمَأْمُونُ ﷺ الْأَمْرَ مُجَلِّيًا إِيَّاهُ فِي ظُلُمَاتِ غَاشِيَاتِ الْيَأْسِ الْمُحْزِنِ وَالْحُزْنِ الْمُوئِسِ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ بِبَصِيصِ ضَوْءِ الْأَمَلِ إِلَى بَاحَةِ الرَّجَاءِ فِي رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

النَّبِيُّ ﷺ لِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُرَاعِي النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي أَحَاسِيسِهَا، فَلَا يَحْمِلُهَا عَلَى مَا لَا تَقْوَى عَلَى حَمْلِهِ، بَلْ يَجْعَلُ لَهَا مُتَنَفَّسًا مَحْكُومًا بِالشَّرْعِ؛ إِذْ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ لِهَذَا الْمُتَنَفَّسِ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ، وَيَهْدِي إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

الرَّسُولُ ﷺ مَاتَا ابْنَاهُ الْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللهِ وُهَمَا وَلَادَاهُ مِنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.. مَاتَا فِي مَكَّةَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ ﷺ، وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ خَدِيجَةَ مِنَ النِّسْوَةِ مَا تَزَوَّجَ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَمِنْهُنَّ الْوَلُودُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ الرَّسُولَ ﷺ زَوْجَةً وَأُمًّا وَلُودًا وَدُودًا، وَلَكِنْ لَمَّا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَنْ تَكُونَ -بَعْدُ- زَوْجَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ يُرْزَقْ، وَهُوَ الَّذِي رُزِقَ قَبْلُ مِنْ خَدِيجَةَ بِبَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَهُنَّ اللَّوَاتِي رُزِقْنَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَلَكِنْ قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا تَزَوَّجْنَ النَّبِيَّ ﷺ أَلَّا يُرْزَقَ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ ﷺ.

وَفِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَأَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ مِصْرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ، فَأَسْكَنَهَا النَّبِيُّ ﷺ عَوَالِيَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ هُنَالِكَ، وَكَانَتْ مِلْكَ يَمِينٍ لَمْ يَقْسِمْ لَهَا مَا يَقْسِمُ لِزَوْجَاتِهِ -رَضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ-، وَإِنَّمَا يَغْشَاهَا مِنْ غَيْرِ قَسْمٍ وَلَا حَظٍّ، فَحَمَلَتْ مِنْ رَسُولِنَا ﷺ، وَوَضَعَتْ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ -هِجْرَةِ الْمُخْتَارِ ﷺ-، وَتَسَابَقْنَ النِّسْوَةُ الْمُرْضِعَاتُ كَيْ يَنَلْنَ شَرَفَ الْحُظْوَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِرَضَاعِ وَلَدِهِ.

وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ ﷺ.. جَعَلَهُ فِي بَيْتِ أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ الْحَدَّادِ -وَكَانَ صَاحِبَ كِيرٍ يَصْنَعُ مِنَ الْحَدِيدِ مَا يَصْنَعُ-، وَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا جَعَلَ ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ مُسْتَرْضَعًا عِنْدَ أُمِّ سَيْفٍ أَوْ أُمِّ بُرْدَةٍ -وَهُمَا كُنْيَتَانِ لِمُرْضِعَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ نَبِيِّنَا ﷺ-.. كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْخُذُ -أَحْيَانًا- بَعْضَ أَصْحَابِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَزُورَ وَلَدَهُ فِي (الْعَالِيَةِ) -عَالِيَةِ الْمَدِينَةِ-.

وَيَرْوِي أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ: ((دَخَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا -يَعْنِي: زَوْجَ مُرْضِعَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ ﷺ- وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ فَشَمَّهُ وَقَبَّلَهُ)).

((فَشَمَّهُ)).. هَذِهِ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ وَالِدًا حَقًّا، وَالْوَالِدُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- لَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، وَلَكِنْ ثُبُوتُ حَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ شَرْعًا وَطَبْعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْتَقِي الْأَمْرُ مُتَصَاعِدًا مُتَسَامِيًا فِي ثَبَاتِ حُقُوقٍ يُقِرُّهَا الشَّرْعُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِقْرَارَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَاتٍ.

وَهَذَا جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي كَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ -عَفَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ- فَقَدْ كَانَ مَعَ تَشْبِيبِهِ وَحُسْنِ غَزَلِهِ عَفِيفًا لَا يُوَاقِعُ الْفَاحِشَةَ وَلَا يَقْتَرِبُ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ مَعَ الْفَرَزْدَقِ أَخْمَلَا مِئَاتِ الشُّعَرَاءِ فِي عَصْرِهِمَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْعَصْرِ مَذْكُورًا عَلَى نَحْوٍ مُبْهِرٍ وَسَاطِعٍ وَقَائِمٍ فِي دُنْيَا الْأَدَبِ إِلَّا هُمَا.

فَأَمَّا جَرِيرٌ -عَفَا اللهُ عَنْهُ- فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي مَحْضِرِ بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَمْدَحُ مَا تَمْدَحُ وَتَهْجُو مَا تَهْجُو وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ الْآنَ حَقِيقَةَ التَّفْضِيلِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الشُّعَرَاءِ، فَأَنَا أَرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ أَشْعَرَ النَّاسِ.

فَقَالَ: أُرِيكَ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلْدَةِ، فَإِذَا خَيْمَةٌ مَضْرُوبَةٌ مِنْ شَعْرٍ إِلَى أَوْتَادٍ نُصِبَتْ إِلَيْهَا الْخَيْمَةُ مَشْدُودَةً بِأَمْرَاسٍ مِنْ كِتَّانٍ، وَوَقَفَ جَرِيرٌ عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ يَدْعُو وَالرَّجُلُ بِجَانِبِهِ -الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أَشْعَارِ النَّاسِ-، فَوَقَفَ جَرِيرٌ يَدْعُو أَبَاهُ: يَا عَطِيَّةُ! اخْرُجْ إِلَيَّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، وَإِذَا رَجُلٌ قَدْ شُعِّثَتْ رَأْسُهُ وَانْتَثَرَتْ لِحْيَتُهُ، وَعَلْيِه أَسْمَالٌ بَالِيَاتٌ، وَإِذَا بِيَدِهِ عَنْزَةٌ كَانَ يَمُصُّ مِنْ ضَرْعِهَا اللَّبَنَ مُبَاشَرَةً فِي فَمِهِ، حَتَّى إِنَّ قَطَرَاتٍ مِنَ اللَّبَنِ كَانَتْ مَا زَالَتْ عَالِقَةً بِشَعْرَاتِ لِحْيَتِهِ الْمُشَعَّثَةِ، وَتَنَاثَرَ بَعْضُ ذَلِكَ اللَّبَنِ عَلَى أَسْمَالِهِ الْبَالِيَاتِ، فَقَالَ جَرُيرٌ لِلرَّجُلِ: ((أَشْعَرُ النَّاسِ مَنْ فَاخَرَ بِهَذَا الْأَبِ مِائَةَ شَاعِرٍ فَأَخْمَلَهُمْ جَمِيعًا!!)).

لِلْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ حَقٌّ فِطْرِيٌّ غَرِيزِيٌّ شَرْعِيٌّ -وَإِنْ كَانَ كَافِرًا-، وَلَكِنَّ الْأَبَ الصَّالِحَ.. وَلَكِنَّ الْأَبَ الْمُلْتَزِمَ بِشَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْتَقِي حُقُوقُهُ صُعُدًا، وَالْأَبُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْتَصِرُ قَلْبَهُ الْأَلْمُ عَلَى وَلَدِهِ وَيَحْيَا عَظِيمَ الْأُفُقِ مُتَّسِعَهُ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِيطَ بِآلَامٍ وَأَحْزَانٍ رُبَّمَا نَزَلَتْ بِسَاحَةِ وَلَدِهِ ضَيِّقِ الْأُفُقِ غَيْرَ مُتَّسِعِهِ، وَإِنَّمَا الْوَالِدُ يُحِسُّ أَنَّ بِضْعَةً مِنْهُ؛ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ فَهُوَ الْوَالِدُ بِحَقٍّ ﷺ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ جَامِعًا إِيَّاهَا مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ؛ صَعَدَ الرَّسُولُ ﷺ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((إِنَّ عَلَيًّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ -وَهِيَ قِطْعَةُ اللَّحْمِ- بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَلَا -وَاللهِ- لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَنْكِحَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ فَلْيُطَلِّقْ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

((أَخَذَهُ الرَّسُولُ ﷺ فَشَمَّهُ وَقَبَّلَهُ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يَبْكِي ﷺ ))، وَالدُّمُوعُ تَتَحَدَّرُ مُنْطَلِقَاتٍ مُنْبَثِقَاتٍ مِنْ عَيْنَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ ﷺ.

وَمَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي تِلْكَ الزِّيَارَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ لَهُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! تَبْكِي وَقَدْ نَهَيْتَنَا عَنِ الْبُكَاءِ؟!!)).

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّهَا رَحْمَةٌ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى))؛ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى؛ يَعْنِي: بِجُمْلَةٍ أُخْرَى، فَأَضَافَ شَيْئًا عَنِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ، أَوْ أَنَّهُ أَتْبَعَ الْعَبْرَةَ الْأُولَى بِعَبْرَةٍ ثَانِيَة، وَذَلِكَ كَذَلِكَ، وَهُمَا أَمْرَانِ يَحْتَمِلُهُمَا النَّصُّ بِلَا مُجَافَاةٍ وَلَا مَانِعٍ.

قَالَ: ((ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخَرَى فَقَالَ: ((إِنَّ الْعَيْنَ لَتَدْمَعُ، وَإِنَّ الْقَلْبَ لَيَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُنُونَ)).

وَالرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ))- لَمَّا مَاتَ وَلَدٌ لِابْنَتِهِ زَيْنَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ للهِ مَا أَعْطَى وَلَهُ مَا أَخَذَ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)).

فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِ حَالِفَةً، فعَزَمَتْ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَدَخَلَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّبِيُّ يُقَعْقِعُ تَتَقَعْقَعُ نَفْسُهُ، كَمَا يَحْدُث عِنْدَ الِارْتِشَاحِ الْبِلَّوَرْيِّ فِي الرِّئَتَيْنِ فِي النِّهَايَاِتِ الْقُصْوَى عِنْدَمَا تُحَشْرِجُ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ حَتَّى تَبْلُغَ الْحُلْقُومَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَنَفُّسًا، وَلَا يَجِدُ إِلَى الْهَوَاءِ سَبِيلًا، كَأَنَّهُ الشَّنُّ الْبَالِي -أَيْ: كَالْقِرْبَةِ الْبَالِيَةِ-، ((فَأَخَذَهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ الدُّمُوعَ)).

فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: ((وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!!))؛ يَعْنِي: قَدْ نَهَيْتَنَا عَنِ الْبُكَاءِ!!

فَقَالَ: ((إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ يَجْعَلُهَا اللهُ فِي قُلُوبِ الرُّحَمَاءِ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)).

((الرَّسُولُ ﷺ عِنْدَمَا كَانَ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِ ابْنَتِهِ أُمِّ كُلْثُومَ زَوْجِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.. لَمَّا كَانَ عَلَى الشَّفِيرِ يَقُولُ الَّذِي كَانَ يُصْلِحُ الْقَبْرَ وَيُعِدُّهُ قَالَ: ((فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ)).

الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي بِالْقَانُونِ الَّذِي يَجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ مُتَنَفَّسَا، وَيَجْعَلُ لِلْحُزْنِ الْمُمِضِّ الْقَاتِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْقَلْبِ يُرِيدُ أَنْ يُدَمِّرَهَا مُفَجِّرًا لَهَا مِنَ الدَّاخِلِ.. يَجْعَلُ لَهُ إِلَى الْخَارِجِ مَنْفَذًا، وَلَكِنْ بِتَعْبِيرٍ صَحِيحٍ سَوِيٍّ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ))، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ ﷺ.

فَنَبِيُّنَا ﷺ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا جَاءَ بِالدِّينِ الْحَقِّ الْكَامِلِ الْخَاتَمِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِسَالَتَهُ خَاتِمَةَ الرِّسَالَاتِ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِنَّمَا اسْتَدَارَ الزَّمَانُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَبَدَأَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ كَمَا بَدَأَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وِلَادَةً جَدِيدَةً بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَمَا أَعْلَنَ الْوِلَادَةَ الثَّانِيَةَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى النَّهْجِ الصَّحِيحِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).

فَهَذِهِ وِلَادَةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَوِلَادَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْكَوْنِ مِنْ جَدِيدٍ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لِتَسْتَقِيمَ الْفِطْرَةُ عَلَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ رَبِّهَا الَّذِي يَعْلَمُ مَا يُصْلِحُهَا وَمَا يُفْسِدُهَا، وَعَلَى نَهْجِ نَبِيِّهَا ﷺ الَّذِي طَبَّقَ لَهَا أَحْكَامَ رَبِّهَا وَاقِعًا عَمَلِيًّا مَنْظُورًا، يَضْبِطُ الْحُزْنَ كَمَا يَضْبِطُ الْفَرَحَ، وَيَضْبِطُ انْفِعَالَاتِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَعْنُفُ عَلَى الْجَسَدِ وَلَا يَعْنُفُ عَلَى الرُّوحِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ دَائِمًا مُتَنَفَسًّا لِانْفِعَالَاتِ الْإِنْسَانِ وَحَالَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ.

حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَكِبَ يَوْمًا فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيًا مِنْ غَيْرِ سَرْجٍ وَلَا لِجَامٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَنَزَلَ عَنْهُ، أَخَذَهُ حَالٌ مِنْ حَالَاتِ الْفَرَحِ يُعَبِّرُ عَنْهُ ﷺ، ((فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ ﷺ -مُشِيرًا بِيَدَيْهِ-: ((لَقَدْ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا))؛ يَعْنِي: الْفَرَسَ.. يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ فِي حَالَتِهِ الَّتِي وَجَدَهَا رَسُولُنَا ﷺ فِي ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُشِيرًا بِيَدَيْهِ: ((لَقَدْ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا)) ﷺ.

فَهَذَا دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَضْبِطُ حَالَاتِ النَّفْسِ الْبَاطِنَةِ، كَمَا يَضْبِطُ حَالَاتِ الْجَسَدِ الظَّاهِرَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بِتَوَازُنٍ مُبْهِرٍ وَمُدْهِشٍ وَعَجِيبٍ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا يُعِيدُ الْإِنْسَانُ الْأَمْرَ إِلَى خَالِقِهِ وَبَارئِهِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عَجَبَ هُنَالِكَ وَلَا دَهَشَ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ يَعُودُ لِلَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، فَجَعَلَ لَهُ الْقَانُونَ الَّذِي لَا يَحْسُنُ بِحَالٍ بِعَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حَاذِقًا وَمُؤْمِنًا تَقِيًّا.. لَا يَحْسُنُ بِحَالٍ بِهِ أَبَدًا أَنْ يَحِيدَ عَنْهُ قِيدَ أُنْمُلَةٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ كَمَا بَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ يَضْبِطُ حَالَاتِ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهَا وَاخْتِلَافِ مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَلَكِنْ بِضَابِطٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحْكَمٍ وَمَتِينٍ.

((إِنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ بِحُزْنِ الْقَلْبِ))؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَقْوَى عَلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الْقَبْضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ رَبِّنَا (الْقَابِضِ)، وَأَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالَاتِ النَّفْسِ فِي سُرُورِهَا وَانْبِسَاطِهَا فَهِيَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ النَّفْسِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ رَبِّنَا (الْبَاسِطِ)، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ فِي النَّاسِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ -وَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ-، فَحَالَاتٌ مِنْ حَالَاتِ الْقَبْضِ وَحَالَاتٌ مِنْ حَالَاتِ الْبَسْطِ، وَالنَّفْسُ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مُنْضَبِطَةً عَلَى قَانُونِ رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا- وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا ﷺ.

((إِنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَا بِدَمْعِ الْعَيْنِ))؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ إِذَا مَا تَفَجَّرَ لَا يُدْفَعُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَأَمَّا الَّذِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِنْسَانَ مُتَمَلِّكًا لَهُ مُتَحَكِّمًا فِيهِ فَهُوَ اللِّسَانُ، ((وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ))؛ وَأَشَارَ ﷺ إِلَى لِسَانِهِ.

وَإِنَّ مِنْ حَالَاتِ الثَّبَاتِ الْعَظِيمَةِ حَالَةً لَا تَعُودُ إِلَى رَجُلٍ وَإِنَّمَا تَعُودُ إِلَى امْرَأَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَلِيًّا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الشَّأْنُ وَاضِحًا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ مَرِضَ لَهُ وَلَدٌ، وَتَرَكَهُ أَبُو طَلْحَةَ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ أَمِّ الْوَلَدِ وَزَوْجِ أَبِي طَلْحَةَ))، وَهِيَ أَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

وَأَمَّا مَالِكٌ أَبُو أَنَسٍ وَزَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَقْوَ عَلَى احْتِمَالِ تَكَالِيفِهِ بِحَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ نَفْسِهِ لَمْ تَسْتَقِمْ عَلَى مَنْهَجِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، فَإِنَّهُ كَانَ مُعَاقِرًا لِلْخَمْرِ، فَلَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَصْعَدَ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الشَّامِ حَتَّى هَلَكَ هُنَالِكَ.

وَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ خَاطِبًا أَمَّ سُلَيْمٍ يَعْرِضُ عَلَيْهَا -وَكَانَ كَافِرًا حِينَئِذٍ- الصَّفْرَاءَ وَالْبَيْضَاءَ -الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ- فَقَالَتْ: ((مَا مِثْلُكَ يُرَدُّ، وَمَا لِي فِي الصَّفْرَاءِ.. مَا لِي فِي الْحَمْرَاءِ وَلَا الْبَيْضَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنْ أَنْتَ امْرُؤٌ كَافِرٌ نَجِسٌ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ فَهُوَ مَهْرِي)).

فَأَسْلَمَ، فَكَانَ مَهْرَهَا إِسْلَامُهُ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ مَهْرًا مِنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

((ثُمَّ لَمَّا تَطَاوَلَتِ الْمُدَّةُ، وَأَنْجَبَتْ لِأَبِي طَلْحَةَ وَلَدًا مَرِضَ بَعْدُ، تَرَكَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَخَرَجَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ أَوْ إِلَى بَعْضِ شَأْنِهِ، فَقُبِضَ الْوَلَدُ فِي غِيَابِهِ)).

فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: ((لَا يُعْلِمَنَّ أَحَدٌ أَبَا طَلْحَةَ بِمَوْتِ وَلَدِهِ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أَكُونُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ وَلَدِهِ)).

((وَسَجَّتِ الْوَلَدَ هُنَالِكَ فِي زَاوِيَةِ الْحُجْرَةِ، وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ بُرْدَةً، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو طَلْحَةَ سَأَلَ عَنِ الْوَلَدِ أَوَّلَ مَا سَأَلَ: ((كَيْفَ حَالُهُ؟)).

فَقَالَتْ: ((هُوَ أَسْكَنُ مَا يَكُونُ))؛ تَعْنِي: سُكُونَ الْمَوْتِ، وَهُوَ يَفْهَمُ سُكُونَ الْعَافِيَةِ، فَلْيَفْهَمْ مَا يَشَاءُ!

قَالَ: ((ثُمَّ قَرَّبَتْ إِلَيْهِ طَعَامًا أَعَدَّتْهُ، فَأَكَلَ وَشَرِبَ حَتَّى امْتَلَأَ، وَتَصَنَّعَتْ لَهُ كَالْعَرُوسِ فِي لَيْلَةِ جَلْوَتِهَا بِحُلِيٍّ وَطِيبٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا لَمَّا وَجَدَ مَسَّ الطِّيبِ رِيحًا وَشَذًى حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ أَكَلَ وَشَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا قَالَتْ: ((يَا أَبَا طَلْحَةَ..)). وَالْوَلَدُ وَلَدُهَا، وَهِيَ امْرَأَةٌ، وَهِيَ أُمٌّ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهَا أَقْوَى مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي زَوْجِهَا وَفِي أَبِ وَلَدِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِمَّا تَجِدُ الْمَرْأَةُ مِنْ شِدَّةِ الْعَوَاطِفِ فِي قَلْبِهَا وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ وَالْحُزْنِ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ هَذَا الثَّبَاتَ وَلَا كَمِثْلِهِ ثَبَاتُ الْجِبَالِ، وَلَا كَمِثْلِهِ ثَبَاتُ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ عَلَى حَقِيقَةٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ: ((إِنَّ للهِ.. -وَ(اللَّامُ) هَاهُنَا لِلْمِلْكِ- إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)).

نَظِيرَ مَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} وَ(اللَّامُ) هَاهُنَا لِلْمِلْكِ {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155-156].

وَمَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَالِكُ؛ فَمَنْ حَكَمَ فِي مَالِهِ فَمَا ظَلَمَ، وَمَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ صَاحِبُ هَذِهِ الصَّنْعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهَا فَلْيَفْعَلْ بِهَا مَا يَشَاءُ، وَكَيْفَ يُحَاسَبُ مَالِكٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ؟!!

لِأَنَّ الْمَالِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ حَكِيمٍ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ -وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مُلْكِهِ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ-، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ حَكِيمًا لَا حِكْمَةَ تُمَاثِلُ حِكْمَتَهُ، عَلِيمًا لَا عِلْمَ يُمَاثِلُ عِلْمَهُ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ؛ فَكَيْفَ يُرَاجَعُ؟!!

هِيَ تَسِيرُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، وَتَضُمُّ إِلَيْهِ ضَمِيمَةً يَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٌ إِلَى هَذَا الْقَانُونِ -الَّذِي سَلَفَ-، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ هُوَ نِهَايَةُ الرِّحْلَةِ، لَيْسَ الْمَوْتُ نِهَايَةَ الرِّحْلَةِ، وَإِنَّمَا الْمَوْتُ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِلِ الطَّرِيقِ، مَا الْمَوْتُ إِلَّا امْتِدَادٌ لِلْحَيَاةِ فِي عُمْقِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى لَوْنٍ مُخْتَلِفٍ وَنَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ لَا يَفْهَمُهُ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَانُونِ دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ بِالِامْتِدَادِ لِلْحَيَاةِ فِي عُمْقِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا تَعَدَّى طَوْرَ الْحَيَاةِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ لَا يَفْهَمُهُ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ فِي دُنْيَاهُ.

وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ الْمُمَيِّزُ الْمُدْرِكُ فِي دُنْيَاهُ لَا يَفْهَمُ طَوْرًا مِنْ حَيَاتِهِ مَرَّ بِهِ هُوَ وَعَاصَرَهُ وَعَالَجَهُ وَعَانَاهُ فِي الْمَرْحَلَةِ الْجَنِينِيَّةِ إِذْ كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَهُوَ كَانَ قَبْلُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَمَرَّتْ بِهِ الْمَرْحَلَةُ الْجَنِينِيَّةُ بِقَانُونِهَا، وَهُوَ مُغَايِرٌ تَمَامًا لِقَانُونِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ بِالْغِذَاءِ، وَبِالتَّنَفُّسِ، وَبِالْإِخْرَاجِ، وَبِالْحَرَكَةِ، وَبِالْحَيَاةِ، وَبِالْإِدْرَاكِ، وَبِالتَّعَامُلِ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، حَيَاةٌ مُخْتَلِفَةٌ تَمَامًا حَيَاةُ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

وَكُلٌّ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ مَرَّ بِذَلِكَ الْأَمْرِ خَلَا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ آدَمَ -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ السَّلَامِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ- إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّذُوذَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَقَدْ مَرُّوا بِالْحَيَاةِ الْجَنِينِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَانُونُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا تَتَصَوَّرُ الْآنَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى ذَلِكَ الْقَانُونِ الْجَنِينِيِّ عِنْدَمَا كُنْتَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّكَ.

وَعَلَيْهَا فَقِسْ.. قِسْ مَا مَرَرْتَ بِهِ عَلَى مَا سَوْفَ تَمُرُّ بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْبٌ مَحْجُوبٌ الْيَوْمَ عَنْكَ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدُ -إِنْ كَانَ الْمَدَى قَرِيبًا أَمْ كَانَ بَعِيدًا- يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجًا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، فَتُعَانِي السَّكَرَاتِ، ثُمَّ تَقْضِي نَحْبَكَ، ثُمَّ تُقَدَّمُ إِلَى قَبْرِكَ؛ لِتَدْخُلَ الْحَيَاةَ الْبَرْزَخِيَّةَ بِقَانُونِهَا مُعَاصِرًا لَهَا مُعَايِشًا لِقَانُونِهَا.

فَكَذَلِكَ تَعِي هَذِهِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ذَلِكَ الْقَانُونَ بِضَمِيمَتِهِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ نِهَايَةَ الرِّحْلَةِ، وَأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ عَدَمًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا الْمَوْتُ امْتِدَادٌ لِلْحَيَاةِ فِي عُمْقِ الْحَيَاةِ، بَلْ هُوَ بَدْءٌ لِلْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى قَانُونِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّخَلِّي عَنِ الْوَهْمِ الزَّائِلِ وَالْخَيَالِ الطَّائِرِ وَهَذَا الْخِدَاعِ الْحَائِلِ وَمَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِيهَا مِنْ سَفَالَاتِ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ، ثُمَّ يَأْتِي الْخُرُوجُ إِلَى قَانُونٍ آخَرَ لِحَيَاةِ الْبَرْزَخِ، تَعْلَمُ ذَلِكَ وَتَعِيهِ، ((فَتَصَنَّعَتْ وَتَزَيَّنَتْ كَالْعَرُوسِ تَتَزَيَّنُ لِزَوْجِهَا فِي لَيْلَةِ عُرْسِهَا، ثُمَّ قَدَّمَتْ مَا قَدَّمَتْ قَبْلُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَصَابَ مِنْهَا، بَعْدَمَا أَصَابَ شِبَعًا وَرِيًّا، وَأَصَابَ مِنْهَا مَا أَصَابَ، فَقَالَتْ: ((يَا أَبَا طَلْحَةَ! أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا قَوْمًا عَارِيَةً ثُمَّ طَلَبُوهَا مِنْهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَجْحَدُوهَا؟!!)).

قَالَ: ((اللهم لَا، الْعَارِيَةُ مُسْتَرَدَّةٌ، إِذَا مَا اسْتَعَارَ الْإِنْسَانُ مِنْ إِنْسَانٍ شَيْئًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا مَا طَلَبَ الْمُعِيرُ مِنَ الْمُسْتَعَارِ مَا أَعَارَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَأَلَّا يَجْحَدَهُ وَيَحْجُبَهُ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ ظَالِمًا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُجَرَّدَ التَّنَازُعِ فِيهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَحْضَ التَّنَازُعِ مِنْ غَيْرِ جَهْدٍ حَقِيقِيٍّ.

قَالَتْ: ((مَا دُمْتَ قَدْ أَقْرَرْتَ بَعْدَمَا أَصَبْتَ مَا أَصَبْتَ فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدِ اسْتَرَدَّ وَدِيعَتَهُ عِنْدَهُ)). فَغَضِبَ.

قَالَ: ((تَرَكْتِينِي حَتَّى إِذَا مَا تَلَطَّخْتُ -يَعْنِي: أَجْنَبْتُ- أَعْلَمْتِينِي بِوَلَدِي، فَهَلَّا قَبْلَ ذَلِكَ؟!!)).

ثُمَّ اغْتَسَلَ فَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَعْلَمَهُ، فَقَالَ: ((بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا)).

فَعَلِقَتْ مِنْهُ فِي لَيْلَتِهَا تِلْكَ فَحَمَلَتْ وَلَدًا.

ثُمَّ سَافَرَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُمُّ سُلَيْمٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ.

وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ ﷺ يَطْرُقُ الْمَدِينَةَ طُرُوقًا، وَهَذَا مُرَاعَاةٌ لِحَالَاتِ الْإِنْسَانِ فِي حَالَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى مَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَدْرِ مَتَى يَؤُوبُ أَهْمَلَتْ زِينَتَهَا وَكَانَتْ مُتَبَذِّلَةً فِي لِبْسَتِهَا، يَتَشَعَّثُ مِنْهَا شَعْرُهَا، وَلَا تَهْتَمُّ بِزِينَتِهَا الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا طَرَقَهَا مِنْ غَيْرِ إِعْلَامٍ سَابِقٍ وَبَيَانٍ مُسْبَقٍ؛ لَرُبَّمَا وَقَعَتْ عَيْنَاهُ مِنْهَا عَلَى مَا لَا يَسْتَمْلِحُهُ، بَلْ رُبَّمَا وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَى مَا يَسْتَقْذِرُهُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ إِذَا جَاءَ مِنَ السَّفَرِ عَسْكَرَ بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَتَعَالَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ قَدْ آبُوا وَرَجَعُوا مِنَ السَّفَرِ، فَتَمْتَشِطُ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدُّ الْمَغِيبَةُ، وَتَتَهَيَّأُ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا، فَلَا تَقَعُ عَيْنَاهُ مِنْهَا إِلَّا عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَجْمَلِ حَالٍ.

ثُمَّ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ وَمَعَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فِيمَا قَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ حَمْلًا فِي بَطْنِهَا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتْ: ((يَا أَبَا طَلْحَةَ! إِنِّي لَأَجِدُ وَجَعَ الْمَخَاضِ)).

فَكَرِهَ أَبُو طَلْحَةَ أَلَّا يَدْخُلَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ دُخُولَهُ، فَقَالَ: ((اللهم إِنِّي قَدِ احْتُبِسْتُ بِمَا أَنْتَ بِهِ عَلِيمٌ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَدْخُلَ مَعَ نَبِيِّكَ كَمَا تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ مَعَهُ، اجْعَلْ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)).

وَإِذَا بِأُمِّ سُلَيْمٍ تَقُولُ: ((يَا أَبَا طَلْحَةَ لَمْ أَجِدِ الْآنَ شَيْئًا مِنْ مَسِّ الْوَجَعِ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُهُ))، وَإِذَا الطَّلْقُ قَدْ زَالَ، وَإِذَا الْجَنِينُ قَدِ اسْتَقَرَّ، فَدَخَلَا الْمَدِينَةَ فِي رِكَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ جَاءَهَا الْمَخَاضُ بِأَلَمِهِ وَوَجَعِهِ حَتَّى وَضَعَتْ وَلَدًا، فَقَالَتْ: ((لَا يَدْخُلَنَّ جَوْفَهُ شَيْءٌ قَبْلَ رِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

وَأَعْطَتْ أَنَسًا تَمْرَاتٍ، فَحَمَلَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ عَلَى يَدَيْهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَهْنَأُ جَمَلًا مِنْ جِمَالِ الصَّدَقَةِ بِالْقَطْرَانِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ الْجَرَبُ، فَاسْتَمْهَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى يَفْرُغَ، ثُمَّ أَتَى إِلَيْهِ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَخَذَ تَمْرَةً فَلَاكَهَا بِفَمِهِ ﷺ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَأَخَذَ يُحَنِّكُ بِهَا الْوَلَدَ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ، وَأَخَذَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّظُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا فَتَقَ مَعِدَتَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ، حَتَّى وَهُمْ -هَكَذَا- فِي أَوَّلِ عَهْدِهِمْ بِالْحَيَاةِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

يَقُولُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((فَلَقَدْ رَأَيْتُ تِسْعَةَ وَلَدٍ لِعَبْدِ اللهِ هَذَا -فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ بِدَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، رَأَيْتُ لَهُ تِسْعَةَ وَلَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ))؛ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبِبَرَكَةِ صَبْرِ أُمِّ سُلَيْمٍ عَلَى قَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذِ الْمَرْءُ لَوْ كَانَ حَاذِقًا لَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ يَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ، فَإِلَى أَيْنَ الْمَذْهَبُ وَأَيْنَ أَيْنَ الْمُسْتَقَرُّ؟!!

وَلَكِنْ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ -هَكَذَا- اضْطِرَارًا، وَإِنَّمَا التَّسْلِيمُ يَأْتِي اخْتِيَارًا..

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَمُرُّ عَلَى امْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ تَبْكِي، فَيَقُولُ: ((يَا أَمَةَ اللهِ! اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي)).

قَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي))؛ وَهُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ فِيهِ مَعْنَى الْبُعْدِ وَمَعْنَى الطَّرْدِ، ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي)).

فَمَضَى رَاشِدًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﷺ.

فَجَاءَ صَحَابِيٌّ فَقَالَ: ((وَيْحَكِ! تَعْلَمِينَ مَنْ تُخَاطِبِينَ مُنْذَ الْيَوْمِ؟)).

قَالَتْ: ((لَا)).

قَالَ: ((هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

فَقَامَتْ تَشْتَدُّ فِي أَثَرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْرِفْهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَسْمَعُ عَنْهُ، وَكَانَتْ تَسْمَعُ عَنْ إِجْلَالِ أَصْحَابِهِ إِيَّاهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَحَسِبَتْهُ قِيَاسًا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ، فَظَنَّتْ أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بَيْتَهُ لَوَجَدَتْ قَصْرًا مُنِيفًا شَامِخًا مَشِيدًا مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَوَجَدَتْ عَلَى بَابِهِ حُجَّابًا وَبَوَّابِينَ، فَجَاءَتْ إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ وَلَا حُجَّابًا، فَاسْتَئْذَنَتْ فَدَخَلَتْ تَعْتَذِرُ، قَالَتْ: ((لَمْ أَعْرِفْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ )).

قَالَ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)).

إِنَّ مَا يَجْرِي عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْأَعْرَاضِ؛ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَمِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُفْقِرُ إِنْسَانًا مِنْ أَجْلِ إِفْقَارهِ، وَلَا يُغْنِي إِنْسَانًا مِنْ أَجْلِ إِغْنَائِهِ، وَلَا يُصِحُّ بَدَنَ إِنْسَانٍ مِنْ أَجْلِ تَصْحِيحِ بَدَنِهِ، وَلَا يُمْرِضُ إِنْسَانًا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ يَجْرِي عَلَى خَلْقِ اللهِ فِي كَوْنِ اللهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِدَّةَ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَدَّ فِعْلِكَ عَلَى قَدَرِهِ فِيكَ.

((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)).

((التَّوَازُنُ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحَيَاةِ))

إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْمَتِينَ -عِبَادَ اللهِ- يُرَاعِي أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ النَّفْسِيَّةِ، كَمَا يُرَاعِي أَحْوَالَهُ الْجَسَدِيَّةَ، فَتَعَلَّمُوهُ!

وَافْهَمُوهُ!

وَالْتَزِمُوهُ!

وَكُونُوا عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ!

وَأَقِيمُوا أَنْفُسَكُمْ بِقِسْطَاسِهِ الْقَوِيمِ!

وَتَأَمَّلُوا فِيهِ!

وَأَجْلُوا أَنْظَارَكُمْ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَطَاوِيهِ!

تَأَمَّلُوا فَرَائِدَ الْحِكْمَةِ فِيهِ عِبَادَ اللهِ!

الْحُزْنُ مَشْرُوعٌ مُقَنَّنٌ..

((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ...)).

لَا يَتَّسِعُ الْأَمْرُ اتِّسَاعًا لَا حَدَّ لَهُ، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ -عِنْدَئِذٍ- ذَاهِبًا بِأَصْلِ الْحَيَاةِ فِي حَرَكَةِ الْحَيَاةِ فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ حُزْنٌ مُنْتِجٌ، حُزْنٌ مُمِضٌّ عَاصِرٌ لِلْقَلْبِ مُعْتَصِرٌ لِأَطْوَاءِ النَّفْسِ، لَا غَضَاضَةَ وَلَا تَثْرِيبَ.

وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزَنَ الْإِنْسَانُ عَلَى مَصِيرِهِ هُوَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ شَاهِدًا عَلَى غَائِبٍ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ فِي الْحَيَاةِ قَانُونًا، يَتَأَمَّلُ الْحُفْرَةَ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا.

يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)).

فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا تَأْخُذُ بِالْحِدَادِ -وَهُوَ تَرْكُ الزِّينَةِ؛ طِيبًا، وَثِيَابًا مُعَصْفَرَةً، وَكُحْلًا، وَحُلِيًّا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ لِبَعْلٍ أَوْ لِغَيْرِ بَعْلٍ مِمَّا يَتَوَاضَعُ النِّسْوَةُ عَلَى مِثْلِهِ عُرْفًا وَطَبْعًا، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ إِذَا مَا كَانَ حَلَالًا لِامْرَأَةٍ أَنْ تَأْخُذَ بِهِ أَوْ أَنْ تَدَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمَسَّ طِيبًا، وَلَا أَنْ تَكْتَحِلَ، وَلَا أَنْ تَتَزَيَّنَ، وَلَا أَنْ تَمْتَشِطَ إِلَّا إِذَا مَا اغْتَسَلَتْ، وَلَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا، وَإِنَّمَا تَعْتَدُّ الْمَرْأَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي بَيْتِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، لَا تَخْرُجُ إِلَّا لِحَاجَةٍ مُلِحَّةٍ؛ مِنْ تَدَاوٍ، أَوْ طَلَبِ عَيْشٍ بِرِزْقٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ عَلَى قَانُونِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

فَالرَّسُولُ ﷺ يَجْعَلَ لَنَا هَذَا الْقَانُونَ قَائِمًا، فَلْتَحْزَنِ النَّفْسُ كَمَا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الْمَرْأَةُ لَا تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ وَإِنْ كَانَ أَبَاهَا، وَإِنْ كَانَ أَخَاهَا، وَإِنْ كَانَ عَمَّهَا، وَإِنْ كَانَ خَالَهَا، وَإِنْ كَانَ مَنْ كَانَ، فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا- زَوْجِ نَبِيِّنَا ﷺ -وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ- جَاءَ نَعْيُ أَبِيهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((وَاللهِ! مَا لِي إِلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ -بِالرَّفْعِ- أَوْ: أَنْ تُحِدَّ -بِالنَّصْبِ، رِوَايَةً- عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)).

وَمِثْلُ ذَلِكَ وَقَعَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ عِنْدَمَا مَاتَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتِ الْحَدِيثَ ذَاكِرَةً إِيَّاهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَضْبِطُ حَالَاتِ النَّفْسِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهَا.

وَهَذَا دَلَالَةٌ وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ سَاطِعٌ نَاصِعٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِنْدَ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ الدِّينُ الَّذِي تَتَوَازَنُ فِيهِ مَلَكَاتُ النَّفْسِ مَعَ غَرَائِزِ الْبَدَنِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي تَتَنَاغَمُ فِيهِ طَاقَاتُ النَّفْسِ مَعَ شَهَوَاتِ الْجَسَدِ.

هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا التَّوَازُنِ، فَإِذَا فُقِدَ فَحَدِّثْ عَنِ الضَّيَاعِ الْفَرْدِيِّ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ -وَلَا حَرَجَ-.

وَمَا مِنْ مُجْتَمَعٍ مُتَمَاسِكٍ يُؤَدِّي فِي الْمُنْتَهَى وَظِيفَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ يُحَقِّقُ بِهَا ذَاتَهُ، وَيَسْعَى بِهَا جَاهِدًا لِأَدَاءِ مُهِمَّةِ الْإِنْسَانِ فِي أَرْضِ اللهِ.. مَا مِنْ مُجْتَمَعٍ مُتَمَاسِكٍ مُتَوَازِنٍ يَتَشَقَّقُ فِي بُنْيَانِ أَفْرَادِهِ مَا لَدَيْهِمْ مِنْ تَطَلُّعَاتٍ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ غَرَائِزَ، وَيَتَبَاعَدُ مَا لَدَيْهِمْ مِنْ مَلَكَاتِ النَّفْسِ وَأَشْوَاقِ الرُّوحِ، يَتَبَاعَدُ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ إِمْكَانِيَّةِ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ؛ إِلَّا وَقَعَ الْمُجْتَمَعُ فِي صِرَاعٍ غَيْرِ بَيِّنٍ يُؤَدِّي فِي الْمُنْتَهَى إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقَلَقِ الْعَامِّ وَعَدَمِ الرِّضَا، وَلَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ التَّحَلُّلِ مِنَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَإِلَى الْعِرْضِ، ثُمَّ يَحْدُثُ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ التَّمَرُّدِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُؤَدِّي إِلَى كَثِيرٍ مِنْ ثَوْرَةِ النَّفْسِ عَلَى  النَّفْسِ، وَالدَّمَارُ هُوَ الْمُنْتَهَى.

الْعِصْمَةُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لَمْ يَأْتِ لِكَيْ يُعْلِيَ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِمَحْقِ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَأْتِ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لِيَرْفَعَ مِنْ شَأْنِ الدُّنْيَا عَلَى حِسَابِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَتَى دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لِكَيْ يُعِيدَ التَّوَازُنَ الْمَفْقُودَ.

دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ نُقْطَةُ الِالْتِقَاءِ بَيْنَ طَاقَاتِ الرُّوحِ الْمُتَفَجِّرَةِ مِنْ أَعْمَاقِ الْقَلْبِ لِأَشْوَاقِ الرُّوحِ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ يَتَنَاغَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ مُتَطَلَّبَاتِ جَسَدٍ رُكِّبَ عَلَى صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَدَاءِ وَظِيفَةٍ فِي أَرْضِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِصْلَاحًا مِنْ فَسَادٍ وَإِصْلَاحًا لِفَسَادٍ، وَسَعْيًا نَحْوَ الْإِصْلَاحِ بِتَجَاوُزِ كُلِّ أَسْبَابِ الْفَسَادِ.

النَّبِيُّ ﷺ حَقَّقَ هَذَا الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ ﷺ، وَحَقَّقَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هَذَا الْأَمْرَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِهِ وَاعِينَ، وَكَانُوا لَهُ مُدْرِكِينَ، فَحَقَّقُوا أَمْرَ التَّوَازُنَ فِي أَرْضِ اللهِ بِصُورَةٍ لَمْ تَحْدُثْ فِي أَرْضِ اللهِ قَبْلَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.

فَخَرَجُوا وَكَانُوا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَكَانُوا كَجُرْذَانِ الصَّحْرَاءِ، وَكَانُوا لَا يَتَوَرَّعُونَ قَبْلَ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ عَنْ مَأْثَمٍ، وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عِنْدَ حَدٍّ، وَكَانُوا فِي الضَّلَالِ إِلَى مَدًى بَعِيدٍ.

وَجَاءَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ لِيَرَفَعَ الْمَدَارِكَ، وَيُنَقِّيَ الشُّعُورَ..

وَجَاءَ الْإِسْلَامُ لِيُهَذِّبَ الرُّوحَ، وَيُعْلِيَ الذَّوْقَ..

وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعِيدَ التَّوَازُنَ فِي الْمُجْتَمَعِ وَكَانَ مَفْقُودًا بِمَرَّةٍ..

فَاللهم ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِكَ الْحَقِّ حَتَّى نَلْقَى أَمْرَكَ الصِّدْقَ، وَحَتَّى نَجْتَمِعَ بِنَبِيِّكَ ﷺ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:الدِّينُ وَالْإِنْسَانُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  مختصر الرد على أهل الإلحاد
  عُلُوُّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ
  أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ
  جناية التنوير على المسلمين
  تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ
  بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ
  هؤلاء يساندون التكفير والإرهاب
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان