الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ

الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ

((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((بَدْءُ الْوَحْيِ))

فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى جَبَلِ النُّورِ عَلَى مَبْعَدَةِ مِيلَيْنِ مِنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ، فَيَأْوِي -بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَى غَارِ حِرَاءٍ، يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ.

فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُكْرِمَ رَسُولَهُ ﷺ بِالنُّبُوَّةِ -وَكَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ ﷺ لِلنَّاسِ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا-؛ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِهِ مِنْ قَبْلُ عَهْدٌ.

وَإِذَنْ؛ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ غَرِيبَةٌ كُلَّ الْغَرَابَةِ، جَدِيدَةٌ كُلَّ الْجِدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَشَيْءٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُمَارِسْهُ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ مِنْ قَبْلُ لَفْظَةً وَاحِدَةً، جَاءَهُ وَهُوَ يَتَعَبَّدُ فِي غَارِ حِرَاءٍ، ((فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ - وَالْمَعْلُومُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ-، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي -يَعْنِي: فَضَمَّنِي بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ- حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5])).

الْآنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجِدُ أَنَّ لِسَانَهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالْأَلْفَاظِ مَا لَمْ يَعْهَدْهُ هُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَلَا مِنْ لَفْظِهِ وَلَا مِنْ بَيَانِهِ، فَهَذِهِ ظَاهِرَةٌ غَرِيبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

ثُمَّ هُوَ لَا يَمْلِكُ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَا يَمْلِكُ لَهَا تَفْسِيرًا؛ مَا هَذَا؟!

لَمْ يَرَ نَبِيُّنَا ﷺ جِبْرِيلَ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَحْيًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ الْآنَ؛ وَلِذَلِكَ فَالرَّسُولُ ﷺ يَتَعَامَلُ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَدِيدِ بِمَنْطِقٍ فَرِيدٍ، النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَعْهُودِ لِنَفْسِهِ مِنْ كَلَامِهِ، صَحِيحٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ هُوَ أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ -أَيْ: بِلُغَةِ الْعَرَبِ-، وَصَحِيحٌ أَنَّهُ ﷺ قَبْلَ أَنْ تَبْدَأَ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ مَعَهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ وَلَفْظٍ فَصِيحٍ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي أَتَاهُ الْآنَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ يَخْتَلِفُ عَنْ كَلَامِهِ اخْتِلَافًا جِذْرِيًّا، وَيَخْتَلِفُ عَنِ الْمَأْلُوفِ مِنْ لَفْظِهِ اخْتِلَافًا كُلِّيًّا؛ مَا هَذَا؟!

الرَّسُولُ ﷺ يَجِدُ فَارِقًا لَا يُقَاسُ، وَبُعْدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ إِلَيْهِ طَرفٌ فَيَبْلُغُهُ بَيْنَ كَلَامِهِ هُوَ وَالْمَعْهُودِ مِنْ لَفْظِهِ هُوَ وَمَا يَجْرِي بِهِ لِسَانُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ هَذَا الَّذِي ضَمَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، وَضَمَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ، وَضَمَّهُ فَأَرْسَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا قَالَ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

الرَّسُولُ ﷺ يَفْرِقُ الْآنَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ الْجَدِيدِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مُكَلَّفًا بِأَنْ يَنْطِقَ بِهِ وَأَنْ يُرَدِّدَهُ، وَبَيْنَ كَلَامِهِ هُوَ وَبَيْنَ الْمَعْرُوفِ مِنْ بَيَانِهِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْفَصاحَةِ مَا هُوَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقِمَّةِ الَّتِي لَا تُدَانَى.

وَيَنْزِلُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الطَّاهِرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ إِلَى خَدِيجَةَ، وَيَبُثُّهَا رَسُولُنَا ﷺ فِي نَجْوَاهُ حُزْنَهُ وَخَوْفَهُ وَقَلَقَهُ وَاضْطِرَابَهُ، يَقُولُ لَهَا: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: ((يَا خَدِيجَةُ! مَا لِي؟))، وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وَقَالَ: ((قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)).

فَأمَّا الطَّاهِرَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَإِنَّهَا تَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((وَاللهِ! يَا ابْنَ الْعَمِّ لَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ تُعَدِّدُ مَا تَأْلَفُهُ وَمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ مِنْ خِصَالِهِ، وَمِنْ سَجَايَاهُ، وَمِنْ مَحْمُودِ صِفَاتِهِ، وَمِنَ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ ﷺ مِنَ الْمُسْتَفِيضِ الشَّائِعِ بَيْنَ الْعَرَبِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ وَيُعَامِلُهُ، وَمِمَّنْ يَسْمَعُ عَنْهُ وَلَمْ يَرَهُ ﷺ.

((وَاللهِ! يَا ابْنَ الْعَمِّ لَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ أَبَدًا)).

ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ فِي التَّعَامُلِ مَعَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ غَيْرِ الْمَأْلُوفَةِ لَدَيْهِ وَلَا الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ الَّذِي يَتَنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَذْهَبُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ أَجْلِ هَذَا الشَّأنِ الَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَى الصَّادِقِ الْأَمِينِ ﷺ مِنْ بَعْدِ مَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ عَنْهُ إِلَّا الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِيَ لَا هِيَ وَلَا غَيْرُهَا؛ وَلَكِنَّهَا لَصِيقَةٌ بِهِ، مُلَازِمَةٌ لَهُ، فَشَهَادَتُهَا هِيَ الشَّهَادَةُ، وَلِأَنَّ الْمَرْءَ مَعَ زَوْجِهِ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّفًا، وَلَا يَكُونُ مُفْتَعِلًا لِسَجَايَا وَخِصَالٍ يُمْكِنُ أَنْ تَرُوجَ عَلَى النَّاسِ خَارِجَ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ زَوْجِهِ كَمَا يَكُونُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ طِبَاعِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَشْهَدُ لَهُ الشَّهَادَةَ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا شَهَادَةٌ إِلَّا شَهَادَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.

تَذْهَبُ خَدِيجَةُ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي طَرَأَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ -وَكَانَ رَجُلًا مُتَحَنِّثًا قَدْ قَرَأَ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَرَدَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَنَبَذَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَلَجَأَ إِلَى الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ؛ فَعِنْدَهُ عِلْمٌ بِلَا شَكٍّ عَمَّا كَانَ يَعْتَادُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَا يَتَأَتَّى مِنْ أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ لَا تَخْضَعُ لِقَانُونِ الْحِسِّ، وَلَا تَقَعُ تَحْتَ طَائِلَتِهِ، فَذَهَبَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِلَى ابْنِ عَمِّهَا، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَمَا كَانَ مِنْ وَرَقَةَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ إِلَّا أَنْ قَالَ: ((قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ! إِنَّهُ لَهُوَ النَّامُوسُ -وَالنَّامُوسُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ صَاحِبُ سِرِّ الرَّجُلِ، يَعْنِي: إِنَّهُ لَجِبْرِيلُ صَاحِبُ سِرِّ الْوَحْيِ، الْأَمِينُ الَّذِي يَتَأَتَّى بِالْوَحْيِ لِلْمُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، إِنَّهُ لَلنَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَتَنَزَّلُ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ-)).

أَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَإِنَّهُ مَا زَالَ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ يَعْهَدُهُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الشَّأْنِ الْجَدِيدِ، ثُمَّ يَعُودُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْغَارِ قَلِقًا مُتَحَفِّزًا مُتَوَفِّزًا، يَتَرَقَّبُ وَيَتَرَصَّدُ لِهَذَا الشَّأْنِ الْجَدِيدِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَأْلُوفًا لَدَيْهِ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ الْمَجِيدِ السَّعِيدِ ﷺ، حَتَّى يَأْتِيَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَيَرَاهُ سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ، وَيَقُولُ: ((يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ الْآنَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَأْتِيهِ مِنْ أَمْرِ السَّمَاءِ بِهَذَا الْوَحْيِ الْأَغَرِّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْخَاتَمُ الْمَبْعُوثُ ﷺ لِلنَّاسِ؛ مُطْلَقِ النَّاسِ فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.

((مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ الْمُتَفَرِّدَةُ))

وَإِذَنْ؛ فَمُعْجِزَتُهُ ﷺ كَمَا أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ مُتَفَرِّدٌ فِي بَعْثَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ؛ كَذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ مُتَمَيِّزَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ فِي ذَاتِهَا لِذَاتِهَا -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَمَا أَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِي السَّابِقِينَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ؛ كَانَ -سُبْحَانَهُ- يَجْعَلُ الْمُعْجِزَةَ الَّتِي يَتَحَدَّى بِهَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ قَوْمَهُ -يَتَحَدَّى بِهَا قَوْمَهُ- تَكُونُ مِنْ فِعْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِلَّا مُحَمَّدًا ﷺ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَأْتِي بِمُعْجِزَةٍ هِيَ مِنْ فِعْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِعْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يُمْكِنُ إِذَا مَا وَقَعَ أَنْ يَنْقَضِيَ، وَيَظَلُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَقْتَمَا يَشَاءُ كَيْفَمَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَمَا شَقَّ الْبَحْرَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَتْ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً وَآيَةً بَاهِرَةً؛ وَلَكِنَّ الْبَحْرَ لَيْسَ مُنْشَقًّا إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَإِنَّمَا عَادَ الْبَحْرُ فَالْتَئَمَتْ أَمْوَاهُهُ، وَعَادَتْ إِلَى طَبِيعَتِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ عَلَيْهَا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَمَا جَعَلَ قُوَّةَ الْإِحْرَاقِ فِي النَّارِ غَيْرَ فَاعِلَةٍ شَيْئًا مِن أَذًى بِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ كَانَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً، ثُمَّ عَادَتِ النَّارُ لِطَبِيعَتِهَا مُحْرِقَةً مُتَلَظِّيَةً بِلَهَبٍ وَلَظًى إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ فِعْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَكَلامُ اللهِ، وكَلَامُ اللهِ صِفَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ فَمُعْجِزَةُ الرَّسُولِ ﷺ الْكُبْرَى -وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ- مُعْجِزَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ فِي ذَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6].

فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَلَامُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَظَلُّ بَاقِيًا بِإِبْقَاءِ الْفَاعِلِ لَهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَمْحُوَهُ مَحَاهُ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ -سُبْحَانَهُ-، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ الْمَوْصُوفِ بِهَا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْبَاقِي الْأَوَّلُ الَّذِي لَا بِدَايَةَ لَهُ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَالْبَاطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ -سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ-، وَالْقُرْآنُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

((الْقُرْآنُ مُعْجِزَةٌ يُتَحَدَّى بِهَا))

النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ آيَاتٍ تَتْبَعُهَا آيَاتٌ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَالرَّسُولُ ﷺ يَتَحَدَّى الْقَوْمَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا فَبِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ قُرْآنٌ مُفْتَرًى، فَتَهَكَّمَ بِهِمُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، إِذَنْ؛ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ، فَلْتَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الِافْتِرَاءُ، وَلَا نُطَالِبُكُمْ بِشَيْءٍ أَصِيلٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ يَعْجِزُونَ -أَيْضًا- عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ.

وَإِذَنْ؛ فَلْيَتَرَقَّى بِهِمُ التَّحَدِّي شَيْئًا مِنْ بَعْدِ شَيْءٍ، فَلْتَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ فِيهِ، فَإِذَا مَا عَجَزُوا مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي وَالْمُقْتَضِي، وَمَعَ وُجُودِ الْمَقْدِرَةِ الْبَيَانِيَّةِ الَّتِي وَصَلُوا فِيهَا إِلَى الْغَايَةِ وَفَوْقَ الْمُنْتَهَى؛ فَقَدْ ثَبَتَ الْإِعْجَازُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَعْطَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مُعْجِزَةً خَاصَّةً بِهِ لَمْ يُعْطِهَا بِعَيْنِهَا غَيْرَهُ، تَحَدَّى بِهَا قَوْمَهُ، وَكَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ تَقَعُ مُنَاسِبَةً لِحَالِ قَوْمِهِ وَآلِ زَمَانِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- السِّحْرَ وَتَعْظِيمَ السَّحَرَةِ؛ بَعَثَهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ، وَحَيَّرَتْ كُلَّ سَحَّارٍ، فَلَمَّا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ انْقَادُوا لِلْإِسْلَامِ، وَصَارُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْأَبْرَارِ.

وَأَمَّا عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَبُعِثَ فِي زَمَنِ الْأَطِبَّاءِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، فَجَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مِنَ الَّذِي شَرَعَ الشَّرِيعَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ، وَبَعْثِ مَنْ هُوَ فِي قَبْرِهِ رَهِينٌ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، أَوْ عَلَى مُدَاوَاةِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ؟!!

وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ بُعِثَ فِي زَمَانِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَتَجَارِيدِ الشُّعَرَاءِ، فَأَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَاتَّهَمَهُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَتَحَدَّاهُمْ، وَدَعَاهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ وَيَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلْيَسْتَعِينُوا بِمَنْ شَاءُوا، فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}.

ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ  مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ، فَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ -وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ- عَادَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.

وَهَكَذَا وَقَعَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِنَظِيرِهِ وَلَا نَظِيرِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ أَبَدًا؛ فَإِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ فَأَنَّى يُشْبِهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!

وَقَدِ انْطَوَى كِتَابُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مُعْجِزٌ فِي بِنَائِهِ التَّعْبِيرِيِّ وَتَنْسِيقِهِ الْفَنِّيِّ بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى خَصَائِصَ وَاحِدَةٍ فِي مُسْتَوًى وَاحِدٍ، لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ، وَلَا تَتَخَلَّفُ خَصَائِصُهُ، مُعْجِزٌ فِي بِنَائِهِ الْفِكْرِيِّ، وَتَنَاسُقِ أَجْزَائِهِ وَتَكَامُلِهَا، فَلَا فَلْتَةَ فِيهِ وَلَا مُصَادَفَةَ.

كُلُّ تَوْجِيهَاتِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ تَلْتَقِي، وَتَتَنَاسَبُ وَتَتَكَامَلُ، وَتُحِيطُ بِالْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَسْتَوْعِبُهَا، وَتُلَبِّيهَا وَتَدْفَعُهَا دُونَ أَنْ تَتَعَارَضَ جُزْئِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْمِنْهَاجِ الشَّامِلِ الضَّخْمِ مَعَ جُزْئِيَّةٍ أُخْرَى، وَدُونَ أَنْ تَصْطَدِمَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِالْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، أَوْ تُقَصِّرَ عَنْ تَلْبِيَتِهَا، وَكُلُّهَا مَشْدُودَةٌ إِلَى مِحْوَرٍ وَإِلَى عُرْوَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اتِّسَاقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْطِنَ إِلَيْهِ خِبْرَةُ الْإِنْسَانِ الْمَحْدُودَةُ.

مُعْجِزٌ فِي يُسْرِ مَدَاخِلِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ، وَلَمْسِ مَفَاتِيحِهَا، وَفَتْحِ مَغَالِيقِهَا، وَاسْتِجَاشَةِ مَوَاضِعِ التَّأْثِيرِ وَالِاسْتِجَابَةِ فِيهَا.

((بَعْضُ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ))

الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْخَالِدَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِكِتَابٍ خَالِدٍ، وَمُعْجِزَةٍ بَيَانِيَّةٍ بَاقِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ فَصَاحَةٍ وَأَدَبٍ وَبَلَاغَةٍ، فَخَصَّهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَةٍ أَخْرَسَتْ أَلْسِنَةَ الْخُطَبَاءِ وَالْفُصَحَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، وَعَجَزُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.

كَمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَالْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الطَّاهِرَةِ.

لَقَدْ أَيَّدَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَسُولَهُ ﷺ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَقْوَى الْأَدِلَّةِ وَأَبْقَاهَا: الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ.

وَهُوَ مُعْجِزَةٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَهَذَانِ وَجْهَانِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ:

الْأَوَّلُ: بَلَاغَتُهُ وَفَصَاحَتُهُ.

وَالثَّانِي: مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَآدَابٍ.

أَمَّا بَلَاغَتُهُ وَبَيَانُهُ الْمُعْجِزُ؛ فَقَدْ تَحَدَّى الْقُرْآنُ أَئِمَّةَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ، تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فَمَا قَدَرُوا، وَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِهِ فَمَا اسْتَطَاعُوا، لَقَدْ عَجَزُوا مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ مَا فِي طَاقَاتِهِمْ، وَهَذَا الْعَجْزُ أَمَامَ هَذَا التَّحَدِّي هُوَ أَثَرُ تِلْكَ الْبَلَاغَةِ الْفَائِقَةِ وَالْبَيَانِ الْمُعْجِزِ الَّذِي يُمَيِّزُ كَلَامَ الْخَالِقِ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ.

وَأَمَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ، وَشَرَائِعَ وَآدَابٍ؛ فَهِيَ غَايَةُ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْحُكَمَاءُ وَالْمُصْلِحُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمُشَرِّعُونَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ لِإِصْلَاحِ الْحَيَاةِ وَإِسْعَادِ النَّاسِ مَا اسْتَطَاعُوا.

وَخُذْ مَثَلًا وَاحِدًا: لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنُ أُصُولَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فِي سُورَةٍ قَصِيرَةٍ، لَوِ اجْتَمَعَ عُلَمَاءُ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ سِوَاهَا تُحَقِّقُ الْخَيْرَ وَالنَّجَاحَ لِلْبَشَرِيَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَا اسْتَطَاعُوا.

قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْعَصْرِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].

أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ: الْإِيمَانُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ.

لَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ مِنْ عُبَّادِ الصَّنَمِ وَرُعَاةِ الْغَنَمِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، لَقَدْ أَثَّرَ الْقُرْآنُ فِي إِحْيَاءِ الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَالْأُمَمِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.

((عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِعِمَارَةِ الْكَوْنِ))

لَقَدْ عُنِي الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِعِمَارَةِ الْكَوْنِ عِنَايَةً كَبِيرَةً؛ فَقَدْ خَلَقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْإِنْسَانَ، وَسَخَّرَ لَهُ الْكَوْنَ وَمَا فِيهِ؛ لِيُصْلِحَهُ وَيُعَمِّرَهُ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا} [البقرة: 29].

خَلَقَهَا لَنَا عَلَى نَحْوٍ يَتَوَافَقُ مَعَ طَبِيعَتِنَا وَتَكْوِينِنَا، وَيُحَقِّقُ لَنَا الصَّلَاحَ، وَهَذَا مَا سَمَّاهُ الْقُرْآنُ بِالتَّسْخِيرِ.

وَهُوَ لَا يُخْبِرُنَا بِذَلِكَ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ، وَإِنَّمَا يُوقِفُنَا عَلَى هَذَا التَّسْخِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ فِي الْكَوْنِ؛ {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20].

وَالنُّجُومُ خُلِقَتْ لِنَهْتَدِيَ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97].

وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّحَابِ، وَالسُّفُنُ السَّابِحَةُ فِي الْبِحَارِ، وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَتَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لَنَا وَلِخَيْرِنَا وَلِصَلَاحِنَا؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 32-35].

عَرَّفَنَا الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللهَ خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ وَسَخَّرَهُ لَنَا، فَجَعَلَهُ مُتَوَافِقًا مَعَ جِبِلَّتِنَا، وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا تَصْلُحُ بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ.

وَالْقُرْآنُ يَتَّخِذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْبَيَانِ سَبِيلًا لِيَشْكُرَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ؛ إِذِ الْإِنْسَانُ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ؛ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}؟! [الرحمن: 60].

وَلِذَلِكَ فَقَدْ أَفَاضَ الْقُرْآنُ فِي ذِكْرِ النِّعَمِ الَّتِي حَبَاهَا اللهُ عِبَادَهُ فِي ذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ؛ {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].

وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا مَبْثُوثَةً فِي الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِم؛ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عليه} [الزخرف: 10-13].

وَخَلَقَ لَنَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى نَحْوٍ يُحَقِّقُ النَّفْعَ وَالصَّلَاحَ؛ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْس ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5].

وَالْأَنْعَامُ مِنَ الْجِمَالِ وَالْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، خَلَقَهَا لَنَا عَلَى نَحْوٍ يُفِيدُنَا، وَيَتَنَاسَبُ مَعَ طَبَائِعِنَا وَتَكْوِينِنَا؛ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5-8].

وَالْبَحْرُ مَخْلُوقٌ لَنَا -أَيْضًا-، وَفِي خَلْقِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَا يُحَقِّقُ لَنَا الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ؛ {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تشْكُرُونَ} [النحل: 14].

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُهُ مُفْعَمًا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عِمَارَةِ الْكَوْنِ، وَإِصْلَاحِهِ وَتَنْمِيَتِهِ، وَالنَّهْيِ الشَّدِيدِ عَنْ إِفْسَادِهِ وَتَخْرِيبِهِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

(({هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ.

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: ((وَمَعْنَى: {اسْتَعْمَرَكُمْ} أَعْمَرَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْمَرَ فُلَانٌ فُلَانًا دَارَهُ; فَهِيَ لَهُ عُمْرَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: ((أَسْكَنَكُمْ فِيهَا)).

قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: ((أَمَرَكُمْ بِعِمَارَةِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا مِنْ بِنَاءِ مَسَاكِنَ، وَغَرْسِ أَشْجَارٍ))، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلْهَمَكُمْ عِمَارَتَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا)).

 

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ((قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى الْوُجُوبِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: خَلَقَكُمْ لِعِمَارَتِهَا)) )).

وَمِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِعِمَارَةِ الْكَوْنِ: نَهْيُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَنِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ فَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِبَقَاءِ الصَّلَاحِ فِيهَا، وَأَنْ نَمْنَعَ الْفَسَادَ عَنْهَا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَوِّ بِالْأَوْبِئَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَحْيَاءِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَفَاهِيمِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُسَدَّدَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ؛ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، فَنَهَى -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ -عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ-)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: ((قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِه، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالشِّرْكِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى-.

فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرَهُ، وَمُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلَا لِأَهْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ، وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِهِ، لَيْسَ إِلَّا، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَخِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؛ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ، وَعِبَادَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ، وَقَحْطٍ، وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].

وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].

(({سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أَيْ: يَجْتَهِدُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَوَاشِي تَتْلَفُ، وَتَنْقُصُ، وَتَقِلُّ بَرَكَتُهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ فِي الْمَعَاصِي، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ فَهُوَ يُبْغِضُ الْعَبْدَ الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ غَايَةَ الْبُغْضِ؛ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا حَسَنًا)).

{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: هُوَ أَعْوَجُ الْمَقَالِ، سَيِّئُ الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ، كَلَامُهُ كَذِبٌ، وَاعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ، وَأَفْعَالُهُ قَبِيحَةٌ.

فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ -وَهُوَ: مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ-، وَالنَّسْلِ -وَهُوَ : نِتَاجُ الْحَيَوَانَاتِ- اللَّذَيْنَ لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا .

قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؛ مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ، فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ)).

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.

 

((مَنْهَجُ الْقُرْآنِ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ))

إِنَّ مَنْهَجَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ مَنْهَجٌ شَامِلٌ لِكُلِّ صُوَرِ التَّنْمِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْإِعْمَارِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَمْرُهُ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمَشْيِ فِي مَنَاكِبِهَا، وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهَا وَثَرْوَاتِهَا وَمَا أَوْدَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا مِنْ خَيْرَاتٍ وَأَقْوَاتٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَأَمَرَ اللهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَطَالِبِ دُنْيَاهُ بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، أَوْ مَطَالِبِ آخِرَتِهِ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].

فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِي وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجَعْلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي خَلْقِ اللهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَتَسْخِيرِهَا لِلْإِنْسَانِ؛ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الصِّنَاعَاتِ الْحَدِيثَةِ قَامَتْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ وَالتَّذْلِيلِ مِمَّا أَسْهَمَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

اللهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.

اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَابِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.

كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛  فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.

وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ طَلَبًا لِعِمَارَتِهَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].

فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

((سُبُلُ إِعْمَارِ الْكَوْنِ فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ تَأْخُذُ صُوَرًا شَتَّى؛ فَهِيَ تَشْمَلُ -وَهَذَا رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ فِي عِمَارَتِهَا- دَعْوَةَ النَّاسِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَالزِّرَاعَةَ، وَالصِّنَاعَةَ، وَاسْتِخْرَاجَ مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ كُنُوزٍ وَثَرْوَاتٍ، كَذَلِكَ تَشْمَلُ إِعْمَالَ الْعَقْلِ وَفْقَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ مَا يُفِيدُ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةَ، فَيُحَاوِلُ الْمُسْلِمُ -بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ- أَنْ يُحَوِّلَ الصَّحْرَاءَ الْقَاحِلَةَ إِلَى أَرْضٍ خَضْرَاءَ مُمْتَلِئَةٍ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي إِطَارٍ مِنَ التَّوَاضُعِ للهِ -تَعَالَى-، وَعَدَمِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ بِهَذَا الْعَقْلِ الَّذِي قَدْ يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى الدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

(({حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} أَيْ: تَزَخْرَفَتْ فِي مَنْظَرِهَا، وَاكْتَسَتْ فِي زِينَتِهَا، فَصَارَتْ بَهْجَةً لِلنَّاظِرِينَ، وَنُزْهَةً لِلْمُتَفَرِّجِينَ، وَآيَةً لِلْمُتَبَصِّرِينَ، فَصِرْتَ تَرَى لَهَا مَنْظَرًا عَجِيبًا مَا بَيْنَ أَخْضَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ وَغَيْرِهِ.

{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أَيْ: حَصَلَ مَعَهُمْ طَمَعٌ، بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَسْتَمِرُّ وَيَدُومُ لِوُقُوفِ إِرَادَتِهِمْ عِنْدَهُ، وَانْتِهَاءِ مَطَالِبِهِمْ فِيهِ.

فَبَيْنَمَا هُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أَيْ: كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ فَهَذِهِ حَالَةُ الدُّنْيَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أَيْ: نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا بِتَقْرِيبِ الْمَعَانِي إِلَى الْأَذْهَانِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ: يُعْمِلُونَ أَفْكَارَهُمْ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ.

وَأَمَّا الْغَافِلُ الْمُعْرِضُ فَهَذَا لَا تَنْفَعُهُ الْآيَاتُ، وَلَا يُزِيلُ عَنْهُ الشَّكَّ الْبَيَانُ)).

((أَعْظَمُ سُبُلِ إِعْمَارِ الْأَرْضِ: الْإِسْلَامُ))

عِبَادَ اللهِ! بِالدِّينِ يَتِمُّ النَّشَاطُ الْحَيَوِيُّ، يَسْتَمِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ مَادَّةَ الدِّينِ وَمَادَّةَ الْحَيَاةِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ الْمُنْكِرُونَ وَالْمَغْرُورُونَ, وَالْجَاحِدُونَ الْمَأْجُورُونَ أَنَّ الدِّينَ مُخَدِّرٌ مُؤَخِّرٌ لِمَوَادِّ الْحَيَاةِ، وَلَقَدْ -وَاللهِ- كَذَبُوا أَشْنَعَ الْكَذِبِ وَأَوْقَحَهُ، فَأَيُّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ الْحَيَاةِ أَخَّرَهَا أَوْ وَقَفَهَا؟

أَوَلَمْ يَبْلُغْ فِيهَا نِهَايَةَ مَا يُدْرِكُهُ الْبَشَرُ؟

فَلْيَأْتُوا بِمِثَالٍ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينِ لَا بِالتَّمْثِيلِ بِأَحْوَالِ مَنْ يَنْتَسِبُ لِلدِّينِ وَهُوَ مِنْهُ خَلِيٌّ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ.

فَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ بُعِثَ إِلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ؛ فَكَذَلِكَ قَدْ تَكَفَّلَ دِينُهُ بِإِصْلَاحِ الْخَلْقِ إِصْلَاحًا رُوحِيًّا وَمَادِّيًّا، وَاسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ، وَبِهِ تَمَّ الْكَمَالُ وَحَصَلَ، فَكَمَا تَوَلَّى تَهْذِيبَ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ؛ فَقَدْ تَوَلَّى تَهْذِيبَ الْحَيَاةِ, وَضَمِنَ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, لَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ, أَوْ وُجُوهٍ مَحْصُورَةٍ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ، وَمِنْ شُمُولِ رَحْمَةِ اللهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا؛ أَنَّ اللهَ قَدْ يَجْمَعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِهِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ وَبَيْنَ أُمُورِ الْمَعَاشِ وَالنُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ آيَاتٍ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].

أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِذِكْرِ اللهِ وَبِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ التَّنَازُعِ, وَبِالْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ

فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ؛ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ بَعْدَهَا بِالِانْتِشَارِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ.

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون: 51])). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ, وَشَرَائِعُ الدِّينِ وَمُعَامَلَاتُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَهِيَ أَحْسَنُ الشَّرَائِعِ, وَأَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي بِهَا تَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ وَتَزْكُو الْخِصَالُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ النَّفْسِ وَالْعَوَائِلِ وَالْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ.

كُلُّ عَمَلٍ يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ عِبَادَةٌ، فَالْكَسْبُ لِلْعِيَالِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَذَلِكَ الِاكْتِسَابُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ بِالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ, وَالنَّفَقَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ كُلُّهُ عِبَادَةٌ.

وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى قِيَامِ الدِّينِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ لِلسِّيَاسَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ، وَالتَّعَقُّلُ وَالتَّفَكُّرُ فِي كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلْعِبَادِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ.

وَلَمْ يُرَغِّبِ اللهُ فِي أَمْرِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَّا لِتَحْقِيقِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ النَّافِعَةِ، وَشَوَاهِدُ هَذِهِ الْجُمَلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّطَوَرُّاتِ الَّتِي لَا تَزَالُ تَتَجَدَّدُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمُجْتَمَعِ؛ قَدْ وَضَعَ لَهَا هَذَا الدِّينُ الْكَامِلُ قَوَاعِدَ وَأُصُولًا يَتَمَكَّنُ الْعَارِفُ بِالدِّينِ وَبِالْوَاقِعِ مِنْ تَطْبِيقِهَا مَهْمَا كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ وَتَغَيَّرَتْ بِهَا الْأَحْوَالُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ هَذَا الدِّينِ, وَمِنَ الْبَرَاهِينِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ الْبَارِي -جَلَّ وَعَلَا- بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ, وَشُمُولِ رَحْمَتِهِ, وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ.

أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النُّظُمِ وَالْأُسُسِ -وَإِنْ عَظُمَتْ وَاسْتُحْسِنَتْ- فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى زَمَنًا طَوِيلًا عَلَى كَثْرَةِ التَّغَيُّرَاتِ، وَاخْتِلَافِ التَّطَوُّرَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ الْمَخْلُوقِينَ النَّاقِصِينَ فِي عِلْمِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِمْ، لَا مِنْ صُنْعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْمَدَنِيَّاتِ الضَّخْمَةَ الزَّاخِرَةَ بِعُلُومِ الْمَادَّةِ وَأَعْمَالِهَا, لَوْ جَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رُوحِ الدِّينِ، وَحَكَّمُوا تَعَالِيمَهُ الرَّاقِيَةَ الْوَاقِيَةَ الْحَافِظَةَ, أَرَأَيْتَ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَمَا تَكُونُ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةُ الزَّاهِرَةُ الَّتِي يَصْبُو إِلَيْهَا أُولُو الْأَلْبَابِ وَتَتِمُّ بِهَا الْحَيَاةُ الْهَنِيئَةُ الطَّيِّبَةُ السَّعِيدَةُ، وَتَحْصُلُ فِيهَا الْوِقَايَةُ مِنَ النَّكْبَاتِ الْمُزْعِجَةِ، وَالْقَلَاقِلِ الْمُفْظِعَةِ؟

فَحِينَ فَقَدَتِ الدِّينَ، وَاعْتَمَدَتْ عَلَى مَادِّيَّتِهَا الْجَوْفَاءِ الْخَرْقَاءِ؛ جَعَلُوا يَتَخَبَّطُونَ, وَيَقْتُلُونَ النَّاسَ, وَيُدَمِّرُونَ الْمَوْجُودَاتِ, وَيَعِيثُونَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا, وَيَطْلُبُونَ حَيَاةً سَعِيدَةً، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا إِلَى حَيَاةِ الْأَشْقِيَاءِ، الْحَيَاةِ الْمُهَدَّدَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْحُرُوبِ، وَالْكُرُوبِ وَأَصْنَافِهَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!!)) .

((قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَهَذَا يَشْمَلُ الْكَمَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, قَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]؛ أَيْ: أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَصْلَحُ؛ مِنَ الْعَقَائِدِ, وَالْأَخْلَاقِ, وَالْأَعْمَالِ, وَالْعِبَادَاتِ, وَالْمُعَامَلَاتِ, وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعُمُومِيَّةِ.

وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَكْمَلُهَا, وَأَصْلَحُهَا لِلْعِبَادِ، وَأَسْلَمُهَا مِنَ الْخَلَلِ وَالتَّنَاقُضِ، وَمِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.

أَمَّا عَقَائِدُ هَذَا الدِّينِ وَأَخْلَاقُهُ وَآدَابُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ؛ فَقَدْ بَلَغَتْ مِنَ الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ, وَالنَّفْعِ وَالصَّلَاحِ -الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الصَّلَاحِ بِغَيْرِهِ- مَبْلَغًا لَا يَتَمَكَّنُ عَاقِلٌ مِنَ الرَّيْبِ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ قَدَحَ بِعَقْلِهِ, وَبَيَّنَ سَفَهَهُ، وَمُكَابَرَتَهُ لِلضَّرُورَاتِ.

وَكَذَلِكَ أَحْكَامُهُ السِّيَاسِيَّةُ وَنُظُمُهُ الْحُكْمِيَّةُ وَالْمالِيَّةُ وَالِاقْتِصَادِيَّةُ مَعَ أَهْلِهِ وَمَعَ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهَا نِهَايَةُ الْكَمَالِ وَالْإِحْكَامِ, وَالسَّيْرُ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، بِحَيْثُ يَجْزِمُ كُلُّ عَارِفٍ مُنْصِفٍ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِ مِنَ الشُّرُورِ الْوَاقِعَةِ وَالَّتِي سَتَقَعُ إِلَّا بِاللُّجُوءِ إِلَيْهِ, وَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ الظَّلِيلِ الْمُحْتَوِي عَلَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ, وَالْخَيْرِ الْمُتَنَوِّعِ لِلْبَشَرِ، الْمَانِعِ مِنَ الشَّرِّ، وَلَيْسَ مُسْتَمَدًّا مِنْ نُظُمِ الْخَلْقِ وَقَوَانِينِهِمُ النَّاقِصَةِ الضَّئِيلَةِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى مُوَافَقَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ هِيَ فِي أَشَدِّ الضَّرُورَاتِ إِلَى الِاسْتِمْدَادِ مِنْهُ؛ فَإِنُّهُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ, الْعَلِيمِ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَمَا يُصْلِحُهَا وَمَا يَنْفَعُهَا، وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يَضُرُّهَا، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ, وَمِنْ نُفُوسِهِمْ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ, وَأَعْلَمُ بِأُمُورِهِمْ.

فَشَرَعَ لَهُمْ شَرْعًا كَامِلًا مُسْتَقِلًّا فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، فَإِذَا عَرَفُوهُ وَفَهِمُوهُ وَطَبَّقُوا أَحْكَامَهُ عَلَى الْوَاقِعِ؛ صَلَحَتْ أُمُورُهْمْ، فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَتَّى أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَانْظُرْ إِلَى أَحْكَامِهِ حُكْمًا حُكْمًا؛ فِي سِيَاسَةِ الْحُكْمِ وَالْمَالِ وَالْحُقُوقِ, وَالدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ، وَجَمِيعِ الرَّوَابِطِ بَيْنَ الْخَلْقِ؛ تَجِدْهَا الْغَايَةَ الَّتِي لَوِ اجْتَمَعَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَقْتَرِحُوا أَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ مِثْلَهَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَحَالَ.

وَبِهَذَا وَشِبْهِهِ نَعْرِفُ غَلَطَ مَنْ يُرِيدُ نَصْرَ الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيبِ نُظُمِهِ إِلَى النُّظُمِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهَا الْحُكُومَاتُ ذَاتُ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْمَوْضُوعَةِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَقَوَّى وَتَقْوَى إِذَا وَافَقَتْهُ فِي بَعْضِ نُظُمِهَا.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهَا، مُسْتَقِلٌّ بِأَحْكَامِهِ لَا يُضْطَّرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَوْ فُرِضَ مَوَافَقَتُهُ لَهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَهَذَا مِنَ الْمُصَادَفَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا فِي حَالِ مُوَافَقَتِهَا أَوْ مُخَالَفَتِهَا.

فَعَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ الدِّينَ وَيُبَيِّنَ أَوْصَافَهُ لِلْعَالَمِينَ أَنْ يَبْحَثَ فِيهِ بَحْثًا مُسْتَقِلًّا, وَأَلَّا يَرْبِطَهُ بِغَيْرِهِ, أَوْ يَعْتَزَّ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي مَعْرِفَتِهِ, وَفِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا، وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَصْرِيِّينَ رُبَّمَا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ, وَلَكِنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مُغْتَرُّونَ بِزَخَارِفِ الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى تَحْكِيمِ الْمَادَّةِ وَفَصْلِهَا عَنِ الدِّينِ، فَعَادَتْ إِلَى ضِدِّ مَقْصُودِهَا؛ فَذَهَبَ الدِّينُ وَلَمْ تَصْلُحْ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَعِيشُوا عِيشَةً هَنِيئَةً, وَلَا أَنْ يَحْيَوْا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَللهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ.

أَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَاوَى بَيْنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَصُّبُ نَسَبٍ، وَلَا عُنْصُرٍ، وَلَا قُطْرٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ جَعَلَ أَقْصَاهُمْ وَأَدْنَاهُمْ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، وَأَمَرَ الْحُكَّامَ بِالْعَدْلِ التَّامِّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ الْمَحْكُومِينَ بِالطَّاعَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا التَّعَاوُنُ وَالتَّكَافُلُ، وَأَمَرَ الْجَمِيعَ بِالشُّورَى الَّتِي تَسْتَبِينُ بِهَا الْأُمُورُ, وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ النَّافِعَةُ فَتُؤْثَرُ، وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ الضَّارَّةُ فَتُتْرَكُ وَتُهْمَلُ)).

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَعَزَّنَا بِهَذَا الدِّينِ, فَمَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

((أَعْظَمُ سُبُلِ إِعْمَارِ الْأَرْضِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))

 

 

إِنَّ أَعْظَمَ سُبُلِ إِعْمَارِ الْأَرْضِ وَصَلَاحِ الْأُمَمِ وَتَقَدُّمِهَا وَازْدِهَارِهَا: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَدَعْوَةُ الْعَالَمِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتَهُ؛ وَضَعَ أَسَاسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِأَسَاسِ بَيْتِهِ، وَلَا بِقَوَاعِدِ بِنَائِهِ؛ فَمَهْمَا شَيَّدَ وَجَمَّلَ، وَحَسَّنَ وَنَمَّقَ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَيَكُونُ خَطِرًا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي لَمْ يُشَيَّدْ عَلَى أَسَاسٍ.

كَذَلِكَ الدِّينُ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَسَاسٍ سَلِيمٍ، وَتَوْحِيدٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتَنْزِيهٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَإِبْعَادٍ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوْطِنِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ يَكُونُ وَاهِيًا سَرْعَانَ مَا يَتَهَاوَى.

لَقَدْ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَكَمَا فِي ((مُسْنَدِ أَحْمَدَ))  مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ يَقُولُ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)).

يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ..

السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ فِي جُمْلَتِهَا تُعَالِجُ قَضِيَّةَ التَّوْحِيدِ، وَلَمَّا تَأَسَّسَ التَّوْحِيدُ، وَقَامَتِ الْعَقِيدَةُ؛ نَزَلَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، نَزَلَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ، وَالْأَمْرُ بِالصِّيَامِ، وَهَذَا إِنَّمَا نَزَلَ عَلَى النَّحْوِ النِّهَائِيِّ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.

فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي مَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ، فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي مَكَّةَ بَعْدَمَا تَأَسَّسَ التَّوْحِيدُ، وَبَعْدَمَا بُنِيَتِ الْعَقِيدَةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ، وَنَزَلَ الصِّيَامُ، وَنَزَلَ الْحَجُّ، وَنَزَلَتْ بَقِيَّةُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.

وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى الْيَمَنِ؛ خَطَّ لَهُ مِنْهَاجَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: عِبَادَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

فَبَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَبْدَأْ فِي الدَّعْوَةِ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ.

ثُمَّ قَالَ: ((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ -أَيْ: شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَوُجِدَ الْأَسَاسُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ- فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ)) . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

فَأَوَّلُ شَيْءٍ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ: هُوَ التَّوْحِيدُ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بَلْ هَذَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللهِ؛ أَنْ يَبْدَأَ بِهَذَا الْأَصْلِ.

فَمِنْ غَيْرِ إِقْرَارٍ بِالتَّوْحِيدِ كَيْفَ يُؤْمَرُ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ؟!!

لَا فَائِدَةَ مِنَ الصَّلَاةِ بِدُونِ تَوْحِيدٍ، لَا فَائِدَةَ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الشِّرْكِ، وَلَا فَائِدَةَ مِنَ الزَّكَاةِ مَعَ الشِّرْكِ، وَلَا فَائِدَةَ مِنَ الصِّيَامِ بِدُونِ تَوْحِيدٍ، وَلَا فَائِدَةَ مِنَ الْحَجِّ مَعَ الْإِشْرَاكِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65-66].

فَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ مَهْمَا عَظُمَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ.

وَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 83-84].

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

وَمَا دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ الْبَدْءِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، فَكُلُّهُمْ بَدَءُوا بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85].

بَلْ إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَجْمَلَ الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، هَذَا هُوَ الْأَسَاسُ، هَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَةُ.

إِنَّهُ لَا يَجْمَعُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَحِّدُ صُفُوفَهُمْ، وَلَا يُعْلِي شَأْنَهُمْ إِلَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.

وَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحُلُّ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا إِذَا اسْتَقَرَّ التَّوْحِيدُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ.

وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ، كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ؛ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَوَهَى قُوَّتَهُمْ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَءُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.

فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأٌسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ؛ عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.

وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى للغرباء)).

كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ؛ كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.

إِنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ مُتَشَتِّتِينَ، عِنْدَهُمْ ثَارَاتٌ وَغَارَاتٌ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ اسْتَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ، تَوَحَّدُوا، وَصَارُوا قُوَّةً هَائِلَةً فِي الْأَرْضِ، سَادَتِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَهُمْ قَبْلَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاسْتَجَابَتِهِمْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَانُوا مَطْمَعًا لِشُعُوبِ الْأَرْضِ، كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَرَبِ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَكُلُّ دَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الْكُفْرِ كَانَ لَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَصِيبٌ.

فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، فَصَارَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيقِ عَلَى: ((الْقَوْلُ الْمُفِيدُ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ)) - السَّبْت 15 مِنَ الْمُحَرَّم 1433هـ / 10-12-2011م.

((مِنْ سُبُلِ إِعْمَارِ الْكَوْنِ: التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ))

مِنَ الْوَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ لِعِمَارَةِ الْكَوْنِ وَتَرْقِيَةِ سُبُلِ الْحَيَاةِ: التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ، دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ؛ بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].

فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيْ: الْإِسْلَامُ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِن: ((شَرْحِ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَنَّ الْعُلُومَ وَالْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ الْعَصْرِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ)) (الْمُحَاضَرَةُ الْأُولَى)، السَّبْتُ 14 مِنْ ذِي الْحِجَّةِ 1434هـ/ 19-10-2013م.

((مِنْ سُبُلِ إِعْمَارِ الْكَوْنِ: الزِّرَاعَةُ))

إِنَّ دَعْوَةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِلَى عِمَارَةِ الْكَوْنِ تَتَطَلَّبُ بَذْلَ الْجُهْدِ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 33-35].

وَحُجَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى؛ هَذِهِ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا بِالْمَطَرِ، وَأَخْرَجْنَا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي أَحْيَيْنَاهَا حَبًّا مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ؛ فَمِنْهُ يَأْكُلُ النَّاسُ.

وَخَلَقْنَا فِي الْأَرْضِ بَسَاتِينَ مِنْ نَخْلٍ مُثْمِرٍ وَغَيْرِ مُثْمِرٍ، وَأَعْنَابٍ، وَأَخْرَجْنَا فِيهَا مُتَدَفِّقًا بِقُوَّةٍ مِنْ بَعْضِ عُيُونِ الْمَاءِ مَا يَرْوِي شَجَرَهَا، وَيُخْرِجُ ثَمَرَهَا؛ لِيَأْكُلُوا مِنْ بَعْضِ ثَمَرِ شَجَرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَسَائِرِ الشَّجَرِ، وَلِيَأْكُلُوا وَلِيَنْتَفِعُوا مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ بِالتَّصْنِيعِ؛ مِنَ الْغَرْسِ، وَالسَّقْيِ، وَالتَّلْقِيحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا يَشْكُرُونَ نِعَمَ اللهِ -تَعَالَى- الْكَثِيرَةَ؟!! إِنَّ عَدَمَ شُكْرِهِمْ رَبَّهُمْ عَلَى فُيُوضَاتِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ لَأَمْرٌ مُسْتَنْكَرٌ جِدًّا؛ يَدْعُو إِلَى اشْمِئْزَازِ ذَوِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ الرَّشِيدَةِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ سِلْسِلَة: ((الْقِرَاءَةُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى مُخْتَصَرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ)) [يس: 32-35].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32].

(({فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أَيْ: أَنْزَلْنَا الْمَطَرَ عَلَى الْأَرْضِ بِكَثْرَةٍ، {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ} لِلنَّبَاتِ {شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أَصْنَافًا مُصَنَّفَةً مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ وَالْأَقْوَاتِ الشَّهِيَّةِ {حَبًّا}: وَهَذَا شَامِلٌ لِسَائِرِ الْحُبُوبِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} وَهُوَ الْقَتُّ، {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا}، وَخَصَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهَا وَمَنَافِعِهَا.

{وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أَيْ: بَسَاتِينَ فِيهَا الْأَشْجَارُ الْكَثِيرَةُ الْمُلْتَفَّةُ، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} الْفَاكِهَةُ: مَا يَتَفَكَّهُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ تِينٍ، وَعِنَبٍ، وَخَوْخٍ، وَرُمَّانٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالْأَبُّ: مَا تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ وَالْأَنْعَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَسَخَّرَهَا لَكُمْ، فَمَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ النِّعَمِ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ شُكْرَ رَبِّهِ، وَبَذْلَ الْجُهْدِ فِي الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِأَخْبَارِهِ)).

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِن: ((تَفْسِيرُ الْعَلَّامَةِ السَّعْدِيِّ)) - السَّبْتُ 6 مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 1431هـ / 20-2-2010م.

وَقَدْ بَيَّنَ نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ عِمَارَةِ الْكَوْنِ بِالزِّرَاعَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ ﷺ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ)).

 فِي هَذَا الْحَدِيثِ: حَثٌّ عَلَى الزَّرْعِ وَعَلَى الْغَرْسِ، وَأَنَّ الزَّرْعَ وَالْغَرْسَ فِيهِ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي الدِّينِ، وَمَصْلَحَةٌ فِي الدُّنْيَا.

أَمَّا مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا: فَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ إِنْتَاجٍ، وَمَصْلَحَةُ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لَيْسَتْ كَمَصْلَحَةِ الدَّرَاهِمِ وَالنُّقُودِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ وَالْغَرْسَ يَنْفَعُ نَفْسَ الزَّارِعِ وَالْغَارِسِ، وَيَنْفَعُ الْبَلَدَ كُلَّهُ، كُلُّ النَّاسِ يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ بِشِرَاءِ الثَّمَرِ، وَشِرَاءِ الْحَبِّ، وَالْأَكْلِ مِنْهُ، وَيَكُونُ فِي هَذَا نُمُوٌّ لِلْمُجْتَمَعِ، وَتَكْثِيرٌ لِخَيْرَاتِهِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تُوضَعُ فِي الصَّنَادِيقِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.

أَمَّا الْمَنَافِعُ الدِّينِيَّةُ: فَإِنَّهُ إِنْ أَكَلَ مِنْهُ طَيْرُ عُصْفُورٍ، أَوْ حَمَامَةٍ، أَوْ دَجَاجَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا وَلَوْ حَبَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ؛ سَوَاءٌ شَاءَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشَأْ؛ حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ زَرَعَ أَوْ حِينَ غَرَسَ لَمْ يَكُنْ بِبَالِهِ هَذَا الْأَمْرُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ كَانَ لَهُ صَدَقَةً.

أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؛ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ سَارِقٌ؛ كَمَا لَوْ جَاءَ شَخْصٌ -مَثَلًا- إِلَى نَخْلٍ وَسَرَقَ مِنْهُ تَمْرًا فَإِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجْرًا، مَعَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهَذَا السَّارِقِ لَشَكَاهُ إِلَى الْمَحْكَمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَكْتُبُ لَهُ بِهَذِهِ السَّرِقَةِ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

كَذَلِكَ -أَيْضًا- إِذَا أَكَلَ مِنْ هَذَا الزَّرْعِ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا كَانَ لِصَاحِبِهِ صَدَقَةً.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى حَثِّ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى الزَّرْعِ وَعَلَى الْغَرْسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ، وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَثْرَةِ طُرُقِ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ أَجْرًا، وَلَهُ فِيهِ الْخَيْرُ؛ سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.

فَذَكَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِيهَا خَيْرٌ؛ سَوَاءٌ نَوَيْتَ أَوْ لَمْ تَنْوِ، مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ خَيْرٌ وَمَعْرُوفٌ؛ نَوَى أَمْ لَمْ يَنْوِ، فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَنَافِعَ إِذَا انْتَفَعَ النَّاسُ بِهَا كَانَتْ خَيْرًا لِصَاحِبِهَا وَأَجْرًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَإِنْ نَوَى زَادَ خَيْرًا عَلَى خَيْرٍ، وَآتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ فَضْلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا)).

((فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَأَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَأَلَّا يَرْغَبَ بِالْأَقَلِّ، بَلْ يَجْتَهِدُ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَمُسَارَعَةٍ إِلَى الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي ثَوَابِهِ وَأَجْرِهِ وَرِفْعَةِ دَرَجَاتِهِ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ؛ وَلِهَذَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأُمَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَسْبَابِ الْخَيْرِ؛ حَتَّى لَا يَضْعُفُوا وَيَكْسَلُوا، وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ ﷺ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَتَأْكُلُ مِنْهُ دَابَّةٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً))، وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: ((فَيُرْزَأُ بِشَيْءٍ، أَوْ يُسْرَقُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)).

فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ وَنِيَّةٌ طَيِّبَةٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ؛ زِرَاعَةٍ، غِرَاسَةٍ، سَقْيِ مَاءٍ، أَيُّ شَيْءٍ يَنْفَعُ النَّاسَ تَكُونُ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ يَرْجُو فِيهَا ثَوَابَ اللهِ؛ كَالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ)).

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ  مِنْ خُطْبَة: ((خُطُورَةُ الِاحْتِكَارِ عَلَى الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ)) - الْجُمُعَةُ 28 مِنْ ذِي الْحِجَّةِ 1437هـ  / 30/09/2016م.

لَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمَ عَلَى الْعَمَلِ، وَحَثَّهُ عَلَى الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَا عَمَلٍ، لَيْسَ ذَا بَطَالَةٍ وَكَسَلٍ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ، يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ ذَا عَمَلٍ، ذَا نَشَاطٍ، ذَا هِمَّةٍ فِي الزِّرَاعَةِ، فِي غَرْسِ الْأَشْجَارِ، فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ؛ مِنْ نِجَارَةٍ، مِنْ حِدَادَةٍ، مِنْ غِرَاسَةٍ، مِنْ كِتَابَةٍ، مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ إِعْمَارِ الْأَرْضِ وَصَلَاحِ الدُّنْيَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ؛ وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ؛ وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ فِي اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مُخْتَصَرٌ مِن: ((شَرْحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) (حَدِيث 479)، ص: 2125 - 2128).

 ((مِنْ سُبُلِ إِعْمَارِ الْكَوْنِ: الصِّنَاعَةُ))

إِنَّ عِمَارَةَ الْكَوْنِ تَتَطَلَّبُ إِتْقَانَ الْعَمَلِ صِنَاعَةً، وَحِرْفَةً، وَمِهْنَةً؛ فَالصِّنَاعَةُ مِنْ أَعْظَمِ وَأَهَمِّ سُبُلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ وَإِعْمَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ عَظِيمَةً وَكُنُوزًا وَخَزَائِنَ قَدْ أَعَدَّهَا اللهُ لَنَا، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً مُمْكِنًا اسْتِخْرَاجُهَا وَتَحْصِيلُهَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ حَثًّا لَنَا عَلَى تَعَلُّمِ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا نُدْرِكُهَا وَنُحَصِّلُهَا وَنُنَمِّيهَا وَنُكَمِّلُهَا، فَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِوُجُودِ الْمَنَافِعِ الْمُتَنَوِّعَةِ لِكُلِّ الْحَاجَاتِ، وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقٍ مِنْ عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ، وَاخْتِبَارَاتٍ وَتَجَارِبَ، وَأَنَّ مَنَافِعَهَا لَا تَزَالُ تُوجَدُ شَيْئًا بَعْد شَيْءٍ، فَكُلُّ مَا تَمَّ وَيَتِمُّ لِلْبَشَرِ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؛ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِكْمَالِ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي تُجْلَبُ بِهَا الْمَصَالِحُ، وَتُدْفَعُ بِهَا الْمَضَارُّ)).

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ خُطْبَة: ((إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ)) - الْجُمُعَةُ 24 مِنْ جُمَادَى الْأُولَى 1442هـ / 8-1-2021م.

لَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى الصِّنَاعَةِ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ عَمَلَ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِالصِّنَاعَةِ؛ فَأَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى صِنَاعَةِ الْحَدِيدِ، وَالصِّنَاعَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].

(({وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ؛ كَالسِّلَاحِ، وَالدُّرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِك.

 

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: وَهُوَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ نَفْعِهِ فِي أَنْوَاعِ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ، وَالْأَوَانِي وَآلَاتِ الْحَرْثِ؛ حَتَّى إِنَّهُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ)).

كَمَا أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى صِنَاعَةِ الْمَلَابِسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْجُلُودِ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

((يُذَكِّرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ نِعَمَهُ، وَيَسْتَدْعِي مِنْهُمْ شُكْرَهَا وَالِاعْتِرَافَ بِهَا، فَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} فِي الدُّورِ وَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، تُكِنُّكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَتَسْتُرُكُمْ أَنْتُمْ وَأَوْلَادَكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ، وَتَتَّخِذُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَالْغُرَفَ، وَالْبُيُوتَ الَّتِي هِيَ لِأَنْوَاعِ مَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَفِيهَا حِفْظٌ لِأَمْوَالِكُمْ وَحُرَمِكُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُشَاهَدَةِ.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ}: إِمَّا مِنَ الْجِلْدِ نَفْسِهِ، أَوْ مِمَّا نَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ صُوفٍ وَشَعْرٍ وَوَبَرٍ {بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} أَيْ: خَفِيفَةُ الْحِمْلِ تَكُونُ لَكُمْ فِي السَّفَرِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي لَا قَصْدَ لَكُمْ فِي اسْتِيطَانِهَا، فَتَقِيكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ، وَتَقِي مَتَاعَكُمْ مِنَ الْمَطَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا؛ أَيِ: الْأَنْعَامِ وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا، وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنَ الْآنِيَةِ وَالْأَوْعِيَةِ وَالْفُرُشِ وَالْأَلْبِسَةِ وَالْأَجِلَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أَيْ: تَتَمَتَّعُونَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَتَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَهَذَا مِمَّا سَخَّرَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِصَنْعَتِهِ وَعَمَلِهِ.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ} أَيْ: مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا صَنْعَةَ لَكُمْ فِيهَا {ظِلَالًا}: وَذَلِكَ كَأَظِلَّةِ الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَنَحْوِهَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أَيْ: مَغَارَاتٍ تُكِنُّكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْأَمْطَارِ وَالْأَعْدَاءِ.

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} أَيْ: أَلْبِسَةً وَثِيَابًا {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الْبَرْدَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُهَا فِي أُصُولِ النِّعَمِ وَآخِرُهَا فِي مُكَمِّلَاتِهَا وَمُتَمِّمَاتِهَا، وَوِقَايَةُ الْبَرْدِ مِنْ أَصُولِ النِّعَمِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِهَا فِي قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}.

{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أَيْ: وَثِيَابًا تَقِيكُمْ وَقْتَ الْبَأْسِ وَالْحَرْبِ مِنَ السِّلَاحِ، وَذَلِكَ كَالدُّرُوعِ وَالزُّرُودِ وَنَحْوِهَا، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} حَيْثُ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، لَعَلَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ وَرَأَيْتُمُوهَا غَامِرَةً لَكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تُسْلِمُونَ لِعَظَمَتِهِ وَتَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَتَصْرِفُونَهَا فِي طَاعَةِ مُولِيهَا وَمُسْدِيهَا، فَكَثْرَةُ النِّعَمِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ مِنَ الْعِبَادِ مَزِيدَ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ بِهَا عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-)) .

وَأَشَارَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى صِنَاعَةِ السُّفُنِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- لِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].

وَاصْنَعِ السَّفِينَةَ بِمَرْأَى مِنَّا مَحْفُوظًا بِكَلَاءَتِنَا وَعِنَايَتِنَا، وَبِوَحْيِنَا فِي خُطَّةِ الْعَمَلِ، وَبِنَاءِ السَّفِينَةِ، وَطَرِيقَةِ التَّنْفِيذِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ سِلْسِلَة: ((الْقِرَاءَةُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى مُخْتَصَرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ))- [هود: 37].

وَأَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى صِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ؛ فَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].

{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} فَكَانَ فِي يَدِهِ كَالْعَجِينِ يَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ.

وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ يَا دَاوُدُ دُرُوعًا وَاسِعَاتٍ سَاتِرَاتٍ!

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ سِلْسِلَة: ((الْقِرَاءَةُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى مُخْتَصَرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ))- [سبأ: 10-11].

((مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ؛ لِيَعْمَلَ الدُّرُوعَ السَّابِغَاتِ، وَعَلَّمَهُ -تَعَالَى- كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ، بِأَنْ يُقَدِّرَهُ فِي السَّرْدِ، أَيْ: يُقَدِّرُهُ حَلَقًا، وَيَصْنَعُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80])).

(({وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}؛ أَيْ: عَلَّمَ اللَّهُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهَا وَعَلِمَهَا وَسَرَتْ صِنَاعَتُهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَأَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَسْرُدُهَا، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا كَبِيرَةٌ؛ {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أَيْ: هِيَ وِقَايَةٌ لَكُمْ وَحِفْظٌ عِنْدَ الْحَرْبِ وَاشْتِدَادِ الْبَأْسِ.

{فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ أَجْرَاهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ دَاوُدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.

يُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لِدَاوُدَ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَإِلَانَتَهَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ -كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ-: إِنَّ اللَّهَ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ يَعْمَلُهُ كَالْعَجِينِ وَالطِّينِ، مِنْ دُونِ إِذَابَةٍ لَهُ عَلَى النَّارِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْلِيمَ اللَّهِ لَهُ عَلَى جَارِي الْعَادَةِ، وَأَنَّ إِلَانَةَ الْحَدِيدِ لَهُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ لِإِذَابَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا، وَلَوْلَا أَنَّ صَنْعَتَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَقْدُورَةً لِلْعِبَادِ لَمْ يَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيَذْكُرْ فَائِدَتَهَا؛ لِأَنَّ الدُّرُوعَ الَّتِي صَنَعَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَعَذَّرٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَعْيَانَهَا، وَإِنَّمَا الْمِنَّةُ بِالْجِنْسِ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْإِلَانَةَ مِنْ دُونِ سَبَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ)).

وَكَمَا أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى الصِّنَاعَةِ وَبَعْضِ الصِّنَاعَاتِ؛ كَذَلِكَ أَشَارَ نَبِيُّنَا ﷺ إِلَى بَعْضِ الصِّنَاعَاتِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثَ.

قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!

فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ مُحَاضَرَة: ((مِنْ آدَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)) - الْأَرْبِعَاءُ 2 مِنْ شَعْبَانَ 1431هـ / 14-7-2010م.

((مِنْ أَهَمِّ سُبُلِ عِمَارَةِ الْكَوْنِ:

اجْتِنَابُ الْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ عِمَارَةِ الْكَوْنِ: الْبُعْدَ عَنْ كُلِّ الْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ؛ فَإِنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ سَبَبُ تَدْمِيرِ الِاقْتِصَادِ وَهَلَاكِ الْمُجْتَمَعِ.

((وَالْمُعَامَلَاتُ الْمُحَرَّمَةُ تَرْجِعُ إِلَى ضَوَابِطَ؛ أَعْظَمُهَا الثَّلَاثَةُ الْآتِيَةُ:

*الرِّبَا بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ؛ رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَرِبَا الْقَرْضِ، فَالرِّبَا بِأَنْوَاعِهِ مُحَرَّمٌ.

*الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ.

*الْخِدَاعُ وَالتَّغْرِيرُ)) .

الْمُعَامَلَاتُ الْمُحَرَّمَةُ تَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ الضَّوَابِطِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَحْرِيمُ الْعُقُودِ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِن: ((شَرْحُ عُمْدَةِ الْأَحْكَامِ)) (الْمُحَاضَرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ)، الْخَمِيسُ 4 مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 1431هـ / 18-2-2010م.

((فَأَعْظَمُ الْمَحَاذِيرِ الْمَانِعَةِ مِنْ صِحَّةِ الْمُعَامَلَاتِ: الرِّبَا، وَالْغَرَرُ، وَالظُّلْمُ.

فَالرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يَدْخُلُ فِيهِ (رِبَا الْفَضْلِ)، وَهُوَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَبَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي حِلِّهِ مَا شَرَطَ الشَّارِعُ، وَهُوَ التَّمَاثُلُ بَيْنَ الْمَبِيعَيْنِ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ، مَكِيلًا كَانَ أَوْ مَوْزُونًا، وَالْقَبْضُ لِلْعِوَضَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.. مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ.

وَ(رِبَا النَّسِيئَةِ): وَهُوَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ -وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ-، وَبَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ إِلَى أَجَلٍ أَوْ بِلَا قَبْضٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا السَّلَمُ.

وَأَشَدُّ أَنْوَاعِ هَذَا النَّوْعِ قَلْبُ الدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران: 130].

وَذَلِكَ إِذَا حَلَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ قَالَ لَهُ الْغَرِيمُ: ((إِمَّا أَنْ تَقْضِيَنِي دَيْنِي، وَإِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي ذِمَّتِكِ))؛ فَيَتَضَاعَفُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُعْسِرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً بِلَا نَفْعٍ وَلَا انْتِفَاعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْسِرَ قَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى غَرِيمِهِ إِنْظَارَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].

وَسَوَاءٌ كَانَ قَلْبُ الدَّيْنِ الْمَذْكُورُ صَرِيحًا أَوْ يَتَحَيَّلُ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّوَصُّلُ إِلَى مُضَاعَفَةِ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ؛ فَهَذَا الَّذِي قَدْ تَوَعَّدَهُ اللهُ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى بَعْثِهِمْ وَنُشُورِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ؛ أَيْ: مِنَ الْجُنُونِ، فَيَقُومُونَ مَرْعُوبِينَ مُنْزَعِجِينَ قَدِ اخْتَلَّتْ حَرَكَاتُهُمْ لِمَا يَعْلَمُونَ مَا أَمَامَهُمْ مِنَ الْقَلَاقِلِ وَالْأَهْوَالِ الْمُزْعِجَةِ وَالْعُقُوبَاتِ لِأَكَلَةِ الرِّبَا.

وَقَدْ آذَنَهُمُ اللهُ بِمُحَارَبَتِهِ وَمُحَارَبَةِ رَسُولِهِ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا، وَمَنْ كَانَ مُحَارِبًا لِلهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ مَخْذُولٌ، وَإِنَّ عَوَاقِبَهُ وَخِيمَةٌ، وَإِنِ اسْتُدْرِجَ فِي وَقْتٍ فَآخِرُ أَمْرِهِ الْمَحْقُ وَالْبَوَارُ، قَالَ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39].

فَالْمُرَابِي يَأْخُذُهُ الْأَمْنُ وَالْغُرُورُ الْحَاضِرُ، وَلَا يَدْرِي مَا خُبِئَ لَهُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ اللهَ سَيَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا إِنْ تَابَ وَأَنَابَ، فَإِذَا تَابَ فَلَهُ مَا سَلَفَ، وَأَمَّا الْعُقُودُ الْحَاضِرَةُ فَالزِّيَادَةُ لَا تَحِلُّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ، {وَلَا تُظْلَمُونَ} بِأَخْذِ بَعْضِ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ.

وَمِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا: الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا; فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمَرَافِقِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا دَخَلَتْهُ الْمُعَاوَضَةُ وَشَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضُ رَدَّ خَيْرٍ مِنْهُ بِالصِّفَةِ أَوِ بِالْمِقْدَارِ، أَوْ شَرَطَ نَفْعًا أَوْ مُحَابَاةً فِي مُعَاوَضَةٍ أُخْرَى فَهُوَ مِنَ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُؤَخَّرَةٍ، وَالرِّبْحُ ذَلِكَ النَّفْعُ الْمَشْرُوطُ.

فَاللهُ -تَعَالَى- وَعَظَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا كُلِّهِ وَالْمُعَامَلَةِ بِهِ، وَأَنْ يَكْتَفُوا بِالْمَكَاسِبِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي فِيهَا الْبَرَكَةُ وَصَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِيهَا تَزْكُو الْأَخْلَاقُ، وَيَحْصُلُ الِاعْتِبْارُ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَالصِّدْقُ، وَالْعَدْلُ، وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ التَّبِعَاتِ.

وَمِنَ الْمَحَاذِيرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَحْذُورُ الْمَيْسِرِ وَالْغَرَرِ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ الْمَيْسِرَ، وَقَرَنَهُ بِالْخَمْرِ، وَذَكَرَ مَضَارَّ ذَلِكَ وَمَفَاسِدَهُ.

وَالْمَيْسِرُ يَدْخُلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمُغَالَبَاتِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُرَاهَنَاتِ وَالْمُقَامَرَاتِ وَتَوَابِعَهَا مِنَ الْمَيْسِرِ؛ فَالْبُيُوعُ الَّتِي فِيهَا غَرَرٌ وَمُخَاطَرَاتٌ وَجَهَالَاتٌ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْسِرِ.

وَلِهَذَا قَالَ ﷺ كَلِمَةً جَامِعَةً: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَبَيْعُ الْآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُرَ وَلَمْ يُوصَفْ، وَدَخَلَ فِيهِ بَيْعُ الْمَلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَجَمِيعُ الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا جَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ -أَيْضًا-؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَامِلَيْنَ إِمَّا أَنْ يَغْنَمَ، وَإِمَّا أَنْ يَغْرَمَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَقَاصِدِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُعَوَّضِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوِي فِيهِ عِلْمُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ، فَإِذَا جُهِلَ الثَّمَنُ أَوِ الْمُثَمَّنُ، أَوْ كَانَ الْأَجَلُ فِي الدُّيُونِ غَيْرَ مُسَمًّى وَلَا مَعْلُومٍ دَخَلَ هَذَا فِي بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْمَيْسِرِ الَّذِي زَجَرَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنَ الْمَحَاذِيرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ: الظُّلْمُ، وَالْغِشُّ، وَالتَّدْلِيسُ، وَبَخْسُ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَبَخْسُ الْحُقُوقِ أَخْذًا وَإِعْطَاءً؛ بِأَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، أَوْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَهْلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْخَبِيثَةِ، وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الْمُحَرَّمَةُ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَنَحْوُهُمَا)) .

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِن: ((شَرْحُ تَيْسِيرِ اللَّطِيفِ الْمَنَّانِ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ)) (الْمُحَاضَرَةُ التَّاسِعَةُ)، الِاثْنَيْنِ 24 مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ 1434هـ / 30-9-2013م.

 

((مِنْ أَكْبَرِ سُبُلِ خَرَابِ الْعَالَمِ: الْمَعَاصِي))

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ -تَعَالَى- تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، وَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ»» .

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ))  مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَفِي غَيْرِهِمَا.

((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ)): وَهِيَ السِّلْعَةُ تَدْخُلُ بَيْنَ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي نَظِيرِ الْأَجَلِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَهِيَ حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَشْتَرِي سِلْعَةً بِأَلْفٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِمَّنْ بَاعَهَا لَهُ بِثَمَانِمِائَةٍ -مَثَلًا- نَقْدًا فِي الْحَالِ، فَيَأْخُذُ ثَمَانِمِائَةٍ وَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ أَلْفٌ، فَدَخَلَتِ السِّلْعَةُ وَخَرَجَتْ -حِيلَةً- مِنْ أَجْلِ تَحْلِيلِ الرِّبَا، وَهَيْهَاتَ!!

إِذَا فَسَدَتْ حَيَاتُكُمْ الِاقْتِصَادِيَّةُ، ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ))..

((وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ)): فَصِرْتُمْ تَابِعِينَ حَتَّى لِلْبَقَرِ، وَانْحَطَّتْ هِمَمُكُمْ، ((وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).

فَجَعَلَ رَفْعَ الذُّلِّ مَرْهُونًا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ.

قَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْلُكُ إِلَى هَذَا الدِّينِ السَّبِيلَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا وَلَا يُرْفَعُ الذُّلُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا بُدَّ مْنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ السَّبِيلِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ.

فَإِذَا تَحَصَّلَ الْمُجْتَمَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَفَعَ اللهُ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عِزِّهِ وَعِزَّتِهِ، وَرِفْعَتِهِ وَسُؤْدُدِهِ وَمَجْدِهِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].

فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَ اللهِ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ -تَعَالَى- بِأَسْبَابِ سَخَطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

فَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّرَ كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ أَسَاءَ السُّوأَىٰ -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

((سَعَادَةُ الْعَالَمِ وَعِمَارَةُ الْكَوْنِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ))

إِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْثَرَ مِنَ احْتِيَاجِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَقَدَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ مَاتَ جَسَدُهُ، وَإِذَا فَقَدَ الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَاتَتْ رُوحُهُ، وَمَوْتُ الْجَسَدِ لَيْسَ شَيْئًا بِإِزَاءِ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.

بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَسَدُهُ رُبَّمَا انْعَتَقَتْ رُوحُهُ مِنْ أَسْرِ الْجَسَدِ إِلَى طَلَاقَةٍ تَكُونُ هُنَالِكَ بِسَعَادَةِ الْقُلُوبِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا فَقَدَ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ فَذَلِكَ هَلَاكُ الْأَبَدِ، وَذَلِكَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

النَّاسُ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَاتِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ، عَلَى شِدَّةِ الْإِنْسَانِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَى النَّفَسِ وَعَلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَكِنَّ حَاجَتَهُ إِلَى الْوَحْيِ، وَحَاجَتَهُ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ سَعَادَةٍ وَفَلَاحٍ، وَكُلَّ هَنَاءٍ وَصَلَاحٍ؛ إِنَّمَا سَبَبُهُ طَاعَةُ الرَّسُولِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقَاءٍ وَبَوَارٍ، وَخَرَابٍ وَدَمَارٍ؛ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ.

وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا النَّبِيَّ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَارُوا خَلْفَهُ، وَاتَّبَعُوا نَهْجَهُ، وَالْتَزَمُوا شَرْعَهُ.. مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ، وَلَكِنَّ الشَّرَّ يُوجَدُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَالشَّرُّ يَنْتَفِي عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِ، وَالصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالْهَنَاءُ وَالِاسْتِقْرَارُ كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النِّسَاء: 59].

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ}؛ يَعْنِي: مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي وَطَاعَةِ نَبِيِّي ﷺ، وَرَدِّ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّنَازُعُ إِلَى كِتَابِي وَسُنَّةِ نَبِيِّي ﷺ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً لِشَرْطٍ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وَجَاءَ هَاهُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ: {تُؤْمِنُونَ}.

لَمْ يَقُلْ: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ))؛ وَإِنَّمَا قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هَاهُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِيَّةِ الْحَدَثِ وَتَجَدُّدِهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

{ذَلِكَ}: الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَجَاءَكُمْ بِهِ نَبِيِّي وَرَسُولِي ﷺ.. {ذَلِكَ خَيْرٌ}: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}؛ يَعْنِي: وَأَحْسَنُ مَآلًا لَكُمْ وَعَاقِبَةً لَكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.

فَدَلَّ الْأَمْرُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ -يَعْنِي: عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ ﷺ- وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطَاعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُعْصَى نَبِيُّهُ ﷺ.

وَلَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَنْ يَتَصَوَّرَ عَقْلٌ، وَلَا أَنْ يَتَخَيَّلَ خَيَالٌ.. أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ طَائِعًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ مُحَادٌّ لِنَبِيِّهِ مُشَاقٌّ لَهُ، هُوَ فِي شِقٍّ وَنَبِيُّهُ فِي شِقٍّ، وَهُوَ فِي حَدٍّ وَنَبِيُّهُ فِي حَدٍّ!! وَإِنَّمَا يُطَاعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ.

{ذَلِكَ خَيْرٌ} سَعَادَةٌ لَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَسَعَادَةً لَكُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ.

فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ -كَمَا رَأَيْتَ- بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأْوِيلٍ وَلَا شَرْحٍ وَلَا تَفْسِيرٍ؛ عَلَى أَنَّ مَرْجِعَ السَّعَادَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَعَلَى أَنَّ انْعِقَادَ أَمْرِ السَّعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَاعَةِ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ﷺ، أَوْ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ وَرُكُوبِ نَهْيِهِ.

وَمَا مِنْ شَرٍّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى إِلَّا وَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْحَيَاةِ، وَسَيْرُ الْكَوْنِ عَلَى الْمُقْتَضَى الْأَمْثَلِ، وَعَلَى السَّنَنِ الْأَسْنَى.. إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمَا مِنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ غَلَبَتْ فِيهِ طَاعَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا وَتَحَصَّلَ سَاكِنُوهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءِ عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَمَا عَمَّتِ الشُّرُورُ فِي مَكَانٍ، وَلَا غَلَبَتْ نَوَازِعُ الشَّرِّ فِي مَوْضِعٍ.. إِلَّا لِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

بَلْ إِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ، وَصَلَاحِ بَالِهِ، وَاسْتِقَامَةِ خَطْوِهِ.. إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى ذَلِكَ وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَنْهَى بِنَهْيِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَلِّغُ الْوَحْيَ عَنْ رَبِّهِ، فَعَادَ صَلَاحُ الْعَالَمِ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُشْرِقِ الْمُبِينِ.

وَمَا مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ -وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا فِي ظَاهِرِهِ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالنَّهَلِ مِنْ نَبْعِهِ الصَّافِي الْمَعِينِ- فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا وَمَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلَوْلَا الْوَحْيُ لَكَانَ النَّاسُ أَحَطَّ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَأَسْفَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، لَوْلَا الْوَحْيُ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ، وَلَوْلَا النُّبُوَّةُ.. مَا كَانَ عِرْضٌ وَلَا شَرَفٌ، وَلَا كَانَ حِفَاظٌ وَلَا كَرَامَةٌ، وَلَا كَانَ مَالٌ يُقْتَنَى، وَلَا كَانَتْ دَارٌ تُسْكَنُ؛ وَإِنَّمَا لَعَمَّتْ -حِينَئِذٍ- شِرْعَةُ الْقُوَّةِ؛ يَتَغَلَّبُ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ غَيْرِ رَادِعٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي الْإِنْسَانُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يَتَجَاوَزَهُ، كُلُّ ذَلِكَ.. وَلَوْ كَانَ فِي دَسَاتِيرَ وَضْعِيَّةٍ وَقَوَانِينَ بَشَرِيَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَإِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.

مَا عَرَفَ النَّاسُ الْكَرَامَةَ، وَلَا عَشِقَ النَّاسُ الْفَضَائِلَ، وَلَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَا حَادَ النَّاسُ عَنِ الشُّرُورِ وَالتَّسَفُّلِ وَالرَّذَالَةِ وَالْوَضَاعَةِ وَالتَّدَنِّي.. إِلَّا بِسَبَبِ الْوَحْيِ، وَبِسَبَبِ النُّبُوَّةِ، وَبِسَبَبِ الرِّسَالَةِ، يَأْتِي بِذَلِكَ كُلِّهِ أُولَئِكَ الْمُطَهَّرُونَ الْمُصْطَفُونَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ وَرُسُلِهِ الْمُكْرَمِينَ، وَخِتَامُهُمْ وَتَاجُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ، وَشَقَاءُ الدَّارَيْنِ فِي مُجَانَبَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، وَعَلَى قَدْرِ الثَّبَاتِ عَلَى شِرْعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ مُفْرَدًا، وَاسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعِ مَجْمُوعًا، وَاسْتِقْرَارُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ.

وَعَلَى قَدْرِ الْبُعْدِ عَنْ دِينِ الرَّبِّ، عَنْ دِينِ الْإِلَهِ الْحَقِّ، عَنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.. يَحْدُثُ مَا يَحْدُثُ مِنَ انْتِهَاكٍ لِلْأَعْرَاضِ، وَسَفْكٍ لِلدِّمَاءِ، وَمِنْ نَهْبٍ لِلْأَمْوَالِ، وَمِنَ اعْتِدَاءٍ عَلَى الدِّيَارِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ؛ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْوَحْيِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ النُّبُوَّةِ.

الوَحْيُ هُوَ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ، وَإِذَا خَلَا العَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالحَيَاةِ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ.

وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حَاجَتُنَا إِلَى الدِّينِ الرَّشِيدِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  مَكَانَةُ الشُّهَدَاءِ وَوُجُوبُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 2
  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  الحَمَّادُون
  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  نصيحة للشباب مع بداية العام الدراسي
  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان