مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ

مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ

((مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ:

إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((سُنَنُ اللهِ الْكَوْنِيَّةُ الْمُحْكَمَةُ))

فَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نِظَامًا لِلْعَالَمِ يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ،  وَسُنَنُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الْكَوْنِ ثَوَابِتُ لَا تَتَخَلَّفُ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].

وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَغْيِيرًا، بَلْ سُنَّتُهُ -تَعَالَى- وَعَادَتُهُ، جَارِيَةٌ مَعَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِأَسْبَابِهَا

قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.

وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.

صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

لَا الشَّمْسُ يَصْلُحُ لَهَا وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا أَنْ تَلْحَقَ وَتَبْلُغَ الْقَمَرَ فَتْبَتَلِعَهُ؛ لِأَنَّ ضَابِطَ الْعَدْلِ الْمُتْقَنِ بَيْنَ الْجَاذِبِيَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ يَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَطْغَى مُتَجَاوِزَةً حُدُودَهَا الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ وَقَضَاهَا.

وَلَا اللَّيْلُ يَسْبِقُ زَمَانَ حُدُوثِ النَّهَارِ وَلَا يَسْبِقُ مَكَانَ حُدُوثِهِ؛ إِذْ كُلَّمَا وُجِدَ النَّهَارُ فِي أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ انْعَدَمَ اللَّيْلُ، فَلَا يَكُونُ لِلَّيْلِ سَبْقٌ لِلنَّهَارِ لَا فِي الزَّمَانِ وَلَا فِي الْمَكَانِ، كَمَا أَنَّ الظُّلْمَةَ بِطَبِيعَتِهَا لَا تَغْلِبُ الضَّوْءَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَفَوَّقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى غِيَابِ النَّهَارِ، بَيْنَمَا يَحْدُثُ النَّهَارُ بِمُجَرَّدِ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ بِضَوْئِهَا.

وَلِكُلِّ نَجْمٍ أَوْ كَوْكَبٍ فَلَكٌ خَاصٌّ بِهِ يَسِيرُ عَلَى خَطِّهِ سَابِحًا لَا يَتَعَدَّى حُدُودَهُ، وَهُمْ جَمِيعًا يَسْبَحُونَ بِانْتِظَامٍ عَجِيبٍ دُونَ أَنْ تَتَعَارَضَ أَوْ تَتَصَادَمَ؛ {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

يُغَيِّرُ اللهُ أَحْوَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ؛ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا وَحَوْلَ الشَّمْسِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ.

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذِهِ السُّنَنَ مِيزَانًا يَضْبِطُ قَوَاعِدَ الْحَيَاةِ، وَيَتَحَقَّقُ بِهِ إِعْمَارُ الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيْهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

 وَهَذَا الْتَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.

وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيهَا الْشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَم يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْئُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ؛ فَقَالِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56].

إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أَدْرَكَتْ حَقِيقَةَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَمِلَتْ بِمُقْتَضَاهَا سَادَتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْلِمَةً؛ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-:  ((إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ، وَعَاقِبَةَ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ، وَلِهَذَا يُرْوَى: اللهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

وَأُمُورُ النَّاسِ تَسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْلِ الَّذِي فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فِي أَنْوَاعِ الْإِثْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ مَعَ الظُّلْمِ فِي الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِكْ فِي إِثْمٍ؛ لِهَذَا قِيلَ: إِنَّ اللهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَالدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ، وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ ذَنْبٌ أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ))، فَالْبَاغِي يُصْرَعُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَرْحُومًا فِي الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْلٍ قَامَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْلٍ لَمْ تَقُمْ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ)).

 ((مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ:

إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ))

لَقَدْ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا، وَ«قَانُونُ السَّبَبِيَّةِ» جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَانُونًا فِطْرِيًّا فِي كُلِّ فِطْرَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ، وَأَنْتَ تَسْتَعْمِلُ قَانُونَ السَّبَبِيَّةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ تَوْضِيحِ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ؛ أَنْتَ عِنْدَمَا تَجِدُ إِنْسَانًا فِي سَاحَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ تَجِدُهُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ؛ فَأَنْتَ لَا تَسْأَلُ، لَنْ تَقُولَ لَهُ: كَيْفَ صَعَدْتَ إِلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى الصُّعُودِ إِلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ؛ وَلَكِنْ لَوْ وَجَدْتَ حَجَرًا -جَمَادًا- فِي سَاحَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ -وَقَدْ غِبْتَ عَنْهُ- رَأَيْتَهُ فَوْقَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّكَ سَتَقُولُ: مَنِ الَّذِي صَعَدَ بِهَذَا الْحَجَرِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ؟ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْعَدَ وَحْدَهُ، فَأَنْتَ تَبْحَثُ عَنِ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

وَالْعَرَبِيُّ الَّذِي يَعِيشُ فِي الصَّحْرَاءِ يَرْعَى الْإِبِلَ، وَيَأْكُلُ الشِّيحَ وَالْقَيْصُومَ، وَيَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ!! الْتَفَتَ إِلَى قَانُونِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ الْأَوَّلُونَ بِلَا خِلَافٍ وَلَا فَرْقٍ.

قَالَ: أَثَرُ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَالْأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَسْبَابٍ وَرَاءَ مُسَبَّبَاتٍ هُوَ يَعْرِفُهَا، فَقَالَ: سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، أَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، بِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ؛ أَفَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟!!

 مَا سَبَبُ هَذَا؟!!

مَنِ السَّبَبُ فِيهِ؟!!

وَهَذَا عَرَبِيٌّ جَاهِلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَجْلِسْ أَمَامَ عَالِمٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَكَادِيمِيَّةَ أَفْلَاطُونَ وَلَا أَرِسْطُو مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا هَدَتْهُ الْفِطْرَةُ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَذَا الْقَانُونِ، وَهُوَ قَانُونُ السَّبَبِيَّةِ.

فَالْمَخْلُوقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ، وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَنَا ذَلِكَ بِأَعْذَبِ لَفْظٍ وَأَجْمَلِهِ، وَأَبْلَغِهِ وَأَفْصَحِهِ، مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْفَعُ؛ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36].

 ((التَّوَكُّلُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

وَقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وَقَالَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].

وَقَالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].

وَقَالَ لَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3].

وَقَالَ لَهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58].

وَقَالَ لَهُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12].

وَقَالَ عَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ ﷺ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الأنفال: 2].

وَالْقُرْآنُ الْمَجِيدُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ((هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتُوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) .

وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمُ الْوَكِيلُ؛ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ ﷺ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توَكَّلْتُ، وإلَيكَ أنَبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ. اللَّهُمَّ أعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إلَه إلاَّ أنْتَ، أنْ تُضِلَّنِي، أنْت الْحيُّ الَّذي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ)).

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)) .

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَالَ -يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ لِشَيْطَانٍ آخَرَ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ)).

((مَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ))

عِبَادَ اللهِ! التَّوَكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ، وَنِصْفُهُ الثَّانِي الْإِنَابَةُ؛ فَإِنَّ الدِّينَ اسْتِعَانَةٌ وَعِبَادَةٌ، فَالتَّوَكُّلُ هُوَ: الِاسْتِعْانَةُ، وَالْإِنَابَةُ هِيَ: الْعِبَادَةُ.

وَمَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ أَوْسَعُ الْمَنَازِلِ وَأَجْمَعُهَا، وَلَا تَزَالُ مَعْمُورَةً بِالنَّازِلِينَ، لِسَعَةِ مُتَعَلَّقِ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةِ حَوَائِجِ الْعَالَمِينَ، وَعُمُومِ التَّوَكُّلِ وَوُقُوعِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ.

فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -الْمُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ- فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ تَبَايَنَ مُتَعَلَّقُ تَوَكُّلِهِمْ، فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُرْضِيهِ مِنْهُمْ، وَفِي إِقَامَتِهِ فِي الْخَلْقِ، فَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الْإِيمَانِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَفِي مَحَابِّهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِقَامَةٍ فِي نَفْسِهِ، وَحِفْظٍ لِحَالِهِ مَعَ رَبِّهِ، فَارِغًا مِنَ النَّاسِ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَعْلُومٍ يُحِبُّهُ يَنَالُهُ مِنْهُ؛ مِنْ رِزْقٍ، أَوْ عَافِيَةٍ، أَوْ نَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ زَوْجَةٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا لَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَحُصُولِ الْفَوَاحِشِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَا يَنَالُونَهَا غَالِبًا إِلَّا بِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاللَّهِ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ تَوَكُّلُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَوَكُّلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ، وَلِهَذَا يُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَتَالِفِ وَالْمَهَالِكِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ وَيُظْفِرَهُمْ بِمَطَالِبِهِمْ.

فَأَفْضَلُ التَّوَكُّلِ: التَّوَكُّلُ فِي الْوَاجِبِ -يَعْنِي: وَاجِبَ الْحَقِّ، وَوَاجِبَ الْخَلْقِ، وَوَاجِبَ النَّفْسِ-، وَأَوْسَعُهُ وَأَنْفَعُهُ: التَّوَكُّلُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْخَارِجِ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، أَوْ فِي دَفْعِ مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ تَوَكُّلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَدَفْعِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا تَوَكُّلُ وُرَّاثِهِمْ.

ثُمَّ النَّاسُ بَعْدُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى حَسَبِ هِمَمِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ؛ فَمِنْهُمْ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ الْمُلْكِ، وَمِنْهُمْ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ فِي حُصُولِ رَغِيفٍ.

وَمَنْ صَدَقَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ شَيْءٍ نَالَهُ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا كَانَتْ لَهُ فِيهِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصَلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَةٍ.

((مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتُهُ))

((مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتُهُ وَمَا قِيلَ فِيهِ..

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-‏:‏ ((التَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ‏)).‏

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ‏،‏ لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ‏.‏

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ؛ فَيَقُولُ‏:‏ ((التَّوَكُّلُ: عِلْمُ الْقَلْبِ بِكِفَايَةِ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ))‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالسُّكُونِ وَخُمُودِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ‏؛ فَيَقُولُ‏:‏ ((التَّوَكُّلُ هُوَ: انْطِرَاحُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ؛ كَانْطِرَاحِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ‏))، أَوْ ((هُوَ: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَالِاسْتِرْسَالُ مَعَ مَجَارِي الْأَقْدَارِ‏)).‏

قَالَ سَهْلٌ‏:‏ ((التَّوَكُّلُ: الِاسْتِرْسَالُ مَعَ اللَّهِ عَلَى مَا يُرِيدُ‏)).‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالرِّضَا‏؛‏ فَيَقُولُ‏:‏ ((التَّوَكُّلُ: الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ))‏.‏

وَقَالَ بِشْرٌ -رَحِمَهُ اللهُ-‏:‏ ((يَقُولُ أَحَدُهُمْ‏:‏ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ‏، يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ رَضِيَ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ‏)).‏

وَسُئِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏ عَنْهُ، فَقَالَ:‏ ((مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا‏؟)).‏

 قَالَ يَحْيَى‏:‏ ((إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا‏)).‏

وَالْوَكِيلُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَعَالَى- الْحُسْنَى، وَهُوَ الْقَيِّمُ الْكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ)).

((الْوَكِيلُ: هُوَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَلَكِنَّ الْمَوْكُولَ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ نَاقِصٌ، وَإِلَى مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ الْكُلُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالْمَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ لَا بِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِالتَّفْوِيضِ وَالتَّوْكِيلِ، وَهَذَا نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ إِلَى التَّفْوِيضِ وَالتَّوْلِيَةِ، وَإِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ بِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُورُ مَوْكُولَةً إِلَيْهِ وَالْقُلُوبُ مُتَوَكِّلَةً عَلَيْهِ، لَا بِتَوْلِيَةٍ وَتَفْوِيضٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَكِيلُ الْمُطْلَقُ.

وَالْوَكِيلُ -أَيْضًا- يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يَفِي بِمَا وُكِّلَ إِلَيْهِ وَفَاءً تَامًّا مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ، وَإِلَى مَنْ لَا يَفِي بِالْجَمِيعِ، وَالْوَكِيلُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي الْأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَلِيٌّ بِالْقِيَامِ بِهَا، وَفِيٌّ بِإِتْمَامِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللهُ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

وَقَدْ وَرَدَ اسْمُ الْوَكِيلِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَذَكَرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ أَقْوَالًا؛ مِنْهَا: حَفِيظًا لَكُمْ، كَفِيلًا بِأُمُورِكُمْ.

وَقَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((أَضْوَاءِ الْبَيَانِ)): ((الْمَعَانِي كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ: مَنْ يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، فَتُفَوَّضُ الْأُمُورُ إِلَيْهِ لِيَأْتِيَ بِالْخَيْرِ وَيَدْفَعَ الشَّرَّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلهِ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلِهَذَا حَذَّرَ مِنَ اتِّخَاذِ وَكِيلٍ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا كَافِيَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).

وَمِنْ أَسْمَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: الْمُتَوَكِّلُ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)): ((يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: وَسَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ))، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ﷺ؛ لِقَنَاعَتِهِ بِالْيَسِيرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا كَانَ يَكْرَهُ.

فَالتَّوَكُّلُ: هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ سِوَاهُ.

قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((التَّوَكُّلُ: هُوَ الثِّقَةُ بِمَا عِنْدَ اللهِ، وَالْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ)).

قَالَ الشَّيْخُ الْعُثَيْمِينُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوَكُّلُ عَلَى الشَّيْءِ: الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ.

وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- كِفَايَةً وَحَسَبًا فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ, وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَعَلَامَاتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ فِي اعْتِمَادِهِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ كَفَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أَيْ: كَافِيهِ، ثُمَّ طَمْأَنَ الْمُتَوَكِّلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3], فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ)).

فَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: أَنْ يَعْتَمِدَ الْعَبْدُ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اعْتِمَادًا صَادِقًا فِي مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، مَعَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ الْمَأْذُونِ فِيهَا, هَذِهِ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ.

وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ؛ فَذَلِكَ طَعْنٌ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَتْ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ.

فَالتَّوَكُّلُ اعْتِقَادٌ وَاعْتِمَادٌ وَعَمَلٌ؛ تَعْتَقِدُ: أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ كَافِيكَ وَرَاعِيكَ، وَأَنَّهُ كَالِئُكَ، فَهَذَا اعْتِقَادٌ, وَاعْتِمَادٌ: بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَعَمَلٌ؛ أَيْ: أَخْذٌ بِالْأَسْبَابِ.

التَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}.

فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَقُّهُ التَّأْخِيرُ، وَلَكِنْ قُدِّمَ هَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ وَالِاخْتِصَاصِ، فَالتَّوَكُّلُ للهِ وَحْدَهُ.

وَلِذَلِكَ حَظَرَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ ثُمَّ عَلَيْكَ, حَتَّى وَلَوْ جِئْتَ بِـ(ثُمَّ))، وَقَالُوا: نَعَمْ، أَنْتَ لَكَ أَنْ تَقُولَ: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ، وَلَكِنْ لَا تَقُولُ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ ثُمَّ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللهِ.

تَوَكُّلُ السِّرِّ؛ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَيِّتٍ فِي جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَذَا الْمَيِّتِ تَصَرُّفًا سِرِّيًّا فِي الْكَوْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، أَوْ وَلِيًّا، أَوْ طَاغُوتًا عَدُوًّا لِلَّهِ -تَعَالَى-.

هَذَا التَّوَكُّلُ هُوَ الشِّرْكُ، فَإِذَا تَوَكَّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أَكْبَرَ، يَعْتَمِدُ عَلَى مَيِّتٍ فِي جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ بِتَوَكُّلِ السِّرِّ، يَعْنِي يَقُولُ: فُلَانٌ الْوَلِيُّ هُوَ عَلَى عِلْمٍ بِمَا سَنَصْنَعُ مِنْ هَذَا الَّذِي نَأْخُذُ فِيهِ، سَيُعِينُنَا، وَيَجْلِبُ لَنَا الْمَنْفَعَةَ، وَيَدْفَعُ عَنَّا الْمَضَرَّةَ، وَيَتَّكِئُ عَلَى ذَلِكَ اتِّكَاءً، فَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، هَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَذَا الْمَيِّتِ تَصَرُّفًا سِرِّيًّا فِي الْكَوْنِ.

 ((أَعْظَمُ مَوَاطِنِ التَّوَكُّلِ))

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مَوَاطِنِ التَّوَكُّلِ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ شُؤُونِ الْحَيَاةِ، بَيْدَ أَنَّ هُنَاكَ مَوَاطِنَ كَثِيرَةً وَرَدَ فِيهَا الْحَضُّ عَلَى التَّوَكُّلِ وَالْأَمْرُ بِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي ((بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ)):

*إِنْ طَلَبْتُمُ النَّصْرَ وَالْفَرَجَ؛ فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

*إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْ أَعْدَائِكَ؛ فَلْيَكُنْ رَفِيقُكَ التَّوَكُّلَ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

*إِذَا أَعْرَضَ عَنْكَ الْخَلْقُ؛ فَاعْتَمِدْ عَلَى اللهِ الْوَكِيلِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129].

*إِذَا تُلِيَ الْقُرْآنُ عَلَيْكَ أَوْ تَلَوْتَهُ؛ فَاسْتَنِدْ عَلَى التَّوَكُّلِ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

*إِذَا طَلَبْتَ الصُّلْحَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ قَوْمٍ؛ لَا تَتَوَسَّلْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّوَكُّلِ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].

*إِذَا وَصَلَتْ قَوَافِلُ الْقَضَاءِ؛ فَاسْتَقْبِلْهَا بِالتَّوَكُّلِ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

*وَإِذَا نَصَبَتِ الْأَعْدَاءُ حِبَالَاتِ الْمَكْرِ؛ فَادْخُلْ أَنْتَ فِي أَرْضِ التَّوَكُّلِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71].

*إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَى اللهِ وَتَقْدِيرَ الْكُلِّ فِيهَا للهِ؛ فَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى فَرْشِ التَّوَكُّلِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

*إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يَكُنِ اتِّكَالُكَ إِلَّا عَلَيْهِ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ} [الرعد: 30].

*إِذَا كَانَتِ الْهِدَايَةُ مِنَ اللهِ؛ فَاسْتَقْبِلْهَا بِالشُّكْرِ وَالتَّوَكُّلِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].

*إِذَا خَشِيتَ بَأْسَ أَعْدَاءِ اللهِ وَالشَّيْطَانِ وَالْغَدَّارِ وَالْمَكَّارِ؛ فَلَا تَلْتَجِئْ إِلَّا إِلَى بَابِ اللهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99].

*إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَكِيلَكَ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَتَمَسَّكْ بِالتَّوَكُّلِ فِي كُلِّ حَالٍ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

*إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ الْفِرْدَوْسُ الْأَعْلَى مَنْزِلَكَ؛ فَانْزِلْ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42].

*إِنْ شِئْتَ أَنْ تَنَالَ مَحَبَّةَ اللهِ؛ فَانْزِلْ أَوَّلًا فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

*وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ اللهُ لَكَ، وَتَكُونَ للهِ خَالِصًا؛ فَعَلَيْكَ بِالتَّوَكُّلِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].

فَنَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

 ((لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، بَلْ هُوَ مِنْهَا، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ، وَلَكِنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمُ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعُ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا، فَيَكُونُ حَالُ الْقَلْبِ قِيَامَهُ بِاللهِ لَا بِهَا، وَحَالُ الْبَدَنِ قِيَامَهُ بِالْأَسْبَابِ.

فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ، وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ)).

وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ النَّجَاحِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالثِّقَةِ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، هُوَ مِنَ التَّوَكُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا الْقُعُودُ عَنِ الْأَسْبَابِ وَعَدَمِ السَّعْيِ فَلَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّكِالٌ أَوْ تَوَاكُلٌ حَذَّرَنَا مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَنَهَى عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مُعَاذُ! تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قَالَ مُعَاذٌ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلَّا يُعَذَّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟

قَالَ: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا يَضَعُ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَاعِدَةً جَلِيلَةً؛ وَهِيَ: أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ أَوْ مَا يَكُونُ مَظِنَّةً لِلِاتِّكَالِ أَوِ التَّوَاكُلِ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ، فَفِي الْحِوَارِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ: ((مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَلَّا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ))؟

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ عُمَرُ: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ)) .

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الِاتِّكَالَ يَعْنِي تَرْكَ الْعَمَلِ وَعَدَمَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّوَكُّلِ فِي شَيْءٍ)).

 ((الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَوَطَنِيٌّ))

لَقَدْ حَثَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْعَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]؛ يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

*وَجَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَأَمَرَ اللهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَطَالِبِ دُنْيَاهُ بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، أَوْ مَطَالِبِ آخِرَتِهِ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].

فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنْ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

 ((أَخْذُ سَادَةِ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ فِي الْحَيَاةِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ فِي سَائِرِ شُئُونِ حَيَاتِهِمْ، فَـ ((إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَأَى أَنَّ التَّذْكِيرَ لَا يَنْفَعُ فِي قَوْمِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ وَأَنَّهُ كُلَّمَا جَاءَ قَرْنٌ كَانَ أَخْبَثَ مِمَّا قَبْلَهُ، قَالَ: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26-27].

فَأَجَابَ اللهُ دَعْوَتَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ بِرِعَايَةٍ مِنْهُ وَحُسْنِ نَظَرٍ وَتَعْلِيمٍ مِنَ اللهِ لَهُ هَذِهِ الصَّنْعَةَ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ نُوحٌ لَهُ الْفَضْلُ وَالِابْتِدَاءُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى.

وَأَخْبَرَهُ اللهُ بِتَحَتُّمِ إِغْرَاقِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُخَاطِبُ رَبَّهُ فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَجَعَلَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ، وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الْيَوْمَ، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إِذَا وَقَعَ الْهَلَاكُ بِكُمْ.

قَالَ تَعَالَى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].

فَنَفَّذَ نُوحٌ أَمْرَ رَبِّهِ، وَصَارَ يَصْنَعُ السَّفِينَةَ الْبَحْرِيَّةَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِمَّنْ يُعِينُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ مُسْتَعْلِينَ عَلَيْهِ بِأَوْضَاعِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ اسْتَهْزَءُوا بِهِ لِصُنْعِهِ السَّفِينَةَ، قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ بَعْدَ صَبْرٍ طَوِيلٍ عَلَى سُخْرِيَّتِهِمْ مِنْهُ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا بِسَبَبِ جَهْلِكُمْ بِمَا نَصْنَعُ وَجَهْلِكُمْ بِالْغَايَةِ مِنْهُ؛ فَإِنَّا لَنَسْخَرُ مِنْكُمْ مُقَابَلَةً بِمِثْلِ عَمَلِكُمْ؛ لِعِلْمِنَا بِأَنَّكُمْ هَالِكُونَ غَرَقًا.

فَأَغْرَقَ اللهُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ، وَنَجَّى نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ.

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) -، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].

وَفِي قِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَلَائِلُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَالتَّخْطِيطِ السَّدِيدِ؛ وَذَلِكَ بِإِنْقَاذِ الْبِلَادِ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَالْهَلَاكِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].

وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيِّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدْ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.

يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.

وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.

فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ، لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلْيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.

لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.

قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ، وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهِمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.. لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.

لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.

وَهَذِهِ مَرْيَمُ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- مِثَالٌ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا مَكَانَ عِبَادَتِهَا؛ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا هَنِيئًا مُعَدًّا، وَفَاكِهَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، قَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا مَرْيَمُ، مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ الطَّيِّبُ؟

قَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَ رِزْقٌ مِنْ عِنْدَ اللهِ، لَيْسَ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ رِزْقًا كَثِيرًا بِغَيْرِ عَدَدٍ وَلَا إِحْصَاءٍ.

وَلَمْ تَدَعْ مَرْيَمُ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- الْأَسْبَابَ، بَلْ تَعَاطَتْهَا؛ مُمْتَثِلَةً أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].

وَحَرِّكِي إِلَيْكِ بِسَاقِ النَّخْلَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا ثَمَرٌ عَادَةً؛ تُسَاقِطُ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فِي أَوَانِ اجْتِنَائِهِ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَنْ يُبْقِيَ اعْتِمَادَهُ وَتَوَكُّلَهُ عَلَى اللهِ، لَا عَلَى مَا بَاشَرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ النَّمَاذِجِ الدَّالَّةِ عَلَى ضَرُورَةِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَثَمَرَاتِهِ: ذُو الْقَرْنَيْنِ، ((وَذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكٌ صَالِحٌ، أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْفُتُوحِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ اللهُ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُوَّةِ مُلْكِهِ وَتَوَسُّعِهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ التَّامُّ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93].

أَيْ: بَلَغَ مَحَلًّا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ السَّدَّيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ، وَهُمَا سَلَاسِلُ جِبَالٍ عَظِيمَةٍ شَاهِقَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفَجْوَةِ، فَوَجَدَ عِنْدَ تِلْكَ الْفَجْوَةِ الَّتِي بَيْنَ سَلَاسِلِ هَذِهِ الْجِبَالِ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؛ مِنْ بُعْدِ لُغَتِهِمْ، وَثِقَلِ فَهْمِهِمْ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ:

{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]؛ وَهُمْ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ -يَعْنِي: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ- مِنْ نَسْلِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ مِنَ الْعَنَاصِرِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ مُفَصَّلٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَشْرُوحٌ مِنْ صِفَاتِهِمْ، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَسْبَابِ وَالِاقْتِدَارِ خَيْرٌ.

{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}؛ أَيْ: إِنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ قَوِيَّةٍ فِي الْأَبْدَانِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وَلَمْ يَقُلْ: سَدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَنَى فَقَطْ هُوَ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ وَالرِّيعُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ؛ أَيْ: بَيْنَ سَلَاسِلِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَدَبَّرَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ آلَاتِهِ وَبُنْيَانِهِ فَقَالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أَيِ: اجْمَعُوا لِي جَمِيعَ قِطَعِ الْحَدِيدِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، وَلَا تَدَعُوا مِنَ الْمَوْجُودِ شَيْئًا، وَارْكُمُوهُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.

فَفَعَلُوا ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ تُلُولًا عَظِيمَةً مُوَازِيَةً لِلْجِبَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أَيِ: الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ لِذَلِكَ الرَّدْمِ، {قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]؛ أَيْ: أَمَرَ بِالنُّحَاسِ فَأُذِيبَ بِالنِّيرَانِ، وَجَعَلَ يَسِيلُ بَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ فَالْتَحَمَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتْ جَبَلًا هَائِلًا مُتَّصِلًا بِالسَّدَّيْنِ؛ فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَيْثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ إِفْسَادِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ}؛ أَيْ: يَصْعَدُوا ذَلِكَ الرَّدْمَ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}  [الكهف: 97-98]؛ أَيْ: رَبِّي الَّذِي وَفَّقَنِي لِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَالْأَثَرِ الْجَمِيلِ، فَرَحِمَكُمْ؛ إِذْ مَنَعَكُمْ مِنْ ضَرَرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ» .

وَقَدْ كَانَ مِنْ دَأْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ- يَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَلْبُهُ تَوَكُّلًا مُطْلَقًا، وَهُوَ آخِذٌ بِأَسْبَابِ هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ، حَتَّى أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَدَعْ مُحَمَّدًا فِي مَعْرِضِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا وَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَة: 40].

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ ، وَلَكِنَّ دِقَّةَ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةَ الِاسْتِعْدَادِ مِنَ الرَّسُولِ تَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ دَائِمًا وَأَبَدًا.

وَانْظُرْ فِيمَا كَانَ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ، وَحَدَّدَ لَهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَيْهِ ، قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ هِجْرَتِهِ كُلَّ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِلَّا مَنْ فُتِنَ فِي دِينِهِ مِمَّنْ حَجَزَتْهُ قُرَيْشٌ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ، وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الْكَرِيمِ هُوَ عَيْنُ التَّضْحِيَةِ وَعَيْنُ الْبَذْلِ وَعَيْنُ الْفِدَاءِ، لَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ، بَلْ تَخَلَّفَ فِي مَكَّةَ وَقَدَّمَ الْأَصْحَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَاجَرُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِفِتْنَتِهِ فَثَبَتَ أَوِ انْحَرَفَ عَنِ الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ -نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ الرَّسُولَ اخْتَارَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ صَاحِبًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ : «يَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا», فَكَانَ يَقُولُ: الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ فِي هِجْرَتِهِ ، وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاحِلَتَيْنِ، فَعَلَفَهُمَا وَرَقَ السَّمُرِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى مُهَاجَرِهِ .

وَأَمَّا أَمْرُ نَبِيِّنَا فِي لَيْلَةِ هِجْرَتِهِ؛ فَأْمْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَظَلُّ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ ، وَقَدْ تَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، بَلْ ذَهَبَ فِي وَقْتٍ تَخْفُتُ فِيهِ الرِّقَابَةُ وَتَنَامُ فِيهَا أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، ذَهَبَ فِي الْهَاجِرَةِ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ الصَّيْفِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ ، فَذَهَبَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ فِي الْهَاجِرَةِ فِي وَقْتٍ لَوْ وَضَعْتَ فِيهِ لَحْمًا نَيِّئًا عَلَى رِمَالِ الصَّحْرَاءِ الْمُحْرِقَةِ لَأَنْضَجَتْهُ، ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أَرَى النَّبِيَّ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».

فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ!

قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».

وَخَرَجَ الرَّسُولُ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ مِنْ خَوْخَةٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -وَهِيَ كُوَّةٌ نَافِذَةٌ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ-، وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ رِقَابَةٌ مِنَ اسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا ، وَكَانُوا قَدْ بَيَّتُوا قَتْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي هَاجَرَ فِيهَا ، إِذَا كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ تَرْقُبُهُ؛ فَإِنَّهَا تَتَطَلَّعُ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيَخْرُجُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ خَوْخَةٍ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَأَمَّا النَّبِيُّ فَيَسِيرُ صَوْبَ الْجَنُوبِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الشَّمَالِ مُؤَدٍّ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُهَاجِرُ إِلَيْهَا ، نَزَلَ النَّبِيُّ جَنُوبًا إِلَى جَبَلِ ثَوْرٍ.

وَدَخَلَ الْغَارَ مَعَ صَاحِبِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي غَارِ ثَوْرٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

مِنْ جَوْدَةِ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةِ الِاسْتِعْدَادِ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْبَاحِ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ فَأَخْبَرَهُ، وَالنَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ , وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ الْمَئُونَةِ، فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا-.

وَانْظُرْ إِلَى تَوْزِيعِ الْأَدْوَارِ هَاهُنَا، لَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ أَمْرَ الزَّادِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَادًا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَيِّ سَبِيلٍ لَتَبِعَتْهُ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ وَتَبِعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْدَامُهُمْ، وَلَعَلِمُوا مَوْضِعَ النَّبِيِّ ، فَنَحَّى عَنْهُ النَّبِيُّ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ مَنُوطًا بِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْأُنْثَى وَالْمَرْأَةُ -وَكَانَتْ أَسْمَاءُ حَامِلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، تَسِيرُ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ كَامِلَاتٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ شَاهِقٌ شَهْمٌ صُلْبٌ مُتَجَهِّمٌ حِجَارَتُهُ مَسْنُونَةٌ عَنِيفَةٌ حَادَّةٌ، حَتَّى لَقَدْ حَفِيَتْ قَدَمَا رَسُولِ اللَّهِ-، الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ زَادًا وَطَعَامًا وَمَتَاعًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا.

كَانَتْ أَسْمَاءُ تُؤَمِّنُ أَمْرَ الزَّادِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَأْتِي لِلنَّبِيِّ بِاسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ أَمْرَ الِاسْتِخْبَارَاتِ مَوْكُولًا بِأَسْمَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَهْمَا بَلَغَ عَقْلُهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا حَافِظًا كَالرَّجُلِ الْحَاذِقِ اللَّبِيبِ؛ هَذِهِ وَاحِدَةٌ.

وَثَانِيَةٌ: أَنَّ أَسْمَاءَ لَا تَسْتَطِيعُ -وَهِيَ امْرَأَةٌ- أَنْ تَدْخُلَ فِي مُنْتَدَيَاتِ قُرَيْشٍ، وَلَا أَنْ تَدْخُلَ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ لِتَتَفَقَّدَ الْأَخْبَارَ ثُمَّ تَذْهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ .

كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ الْأَدْوَارَ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ -؛ وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ.

فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا-، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ .

وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ-؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ، فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ-، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ، ثُمَّ اسْتَدَارَ غَرْبًا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا -هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ-، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ .

وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟

قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

فَانْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ جَمِيعًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَيَعْصِمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُسْلِمَهُ!!

وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ))؛ أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ؛ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)). هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يَكْتَسِبُ مِنْهَا، فَلَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ شُغِلَ عَنْ حِرْفَتِهِ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرَضَ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَآلُهُ.

وَقَوْلُهُ: ((وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ))؛ أَيْ: أَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَمْيِيزِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ -وَكَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مَشْغُولًا-، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى...)) الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!))؛ يَتَعَجَّبُ مِنْ حَالِهِ.

ثُمَّ قَالَ: ((أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ))؛ يَعْنِي: الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ.

الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.

فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ يُتَاجِرُ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَمَّا فَاتَتْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ سُنَنِ الِاسْتِئْذَانِ صَارَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، قَالَ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ)).

وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ)).

فَقَالَا: ((كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ»)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَ((الصَّرْفُ)): مُبَادَلَةُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ، يُعْرَفُ الْآنَ بِبَيْعِ الْعُمْلَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).

قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)).

هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.. فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-...)).

وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثُ.

قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!

فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي: بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-)).

إِنَّ فِي الْعَمَلِ قُوَّةً لِلْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ.

 ((التَّوَكُّلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فِي الْعَمَلِ))

*النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ، عَامِلِينَ بِقَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ؛ هُمَا: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ، وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:

*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.

*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.

وَالْحَدِيثُ يُفْهَمُ فَهْمًا مَضْبُوطًا، وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي فَهْمِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ فِي الْوُكُنَاتِ وَفِي الْأَعْشَاشِ لَا تَبْقَى فِي أَعْشَاشِهَا، وَإِنَّمَا تُبَكِّرُ فِي الذَّهَابِ لِالْتِقَاطِ رِزْقِهَا.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»؛ وَالْغُدُوُّ: هُوَ الْخُرُوجُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، فَتَغْدُو هَذِهِ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا وَوُكُنَاتِهَا مِنْ أَجْلِ الْتِقَاطِ رِزقِهَا، مُبَكِّرَةً مَعَ خُيُوطِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ، سَاعِيَةً فِي أَرْضِ اللهِ، لَكِنَّهَا لَا تَحْمِلُ لِرِزْقِهَا هَمًّا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْزُقُهَا كَمَا رَزَقَهَا الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ رِزْقٍ.

وَالْحَيَاةُ وَالْأَجَلُ يَرْتَبِطَانِ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا مُبَاشَرًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَحْيَا كَائِنٌ حَيٌّ بِغَيْرِ رِزْقٍ، يَقُولُ النَّاسُ: «فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ»، وَلَنْ تَجِدَ أَبَدًا أَنَّ فُلَانًا حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، فَارْتِبَاطُ الْأَجَلِ بِالرِّزْقِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ بِصَيْرُورَةٍ تَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا أَجَلَ وَلَا رِزْقَ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الطُّيُورَ تَغْدُو مُبَكِّرَةً مِنْ أَعْشَاشِهَا، تَطْلُبُ رِزْقَهَا، تَلْتَقِطُهُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، لَا تَحْمِلُ لَهُ هَمَّا، «خِمَاصًا»: جَمْعُ أَخْمَصٍ، وَهَذَهِ الْحَوَاصِلُ الْخُمْصُ قَدِ الْتَزَقَتْ لُحُومُهَا بِبَعْضِهَا، بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَحْوِي شَيْئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»، وَقَدِ امْتَلَأَتْ بُطُونُهَا وَحَوَاصِلُهَا، مِنْ أَيْنَ؟!!

مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هَلْ قَدَّرَتْ لِذَلِكَ تَقْدِيرًا؟!!

هَلْ وَضَعَتْ لَهُ خُطَّةً لِلْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ اكْتِسَابِهِ؟!!

إِنَّمَا أَخَذَتْ بِالْأَسْبَابِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ، وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيتُهُ بِيَدِهِ.

وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.

وَلْنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ عَامِرٌ بِالْكَائِنَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقٌ مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ أَمْرٌ عِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ الْمَرْءُ فِيهِ يَكَادُ عَقْلُهُ يَذْهَبُ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ -مَثَلًا- وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكَائِنَاتِ الْبَحْرِيَّةَ الَّتِي تَحْيَا فِي الْبِحَارِ وَالْمُحِيطَاتِ هِيَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْكَائِنَاتِ الْبَرِّيَّةِ بِمَا لَا يُقَاسُ، وَكُلُّهَا مَرْزُوقَةٌ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا دَوْرَةُ حَيَاةٍ، تُولَدُ بِالْمِيلَادِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا بِرِزْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ تَغْذِيَةٍ أَوْ نَفَسٍ أَوْ إِخْرَاجٍ، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ يَنْتَهِي أَجَلُهَا عِنْدَ حَدٍّ حَدَّدَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَسَارِبُهَا فِي الْحَيَاةِ مَحْسُوبَةٌ.

*وَتَأَمَّلْ فِي رِزْقِ النَّمْلِ، وَهُوَ مِثَالٌ عَجِيبٌ!!

هَذَا النَّمْلُ الَّذِي تَرَاهُ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ بِخَلْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِقُدْرَتِهِ، بَدَأَ بِبِدَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ -بِدَايَةِ الْخَلْقِ لَهُ- بِكُلِّ نَمْلَةٍ نَمْلَةٍ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ تَمْضِي فِي حَيَاتِهَا مَرْزُوقَةً بِرِزْقِهَا، فَتَنْمُو شَيْئًا فَشَيْئًا، تَتَكَاثَرُ أَوْ لَا تَتَكَاثَرُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا انْتَهَى عُمُرُهَا.

 ((أُمَّةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ))

فَإِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ أُمَّةٌ مِعْطَاءَةٌ عِلْمِيًّا وَعَمَلِيًّا، تَعَلَّمَتْ وَعَمِلَتْ وَعَلَّمَتْ، وَنَشَرَتِ الْخَيْرَ، وَبَثَّتِ الْبِرَّ حَتَّى عَمَّ الْآفَاقَ كُلَّهَا.

الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ أُمَّةٌ مَحْفُوظَةٌ فِي نُصُوصِهَا، فَلَا يَأْتِي كِتَابَهَا الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ رَبِّهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ بِسَبِيلٍ إِلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَتَّى اللَّغَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا كِتَابَهُ كَتَبَ لَهَا الْحِفْظَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، أُمَّةٌ مَحْفُوظَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَلَوْ تَجَمَّعَ عَلَيْهَا مَنْ بِأَقْطَارِهَا، وَعْدُ رَبِّكَ لِنَبِيِّهِ ﷺ؛ ((إِذْ سَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهَا مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهَا وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا، فَأَعْطَاهُ رَبُّهُ مَا سَأَلَ ﷺ )) .

فَمَا كَانَ لِأَحَدٍ فِي الْأَرْضِ قَطُّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْأُمَّةِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا بِاسْتِبَاحَةِ أَعْرَاضِهَا، وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهَا، وَذَهَابِ قُوَّتِهَا وَلَوْ تَجَمَّعَ عَلَيْهَا مَنْ بِأَقْطَارِهَا.

مَا كَانَ لِأَحَدٍ فِي الْأَرْضِ قَطُّ أَنْ يَنَالَ مِنْ ذَلِكَ مَنَالًا، أُمَّةٌ مَحْفُوظَةٌ، غِنَاهَا عَدْلٌ، وَفَقْرُهَا خَيْرٌ، وَإِقْبَالُهَا عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَبَتُّلٌ وَإِنَابَةٌ، أُمَّةٌ وَسَطٌ، خِيَارٌ عُدُولٌ، وَوَسَطٌ بِمَعْنَى الْوَسَطِيَّةِ فِي الِاعْتِقَادِ فَلَا تَشْبِيهَ وَلَا تَعْطِيلَ وَلَا تَجْسِيمَ وَلَا تَأْوِيلَ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمَّةٌ وَسَطٌ فِي عَقِيدَتِهَا، وَفِي عِبَادَتِهَا، وَفِي مُعَامَلَاتِهَا، وَفِي أَخْلَاقِهَا، وَفِي سُلُوكِهَا، وَسَطٌ خِيَارٌ عُدُولٌ، وَوَسَطٌ بِمَعْنَى الْوَسَطِ الزَّمَنِيِّ وَالْمَكَانِيِّ عَلَى سَوَاءٍ.

وَهِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي حَقَّقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَنْهَجِهَا ذَلِكَ التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَبَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيْنَ مَطَالِبِ هَذَا الْوُجُودِ الْفَانِي وَمَطَالِبِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ، حَقَّقَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ لِكَيْ يَصْنَعَ الْإِنْسَانَ الْحَقَّ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ، يُحَصِّلُ الْخَيْرَ وَيَنْشُرُ الْعَدْلَ، وَيَنْفِي الْجَوْرَ وَيُحَارِبُ الظُّلْمَ، حَقَّقَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ، وَجَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا ﷺ فَبَيَّنَهُ، وَأَخَذَ بِأَسْبَابِهِ فَأَقَامَهُ فَعَدَلَهُ ﷺ.

وَهَذَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ: ((لَوْ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَامَتْ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا -يَعْنِي: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةَ- فَلْيَغْرِسْهَا)).

وَهَذَا التَّوَازُنُ لَا تَجِدُهُ فِي دِينٍ إِلَّا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينٌ مَحْفُوظٌ، وَلِأَنَّ كِتَابَهُ كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، وَلِأَنَّ نَبِيَّهُ ﷺ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) وَالطَّيَالِسِيُّ كَذَلِكَ، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، يُخْبِرُنَا فِيهِ نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ وَبِأَمْرٍ عَجِيبٍ: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ...))؛ وَهِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ، وَهِيَ الْوَدِيَّةُ -أَيْضًا-، فَهِيَ أُصُولُ النَّخْلِ الَّتِي تُسْتَزْرَعُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُؤْتِيَ ثَمَرَهَا بَعْدَ سِنِينَ.

يَقُولُ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)).

وَأَيُّ فَائِدَةٍ يُحَصِّلُهَا الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ إِذَا مَا نَظَرَ فِيهِ مُجَرَّدًا، وَلَكِنَّ الْفَائِدَةَ الْكُبْرَى الْمَرْجُوَّةَ الَّتِي يَغْرِسُهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي قُلُوبِهِمْ هِيَ أَنْ يُحَقِّقُوا هَذَا التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ الَّذِي لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، بَيْنَ مَا تَتَطَلَّبُهُ الدُّنْيَا وَمَا تَطْلُبُهُ الْآخِرَةُ، وَبَيْنَ مَطَالِبِ الرُّوحِ وَمَطَالِبِ الْبَدَنِ، فَهَذِهِ الْآخِرَةُ تَقُومُ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ وَفِي يَدِ الرَّجُلِ أَصْلُ نَخْلَةٍ تَحْتَاجُ لِغَرْسِهَا إِلَى وَقْتٍ يَتَطَاوَلُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تُؤْتِي أُكُلَهَا إِلَّا بِرِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ زَائِدَتَيْنِ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَكَرِّ السِّنِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْغَارِسَ لَرُبَّمَا لَمْ يَعِشْ حَتَّى يُحَصِّلَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ شَيْئًا، فَمَا الْفَائِدَةُ إِذَنْ وَالسَّاعَةُ تَقُومُ؟!!

((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَغْرِسَهَا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ -أَيِ: السَّاعَةُ- حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)) .

أَيُّ تَوَازُنٍ هَذَا بَيْنَ مَا يَطْلُبُهُ أَمْرُ الْحَيَاةِ بِأَخْذٍ بِأَسْبَابِهَا وَمَا تَتَطَلَّبُهُ الْآخِرَةُ مِنْ يَقِينٍ عَلَيْهَا وَإِقْرَارٍ بِهَا!!

فَهَذَا الْغَارِسُ الَّذِي يَغْرِسُ مَا يَغْرِسُ كَأَنَّمَا يُسَابِقُ السَّاعَةَ كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ؛ ((فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)).

يُحَقِّقُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ بَيْنَ أَمْرِ الْآخِرَةِ بِغَيْبِيَّتِهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَمْرِ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ بِأَسْبَابِهَا فِي الْأَخْذِ فِيهَا بِأَسْبَابِهَا.

وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَدْ تَعَلَّمُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَهَذَا رَجُلٌ يَرْوِي عَنْ صَحَابِيٍّ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) عَنْ دَاوُدَ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ سَلَامٍ.. هُوَ عَبْدُ اللهِ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلُ، ثُمَّ آمَنَ بِاللهِ رَبَّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا، فَلَهُ أَجْرُهُ مُضَاعَفًا.. يَقُولُ هَذَا التَّابِعِيُّ: قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنْ سَمِعْتَ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ وَفِي يَدِكَ وَدِيَّةٌ -هِيَ: الْفَسِيلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ- وَفِي يَدِكَ وَدِيَّةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا، فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تُصْلِحَهُ -يَعْنِي: حَتَّى تُصْلِحَ أَمْرَ الْغَرْسِ الَّذِي أَنْتَ قَائِمٌ عَلَيْهِ-؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْشًا)) .

هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الصَّحَابِيُّ تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَرْسَاهَا النَّبِيُّ ﷺ، فَسِيلَةٌ بِيَدِ رَجُلٍ يَسْمَعُ الصُّورَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ لِقِيَامِ النَّاسِ أَوْ لِصَعْقِهِمْ، ثُمَّ هُوَ يَرْفَعُ لِيتًا وَيُصْغِي لِيتًا -وَهِيَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ-، وَيَقُومُ وَبِيَدِهِ مَا بِيَدِهِ مِنْ أَمْرِ غَرْسِ فَسِيلَتِهِ، وَيَأْتِيهِ أَمْرُ السَّاعَةِ وَهُوَ مِنْهَا عَلَى يَقِينٍ، ((فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى تَغْرِسَهَا فَلْتَغْرِسْهَا)).

وَيَأْتِي ابْنُ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: إِنْ سَمِعْتَ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، وَأَنَّ الْعَلَامَاتِ الْكُبْرَى قَدْ تَتَابَعَتْ سَرْدًا بِانْفِرَاطِ عِقْدِهَا فَهِيَ مُتَتَابِعَاتٌ حَتْمًا، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الْكُبْرَى الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنَ السَّمَاءِ فِتْنَةً قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا مِثْلَهَا، هِيَ أَعْظَمُ فِتْنَةٍ تَلْقَى الْبَشْرِيَّةُ فِي حَيَاتِهَا قَطُّ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ وَأَنْذَرَهَا، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَصَعَّدَ فِي ذَلِكَ وَصَوَّبَهُ، وَبَعَّدَ فِي ذَلِكَ وَقَرَّبَهُ، حَتَّى ظَنَّ الْأَصْحَابُ أَنَّ الدَّجَّالَ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ عَلَى مَرْمَى حَجَرٍ مِنْ مَجْلِسِ الْمُخْتَارِ ﷺ.

يَقُولُ ابْنُ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِهَذَا الرَّجُلِ الْمُعَلَّمِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عَلَى يَدَيْهِ: ((إِنْ سَمِعْتَ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ وَأَنْتَ عَلَى وَدِيَّةٍ تَقُومُ عَلَيْهَا.. عَلَى فَسِيلَةٍ تَغْرِسُهَا.. عَلَى نَخْلَةٍ صَغِيرَةٍ لَا تُؤْتِي أُكُلَهَا إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ، فَلَا تَعْجَلَ حَتَّى تُصْلِحَهُ فَإِنَّ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ عَيْشًا)).

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ كَمَا رَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ عَلَى نَاقَةٍ فَقَالَ: ((يَا رسولَ اللهِ! أَدَعُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟))؛ يَعْنِي: أُطْلِقُهَا -أَتْرُكُهَا- بِلَا قَيْدٍ وَلَا زِمَامٍ وَلَا خِطَامٍ مُتَوَكِّلًا، قَالَ: ((أَدَعُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟)).

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَا، بَلِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)).

فَالرَّسُولُ ﷺ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ هَاهُنَا فِي قَرَنٍ وَاحِدٍ، فِي زِمَامٍ وَاحِدٍ، يَجْمَعُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرَ الْيَقِينِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ تُكِنُّهُ الصُّدُورُ وَتَطْوِيهِ الْقُلُوبُ، وَأَمْرُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ بِأَسْبَابِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- رَبَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَعْدَلِ، فَكَانَتْ بِتَرْبِيَةِ نَبِيِّهَا ﷺ أُمَّةً عَادِلَةً تُقِيمُ الْعَدْلَ فِي التَّوَازُنِ بَيْنَ كُلِّ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَنَاقَضُ ظَاهِرًا.

وَهَذِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا حَفِظَ التَّارِيخُ لَنَا.. لَمَّا دَخَلَ الصَّلِيبِيُّونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مُنْتَصِرِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَبَحُوا فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا دَالَتْ عَلَيْهِمْ دَوْرَةُ الْأَيَّامِ بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهُزِمُوا عَلَى يَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ الْمُوَحِّدِينَ، لَمْ يَقْتُلُوا مِنَ الصَّلِيبِيِّينَ بَعْدَ النَّصْرِ وَاحِدًا، بَلْ حَفِظُوهُمْ وَأَمَّنُوهُمْ وَرَعَوْا جَانِبَهُمْ، فَكَانَتْ دَعْوَةً لِلهِ حَقًّا.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، يُقِيمُ الْمَعْدَلَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَحْفَظُ لَنَا هَذَا التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ بَيْنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَنَاقَضُ ظَاهِرًا وَتَتَنَافَرُ بَادِيًا، وَهِيَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ قَائِمَةٌ عَلَى لَوْنٍ مِنَ الِانْسِجَامِ لَا تَنَافُرَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ.

وَهَذَا النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَقَدْ ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا مَا كَانَ مَوْكُولًا لِلهِ، مُلْقًى بَيْنَ يَدَيْ رَحَمَاتِ جَنَبَاتِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا عَلَيْهِ إِذَا مَا أَطْلَقَ تِلْكَ الدَّابَّةَ كَيْفَمَا اتُّفِقَ مِنْ غَيْرِ مَا زِمَامٍ وَلَا قَيْدٍ وَلَا خِطَامٍ مَا دَامَ مُتَوَكِّلًا بَاطِنًا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُعِيدُ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ، وَيَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الدُّنْيَا بِأَسْبَابِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((بَلِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)).

فَلَمْ يَنْفِ الرَّسُولُ ﷺ التَّوَكُّلَ عَنِ الْآخِذِينَ بِالْأَسْبَابِ ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْبَرَ الْمُتَوَكِّلِينَ حَقًّا وَصِدْقًا، وَكَانَ ﷺ لَا يَدَعُ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ فِي سُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفَاعِلَةِ بِقَدَرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.. مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ تَنْقَسِمُ إِلَى سُنَنٍ جَارِيَةٍ وَسُنَنٍ خَارِقَةٍ، فَأَمَّا السُّنَنُ الْجَارِيَةُ فَهِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَاعِلَةً بِقَدَرِهِ فِي كَوْنِهِ بِلَا اخْتِلَالٍ وَلَا تَخَلُّفٍ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَخْرِقُ مَسِيرَ تِلْكَ السُّنَنِ الْجَارِيَةِ كَيْفَمَا شَاءَ، لِأَنَّ السُّنَنَ الْجَارِيَةَ وَالسُّنَنَ الْخَارِقَةَ مُتَعَلِّقَتَانِ مَعًا بِإِرَادَةِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنْفَاذَ شَيْءٍ أَنْفَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ عَطَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَانُونَهُ بِسُنَنِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا بَادِيًا، ثُمَّ يَفْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا يَشَاءُ.

وَعَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ أَنْ تَحْتَرِمَ الْأَسْبَابَ الْجَارِيَةَ وَالسُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَعَلَّمَهَا نَبِيُّهَا ﷺ أَلَّا تَجْنَحَ إِلَى السُّنَنِ الْخَارِقَةِ.

الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَكِلِ الْأُمَّةَ -وَهُوَ مَنْ هُوَ ﷺ- إِلَى فَارِسِ أَحْلَامِ الدَّعْوَةِ يَأْتِيهَا يَوْمًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْتَشِلَهَا مِنْ وَهْدَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مُعَبَّدَةً، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ السَّبِيلُ مُمَهَّدَةً بِأَخْذٍ بِالْأَسْبَابِ وَإِقْبَالٍ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، لِكَيْ يَقُولَ الْمَرْءُ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ أَنْ تَحْتَرِمَ السُّنَنَ الْجَارِيَةَ، وَلَمْ يَنْفِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا فِي كِتَابِهِ وَلَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ احْتِمَالِيَّةَ وُقُوعِ السُّنَنِ الْخَارِقَةِ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ تَأْيِيدًا وَنَصْرًا وَتَثْبِيتًا لِمَنْ يَشَاءُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُجْرِيَ تِلْكَ السُّنَنَ الْخَارِقَةَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنْ يَخْرِقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَانُونَ السُّنَنِ الْجَارِيَةِ الْمُضْطَرِدَةِ عَلَى نَمَطٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعْلِيَ شَأْنَهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْفَعَ قَدْرَهُ، وَرَبُّكَ عَلَى كل  شئ  قَدِيرٌ.

وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ ﷺ هُوَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ أَسْلَمَ قَدِيمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا أَجْمَعِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ-، يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الذَّهَبِيُّ فِي ((سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ))، يَقُولُ: ((ثَلَاثَةٌ رَأَيْتُهُنَّ مِنَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ- لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا، يَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الْكُفَّارِ فِي (دَارِينَ) -وَهِيَ فُرْضَةٌ عَلَى الْمَاءِ عَلَى الْبَحْرِ هُنَالِكَ عِنْدَ الْبَحْرَيْنِ- يَقُولُ: لَمَّا خَرَجَ مُجَاهِدًا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ يَجُولُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَاللهِ مَا ابْتَلَّ إِلَّا خُفُّ بَعِيرِهِ!! وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، بَلْ وَالْجَيْشُ مِنْ وَرَائِهِ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

يَقُولُ: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَ لَمَّا انْقَطَعَ الْمَاءُ تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَاعِيًا؛ فَأَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَيْثَ فَتَجَمَّعَ، فَشَرِبُوا وَحَمَلُوا وَتَزَوَّدُوا، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَلَّا يُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَاءِ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ مَضَى الْقَوْمُ، وَعَادَ رَجُلٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ حَقِيبَتَهُ -أَيْ: إِدَاوَتَهُ- هُنَالِكَ، فَعَادَ لِيَنْظُرَ أَثَرَ الدَّعْوَةِ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً!!

قَالَ: وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّهُ مَاتَ، ثُمَّ لَمْ نَجِدْ مَاءً لِنُغَسِّلَهُ بِهِ، فَأَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْثًا، فَجَمَعْنَا الْمَاءَ فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَقُمْنَا عَلَيْهِ وَدَفَّنَّاهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )) .

وَأَمَّا سَهْلُ بْنُ مِنْجَابٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فَإِنَّهُ يَرْوِي الْقِصَّةَ عَلَى لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ التَّفْصِيلِ، يَقُولُ: ((خَرَجْتُ مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فِي جَيْشٍ بُعِثَ مِنْ أَجْلِ فَتْحِ (دَارِينَ) مِنْ دِيَارِ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: فَاعْتَرَضَنَا الْخَلِيجُ.. فَاعْتَرَضَنَا الْمَاءُ، وَوَقَفَ الْعَلَاءُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِإِزَاءِ الْمَاءِ يَقُولُ: ((يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ! اللَّهُمَّ إِنَّا عَبِيدُكَ، وَفِي سَبِيلِكَ، خَرَجْنَا جِهَادًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِكَ فِي أَرْضِكَ، اللَّهُمَّ احْمِلْنَا!))، ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَ بَعِيرَهُ فَمَرَّ يَجُوسُ خِلَالَ الْمَاءِ، وَاللهُ مَا ابْتَلَّ إِلَّا خُفُّ بَعِيرِهِ، وَالنَّاسُ كَذَلِكَ مِنْ وَرَائِهِ كَأَنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى رَمْلٍ قَدْ تَلَبَّدَ يَسِيرًا يَسِيرًا، حَتَّى نَصَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَيْشَ، وَحَتَّى غَنِمُوا بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يَقُولُ: وَقَبْلَ هَذِهِ وَقَعَتْ أُولَى تِلْكَ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ: ((لَمَّا كُنَّا فِي الصَّحَرَاءِ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ نَفِدَ مِنَّا الْمَاءُ، ثُمَّ إِنَّا أَصَابَنَا الْكَرْبُ، وَحَلَّ بِسَاحَتِنَا الْغَمُّ، فَتَوَجَّهَ الْعَلَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُو رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ! اللَّهُمَّ إِنَّا عَبِيدُكَ، خَرَجْنَا جِهَادًا فِي سَبِيلِكَ، اللَّهُمَّ أَرْسِلْ عَلَيْنَا غَيْثًا لَا يُصِيبُهُ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِنَا)).

قَالَ: فَأَنْشَأَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَحَابَةً، ثُمَّ تَجَمَّعَتْ أَطْرَافُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، ثُمَّ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاءَ بِمِثْلِ أَفْوَاهِ الْقِرَبِ، حَتَّى كَانَ مِنَ الْمَاءِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَأَخَذْنَا وَشَرِبْنَا وَتَزَوَّدْنَا وَحَمَلْنَا، ثُمَّ سِرْنَا، وَتَرَكَ وَاحِدٌ مِنَ الرَّكْبِ إِدَاوَتَهُ -أَيْ: حَقِيبَتَهُ- يَحْمِلُ فِيهَا مَتَاعَهُ هُنَالِكَ عِنْدَ مَا تَجَمَّعَ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَ مَعَ الْعَلَاءِ مَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي قَدْ فَقَدْتُ إِدَاوَتِي، قَالَ: ((ارْجِعْ فَالْتَمِسْهَا))، فَرَجَعَ، فَوَجَدَ الْإِدَاوَةَ، وَلَمْ يَجِدْ قَطْرَةً وَاحِدَةً مِنْ مَاءٍ!!

ثُمَّ إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَعَا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَلَّا يُرِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَوْرَتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ إِنَّ الرِّوَايَةَ هَاهُنَا تَخْتَلِفُ يَسِيرًا عَنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ إِذْ صَرَّحَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ غَسَّلُوهُ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةٍ سَهْلِ بْنِ مِنْجَابٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَمَا دَعَا الْعَلَاءُ رَبَّهُ بِذَلِكَ وَأَتَتْهُ مَنِيَّتُهُ فِي الصَّحَرَاءِ، كَانُوا قَدْ فَقَدُوا الْمَاءَ، فَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ وَلَمْ يُغَسِّلُوهُ، فَلَمْ يَسِيرُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَيْثَ، وَحِينَئِذٍ قَالَ قَائِلُهُمْ: فَلْنَرْجِعْ إِلَيْهِ فَلْنُخْرِجْهُ، ثُمَّ فَلْنُغَسِّلْهُ، ثُمَّ فَلْنَقُمْ عَلَى شَأْنِهِ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ فَحَفَرُوا قَبْرَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا!!

هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي كَانَ يَدْعُو بِهَا الْعَلَاءُ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَمَا كَانَ يَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتُخْرَقُ حُجُبُ السُّنَنِ الْجَارِيَةِ عَنْ سُنَنٍ خَارِقَةٍ يُجْرِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَيْفَ شَاءَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ تَسِيرَ الْإِبِلُ عَلَى الْمَاءِ لَا تَبْتَلُّ إِلَّا أَخْفَافُهَا، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْهُودِ أَنْ يَطْلُبَ الْمَرْءُ مِنْ رَبِّهِ الْمَاءَ فَيَأْتِي هَكَذَا سَرِيعًا، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْتَرِطُ أَلَّا يَنَالَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ قَطْرَةً، ثُمَّ يُجَابُ هَكَذَا سَرِيعًا، ثُمَّ يَفْقِدُونَ الْمَاءَ -{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]- حَتَّى إِذَا مَا مَاتَ لَمْ يَجِدُوا مَاءً لِغُسْلِهِ، ثُمَّ إِذَا مَا دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ أَحَدٌ -لَا بِطَرِيقٍ مُبَاشِرَةٍ وَلَا بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ- عَلَى عَوْرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حَتَّى إِذَا مَا وُرِيَ فِي التُّرَابِ، وَغُيِّبَ فِي الرَّمْسِ، وَكَانَ هُنَالِكَ فِي حُفْرَتِهِ، يَعْلَمُونَهَا وَيَدْرُونَ مَكَانَهَا، يَأْتِي الْمَاءُ، فَيَذْهَبُونَ لِإِخْرَاجِهِ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا!!

يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ!!

عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ الْخَزْرَجِيِّ يَقُولُ: ((إِنَّ رَجُلًا دَخَلَتْ حَصَاةٌ فِي أُذُنِهِ، فَأَعْيَتِ الْأَطِبَّاءَ بِإِخْرَاجِهَا، وَمَا زَالَتْ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى صِمَاخِهِ فَأَقَضَّتْ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَأَسْهَرَتْ لَيْلَهُ، وَنَغَّصَتْ عَلَيْهِ نَهَارَهُ، وَلَمْ يَعُدْ يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَعُدْ يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قِيلَ لَهُ يَوْمًا عِنْدَمَا ذَهَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-، قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ شَيْءٌ نَافِعَكَ، فَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَةُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ.

قَالَ: وَمَا هِيَ؟

قَالَ: تِلْكَ الدَّعْوَةُ الَّتِي دَعَا عِنْدَ الْمَاءِ فَجَازَ عَلَيْهِ بِأَخْفَافِ الْإِبِلِ، وَالَّتِي دَعَا فَأَسْقَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَيْثَ مِدْرَارًا.

قَالَ: وَمَا هِيَ؟

قَالَ: يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ!

قَالَ: فَدَعَا بِهَا الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا، فَخَرَجَتْ حَتَّى صَكَّتِ الْحَائِطَ وَلَهَا طَنِينٌ!!)) .

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ السُّنَنَ الْجَارِيَةَ نَمَطًا مُطَّرِدًا فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السُّنَنَ الْخَارِقَةَ، وَهَذِهِ السُّنَنُ الْخَارِقَةُ لَمْ يَجْعَلْهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُجْرِيَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَوْثَقَ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَاشِ أَتَاهُمْ مَا يَخْرِقُ عَلَيْهِمُ اطِّرَادَ تِلْكَ الْأَنْمَاطِ السَّبَبِيَّةِ الْجَارِيَةِ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبًا، وَأَنَّ وَرَاءَ الْكَوْنِ خَالِقًا، وَأَنَّ وَرَاءَ النَّاسِ بَارِئًا، وَأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَلَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يُرَبِّي الْأُمَّةَ بِالْأَخْذِ بِذَلِكَ النَّمَطِ الْمُطَّرِدِ الْمُسْتَقِرِّ مِنْ أَسْبَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَارِيَةِ، يُرَبِّي ﷺ وَيَضْرِبُ الْمَثَلَ بِذَاتِهِ ﷺ، فَهَذِهِ النَّفْسُ الَّتِي هِيَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَهَذِهِ النَّفْسُ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى صَاحِبِهَا إِنْ أَرَادَ خَيْرًا، وَتَتَمَرَّدُ عَلَيْهِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الشَّرِّ وَيَسْلُكَ مَنَاهِجَ الصَّوَابِ.. هَذِهِ النَّفْسُ يَدْرِي نَبِيُّنَا ﷺ مَوَارِدَهَا وَمَصَادِرَهَا، وَيَدْرِي رَسُولُنَا ﷺ كَيْفَ يُقِيمُهَا عَلَى مَنْهَجِ رَبِّهَا بِفَضْلِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَأَخْذًا بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ.

لَا يَدَعُ الرَّسُولُ ﷺ الْأَمْرَ لِتِلْكَ السُّنَنِ الْخَارِقَةِ حَتَّى يُخْلِدَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْأَرْضِ؛ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، أَلَيْسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَلَيْسَ الْآخَرُونَ بِالْكَافِرِينَ، وَأَلَيْسَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِنَاصِرٍ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ؟!!

كَلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ الْكَوْنَ مُطَّرِدًا سَائِرًا عَلَى نَمَطٍ مِنَ الْأَسْبَابِ هِيَ مِنْ قَدَرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَإِنْ أَخَذَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَزُّوا وَتَرَكُوا الذُّلَّ خَلْفَهُمْ ظِهْرِيًّا، وَإِنْ تَخَلَّوْا عَنْهَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَذَلَّةَ عَلَى أُمِّ رُءُوسِهِمْ، فَلَمْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهُ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى دِينِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَضْرِبُ لَنَا الْمِثَالَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عِنْدَمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ عِنْدَمَا قَالُوا لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ})).

يُرِيدُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ الْكَسْرَةِ فِي أُحُدٍ، وَكَانَتْ بِسَبَبِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ ﷺ مَوْجُودًا بِشَخْصِهِ فِي الْأُمَّةِ، مَوْجُودًا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ ﷺ، وَلَكِنْ لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ عِنْدَمَا أَمَرَهُمْ بِأَلَّا يَبْرَحُوا أَمَاكِنَهُمْ وَلَوْ رَأَوُا الْكُفَّارَ يَرْكَبُونَ أَكْتَافَ الْمُسْلِمِينَ، فَخَالَفُوا أَمْرَ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَتَرَكُوا أَمَاكِنَهُمْ، فَجَاءَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَدَفَنَ النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ بِأَيْدِيهِمْ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ مِنْهُمْ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ الْحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ ﷺ وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، دَفَنَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَالْحُزْنُ يَعْتَصِرُ قَلْبَهُ اعْتِصَارًا، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَلَوْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ تَنْزِلُ الْكَسْرَةُ، وَتَذْهَبُ الْفَوْرَةُ، وَتَأْتِي الْهَزِيمَةُ مِنْ أَجْلِ التَّرْبِيَةِ، فَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ فِي حِجْرِ تَرْبِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ لِأُمَّتِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ خَرَجَ مُكْرَهًا؛ أَكْرَهَهُ الشَّبَابُ الَّذِينَ كَانُوا لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَلَمَّا اسْتَشَارَ الْقَوْمَ، كَانَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا.. كَانُوا مُسْتَفَزِّينَ مِنْ أَجْلِ الْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ الْكَافِرِينَ؛ لِيُثْبِتُوا لِلْعَالَمِ جَمِيعِهِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَاصِرٌ جُنْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُرَاوِحُ بَيْنَهُمْ وَيُهَدْهِدُ قُلُوبَهُمْ، حَتَّى أَكْرَهُوهُ، فَدَخَلَ فَارْتَدَى سِلَاحَهُ ﷺ، فَلَمَّا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ رَاجَعُوا أَنْفُسَهُمْ فَقَالُوا: لَقَدْ أَكْرَهْتُمْ نَبِيَّكُمْ ﷺ، فَرَاجِعُوهُ!

فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ سِلَاحُهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَكْرَهْنَاكَ وَلَا نُرِيدُ الْخُرُوجَ.

قَالَ: ((هَيْهَاتَ! مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأَمْتَهُ...))؛ يَعْنِي: دِرْعَهُ وَخَوْذَتَهُ، وَيَأْخُذُ رُمْحَهُ وَسَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ، ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ، ثُمَّ يَضَعُهَا قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَ)) .

فَخَرَجَ مُكْرَهًا ﷺ، وَخَالَفُوا الْأَمْرَ لِكَيْ يُرَبِّيَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

تَوَكَّلُوا حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَخُذُوا بِالْأَسْبَابِ حَقَّ الْأَخْذِ؛ لِتَعِزَّ الْأُمَّةُ، وَلِيَنْصُرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا أَنْ تَخْلُدُوا إِلَى الْأَرْضِ مُنْتَظِرِينَ الْمُخَلِّصَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدُ؛ لِيَلُمَّ الشَّتَاتَ وَيَجْمَعَ الشَّعِثَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا هُوَ التَّوَاكُلُ حَقًّا لَا التَّوَكُّلُ صِدْقًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ دَفَنَ مَنْ دَفَنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَعَهُ مِنَ الْجَرْحَى مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْمَسِيرِ، بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ بَعْضًا فِي غَمٍّ مُسْتَطِيرٍ وَفِي هَمٍّ كَبِيرٍ، وَفِي كَسْرَةٍ لَا تُدَاوَى إِلَّا بِالنَّفِيرِ مِنْ بَعْدِ النَّفِيرِ لِيَأْتِيَ النَّصْرُ الْمُؤَزَّرُ مِنْ عِنْدِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَأْتِيهِ رِسَالَةٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ قَائِدِ ذَلِكِ الْجُنْدِ الْمُنْتَصِرِ ظَاهِرًا مِنْ جُنْدِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنَّا بِسَبِيلٍ إِلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِ اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِكُمْ، وَمِنْ أَجْلِ سَبْيِ نِسَائِكُمْ، وَقَتْلِ ذَرَارِيكُمْ، وَنَهْبِ أَمْوَالِكُمْ، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.

وَجَاءَ الرَّكْبُ الَّذِي حُمِّلَ الرِّسَالَةَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَمَّلَنَا رِسَالَةً هِيَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَحَمَّلَنَا فَحْوَى مَضْمُونٍ هُوَ زَيْتَ وَزَيْتَ!!

وَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ فَجَاءَ النَّفِيرُ، ((أَلَا فَلْيَخْرُجْ مَنْ كَانَ مَعِي بِالْأَمْسِ فِي الْمَعْرَكَةِ))؛ مِنْ كُلِّ جَرِيحٍ وَكَسِيرٍ، وَمِنْ كُلِّ قَعِيدٍ غَيْرِ قَادِرٍ عَلَى الْمَسِيرِ، ((أَلَا فَلْيَخْرُجَنَّ مَنْ كَانَ مَعِي بِالْأَمْسِ مُقَاتِلًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَنَا)) .

وَخَرَجَ الْقَوْمُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَتْبَعُونَ أَبَا سُفْيَانَ؛ مِنْ أَجْلِ اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَمِنْ أَجْلِ الِاسْتِحْوَاذِ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ عُدَّةٍ وَعَتَادٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ وَمَعَهُ الْجَرْحَى وَالْمُقَاتِلَةُ الَّذِينَ لَمْ يَنْعَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِلَحْظَةِ غُمْضٍ، وَلَمْ يَطْعَمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَسَنًا بِلَيْلٍ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاشٍ جَنْبٌ!!

خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى نَزَلُوا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ (حَمْرَاءُ الْأَسَدِ)، وَسَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بِأَثَرِهِ فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، وَذَهَبَ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}؛ أَيِ: الرَّكْبُ {إِنَّ النَّاسَ}؛ أَيْ: أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}؛ هَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ حَقًّا {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173-174].

النَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُ لَنَا الْمِثَالَ هَاهُنَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْلَى الْكَلِمَاتِ شَأْنًا، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عِنْدَمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ عِنْدَمَا قِيلَ لَهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.

{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.. {حَسْبُنَا}: كَافِينَا، {اللهُ}: وَهَاهُنَا تَقْدِيمٌ لِمَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ؛ إِذْ أَتَى بِالْخَبَرِ هَكَذَا مُقَدَّمًا لِيَدُلَّ عَلَى الْقَصْرِ؛ كَافِينَا اللهُ وَلَا كَافِيَ لَنَا إِلَّا هُوَ، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: هِيَ -كَمَا تَرَى هَاهُنَا- مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ، وَلَكِنْ أَيْنَ هُوَ؟ {نِعْمَ}: فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ: {الْوَكِيلُ}، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: (هُوَ)، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هُوَ؛ أَيِ: اللهُ، وَنِعْمُ الْوَكِيلُ اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هُوَ -سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ-.

فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ فِي النُّفُوسِ، وَيَأْتِي الرَّسُولُ ﷺ لِيُقِيمَ النَّوَازِعَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ مَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَإِنَّمَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَلَى حَسَبِ الْمَعْدَلَةِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَصْنَعُ التَّوَازُنَ الْمُبْهِرَ الْمُدْهِشَ الَّذِي لَمْ يَأْتِ بِهِ دِينٌ خَلَا دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

((التَّوَكُّلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ سَبِيلُ نَجَاةِ الْأُمَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ سَبِيلَ النَّجَاةِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ فِي هَذَا الْكَوْنِ سُنَنًا ثَوَابِتَ لَا تَتَخَلَّفُ، وَتَتَدَافَعُ أَمْوَاجُ الْبَشَرِ وَالْأَحْيَاءِ يَطْوِيهَا الْمَوْتُ وَتَبْتَلِعُهَا الْأَرْضُ، وَهَذِهِ السُّنَنُ شَاخِصَةٌ إِلَيْهِمْ لَا تَرِيمُ عَنْهُمْ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْ عَمَلِهَا فِيهِمْ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَبَدًا.

فَنُصْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَحْمَتُهُ الَّتِي هِيَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لَيْسَتْ قَرِيبًا إِلَّا مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ رَحْمَةُ اللهِ وَنُصْرَتُهُ قَرِيبًا مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ لَا تَتَخَلَّفُ.

وَنَحْنُ إِذْ نَنْظُرُ فِي مَاضِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَاضِرِهَا لَا نَمْلِكُ إِلَّا الْعَجَبَ الْعَجِيبَ وَالدَّهَشَ الْغَرِيبَ؛ سَلَفٌ عَمَالِقَةٌ وَخَلَفٌ كَالْأَقْزَامِ، وَمَاضٍ أَشَدُّ إِضَاءَةٍ مِنَ الشَّمْسِ فِي رَائِعَةِ الضُّحَى وَحَاضِرٌ يَنْدَى لَهُ الْجَبِينُ وَتَسْتَحِي الْأَقْلَامُ!!

وَهَذَا التَّنَاقُضُ الْعَجِيبُ بَيْنَ مَاضِي الْأُمَّةِ وَحَاضِرِهَا سَبَبُهُ إِهْمَالُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْكَوْنِ، وَهِيَ فَصْلُ مَا بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَبَطَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ بَيْنَ النَّتَائِجِ وَمُقَدِّمَاتِهَا، فَنَتَجَ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ الْبَاطِلِ نَتَائِجُ عَجِيبَةٌ؛ مِنْهَا: أَنْ تَرَى الْبَطَالَةَ الْفَارِغَةَ مَعَ التَّوَاكُلِ الْكَاذِبِ سَبَبًا لِاسْتِمْطَارِ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ!!

وَمِنْهَا: أَنْ تَرَى الشِّرْكَ الْأَحْمَقَ مَعَ النَّظَرِ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ سَبَبًا لِدُخُولِ جَنَّةِ الرِّضْوَانِ!!

وَمِنْهَا: أَنْ تَرَى الْعِلْمَ الدُّنْيَوِيَّ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ صَادِقٍ سَبَبًا لِلنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ!!

وَمَا هَكَذَا كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أَصْحَابِ الْجِدِّ وَالْعَزْمِ وَالتَّصْمِيمِ وَالْإِبَاءِ، لَا بُدَّ إِذَنْ مِنَ النَّظَرِ فِي أَسْبَابِ تَخَلُّفِ الْأُمَّةِ، لَا.. بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الشَّرَائِطِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْأُمَّةُ أُمَّةً، فَإِذَا تَوَفَّرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ وَأَصْبَحَتِ الْأُمَّةُ أُمَّةً بِحَقٍّ، نُظِرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَسْبَابِ تَخَلُّفِهَا أَوْ دَوَافِعِ رُقِيِّهَا وَتَرَقِّيهَا، وَقَدْ قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَيَّ أُمَّةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ فِيهَا شَرْطَانِ:

الْأَوَّلُ: فِكْرَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا الْأُمَّةُ، وَمِحْوَرٌ تَدُورُ حَوْلَهُ، وَقُطْبٌ تَسْبَحُ فِي فَلَكِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْفِكْرَةِ صَحِيحَةٍ أَوْ خَاطِئَةٍ، قَدْ تَكُونُ فِكْرَةً وَثَنِيَّةً، فِكْرَةً إِلْحَادِيَّةً كَالشُّيُوعِيَّةِ -مَثَلًا-، عِنْدَمَا قَرَّرَ (مَارْكِس) وَ(أَنْجِلْز)) مَا قَرَّرَاهُ، كَانَتْ هُنَالِكَ فِكْرَةٌ، فَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لِنُشُوءِ تِلْكَ الْأُمَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ بِكُلِّ مَا حَمَلَتْهُ لِلْعَالَمِ مِنَ الشُّرُورِ، وَمَا وَقَعَ عَلَى الْعَالَمِ مِنْهَا؛ مِنْ ظُلْمٍ وَغُرُورٍ.

فَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فِكْرَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا الْأُمَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ صَحِيحَةً أَوْ خَاطِئَةً.

وَالثَّانِي مِنَ الشَّرْطَيْنِ: رِجَالٌ يَحْمِلُونَ الْفِكْرَةَ فَتَخْتَلِطُ بِلُحُومِهِمْ وَتَجْرِي بِهَا دِمَاؤُهُمْ كَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْقَلْبِ، وَتَنْطِقُ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ كَأَنَّهَا بَعْضٌ مِنَ الْعَقْلِ.

وَقَدْ قَامَ (لِينِين) وَمَنْ مَعَهُ؛ فَهَؤُلَاءِ قَامُوا بِحَمْلِ الْفِكْرَةِ فَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِنَ الشُّرُورِ، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْآثَامِ، وَتَسَلَّطُوا عَلَى الْجُمْهُورِيَّاتِ أَوِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَحَرَفُوهُمْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الشُّيُوعِيَّةِ، ثَبَتَ مَنْ ثَبَتَ، وَانْحَرَفَ مَنِ انْحَرَفَ، وَتَوَفَّرَ الشَّرْطَانِ، فَقَامَتْ أُمَّةٌ تَحْمِلُ فِي بَاطِنِهَا عَوَامِلَ هَدْمِهَا؛ لِأَنَّهَا أُمَّةٌ ظَالِمَةٌ وَثَنِيَّةٌ مُلْحِدَةٌ كَافِرَةٌ.

فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَجَدْنَا أَنَّ الْمِحْوَرَ الَّذِي تَدُورُ حَوْلَهُ وَالْقُطْبَ الَّذِي تَسْبَحُ فِي فَلَكِهِ هُوَ التَّوْحِيدُ.

التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْهَجُ الرُّسُلِ مُنْذَ أَنْ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَمُنْذُ كَوْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا أَشْرَقَ عَلَى الْعَالَمِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْعَالَمَ شَمْسُ تَوْحِيدٍ أَجْلَى مِمَّا تَجَلَّى فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّة؛ إِذْ قَيَّدَ اللهُ لِهَذَا التَّوْحِيدِ رِجَالًا يَحْمِلُونَهُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَلَطَ بِقُلُوبِهِمْ إِلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، يَنْشُرُونَ نُورَهُ فِي الْآفَاقِ؛ لِيُخْرِجُوا الْعِبَادَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

إِنْ كَانَتِ الْأُمَّةُ الْمُسْلِمَةُ الْيَوْمَ مُوَحِّدَةً حَقًّا، وَكَانَ رِجَالُهَا يَحْمِلُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ يَقِينًا وَصِدْقًا، فَهِيَ أُمَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا أُمَّةٌ مِنْ قَوَارِيرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهَا وَضَعْفِهَا.

مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ الْجَهْلُ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِمْ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخَلِّ، فَيَتَقَبَّلُ السَّفْسَطَةَ قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً، وَلَا يَعْرِفُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ الْعِلْمُ النَّاقِصُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا قَيَّدَ اللهُ لَهُ مُرْشِدًا عَالِمًا؛ أَطَاعَهُ وَلَمْ يَتَفَلْسَفْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ النَّاقِصِ فَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَقْتَنِعُ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي، وَكَمَا قِيلَ: ((ابْتِلَاؤُكُمْ بِمَجْنُونٍ، خَيْرٌ مِنَ ابْتِلَائِكُمْ بِشِبْهِ عَالِمٍ!!)).

فَانْظُرْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ سَبِيلَ الرَّشَادِ- كَيْفَ كَانَ الْجَهْلُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَسْبَابِ تَأَخُّرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا تَكْتَفِي بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُثَنِّيَ بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْجَهْلِ بِسَبَبٍ وَثِيقٍ؛ وَهُوَ الْعِلْمُ النَّاقِصُ!!

فَتَدُورُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى نَفْيِ الْجَهْلِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ مَا عَرَّفَ الْعَبْدَ بِرَبِّهِ وَدَلَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ وَوَحَّدَهُ، وَأَنِسَ بِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْ قُرْبِهِ، وَعَبَدَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: ((إِنَّ أَوَّلَ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ)).

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجِاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ)) .

وَقَالَ الْحَسَنُ: ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ؛ فَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ، فَذَاكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ، فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ)) .

وَكَانَ سَلَفُنَا يَقُولُونَ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ ثَلَاثَةٌ؛ عَالِمٌ بِاللهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِاللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ، وَأَكْمَلُهُمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يَخْشَى اللهَ وَيَعْرِفُ أَحْكَامَهُ)) .

فَالشَّأْنُ كُلُّهُ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلْمِ عَلَى رَبِّهِ فَيَعْرِفُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا عَرَفَهُ -إِذَا عَرَفَ رَبَّهُ- فَقَدْ وَجَدَهُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَمَتَى وَجَدَهُ مِنْهُ قَرِيبًا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ وَأَجَابَ دُعَاءَهُ.

كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ: ((مَعَهُ أَصْلُ الْعِلْمِ؛ خَشْيَةُ اللهِ)) .

فَأَصْلُ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ بِاللهِ الَّذِي يُوجِبُ خَشْيَةَ اللهِ، وَمَحَبَّةَ اللهِ، وَالْقُرْبَ مِنْهُ، وَالْأُنسَ بِهِ، وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَتْلُوهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللهِ وَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْعَبْدِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ أَوِ اعْتِقَادٍ.

فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا نَافِعًا، وَحصَلَ لَهُ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْقَلْبُ الْخَاشِعُ وَالنَّفْسُ الْقَانِعَةُ وَالدُّعَاءُ الْمَسْمُوعُ، وَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الْعِلْمُ النَّافِعُ؛ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ، وَصَارَ عِلْمُهُ وَبَالًا وَحُجَّةً عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ لِرَبِّهِ، وَلَمْ تَشْبَعْ نَفْسُهُ مِنَ الدُّنْيَا، بَلِ ازْدَادَ عَلَيْهَا حِرْصًا وَلَهَا طَلَبًا، وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ؛ لِعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ وَعَدَمِ اجْتِنَابِهِ لِمَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ.

هَذَا إِنْ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ الْمُتَلَّقَى عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُتَلَقًّى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، بَلْ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، وَعَلَامَةُ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ أَنْ يُكْسِبَ صَاحِبَهُ الزَّهْوَ وَالْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَطَلَبَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُنَافَسَةِ فِيهَا، وَطَلَبَ مُبَاهَاةِ الْعُلَمَاءِ، وَمُمَارَاةِ السُّفَهَاءِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُلُومِ مَعْرِفَةَ اللهِ وَطَلَبَهُ وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ، وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا طَلَبَ التَّقَدُّمِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِحْسَانِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ، وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِمْ، وَالتَّعَاظُمِ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.

وَعَلَامَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ دَعْوَى الْوِلَايَةِ كَمَا كَانَ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَمَا ادَّعَاهُ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ، هَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ احْتِقَارِ نُفُوسِهِمْ وَازْدِرَائِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَالِمٌ، فَهُوَ جَاهِلٌ)).

قَالَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَالِمٌ، فَهُوَ جَاهِلٌ)).

مِنْ عَلَامَاتِ ذَلِكَ عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ دُونَهُمْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ خَشْيَةَ تَفَرُّقِ قُلُوبِ النَّاسِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ.

إِنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي يُورِثُ الْخَشْيَةَ، وَلَا يُورِثُ الْخَشْيَةَ سِوَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ.

وَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ.

الْعِلْمُ الصَّحِيحُ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَّا مَا يُرَادُ بَثُّهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُجَّةِ أَنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ، فَهُوَ مَحْضُ الزَّيْغِ، دَعْوَةٌ إِلَى الْإِرْجَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُقَرَّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ فِي قَلْبِهِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللهِ وَلَا يَضُرُّهُ نَطَقَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَمْ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا! فَضْلًا عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ!!

عِبَادَ اللهِ! مَتَى مَا حَقَّقَتِ الْأُمَّةُ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ، مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا -أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-؛ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.

وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

إِذَنْ؛ مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!

صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

مَنْ أَقَامَ الشَّرْعَ عَلَى نَفْسِهِ كَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، رُبُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ، احْتَرَقَتْ بِدَايَاتُهُمْ، فَأَنَارَتْ نِهَايَاتُهُمْ، وَكَانُوا بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مُسْتَقِيمِينَ، مُوَحِّدِينَ، مُتَسَنِّنِينَ، وَكَذَا كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْوَعْدُ قَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

«لَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَيُدَالُ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ».

وَمِنْ سُنَنِ اللهِ الْجَارِيَةِ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَنْجُو الْأُمَّةُ بِالْأَخْذِ بِهَا: الْإِقْلَاعَ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي؛ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ -تَعَالَى- تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، وَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ».

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَفِي غَيْرِهِمَا.

((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ)): وَهِيَ السِّلْعَةُ تَدْخُلُ بَيْنَ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي نَظِيرِ الْأَجَلِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَهِيَ حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَشْتَرِي سِلْعَةً بِأَلْفٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِمَّنْ بَاعَهَا لَهُ بِثَمَانِمِائَةٍ -مَثَلًا- نَقْدًا فِي الْحَالِ، فَيَأْخُذُ ثَمَانِمِائَةٍ وَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ أَلْفٌ، فَدَخَلَتِ السِّلْعَةُ وَخَرَجَتْ -حِيلَةً- مِنْ أَجْلِ تَحْلِيلِ الرِّبَا، وَهَيْهَاتَ!!

إِذَا فَسَدَتْ حَيَاتُكُمْ الِاقْتِصَادِيَّةُ، ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ)).

((وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ)): فَصِرْتُمْ تَابِعِينَ حَتَّى لِلْبَقَرِ، وَانْحَطَّتْ هِمَمُكُمْ، ((وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).

فَجَعَلَ رَفْعَ الذُّلِّ مَرْهُونًا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ.

قَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْلُكُ إِلَى هَذَا الدِّينِ السَّبِيلَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا، وَلَا يُرْفَعُ الذُّلُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا بُدَّ مْنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ السَّبِيلِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ.

فَإِذَا تَحَصَّلَ الْمُجْتَمَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَفَعَ اللهُ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عِزِّهِ وَعِزَّتِهِ، وَرِفْعَتِهِ وَسُؤْدُدِهِ وَمَجْدِهِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].

فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَ اللهِ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ -تَعَالَى- بِأَسْبَابِ سَخَطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

فَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّرَ كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ أَسَاءَ السُّوأَىٰ -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.

أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا -يَعْنِي: هَمَّ الْمَعَادِ-، كَفَاهُ اللهُ سَائِرَ هُمُومِهِ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ».

مَنْ وَحَّدَ؛ وَحَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ سَبِيلَهُ، وَأَقَامَ لَهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ لَهُ صِرَاطَهُ، وَهَدَى قَلْبَهُ، وَسَدَّدَ لِسَانَهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ كَانَ اللهُ لَهُ، فَمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ؟!! وَمَنْ تَخَلَّى اللهُ عَنْهُ، فَمَنْ ذَا يَدْفَعُ عَنْهُ؟!!

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ؛ جَمَعَ اللهُ لَهْ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً. وَمَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الدُّنْيَا؛ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ».

الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

((مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ))، فَجَمَعَ عَلَيْهَا قُوَاهُ، وَاسْتَعَدَّ لَهَا بِكُلِّيَّتِهِ، وَصَارَ عَلَيْهَا مُقْبِلًا، وَعَنْ سِوَاهَا مُدْبِرًا؛ ((جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ))، ((وَالْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)) -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ-، كَمَا أَنَّ الْفَقْرَ فَقْرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ.

((وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً))، فَيَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ، وَكَذَا شَأْنُ الصَّالِحِينَ.

وَأَمَّا الطَّالِحُونَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَهْمَا امْتَلَأَتْ بِهَا أَيْدِيهِمْ لَا تَشْبَعُ مِنْهَا نُفُوسُهُمْ، كَالَّذِي يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ شُرْبَ الْهِيمِ حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ وَلَا يُرْوَى بِحَالٍ أَبَدًا.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}؛ فَهَذَا حَالُنَا!!

{لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.

وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ ذَنْبًا، أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ عُقُوبَةً؛ فَالْمَعَاصِي تُحْدِثْ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَفِي الْهَوَاءِ، وَفِي الزَّرْعِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَالنُّفُوسِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ، وَحَرَكَةِ الْحَيَاةِ.

{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ سَبَبًا لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ وَحُلُولِ عِقَابِهِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

أَيْ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا، فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَقِيلَ: سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ فَفَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ، {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

إِنَّ النَّاسَ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ هَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا هَانُوا عَلَيْهِ تَرَكَهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ عُقُوبَةٍ وَأَكْبَرُهَا، إِذْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَحَاطَ الْعَبْدَ بِكَلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ؛ فَقَدْ شَمَلَهُ بِرَحْمَتِهِ.

وَإِذَا تَخَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْعَبْدِ صَارَ فِي الضَّلَالِ فِي كُلِّ وَادٍ، ثُمَّ إِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْغِيصِ فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ مَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ حَيَاةُ النَّكَدِ الصِّرْفِ، وَلَا يَصِحُّ لِلْقَلْبِ حَيَاةٌ حَتَّى يَعْرِفَ الْقَلْبُ رَبَّهُ، وَحَتَّى يُحِبَّهُ، وَحَتَّى يَتِمَّ الْحُبُّ عَلَى تَمَامِهِ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِلهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَبْدًا لِلهِ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أُخْرَى مُنَاقِضَةٍ لِلْأُولَى حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ مِنْ سَيِّئٍ إِلَى حَسَنٍ، وَإِنْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ حَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ؛ غَيَّرَ اللهُ أَحْوَالَهُمْ، وَأَحَلَّ بِهِمْ نِقْمَتَهُ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتَغَيَّرَ، أَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْعَادَاتِ، وَمِنْ قَيْدِ التَّقَالِيدِ الَّتِي قَدْ أَوْثَقَتْ أَرْجُلَنَا فِي الْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ تَمِيدُ الْأَرْضُ وَلَا تَمِيدُ، يُرِيدُ مِنَّا رَبُّنَا أَنْ نَتَغَيَّرَ، وَأَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَأَنْ نَخْرُجَ مِنْ قَبْضَةِ الْعَادَاتِ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ عَلَى مُقْتَضَى سُنَّةِ سَيِّدِ الْخَلْقِ ﷺ.

وَلَنْ تُفْلِحَ الْأُمَّةُ وَلَنْ تَصِلَ إِلَى غَرَضِهَا، وَلَنْ تُحَصِّلَ مَقْصُودَهَا، إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا ﷺ بِفَهْمِ سَلَفِهَا الصَّالِحِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ-.

فَهَذِهِ سَبِيلُ النَّجَاةِ، لَا سَبِيلَ لِلنَّجَاةِ سِوَاهَا، وَأَمَّا التَّخَبُّطُ، وَأَمَّا هَذَا الْهَرَجُ الَّذِي تُعَانِي مِنْهُ الْأُمَّةُ؛ فَهَذَا هُوَ الْمَضِيقُ الَّذِي لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَالْمَأْزِقُ الَّذِي لَا نَجَاةَ مِنْهُ، إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِلَا تَخَالُفٍ وَلَا تَدَابُرٍ، وَلَا شَحْنَاءَ وَلَا بَغْضَاءَ.

 ((التَّوَكُّلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ سَبِيلُ الِاسْتِقَامَةِ))

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَخَذَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ؛ اسْتَقَامَتِ الرُّوحُ عَلَى مِنْهَاجِ رَبِّهَا، وَعَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَإِنَّ حَرَكَةَ حَيَاتِهِ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِحَرَكَةِ الْحَيَاةِ عَلَى النَّهْجِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى السَّعْيَ الْجَادَّ الدَّءُوبَ مِنْ غَيْرِ مَا إِغْرَاقٍ فِيهِ وَلَا اعْتِمَادٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

إِنَّ الْأَسْبَابَ مَهْمَا عَظُمَتْ فَهِيَ مِنْ لُطْفِ اللهِ، وَلَا تَمَامَ لَهَا إِلَّا بِاللهِ،  وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَصِّلَ السَّبَبَ وَلَا يَتَحَصَّلُ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ فَكَمْ مِنْ مُنْزِلٍ مَاءَهُ فِي رَحِمِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ لَا يُرْزَقُ وَلَدًا!!

وَكَمْ مِنْ بَاذِرٍ حَبَّهُ فِي أَرْضِهِ وَقَدْ أَعَدَّهَا، فَلَا تُثْمِرُ شَيْئًا!! مَعَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالسَّبَبِ، إِلَّا أَنَّ السَّبَبَ تَخَلَّفَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَرَائِطَ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ، فَإِذَا وُجِدَتِ الشَّرَائِطُ وَانْتَفَتِ الْمَوَانِعُ؛ فَحِينَئِذٍ يُثْمِرُ السَّبَبُ مَا يُسَبِّبُهُ، يُثْمِرُ السَّبَبُ مُسَبَّبَهُ، وَأَمَّا إِذَا مَا تَخَلَّفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَصَّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى شَيْءٍ.

وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمِحْوَرِيَّةِ الْمَفْصِلِيَّةِ الَّتِي يُعَانِي الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَفِي أَزْمَانِ الضَّعْفِ السَّابِقَةِ، حَتَّى ظَلَّ الْحَالُ مُنْحَدِرًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ، إِمَّا أَنْ يَغْرَقُوا فِي تَوَاكُلٍ لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا بِأَسْبَابٍ مِنْ غَيْرِ تَوَكُّلٍ عَلَى رَبِّ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، وَالْأَمْرُ بِهَذَا التَّوَازُنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، قَالَ: ((لَا، بَلِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)).

فَاللَّهُمَّ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينِ؛ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَارْزُقْنَا حَلَاوَةَ الْيَقِينِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ:إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  المصريون والذئاب المنفردة
  مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  أَدَبُ الْحِوَارِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  [ طليعة الرد على الحلبي [ الجزء الأول
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  مصر وحروب الجيل الرابع
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  التَّاجِرُ الْأَمِينُ
  الحج كأنك تراه
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان