الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

((الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ))

فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ دِينٌ، وَلَا تَسْتَقِيمُ دُنْيَا إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلِعَظَمَةِ الصِّدْقِ وَجَلَالِهِ وَحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ؛ وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ نَفْسَهُ.

فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].

وَاللهُ -تَعَالَى- مَوْصُوفٌ بِالصِّدْقِ فِي ذَاتِهِ، وَفِي أَقْوَالِهِ، وَفِي أَفْعَالِهِ، وَفِي وَعْدِهِ، وَفِي وَعِيدِهِ، وَفِي أَخْبَارِهِ، وَفِي شَرْعِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122].

وَقَالَ -تَعَالَى- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إِرْسَالَ الْمُرْسَلِينَ: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 9].

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ النَّبِيِّينَ بِالصِّدْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بُرْهَانًا عَلَى صِدْقِهِمْ، وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ.

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الثَّنَاءِ عَلَى نَبِيِّهِ الْخَاتَمِ: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37].

وَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ فَقَالَ -تَعَالَى- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

وَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21].

 ((مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الصِّدْقِ؛ صِدْقِ الْقَلْبِ، وَصِدْقِ الْجَوَارِحِ، وَصِدْقِ اللِّسَانِ، وَأَخَّرْتُ صِدْقَ اللِّسَانِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ صِدْقَ اللِّسَانَ فَرْعٌ عَنْ صِدْقِ الْقَلْبِ، فَصِدْقُ الْقَلْبِ هُوَ الْأَصْلُ، وَتَمَامًا كَالظِّلِّ وَالْعُودِ، لَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ اللِّسَانُ بِصِدْقِهِ وَفِي الْقَلْبِ مَا فِيهِ بِكَذِبِهِ، وَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ اسْتَقَامُ اللِّسَانِ وَاسْتَقَامَتِ الْجَوَارِحُ.

فِي ((الْمَقَايِيسِ))، وَ((الْمُفْرَدَاتِ))، وَ((اللِّسَانِ)): ((الصِّدْقُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: صَدَقَ يَصْدُقُ صِدْقًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (الصَّادِ وَالدَّالِ وَالْقَافِ)، الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُوَّةٍ فِي الشَّيْءِ قَوْلًا أَوْ غَيْرَ قَوْلٍ.

مِنْ ذَلِكَ: الصِّدْقُ.. خِلَافَ الْكَذِبِ؛ لِقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: شَيْءٌ صَدْقٌ؛ أَيْ: صُلْبٌ، وَرُمْحٌ صَدْقٌ، وَيُقَالُ: صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَفِي خِلَافِ ذَلِكَ: كَذَبُوهُمْ)) .

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَصْلُهُمَا فِي الْقَوْلِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَعْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا يَكُونَانِ فِي الْقَوْلِ إِلَّا فِي الْخَبَرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا})).

وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((الصِّدْقُ نَقِيضُ الْكَذِبِ؛ يُقَالُ: صَدَقَهُ الْحَدِيثَ أَنْبَأَهُ بِالصِّدْقِ، وَصَدَقْتُ الْقَوْمَ: قُلْتُ لَهُمْ صِدْقًا، وَرَجُلٌ صَدُوقٌ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ، وَالصِّدِّيقُ: الدَّائِمُ التَّصْدِيقِ، وَيَكُونُ -أَيْضًا- الَّذِي يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِالْعَمَلِ، وَالصِّدِّيقُ الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((وَالصِّدِّيقُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.

الصِّدِّيقُونَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- هَذَا: جَمْعُ صِدِّيقٍ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ أَوِ التَّصْدِيقِ، أَوْ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَقِيلَ: هُمْ فُضَلَاءُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

أَمَّا الصَّادِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَنَا الْمَوْلَى بِأَنْ نَكُونَ مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فَهُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَي: كُونُوا عَلَى مَذْهَبِ الصَّادِقِينَ وَسَبِيلِهِمْ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينِ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ بَوَاطِنِهِمْ)) .

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِيْ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ}، فَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَمَّا الَّذِي جَاءَ بِهِ فَهُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، جَاءَ بِالصِّدْقِ؛ أَيْ: جَاءَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) )).

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: ((الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُمْ أَصْحَابُ الْقُرْآنِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَجِيئُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: هَذَا مَا أَعْطَيْتُمُونَا فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمَا أَمَرْتُمُونَا » ؛ ؛ يَعْنُونَ الْوَحْيَ الْمَعْصُومَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ يَشْمَلُ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ أَوْلَى النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ الرَّسُولُ ﷺ، وَأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ)) )).

فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً.

وَأَمَّا الصِّدْقُ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: ((الصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الضَّمِيرَ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ مَعًا، وَمَتَى انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا تَامًّا، بَلْ إِمَّا أَلَّا يُوصَفَ بِالصِّدْقِ، وَإِمَّا أَنْ يُوصَفَ تَارَةً بِالصِّدْقِ وَتَارَةً بِالْكَذِبِ، عَلَى نَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ كَقَوْلِ كَافِرٍ إِذَا قَالَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صِدْقٌ؛ لِكَوْنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَذِبٌ؛ لِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ ضَمِيرَهُ، وَبِالْوَجْهِ الثَّانِي إِكْذَابُ اللهِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالُوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ})).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ، وَهَذَا هُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَقِيلَ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ بِأَلَّا تُكَذِّبَ أَحْوَالُ الْعَبْدِ أَعْمَالَهُ، وَلَا أَعْمَالُهُ أَحْوَالَهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَا يَكُونُ)) .

الصِّدْقُ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.. الصِّدْقُ: اسْتِوَاءُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِأَلَّا تُكَذِّبَ أَحْوَالُ الْعَبْدِ أَعْمَالَهُ، وَلَا أَعْمَالُهُ أَحْوَالَهُ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَالصِّدْقُ: مَعْنَاهُ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ؛ هَذَا فِي الْأَصْلِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ، فَإِذَا أَخْبَرْتَ بِشَيْءٍ وَكَانَ خَبَرُكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ قِيلَ إِنَّهُ صِدْقٌ، كَأَنْ تَقُولَ عَنْ هَذَا الْيَوْمِ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فَهَذَا خَبَرٌ صِدْقٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا قُلْتَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ؛ فَهَذَا خَبَرٌ كَذِبٌ.

فَالْخَبَرُ إِنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ، وَإِنْ خَالَفَ الْوَاقِعَ فَهُوَ كَذِبٌ، وَكَمَا يَكُونُ الصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ يَكُونُ الصِّدْقُ -أَيْضًا- فِي الْأَفْعَالِ.

فَالصِّدْقُ فِي الْأَفْعَالِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَاطِنُهُ مُوَافِقًا لِظَاهِرِهِ، بِحَيْثُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَا فِي قَلْبِهِ، فَالْمُرَائِي -مَثَلًا- لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالْمُشْرِكُ مَعَ اللهِ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ أَنَّهُ مُوَحِّدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْمُنَافِقُ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَلَيْسَ بِمُتَّبِعٍ.

فَالْمُهِمُّ أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ مِنْ سِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ صِفَاتِهِمْ، وَعَكْسُهُ الْكَذِبُ، وَهُوَ مِنْ سِمَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْ خِصَالِهِمْ)).

((أَمْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصِّدْقِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى الصَّادِقِينَ))

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَاتَّبَعُوا شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ! الْتَزِمُوا طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَعْصُوا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِتَتَّقُوا عِقَابَ اللهِ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ.

وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَإِسْلَامِهِمْ، وَأَقْوَالِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ إِيمَانِهِمْ تَعْبِيرًا صَادِقًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ.

وَكُونُوا مَعَ مَنْ صَدَقَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ فِي الْغَزَوَاتِ، وَلَا تَكُونُوا مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَعَدُوا فِي الْبُيُوتِ وَتَرَكُوا الْغَزْوَ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَقَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ وَمِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ حِينَ رَجَعَ النَّبِيُّ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ.. كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَلَّفَهُمْ؛ أَيْ: تَرَكَهُمْ.

فَمَعْنَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]؛ أَيْ: تُرِكُوا، فَلَمْ يُبَتَّ فِي شَأْنِهِمْ، وَلَمْ يُفْصَلْ فِي أَمْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، جَاءُوا إِلَيْهِ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ الْآيَةَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

أَمَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ فَصَدَقُوا النَّبِيَّ ، وَأَخْبَرُوهُ بِالصِّدْقِ بِأَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ بِلَا عُذْرٍ؛ فَأَرْجَأَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ خَمْسِينَ لَيْلَةً، {حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118].

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بَعْدَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

 فَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتَّقُوا اللهَ، وَأَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، لَا مَعَ الْكَاذِبِينَ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35]، وَهَذِهِ فِي جُمْلَةِ الْآيَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ؛ وَهِيَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}... إِلَى أَنْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}... إِلَى أَنْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]؛ فَذَكَرَ اللهُ الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد:21]؛ أَيْ: لَوْ عَامَلُوا اللهَ بِالصِّدْقِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَكِنْ عَامَلُوا اللهَ بِالْكَذِبِ فَنَافَقُوا وَأَظْهَرُوا خِلَافَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَعَامَلُوا النَّبِيَّ ﷺ بِالْكَذِبِ؛ فَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَبُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فَكَانَ شَرًّا لَهُمْ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ أَمْرُهُ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْجَزَاءِ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

إِذَنْ؛ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ صُرَحَاءَ، عَلَيْنَا أَلَّا نُخْفِيَ الْأَمْرَ عَنْ غَيْرِنَا مُدَاهَنَةً وَمُرَاءَاةً؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا حَدَثَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ حَدَّثَ عَنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ وَكَانَ لَا يُرْضِيهِ؛ كَذَبَ وَقَالَ: مَا فَعَلْتُ!

لِمَاذَا؟!!

يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَلَّا تَسْتَحْيِيَ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَلَّا تُبَارِزَ الْخَالِقَ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْكَذِبِ، قُلِ الصِّدْقَ وَلَا تُبَالِ بِأَحَدٍ، وَأَنْتَ إِذَا عَوَّدْتَ نَفْسَكَ الصِّدْقَ؛ فَإِنَّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوْفَ تُصْلِحُ حَالَكَ.

أَمَّا إِذَا أَخْبَرْتَ بِالْكَذِبِ وَصِرْتَ تَكْتُمُ عَنِ النَّاسِ وَتَكْذِبُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّكَ سَوْفَ تَسْتَمِرُّ فِي غَيِّكَ، وَلَكِنْ إِذَا صَدَقْتَ؛ فَإِنَّكَ سَوْفَ تُعَدِّلُ مَسِيرَكَ وَمِنْهَاجَكَ.

فَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِيمَا لَكَ وَفِيمَا عَلَيْكَ؛ حَتَّى تَكُونَ مَعَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَكَ اللهُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

((فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)) . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ))؛ أَيِ: الْزَمُوا الصِّدْقَ.

وَالصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ.

وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ:

1-أَمَّا بِاللِّسَانِ: فَهُوَ الْقَوْلُ.

2-وَأَمَّا بِالْأَرْكَانِ: فَهُوَ الْفِعْلُ.

وَلَكِنْ.. كَيْفَ يَكُونُ الْكَذِبُ بِالْفِعْلِ؟

إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ فَهَذَا قَدْ كَذَبَ بِفِعْلِهِ، فَالْمُنَافِقُ -مَثَلًا- كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيَتَصَدَّقُ، وَلَكِنَّهُ بَخِيلٌ، وَرُبَّمَا يَحُجُّ!!

فَمَنْ رَأَى أَفْعَالَهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُنْبِئُ عَمَّا فِي الْبَاطِنِ؛ فَهِيَ كَذِبٌ.

وَلِهَذَا يُقَالُ: الصِّدْقُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ، فَمَتَى طَابَقَ الْخَبَرُ الْوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ بِاللِّسَانِ، وَمَتَى طَابَقَتْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَا فِي الْقَلْبِ فَهِيَ صِدْقٌ بِالْأَفْعَالِ.

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -عِنْدَمَا أَمَرَ بِالصِّدْقِ-.. بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ؛ فَقَالَ : ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ)).

الْبِرُّ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: الْبَرُّ: أَيْ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالْبِرُّ يَعْنِي كَثْرَةَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الصِّدْقِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ))؛ فَصَاحِبُ الْبِرِّ يَهْدِيهِ بِرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ، وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

وَقَوْلُ النَّبِيِّ : ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).

وَالصِّدِّيقُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَرَاتِبِ الْخَلْقِ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَتَحَرَّى الصِّدْقَ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقِيَّةَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَنَالُهَا إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ النَّاسِ، وَتَكُونُ الصِّدِّيقِيَّةُ فِي الرِّجَالِ وَتَكُونُ فِي النِّسَاءِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75].

وَأَفْضَلُ الصَّدِّيقِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَصْدَقُهُمْ؛ وَهُوَ: أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، الَّذِي اسْتَجَابَ لِلنَّبِيِّ ﷺ حِينَ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ عِنْدَهُ أَيُّ تَرَدُّدٍ وَأَيُّ تَوَقُّفٍ، فَبَمُجَرَّدِ مَا دَعَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ، وَصَدَّقَ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَصَدَّقَ النَّبِيَّ حِينَ أَخْبَرَ عَنِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَكَذَّبَهُ النَّاسُ، وَقَالُوا: كَيْفَ تَذْهَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَرْجِعُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّكَ صَعِدْتَ إِلَى السَّمَاءِ؟! فَهَذَا لَا يُمْكِنُ! ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالُوا لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟

قَالَ: وَمَاذَا قَالَ؟

قَالُوا: إِنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

فَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمِّيَ بِالصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

وَأَمَّا الْكَذِبُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ؛ فَقَالَ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ)).

((إِيَّاكُمْ)): لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيِ: احْذَرُوا الْكَذِبَ.

وَالْكَذِبُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: مَا الْيَوْمُ؟ فَقُلْتَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْخَمِيسِ، أَوْ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.. فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.

وَالْمُنَافِقُ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، فَهُوَ كَاذِبٌ بِفِعْلِهِ.

وَقَوْلُهُ : ((وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ)).

الْفُجُورُ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْسُقُ، وَيَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى- إِلَى مَعْصِيَتِهِ.

وَأَعْظَمُ الْفُجُورِ الْكُفْرُ.. عِيَاذًا بِاللهِ، وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّفِيعِ؛ فَإِنَّ الْكَفَرَةَ فَجَرَةٌ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 7-11].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14].

فَالْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ.. نَعُوذُ بِاللهِ -تَعَالَى- مِنْهَا.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ : ((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ)).

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)).

وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ يَأْتِي بِالْمَقَالَةِ كَاذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ، لَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ!!

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْوَعِيدُ عَلَى هَذَا؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَيْلٌ لِلَّذِي يُحْدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَهَذَا وَعِيدٌ عَلَى أَمْرٍ سَهْلٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، يَأْتِي بِالْكِذْبَةِ وَيُلْقِي بِالْكَلِمَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَكْتُبُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِذَلِكَ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

فَالْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الَّذِي مَرَّ -أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ-، الْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَكُلُّهُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: فِي الْحَرْبِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَحَدِيثِهِ إِيَّاهَا.

وَلَكِنْ.. بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: ((إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّوْرِيَةُ، وَلَيْسَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ.. قَالَ: التَّوْرِيَةُ قَدْ تُسَمَّى كَذِبًا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى؛ قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]، وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ...)). الْحَدِيثَ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-  لَمْ يَكْذِبْ، وَإِنَّمَا وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ؛ فَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ تِلْكَ التَّوْرِيَةَ كَذِبًا.

وَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَعْهُودُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَرَّأَ مِنْهُ أَنْبِيَاءَهُ، وَخَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ: ((لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ)).

وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: ((إِنَّ الْكَذِبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا هُوَ تَوْرِيَةٌ؛ فَقَدْ وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ ﷺ )).

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَمَقَامُهُمْ مَحْفُوظٌ، وَمَقَامُهُمْ عَالٍ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعِنْدَ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَرَّءُوا مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُثِيرًا نَقْصًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ؛ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ)).

سَوَاءٌ كَانَ هَذَا أَوْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: ((الْكَذِبُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لَا مَزْحًا، وَلَا جِدًّا، وَلَا إِذَا تَضَمَّنَ أَكْلَ مَالٍ أَوْ لَا)).

وَأَشَدُّ شَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ: أَنْ يَكْذِبَ وَيَحْلِفَ لِيَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ حَقًّا ثَابِتًا، فَيَأْتِي هَذَا فَيُنْكِرُ وَيَقُولُ: وَاللهِ مَا لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ! أَوْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ فَيَقُولَ: لِي عِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا! وَهُوَ كَاذِبٌ؛ فَهَذَا إِذَا حَلَفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَكَذَبَ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الَّتِي تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، ثُمَّ تَغْمِسُهُ فِي النَّارِ.. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ لَهَا، أَمَّا الَّتِي يَحْنَثُ فِيهَا فَهِيَ الَّتِي يُكَفِّرُ عَنْهَا، وَأَمَّا اللَّغْوُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؛ فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ لَهَا، يَتُوبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْيَمِينِ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ وَقَعَ بِسَبَبِ يَمِينِهِ، وَلَكِنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، ثُمَّ تَغْمِسُهُ فِي النَّارِ.. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.

وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ -أَيْ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ-؛ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْذِبَ مُطْلَقًا، لَا هَازِلًا وَلَا جَادًّا، إِلَّا فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ مُطْلَقًا لَا فِي جِدٍّ وَلَا فِي هَزْلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ كَمَا مَرَّ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ)) ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ.

((دَعْ مَا يَرِيبُكَ))؛ دَعْ: أَيِ اتْرُكْ.

((مَا يَرِيبُكَ))؛ بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ أَيْ: مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ.

((إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)): إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.

قَالَ النَّبِيُّ : ((فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ))؛ فَهَذَا وَجْهُ الشَّاهِدِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الصِّدْقِ، كَمَا عَقَدَ لِذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الرِّيَاضِ)).

فَالصِّدْقُ طُمْأَنِينَةٌ، لَا يَنْدَمُ صَاحِبُهُ أَبَدًا، وَلَا يَقُولُ: لَيْتَنِي وَلَيْتَنِي؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالصَّادِقُونَ يُنَجِّيهِمُ اللهُ -تَعَالَى- بِصِدْقِهِمْ.

وَتَجِدُ الصَّادِقَ دَائِمًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا.

أَمَّا الْكَذِبُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَوَّلَ مَنْ يَرْتَابُ فِي الْكَاذِبِ نَفْسَهُ، فَيَرْتَابُ الْكَاذِبُ هَلْ يُصَدِّقُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يُصَدِّقُونَهُ؟!!

وَلِهَذَا تَجِدُ الْكَاذِبَ إِذَا أَخْبَرَكَ بِالْخَبَرِ قَامَ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ صَدَقَ؛ لِئَلَّا يُرْتَابَ فِي خَبَرِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَحَلُّ رِيبَةٍ.

تَجِدُ الْمُنَافِقِينَ -مَثَلًا- يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا، وَلَكِنَّهُمْ فِي رِيبَةٍ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].

فَالْكَذِبُ لَا شَكَّ أَنَّهُ رِيبَةٌ وَقَلَقٌ لِلْإِنْسَانِ، وَيَرْتَابُ الْإِنْسَانُ هَلْ عَلِمَ النَّاسُ بِكَذِبِهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا؟!!

فَلَا يَزَالُ فِي شَكٍّ وَاضْطِرَابٍ.

 فَنَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ الْكَذِبَ إِلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَطُمَأْنِينَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)).

وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالصِّدْقِ مِنْ بِدَايَةِ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا عِنْدَ الْكَافِرِينَ.. عِنْدَ الْمَدْعُوِّينَ، كَانَ وَاضِحًا لَا امْتِرَاءَ فِيهِ؛ فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بَنْ حَرْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ-.

قَالَ هِرَقْلُ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ -يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ-.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ.. وَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَقُولُ  ﷺ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)) . وَحَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَوَّلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُنْذُ بِدَايَةِ الْبَعْثَةِ بِالصِّدْقِ.

عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، فَإِذَا صَدَقْتُمْ أَفْلَحْتُمْ وَنَجَحْتُمْ، وَإِنْ كَذَبْتُمْ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي فَضْلِ الصِّدْقِ وَذَمِّ الْكَذِبِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الصِّدْقَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَالْإِحْسَانَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 ((الرَّسُولُ ﷺ هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ))

((الرَّسُولُ هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ، كَانَتْ حَيَاتُهُ أَفْضَلَ مِثَالٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي اتَّخَذَ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ خَطًّا ثَابِتًا لَا يَحِيدُ عَنْهُ قِيدَ أُنْمُلَةٍ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ بِمَثَابَةِ السَّجِيَّةِ وَالطَّبْعِ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ حَتَّى قَبْلَ الْبَعْثَةِ.

وَكَانَ لِذَلِكَ يُلَقَّبُ بِالصِّادِقِ الْأَمِينِ، وَاشْتُهِرَ بِهَذَا وَعُرِفَ بِهِ بَيْنَ أَقْرَانِهِ، وَقَدِ اتَّخَذَ ﷺ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ مَدْخَلًا إِلَى الْمُجَاهَرَةِ بِالدَّعْوَةِ؛ إِذْ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ جَمَعَ أَهْلَهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَدَى تَصْدِيقِهِمْ لَهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَأَجَابُوا بِمَا عَرَفُوا عَنْهُ قَائِلِينَ: ((مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا الصِّدْقَ))؛ مَا عَرَفْنَا عَنْكَ إِلَّا الصِّدْقَ، وَمَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ!)) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا.

فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.

قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.

لَقَدْ كَانَ الصِّدْقُ مِنْ خَصَائِصِ أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ مِنْ تَحْرِيفٍ فِي قَوْلٍ، وَاسْتِرْسَالٍ فِي خَبَرٍ يَكُونُ إِلَى الْكَذِبِ مَنْسُوبًا وَلِلصِّدْقِ مُجَانِبًا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا تَعْرِفُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَلَوْ حَفِظُوا عَلَيْهِ كِذْبَةً نَادِرَةً فِي غَيْرِ الرِّسَالَةِ لَجَعَلُوهَا دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِ فِي الرِّسَالَةِ، وَمَنْ لَزِمَ الصِّدْقَ فِي صِغَرِهِ كَانَ لَهُ فِي الْكِبَرِ أَلْزَمَ، وَمَنْ عُصِمَ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حُقُوقِ اللهِ أَعْصَمَ)).

وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ الْمُبَارَكَةِ كَانَ تَصْدِيقُ الْوَحْيِ لَهُ مَدْعَاةً لِأَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ: الصِّادِقَ الْمَصْدُوقَ ﷺ، وَصَدَقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ قَالَ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2-4]» .

 ((اصْدُقُوا! فَالْكَلِمَةُ أَمَانَةٌ))

قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! خَافُوا عِقَابَ اللهِ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ، وَقُولُوا قَوْلًا صَوَابًا قَاصِدًا إِلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ؛ يَتَقَبَّلِ اللهُ حَسَنَاتِكُمْ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ.

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ حَقًّا يَقِينًا: عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ، أَوْ شَهَادَةٍ، أَوْ رِوَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ مَحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

مَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، وَمَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا عِنْدَهُ مَلَكٌ حَافِظٌ يَكْتُبُ قَوْلَهُ، مُعَدٌّ مُهَيَّأٌ لِذَلِكَ، حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَا يُفَارِقُهُ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ, الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذبَةَ فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ, وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنأًى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزْنَ, وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ!!

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))

قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا, فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))

قُلْنَا: لَا.

قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).

ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.

 قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ! فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ؛ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

((رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).

هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ، يُحَدِّثُ بِالْكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ يَعنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرزَخِ.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْعَذَابِ -هُدِيتَ- كَيْفَ تَنَاوَلَ مِنَ الْكَذَّابِ آلَةَ كَذِبِهِ وَمَوْضِعَ إِفْكِهِ؟!! وَكَيْفَ يُشَقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, ثُمَّ يُثَنَّى بِالْآخَرِ، فَيَلْتَئِمُ الْأَوَّلُ, فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ كَمَا صُنِعَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!!

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : ((فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ, وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ, فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ, ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ في الْمَرَّةَ الْأُولَى..)).

وَفِي تَأوِيلِهَا: ((أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ, فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ)).

هَذَا جَزَاءُ مَنْ كَذَبَ الْكِذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَى, وَكِفَاءُ مَا صَنَعَ, فَمَنْ لَا يَقْدُرُ الْكَلِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَهَا؟!! وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!

لَقَدْ مَيَّزَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْإِنْسَانَ بِالْبَيَانِ، وَمَنَحَهُ نِعْمَةَ الْإِبَانَةِ، فَغَدَا بِفَضْلِ رَبِّهِ مُفْصِحًا مُبِينًا.

وَبِالْبَيَانِ خَرَجَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ الْمُبِينِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4].

وَلَمَّا كَانَتِ (الْكَلِمَةُ) حَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ، كَانَ حَظُّهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ إِنْ حَسُنَتْ فَسَمَتْ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهَا مِنَ الرَّذِيلَةِ إِنْ سَاءَتْ فَتَرَدَّتْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى- مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

 ((التَّثَبُّتُ فِي الْأَخْبَارِ وَخُطُورَةُ إِذَاعَةِ الْكَذِبِ))

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ حَقًّا، وَلَا كُلُّ مَا يُنْشَرُ صِدْقًا، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَ وُرُودِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ -سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْنٍ أَوْ خَوْفٍ- أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي نَشْرِهِ وَإِذَاعَتِهِ نُشِرَ، وَمَا رَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِ نَشْرِهِ لَا يُنْشَرُ؛ حِفَاظًا عَلَى دِينِ النَّاسِ وَأَمْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) .

وَالَّذِي يُقَدِّرُ الْخَيْرَ مِنْ عَدَمِهِ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ هُمْ أُولُو الْأَمْرِ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ فِيهَا.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مَنْ نَظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً, وَفِي التَّارِيخِ عَامَّةً؛ يَعْلَمُ يَقِينًا مَا لِلشَّائِعَاتِ مِنْ خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَأَثَرٍ بَلِيغٍ، فَالشَّائِعَاتُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَشْخَاصِ.

وَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ, وَحَطَّمَتْ عُظَمَاءَ، وَهَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ، وَهَدَمَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ, وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَأَخَّرَتْ مِنْ سَيْرِ أَقْوَامٍ!!

لِخَطَرِهَا وَجَدْنَا الدُّوَلَ تَهْتَمُّ بِهَا، وَالْحُكَّامَ يَرْقُبُونَهَا، مُعْتَبِرِينَ إِيَّاهَا مِقْيَاسَ مَشَاعِرِ الشَّعْبِ نَحْوَ الْإِدَارَةِ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَبَانِينَ عَلَيْهَا تَوقُّعَاتِهِمْ لِأَحْدَاثٍ مَا, سَوَاءٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمَحَلِّيِّ أَوِ الْمُسْتَوَى الْخَارِجِيِّ.

وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ))

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)) .

وَأَثَرُ الشَّائِعَاتِ سَيِّئٌ جِدُّ سَيِّئٍ, وَيَنْتُجُ عَنْهَا غَالِبًا آثَارٌ أُخْرَى أَسْوَءُ مِنْهَا.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَلَا تَتَّبِعْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ حَيَاتِكَ شَيْئًا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ لَدَيْكَ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَسْتَطِيعُ بِهِ التَّبَصُّرَ فِي الْأُمُورِ.

فَإِذَا أَنْتَ اتَّبَعْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَقَدْ عَطَّلْتَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَدَيْكَ، إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ عَمَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَعُمْقَ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْإِدْرَاكِ فِي الْإِنْسَانِ، وَمَرْكَزُ اسْتِقْرَارِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالَّذِي تَنْطَلِقُ مِنْهُ الْإِرَادَاتُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1-3].

قَدْ فَازَ الْمُصَدِّقُونَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، الْعَامِلُونَ بِشَرْعِهِ بِمَا يُرِيدُونَ -أَيْ: فَازُوا بِمَا يُرِيدُونَ- وَظَفِرُوا بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيِّ، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ... وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْهَا: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ مُتَذَلِّلُونَ خَاضِعُونَ، جَمَعُوا بَيْنَ أَفْعَالِ الْقَلْبِ كَالْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ كَالسُّكُونِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ.

وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ كُلِّ بَاطِلٍ وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مُعْرِضُونَ.

إِنَّ كُلَّ خَبَرٍ يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ, أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ, أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنْسَانٍ بَغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ, لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ, يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.

وَاللهُ -تَعَالَى- ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ, وَتُثِيرُ الْخَوْفَ وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ, وَلَا لِأُمُورِ السِّيَاسَةِ, وَلَيْسَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَلُوكُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.

السِّيَاسَةُ لَهَا نَاسُهَا, وَلَوْ أَنَّ السِّيَاسَةَ صَارَتْ تُلَاكُ بَيْنَ أَلْسُنِ عَامَّةِ النَّاسِ لَفَسَدَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ.

الْعَامَّةُ لَيْسُوا كَأُولِي الْأَمْرِ وَأُولِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ, فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفْرَادُ الْمُجْتَمَعِ جَمِيعًا!!

مَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْعَامَّةُ مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الْأُمُورِ فِي سِيَاسَتِهَا وَفِي رَأْيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا, وَخَرَجَ عَنْ هَدْيِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

هَذَا يَدُلُّ علَى أنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنبَغِي لهُ أنْ يَكُونَ مُذِيعًا؛ كُلَّمَا سَمِعَ عَنْ خَبَرٍ مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ أَذَاعَهُ, بَلْ قَد يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَكْتُمَ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي حَصَّلَ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِحِفْظِ مَنْطِقِنَا وَبِحِفْظِ أَلْسِنَتِنَا.

فَأَمْسِكْ لِسَانَكَ, وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ, وَخَفْ عَلَى بَلَدِكَ.

 ((سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!))

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ».

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ».

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِفْظَ اللِّسَانِ مَعَ حِفْظِ الْفَرْجِ جَوَازًا إِلَى الْجَنَّةِ وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَمَنْ ضَمِنَ اللِّسَانَ وَالْفَرْجَ ضَمِنَ لَهُ النَّبِيُّ الْجَنَّةَ؛ قَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ: «الضَّمَانُ بِمَعْنَى الْوَفَاءِ بِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَطْلَقَ الضَّمَانَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ؛ فَالْمَعْنَى: مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ النُّطْقِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوِ الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَأَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى فَرْجِهِ مِنْ وَضْعِهِ فِي الْحَلَالِ وَكَفِّهِ عَنِ الْحَرَامِ.

وَقَوْلُهُ: «لَحْيَيْهِ».. هُمَا الْعَظْمَانِ فِي جَانِبَيِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: اللِّسَانُ وَمَا يَتَأَتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَبِمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ: الْفَرْجُ».

وَفِي بَيَانِ أَنَّ اللِّسَانَ قَائِدُ الْأَعْضَاءِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ، أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَتَكْفِيرُ الْأَعْضَاءِ لِلِّسَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الْأَعْضَاءِ اللِّسَانَ مَنْزِلَةَ الْكَافِرِ بِالنِّعَمِ.

وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ اللِّسَانَ أَخْوَفَ مَا يَخَافُ عَلَى سُفْيَانَ بن عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ.

قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللهُ.. ثُمَّ اسْتَقِمْ».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟!!

فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَوَّلُ مَذْكُورٍ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ النَّجَاةِ هُوَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ»؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟!

قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ كَفَّ الْمَرْءِ لِسَانَهُ مِلَاكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ بَيَّنَ ﷺ أَنَّهُ لَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ.

عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.

قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ».

ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ».

ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-17].

ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟».

قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!

قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ».

ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»

قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!

فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا».

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!!

فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «بِمِلَاكِ»؛ أَيْ: بِمَا يَمْلِكُ بِهِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ كُلَّهُ، بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ.

وَقَوْلُهُ: «يَكُبُّ»؛ مِنْ كَبَّهُ، إِذَا صَرَعَهُ.

وَ«حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»؛ بِمَعْنَى: «مَحْصُودَاتُهُمْ»، عَلَى تَشْبِيهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ، كَذَلِكَ لِسَانُ الْمِكْثَارِ، يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ وَمَا يَقْبُحُ.

وَفِي إِعْرَاضِ الْمَرْءِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ سَمْتٌ حَسَنٌ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ؛ كَمَا أَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «مُخْتَصَرِ مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ»: «فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ رَأْسُ مَالِهِ، لَمْ يُنْفِقْهُ إِلَّا فِي فَائِدَةٍ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ حَبْسَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللهِ -تَعَالَى- وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ جَوْهَرَةٍ، فَأَخَذَ عِوَضَهَا مَدَرَةً، وَهَذَا مِنْ خُسْرَانِ الْعُمُرِ».

وَفِي إِنْفَاقِ الْعُمُرِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ ضَيَاعٌ أَيُّ ضَيَاعٍ!! هَذَا إِذَا ذَهَبَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ؟!!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى مَا لَا يَرَى بِهِ الْمَرْءُ بَأْسًا، وَهُوَ بَأْسٌ أَيُّ بَأْسٍ؟!!

وَلَا يَصِلُ الْأَمْرُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَّا بِانْعِدَامِ التَّقْدِيرِ، وَلَا يَنْعَدِمُ تَقْدِيرُ الْعَوَاقِبِ فِي الْكَلَامِ إِلَّا بِالْإِغْرَاقِ فِيهِ إِغْرَاقًا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، أَوْ يَكَادُ يُغَيِّبُهُ، فَلَا يُحْسِنُ عِنْدَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَانْظُرْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ- إِلَى قَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا»، وَتَأَمَّلْ جَيِّدًا.. أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي وَعَنْكَ!

((الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الْإِيمَانَ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ، وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ، فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا يُحَارِبُ الْآخَرَ، وَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صَدَّقُهُ؛ فَقَالَ -تَعَالَى-: {هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33-45].

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا دَائِمًا، فَإِذَنْ.. هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَحَالِهِ)) .

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ لِلصِّدْقِ فَضَائِلَ عَظِيمَةً دُنْيَا وَآخِرَةً؛ وَأَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ الْجَنَّةُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ.. عِنْدَمَا أَمَرَ بِالصِّدْقِ، بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ؛ فَقَالَ : ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ)) .

فَصَاحِبُ الْبِرِّ يَهْدِيهِ بِرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ الْعَظِيمَةِ: إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).

*وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: اقْتِرَانُ الصِّدِّيقِينَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوُو الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ لِلهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى، مِنَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -سُبْحَانَهُ- وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.

وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.

وَالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.

وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَنِعْمَتِ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللهَ صَدَقَهُ اللهُ؛ فَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ, وَالْحَاكِمُ, وَالْبَيْهَقِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) وَغَيْرِهِ-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ, ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.

فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ, فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ, وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا, فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!

قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ. فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!

قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).

قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.

فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ, قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).

ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا, أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).

خُذْ هَذَا السَّبْيَ! فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ! لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا, وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً؛ وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا, يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَوَكَلَهُ الرَّسُولُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ؛ قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).

فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))

قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ، فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.

هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ, حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ, حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ، وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ، وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ، وَمَشَقَّةٌ, وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: أَنَّ الصَّادِقَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ؛ فَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ»  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ))؛ كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ.. هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ.

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ, فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ، وَلَا حَسَدَ» .

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَمَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا, وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّأً.

فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ يُوَضِّحُ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ وَأَكْرَمَ النَّاسِ فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وَصَفَّاهَا, وَرَقَّقَ الْقَلْبَ وَأَعْلَاهُ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً, وَأَمَّا مَنْ دَسَّاهَا فَقَدْ خَابَ، كَمَا قَرَّرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: النَّجَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَيْلُ رِضْوَانِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا يَوْمُ الْجَزَاءِ؛ الَّذِي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ -فِي إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا- صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ قُصُورِهَا وَأَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ لَهُ وَقَبُولِ حَسَنَاتِهِمْ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ ثَوَابٍ عَظِيمٍ وَرِضْوَانٍ كَبِيرٍ، ذَلِكَ الْجَزَاءُ وَالرِّضَا مِنْهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ سِلْسِلَةِ: ((الْقِرَاءَةُ وَالتَّعْلِيقُ عَلَى مُخْتَصَرِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ))- [المائدة: 119].

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: الْبَرَكَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ ((فَصِدْقُ الْمُتَبَايِعِينَ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمْ، كَمَا أَنَّ كَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمْ))  ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا؛ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)).

((الْبَيِّعَانِ: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْبَيْعِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ؛ كَمَا يُقَالُ الْقَمَرَانِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَمَا يُقَالُ الْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )) .

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ الْجَلِيلَةِ؛ أَنَّهُ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ وَالنَّجَاةِ فِي الْمُلِمَّاتِ فِي الدُّنْيَا؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.

فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا.

فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ!

فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ.. فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا! فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.

فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا، وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ،  وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا! فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ.

 

فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ! فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا! فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَرَجُوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- وَمُسْلِمٌ.

((وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ..)).

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ بِكَثْرَتِهَا؛ وَإِنَّمَا بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَمِمَّا يُحْبِطُهَا.

فَمَهْمَا حَاوَلَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَصْدُقْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لِلهِ مُخْلِصًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحْبِطُ عَمَلَهُ وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فِيهِ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَرَاحَةُ الْقَلْبِ، وَسُكُونُ الرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ قال ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ))؛ فَالْخَيْرُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَالشَّرُّ تَرْتَابُ بِهِ وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ الصِّدْقِ أَنَّهُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ الرِّيبَةُ، فَلَا تَسْكُنُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْفِرُ الْقُلُوبُ مِنْهُ.

الصِّدْقُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الْفَاجِرِينَ؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ يَلْزَمَهُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.

وَيَنْبَغِي أَلَّا يُتَهَاوَنَ فِي أَمْرِ الْكَذِبِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكْذِبُ، قَدْ يَقَعُ فِي أُمُورٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْذِبُ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي هَذَا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَثْبُتَ حَتَّى لَا يَسْتَفِزَّنَا كَذِبُ الْكَاذِبِينَ، فَإِنَّ النَّاسَ يَكْذِبُونَ، فَلَا نُقَابِلُ كَذِبًا بِكَذِبٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ؛ بَلْ نَدْفَعُ كَذِبَهُمْ بِالصِّدْقِ، نَتَحَرَّاهُ وَنَثْبُتُ عَلَيْهِ وَلَا نُفَارِقُهُ، وَلَا نُبَالِي بِكَذِبِ الْكَاذِبِينَ؛ فَـ {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، أَمَّا أَنْ نُقَابِلَ كَذِبًا بِكَذِبٍ فَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللهَ فِيهِ.

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الصِّدْقِ: تَرَابُطُ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَتَعَاوُنُهُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَالْأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ الْمُجْتَمَعَاتِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) .

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ)).

إِذَنْ.. الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.

إِنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى نَوْعَيْنِ:

*أُخُوَّةٌ هِيَ أُخوَّةُ النَّسَبِ.

*وَأُخُوَّةٌ هِيَ أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ.

فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ الْأُولَى فَإِنَّهَا هِيَ أَوَّلُ مَا يَحْرِصُ الْمَرْءُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَا يَسُوءُ؛ هِيَ أَوَّلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا أَتَاهُ مَا يُفْجِعُهُ وَيُفْظِعُهُ، كَأَنَّمَا يَدْعُو أَخَاهُ لِيُنْقِذَهُ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا وَمِنْهَا مِمَّا قَدْ أَلَمَّ بِهِ، ((أَخٌ)).. هِيَ أَوَّلُ مَا يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلى الْإِنْسَانِ مَا يَسُوءُهُ.

*وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ أُخُوَّةِ الْعَقِيدَةِ لَا نَسَبَ وَلَا رَحِمَ: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَأُنَاسٌ مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا بِشُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقَامِهِمْ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «هُمْ أَقْوَامٌ تَحَابُّوا عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَعَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا» .

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَدْعُو الْأُمَّةَ لِكَيْ تَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا.

وَمِنْ هَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُنَجِّيكَ إِلَّا الصِّدْقُ، وَأَنَّ مَخْرَجَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا تَوَرَّطَتْ فِيهِ صِدْقُهَا؛ صِدْقُهَا مَعَ رَبِّهَا، صِدْقُهَا مَعَ أَنْفُسِهَا، صِدْقُهَا مَعَ النَّاسِ، صِدْقُهَا مَعَ الْعَالَمِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّادِقِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُقِيمَنَا فِي مَقَامِ الصِّدْقِ عِنْدَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.

 وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ
  جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ
  حُقُوقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَحُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  خُطْبَةُ عِيدِ الْفِطْرِ 1443هـ
  مفتاح دعوة المرسلين
  مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  مَفْهُومُ التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ
  الرد على الملحدين:مبحث عن الطبيعة ما هي؟ وما هي مفاهيمها؟ وما حقيقة تأثيرها؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان