الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ

الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ

((الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حِفْظُ النَّفْسِ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْعُظْمَى))

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ.. ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصِّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

*ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

*ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الْدِّينِ، وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ[1].

وَلا صَلَاحَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِالْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الْضَّرُورَاتِ[2]، وَمَا وَرَاءَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ[3]، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْتَّحْسِينِيَّاتِ.

 ((أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ إِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَخْلُقْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبَثًا، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فِي الْبَاطِلِ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حُرًّا فِي تَصَرُّفَاتِهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ كَيْفَمَا يَشَاءُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَصُونَهَا مِنْ كُلِّ أَوْجُهِ الْهَلَاكِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْإِضْرَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة : 195].

 حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَبَائِثَ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْمِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

 وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَأْكُلَ وَأَنْ يَشْرَبَ وَأَنْ يَنْتَفِعَ وَأَنْ يَزْدَانَ[4] بِمَا خَلَقَ اللهُ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمُتَعِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

فَأَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهَا أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُضْوٍ مِنْهُ.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ تَحْرِيمًا أَكِيدًا أَنْ يَقْتُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ, وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ  مَا هُوَ كَافٍ شَافٍ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانَا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29-30].

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْبَخْعِ كَمَا تَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْهِنْدِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ صَحِيحًا أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَأَوَّلَهُ فِي التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ[5].

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} بِارْتِكَابِ مَا يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.

{إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}: أَي أَمَرَ بِمَا أَمَرَ وَنَهَى عَمَّا نَهَى؛ لِفَرْطِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ[6].

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}: أَيْ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّكُمْ أَهلُ دِينٍ وَاحِدٍ، فَأَنْتُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ)).

فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟))

الْمَاءُ حَاضِرٌ وَهُوَ عَلَيْهِ قَادِرٌ؛ وَلَكِنَّهُ خَشِيَ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، فَتَيَمَّمَ، وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا عَمْرُو! صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!))

قَالَ: ((فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ أَغْتَسِلَ فَأَهْلِكَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَقُلْتُ -أَيْ: بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الِاغْتِسَالِ- وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا)).

هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَانْفَرَدَ بِه،  وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ عَمْرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ هَلَاكَ نَفْسِهِ، لَا نَفْسِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ حَذَّرَ وَرَهَّبَ مِنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا؛ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -أَيْضًا-: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».

وَكَذَلِكَ مَنْ فَجَّرَ نَفْسَهُ يُفَجِّرُهَا فِي النَّارِ, مَنْ أَدَّى عَمَلُهُ إِلَى شَيْءٍ يُذْهِبُ حَيَاتَهُ؛ فَهُوَ بِذَلِكَ يَفْعَلُهُ فِي النَّارِ؛ كَمَا قَالَ المُخْتَارُ ﷺ.

وَفِي هَذَا الحَدِيثِ فِي «مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ» وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ: «وَالَّذِي يَتَقَحَّمُ فِيهَا يَتَقَحَّمُ فِي النَّارِ».

وَفِي «صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ»: عَنِ الحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي هَذَا المَسْجِدِ، فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ نَنْسَى، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدُبٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ, فَقَالَ اللهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ اْلجَنَّةَ».

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ، فَأَتَى قَرْنًا لَهُ، فَأَخَذَ مِشْقَصًا فَذَبَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ». وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}، وَهَذَا يَشْمَلُ قَتْلَ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَقَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ, بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى نَفْسِهِ غَايَةَ المُحَافَظَةِ, وَلَا يَمْنَعُ هَذَا أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ وَلَوْ تَعَرَّضَ لِلقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ, أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَ نَفْسِهِ؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَفِي عَهْدِ النَّبِيِّ  فِي بَعْضِ الغَزَوَاتِ كَانَ أَحَدُ الشُّجْعَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ النَّاسُ مُثْنِينَ عَلَيْهِ: مَا أَبْلَى مِنَّا أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَبْلَى فُلَانٌ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ الوَصْفِ: «هُوَ فِي النَّارِ»!!

هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ, فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ, كَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ وَلَا يَتْرُكُ مِنَ الكُفَّارِ أَحَدًا إلَّا تَبِعَهُ وَقَاتَلَهُ؛ كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ؟!!

فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَاقَبَهُ وَتَتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ, وَفِي النِّهَايَةِ رَآهُ وَضَعَ غِمْدَ السَّيْفِ عَلَى الأَرْضِ، وَجَعَلَ ذُبَابَةَ السَّيْفِ تَحْتَ ثَدْيِهِ الأَيْسَرِ، ثُمَّ اتَّكَأَ مُتَحَامِلًا عَلَى سَيْفِهِ، فَدَخَلَ السيفُ مِنْ صَدْرِهِ، وَخَرَجَ مِن ظَهْرِهِ؛ فَمَاتَ؛ فَقَالَ الصَّحَابيُّ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ, وَعَرَفُوا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى.

لِمَاذَا دَخَلَ النَّارَ مَعَ هَذَا العَمَلِ؟! وَكَانَ يُجَاهِدُ, لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً, وَلَمْ يُبْلِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا أَبْلَاهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا انْتَحَرَ -فَلَمَّا قَتَلَ نَفْسَهُ-؛ دَخَلَ النَّارَ -وَالعِيَاذُ بِالعَزِيزِ الغَفَّارِ-, قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَم يَصْبِرْ!!

فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ!!

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ الأنصاريَّ أَخْبَرَهُ أَنَّه بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلاَمِ كاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ جَمِيعًا دُونَ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْتَحِرَ انْتِحَارًا؛ بِمَعْنَى خَلَاصًا مِنَ الْمَصَائِبِ؛ مِنْ ضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ.. مِنْ مَرَضٍ أَلَمَّ بِهِ، حَتَّى صَارَ مَرَضًا مُزْمِنًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الِانْتِحَارُ لِلْخَلَاصِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمُورِ بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّ هُنَاكَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ أَوْ نَحَرَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُعَذَّبُ بِتِلْكَ الْوَسِيلَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[7].

حَتَّى فَهِمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الَّذِي يَنْتَحِرُ يَمُوتُ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ نَقِمَ عَلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا فَعَلَ بِهِ مِنْ مَصَائِبَ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا، الْمُسْلِمُ بِلَا شَكٍّ لَا يَصِلُ بِهِ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يُفَكِّرَ بِالِانْتِحَارِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُنَفِّذَ فِكْرَةَ الِانْتِحَارِ.

وَهُنَا مَثَلٌ لِلْمَوْضُوعِ السَّابِقِ: أَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْعَمَلُ، وَإِذَا كَانَ لَيْسَ هُنَاكَ عِلْمٌ صَحِيحٌ فَلَا عَمَلَ صَحِيحٌ، حِينَمَا يَعْلَمُ الْمُسْلِمُ وَيُرَبِّي نَفْسَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ تَخْتَلِفُ ثَمَرَاتُ انْطِلَاقَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَخْتَلِفُ أَعْمَالُهُ فِيهَا عَنِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ لَا أَقُولُ: لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَا، آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلَكِنْ مَا عَرَفُوا مَا قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَمِمَّا قَالَهُ ﷺ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ،  إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ حَمِدَ اللهَ وَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ))[8]، فَأَمْرُ الْمُؤْمِنِ كُلُّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)).

فَمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، مَنْ أَصَابَهُ فَقْرٌ مُدْقِعٌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا بِتِفْرق مَعَهُ -قَالَهَا بِالْعَامِّيَّةِ -رَحِمَهُ اللهُ-- إِنْ كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ أَوْ كَانَ عَلِيلَهَا، إِنْ كَانَ غَنِيَّ الْمَالِ أَوْ كَانَ فَقِيرَهُ مَا بِتِفْرق مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُقَالُ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ: هُوَ كَالْمِنْشَارِ عَالطَّالِعِ وَعَلَى النَّازِلِ هُوَ مَأْجُورٌ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَأُثِيبَ خَيْرًا، وَلَوْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَمَنِ الَّذِي إِذَنْ يَنْتَحِرُ؟!! هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيَانٌ مِنَ الْمَعْصُومِ ﷺ أَنَّ قَاتِلَ نَفْسِهِ فِي النَّارِ، وَهُوَ فِي النَّارِ يَقْتُلُ نَفْسَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي قَتَلَ بِهَا نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الِانْتِحَارَ -كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ- يُخَلِّدُ مَنْ أَتَى بِهِ.. يُخَلِّدُ صَاحِبَهُ فِي النَّارِ، وَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ كَمَا مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَلَّامَةِ الْأَلْبَانِيِّ: أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

 ((أَسْبَابُ الِانْتِحَارِ))

إِنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسَ لِلِانْتِحَارِ: هُوَ الْبُعْدُ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَضَعْفُ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ نِظَامٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَكُونُ مَوْضُوعًا مِنْ أَذْهَانِ الْبَشَرِ, وَلَا نَاتِجًا مِنَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ -مَهْمَا بَلَغَ- يُمْكِنُ أَنْ يُرِيحَ الْإِنْسَانَ, وَانْظُرْ إِلَى الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ!!

أَعْلَى نِسَبِ الِانْتِحَارِ فِي الدُّوَلِ الَّتِي فِيهَا أَعْلَى نِسَبٍ لِلدَّخْلِ الْفَرْدِيِّ؛ حَتَّى الْعَاطِلِينَ عِنْدَهُمْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ!! هُمْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَسْعُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا لِتَحْصِيلِ أَرْزَاقِهِمْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُعَانُونَ مِنَ الْقَلَقِ, وَالْمَصَحَّاتُ النَّفْسِيَّةُ مُنْتَشِرَةٌ عِنْدَهُمُ انْتِشَارًا لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ!!

كُلَّمَا كَانَتِ الْحَضَارَةُ وَالْمَدَنِيَّةُ بَعِيدَةً عَنِ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ؛ جَاءَ الْقَلَقُ وَالِاضْطِرَابُ, وَجَاءَتِ الْأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ، وَفِي نَفْسِيَّتِهِ، وَفِي سُلُوكِهِ، وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِ.

وَتَأَمَّلْ فِي الْبَدْوِ وَفِي أَحْوَالِهِمْ؛ أَكْثَرُهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الطَّبِيبِ, وَأَكْثَرُهُمْ يُمْضِي عُمُرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى طَبِيبٍ, مَعَ قُوَّةٍ فِي أَبْدَانِهِمْ وَصِحَّةٍ فِي أَجْسَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَى الْبَدَاوَةِ وَالْفِطْرَةِ.

لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى النَّاسِ أَنْ يُطَلِّقُوا الْمَدَنِيَّةَ الْحَدِيثَةَ؛ لَا.. الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ خَاضِعَةً لِـ: قَالَ اللَّهُ، قَالَ رَسُولُهُ، لَا لِلْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ.

الْعُقُولُ الْبَشَرِيَّةُ لَمَّا تَمَلَّكَتِ الْقُوَّةَ؛ عَاثَتْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا, وَأَسْلِحَةُ التَّدْمِيرِ الشَّامِلِ كُلُّهَا لَيْسَ لَهَا ضَابِطٌ أَخْلَاقِيٌّ, وَهِيَ تُمِيتُ مَلَايِينَ الْبَشَرِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ, وَتُؤثِّرُ تَأْثِيرَاتٍ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحْكُومَةً بِنِظَامٍ أَخْلَاقِيٍّ عَقَدِيٍّ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ: الِاكْتِئَابُ وَالْحُزْنُ وَالْأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ، وَأَمْرَاضُنَا النَّفْسِيَّةُ فِي جُمْلَتِهَا سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

يَقُولُ النَّفْسِيُّونَ الْمُحْدَثُون: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ)).

يَعْنِي: الْإِنسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَابَ بِالْمَرَضِ النَّفْسِيِّ فِي كِبَرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أُصُولُ هَذَا الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ.

وَحَدَّدَهَا زَعِيمُ هَؤُلَاءِ (سِيجْمُونْد فُرُويِد) بِسِتِّ سَنَوَاتٍ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السِّتَّ سَنَوَاتٍ الْأُولَى خَطِيرَةٌ جِدًّا فِي حَيَاةِ أَيِّ طِفْلٍ.

*خُطُورَةُ الْقَسْوَةِ فِي الصِّغَرِ عَلَى الصِّحَّةِ النَّفْسِيَّةِ لِلْأَطْفَالِ:

عِنْدَمَا تَأْتِي القَسْوَةُ, وَيَأْتِي الضَّرْبُ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْبَاكِرَةِ, وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ ﷺ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».

لَمْ يَأْتِ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ -وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ فِي دِينِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ-.

وَتَرْكُ الصَّلَاةِ هُوَ أَكْبَرُ كَبِيرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ هِيَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ يُقِرُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ.

وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجَسَدِ، لَيْسَ هُنَاكَ خَطَأٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الطِّفْلُ - وَهُوَ دُونَ العَاشِرَةِ- أَكْبَرَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ.. الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ بِالضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ إِلَّا عِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ.

يَقُولُ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ)): مُجَرَّدُ أَمْرٍ، مَعَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ التَّرْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ.

وَلَكِنَّ الضَّرْبَ هَاهُنَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ بِنَصِّ حَدِيثِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ))، ثُمْ: ((وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)).

يَأْتِي هَذَا الرَّجُلُ -وَهُوَ ضَالٌّ مُنْحَرِفٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ (سِيجْمُونْد فُرُويِد)- يَقُولُ: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ))، وَيُحَدِّدُ السِّتَّ سَنَواتٍ الأُولَى.     

نَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ قَدِ اهْتَدَيْتَ لِهَذَا, وَكَانَ صَحِيحًا بِالْفِطْرَةِ، أَوْ بِوَسَائِلِ الْعِلْمِ الحَدِيثِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِئَةِ سَنَةٍ ﷺ.       

إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدمَا يُحَدِّدُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ إِنَّمَا يَحْمِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْبَوَادِرِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذِهِ الْقَسْوَةُ الْمُفْرَطُ فِيهَا، وَهَذِهِ السُّلُوكِيَّاتُ الْخَاطِئَةُ تُؤَثِّرُ عَلَى النَّفْسِيَّاتِ الْغَضَّةِ الطَّرِيَّةِ, ثُمَّ يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَرَضُ النَّفْسِيُّ.

وَإِذَنْ؛ فَأَمْرَاضُنَا النَّفْسِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ سُلُوكِيَّاتٌ خَاطِئَةٌ.

إِنَّ الْحُزْنَ نَقِيضُ الْفَرَحِ وَخِلَافُ السُّرُورِ، وَهُوَ غَمٌّ يَلْحَقُ مِنْ فَوَاتِ نَافِعٍ أَوْ حُصُولِ ضَارٍّ، وَهُوَ الْغَمُّ الْحَاصِلُ لِوُقُوعِ مَكْرُوهٍ أَوْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ، وَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، لَا مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَا مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ.

 فَلَيْسَ الْحَزَنُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا هُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَارِضٌ يَعْرِضُ فِي الطَّرِيقِ، وَنَاشِبٌ يَنْشِبُ أَظْفَارَهُ وَأَنْيَابَهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ.

 الْحَزَنُ يُضْعِفُ الْقَلْبَ، وَيُوهِنُ الْعَزْمَ، وَيَضُرُّ الْإِرَادَةَ، فَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ حُزْنِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10].

فَالْحَزَنُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ، يَمْنَعُهُ مِنْ نُهُوضِهِ وَسَيْرِهِ وَتَشْمِيرِهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُؤَدِّي بِالْمَرْءِ إِلَى الْحُزْنِ وَالِاكْتِئَابِ وَالْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَرُبَّمَا وَصَلَ بِهِ إِلَى الِانْتِحَارِ: الْغَفْلَةُ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالتَّعَلُّقُ الْمُحَرَّمُ؛ فَـ«مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللهِ عَذَّبَهُ اللهُ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الَّذِي أَحَبَّهُ مَعَ اللهِ.

فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدَ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبَ قَلْبًا.

فَهُمَا مَحَبَّتَانِ؛ مَحَبَّةٌ هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَنَعِيمُ الرُّوحِ وَغِذَاؤُهَا، وَدَوَاؤُهَا؛ بَلْ حَيَاتُهَا، وَقُرَّةُ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَحَبَّةُ اللهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ كُلِّهَا إِلَيْهِ.

وَمَحَبَّةٌ هِيَ عَذَابُ الرُّوحِ، وَغَمُّ النَّفْسِ، وَهِيَ سِجْنُ الْقَلْبِ وَضِيقُ الصَّدْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنَّكَدِ وَالْعَنَاءِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ مَا سِوَى اللهِ -سُبْحَانَهُ-)).

وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ: الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُلَازِمٌ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَبِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ، وَيُخْشَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ خُلُقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ حَتَّى يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَتَجَارَى بِهِ الرَّجَاءُ حَتَّى يَأْمَنَ مَكْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ, فَمَتَى بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا؛ فَقَدْ ضَيَّعَ وَاجِبَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ.

وَلِلْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ سَبَبَانِ مَحْذُورَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْرِفَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى الْمَحَارِمِ، فَيُصِرُّ عَلَيْهَا، وَيُصَمِّمَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ الرَّحْمَةَ.

فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ هَذَا وَصْفًا وَخُلُقًا لَازِمًا, وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؛ لَمْ يُرْجَ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِقْلَاعٍ قَوِيٍّ.

الثَّانِي: أَنْ يَقْوَى خَوْفُ الْعَبْدِ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَيَضْعُفَ عِلْمُهُ بِمَا لِلهِ مِنْ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ وَلَوْ تَابَ وَأَنَابَ، وَتَضْعُفَ إِرَادَتُهُ فَيَيْأَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحَاذِيرِ الضَّارَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَعْفِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَعَجْزِهَا وَمَهَانَتِهَا.

فَلَوْ عَرَفَ هَذَا رَبَّهُ وَلَمْ يَخْلُدْ إِلَى الْكَسَلِ؛ لَعَلِمَ أَنَّ أَدْنَى سَعْيٍ يُوصِلُهُ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.

وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِ الْإِثْمِ)).

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَأْسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ، وَالْيَأْسُ ضِدُّ الرَّجَاءِ)).

وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: هُوَ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ)).

الْيَأْسُ: انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ.

 ((وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَأْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْقُنُوطُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْيَأْسِ عَنِ الْقُنُوطِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوطَ ثَمَرَةُ الْيَأْسِ.

الثَّانِي: الْيَأْسُ: الْعِلْمُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمُوا؟!))[9].

وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ[10] الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى- مِنَ الْكَبَائِرِ؛ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَشِّرَةِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)).

فَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، وَمِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ: عَدَمُ فَهْمِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: وَهِيَ قَاعِدَةُ الِابْتِلَاءِ؛ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: أَنَّهَا دَارُ مِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرُكُمْ بِالْجِهَادِ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي تَضْطَرِبُ بِهِ نُفُوسُكُمْ؛ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ، وَمِنَ الْمَجَاعَةِ بِعَدَمِ كِفَايَةِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ لِسَدِّ حَاجَاتِكُمْ، وَبِنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ، أَوْ تَعَسُّرِ الْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَنْفُسِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْجَوَائِحِ، أَوْ مَوْتِ الْأَوْلَادِ؛ لِيَكُونَ مِنْ ثَمَرَةِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِي: الثَّوَابُ الْعَظِيمُ.

وَبَشِّرْ -يَا رَسُولَ اللهِ- الصَّابِرِينَ عَلَى امْتِحَانِي عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِالسَّكِينَةِ وَالتَّسْلِيمِ بِقَضَاءِ اللهِ.. بَشِّرْهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

صِفَةُ هَؤُلَاءِ الصَّابِرِينَ: أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ، وَسُلِبَتْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ سَبَقَ أَنْ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ حُرِمُوا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِمِثْلِهَا عَلَى عِبَادِهِ.. صِفَتُهُمْ -حِينَئِذٍ- أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ مَمْلُوكَةٌ للهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مَمْلُوكُونَ للهِ، وَهُمْ عِبَادُهُ، وَمَصِيرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَالِكِهِمْ، وَمَصِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَالِكِهَا، فَعَلَامَ الْحُزْنُ وَالْأَسَى؟!! وَلِمَ الِاعْتِرَاضُ وَالتَّسَخُّطُ؟!!

وَحِينَمَا يَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّابِرُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ يَقُولُونَ: إِنَّا عَبِيدٌ وَمِلْكٌ للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ وَحْدَهُ صَائِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِينَا عَلَى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى قَضَائِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا دَفْعُهَا.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ؛ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)).

وَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَاعِدَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، لَا السَّعَادَةُ وَالرَّخَاءُ؛ غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُهَوِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمُصِيبَةَ عَلَى الْمُصَابِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ هُوَ الذِّرْوَةَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ الْخَلْقَ، وَأَنَّهُ مَهْمَا يُصَبْ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ؛ فَإِنَّ فَوْقَهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى.

*وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَعَلُّمِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ: قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ عُقُوبَتِهِ الْبَلِيغَةِ بِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَقَالَ: {وَمَن يَعْشُ}؛ أَيْ: يُعْرِضْ وَيَصُدَّ.

{عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ، فَمَنْ قَبِلَهَا؛ فَقَدْ قَبِلَ خَيْرَ الْمَوَاهِبِ، وَفَازَ بِأَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَرَدَّهَا؛ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ خَسَارَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَقَيَّضَ لَهُ الرَّحْمَنُ شَيْطَانًا مَرِيدًا يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ، وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيَؤُزُّهُ إِلَى الْمَعَاصِي أَزًّا)) ، وَمِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ: أَنْ جَعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ)).

*وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ بَعْدَ ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَوَهَنِ الْعَقِيدَةِ فِي قُلُوبِ الْمُنْتَحِرِينَ: الضُّغُوطُ النَّفْسِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَرُبَّمَا الْيَأْسُ مِنَ الشِّفَاءِ مِنْ مَرَضٍ عُضَالٍ، أَوْ وُقُوعِ ظُلْمٍ شَدِيدٍ عَلَى الْمَرْءِ؛ وَكَمَا سَلَفَ: مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ جَمِيعًا دُونَ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْتَحِرَ انْتِحَارًا؛ بِمَعْنَى: خَلَاصًا مِنَ الْمَصَائِبِ؛ مِنْ ضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ، مِنْ مَرَضٍ أَلَمَّ بِهِ؛ حَتَّى صَارَ مَرَضًا مُزْمِنًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الِانْتِحَارُ لِلْخَلَاصِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمُورِ بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ.

*وَمِنْ أَسْبَابِ الِانْتِحَارِ فِي هَذَا الْعَصْرِ: الْقُدْوَةُ السَّيِّئَةُ، وَالتَّقْلِيدُ الْأَعْمَى لِلْغَرْبِ الْكَافِرِ، وَمِنْ ذَلِكَ: التَّخَلُّصُ مِنَ الْمَشَاكِلِ الشَّخْصِيَّةِ بِإِزْهَاقِ النَّفْسِ وَقَتْلِ الرُّوحِ، قَالَ الشَّيْخُ حَافِظٌ الْحَكَمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-:

وَ لَا نُصـِيْخُ لِعَصْرِيٍّ يَفُوْهُ بِمَـا ::: يُنَاقِـضُ الشَّـرْعَ أوْ إيَّـاهُ يَعْتَقِـدُ

يَرَى الطَّبيِعَةَ في الأَشْيَا مُؤثِّرَةً ::: أَيْنَ الطَّبِيعَةُ يَا مَخْذُولُ إِذْ وُجِدُوا؟‍‍‍‍‍‍‍

وَمَا مَجَلَّاتُهُمْ وِرْدِي وَلَا صَدَرِي ::: وَمَا لِمُعْتَنِقِيهَا في الفَلاَحِ يَدُ

إِذْ يُدْخِلُونَ بِهَا عَادَاتِهِمْ وَسَجَا ::: يَاهُمْ وحُكْمَ طَوَاغِيتٍ لَهُمْ طَرَدوا

مُحَسِّنِينَ لَهَا كَيْمَا تَرُوجُ عَلَى ::: عُمْيِ الْبَصَائِرِ مِمَّن فَاتَهُ الرَّشَدُ

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ أَضْحَى زَنَادِقَةٌ ::: كَثِيرُهُمْ لِسَبِيلِ الغَيِّ قَدْ قَصَدُوا

يَرَوْنَ أَنْ تَبْرُزَ الأُنْثَى بِزِينَتِهَا ::: وَبَيْعَهَا الْبُضْعَ تَأْجِيلًا وَتَنْتَقِدُ

يَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِالإِفْرِنْجِ قَدْ شُغِفُوا = بِهِمْ تَزَيَّوْا وَفي زَيِّ التُّقى زَهِدُوا

إِنَّهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ؛ كَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ الْفِرِنْجَةِ، فَقَدْ فُتِنُوا بِهِمْ، وَأَمْعَنُوا فِي مُحَاكَاتِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي أَزْيَائِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، تَارِكِينَ لِبَاسَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا فِيهِ مِنْ سِتْرٍ وَوَقَارٍ، وَمُتَجَاهِلِينَ نَهْيَ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ مُحَاكَاةِ الْكُفَّارِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَالتَّشْدِيدَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ ﷺ: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)). ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا فِي «الصَّحِيحِ».

وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ تَبْدُو يَسِيرَةً؛ وَلَكِنَّهَا فِي النِّهَايَةِ تُذِيبُ الْأُمَّةَ، وَتُذِيبُ مَبَادِئَهَا وَقِيَمَهَا فِي بَوْتَقَةِ أَعْدَائِهَا، وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّهَا تَفْقِدُ مَنَاعَتَهَا الَّتِي إِنَّمَا تَكْتَسِبُهَا مِنْ دِينِهَا الَّذِي أَرْسَى قِيَمَهَا وَمُثُلَهَا، وَمَا أَكْثَرَ مَا انْهَارَتِ الْقِيَمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ، وَصَارَ النَّاسُ فِي انْهِيَارٍ أَخْلَاقِيٍّ عَجِيبٍ!!

نَسْأْلُ اللهَ أَنْ يُنَبِّهَنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَأَنْ يُوقِظَنَا مِنْ سُبَاتِنَا، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَبِالْعَوَائِدِ مِنْهُمْ كُلِّهَا اتَّصَفُوا

وَفِطْرَةَ اللهِ تَغْيِيرًا لَهَا اعْتَمَدُوا

إِنَّ مُحَاكَاةَ أَهْلِ الضَّلَالِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى اللِّبَاسِ وَحْدَهُ، بَلْ تَعَدَّتْهَا إِلَى سَائِرِ الْعَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللهِ، وَبِذَلِكَ غَيَّرُوا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَالْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِتَبْيِينِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَحَثَّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الشَّرْعِ، وَذَهَبَ إِلَى مَا ابْتَدَعَهُ الْكُفَّارُ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفِطْرَةِ لَا مَحَالَةَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى اخْتِلَافِ الْوَسَائِلِ، وَأَنْ يُرَكِّزَ عَلَى الْأَصْلِ، الْأَصْلُ وَاحِدٌ: أَلَّا نَنْسَاقَ سَوْقَ الْأَنْعَامِ، وَأَلَّا نُقَلِّدَ تَقْلِيدَ الْقِرَدَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ لَنَا شَخْصِيَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَأَنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ أُمَّةٌ قَائِدَةٌ وَلَيْسَتْ بِأُمَّةٍ مَقُودَةٍ، وَأَنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي تَمْلِكُ الْحَلَّ الْوَحِيدَ لِخُرُوجِ الْعَالَمِ مِمَّا هُوَ فِيهِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي قَدْ تُؤَدِّي لِلِانْتِحَارِ: إِدْمَانُ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْخَمْرِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ)).

الْخَمْرُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ ..

وَمَا فِي حُكْمِهَا كَمِثْلِهَا مِنْ تِلْكَ الْمُخَدِّرَاتِ الذَّائِعَةِ الْمُنْتَشِرَةِ بَيْنَ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ غَسِيلُ أَمْوَالٍ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّارِقِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَيُتَاجِرُونَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيُدْخِلُونَهَا إِلَى دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِإِفْسَادِ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ، وَتَدْمِيرِ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ يَعْرِفُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَرْجُو رِضَاهُ؛ حَتَّى يَصِيرَ كَعَابِدِ الْوَثَنِ، لَا يُبَالِي؛ لِأَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-، وَأَدْمَنَهَا؛ يَبِيعُ عِرْضَهُ!! يُفَرِّطُ فِي شَرَفِهِ!! لَا يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ!! لَيْسَ مَعَهُ عَقْلُهُ!!

إِنَّ الْخَمْرَ هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ؛ لِأَنَّ شَارِبَهَا يَسْعَى بِشُرْبِهَا لِإِلْحَاقِ نَفْسِهِ بِالْمَجَانِينِ، فَيَحْصُلُ نَتِيجَةً لِذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي كُلِّ حَرَامٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمَحَارِمِ، وَهِيَ تَجْلِبُ كُلَّ شَرٍّ، وَتُوقِعُ فِي كُلِّ بَلَاءٍ؛ وَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَى الْخَمْرِ (أُمُّ الْخَبَائِثِ).

إِنَّ مَنْ سَكِرَ؛ اخْتَلَّ عَقْلُهُ، فَرُبَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى أَذَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَرُبَّمَا بَلَغَ إِلَى الْقَتْلِ، وَالْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَمَنْ شَرِبَهَا؛ قَتَلَ النَّفْسَ، وَزَنَى، وَرُبَّمَا كَفَرَ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تُؤَدِّي بِالشَّابِّ إِلَى الِانْتِحَارِ: الدُّخُولُ عَلَى مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالِ كَمَوَاقِعِ الِانْتِحَارِ وَالْإِلْحَادِ، وَالْإِلْحَادُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَّةِ إِلَى الِانْتِحَارِ، وَالْإِلْحَادُ: هُوَ مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يَقُومُ عَلَى فِكْرَةٍ عَدَمِيَّةٍ أَسَاسُهَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ دُوَلِ الْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ تُعَانِي مِنْ نَزْعَةٍ إِلْحَاديةٍ عَارِمَةٍ، جَسَّدَتْهَا الشُّيُوعِيَّةُ الْمُنْهَارَةُ، وَتُجَسِّدُهَا الْعَلْمَانِيَّةُ الْمُخَادِعَةُ.

وَالْإِلْحَادُ بِدْعَةٌ جَدِيدَةٌ لَمْ تُوجَدْ فِي الْقَدِيمِ إِلَّا فِي النَّادِرِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ.

الْإِلْحَادُ -فِي هَذَا الْعَصْرِ- لَهُ مَوَاقِعُ، وَلَهُ كُتُبٌ، وَلَهُ نَشْرَاتٌ، وَلَهُ مَرَاكِزُ، وَهُمْ يَرَوِّجُونَهُ بَيْنَ الشَّبَابِ، وَالشَّبَابُ قَدْ فُرِّغَ مِنْ ثَقَافِتِهِ بَلْ فُرِّغَ مِنْ عَقِيدَتِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ عَنْ نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا صَدَّقَ أَنَّهَا مِنَ الْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْجِدَالَ، مَعَ أَنَّهَا أَوْهَامٌ فِي أَوْهَامٍ.

يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُحَصِّنَ نَفْسَكَ، ثُمَّ يَنْبَغِي عَلَيْكَ كَمُسْلِمٍ سُنِّيٍّ؛ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَنْقِذَ إِخْوَانَكَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ دَخَلَ عَلَيْهِمْ أَمْثَالَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَتَفْشَّى الْآن، بَلْ يَنْتَشِرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ كَالنَّارِ فِي الْهَشِيمِ!!

نَحْنَ فِي هَذَا الْعَصْرِ نَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَنْفُسِنَا؛ فَلِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَثْبُتُوا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي فَطَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِمَنْ انْحَرَفَ عَنِ الْقَصْدِ فَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ الشًّبُهَاتُ حَتَّى وَقَعَ في شُبْهَةٍ مِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُخْرِجُهُ مِنَ الْجَادَّةِ إِلَى الْإِلْحَادِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

هَذَا نَحْتَاجُهُ، بَلْ نَحْتَاجُهُ احْتِيَاجًا ضَرُورِيًّا فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَسْمَعُ عَنْهُمْ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تُنْقَلُ إِلَيْهِ شُبُهاتُهُمْ، وَكُلُّهَا فَارِغَةٌ لَيْسَتْ لَهَا قِيمَةٌ، وَهِيَ قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ بِحَدِيثَةٍ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُم رُبَّمَا أَلْحَدَ بِسَبَبِ أُمُورٍ غَرِيبَةٍ.

أُمُورٌ يَسِيرَةٌ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبوَّةِ أَنْ يَحْذِقَهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ أَنْ يَقِفَ فِي وَجْهِ هَذِهِ الْهَجْمَةِ الْإِلْحَادِيَّةِ الَّتِي تَتَعَرَّضُ لَهَا الدُّولُ الْإِسْلَامِيَّةُ، يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُسْلِمُونَ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَبِالْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ فِي الْمَعْلُومَاتِ صَارَ هَذَا وَاصِلًا إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي مَكْمَنِهِ.. فِي خِدْرِهِ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ الْحَقِّ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.

فَالْمُسْلِمُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا مَنْ يَنْطِقُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيُلْقُونَهَا فِي أَسْمَاعِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ أنْ يَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ.

 ((سُبُلُ الْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا الْخَبَائِثَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهَا مَا يَضُرُّهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّقِيضَانِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شِفَاءَنَا فِي الطَّيِّبَاتِ؛ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمَرْعِيَّةِ.

 أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ؛ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ؛ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

إِنَّ سُبُلَ الْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ تَكُونُ سُبُلًا شَرْعِيَّةً دِينِيَّةً، وَتَرْبَوِيَّةً، وَنَفْسِيَّةً، وَاجْتِمَاعِيَّةً..

((سُبُلُ الْوِقَايَةِ الشَّرْعِيَّةُ مِنَ الِانْتِحَارِ))

*مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ الْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: سَبِيلُ الْوِقَايَةِ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، وَأَوَّلُ سَبِيلٍ لِلْوِقَايَةِ مِنْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُدَمِّرَةِ: الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالرُّجُوعُ لِلْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ فِي مُعَالَجَةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ.

فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ العِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا؛ فَإِنَّ المَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا المُنْحَرِفُونَ، وَلَا المُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ المُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا.

مِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: مَعْرِفَةُ الْغَايَةِ الَّتِي خَلَقَنَا اللهُ لِأَجْلِهَا؛ فَإِنَّ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذُرِّيَّتِهِ هِيَ: عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].

قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].

بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.

وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.

وَمِنَ الْعِلَاجَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِلِانْتِحَارِ: تَعْلِيمُ الشَّبَابِ التَّوْحِيدَ، وَغَرْسُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ.. الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.

إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

وَلِلتَّوْحِيدِ فَضَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ مِنْهَا: أَنَّ التَّوْحِيدَ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وَالْأَمْنُ:  طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ، وَزَوَالُ الْخَوْفِ.

{وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: مُوَفَّقُونَ لِلسَّيْرِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ثَابِتُونَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا ثَمَرَاتُ التَّوْحِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَالْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالْأَمْنُ النَّفْسِيُّ، وَالشُّعُورُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْحَيَاةُ السَّعِيدَةُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقَلَقِ وَالشَّقَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ النَّيِّرَةِ، وَالرَّوْضَاتِ الْمُونِقَةِ؛ يُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْنًا نَفْسِيًّا، وَسَوَاءً عَقْلِيًّا، وَشُعُورًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ؛ يَحْسُدُهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ.

كَمَا قَالَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ: ((إِنَّهُ لَتَأْتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ -يَعْنِي مِنْ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلَجْئِهِ إِلَيْهِ، وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا يَجِدُ كِفَاءَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ وجَسَدِهِ- يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَأْتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ أَقُولُ: لَوْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ)).

فَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا الْأَمْرُ؛ {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.

فَالْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.

وَمِنَ الطُّرُقِ النَّاجِعَةِ لِلْوِقَايَةِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ -الِانْتِحَارِ-: غَرْسُ عَقِيدَةِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي قُلُوبِ الشَّبَابِ وَنُفُوسِهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ: الْإِيمَانُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَنَعِيمِهِ، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ، وَكُلِّ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْرِ.

وَالَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْرِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ الْبَعْثُ، وَالنَّشْرُ، وَالْحَشْرُ، وَالْحِسَابُ، وَوَزْنُ الْأَعْمَالِ، وَالصِّرَاطُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ.

وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ: وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى حِينَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، حُفَاةً غَيْرَ مُنْتَعِلِينَ، عُرَاةً غَيْرَ مُسْتَتِرِينَ، غُرْلًا غَيْرَ مُخْتَتَنِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].

الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ: يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى عَمَلِهِ، وَيُجَازَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} [الغاشية: 25- 26].

الثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُمَا الْمَآلُ الْأَبَدِيُّ لِلْخَلْقِ، فَالْجَنَّةُ دَارُ النَّعِيمِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَقَامُوا بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ: «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7- 8].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

وَأَمَّا النَّارُ؛ فَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].

وَلِلْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ، مِنْهَا:

الْأُولَى: الرَّغْبَةُ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا؛ رَجَاءً لِثَوَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

الثَّانِيَةُ: الرَّهْبَةُ مِنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَالرِّضَا بِهَا؛ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ مَا أَعَدَّ اللهُ -تَعَالَى- لِلطَّائِعِينَ، وَبِتَفَاصِيلِ مَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُجْرِمِينَ الْمُنَافِقِينَ الْعَاصِينَ الْمُكَذِّبِينَ، كُلَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمَعْصِيَاتِ.

الثَّالِثَةُ: تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِ عَمَّا يَفُوتُهُ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا.

يَزْدَادُ إِيمَانًا بِرَبِّهِ، وَبِحِكْمَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ تَحَلُّلِهَا وَذَهَابِهَا، فَيُعِيدُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَبْعَثُ الْخَلْقَ، يَقُومُونَ كَمَا كَانُوا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] حُفَاةً عُرَاةً، غُرْلًا غَيْرَ مَخْتُونِينَ، يَقُومُونَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَيْضًا فِيهِ: الْإِيمَانُ بِعَدْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَضَايَا الْمُعَلَّقَةَ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، وَمَا أَكْثَرَ الْمَظَالِمَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي لَا يُفْصَلُ فِيهَا!

فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَمُوتُونَ فَيَذْهَبُونَ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَلَا يُبْعَثُونَ، وَلَا يَقُومُونَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ كَانَ هَذَا ظُلْمًا بَيِّنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُفَصْلُ، وَلَا تُفْصَلُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَتَظَلُّ مُعَلَّقَةً، وَيَذْهَبُ صَاحِبُ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ لَا يَحْصُلُ عَلَى حَقِّهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ.

وَأَيْضًا فِيهِ -يَعْنِي فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلطَّائِعِينَ وَالْعَاصِينَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ فِي الْإِيمَانِ بِذَلِكَ-: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ وَقَّافًا عِنْدَ حُدُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُسَارِعًا فِي الْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمِنَ الْعِقَابَ أَسَاءَ الْأَدَبَ، فَإِذَا كَانَ دَائِمًا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنْهُ عَلَى ذُكْرٍ وَعَلَى بَالٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا أَطَاعَهُ الْعَبْدُ أَثَابَهُ، وَإِذَا عَصَى رَبَّهُ عَاقَبَهُ، فَجَعَلَ الْعِقَابَ دَائِمًا حَاضِرًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الثَّوَابُ حَاضِرًا؛ فَإِنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَيَبْتَعِدُ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ رَجَاءَ ثَوَابِ رَبِّهِ، وَحِرْصًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ وِقَايَةً لَهُ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ لِلْعَاصِينَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: غَرْسُ عَقِيدَةِ الْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي نُفُوسِ الشَّبَابِ، وَ الْقَدَرُ هُوَ تَقْدِيرُ اللهِ -تَعَالَى- لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ حُدُوثِهَا تَقْدِيرًا يُوَافِقُ عِلْمَهُ وَكِتَابَتَهُ كَمًّا، وَكَيْفًا، وَزَمَانًا، وَمَكَانًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَلِمَ بِكُلِّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَزَلًا وَأَبَدًا؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ أَوْ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ.

فَتُؤْمِنُ بِعِلْمِ اللهِ الْمُحِيطِ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ.

الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ كَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ», عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».

الثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ -تَعَالَى-؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ، أَمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وَقَالَ: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}  [آل عمران: 6]، وَقَالَ -تَعَالَى- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]، وَقَالَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

الرَّابِعُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِذَوَاتِهَا، وَصِفَاتِهَا، وَحَرَكَاتِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وَقَالَ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

فَهَذِهِ هِيَ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي لَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ إِلَّا إِذَا آمَنَ بِهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ لِلْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ مَجْمُوعَةٌ فِي:

عِلْمٌ كِتَابَةُ مَوْلَانَا مَشِيئَتُهُ




وَخَلْقُهُ، وَهْوَ إِيجَادٌ، وَتَكْوِينُ([11])


إِذَا آمَنْتَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ إِيمَانًا صَحِيحًا؛ كُنْتَ مُؤْمِنًا بِالْقَدَرِ إِيمَانًا صَحِيحًا، وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ الْإِيمَانُ بِهَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ فِي أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَقُدْرَةٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْوَاقِعَ دَالَّانِ عَلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ لَهُ.

وَهَذَا مُهِمٌّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَصَوَّرُونَ -مَثَلًا- أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا عَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، فَكَتَبَ؛ أَنَّ ذَلِكَ يَعْنِي الْجَبْرَ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُجْبِرُ الْعِبَادَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْهُمْ مَا يَأْتِي؛ حَتَّى مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْعِصْيَانِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ مَشِيئَةٌ فِي فِعْلِ شَيْءِ!!

وَلِلْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ ثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ، مِنْهَا:

الْأُولَى: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- عِنْدَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ بِحَيْثُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى السَّبَبِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللهِ -تَعَالَى-.

الثَّانِيَةُ: أَلَّا يُعْجَبَ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ حُصُولِ مُرَادِهِ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- بِمَا قَدَّرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاحِ، وَإِعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ يُنْسِيهِ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ.

الثَّالِثَةُ: الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ النَّفْسِيَّةُ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ أَقْدَارِ اللهِ -تَعَالَى-، فَلَا يَقْلَقُ بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22- 23].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالْمُؤْمِنُ يَرَى ذَلِكَ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَيَبُوءُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ شَاكِرًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ اسْتَغْفَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ.

وَإِنَّمَا يُذْكَرُ الْقَدَرُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، لَا يُذْكَرُ الْقَدَرُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ.

أَمَّا عِنْدَ الذَّنْبِ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالْإِنَابَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُذْكَرُ الْقَدَرُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، يَحْتَجُّ الْعَبْدُ بِالْقَدَرِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي الْمَعَاصِي، هَذَا لَيْسَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَكِنْ يُذْكَرُ الْقَدَرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22- 23].

فَإِذَا وقَعَ عَلَى الْعَبْدِ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَقْدَارِ غَيْرِ الْمُوَاتِيَةِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْزَعُ إِلَى رَبِّهِ حَامِدًا، وَشَاكِرًا، وَمُنِيبًا، وَمُخْبِتًا، وَخَاشِعًا، وَيَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعَوِّضَهُ خَيْرًا فِيمَا أَصَابَهُ بِهِ، وَأَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَقِّ.

فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عِلَاجٌ وَدَوَاءٌ لِكُلِّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ؛ بِمَرَضٍ، بِأَزْمَةٍ، بِفَقْرٍ، بِظُلْمٍ شَدِيدٍ وَقَعَ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الْوَاقِيَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: تَعْلِيمُ الشَّبَابِ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، مَعَ ضَرُورَةِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَغَرْسُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، وَالتَّوَكُّلُ: هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ سِوَاهُ.

التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- كِفَايَةً وَحَسَبًا فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ, وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَعَلَامَاتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ فِي اعْتِمَادِهِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ كَفَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أَيْ: كَافِيهِ، ثُمَّ طَمْأَنَ الْمُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3], فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ.

فَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: أَنْ يَعْتَمِدَ الْعَبْدُ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اعْتِمَادًا صَادِقًا فِي مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، مَعَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ الْمَأْذُونِ فِيهَا, هَذِهِ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ.

وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ؛ فَذَلِكَ طَعْنٌ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَتْ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ.

فَالتَّوَكُّلُ اعْتِقَادٌ وَاعْتِمَادٌ وَعَمَلٌ؛ تَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ كَافِيكَ وَرَاعِيكَ، وَأَنَّهُ كَالِئُكَ، فَهَذَا اعْتِقَادٌ, وَاعْتِمَادٌ: بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَعَمَلٌ؛ أَيْ: أَخْذٌ بِالْأَسْبَابِ.

التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شُؤُونِ الْحَيَاةِ؛ بَيْدَ أَنَّ هُنَاكَ مَوَاطِنَ كَثِيرَةً وَرَدَ فِيهَا الْحَضُّ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالْأَمْرُ بِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ:

*إِذَا وَصَلَتْ قَوَافِلُ الْقَضَاءِ؛ فَاسْتَقْبِلْهَا بِالتَّوَكُّلِ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

*وَإِذَا نَصَبَتِ الْأَعْدَاءُ حِبَالَاتِ الْمَكْرِ؛ فَادْخُلْ أَنْتَ فِي أَرْضِ التَّوَكُّلِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71].

*إِذَا خَشِيتَ بَأْسَ أَعْدَاءِ اللهِ وَالشَّيْطَانِ وَالْغَدَّارِ وَالْمَكَّارِ؛ فَلَا تَلْتَجِئْ إِلَّا إِلَى بَابِ اللهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].

*إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَكِيلَكَ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَتَمَسَّكْ بِالتَّوَكُّلِ فِي كُلِّ حَالٍ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

وَمِنْ وَسَائِلِ الْوِقَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا، وَمَعْرِفَةُ الْقَاعِدَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ قَاعِدَةُ الِابْتِلَاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ خَلَقَهُ لِيَبْتَلِيَهُ، لَمْ يَخْلُقْهُ لِيُنَعِّمَهُ، قَالَ: خَلَقْتُكَ؛ وَاللهُ -تَب- يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، هُوَ الْخَالِقُ، هَلْ تَعْتَرِضُ عَلَى خَالِقِكَ؟!! هُوَ خَلَقَكَ، وَعَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَقَالَ: أُكَلِّفُكَ؛ فَإِنْ أَطَعْتَ فَلَكَ الْجَنَّةُ، وَفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَتَجِدُ فِيهَا مَا تَجِدُ مِنْ أَلْوَانِ الْمَلَذَّاتِ، وَأَنْتَ بَاقٍ فِيهَا أَبَدَ الْأَبِيدِ، لَا تَفْنَى وَلَا تَبِيدُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الَّذِي قَضَاهُ مِنْ عُمُرِهِ فِي الْمُعَانَاةِ شَيْئًا بِجِوَارِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ.

وَفِي الْمُقَابِلِ: إِنْ لَمْ تَسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ، وَتَلْتَزِمْ بِالْأَمْرِ، وَتَجْتَنِبِ النَّهْيَ؛ فَإِنِّي أُدْخِلُكَ النَّارَ جَزَاءً لِمَعْصِيَتِكَ؛ لِأَنِّي خَلَقْتُكَ، وَأَنَا الَّذِي رَزَقْتُكَ، وَأَنَا الَّذِي أُدَبِّرُ أَمْرَكَ، وَأَنَا الَّذِي أُكَلِّفُكَ؛ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُطِيعَنِي، وَقَدْ وَعَدْتُكَ بِالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ إِذَا أَطَعْتَنِي، أَيْضًا أُوعِدُكَ بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِذَا عَصَيْتَنِي.

فَاللهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَبْتَلِيَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ نَفْهَمَ هَذَا، لَمْ يَخْلُقْنَا اللهُ لِيُنَعِّمَنَا، لَوْ فَهِمْتَ هَذَا ارْتَحْتَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَحْدُثُ لَهُمُ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ تَحْدُثَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْوُجُودِ مِنَ الْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالْكَمَدِ وَالنَّكَدِ وَالْمَرَضِ وَفَقْدِ الْأَحِبَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، لَا بُدَّ أَنْ تَحْدُثَ لِلْإِنْسَانِ، وَهَلْ وَجَدْتَ إِنْسَانًا مُبَرَّأً مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا؟!

لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ نَصِيبَهُ، قَدْ تَتَنَوَّعُ تِلْكَ الْمَصَائِبُ؛ وَلَكِنَّهَا فِي النِّهَايَةِ مِنَ ابْتِلَاءِ اللهِ -تَب- لِلْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ.

فَهَذَا الْأَمْرُ إِذَا مَا أَيْقَنَّا بِهِ ارْتَحْنَا؛ أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْنَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَعِّمَنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، بَلْ خَلَقَنَا فِي كَبَدٍ، فِي نَصَبٍ، فِي تَعَبٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْتَبِرَنَا، فَمَنْ أَحْسَنَ فَلَهُ الْحُسْنَى، وَمَنْ أَسَاءَ فَلَهُ السُّوأَى، وَهَذِهِ حِكْمَةُ الْخَلْقِ الْإِنْسَانِيِّ فِي هَذَا الْوُجُودِ.

إِذَنْ، هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءٍ، هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ اخْتِبَارٌ، وهَذَا الِاخْتِبَارُ لَهُ يَوْمٌ تُعْلَنُ فِيهِ النَّتَائِجُ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]، فِي يَوْمِ الدِّينِ يَجْمَعُ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَيُعْرَضُونَ جَمِيعًا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ، وَتُبْحَثُ الدَّوَافِعُ، وَيُنْظَرُ فِيمَا كَانَ فِي الْقُلُوبِ، وَيَبْدَأُ الْحِسَابُ -وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ- بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ وَمَا هُوَ أَدْنَى، وَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَلَمْ يُظْلَمْ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ رَبَّهُ مُسِيئًا فَهُوَ الَّذِي أَسَاءَ.

وَمِنَ السُّبُلِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَظِيمَةِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ رَغْبَةِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْحَيَاةِ: التَّرْغِيبُ فِي الْجَنَّةِ، وَالتَّرْهِيبُ مِنَ النَّارِ؛ فَالنَّاسُ لَوْ عَرَفُوا الْجَنَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ مَا نَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةً، لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا مُشْتَاقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((وَاهًا لَكِ يَا رِيحَ الْجَنَّةِ، إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ)) ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْكَسْرَةُ كَانَتْ حَاضِرَةً، فَلَمَّا جَاءَهُ رُمْحٌ غَادِرٌ، فَانْتَظَمَ حَبَّةَ قَلْبِهِ، فَانْفَجَرَتِ الدِّمَاءُ مِنْ أَمَامَ كَالنَّافُورَةِ؛ كَانَ يَحْفِنُهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!)) ؛ لِأَنَّهَا انْتِقَالَةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ؛ مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ وَنِعْمَ الْقَرَارُ، لَا مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.

لَوْ عَرَفَ النَّاسُ النَّارَ؛ مَا رَقَأَ لَهُمْ جَفْنٌ مِنْ دَمْعٍ، وَمَا اسْتَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنْبٌ عَلَى فِرَاشٍ!!

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللهِ؛ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ وَلَمْ يُحَصِّلْهُ، وَلَا يَخَافُ رَبَّهُ فِي طَلَبِهِ، وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ؛ هَذَا تَبْقَى نَفْسُهُ طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ، وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ عَنْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ وَبِهِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ حِينَئِذٍ؛ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-.

الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ؛ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَأَمَّا إِذَا خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ؛ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، كَمَا قَالَ اللهُ.

وَمِنَ الطُّرُقِ الْوِقَائِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: نَشْرُ حُكْمِ الِانْتِحَارِ، وَبَيَانُ شِدَّةِ عُقُوبَتِهِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ؛ كَقَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195].

وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا؛ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».

وَقَوْلِهِ ﷺ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».

((سُبُلُ الْوِقَايَةِ التَّرْبَوِيَّةُ مِنَ الِانْتِحَارِ))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ السُّبُلِ الَّتِي تَقِي الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مِنَ الِانْزِلَاقِ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْخَطِيرَةِ؛ كَالِانْتِحَارِ وَالْإِلْحَادِ وَغَيْرِهِمَا: السُّبُلَ التَّرْبَوِيَّةَ؛ بِالتَّرْبِيَةِ عَلَى الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ؛ فَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ -عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).

إِنَّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَبْنَاءِ:

*تَعْلِيمَهُمُ الْفُرُوضَ الْعَيْنِيَّةَ.

*تَأْدِيبَهُمْ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَكَانَ الصِّغَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، وَيَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِ الْكِبَارِ بِأَدَبٍ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا)).

فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي؛ قُلْتُ: يَا أَبَتِ! وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ.

قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا؛ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا لَمْ أَرَكَ وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.

الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))

*إِنَّ تَرْبِيَةَ الْأَبْنَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ الِاهْتِمَامِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَلْبَسِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الِاهْتِمَامُ بِالتَّرْبِيَةِ الرُّوحِيَّةِ الْقَلْبِيَّةِ؛ وَأَعْظَمُ سُبُلِ التَّرْبِيَةِ الرُّوحِيَّةِ لِلطِّفْلِ وَالشَّابِّ: تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَلُزُومُ ذِكْرِ اللهِ؛ فَالْبُيُوتُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُنِيرَةً بِآيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ بِقُرْآنِ الرَّحْمَنِ، لَا بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ!!

لَقَدْ كَانَتْ أَبْيَاتُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ -لِمَنْ سَارَ فِي طُرُقَاتِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ-؛ كَانَتْ تِلْكَ الْأَبْيَاتُ -أَبْيَاتُ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-- لَهَا بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

فَلْنُوَجِّهْ أَهْلِينَا وَلْنُوَجِّهْ أَنْفُسَنَا إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ إِلَّا بِتَرْكِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لِلنَّفْسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

إِنَّنَا نُقِيتُ أَهْلِينَا بِمَا تَقُومُ بِهِ أَجْسَادُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُقِيتَ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِمَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، يَسْتَمِدُّونَ الْحَيَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

أَلَا فَلْنُوَجِّهْهُمْ بَعْدَ أَنْ نُوَجِّهَ أَنْفُسَنَا إِلَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ قَسْوَةً لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتْ عَلَيْنَا الْأَوَامِرُ، وَعَظُمَتْ عَلَيْنَا النَّوَاهِي؛ فَيَنْبَغِي أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ الْأَصِيلِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيُّ النَّبِيلُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ -سَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَت عَلَيَّ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ.

كَثُرَتْ عَلَيَّ الشَّرَائِعُ، عَظُمَتْ عَلَيَّ الْأُمُورُ، صِرْتُ فِي حَيْرَةٍ حَائِرَةٍ، وَصِرْتُ فِي بَلْبَلَةٍ كَائِنَةٍ، ((دُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ)): ضَعْ يَدِي عَلَى ذَلِكَ الْمَعْلَمِ الْأَصِيلِ بِرَايَةِ التَّوْحِيدِ أَرْفَعُهَا، دُلَّنِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَكَانَ قَدْ دَلَّهُ، فَدَلَّهُ عَلَى الْمَعْلَمِ الْأَكْبَرِ فِيهِ، فَقَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

فِي الْقَلْبِ يُبُوسَةٌ، وَفِي الرُّوحِ قَسَاوَةٌ لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ.

أَلَا إِنَّ الذَّاكِرِينَ رَبَّهُمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ سَكِينَةً وَاطْمِئْنَانًا، وَإِخْبَاتًا وَإِنَابَةً وَخُشُوعًا، سَكِينَةً عِنْدَ نُزُولِ الْمِحَنِ، وَتَثَبُّتًا وَتَرَيُّثًا عِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْقَوْا مَقَادَةَ الْقَلْبِ لِلشَّرْعِ يُصَرِّفُهَا كَمَا يَشَاءُ فِي: ((قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ))، فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

وَمَنْ أَخَذَ بِالْوَحْيِ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ لَا يَزِلُّ.

وَمِنَ الْعِلَاجَاتِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّاجِعَةِ الْوَاقِيَةِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْخَطِيرِ: تَعْوِيدُ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ وَتَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}؛ أَيْ: يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ, وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ, وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأَنْصَارِ: ((إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً -أَيْ: اسْتِئْثَارًا بِالْمَالِ وَالدُّنْيَا وَالْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ- إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً؛ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ التَّرْبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الِاكْتِئَابِ وَالرَّغْبَةِ فِي الِانْتِحَارِ: التَّرْبِيَةُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ, وَاضْرِبُوهُم عَلَيْهَا لِعَشْرٍ, وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ)).

وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا النَّارَ، وَوَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِبَعْضِ صِفَاتِهَا، كَمَا وَصَفَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَحَذَّرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ وُرُودُ النَّارِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَادَانَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ؛ لَكِيْ يَكُونَ ذَلِكَ حَافِزًا لَنَا عَلَى إِلْقَاءِ سَمْعِ الْقَلْبِ لِمَا يَأْمُرُنَا بِهِ وَمَا يَنْهَانَا عَنْهُ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يَا مَنْ أَعْلَنْتُمْ إِيمَانَكُمْ بِرَبِّكِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، فَآمَنْتُمْ بِهِ وَبِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابٍ، وَبِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ؛ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا؛ فَاسْمَعُوا وَعُوا، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاجْتَنِبُوا مَسَاخِطَهُ.

{قُوا أَنفُسَكُمْ}: اجْعَلُوا بَيْنَ أَنْفُسِكُمْ وَبَيْنَ نَارِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِقَايَةً وَجُنَّةً، {وَأَهْلِيكُمْ}: فَإِنَّكُمْ رُعَاةٌ فِيهِمْ، وَكُلُّ رَاعٍ فِي رَعِيَّةٍ هُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

عِبَادَ اللهِ! عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ دِينَ رَبِّهِمْ: عَقِيدَتَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمُعَامَلَتَهُ، وَأَخْلَاقَهُ، وَسُلُوكَهُ؛ لِيَفُوزُوا بِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا.

تَعَلَّمُوا أُصُولَ الِاعْتِقَادِ وَعَلِّمُوهَا، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي يُوَرِّطُ الْخَلْقَ فِي النَّارِ تَوَرُّطًا، وَاللهُ لَا يَغْفِرُهُ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النِّسَاء: 48].

عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَنْذِرُوا للهِ إِنْ نَذَرُوا.

عَلِّمُوهُمْ أَلَّا يَذْبَحُوا إِلَّا للهِ، وَأَلَّا يَتَوَكَّلُوا إِلَّا عَلَى اللهِ، أَلَّا يُحِبُّوا إِلَّا فِي اللهِ، وَأَلَّا يُبْغِضُوا إِلَّا فِي اللهِ.

عَلِّمُوهُمْ أَسْمَاءَ اللهِ وَصِفَاتِهِ.

دُلُّوهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحَقِيقَةِ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، ألَّا يَكُونُوا مُرْجِئَةً، وَأَلَّا يَكُونُوا خَوَارِجَ؛ فَيَخْسَرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.

عَلِّمُوهُمُ الْحَقَّ الْحَقِيقَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ؛ وَإِلَّا صَارُوا مُتَوَاكِلِينَ، لَا يَنْهَضُونَ لِهِمَّةٍ، وَلَا يَأْتُونَ بِعَزْمٍ فِي مُلِمَّةٍ.

عَلِّمُوهُمُ الْوَاجِبَ تِجَاهَ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِﷺ، وَأَلَّا يَكُونُوا رَافِضَةً، وَأَلَّا يَكُونُوا نَاصِبَةً؛ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

عَلِّمُوهُمُ الْحَقَّ الْحَقِيقَ في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى يُجَانِبُوا الشِّيعَةَ الرَّوَافِضَ الْمَلَاعِينَ فِي سَبِّهِمْ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِﷺ، وَفِي تَكْفِيرِهِمْ لَهُمْ، وَفِي رَمْيِهِمْ بِالْخِيَانَةِ لِلدِّينِ، وَارْتِدَادِهِمْ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؛ حَتَّى لَا يَنْجُمَ فِي بَيْتِكَ مَنْ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا، وَهَؤُلَاءِ نَتَقَارَبُ مَعَهُمْ!!

عَلِّمُوهُمُ الْحَقَّ الْحَقِيقَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

عَلِّمُوهُمْ أَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا- نَظْرَةَ السُّوءِ؛ فَيَرَوْهُ مُفَكَّكًا لَا يَتَمَاسَكُ كَمَا يَزْعُمُ الْعَلْمَانِيُّونَ وَالْمُسْتَشْرِقُونَ، وَكَمَا يَزْعُمُ الْمُكَفِّرُونَ الْمُنَصِّرُونَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَكَثِيرًا.

عَلِّمُوهُمْ حَقَّ رَسُولِ اللهِ، وَعَرِّفُوهُمْ بِهِ.

فَمَا وَقَيْتَهُ النَّارَ، وَأَسَأْتَ، وَتَعَدَّيْتَ، وَظَلَمْتَ! وَلَمْ تَرْعَ فِيهِ أَمَانَةَ اللهِ!

عَلِّمْهُ دِينَ اللهِ، وَدِينُ اللهِ لَا فُرْقَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِﷺ.

 ((سُبُلُ الْوِقَايَةِ النَّفْسِيَّةِ مِنَ الِانْتِحَارِ))

مِنْ أَهَمِّ السُّبُلِ الْوِقَائِيَّةِ مِنَ الِانْتِحَارِ: السُّبُلُ النَّفْسِيَّةُ.. إِنَّ السَّوَاءَ النَّفْسِيَّ أَمْرٌ عَزِيزٌ فِي الْبَشَرِ، قَدْ تَحْيَا حَيَاتَكَ كُلَّهَا لَا تَرَى رَجُلًا سَوِيًّا قَدْ حَصَّلَ السَّوَاءَ النَّفْسِيَّ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَصِّلَهُ!!

الْبَشَرُ دَائِمًا يَحْيَوْنَ فِي الْأَكَاذِيبِ، يَسْتَمْرِئُونَهَا، وَيُبْغِضُونَ الْحَقَائِقَ، وَيُبْغِضُونَ مَنْ يُوَاجِهُهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُشَارِكُ فِي صُنْعِ نَفْسِيَّتِهِ، وَفِي تَهْيِئَةِ خَلْفِيَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، كَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ؛ لَا يَنْفَرِدُ أَمْرٌ وَاحِدٌ بِتَشْكِيلِ نَفْسِيَّةِ الْمَرْءِ، وَإِنَّمَا يُشَارِكُ فِي صُنْعِ هَذِهِ النَّفْسِيَّةِ أَطْرَافٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ الْأَطْرَافُ قَدْ تَكُونُ مُتَعَارِضَةً؛ فَيَقَعُ الصِّرَاعُ النَّفْسِيُّ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي لَا تُنْظَرُ وَلَا تُحَسُّ.

السَّبَبُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُحَدِّدُ طَرِيقَهُ بِرَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ وَعَقْلٍ، وَإِنَّمَا يَجِدُ نَفْسَهُ فِي مُجْتَمَعٍ مَا؛ فِي زَمَانٍ مَا؛ فِي ظُرُوفٍ مَا؛ فِي وَقْتٍ مَا؛ عَلَى هَيْئَةٍ مَا،  خُلِقَ لِأَبَوَيْنِ لَمْ يَخْتَرْهُمَا، وَفِي ظُرُوفٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَاقْتِصَادِيَّةٍ لَمْ يُحَدِّدْهَا، ثُمَّ يَمْضِي فِي الْحَيَاةِ، وَيَظَلُّ مَاضِيًا فِيهَا عَلَى حَسَبِ النُّقْطَةِ الَّتِي بَدَأَ مِنْهَا، قَدْ تَكُونُ الْبِدَايَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، فَكُلَّمَا أَمْعَنَ وَاجْتَهَدَ فِي السَّيْرِ؛ ابْتَعَدَ عَنِ الْغَايَةِ.

وَالْأَمْرُ يَسِيرٌ.. لَوْ أَنَّنَا الْآنَ نُرِيدُ أَنْ نَقِفَ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ؛ نَتَوَجَّهُ إِلَى قِبْلَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَوْ أَخَذْنَا خَطًّا مِنَ النُّقْطَةِ الَّتِي نَقِفُ عَلَيْهَا -خَطًّا مُسْتَقِيمًا- يَصِلُ إِلَى سَوَاءِ الْكَعْبَةِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَيْنِهَا مَا دُمْنَا لَا نَرَاهَا؛ وَلَكِنْ نَتَوَجَّهُ إِلَى جِهَتِهَا.

عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لَوْ أَنَّنَا أَخَذْنَا خَطًّا مُسْتَقِيمًا مِنَ النُّقْطَةِ الَّتِي نَقِفُ فِيهَا مُهَيِّئِينَ أَنْفُسَنَا لِلصَّلَاةِ، مُتَوَجِّهِينَ إِلَى قِبْلَةِ اللهِ، وَهَذَا الْخَطُّ الْمُسْتَقِيمُ يَبْدَأُ مِنْ بَيْنِ أَرْجُلِنَا إِلَى سَوَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، فَانْحَرَفْنَا فِي بِدَايَةِ الْوُقُوفِ عَنْ هَذَا الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى سَوَاءِ الْغَايَةِ الَّتِي نَتَغَيَّاهَا؛  انْحَرَفْنَا عَنْ هَذَا الْخَطِّ دَرَجَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّرَجَاتِ الْهَنْدَسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ؛ كُلَّمَا أَمْعَنَّا فِي السَّيْرِ؛ ابْتَعَدْنَا عَنِ الْغَايَةِ.

إِذَنْ؛ الْبِدَايَةُ لَا يَتَوَقَّفُ الْمَرْءُ حِينًا يَسِيرًا لِلنَّظَرِ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ!!

قَدْ تَكُونُ بَدَأْتَ بِدَايَةً خَاطِئَةً، وُضِعْتَ فِي مَكَانٍ مَا لَمْ تُفَكِّرْ فِيهِ، وَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى عَوَاقِبِهِ وَنَتَائِجِهِ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّكَ رُبَّمَا لَا تَعْرِفُ أَحَدًا فِي هَذَا الْكَوْنِ غَيَّرَ مَسَارَ حَيَاتِهِ بَعْدَ نَظَرٍ وَفِكْرٍ ورَوِيَّةٍ، وَأَخَذَ يَتَأَمَّلُ فِي حَالِهِ وَمَآلِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَأَ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ فَغَيَّرَ مَسَارَ حَيَاتِهِ.

*الْمُعَامَلَةُ الطَّيِّبَةُ، وَأَثَرُهَا الْحَسَنُ عَلَى الصِّحَّةِ النَّفْسِيَّةِ:

انْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ كَانَ إِذَا كَانَ مُحَدِّثًا قَوْمًا؛ يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ فِي مَجْلِسِهِ أَنَّهُ يُحَدِّثُهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ يُوَزِّعُ ﷺ إِقْبَالَهُ وَنَظَرَاتِهِ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى قَدْرٍ مُسْتَقِيمٍ مُتَسَاوٍ ﷺ، فَلَا يَحْسَبُ وَاحِدٌ مِنَ الْجَالِسِينَ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، بَلْ كُلٌّ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأَخَصِّينَ.

وَإِذَا صَافَحَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ ﷺ؛ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ مُصَافِحِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلِّمُ -يَكُونَ الْمُصَافِحُ الْآخَرُ- هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمَا سُئِلَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ.

هَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْأَحَاسِيسِ؛ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتِ الْأَحَاسِيسَ الْمُهَوِّمَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَحَاسِيسُ الْمُنْضَبِطَةُ، هَذَا الدِّينُ دِينُ الْأَحَاسِيسِ الْمُنْضَبِطَةِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ النَّاسِ حَسَاسِيَةً فِي مَسْأَلَةِ -قَضِيَّةِ- الْمُعَامَلَةِ، لَمْ يَكُنْ يُحِدُّ الْبَصَرَ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، يَعْنِي: لَا يَجْعَلُ نَظَرَهُ شَاخِصًا فِي نَظَرِ مُكَلِّمِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَخْفِضُ بَصَرَهُ كَاسِرًا لَهُ أَمَامَ بَصَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَلْطَفَ النَّاسِ عِشْرَةً؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ الْأَعْرَابِيُّ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ، فَلَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ؛ هَابَهُ حَتَّى ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ -وَهِيَ تِلْكَ الْعَضَلَاتُ الدِّقَاقُ الَّتِي تَكُونُ فِي أَصْلِ الْكَتِفِ هُنَالِكَ بَيْنَ الْعُنُقِ وَبَيْنَ أَصْلِهِ مِنْ خَارِجٍ-، فَأَخَذَتْ فَرَائِسُهُ تَرْتَعِدُ، فَمَاذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ؟

قَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ». .

وَالْقَدِيدُ: اللَّحْمُ يُؤْخَذُ، يُقَدَّدُ، يُشَرَّحُ، يُشَرَّقُ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ لِلْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ: الْقُرْآنُ، وَالدُّعَاءُ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْقَرِيبَ مِنْكُمْ، الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ؛ لَهُ وَظَائِفُ كُبْرَى:

مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ وَيُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ سُلُوكٍ بَشَرِيٍّ، وَيُبَشِّرُ الْقُرْآنُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْفَوَائِدِ)): ((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ جَعَلَهُ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهِ شِفَاءً مِنَ الْأَسْقَامِ؛ سِيَّمَا أَسْقَامُ الْقُلُوبِ وَأَمْرَاضُهَا مِنْ شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ.

وَجَعَلَهُ بُشْرَى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَجَعَلَهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَصَرَّفَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)).

وَأَمَّا الدُّعَاءُ؛ فَسِلَاحٌ عَظِيمٌ لِدَفْعِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ عَنِ الْقَلْبِ؛ خَاصَّةً أَدْعِيَةُ دَفْعِ الْكَرْبِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ؛ قَالَ: ((يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)).

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ -أَوْ فِي الْكَرْبِ-؟ اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ؛ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ.

هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ؛ فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.

وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا؛ فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا، ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ؛ جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.

 ((السُّبُلُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الِانْتِحَارِ))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْجَوَانِبِ الَّتِي يَجِبُ الِاهْتِمَامُ بِهَا: الْجَانِبَ الِاجْتِمَاعِيَّ وَالْعَاطِفِيَّ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُولِي اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِهَذَا الْجَانِبِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ؛ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.

وَمِنَ الِاهْتِمَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ بِالشَّابِّ الْمُسْلِمِ: تَتَبُّعُ أَخْبَارِهِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهِ، وَالِاجْتِهَادُ لِحَلِّ مَشَاكِلِهِ؛ فَقَدْ عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابنَتَهُ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنْ يُسَبِّحَا كُلَّ لَيلَةٍ إِذَا أَخَذَا مَضَاجِعَهُمَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَيَحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَيُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ لمَّا سَأَلَتْهُ الْخَادِمَةَ, وَشَكَتْ إِلَيْهِ مَا تُقَاسِيهِ مِنَ الطَّحْنِ وَالسَّقْيِ وَالْخِدْمَةِ، فَعَلَّمَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: ((إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْجَوَانِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُهِمَّةِ: تَوْفِيرُ الِاسْتِقْرَارِ الْأُسَرِيِّ لِلشَّبَابِ؛ فَإِنَّ بَابَ عِشْرَةِ النِّسَاءِ بَابٌ عَظِيمٌ تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَطْبِيقَهُ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ تَدُومُ بِهِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْيَا بِهِ الزَّوْجَانِ حَيَاةً سَعِيدَةً.

وَلِأَنَّ تَطْبِيقَهُ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَتِ الْعِشْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ، وَإِذَا ازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ؛ ازْدَادَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ يَكُونُ الْأَوْلَادُ، فَالْمُعَاشَرَةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

وَهَذَا أَمْرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

فَأَثْبَتَ أَنَّ عَلَيْهِنَّ عِشْرَةً، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ؛ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُعَاشِرَ الْآخَرَ بِالْمَعْرُوفِ.

الْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَحْيَا حَيَاةً سَعِيدَةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً؛ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ.

وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا؛ وَإِلَّا ضَاعَتِ الْأُمُورُ، وَصَارَتِ الْحَيَاةُ شَقَاءً.

ثُمَّ هَذَا -أَيْضًا- يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ، فَالْأَوْلَادُ إِذَا رَأَوُا الْمَشَاكِلَ بَيْنَ أُمِّهِمْ وَأَبِيهِمْ؛ سَوْفَ يَتَأَلَّمُونَ وَيَنْزَعِجُونَ، وَإِذَا رَأَوُا الْأُلْفَةَ فَسَيُسَرُّونَ.

وَمِنْ أَهَمِّ الْجَوَانِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ -وَغَيْرُهُ أُسْوَتُهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي- أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُبَّادِ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.

فَوَصَفَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا.

فَأَمَرَ اللهُ بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى صُحْبَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ؛ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ؛ فَإِنَّ فِي صُحْبَتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

وَاحْبِسْ -يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ- نَفْسَكَ، صَابِرًا عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، مُصَاحِبًا وَمُلَازِمًا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ {بِالْغَدَاةِ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ {وَالْعَشِيِّ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَجْهَ اللهِ، لَا يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: ((حَسَنٌ غَرِيبٌ)), وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ)).

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ    =  فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

وَحَذَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ صَدِيقٍ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 25 - 28].

 ((نِدَاءٌ إِلَى الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ!!))

أَيُّهَا الشَّبَابُ! {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ مُوصِلًا إِلَى مَا أَحَلَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْحَرَامُ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ سُئِلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟

قَالَ: ((لَا، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ)) ، وَكَذَلِكَ لَا يَأْتِي الشَّرُّ إِلَّا بِالشَّرِّ.

((لِذَلِكَ نَقُولُ لِلشَّبَابِ الْمُسْلِمِ: حَافِظُوا عَلَى حَيَاتِكُمْ؛ بِشَرْطِ أَنْ تَدْرُسُوا دِينَكُمْ وَإِسْلَامَكُمْ، وَأَنْ تَتَعَرَّفُوا عَلَيْهِ تَعَرُّفًا صَحِيحًا، وَأَنْ تَعْمَلُوا بِهِ فِي حُدُودِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ )).

فَلَا خَلَاصَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا بِدِينِهِ..

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُمَسِّكَنَا دِينَهُ الحَقَّ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  تحذير الشباب من مشابهة الخوارج
  التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  اغْتِنَامُ الْأَوْقَاتِ وَمَخَاطِرُ إِضَاعَتِهَا
  فَضْلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَحْدَةِ صَفِّهَا
  الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ
  شَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  خَيْرِيَّةُ الْأُمَّةِ وَخَيْرِيَّةُ نَبِيِّهَا ﷺ
  التَّفَوُّقُ الْعِلْمِيُّ وَأَثَرُهُ فِي تَقَدُّمِ الْأُمَمِ
  حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان