حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ

حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ

((حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ

بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ؛ فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعَلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ -ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا-، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ: قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ!!

إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

((مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْلِ))

إِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ: الْمُحَافَظَةَ عَلَى النَّسْلِ، وَهِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بِحَيْثُ يَنْشَأُ قَوِيًّا فِي خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ، وَمَشَاعِرِهِ، وَمَوَاهِبِهِ، وَدِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ الْأُسْرِيَّةِ؛ لِيَتَرَبَّى الْأَوْلَادُ فِيهَا، وَيَنْعَمُوا بِالْحَيَاةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِالْأُمُومَةِ الَّتِي تَتَغَذَّى مِنْهَا الْعَوَاطِفُ، وَتَكْتَمِلُ بِهَا الْمَدَارِجُ؛ فَيَنْشَأُ الْمُسْلِمُ سَوِيًّا لَا عِوَجَ فِيهِ.

وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْلِ وَحِيَاطَتِهِ.

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَجِدُ أَنَّهَا أَوْلَتْ إِعْدَادَ الْإِنْسَانِ عِنَايَةً خَاصَّةً، بِدَايَةً مِنْ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ، مُرُورًا بِمَرَاحِلِ الْحَمْلِ، وَالْوِلَادَةِ، وَالرَّضَاعَةِ.

وَتَتَنَوَّعُ حُقُوقُ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ.

 ((مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ الْجَسِيمَةِ وَالْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: أَبْنَاؤُهُ؛ مِنْ حَيْثُ تَرْبِيَتُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ، وَنُصْحُهُمْ وَتَوْجِيهُهُمْ؛ فَإِنَّ الْأَبْنَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِرِعَايَتِهَا وَحِفْظِهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِأَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

وَاللهُ -تَعَالَى- كَمَا أَنَّهُ وَهَبَ الْآبَاءَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]؛ فَإِنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حُقُوقًا وَوَاجِبَاتٍ، وَجَعَلَهَا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا لِلْآبَاءِ، فَإِنْ قَامُوا بِهَا تِجَاهَ أَبْنَائِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، وَإِنْ فَرَّطُوا فِيهَا فَقَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعُقُوبَةِ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].

وَالْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَوْلَادِ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِأَحْوَالِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ)))).

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ: ((عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَعَلِّمُوا أَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، وَأَدِّبُوهُمْ)).

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَا هَذَا! أَحْسِنْ أَدَبَ ابْنِكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تَفْسِيرًا لِآيَةِ التَّحْرِيمِ السَّابِقَةِ: ((أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ)).

وَإِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّكَ إِنْ غَرَسْتَ خَيْرًا حَصَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ غَرَسْتَ شَرًّا وَجَدْتَ شَرًّا وَلَا بُدَّ.

فَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ آثَارٌ مُدَمِّرَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ، بَلْ وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، فَكَمَا أَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ، فَتَعْلِيمُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ؛ مِنَ الْعِفَّةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْبِرِّ، وَحِفْظِ اللِّسَانِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّافِعِ الْمُفِيدِ يُجَنِّبُ -بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى- الْوُقُوعَ فِي الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا   = عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيَانُ تَحَتُّمِهِ عَلَى الْآبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَسْؤُولٌ)): تَذْكِيرٌ بِسُؤَالِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ عَنْ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ.

وَكَمَا أَوْصَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأَبْنَاءَ بِبِرِّ آبَائِهِمْ، وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]؛ فَقَدْ أَوْصَى الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ -أَيْضًا-؛ لِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

فَوَصِيَّةُ اللهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ.

وَقَدْ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا عَلَى أَبْنَائِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَىَ فِيهَا جَدْعَاءَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَثَلٌ بَلِيغٌ مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْتَجُ فِي الْعَادَةِ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، فَلَيْسَ فِيهَا جَدْعٌ، أَوْ قَطْعٌ فِي يَدِهَا أَوْ أُذُنِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ رَاعِيهَا؛ إِمَّا بِإِهْمَالِهِ، وَإِمَّا بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً.

فَهَكَذَا الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَإِذَا تَعَلَّمَ الْكَذِبَ وَالْغِشَّ، أَوِ الْفَسَادَ وَالِانْحِرَافَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ فِطْرَتِهِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ، أَوِ الْإِهْمَالِ فِيهَا، أَوْ بِمُؤَثِّرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ أَصْحَابِ السُّوءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلَطَاءِ)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الطِّفْلُ غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ: الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ خُلُقِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى مَا عَوَّدَهُ الْمُرَبِّي فِي صِغَرِهِ؛ مِنْ حَرَدٍ وَغَضَبٍ، وَلَجَاجٍ وَعَجَلَةٍ، وَخِفَّةٍ مَعَ هَوَاهُ، وَطَيْشٍ وَحِدَّةٍ وَجَشَعٍ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِي كِبَرِهِ تَلَافِي ذَلِكَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ صِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ رَاسِخَةً لَهُ، فَلَوْ تَحَرَّزَ مِنْهَا غَايَةَ التَّحَرُّزِ فَضَحَتْهُ -وَلَا بُدَّ- يَوْمًا مَا.

وَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُنْحَرِفَةً أَخْلَاقُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْلُظَ أَعْوَادُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قِبَلِ التَّرْبِيَةِ الَّتِي نَشَأَ عَلَيْهَا.

وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُجَنَّبَ الصَّبِيُّ إِذَا عَقَلَ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَالْغِنَاءَ، وَسَمَاعَ الْفُحْشِ، وَالْبِدَعَ، وَمَنْطِقَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِقَ بِسَمْعِهِ عَسُرَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ فِي الْكِبَرِ، وَعَزَّ عَلَى وَلِيِّهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُ، فَتَغْيِيرُ الْعَوَائِدِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ، يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى اسْتِجْدَادِ طَبِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الطَّبِيعَةِ عَسِرٌ جِدًّا.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ أَعْظَمَ مِمَّا يُجَنِّبُهُ السُّمَّ النَّاقِعَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى سَهَّلَ لَهُ سَبِيلَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَرَمَهُ كُلَّ خَيْرٍ.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَسَلَ وَالْبَطَالَةَ وَالدَّعَةَ وَالرَّاحَةَ، بَلْ يَأْخُذُهُ بِأَضْدَادِهَا.

وَيُعَوِّدُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ وَقْتُ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقِ الْجَوَائِزِ؛ فَمُسْتَقِلٌّ، وَمُسْتَكْثِرٌ، وَمَحْرُومٌ، فَمَتَى اعْتَادَ ذَلِكَ صَغِيرًا سَهُلَ عَلَيْهِ كَبِيرًا)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَأَحَقُّهُمْ بِمَعْرُوفِكَ: أَوْلَادُكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَمَانَاتٌ جَعَلَهُمُ اللهُ عِنْدَكَ، وَوَصَّاكَ بِتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَكُلُّ مَا فَعَلْتَهُ مَعَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَإِنَّهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَسِبْهُ عِنْدَ اللهِ، فَكَمَا أَنَّكَ إِذَا أَطْعَمْتَهُمْ وَكَسَوْتَهُمْ وَقُمْتَ بِتَرْبِيَةِ أَبْدَانِهِمْ فَأَنْتَ قَائِمٌ بِالْحَقِّ مَأْجُورٌ؛ فَكَذَلِكَ -بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ- إِذَا قُمْتَ بِتَرْبِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْمَعَارِفِ الصَّادِقَةِ، وَالتَّوْجِيهِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدِّهَا.

فَالْآدَابُ الْحَسَنَةُ خَيْرٌ لِلْأَوْلَادِ حَالًا وَمَآلًا مِنْ إِعْطَائِهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَنْوَاعَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ؛ لِأَنَّ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ يَرْتَفِعُونَ، وَبِهَا يَسْعَدُونَ، وَبِهَا يُؤَدُّونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَا يَجْتَنِبُونَ أَنْوَاعَ الْمَضَارِّ، وَبِهَا يَتِمُّ بِرُّهُمْ لِوَالِدِيهِمْ)).

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

اخْتِيَارُ أُمٍّ صَالِحَةٍ لَهُ))

لِلْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ حُقُوقٌ عَظِيمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ مِنْهَا: اخْتِيَارُ الْأُمِّ الصَّالِحَةِ لَهُ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّه كَمَا يَجِبُ عَلَى وَلَدِه أَنْ يَبَرَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ -هُوَ أَيْضًا- أَنْ يَبَرَّ ابْنَهُ؛ بِأَنْ يُحْسِنْ اخْتِيَارَ أُمِّهِ.

هَذَا مِنْ حَقِّ الوَلَدِ.

قَالَ النبيُّ ﷺ فِي بَيَانِ صِفَاتِ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ», «الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ, وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».

هَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

التَّرَبُ: اللَّصَقُ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ هُنَا دُعَاءٌ بِمَعْنَى: أَصْبَتَ خَيْرًا.

فَالدَّيِّنَةُ تُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَتُصْلِحُ مَنْ يَتَرَبَّى عَلَى يَدَيْهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَتَحْفَظُ بَيْتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الدَّيِّنَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَضُرُّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ» .

فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّينِ جَمَالٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ؛ فَذَلِكَ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَارَ الدَّيِّنَةُ.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ الْمُسْلِمِ: حَقُّهُ فِي الْحَيَاةِ))

إِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْحِفَاظَ عَلَى حَيَاةِ الطِّفْلِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَكُمْ فِي كِتَابِهِ أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَضِيقِكُمْ مِنْ رِزْقِهِمْ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الظَّالِمَةِ.

نَحْنُ تَكَفَّلْنَا بِرِزْقِ الْجَمِيعِ، فَلَسْتُمُ الَّذِينَ تَرْزُقُونَ أَوْلَادَكُمْ، بَلْ وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ ضِيقٌ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ؛ تَخَلُّصًا مِنْ أَزْمَةِ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ، فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ لِتَتَخَلَّصُوا مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ خَوْفَ حُدُوثِ فَقْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْنُ نَتَكَفَّلُ بِرِزْقِ الْأَوْلَادِ، وَرِزْقِ آبَائِهِمُ الْمُنْفِقِينَ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].

وَالْإِنْسَانُ يَرَى الرِّزْقَ يَنْفَتِحُ إِذَا وُلِدَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ذِي حَيَاةٍ تَمْشِي بِهُدُوءٍ رُوَيْدًا رُوَيْدًا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَكْبَرِ حَيَوَانٍ يَدِبُّ فِيهَا حَتَّى أَصْغَرِ حَيَوانٍ كَالْفَيْرُوسَاتِ؛ إِلَّا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْزُقَهَا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِهِ الَّتِي يَخْتَارُهَا.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَنَهَى الْوَالِدَيْنِ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْذَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَسْقَطِهَا: قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ؛ خَشْيَةً مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ.

 

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الرَّضَاعَةُ))

لَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ: أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.

وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ بِأَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَامِلِ وَعَلَى مُعْظَمِ الْحَوْلِ، قَالَ: كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.

فَإِذَا تَمَّ لِلرَّضِيعِ حَوْلَانِ؛ فَقَدْ تَمَّ رَضَاعُهُ، وَصَارَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَغْذِيَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، لَا يُحَرِّمُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ، وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

 

 

 ((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

الِالْتِزَامُ بِسُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ وِلَادَتِهِ))

لَقَدْ سَنَّ النَّبِيُّ ﷺ سُنَنًا بَعْدَ وِلَادَةِ الطِّفْلِ يَنْبَغِي أَنْ نَتَمَسَّكَ بِهَا؛ وَمِنْهَا:

* تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ: فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيحَنِّكُهُمْ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي بِهَا.

وَ((التَّحْنِيكُ)): أَنْ تَمْضُغَ التَّمْرَ حَتَّى يَلِينَ، ثُمَّ تَدْلُكُهُ بِحَنَكِ الصَّبِيِّ.

فَالتَّحْنِيكُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ: هُوَ مَضْغُ الشَّيْءِ، وَوَضْعُهُ فِي فَمِ الصَّبِيِّ، فَيُقَالُ: حَنَّكْتَ الصَّبِيَّ؛ إِذَا مَضَغْتَ التَّمْرَ، ثُمَّ دَلَكْتَهُ بِحَنَكِهِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ بِتَحْنِيكِ الصَّبِيِّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ -أَيْ: يَقُولُ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ-.

وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ؛ مِنْهَا: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَسَمَّاهُ: إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالتَ: ((فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ -أَيْ: وَهِيَ مُتِمٌّ أَشْهَرَ الْحَمْلِ-.

قَالَتْ: فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ، فَبَرَّكَ عَلَيْهِ)) .

* وَمِنَ السُّنَنِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ نَحْرِصَ عَلَيْهَا لِلْمَوْلُودِ: سُنَّةُ النَّسِيكَةِ عَنِ الْمَوْلُودِ، وَاسْتِنَانُ تَسْمِيَتِهِ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَحَلْقُ شَعْرِهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِوَزْنِهِ فِضَّةً؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ، وَالْعَقِّ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَحَسَّنَهُ لِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ -أَيْ مِنَ الْوِلَادَةِ-.

وَكَذَلِكَ أَمَرَ ﷺ بِوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هُوَ حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ)) .

وَقِيلَ: ((أَرَادَ بِهِ تَطْهِيرَهُ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَوْضَارِ الَّتِي تَلَطَّخَ بِهَا فِي حَالِ الْوِلَادَةِ)).

فَحَلْقُ الرَّأْسِ فِي يَوْمِ السَّابِعِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَفُعِلَ بِحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ بِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَهُوَ الَّذِي عَقَّ عَنْهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَالنِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً؛ فَلَا يَغْلِبَنَّكَ النِّسَاءُ عَلَى الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ تَمَامًا لِلسُّنَّةِ أَنْ تَحْلِقَ شَعْرَ الْجَارِيَةِ كَمَا تَحْلِقَ شَعْرَ الصَّبِيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ -عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ- تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى)) .

وَ((رَهِينَةٌ)): يَعْنِي هُوَ فِي قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ، لَا يَخْلُصُ مِنْ قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا إِذَا عُقَّ عَنْهُ.

أَوْ ((رَهِينَةٌ)): بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِأَبَوَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -لَوْ كَانَ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ- إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عُقَّ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَا قَدْ نَسِكًا عَنْهُ.

* وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ الشَّعْرِ فِضَّةً، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا فَاطِمَةُ! احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً)).

قَالَتْ: ((فَوَزَنَّاهُ؛ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضُ دِرْهَمٍ)).

وَتَصَدَّقَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِوَزْنِ الشَّعْرِ فِضَّةً كَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَأَمَّا ((الْعَقُّ عَنْهُ)): فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَقِيقَةُ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ.

وَالْعَقُّ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَقِيلَ لِلذَّبِيحَةِ عَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُشَقُّ حَلْقُهَا، وَيُقَالُ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْمَوْلُودِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُحْلَقُ.

وَالْعَقِيقَةُ مَشْرُوعَةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ؛ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

يُنْسَكُ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثٌ؛ مِنْهَا:

((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسِكَ عَنْ وَلَدِهِ؛ فَلْيَنْسِكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ)). وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْمُجْتَبَى))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ)) وَغَيْرِهِ.

وَيُقَالُ لَهَا: ((نَسِيَكَةٌ))، وَلَا يُقَالَ لَهَا: ((عَقِيقَةٌ))؛ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ -وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ- قَالَ: ((لَا يُحِبُّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعُقُوقَ)) .

فَعَلْيَنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالتَّسْمِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ -وَهِيَ النَّسِيكَةُ-، عَلَيْنَا أَنْ نَلْزَمَهَا، وَلَا حَرَجَ أَنْ نَأْخُذَ بِالتَّسْمِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَتَتْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ أَحْيَانًا، وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الصَّحِيحَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ النَّسِيكَةُ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِنَانِ التَّسْمِيَةِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُسَمَّى يَوْمَ سَابِعِهِ، فَإِذَا سُمِّيَ يَوْمَ الْوِلَادَةِ جَازَ؛ لِمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ؛ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)).

فَيُحْمَلُ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَأْخِيرِ التَّسْمِيَةِ إِلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ هُوَ التَّأَنِّي فِي اخْتِيَارِ الِاسْمِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ.

* وَمِنَ السُّنَّةِ: اخْتِيَارُ اسْمٍ حَسَنٍ لِلْمَوْلُودِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)).

وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةٌ)).

خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ -دُونَ جُمْلَةِ: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ))- الْأَلْبَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى ((الْكَلِمِ الطَّيِّبِ))، وَفِي ((الْإِرْوَاءِ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْكَلِمِ الطَّيِّبِ)) : ((وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ إِلَى أَسْمَاءَ حَسَنَةٍ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ تُسَمَّى بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا زَيْنَبَ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَقَالَ ﷺ لِرَجُلٍ: ((مَا اسْمُكَ؟)).

قَالَ: حَزْنٌ.

قَالَ: ((بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَغَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَة؛ فَسَمَّاهَا جَمِيلَة. كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَهْتَمُّ بِالْأَسْمَاءِ اهْتِمَامًا شَدِيدًا، الِاسْمُ عُنْوَانُ الْمُسَمَّى، وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَضَرُورَةٌ لِلتَّفَاهُمِ مَعَهُ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ.

وَهُوَ لِلْمَوْلُودِ زِينَةٌ، وَوِعَاءٌ، وَشِعَارٌ يُدْعَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَتَنْوِيهٌ بِالدِّينِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَانْظُرْ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي دِينِ اللهِ -فِي الْإِسْلَامِ- كَيْفَ يُغَيِّرُ اسْمَهُ إِلَى اسْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَهُ شِعَارٌ.

* وَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ؛ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَى آثَارٍ تُرْوَى عَنِ التَّابِعِينَ؛ مِنْهَا:

عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ التَّهْنِئَةِ؛ كَيْفَ أَقُولُ؟

قَالَ: ((قُلْ: جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ ((الدُّعَاءِ)).

وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ((كَانَ أَيُّوبُ إِذَا هَنَّأَ رَجُلًا بِمَوْلُودٍ قَالَ: ((جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَمِثْلُ هَذَا الْآثَارِ خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّا نَسْمَعُهُ الْيَوْمَ؛ مِنَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ يُجْزِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا نَلْتَزِمُ بِهَذِهِ التَّهْنِئَةِ، كَمَا لَوْ أَنَّ حَدِيثًا جَاءَ فِيهَا، وَلَا نَجْعَلُهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الثَّابِتَاتِ فِي السُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ بِهَا أَحْيَانًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ أَذَّنَ أَوْ أَقَامَ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا إِمَّا مَوْضُوعَةٌ، وَإِمَّا شَدِيدَةُ الضَّعْفِ، وَإِمَّا ضَعِيفَةٌ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَوِّيهَا، فَتَبْقَى عَلَى ضَعْفِهَا.

فَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ سُنَّةٍ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ بِدْعَةً، وَاللهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

رِعَايَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ.. } الْآيَةَ. [البقرة: 215].

يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟

قُلْ لَهُمْ: مَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ فَأَنْفِقُوهُ فِي هَذِهِ؛ وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْهَا:

* الْوَالِدَانِ؛ لِمَا لَهُمَا مِنْ فَضْلِ الْوِلَادَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّرْبِيَةِ.

* وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ أَهْلِكُمْ وَذَوِي أَرْحَامِكُمْ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ-أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

فَاعْلَمْ أَنَّ إِطْعَامَكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مَطْعَمِهِ, وَفِي مَشْرَبِهِ, وَفِي مَلْبَسِهِ, وَفِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِزْوْجِهِ، وَليَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: رِعَايَتُهُ صِحِّيًّا))

* يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَهْتَمَّ بِصِحَّةِ الْأَطْفَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، فَفِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصِّحَّةِ وَفَضْلِ الْعَافِيَةِ، وَجَلَالِ ذَلِكَ؛ لِجَمِيلِ أَثَرِهِ، وَلِعَظِيمِ قَدْرِهِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ.

لَمَّا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَالُوتَ مَلِكًا مَبْعُوثًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْقَوْمُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَلَيْنَا بِكَثِيرِ مَالٍ، ولا بِشَيْءٍ، فَقَالَ تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البَقَرَة: 247].

فجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَيزَةَ مَحْفُوظَةً لَدَيْهِ بِأَنْ آتَاهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، وَبَسْطَةً فِي الْجِسْمِ.

وَفِي فَضْلِ الْعَافِيَةِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَةُ وَالْفَرَاغُ)).

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأَعْرَاف: 31].

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، وَلَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ.

إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.

وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ؛ فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ، وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا آدَابَ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْأَكْلِ قَبْلَ الشِّبَعِ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي التُّخَمَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْبِطَنَةِ الْمُذْهِبَةِ لِلْفِطْنَةِ.

فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ». وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

* وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُعَلِّمَ الطِّفْلَ السُّنَنَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ؛ مِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى صِحَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَمْرَاضِنَا هِيَ مُخَالَفَةٌ لِلسُّلُوكِيَّاتِ الصَّحِيحَةِ، أَمْرَاضُنَا فِي جُمْلَتِهَا سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ مُخْطِئَةٌ!!

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ))

إِنَّ الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ دِينُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى النَّاسِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

* لَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ مُؤَسَّسَةً عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النَّفَقَةِ وَالْهِبَاتِ؛ فَيَجِبُ مُعَامَلَةُ الْأَبِ أَوْلَادَهُ بِالْعَدْلِ فِي الْهِبَةِ لَهُمْ.

فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَهُ نِحْلَةً، فَقَالَتْ أُمُّ النُّعْمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.

فَذَهَبَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَخْبَرَهُ؛ لِيُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ((أَلَكَ بَنُونَ؟)).

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: ((أَنَحْلْتَهُمْ مِثْلَ هَذَا؟)).

قَالَ: لَا.

قَالَ ﷺ: «لَا أَشْهَدُ، أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟».

قَالَ: نَعَمْ.

فَرَجَعَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ النُّعْمَانَ.

«نَحَلْتُ»؛ أَيْ: وَهَبْتُ، أَعْطَيْتُ بِلَا عِوَضٍ.

فَإِذَا كَانَ يَسُرُّكَ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي الْبِرِّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضِ فِي الْعَطِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسَوِّيَ الْمَرْءُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْهِبَةِ.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: اسْتِحْبَابُ التَّأْلِيفِ بَيْنِ الْإِخْوَةِ، وَاسْتِحْبَابُ تَرْكِ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الشَّحْنَاءَ، أَوْ يُورِثُ الْعُقُوقَ لِلْآبَاءِ.

وَفِيهِ: إِمْكَانِيَّةُ مَيْلِ الْقَلْبِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْلَادِ، أَوْ بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ:

أَمَّا الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِيهَا.

وَأَمَّا مَيْلُ الْقَلْبِ فَهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى صَرْفِهِ أَوِ اسْتِجْلَابِهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الشَّرْحِ الْمُمْتِعِ)): قال مُصَنِّفُ زَادِ الْمُسْتَقْنِعِ: «يَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِقَدْرِ إِرْثِهِمْ»: يَعْنِي أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهَذَا فِي الْعَطِيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلَوْ أَعْطَاهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لَكَانَ هَذَا جَوْرًا؛ لِأَنَّهُ زَادَ الْأُنْثَى وَنَقَصَ الذَّكَرَ، أَمَّا مَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهَا.

فَالرَّاجِحُ أَنَّ الْأَوْلَادَ يُعْطَوْنَ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ فِي إِرْثِهِمْ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا أَعْدَلَ مِنْ قِسْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، فَنَقُولُ: هُمْ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ سَوَاءٌ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ؛ فَلَا يَكُونُ التَّعْدِيلُ بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ إِرْثِهِمْ، بَلْ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، فَيَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأُنْثَى فَقِيرَةٌ، وَالذَّكَرُ غَنِيٌّ، فَهُنَا يُنْفِقُ عَلَى الْأُنْثَى وَلَا يُعْطِي مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ لِلذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لِدَفْعِ حَاجَةٍ.

فَالتَّعْدِيلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النَّفَقَةِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَحْتَاجُ، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدَهُمْ فِي الْمَدَارِسِ يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ لِلْمَدْرَسَةِ؛ مِنْ كُتُبٍ، وَدَفَاتِرَ، وَأَقْلَامٍ، وَحِبْرٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ لَكِنَّهُ لَا يَدْرُسُ، فَإِذَا أَعْطَى الْأَوَّلَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الثَّانِيَ مِثْلَهُ.

وَلَوِ احْتَاجَ أَحَدُهُمْ إِلَى تَزْوِيجٍ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ، فَالْعَدْلُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّزْوِيجِ وَلَا يُعْطِي الْآخَرَ.

هَلْ يُفَضِّلُ بَيْنَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْبِرِّ -يَعْنِي إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَبَرَّ مِنَ الْآخَرِ-؛ فَقَالَ: سَأُعْطِي الْبَارَّ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِي الْعَاقَّ؛ تَشْجِيعًا لِلْبَارِّ، وَحَثًّا لِلْعَاقِّ؟!!

هَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ مِنْ دَرَاهِمَ تُعْطِيهِ إِيَّاهَا، فَالْبِرُّ ثَوَابُهُ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّ الْبَارَّ الْيَوْمَ يَكُونُ عَاقًّا بِالْغَدِ، وَالْعَاقَّ الْيَوْمَ يَكُونُ بَارًّا بِالْغَدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُفَضِّلَهُ مِنْ أَجْلِ بِرِّهِ.

وَهَلْ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْأَوْلَادِ يَعْمَلُ مَعَهُ فِي مَتْجَرِهِ أَوْ مَزْرَعَتِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ زِيَادَةً عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ بِشَيْءٍ؟!!

إِنْ كَانَ الَّذِي يُعِينُ أَبَاهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبِرِّ.

وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ عِوَضًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ أَبَاهُ فَرَضَ لَهُ الْعِوَضَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَا بَأْسَ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِثْلَ أُجْرَتِهِ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الرَّجُلُ فِي وَلَدِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ؛ حَتَّى لَا يُورِثَ الْأَبْنَاءَ الْأَحْقَادَ، وَحَتَّى يَجْعَلَهُمَ جَمِيعًا فِي الْبِرِّ لَهُ سَوَاءً، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأَدَبِ النَّبَوِيِّ الرَّفِيعِ الشَّرِيفِ.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: تَأْدِيبُهُ وَتَهْذِيبُ خُلُقِهِ))

إِنَّ رِعَايَةَ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتَهُ وَتَأْدِيبَهُ كَمَنْ يَزْرَعُ؛ لِيَحْصُدَ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: قَالَ دَاوُدُ: «اعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ» . وَهَذَا الْأَثَرُ صَحِيحٌ.

هَذِهِ مِنَ الْحِكَمِ الْبَلِيغَةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا مَلِيًّا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَائِمًا شِعَارَهُ وَرَائِدَهُ.

«وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ»: فَإِنَّهُ لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.

كَمَا يَزْرَعُ الزَّارِعُ يَحْصُدُ الثَّمَرَةَ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، فَالْجَزَاءُ عِنْدَ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، مَنْ بَذَرَ الْخَيْرَ حَصَدَ خَيْرًا جَزَاءً حَسَنًا مِنَ اللهِ، وَمَنْ بَذَرَ الشَّرَّ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَبِدْعَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُدُ إِلَّا النَّارَ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَغَضَبَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ.

* عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَرْعَى وَلَدَهُ وَيُؤَدِّبَهُ؛ فَعَنْ أَسْمَاءِ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ سِيرِينَ: عِنْدِي يَتِيمٌ.

قَالَ: «اصْنَعْ بِهِ مَا تَصْنَعُ بِوَلَدِكَ، اضْرِبْهُ مَا تَضْرِبُ وَلَدَكَ» . وَالْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

«عِنْدِي يَتِيمٌ»؛ يَعْنِي: مَاذَا أَصْنَعُ مَعَهُ؟

«اضْرِبْهُ»؛ أَيْ: كَيْ لَا يَفْسُدَ؛ لِأَنَّكَ لَا تَضْرِبُ وَلَدَكَ إِلَّا وَتَرَى فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً وَمَصْلَحَةً لِوَلَدِكَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَافْعَلْ هَذَا مَعَ يَتِيمِكَ.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَرْعَى وَلَدَهُ.

الْإِنْسَانُ رُبَّمَا يُعَامِلُ وَلَدَهُ كَمَا أَمَرَ الشَّرْعُ فَيَدَعُهُ فِي غَيِّهِ، وَلَا يُحَاسِبُهُ عَلَى شَيْءٍ أَتَاهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَإِنَّمَا تُعَلِّقُ سَوْطَكَ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ «عَلِّقْ سَوْطَكَ بِحَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ» ؛ لِأَنَّ مَنْ أَمِنَ الْعُقُوبَةَ أَسَاءَ الْأَدَبَ.

إِنَّ أَفْضَلَ مَا أَعْطَاهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَوَرَّثَهُ لِوَلَدِهِ الْأَدَبُ الْحَسَنُ، أَنْ يُؤَدِّبَهُ أَدَبًا حَسَنًا؛ لِكَي يَسْتَقِيمَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ، وَلِكَي يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الدِّينِ، قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَرِيبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى.

* ضَوَابِطُ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا عِنْدَ تَأْدِيبِ الْيَتِيمِ:

على الرَّجُلِ أَلَّا يَفْحُشَ، وَلَا يُعَاقِبَ بِعِقَابٍ مُرِيعٍ، وَلَا يَضْرِبَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْحَزْمَ، فَيَأْتِيَ بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَيَلِينَ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَيَأْتِيَ بِالْحَسْمِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَامِلَ وَلَدَهُ كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ الشَّرِيعَةُ.

((مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

تَرْبِيَتُهُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ))

((إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ فِي كَفَالَةِ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّ الْمُرَبِّيَ وَالْكَافِلَ لَهُ الْأَثَرُ الْأَعْظَمُ فِي حَيَاةِ الْمَكْفُولِ وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ الْمُرَبِّينَ بِالتَّرْبِيَةِ الطَّيِّبَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ)).

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ ((فَقَدْ كَانَتْ أُمُّهَا -زَوْجَةُ عِمْرَانَ؛ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَذَوِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ عِنْدَهُمْ- نَذَرَتْ حِينَ ظَهَرَ حَمْلُهَا أَنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَكُونُ خَادِمًا لِبَيْتِ اللهِ، مُعَدًّا لِعِبَادَةِ اللهِ؛ ظَنًّا أَنَّ الَّذِي فِي بَطْنِهَا ذَكَرٌ.

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ -مُعْتَذِرَةً إِلَى اللهِ، شَاكِيَةً إِلَيْهِ الْحَالَ-: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى}.

أَيْ: أَنَّ الذَّكَرَ الَّذِي لَهُ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ مِنَ الْقِيَامِ بِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [ آل عمران: 36 ].

فَحَصَّنْتُهَا بِاللهِ مِنْ عَدُوِّهَا هِيَ وَذُرِّيَّتَهَا، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ حِفْظٍ وَحِمَايَةٍ مِنَ اللهِ لَهَا، وَلِهَذَا اسْتَجَابَ اللهُ لَهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}؛ أَيْ: أَنَّ اللهَ جَبَرَ أُمَّهَا، وَصَارَ لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا مِنَ الْقَبُولِ أَعْظَمَ مِمَّا لِلذُّكُورِ {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [ آل عمران: 37 ].

فَجَمَعَ اللهُ لَهَا بَيْنَ التَّرْبِيَةِ الْجَسَدِيَّةِ وَالتَّرْبِيَةِ الرُّوحِيَّةِ، حَيْثُ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ كَافِلُهَا أَعْظَمَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَإِنَّ أُمَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهَا لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ رَئِيسِهِمْ، فَاقْتَرَعُوا وَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ، فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ زَكَرِيَّا؛ رَحْمَةً بِهِ وَبِمَرْيَمَ.

فَكَفَّلَهَا أَحْسَنَ كَفَالَةٍ، وَأَعَانَهُ عَلَى كَفَالَتِهَا بِكَرَامَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْهُ، فَكَانَتْ قَدْ نَشَأَتْ نَشْأَةَ الصَّالِحَاتِ الصِّدِّيقَاتِ، وَعَكَفَتْ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهَا، وَلَزِمَتْ مِحْرَابَهَا)).

* أُسُسُ تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِلنَّاشِئَةِ:

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْإِسْلَامِ: الْبُلُوغُ مَعَ الرُّشْدِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَكِنْ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يُرَاعُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي صِغَرِهِمْ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَنْشَئُوا عَلَى حُبِّهَا، وَيُدَاوِمُوا عَلَيْهَا.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ».

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُومُونَ بِتَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ عَلَى الْأَدَبِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ- فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ؛ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ -تَعْنِي: اللُّعْبَةَ- حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).

فَهَكَذَا تَرْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ رَبَّى الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَبْنَاءَهُمْ، فَخَرَجَتْ أَجْيَالٌ مُسْلِمَةٌ تَنْشُرُ الْخَيْرَ فِي رُبُوعِ الْأَرْضِ، وَعَاشَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.

لَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَلَى ضَرُورَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ خَبْرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:

ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.

وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ.

((تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى التَّوْحِيدِ))

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَفِي الدُّعَاءِ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُوَحِّدِينَ؛ فقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ، خَاضِعَيْنِ لِطَاعَتِكَ, لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ, وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ.

وَدَعَوَا اللهَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أَهْلَ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ وَالْمُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِهِ.

وَوَصَّى إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ, وَهُوَ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ لِلَّهِ, وَخُضُوع الْقَلْب وَالْجَوَارِح لَهُ.

فَعَهِدَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إلَى بَنِيهِ بِذَلِكَ -أَيْ: بِالْإِسْلَامِ-، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَوَصَّى بِذَلِكَ -أَيْضًا- يَعْقُوب بَنِيهِ.

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الَّذِي قَدْ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ, {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: فَاتَّقُوا اللَّه أَنْ تَمُوتُوا إلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا بِتَوْفِيقِكَ لَنَا وَهِدَايَتِنَا مُخْلِصَيْنِ مُطِيعَيْنِ خَاضِعَيْنِ لَكَ، رَبَّنَا وَاجْعَلْ بَعْضَ أَوْلَادَنَا بِحِكْمَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ جَمَاعَةً خَاضِعَةً مُنْقَادَةً لَكَ.

رَبَّنَا وَعَلِّمْنَا وَبَصِّرْنَا شَرَائِعَ دِينِنَا، وَأَعْمَالَ حَجِّنَا، وَالْأَمَاكِنَ الْخَاصَّةَ الَّتِي جَعَلْتَهَا لِعِبَادَتِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنَّا بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَتَقَبَّلْ مِنَّا تَوْبَتَنَا، وَارْحَمْنَا؛ إِنَّكَ أَنْتَ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِكَ، الدَّائِمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

وَوَصَّى إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَالِاسْتِسْلَامِ الْكَامِلِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ -وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا، أَحَدُهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- بِمِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَكُلٌّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- قَالَ لِبَنِيهِ فِي وَصِيَّتِهِ لَهُمْ: يَا أَبْنَائِي! إِنَّ اللهَ اخْتَارَ لَكُمْ عَقَائِدَ الدِّينِ، وَشَرَائِعَهُ، وَأَحْكَامَهُ، فَاسْتَخْلَصَ لَكُمْ أَحْسَنَهَا، وَكَلَّفَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِهَا، وَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا.

وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِي قِيَادَتِكُمْ فِي مَسِيرِةِ حَيَاتِكُمْ إِلَيْهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، تُطِيعُونَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَتُؤَدُّونَهُ، وَتُطِيعُونَهُ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَتَجْتَنِبُونَهُ.

فَالْتَزِمُوا بِإِسْلَامِكُمْ لَهُ كُلَّ أَزْمَانِ حَيَاتِكُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَكُمُ الْمَوْتُ الَّذِي لَا تَعْلَمُونَ وَقْتَ نُزُولِهِ بِكُمْ عِنْدَ انْتِهَاءِ آجَالِكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا مُمْتَحَنُونَ، جَاءَكُمْ حِينَئِذٍ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، مُسْتَسْلِمُونَ، مُنْقَادُونَ، مُطِيعُونَ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ لِتَكُونُوا مِنَ النَّاجِينَ وَالْفَائِزِينَ بِالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَقَدْ كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.

وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِنَا حِينَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَاعِيًا رَبَّهُ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ: رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ، يَأْمَنُ كُلُّ مَنْ فِيهَا، وَأَبْعِدْنِي وَأَبْعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.

{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أَيْ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.

فَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

قَالَ إِبْرَاهِيمُ النُّخَعِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!)).

عَلِّمُوا أَبنَاءَكُم!

عَلِّمُوا ذَوِيكُم!

عَلِّمُوا أَهلِيكُم!

عَلِّمُوا الدُّنيَا كُلَّهَا؛ أُصُولَ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَة!

عَلِّمُوهُم كَيفَ يَأخُذُونَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمِنهَاجِ النُّبُوَّة, بِفَهمِ الصَّحَابَةِ وَمَن تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ!

وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالمِينَ فِي دِينِكُم, وَاحذَرُوا أَنْ تُضَيِّعُوهُ؛ فَإِنَّ الفُرصَةَ لَا تَسْنَحُ كُلَّ حِين!!

((تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ))

لَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَلِّمُونَ الْأَطْفَالَ فِقْهَ الْعِبَادَاتِ، وَيُعَوِّدُونَهُمْ عَلَى أَدَائِهَا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

فَكَانَ صِيَامُهُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَانْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ-، قَالَ ﷺ: «أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ».

وَفِي رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- : «فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ الْمَنْفُوشِ-، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا سَأَلُونَا -تَعْنِي الصِّبْيَانَ- الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ، حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُم».

وَهَذَا كُلُّهُ لِتَعْظِيمِ صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَظَّمِ.

وَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ صَارَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مُسْتَحَبًّا، غَيْرَ وَاجِبٍ.

فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الرُّبَيِّعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ)).

* وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ نُعَلِّمَهَا أَوْلَادَنَا، وَنَأْمُرَهُمْ بِهَا: الصَّلَاةُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

رَبِّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِأَرْكَانِهَا، وَيُحَافِظُ عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهَا.

رَبَّنَا وَاسْتَجِبْ دُعَائِي بِفَضْلِكَ وَكَرَمِكَ، وَاجْعَلْهُ مَقْبُولًا عِنْدَكَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وَأْمُرْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ حَامِلٍ لِرِسَالَتِهِ مِنْ أُمَّتِكَ أَهْلَكَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَاصْبِرْ صَبْرًا كَثِيرًا عَلَى أَدَائِهَا، وَعَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الصَّلَوَاتِ النَّوَافِلِ، وَلَا سِيَّمَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.

لَا نُكَلِّفُكَ أَنْ تَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِنًا، وَلَا أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ، بَلْ نَحْنُ نُهَيِّئُ لَكَ رِزْقَكَ الَّذِي يَكْفِيكَ وَيَكْفِي أُسْرَتَكَ؛ لِتَتَفَرَّغَ لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِ رِسَالَةِ رَبِّكَ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَهْلِ التَّقْوَى.

* اتَّقُوا اللهَ فِي أَبْنَائِكُمْ وَعَلِّمُوهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ ﷺ، وَمُرُوهُمْ بِهَا؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ, وَاضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْرٍ, وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ)) .

مُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا -اصْطَبِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، لَا عَلَى الْأَهْلِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَهَذَا أَمْرُ اللهِ-.

فَعَلَى مَنْ كَانَ قَائِمًا عَلَى أَهْلِهِ بِالرِّعَايَةِ بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَأَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي صِيَامِهِمْ، وَأَنْ يُرَاعِيَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهَا فُرْقَانًا بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).

وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ هَلْ يَكْفُرُ كُفْرًا أَكْبَرَ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ أَوْ هُوَ كُفرٌ أَصْغَرُ لَا يُخْرِجُ مِنْهَا -وَإِنْ نَاقَضَ كَمَالَ التَّوْحِيدِ-؟

عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَقْبَلُ مُسْلِمٌ -يَخْشَى عَلَى مُسْتَقْبَلِهِ وَآخِرَتِهِ- أَنْ يَتَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ: هَلْ هُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ أَوْ كَافِرٌ دُونَ ذَلِكَ؟!! وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَرْكِ الصَّلَاةِ.

وَكَانَ سَلَفُكُمُ الصَّالِحُونَ يَجْتَهِدُونَ السِّنِينَ الطِّوَالَ بِأَنْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، لَا تَفُوتُ الْوَاحِدَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ سَبْعُونَ عَامًا لَمْ تَفُتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ يُبَادِرُ إِلَى الصَّلَاةِ وَيُلَبِّي أَمْرَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حُبِّ تَعَلُّمِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّة))

إِنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَبْنَاءِ:

* تَعْلِيمَهُمُ الْفُرُوضَ الْعَيْنِيَّةَ.

* تَأْدِيبَهُمْ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَعْرِيفِهِمْ فَضْلَ الْعِلْمِ وَطَلَبَتِهِ؛ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَعْلِيمِهُمُ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ.

قَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) .

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) .

وَكَانَ الصِّغَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، وَيَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِ الْكِبَارِ بِأَدَبٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا)).

فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا، قَالَ النَّبِيُ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ.

قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا لَمْ أَرَكَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.

الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ سِوَى مَا ذَكَرَ الْإِمَام الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) .

قَوْلُهُ: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا))؛ أَيْ: تُعْطِي ثَمَرَهَا.

قَوْلُهُ: ((لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا))؛ أَيْ: لَا تُسْقِطُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ)): ((أَسْنَانُ)): جَمْعُ سِنٍّ بِمَعْنَى عُمُرٍ؛ يَعْنِي: كِبَارَ الْقَوْمِ وَشُيُوخَهُمْ حَاضِرُونَ، أَفَأَتَكَلَّمُ أَنَا؟!

فَمَا أَعْظَمَ أَدَبَهُ!

وَمَا أَقَلَّ أَدَبَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ!

فِي الْحَدِيثِ: تَوْقِيرُ الْكِبَارِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْكِبَارُ الْمَسْأَلَةَ فَيَنْبَغِي لِلصَّغِيرِ أَنْ يَقُولَهَا.

((حُسْنُ بِنَاءِ شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَجَسَدِهِ))

إِنَّ التَّحْسِينِيَّاتِ هِيَ: مَا يَتِمُّ بِهَا اكْتِمَالُ وَتَجْمِيلُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَسُلُوكِيَّاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَمِنْهَا: حَقُّ الْأَطْفَالِ فِي حُسْنِ بِنَاءِ شَخْصِيَّاتِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمُ الرِّمَايَةَ وَالسِّبَاحَةَ وَرُكُوبَ الْخَيْلِ؛ ((فَهَذَا نَبِيُّنَا ﷺ يَمُرُّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ- يَتَسَابَقُونَ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ وَالنَّبْلِ-، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ)).

قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟)).

قَالُوا: ((كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنَ ذَلِكَ: الْحُنُوُّ عَلَى الْأَطْفَالِ وَمُلَاطَفَتُهُمْ وَمُدَاعَبَتُهُمْ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ رَحِيمًا شَفِيقًا بِالْأَطْفَالِ؛ وَمِنْ تَوَاضُعِهِ ﷺ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ؛ أَنَّهُ كَانَ يُضَاحِكُهُمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ.

فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ.

ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِي الْحَدِيثِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!-؛ لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ-.

* وَمِنَ الرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ: تَقْبِيلُهُمْ، وَمُدَاعَبَتُهُمْ؛ فَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«أَوَأَمْلِكُ لَكَ»: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجْعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِكَ، وَاللَّهُ نَزَعَهَا مِنْكَ، هَذَا عَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ»، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْكَسْرِ، فَمَعْنَاهُ: إِنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَضَعَهَا فِيهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَالْحَسَنُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«الْعَاتِقُ»: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ، فَحَمَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَسَنَ عَلَى عَاتِقِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: مُلَاطَفَةُ الصِّبْيَانِ وَالرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرْحَمُ الْخَلْقَ؛ لِأَنَّهُ مَرْحُومٌ يَرْحَمُهُ اللهُ «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَهَشُّ وَيَبَشُّ لِلصِّبْيَانِ، وَيُقَرِّبُهُمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ يُضَافُ إِلَى أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى اتِّسَاعِ أُفُقِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَمَا مَنَحَهُ اللهُ مِنَ الرَّحْمَةِ بِالْخَلْقِ، لَاسِيَّمَا الضَّعِيفُ مِنْهُمْ، وَهُوَ ﷺ أُسْوَةُ أَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

أَلَا وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْلِمُ أَدَبَ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَالرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الْغُلَامِ، فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَحَمَلَهُ، وَزَوَّدَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُسْتَجَابَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ».

وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَحَبَّهُ رَسُولُهُ ﷺ فَقَدْ سَعِدَ، وَأَحْيَاهُ اللهُ حَيَاةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً.

فَيَجِبُ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ بِالْأَوْلَادِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَى مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَمْنَحُهُمُ الْأَدَبَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّغِيرُ مِنْ خُلُقِ الْكَبِيرِ.

وَهَذَا مَنْهَجُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، أَيْ أَنَّهُمْ أَهْلُ رِفْقٍ وَرَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ وَتَرْبِيَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا، لَاسِيَّمَا الضَّعِيفُ كَالصِّغَارِ وَنَحْوِهِمْ.

إِنَّ تَقْبِيلَ الْوَلَدِ مِنْ أَهْلِهِ -مِنَ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ- إِنَّمَا يَكُونُ لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، لَا لِلَّذَّةِ وَلَا لِلشَّهْوَةِ.

وَمَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لَا يُثَابُ بِالرَّحْمَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

إِنَّ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ: الرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ يَعْمَلُ بِهِ، فَالْخَيْرُ عِنْدَهُ أَكْثَرُ.

فَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ: وُجُودُ الرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ: الرِّفْقُ بِالصِّبْيَانِ، وَالْعَطْفُ عَلَيْهِمْ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْبِيلُهُمْ؛ لِيَعْرِفَ الِابْنُ مَدَى مَحَبَّةِ وَالِدِهِ لَهُ، وَيَكُونَ أَلْصَقَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.

وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي مَنَحَهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلَّذِي قَالَ: إِنَّ لَهُ عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلَ أَحَدًا مِنْهُمْ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»، يَعْنِي أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْحَمَ غَيْرَهُ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ.

وَأَوْلَى النَّاسِ بِالرَّحْمَةِ: الضَّعِيفُ، وَالصِّبْيَانُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَمَنْ أَلْصَقُ النَّاسِ بِالْآخَرِينَ، كَآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ حَتَّى يَحْصُلَ التَّمَاسُكُ فِي الْأُسْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالِاحْتِرَامُ وَالْبِرُّ بِسَبَبِ مَا يُقَدّمُهُ الْأَبَوَانِ لِأَبْنَائِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.

وَالْحَذَرُ مِنْ إِيثَارِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ مِمَّا لَا يُجِيزُهُ الشَّرْعُ، سَوَاءٌ فِي التَّقْبِيلِ وَالتَّحِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُوَاسَاةِ بِالْمَالِ أَوِ التَّعْلِيمِ، يَجِبُ الْعَدْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ».

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَ أَوْلَادَنَا وَأَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  السعي في حاجة الآخرين
  رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَوَاجِبُنَا تِجَاهَ الْأَقْصَى
  القنوط من رحمة الله
  إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَة
  التَّكَافُلُ الْمُجْتَمَعِيُّ وَاجِبُ الْوَقْتِ
  الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ وَمِنَ الْخَلْقِ وَمِنَ النَّفْسِ شِيمَةُ الْكِرَامِ وَفِطْرَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ سَوِيَّةٌ
  قِيمَةُ الِاحْتِرَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان